بواسطة مازن أكثم سليمان | مايو 30, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
(شهادةُ الشَّاعر اللُّبنانيّ طلال حيدر عن الشّاعر السُّوريّ علي الجندي)
في إطار عمَلي على إنجاز كتاب موسوعيّ عن سيرةِ الشَّاعر السُّوريّ الكبير علي الجندي (1928 _ 2009) الحياتيَّة والشِّعريَّة، وهوَ المشروع الذي بدأتُ بهِ برفقةِ علي الجندي شخصيَّاً منذُ العام 2001 في مدينة اللَّاذقيَّة، حيثُ قضَى آخِرَ سنواتِهِ فيها، حاوَلَ الصَّديق العزيز الكاتب والصحفيّ (المُنذر الدِّمنيّ) _الذي كانَ يُساعدني في جمع بعض موادّ الكتاب وبعض شهاداتِهِ بصفة (باحث مُساعِد) بحُكم وُجودِهِ في بيروت_ أنْ يحصَلَ على شهادة خطِّيَّة لكتابي وباسمِي من الشَّاعر اللُّبنانيّ الكبير (طلال حيدر)، ولظُروفٍ مُختلِفة، منها صحِّيَّة، اعتذرَ شاعرُنا وأرجَأَ الشَّهادةَ مرَّاتٍ عدَّة.
ولأنَّ من طبيعتي الإصرار و(يباسة الرأس)، ولخبرتي الطَّويلة بمِزاجيَّة المُبدعين، ولا سيما مع تقدُّمِهِم في السِّنّ (على ألّا يعتقدَ أحدٌ منَّا أو يُخدَعَ بفكرةِ أنَّ أمثال علي الجندي أو طلال حيدر يتقدَّمونَ في السِّنّ…)، قرَّرتُ أنْ أُجريَ مُحاوَلةً (نجحتُ بتطبيقِها معَ شخصيَّاتٍ عدَّة من قبْل)، فملأتُ جوَّالي برصيدٍ كبير، وأجريْتُ اتِّصالاً على جوَّال طلال حيدر مُباشَرَةً في يوم الجمعة 18/ 11/ 2022، وعرَّفتُهُ بنفسي بعدَ أنْ ردَّ عليَّ، وبأنَّني أُحدِّثُهُ من دمشق، وذكَّرتُهُ بطلبِ الصَّديق المُنذر، وبشهادتِهِ المَوعودة عن علي الجندي، ففاجأني بحجم الدِّفء والعاطفة والاستقبال الحميميّ، مُردِّداً منذُ البداية: “أهلاً وسهلاً بمازن وبجميع أهل سوريَّة الحبيبة”.
حاولتُ أنْ أُورِّطَهُ بالموضوع تحتَ دعوى: “هل لديكَ دقيقتان فقط لا أكثَر للحديث عن أبي لهب؟”، فأجابَ بسَعادةٍ غامِرة: “خُذِ الوقتَ الذي تُريدُهُ”.
كنتُ قد جهَّزْتُ أمامي بضعَ وريقاتٍ وقلَمٍ، ورحتُ أطرَحُ أسئلتِي، وأُدوِّنُ خلفَهُ كُلّ كلمةٍ يتفوَّهُ بها.
وفي الحقيقة، شعرْتُ أثناءَ المُحادَثة، وبعدَ أنْ أنهيْتُ المُكالَمَةَ أيضاً، حيثُ رحتُ أقرأُ ما دوَّنتُهُ خلفَهُ، أنَّها لم تكُنْ مجرَّدَ شهادةٍ تقليديَّةٍ، بقدرِ ما كانتْ شِعراً مُدهِشاً وسلِسَاً ألقاهُ طلال حيدر بصوتِهِ وبهُوِيَّتِهِ الجَماليَّة المَعروفة، فكأنَّهُ كانَ يُلقِي قصيدةً عذبةً وشفَّافةً وهوَ يحكي عن صديقِهِ أبي لهب.
أضَعُ، هُنا، نصَّ الشَّهادة، آمِلاً أنْ يصُبَّ هذا الجهدُ المُتعلِّقُ بكتاب علي الجندي، في إطار الوفاء لهُ ولرحلتِهِ الحياتيَّة والإبداعيَّة، وللشِّعر السُّوريّ، والثَّقافة العربيَّة والإنسانيَّة.
قالَ طلال حيدر:
“علي الجندي لم يكُنْ غريباً إلّا عن نفسِهِ..
هوَ الجَمالُ المجنونُ الذي تفجَّرَ بحثاً عن روحٍ مفقودةٍ لا يُمكِنُ أنْ تُوجدَ أبداً، فتمزَّقتْ ذاتُهُ أوَّلاً وأخيراً..
حينَما جاءَ إلى بيروت في الخمسينيَّات من القرن المُنصرِم لم يكُنْ هارِباً أو مُغترِباً، بقدرِ ما كانَ مُنقِّباً بنهَمٍ استثنائيٍّ عن هُوِيَّتِهِ المُختلِفةِ في الحياةِ والإبداع.
كانَ سبَّاقاً في حركةِ الحداثةِ الشِّعريَّة، ولا يُمكِنُ تجاوُزُهُ أو تجاوُزُ تجربتِهِ المُتفرِّدة عندَ أيَّةِ قراءةٍ موضوعيَّةٍ صادقةٍ للشِّعر العربيّ الحديث.
علي لم (يتباسَط) أو يتبهلَل في مَوقفِهِ الشِّعريّ، وفي الوقتِ نفسِهِ، لم يتفلسَف ويتفذلك كالكثيرين غيره..
كانَ صاحبَ رُؤيا مُستقبَليَّةٍ في شِعرِهِ، وكانتْ لهُ قصائدُ شاهِقةٌ، وصوَرٌ وتراكيبُ جديدةٌ ومغايِرَة. واستطاعَ أنْ يُمسِكَ بأهمّ ثلاثة عناصر في الإبداع الشِّعريّ: ألّا تُرينِي ما يُرَى _ ألّا تُعطينِي فكرةً أعرِفُها _ أنْ تكونَ ذاكرةَ المُستقبَل.
هذهِ العناصِرُ ظلَّتْ ضارِبَةَ الجُذورِ في تجرِبةِ علي، ولهذا فهوَ ينتمي في شِعرِهِ إلى ما فوقَ الزَّمنيِّ والتَّاريخيِّ، فكَم من شاعرٍ عربيٍّ قديمٍ كانَ حداثيَّاً وأصيلاً في تُراثِنا الشِّعريّ، وكم من شاعرٍ عربيٍّ عاشَ في عصرِنا الحديثِ، وكانَ بائِسَاً ومُفلِساً في فنِّهِ..
في حُضورِهِ الحياتيِّ كانَ شاعراً عظيماً أيضاً.. لا بل كانَ مُبدِعَ أكثَر من حياةٍ في حياةٍ واحدة، وكانَ مُبتكِرَ حياتِهِ الفريدة من دونِ ادِّعاءٍ، وخلَّاقَ حُرِّيَّةٍ لا تُشبِهُ ولا تُحاكي إلّا الحُرِّيَّة التي في ذهنِهِ الحزين، وفي تصوُّرِهِ المُستحيل.
هوَ البوهيميُّ المُتسكِّعُ في ليالي دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد وباريس، يشحذُ سَهَراً وجُنوناً وأهواءً، ويُلاحِقُ حياةً يُريدُها ألّا تنفدَ، فيقتُلُها وتقتُلُهُ رُويداً رُويداً..
لم يكفَّ لحظةً واحدةً عن هَوَسِ العيْشِ، ولم يكُنْ قنوعاً يعرِفُ الشَّبَعَ، ولهذا كانَ يلهَثُ باستمرارٍ مثلَ مُتشرِّدٍ باختيارِهِ، مُهروِلاً بلا مَأوىً وبلا انتماءٍ طلَباً للجَمال والمُتَعة والانعتاق.
هوَ، باختصار: صُعلوكٌ عربيّ جاهليّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ، وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب.
أينَما كنتَ تلتقي بعلي كنتَ تعرِفُ من فوركَ أنَّكَ قدِ التقيْتَ للتَّوِّ بهديَّةٍ تحمِلُ ما تحمِلُ منَ الدَّهشةِ؛ فكُلُّ شيءٍ كانَ يغدو أبهَى بحُضورِهِ، وبرفقتِهِ كانتْ تتضاعَفُ متَعُ الوُجودِ على نحْوٍ لا يُوصَفُ سهَراً وخَمراً وشِعراً وامرأةً..
كانَ كُلَّما بعثَرَ الحُدودَ من حولِنا، منَحَ الحياةَ ومنَحَنا قداسةً أجمَل..
ذاتَ يومٍ في تكريمٍ أُقيمَ لهُ في معهد العالَم العربيّ في باريس بمُناسبةِ بلوغِهِ سنّ السِّتِّين، سافرْتُ من بيروت إلى فرنسا خصِّيصاً لأحضُرَ تكريمَهُ هذا، وحينَما دُعيتُ إلى المِنصَّة لم أكُنْ قد حضَّرتُ كلمةً، فصعدتُ، وقلتُ عبارةً واحدةً فقط ألهبَتِ الحفلَ تصفيقاً وضَحِكاً وتأثُّراً: “لقد جئتُ من بيروت إلى باريس فقط كي أُقبِّلَ (هالأخو الشَّرموطة)”، ثُمَّ نزلتُ عنِ المِنبر، وذهبْتُ كي أُعانِقَ علي الجندي بحرارة *“.
هامش:
*هذهِ الحادثة كانَ يرويها علي الجندي بفرَحٍ وسعادةٍ بالِغة، مَقرونةً، كعادتِهِ طبعاً، بسلسلة شَتائِمَ بذيئةٍ وضاحكةٍ لصديقِهِ طلال حيدر، وكانَ يُردِّدُ باستمرارٍ أمامي: “طلال كيفما رمَى وبعثَرَ كلماتِهِ، تَخرُجُ شِعراً مُدهِشاً”.
تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة عامر فياض | مايو 26, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, مقالات
“يا طيرة طيري يا حمامة.. وانزلي بدُمَّر والهامة” تلك الأغنية الشهيرة، المحفورة في آذاننا وقلوبنا، والتي غنيناها في الأفراح والسهرات والرحلات وجميع المناسبات، وسمعناها من عشرات المطربين، قد لا يعلم البعض منا أن تاريخها يعود لنهايات القرن التاسع عشر، وأن مؤلفها الحقيقي هو أحمد أبو خليل آغا آقبيق، المعروف بأبي خليل القباني، والذي ولد في دمشق/ باب السريجة عام 1842، وكان يتمتع بذكاءٍ إبداعيٍ قل نظيره، ويمتلك مواهب وقدراتٍ فنية استثنائية ومتكاملة، جمعت فنون المسرح والشعر والموسيقى والغناء والثقافة الواسعة، وجعلته من أبرز عظماء الفن السوري، فهو من مُنح لقب “رائد المسرح العربي”، وحمل اسمه أحد أهم وأعرق مسارح دمشق.
مسيرته الفنية
تعلم القباني القراءة والكتابة في الكتاتيب وأتقن أصول النحو والصرف والبيان والبديع. وكان منذ صغره، يتردد بشكلٍ دائمٍ على حلقات الذِكر والإنشاد والموالد والزوايا الصوفية، وقد ظهرت عليه موهبة الموسيقى والغناء والتمثيل وهو في الثانية عشرة من عمره. بدأ القباني مسيرته الفنية بتقديم بعض الاسكتشات المسرحية في مقاهي وأحياء دمشق وبيوتها العريقة، حيث قام بتحويل شخصيات خيال الظل (الفن المسرحي الوحيد الذي كان سائداً في سوريا آنذاك) التي كان يُحرِّكها الحكواتي ويتحدث بلسانها بأصواتٍ مختلفة، إلى شخصياتٍ مجسَّدة يؤديها الممثلون بحضورهم الفعلي على المسرح، ويُعتبر حينها أول من صنع مسرحاً في سوريا والوطن العربي (ولو في شكله البسيط)، وكانت معظم عروضه تستقي موضوعاتها من حكايات التاريخ العربي والتراث وتلعب دوراً توعوياً وتنويرياً، ولكي تصل إلى ذائقة الناس، كان يمزجها مع الألحان والأغاني والموشحات والرقصات المتنوعة (كرقص السماح) التي كان يؤلفها لخدمة العرض المسرحي لتكون جزءاً محورياً منه، وهو ما شكل الولادة الأولى للمسرح الغنائي العربي، الذي انتشر، فيما بعد، بشكلٍ كبيرٍ على يد الرحابنة وفيروز.
قدم القباني أول عرضٍ مسرحي من تأليفه عام 1871 وهو بعنوان “الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح “، ولم يكن حينها مجرد مؤلفٍ مسرحيٍ وموسيقيٍ فقط، بل كان مُخرجاً ومصمم ديكورٍ وأزياء. ويُعتبر ذلك العرض الانطلاقة الحقيقية لأول مسرحيةٍ سورية متكاملة، وقد حضرها والي دمشق آنذاك صبحي باشا فشجعه على تقديم العروض خارج نطاق البيوت وعلى تشكيل فرقةٍ مسرحية، شكَّلها القباني مع عددٍ من أصدقائه المنشدين، وكان بعضهم يؤدي دور الشخصيات النسائية التي تحتاجها المسرحيات، ولتقديمها بأفضل شكلٍ ممكن لجأ القباني لاستخام تقنية الماكياج، وقد وضع حينها الأسس والقواعد الأولى لفن المسرح، ثم أنشأ بين عامي 1874 و 1875 أول مسرحٍ مُجهزٍ للعرض في دمشق (يُعتقد أنه في منطقة القنوات)، قدم فيه عشرات العروض. وبعد الإقبال الجماهيري الكبير على مسرحه وانتشار الحديث عنه بين الناس، واجه صعوباتٍ وتحدياتٍ كبيرة، أجبرته على إيقاف نشاطه المسرحي، بعد تعرضه لعداء ومضايقات بعض رجالات الدين، الذين ثاروا عليه بحجة تقديمه لمسرحياتٍ زعموا أنها مخلَّة بالآداب كونها تتحدث عن الحب خارج نطاق الزواج وتجعل الرجال يتمثلون بالنساء وتُقلل من شأن بعض الشخصيات التاريخية، كالمسرحية التي تحدثت عن هارون الرشيد.
وفي عام 1878 وبعد قدوم مدحت باشا إلى دمشق ليكون والياً جديداً عليها، قدم للقباني الدعم اللازم ليحيي نشاطه المسرحي مجدداً، فقام بإنشاء مسرحه الجديد في “خان الجمرك”، وأعاد تشكيل فرقته المسرحية الخاصة عام 1879 وقدم معها نحو أربعين عرضاً، وبدعمٍ من مدحت باشا أقام القباني مسرحه الصيفي في حي باب توما ليبتعد عن مضايقات رجالات الدين، ورغم ذلك ثارت عليه فئة جديدة من الشيوخ فقاموا بإحراق مسرحه وأرسلوا وفداً منهم لمقابلة السلطان العثماني، الذي أوعز لرجالاته بإيقاف مسرح القباني، وهو ما أجبره على مغادرة دمشق نحو مصر.
قدم القباني خلال حياته عشرات المسرحيات، وقد نُشر بعضها في مجلدات ، ومن بينها: “عنتر بن شداد”، “السلطان حسن”، “أبو جعفر المنصور”، “الأمير محمود نجل شاه العدم”، “حيل النساء”، ” عفيفة”، “لباب الغرام”، ناكر الجميل”، “هارون الرشيد مع أُنس الجليس”، و”هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب” وهي المسرحية التي اختارها المسرحي الكبير الراحل سعدلله ونوس لتكون جزءاً من عرضه المسرحي سهرة مع أبي خليل القباني .
موشحاته وأغانيه
القباني الذي أُنصف مسرحياً وحمل لقب “رائد المسرح العربي” لم يُنصف موسيقياً كما يليق بنتاجه الإبداعي والفريد، الذي شكل علامةً فارقة في تاريخ الموسيقى العربية، فكثير من المطربين والفرق الموسيقية الذين قدموا أعماله كانوا ينسبونها إلى الفلكلور وفي بعض الأحيان للفن الأندلسي أو يكتفون بذكر أنها لحن وشعر قديم، دون الإشارة إلى القباني. ويعود الفضل في إحياء مؤلفاته لبعض تلامذته الذين اكتسبوا مهارات فائقة في الحفظ والغناء، في عصرٍ لم تكن متاحة فيه تقنيات التسجيل أو التدوين عن طريق النوتة الموسيقية، كما كان للشيخ الحلبي علي الدرويش دور كبير في تدوين بعض أعمال القباني وتسجيلها برفقة فرقة إذاعة حلب.
ورغم مرور قرنٍ وعقدين على وفاته مازالت موشحاته، ببديع أشعارها وعبقرية لحنها المُبتكر والمتنوع مقامياً وإيقاعياً، تغني مكتبة الموسيقى العربية، وقد أضافت قيمةً فنيةً كبيرة لمسيرة الفنانين الذين قدموها طوال العقود الماضية.
ومن أشهر موشحات القباني: موشح بالذي أسكر (ويعتقد البعض أن أصله أندلسي. قدمه الرحابنة مع فيروز ضمن موشح “جادك الغيث”، في ألبوم “أندلسيات”، كما غناه الفنان صباح فخري، والكثير من المطربين والفرق الموسيقية)، موشح يا غصن نقا (غناه كبار فناني العالم العربي، من بينهم فيروز، صباح فخري، الشيخ إمام ولطفي بوشناق)، موشح ما احتيالي (غناه صباح فخري، سعاد محمد، ماري جبران، والمنشد حسن الحفار، وعمر سرميني وغيرهم)، موشح يا من لعبت به شمول (غناه صباح فخري، نور الهدى، مارسيل خليفة ورشا رزق وغيرهم )، موشح راق أنسي (قدمته العديد من الفرق الموسيقية السورية كالفرقة الوطنية للموسيقى العربية وأوركسترا قصيد)، موشح كللي يا سحب (غناه صباح فخري وكورال الفرقة الوطنية للموسيقا العربية)، موشح محبوبي قصد نكدي (غنته الكثير من الفرق الموسيقية السورية والعربية وكبار المطربين والمنشدين، مثل صبري مدلل وحسن الحفار)، موشح نمَّ دمعي من عيوني (غناه كبار المطربين العرب كالفنانة اللبنانية غادة شبير)، وموشح مالي عيني أبصرت، الذي تشير بعض المراجع إلى أن القباني كتبه ولحَّنه وهو يصف واقع حاله عندما كان على متن الباخرة مغادراً سوريا نحو مصر، ويقول مطلعه: “مالي عيني أبصرت أرضنا قد أقفرت.. وغدا الظبي بعيد وبكائي لا يفيد.. طاب لي فيها الهوى واستقرت بالنوى.. عاملتني بالجفا وهي لا تدري الوفى”.
وهناك الكثير من الموشحات التي لم تنل حظها الكبير من الشهرة، لكنها كانت ومازالت تُشكل مرجعاً غنياً للباحثين في كنوز التراث الموسيقي ولمن أراد تعلم أصول وفنون الموشحات والإيقاعات المركبة، ومن بينها: موشح عيد المواسم ، آه من جور الغوالي ، يا من رمى القلب وسار، كيف لا أصبو لمرآها الجميل ، شمس كأس الراح ، بالنهاوند الكبير ، بالله يا باهي الشيم و برزت شمس الكمال .
ويعود الفضل في نشر بعض موشحاته النادرة لتسجيلات فرقة الموسيقى العربية في مصر، بقيادة عبد الحليم نويرة، ومن بينها: موشح رُصع اللجين بياقوت ، شَجني يفوق على الشجون ، أدر راحتي ، اشفعوا لي يا آل ودي و شادنٌ صاد قلوب الأمم.
إلى جانب الإرث الغني من الموشحات، قدم القباني الكثير من الأغاني التي تميزت بعذوبة وعُمق كلماتها، وبلحنها الرشيق الذكي، الذي يُناسب ذائقة الموسيقي المحترف والمتلقي العادي في آن معاً. ورغم تحولها إلى فلكلور مازالت معظمها تنسجم مع ذائقة العصر الحالي، وتتسم بالجدة والحداثة ويغنيها أغلب مطربي اليوم. ومن أشهر تلك الأغاني أغنية يا طيرة طيري يا حمامة ، يا مال الشام ، صيد العصاري ، يا مسعد الصبحية ، ع الهيلا الهيلا الهيلا يا ربعنا – التي تعتقد بعض المراجع أنه ألَّفها وغناها على متن الباخرة، بصحبة فرقته، خلال رحلتهم التاريخية إلى شيكاغو وأغنية يا يوم حبيبي التي سجلها في أمريكا خلال الرحلة ذاتها، حيث تُعتبر أقدم أغنية عربية مسجلة على أسطوانة، مازالت محفوظة في مكتبة جامعة هارفارد.
رحلته إلى مصر
سافر القباني إلى الإسكندرية عام 1884 برفقة نحو خمسين فناناً وفنانة، وقدم فيها عشرات العروض المسرحية، ثم انتقل إلى القاهرة، حيث اجتمع بالخديوي توفيق الذي وضع مسرح الأوبرا الشهير تحت تصرفه ومنحة مكاناً في ميدان العتبة الخضراء لكي يبني فيه مسرحه الخاص. ولتشجيع ودعم نشاط القباني قام الخديوي بحضور عرضه المسرحي “الحاكم بأمر الله” برفقة بعض رجالات الدولة. وقد ساهم القباني آنذاك في إحياء النشاط المسرحي المصري، الذي ازدهر خلال وجوده فأغنى الحركة الثقافية في البلاد وباتت المسرحيات وعروض الأوبريت التي يقدمها نماذج قيّمة يُحتذى بها، تُنافس بعض العروض الأجنبية أو العربية المستقاة من النصوص المترجمة من لغات أخرى. إلى جانب ذلك كان للقباني دور بارز في تعليم فنون المسرح والموسيقى لكبار فناني مصر، ومن بينهم: محمد كامل الخلعي وسلامة حجازي وعبده الحمولي، الذي كان يؤدي معه الفواصل الغنائية في بعض المسرحيات، كما تأثر بمسيرته الفنية فنان الشعب سيد درويش. وتكريماً لجهود القباني الفنية وتخليداً لذكراه أُطلق اسمه على أحد شوارع الإسكندرية.
رحلته إلى شيكاغو
خلال العقود الماضية بقيت حادثة رحلة القباني إلى شيكاغو غير مؤكدةٍ، إلى أن نشر الباحث تيسير خلف كتابه “من دمشق إلى شيكاغو” الصادر عام 2018، والذي أكد من خلاله حقيقة تلك الرحلة، مستعيناً بمجموعة كبيرة من الوثائق والصور، المأخوذة من الأرشيف العثماني والأمريكي والعربي، إلى جانب بعض الصحف المنشورة في تلك الفترة. وبحسب خلف، سافر القباني إلى شيكاغو عام 1893 برفقة فرقة “مرسح العادات الشرقية”ً (كان المسرح يسمى مرسحاً في ذلك الوقت) التي ضمت أكثر من خمسين ممثلاً وموسيقياً وراقصاً، من سورية وفلسطين ولبنان، حيث تلقت السلطنة العثمانية دعوة موقعة من الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون عام 1891 للمشاركة في “معرض شيكاغو الكولومبي”، بمناسبة مرور ذكرى 400 عام على اكتشاف أمريكا ، وقد حاول السلطان العثماني إبراز الوجه الثقافي للسلطنة العثمانية فاستعان بالقباني، الذي كان أول فنان عربي يزور أمريكا، حيث قدم مع أعضاء فرقتة -الذين تدربوا على أدوارهم نحو ستة أشهر قبل السفر- نحو ثمانية عروضٍ، تحدثت عن عادات الشرق وفنونه وموسيقاه، وتضمنت الرقص والموشحات والأغاني وبعض اللوحات الفنية التي تستعرض جانباً من الطقوس السورية. ومن بين تلك العروض : “هارون الرشيد”، “عنتر بن شداد”، “الدراما الكردية”، ” الدراما القلمونية”، “عرس دمشقي”، “العروس التركية”، و”الابن الضال”. وقد شكلت عروض القباني تفاعلاً ثقافياً هاماً بين منطقتي الشرق الأوسط والغرب، وكان لها الأثر الكبير في أمريكا ولاقت اقبالاً جماهيرياً واسعاً، تحدثت عنه بعض الصحف، بل أن بعض المصادر أشارت إلى اتهام النقاد الأمريكيين الكاتب المسرحي جيمس ماثيو باريس باقتباس حبكة مسرحيته “قصة حب البروفيسور” من حبكة مسرحية” الدراما القلمونية” التي قدمها القباني هناك.
توفي القباني بين عامي 1902 و1903 بمرض الطاعون، الذي اجتاح البلاد آنذاك، تاركا وراءه إرثاً فنياً، حَفر اسمه في سجل الخالدين، ومازال الفنانون ينهلون منه جيلاً بعد جيل.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة أسامة إسبر | مايو 22, 2023 | العربية, تقارير, مقالات
ما تزال رحى المعركة الانتخابية دائرة في تركيا بين مرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو الذي أعلن تحالف الأمة المعارض عن تسميته مرشحاً له. يمكن أن يُقال الكثير عن هذه الانتخابات وأن تُسلّط الأضواء على تفاصيلها، ما خفيَ منها وما ظهر، واستعراض الرهانات والتوقعات الأوربية والأمريكية والعربية غير أنّ المشهد في حد ذاته، بالنسبة للناظرين إليه من الجغرافيا العربية، ساحرٌ إلى حد كبير، ذلك أن هناك أشخاصاً لهم أصوات، وهذه الأصوات مُحْترمة، يُحسب لها حساب، وتلعب دوراً في العملية السياسية، ولها خيار انتخابي بين شخصين يحملان برنامجين مختلفين. ومهما كان ضباب السياسة حاجباً للتفاصيل، وبصرف النظر عن إن كنتَ لا تحب أردوغان وحزبه إلا أن العملية الديمقراطية في حد ذاتها جديرة بالاحترام وتعني أن النخب والقوى السياسية والأحزاب وجماعات المصالح في تركيا تطورت وصارت تؤمن بتداول السلطة، وبأن الأفراد لهم حقوق أحدها هو حق التصويت والاختيار، وأن من يختارونه ممثلاً وحاكماً لهم يحصل على دوره هذا عن طريق عملية الاقتراع. قد يحدث تزويرٌ في الانتخابات، أو خطأٌ مُتعمَّد في فرز الأصوات أو قد يتم التلاعب بها، إلا أن كل هذه تفاصيل ثانوية وجوهر المسألة هو أن هناك عملية انتخابية ديمقراطية في هذا البلد فيها خاسر ورابح بحسب عدد الأصوات التي يحصل عليها، وأن أحدهما، إذا ما خسر، لن يفرض نفسه بالقوة ويدمر ويقتل كي يظل جالساً على الكرسي.
متى سنذهب إلى صناديق الاقتراع كي نُدْلي بأصواتنا؟ وهل سيحدث هذا قبل أن يموت جيلنا، الذي يسمع عن الانتخابات في العالم، وعن صناديق الاقتراع وفرز الأصوات والحملات الانتخابية، والخطابات الحماسية والمناظرات التلفزيونية التنافسية بين المرشحين، ويرى كل هذا على الشاشات؟ أم أنه مكتوب علينا أن نشعر بقيمة صوتنا في البلدان التي نهاجر إليها بعد أن نصبح من مواطنيها فقط؟ يأتيني الجواب المقيت على الفور من الواقع السياسي العربي والذي يُثبت يوماً بعد آخر أن تداول السلطة أمر غير وارد، وأن الديمقراطية لن يُفْتح لها الباب كي تدخل إلى عواصمنا، كما أن جيلنا المسكين عاش مثل الأجيال التي سبقته، محروماً من هذه النعمة، ولم يعاصر التجارب الديمقراطية الحقيقية في أي شكل من أشكالها، بل دفع ثمناً باهظاً في جحيم الحروب الأهلية والانقلابات الدموية والصراع العنيف على السلطة والتدهور الاقتصادي ولم يعش لحظة ديمقراطية حتى على مستوى بلدية أو مدرسة، وكم هي ضيقة وتعيسة حياة لا يَشْهد فيها المرء تحقّقَ الحلم الديمقراطي، لأنها ستمر كالكابوس وتدفعه إلى حضيض اليأس، غير أنني من الذين يؤمنون بأن اليأس مرحلة عابرة في تاريخ الشعوب، وأن تحولاً ديمقراطياً سيحدث يوماً ما تقوده الأجيال العربية الجديدة ولو في المستقبل البعيد يمنح لصوت الناس قيمة، كأفراد لهم خيارات سياسية في الحياة، وينبغي ألا نتجاهل هذا الحق الديمقراطي المقدس، أو أن نتنازل عنه قيد أنملة تحت أية ذريعة لأنه حق يعني بأن هويتنا الإنسانية كأفراد في المجتمع لها قيمة ومحترمة ويُصْغى إليها ولا تُلْغى برصاصة أو بدفنك حياً في السجون دون محاكمة. وهو حقّ يبني الأوطان ويحول السلطة إلى وسيلة لخدمة المواطن وليس إلى غاية. ورغم اللعب الانتخابي في الديمقراطيات والتزوير وكل المشاكل المرتبطة بالعملية إلا أن التنافس الشريف على كرسي الحكم، وعلى المسؤولية التاريخية الكبرى للجلوس عليه، يعني أن كل من انتخبوا يتحملونها جماعياً ويضعون ثقتهم بمن سيقودهم إلى بر الأمان، أو بمن لديه برنامج يخدمهم بطريقة وأخرى، ويَعِدُ بتحسين أوضاعهم المعيشية ورفع دخلهم وتأمين الضمان الاجتماعي والصحي لهم وإنارة ظلمة ليلهم بالكهرباء، وتشغيل محركات سياراتهم بالنفط، وتأجيج ألسنة لهب مدافئهم بالوقود حين يشتدّ برد الشتاء ومنحهم جواز سفر تفتح له كل المطارات أبوابها، إلا أن التجربة العربية، بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، فكراسي الحكم وراثية ومطوبة كما لو أنها حق مقدس للبعض بينما الغالبية محرومة منه، وكل من تسول له نفسه الاقتراب من الكرسي مصيره التحييد.
من مستلزمات الديمقراطية توفّر المعلومات، والقدرة على الرؤية في ضباب القصف الإخباري المتواصل الذي يحجب الحقيقة، وأعني بتوفر المعلومات هنا ضرورة وجود معلومات دقيقة متاحة عن البرنامج الانتخابي وعن كل مرشح، وهذه المعلومات يجب أن تكون موثوقة وصحيحة لأنها تلعب دوراً جوهرياً في العملية، وتزداد أهمية دقة المعلومات في عصر الإعلام الرقمي الذي تتحول فيه الأخبار إلى حجاب على ما يجري، ويصبح من الضروري أن نرفع هذا الحجاب عبر جهد فردي وبحث عن المنابر الصادقة.
وها نحن نشهد عرساً ديمقراطياً في تركيا على الشاشات، وهو عرس تركي بامتياز، ولم يكن عربياً في أي وقت من الأوقات، ذلك أن الديمقراطية لم تدخل قواميسنا السياسية حتى الآن، وفي المشهد التركي نرى الجماهير، سواء المُعبَّأة أو الآتية طوعاً، تُدْلي بأصواتها بحرية، وهذا المشهد في حد ذاته تاريخي ومهيب، ويكفي أن نرى مشهد الانتخابات الذي حُرمنا منه كي نسكر بخمرته، غير أن الرهان على أحد الطرفين يعني أنه ليست لدينا إرادة، ونعيش سياسياً على خبز الوعود، وأننا سنواصل انتظار سفن القمح والنفط.
لن أدخل في تفاصيل ودهاليز الانتخابات التركية، ولكنني سأنظر إليها كصورة، وأقول إن هذه الانتخابات يجب أن نراها كمُلْهمة لنوع من الحل، أي أن مشاكلنا المستعصية قد تُحل من خلال تجربة انتخابات ديمقراطية حقيقية، لكن هذا يحتاج إلى جو من الحريات العامة واشتغال في السياسة وقوى سياسية فاعلة، ومعارضة حقيقية مستقلة وغير تابعة إقليمياً أو دولياً، وإلى الوقوف في وجه القوى الخارجية التي ستحاول وأد العملية الديمقراطية في مهدها، ذلك أن الغرب الذي يصوّر نفسه كحارس للديمقراطية وعراب لها وناطق باسمها لا يتردد في دعم الاستبداد والنزعات الفاشية حين تخدم مصالحه، خارج حدوده.
ومهما كانت سلبيات نظام الحكم في تركيا يجب الاعتراف أولاً بأن تركيا كدولة حققت إنجازات مهمة وأن المُتنافسَيْن في الانتخابات للفوز بكرسي الحكم يطرحان برنامجين انتخابيين واضحين تصب كل بنودهما في مشروع بناء الدولة التركية المتواصل، كما أن دخول الطرفين في العملية الانتخابية، مهما تنوعت التفاصيل، دليل على أن تركيا، تلعب اللعبة الديمقراطية على النقيض من المنطقة العربية برمتها.
انحدرت شعبية أردوغان وتكشّفت ميوله التسلطية هو وحزبه حتى قبل أن يسدّد زلزال كهرمان مرعش لكمته الموجعة والمؤسفة لتركيا، وأشار باحثون أتراك إلى تورط مسؤولين من حزب العدالة والتنمية في الفساد من خلال الفوز بعقود لبناء عدد كبير من الأبنية المغشوشة التي لا تتمتع بمواصفات الأمان وانهارت من الهزة الأولى، ولكن تركيا بنت اقتصاداً قوياً ومدناً حقيقية وشيدت مصانع أنتجت السيارات والطائرات المسيّرة وحاملات الطائرات وأسست جيشاً قوياً يمتلك عتاداً وسلاحاً جعله من أقوى الجيوش في المنطقة، كما أن تركيا صارت قبلة السائحين في وقت تبدد فيه الجيوش العربية ميزانيات الدول لشراء الأسلحة من الغرب أو الشرق وتستخدمها في حروب مدمرة.
يعرف القاصي والداني الوضع في البلدان العربية، التي يشهد بعضها صراعاً عنيفاً على السلطة كما يحدث في السودان مثلاً، حيث تدور حالياً رحى حرب ضروس بين الجيش وقوات الدعم السريع، ويبدو أن القرار والحسم فيها سيكون لفوهات المدافع وجنازير الدبابات والمنتصر سيدخل إلى القصر الجمهوري بدبابته ثم يجلس فوق الدبابة كي يظل مهيئاً نفسه لحماية الكرسي حتى لو قتل نصف شعبه، وها نحن نرى المدنيين في السودان وخاصة الأطفال والنساء والعجائز يدفعون ثمناً باهظاً ذلك أن من سيحكمهم لا يهمه إن نصّب نفسه فوق أشلائهم وأنقاض بيوتهم.
وبصرف النظر عن النعرات العنصرية وكراهية الأجانب والظلم التاريخي الذي تعرض له الأكراد وتسهيل دخول الإرهابيين عبر الحدود مع سوريا إن منظر الحشود التي تتدفق في المدن التركية، للإدلاء بأصواتها في الانتخابات الديمقراطية في جو من الحرية والتمدن كفيل بأن يُلهم الروح المدنية كي تواصل نضالها إلى أن تتحقق الديمقراطية ويصبح لصوتنا كمواطنين وزن في المعادلة.
بواسطة أريكا هيلتون | مايو 18, 2023 | Culture, العربية, بالعربية
ترجمة: أسامة إسبر
في منتصف الليل أيقظتْني
أصواتٌ صادرةٌ من أقصى الحَلْق
لأرضٍ تهتزُّ
لصرخاتٍ، وصيحاتٍ
لغبارٍ حَجَبَ السماءَ بضبابهِ
لبرقٍ ومطرٍ وثلوجٍ
وبردٍ بعثَ القشعريرة في الجلد
لليلة نهاية العالم
أم هل انبلج الفجر؟
للظلام
والفوضى
والفقدان…
نعم، فقدان
قصصٍ قديمةٍ
وأحجارٍ عريقةٍ
وفسيفساء تَحطَّمت
فوق عشّاقٍ قدامى.
هل كانوا ما يزالون متعانقين؟
ما هذا الحلم الذي يسكنني؟
أرى هذا من فراشي البعيد.
دموع، دموع تُذْرف
على أشخاص لا أستطيع الوصول إليهم.
أرى يداً تشير:
أنا حيٌّ
لا تتركوني.
أنا هنا
تحت السَقْف
تحت السماء.
ترتفع يدٌ كيد الله
(كما في جدارية مايكل أنجلو ”خلق آدم“)
ها أنذا هنا
لا أستطيعُ التنفس…
تحت ركامِ
الأثاثِ المحطّمِ
والأحلامِ المُجْهَضةِ،
تحت الأحجار والمعادنِ.
حتى يد الله لا يمكن أن تصل إلى هنا!
أتساءلُ، ما الذي فَعلْتَهُ في آخر يومٍ من حياتكَ يا عمّي؟
هل سرتَ في شارع القصر واشتريتَ جريدةً
ثم تجوّلْتَ في الأزقة البيزنطية القديمة
قبل أن تصل إلى المقهى حيث
جلستَ على المصطبة مع أصدقائك القدامى
ودخنت سيجارةً، واحتسيتَ فنجان قهوةٍ تركية
وربما لعبتَ الطاولةَ أو الشطرنج
شكوت من السياسة أو الاقتصاد
أو ألم الصدر؟
هل كان بوسعك أن تعرف أنّ هذا كلّ ما كان موجوداً؟
لو عرفتَ، ما الذي كنت ستفعلهُ؟
أم هل كنت ستفعل أي شيء؟
هل كنت سترتّب أوراقكَ؟
هل كنتَ ستخطَّ رسالةً؟
رسالةَ وداعٍ؟
رسالةَ حبٍّ؟
رسالة تروي قصة حياتك؟
رسالةَ غضبٍ، قبولٍ، خوف؟
رسالة إلى ذريتك؟
ما الذي كنت ستكتبه؟
ما الذي أكلْتهُ يا عمي،
في عشائك الأخير؟
هل تناولتَ وجبة شرقية؟
هل تناولت الكبة أم الكباب؟
الأرز والسلطة؟
القليل من الزعتر على خبزك
خبز الحياة (ربما ليس هذه المرة)
ربما أكلت قطعة بطيخ كي تغسل فمك
أو قطعة بقلوى بالفستق الحلبي
أو لقمة كنافة منكّهة بماء الورد؟
ربما احتسيتَ جرعة عَرَق
فأنت تحبُّ حليب السباع ذاك
المصنوع من عنب مقطّر وبذور يانسون.
والذي أحبُّ رائحته
لكن بالطبع، عمتي لن تشرب منه.
فهي تفضّلُ أن تشرب الشاي
في الكأس الشفافة التي نُقشت عليها أزهار الزنبق.
أتساءل إن تناولتَ وجبتك الأخيرة
معها،
مع العائلة والأصدقاء
بمتعةٍ
وتقاسمتم الطعام
كما نُظهر حبنا،
حبنا،
وخسارتنا.
لا أحد يذكرُ القطط أو الكلاب الشاردة
أو الطيور التي تحلّق محذرة،
أمواج البحر
أو الأغصان المتكسّرة في النهر.
أترى يا عمي،
لقد وُلدْنا كي نموت، أليس كذلك؟
أنتَ لستَ وحيداً.
لكننا نقرّرُ ما نفعلهُ بين الولادة والموت،
أليس كذلك؟
إنه فعلُ الحياة
البقاء في الحاضر.
كيف عشتَ يا عمي؟
هل جَعلْتَ حياتكَ تستحقّ النَفَس الذي تتنفّسه
لشغل مساحةٍ على هذه الأرض؟
كيف نحدّدُ قيمةَ حياتنا؟
هل هي متعةُ المعرفة، الشعور،
الحبّ،
هذه اللحظة التي نحن أحياء فيها
ونقدّر كل نَفَسٍ نتنفسه؟
أم أنك لم تعد قادراً على الشعور،
صرت مخدراً
إزاء الوجود كالبعض؟
هل غادرتَ هذا العالم مديناً لأحد يا عمي؟
ربما بالحب، أو النقود، أو ربما باعتذار؟
ما هي العبارة المتداولة القديمة؟ عشْ حياتك كما لو أن كل يوم
هو يومك الأخير.
هل فعلتَ هذا، يا عمي؟
أم هل حددتَ الوقت فحسب؟
لا نعرف أبداً متى تنتهي حياتنا.
لا نعرف أبداً متى تسقط الكارثة من السماء.
أو تخرج من الأرض،
لا نعرف حقاً.
كنتَ حافظَ سجلات
أسلافنا، دمنا.
هل سيتذكّرُ أحد ما قصصك،
ويروي حكاية آمالك
وأحلامك ورغباتك؟
ما زلتُ غير قادرة على فهم لماذا كان يجب أن تغادرنا
بهذه الطريقة الدرامية،
وتُدفن تحت طبقات.
لم نملك الفرصةَ كي نودّعك
كي نغسل جسدك،
كي ندفنك ونحن نصلي
كي يحملك الأحباء إلى قبرك.
لم تكن هناك أزهار
ولا حديقة جميلة للأرواح.
أم هل من المحتمل أن زيوس أرسلَ صاعقة
شقَّ الأرض بعصاه
وزرعكَ كبذرة في رحم الأرض
كي تولد مرة أخرى
كي تنمو من جديد
مثلما حين يموت نجم
ويصبح مهداً لنجوم أخرى؟
وها أنت هنا يا عماه،
عناصر نجمة.
نجمة فيك.
إذاً، يا عمي العزيز
أصلّي لك كي تنعمَ روحك في الفردوس
أصلّي لك كي لا تشعر بألم حين تأتي الملائكة
أن تكون بخير أينما حللت.
أستطيع أن أشاهدك الآن.
يوماً ستستيقظ شاعراً بالشمس
فيما ملكة الشرق تعاود ظهورها
فوق ذلك الجسر المؤدي إلى طريق الحرير
متألقة
كالألماس
فوق نهر العاصي.
يمكن الاطلاع على هذا لقاء مع الشاعرة بعنوان “أخيراً، عثرتُ على جذوري: حوار مع الشاعرة والفنانة التشكيلية الأمريكية من أصل سوري أريكا هيلتون“
بواسطة علي محمد إسبر | مايو 16, 2023 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
ولد عبد الكريم اليافي في مدينة حمص عام 1919 وتوفي مدينة دمشق عام 2008، وكانت حياته عبارة عن انبثاقات معرفيّة دائمة، سواء على المستوى الأكاديميّ أم المستوى الثقافيّ، فقد تتلمذ في بداية حياته على مشائخ اللغة والأدب والفقه في مدينة حمص إلى أن حصل على شهادة الثانوية العامة “فرع الرياضيات”، ثم التحق بكلية الطب في جامعة دمشق؛ إلا أنه لم يجد في علم الطب ضالته، فسافر في بعثة إلى فرنسا من أجل التخصص في دراسة علم الفيزياء، ونال درجة الإجازة في العلوم الرياضية والفيزيائية عام 1940 وهو في ريعان شبابه، ثم نال إجازة أخرى في الآداب، ثم حصل على دكتوراه في الفلسفة عام 1945، ثم حصل أيضاً على مجموعة مذهلة من الإجازات أو الشهادات الجامعيّة في تخصصات من قبيل: علم النفس العام، فلسفة الجمال، المنطق والميتافيزيقا، تاريخ العلم، علم الاجتماع وعلم الأخلاق. وكان اليافي يُسمّى بين زملائه وطلابه في جامعة دمشق بـ”الرجل الذي يعرف كلّ شيء”. علاوة على ما امتاز به من أخلاق رفيعة وهدوء وتواضع وترفّع على الصغائر. والحقيقة أنَّ اليافي شكّل تياراً خاصاً إزاء التيارات التي كانت سائدة آنذاك في قسم الفلسفة في جامعة دمشق في منتصف القرن العشرين فصاعداً: إذ كان كل من نايف بلوز وصادق جلال العظم وطيب تيزيني يمثلون التيار الماركسي بدرجات متفاوتة؛ وكان محمد بديع الكسم يمثّل اتجاهاً منطقيّاً صارماً، وعادل العوا يمثل نزعة دينية أخلاقية وإلى ما هنالك؛ غير أنَّ اليافي اختلف عنهم جميعاً بتأسيسه لموقف فكريّ علميّ-صوفيّ. وقد وضع مجموعة مهمة من الكتب جاء تسلسها التاريخي على النحو الآتي:
1-الفيزياء الحديثة والفلسفة-دمشق، 1951.
2-تمهيد في علم الاجتماع-دمشق، 1964.
3-شموع وقناديل في الشعر العربي-دمشق، 1964.
4-تقدّم العلم-دمشق، 1964.
5-المجتمع العربي ومقاييس السكان-دمشق، 1966.
6-دراسات فنية في الأدب العربي-دمشق، 1972.
7-جدلية أبي تمام-بغداد، 1980.
8-معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية-دمشق، 1982.
9-بدائع الحكمة-دمشق، 1999.
10-معجم مصطلحات التنمية الاجتماعية والعلوم المتصلة بها –جامعة الدول العربية.
11-شجون فنية-دمشق، 2000.
هذا، إلى أنه كان نشيطاً جداً على مستوى النشر في المجلات والدوريات، فكتب عدداً كبيراً من المقالات والأبحاث في مجلة المعرفة السورية ومجلة الآداب اللبنانية ومجلة تراث السورية التي عمل مدة رئيساً لتحريرها وإلى ما هنالك. وكان أول من أدخل علم السكان على أسس رياضية إحصائية إلى جامعة دمشق، علاوة على طرحه للنظرية الكوانتية على نحو مبكر في ما يتعلّق بفلسفة الفيزياء، كما اهتم بالأدب العربي اهتماماً كبيراً وكانت له آراء نقديّة مهمة في هذا الاتجاه. هذا إلى جانب ممارسته لمهنة التدريس في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق وفي أقسام أخرى من الجامعة.
وبما أنَّ اليافي كان ضمن كادر قسم الفلسفة في جامعة دمشق منذ بدايات تأسيسه، إلا أنه لم يكن فيلسوفاً محترفاً، فلم يضعْ نظرياتٍ في الفروع الرئيسة للفلسفة، وأعني بها الأنطولوجيا أو علم الوجود، وهو علم يُعنى بتقديم إجابة نهائيّة عن معنى الوجود، والإبستمولوجيا أو (نظرية المعرفة) التي تُعنى بالكشف عن أصل المعرفة ومصادرها وقيمتها، والأكسيولوجيا (علم القيم) ويدرس أصل القيم وطبيعتها وأنواعها ومعاييرها؛ ما يعني أنَّ اليافي لم يكن ميّالاً إلى أن يكون فيلسوفاً نسقيّاً، أي واضعاً لنسقٍ فلسفيّ يقدّم تفسيراتٍ نهائيّة لمعنى وجود الإنسان لأنه لم يكن مقتنعاً بالدراسات الفلسفيّة البحتة التي تعتمد المناهج الاستقرائية والاستنباطيّة وتُغيّبُ الأبعاد الروحانيّة عن موضوعاتها، لذلك كان لا بدّ في رأيه من الجمع بين المناهج، سواء أكانت علمية أم فلسفيّة وبين ما يسمّيه المتصوفة طُرق العلم اللدنيّ، فاليافي كان شغوفاً إلى أقصى حدّ بإيجاد علاقة تركيبية بين العلم والتصوّف.
إنّه يجمعُ في تفكيرهِ بين أكثر المناهجِ العلميّةِ دقّةً وأكثر الحدوس الصوفيّةِ الوجدانيّةِ تعالياً على مناهج العلم، فهو إن صحَّ وصفي عالمٌ وضعيٌّ متصوِّف، لذلك نكتشف في كتاباته علميّة التصوّف أو صوفيّة العلم. وها هنا وجه المفارقة في شخصيّة اليافي، فهو عالمٌ ملتزمٌ بمعايير البحث العلميّ ومناهجه، ولكنه في المقابل يركن إلى اللُّمَعِ والبوارق والسوانح الصوفيّة واجداً فيها الملاذ الأمين.
إنَّ ما يطلبه اليافي من هذا الحدْس الصوفيّ عينه، هو إعادة النظر في تاريخ الميتافيزيقا في الإسلام، ليثبت أنَّ الثقافة الإسلاميّة تنضوي في داخلها على عناصر تجديدها؛ بل انبثاقها الدائم على نحوٍ يخلّصها من القراءات الفقهيّة والسلفيّة المُغلقة كافةً التي أصبحَ الإسلام يقدّم بسببها اليوم بصفته ديانةً-إرهابيّة؛
وقد كان اليافي واعياً وعياً عميقاً بالخطر الذي يهدّد الدِّين الإسلاميّ، واكتشف على نحوٍ مبكِّر ضرورة الإصلاح الدِّينيّ، ففي مقالة له نشرها في مجلة الآداب اللبنانية عام 1983 طرح سؤالاً هو: “من المؤهلون لتجديد التعبير الصحيح عن الفكر الدِّينيّ الأصيل والقيام بالإصلاح المنشود؟”.
وهنا قدّم اليافي جواباً عن هذا السؤال هو وفق قوله: “لا شك أنَّ المؤهلين هم علماء الدِّين أكثر من غيرهم. ولكن القسم الأكبر من علماء الدِّين الإسلاميّ في الوقت الحاضر محتاجون أن يتجاوزوا مجرّد اطلاعهم على أصول الدِّين الإسلاميّ إلى التزوّد الواسع بالعلوم الإنسانيّة الحديثة بل العلوم الموضوعيّة لتُنشِئ لهم صحّةَ النظرِ في حاضرِ الأوضاعِ والتنظيمات العامّة الحديثة في مشكلاتِ الحضارة المعترضة”.
غير أنَّ اليافي-كما أفهم تجربتَه لم يجد في الموروث الفقهيّ أيّ إمكانية تساعد في الإصلاح الدِّينيّ المنشود، ولكنه وجد هذه الإمكانيّة في تراث المتصوفين المسلمين الذين رسّخوا الإسلام، بصفته ديناً كونيّاً، يقوم في جوهره على الحبّ. وكان اليافي يعرف أكثر من غيره أنَّ كبار المتصوّفين في الإسلام كانوا عُرضةً للاتهام بالزندقة والمروق والكفر؛ بل تعرّض الكثير منهم للقتل بأبشع الطرق من أمثال الحلاج (858-922م) والسُّهرورديّ (1155-1191م) وعين القضاة الهمداني وغيرهم!
ولقد وجدَ أنَّ التصوّف الإسلامي لا يُلغي الذات الإنسانيّة في الذات الإلهية، أو لا يُغيِّبُ المتناهي في اللامتناهي؛ بل تدلُّ تجارب المتصوّفين الكبار على أنَّ هدفهم الرئيس هو توكيد الذات الإنسانيّة بطابعها النسبيّ المحدود إزاء الذات الإلهيّة بطابعها المطلق اللامحدود. وهذا يُفضي إلى تأسيس علاقةٍ جديدة بين الإلهيّ والإنسانيّ تقومُ على فهمٍ جديدٍ للإسلام يعطي للحياة الإنسانيّة قيمةً كبرى بعد أن صارت قيمتها مبتذلةً بسبب ما شهدناه وعايشناه من انتهاكاتٍ قامت بها الجماعات التكفيريّة التي يزعم فقهاؤها، أنهم ناطقون باسم الألوهيّة وأنَّ إسلامهم هو الإسلام الصحيح، أي إسلام السلف.
لقد أرادَ اليافي التأسيس-إن صح التعبير-لعلمِ اجتماعٍ صوفيٍّ، أي لعلم اجتماع لا ينظر إلى الظاهرة الاجتماعيّة نظرةً وضعيّةً تسلبها قيمتها الرّوحيّة، بل يؤكدها بصفتها ظاهرةً اجتماعيّةً تتصفُ بالوضعيّةِ والرُّوحيّةِ في آن. وهنا استند اليافي كيما يؤكّد هذه النزعة الإنسانيّة في التصوّف إلى ما قاله ابن عربي في مُقَدَّمة كتابه “عنقاء مُغرب”: “فليس غرضي في كلّ ما أُصنّف في مثل هذا الفنّ معرفة ما ظهر في الكون وإنما الغرض معرفة ما ظهر في هذا العين الإنسانيّ والشخص الآدميّ”.
وها هو اليافي يستجلي أسرار فكر ابن عربي الذي أسس لعلاقةٍ جدليّةٍ عميقة بين الله والإنسان، فالإنسان محلّ ظهور الألوهيّة، وهنا نجد سبقاً واضحاً عند ابن عربي لتعرّف المطلق على ذاته في الإنسان في فينومينولوجيا الفيلسوف الألماني هيغل. لقد كان اليافي ميّالاً إلى نظرية وحدة الوجود، وهي نظريّة فلسفيّة-صوفيّة ذات تأثير عميق في تاريخ الثقافة البشريّة بوجهٍ عامٍّ، أعني أنّه يفهم هذه النظريّة فهماً جديداً نابعاً من تفسير دقيق لنصوص الصوفيّة.
وحاولُ اليافي أن يستندَ في هذا الاتجاه من أجل ترسيخ نظريته في وحدة الوجود إلى قول النبيّ محمد الذي يخبر فيه عن سبب خلق الله للخلق: “كنتُ كنزاً مخفيّاً فأَحببت أن أُعرف فخلقتُ الخلق فبي عرفوني”.
ذهبَ مذهباً خاصّاً في تفسير معنى هذا القول، مستنداً في ذلك إلى علم الفيزياء، أي أنَّه أرادَ أن يُفسِّر الموروث الدِّينيّ في أُفق جديد تماماً يكون مستمداً من العلمِ الحديث، أعني من علم الفيزياء؛ لكن السؤال الجدير بالبحث عن إجابة شافية هو: أيمكن التوفيق بين الموروث الدِّينيّ تحديداً منه الحديث النبويّ والفيزياء المعاصرة؟
ليس بمقدورنا الإجابة عن هذا السؤال، إلا بعد الفحص عن منهجيّة اليافي في تفسير حديث “كنتُ كنزاً مخفيّاً…” في ضوء علم الفيزياء.
وهنا بيّن اليافي أنَّ “النّور الطبيعيّ هو غاية في الوضوح والإيضاح، به نرى الأشياء بأنواعها وألوانها وحجومها ومقاديرها وأشكالها. ولكن النور لا يُرى إن غابت عنه المادة. الفضاء الكونيّ ليل مظلم. إنَّه فراغٌ سماويٌّ لا يُقدّمُ للنّور نقطة ماديّة تنثره أو ينعكس عليها لتجعله مرئيّاً ولتصبح هي مرئيّة به، حتى إذا صادف الشُّعاعُ غير المرئيّ في مسراه ذرةً من الهواء أو الهباء في الجوّ المحيط بالأرض أمكن أن نرى الهباء متلألئاً والذرة براقةً. فوجود المادة وسيلة لرؤية النّور ورؤيتها به”.
يظهر هنا على نحوٍ واضحٍ أنَّ اليافي يُشبّه الله (الكنز المخفيّ) بالنّور الذي غابت عنه المادة، أي أنَّ الله لا يُعرف معرفةً حقّة، إلا عن طريق مخلوقاته، وعلى هذا الأساس تُعَدُّ عمليّة الخلق التي هي في أصلها عمليّة أنطولوجيّة أو وجوديّة شرطاً جوهريّاً لنظرية المعرفة، أي أنَّ هناك ترابطاً ماهويّاً في عمليّة الخلق بين الخالق ومخلوقاته، إذ إنَّ الحالةَ التي تكونُ فيها المخلوقات قبل خلقها لا تتيح للخالق أن يكون قابلاً للمعرفة، أي قابلاً لأن يُعرف. وبذا تحوز المخلوقات، أي الأَناسيّ بوجهٍ خاص قيمةً كبيرة، إذ هي أساسُ انكشافِ الألوهيّةِ لنفسها، وهذا هو التفسير الدقيق لعبارة “أحببتُ أن أُعرف”، فالله كوّن العوالم كلّها، بسبب حبّه لذاته، والمخلوقات أو الموجودات تشكّل لحمة هذا الحبّ وسدَاتِه، أي أنَّ عمليّة الخلق منسوجةٌ بحبِّ الله لذاته، لذلك المخلوقات نفسها تشكّل جزءاً مكوِّناً من حبِّ الله لذاته. والحقيقة أنَّ تفسير اليافي يحمل في طواياه عُمقاً كبيراً يستحق الإيضاح، إذ إنَّ الله لو لم يخلق الخلق لبقي الوجود في جملته الجامعة، مخفيّاً بما في ذلك الله ذاته، وهنا نكتشف نوعاً من التكامل بين الله والمخلوقات، وهذا يتضح تماماً في التعابير التي أوردها اليافي من قبيل “الفضاء الكونيّ ليل مظلم”، أو الـ”فراغ سماويّ”، بمعنى أنَّه لو لم يَقُم الله بخلق المخلوقات لكان الوجود صحراء قاحلةً لا مكان فيها لذي روح. إذن، الألوهيّة تحقق ذاتها في مخلوقاتها أعلى درجات التحقيق.
وهنا اتجه اليافي من أجل تدعيم وجهة نظره إلى تفسير بعض آيات القرآن تفسيراً علميّاً، مؤكداً ضرورة فهم الآية القرآنية (الله نورُ السموات والأرض) [النور 35] على أساس أنَّ الله نور أصليّ لولاه لكان الكون كلّه ظلمة مُطبقة. إنَّ الله خلق الخلق ليتلقى نوره الغامر ويظهر، ويصبح النور مرئيّاً لمن كانت عنده بصيرة وليغدو الله معروفاً.
لقد حاول اليافي أن يجمع بين اللاهوت المُوحى وعلم الفيزياء، بمعنى أنّه يجد في مقولات الوحي تعبيراً عميقاً عن إعجازٍ علميّ. إذ تتسق هذه المقولات–في رأيه مع أحدث الاكتشافات الفيزيائيّة الحديثة. وبذا يسعى اليافي إلى جسر الهُوّة بين الدّين والعلم، قاصداً بذلك تكييف الدِّين مع العلم، وتهذيب العلم بالدِّين؛ لكن إلى أيّ مدى يستطيعُ السير في هذا الطريق؟
وهنا يجب أن نذهب في التحليل إلى أبعد، فاليافي وفقاً للتحليلات السابقة لا ينظرُ إلى عالم الدِّين أو اللاهوت الموحى، بصفته عالماً مغلقاً على نحوٍ نهائيٍّ ومفصولاً عن عالم العلوم الوضعيّة؛ بل يمكن الاتصال مع ينابيعه ذاتها، أو بالأحرى يمكن منحه ينابيع جديدة، ليس بوساطة طرقه المعهودة المتعارف عليها؛ لكن بوساطة طُرق أخرى تُعَدُّ ذات صدقيّةٍ حقيقيّة في التعبير عن جوهرِ العلاقةِ بين الإلهيّ والإنسانيّ. وهو لا يقصد بهذه الطرق سوى طُرق المتصوّفة ونظراتهم في فهم حقيقة النبوّة، بمعنى أنَّ الحِكَم والإشراقات والحدوس الميتافيزيقية الصوفية تمثل وسائل معرفية لبلوغ المطلق والتعبيرِ عنه في آن مثلها مثل الوحي.
والحقيقة أنَّ موقف اليافي من التصوّف يشابه موقف الفيلسوف الفرنسيّ هنري برغسون حينما قال: “وفي رأينا أنَّ غاية التصوّف اتصالٌ بالجهد المبدع الخالق الذي ينجلي عن الحياة، ومن ثمَّ اتحاد جزئيّ به. وهذا الجهدُ هو شيء من الله، إن لم يكن هو الله ذاته. والصوفيّ الكبير هو ذلك الإنسان الذي يتخطّى الحدود التي رسمتها للنوع البشريّ ماديته، ويكمل بهذا فعل الله”.
أرادَ اليافي يبني علاقةً جديدةً مع المقدَّس تقومُ على إعطاء قيمة كبرى لتجارب فرديّة لأفرادٍ ممتازين مرّوا في تاريخ الثقافةِ العربيّة الإسلاميّة، فكانوا مثلاً حيّاً على قدرةِ الإنسانِ العربيّ على تجاوز التقليد وتوكيد ذاته بإزاء المطلق.
ووسّع اليافي دائرة الفهم الوجوديّ للأُلوهيّة، فيرى إلى الله مبثوثاً في الكون كلّه على نحوٍ ينشر الجمال في مختلف أنحاء الوجود؛ ذلك أنَّ الألوهيّة تعبّر عن ذاتها في الكون بصور الجمال المتنوّعة. وبما أنَّ الجمالَ منثورٌ في الكون، فلا بدّ من أن يثيرَ الحبَّ، فالجمال مطلوبٌ بصفته محبوباً. وهنا يجب التساؤل عن الغاية من هذا الحبّ؟
لجأ اليافي هنا إلى الشيخ الأكبر، إذ قال: “الغائيّةُ في الحبّ تلك هي التي يدعوها الشيخ محيي الدّين بن عربي في “فتوحاته” حبّ الحبّ. ويريد أن يوضّح هذا المعنى، فيعرّفه بأنّــه “الشُّغلُ بالحبِّ عن متعلَّقه”.
والحقيقة أنَّ هذا التعريف يسمو بالحبّ إلى أعلى درجاته على الإطلاق، فلم يعد موضوع الحبّ الماديّ هو شاغل المحبّ؛ بل صار المحبُّ مشغولاً بحبّه نفسِهِ عن محبوبه.
ويجب هنا أنَّ نقول: لقد حاول اليافي تـأسيس فهمٍ جديد للدِّين الإسلاميّ في أُفق تأويله الصُّوفيّ للنصوص، فصار الدِّينُ الإسلاميّ وفقاً لهذا الفهم دين الحبّ الكونيّ الساري في الكائنات كلّها، أو بالأحرى صار الدِّينُ الإسلاميُّ ديناً مؤسّساً لوحدة الأديانِ كلّها، سماويّها ووضعيّها.
يُعدّ اليافي حالةً فكريّةً خاصّةً في الفكر السوري في القرن العشرين، فلم يؤخذ بالتيارات الفلسفية الغربية من براغماتية وظاهراتيّة ووجوديّة ووضعيّة منطقيّة وغيرها رغم اطلاعه الكبير عليها؛ بل أراد أن يبقى مخلصاً لتراثه، تحديداً الصوفيّ منه، من أجل أن يؤسس لفهم خاصّ لمعنى الوجود، قد لا يلقى قبولاً من كثيرين الآن؛ ولكن مع ذلك يبقى فكر اليافي محاولة للقبض على ماهية المطلق في عصر اللا أدريّة المبتذل.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
الحواشي
١)اليافي، عبد الكريم، الدِّين والإحياء الرّوحي في الوطن العربيّ: تباعد أم لقاء مع أوروبة الغربية؟ مجلة الآداب، العدد رقم 4-5، 1 أبريل 1983.
٢) المصدر نفسه، المعطيات السابقة نفسها.
٣)اليافي، عبد الكريم، بدائع الحكمة، دار طلاس، دمشق، 1999، ص: 60.
٤)برجسون، هنري، منبعا الأخلاق والدِّين، ترجمة” سامي الدروبي؛ عبد الله عبد الدائم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971، ص:236.
٥) اليافي، بدائع الحكمة، مصدر سبق ذكره، ص: 60.
بواسطة عمر الشيخ | مايو 14, 2023 | العربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
مناهج التعليم في جامعات سوريا، تسعى إلى استخدام الكتب الإلكترونيّة بدل الورقيّة، وكان هناك مبررات عدّة، مزعومة، أشارت إليها إحدى الصحف الرسميّة بدمشق نقلاً عن مسؤولين في وزارة التعليم العالي، مثلاً “يوجد ما تقارب كلفته الـ 1.2 مليار ليرة سورية؛ مبلغ مجمد لآلاف من الكتب المطبوعة منذ سنوات، لا تلقى أيَّ طلب عليها من الطّلاب”، والكلام السابق منسوب لمدير الكتب والمطبوعات في جامعة دمشق.
وبدل أن تُعالج مشكلة كساد الكُتب، وقلّة خبرة الفريق الإداريّ في تلك المؤسسة، استُخدمت كواحدة من المبررات التي تعتبرها الوزارة المعنيّة؛ معالجة لكارثة يُفترض بها أن تصنف كقضية فساد إذا صحَّ ما قالته “د.مياسة علي ملحم” نائب عميد كلية الهندسة المدنية للشؤون الإدارية والطلابيّة في جامعة دمشق لذات الصحيفة: “لدينا هدر ورق كبير نحتفظ به بالمستودعات بأعداد هائلة ويصبح الكتاب قديماً وتالفاً قبل أن يُستخدم”.
ويشير الموقع الرسميّ لجامعة دمشق أن مديرية المطبعة تقوم “بطباعة كلّ ما تحتاجه جامعة دمشق وكلياتها من مطبوعات وخاصة بعد أن تمّ تحديث وشراء آلات جديدة للمطبعة العام 2007 أصبحت المطبعة تقوم بإنجاز طباعة كتب جامعة دمشق وكتب التعليم المفتوح بشكل كامل ومجلات الجامعة وجرائد الجامعة وأوراق الامتحانات وحاجات الكلّيات بما فيها فروع درعا والسويداء والقنيطرة ومن الجدير بالذكر أن كلّ مطبوعات الكلّيات والمديريات من ورق وكرتون وطباعة، مجانية على حساب جامعة دمشق كون المديرية خدميّة لصالح الجامعة” وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مصير تلك المديرية يبدو مجهولاً في ظلّ ظهور التحوّل إلى “الكتاب الإلكترونيّ” وكذلك مصير تلك الآلات المختصّة بالطباعة بعد توقفها.
الاهتمام بالقشور
تعتبر ريم شعار (طالبة صيدلة في السنة الخامسة) من جامعة تشرين، أنّ هذا القرار يعطي انطباعاً جيداً للوهلة الأولى، وكأنّنا نتطوّر ونتقدم بخطوات حقيقية لتطوير العملية التعليميّة، وتسهيل الأمور على الطلاب للحصول على المعلومات مباشرة دون الاضطرار إلى استخدام المواصلات للذهاب إلى الجامعات أو إلى المكتبات للحصول على المحاضرات بشكلها الورقيّ.
وتضيف ريم في حديثها لموقع صالون سوريا: “لكن بعد التفكير مليّاً والأخذ بعين الاعتبار عدّة أمور، وجدت أنّ تحويل جميع المقرّرات الجامعية لملفاتإلكترونية ليس بهذه البساطة أبداً على الطالب؛ وخاصة في دولة كسوريا عانت ما عانته خلال سنوات طويلة من القلّة وانعدام أدنى مقوّمات الحياة. فمثلاً أول ما يخطر لي ولكلّ طالب سوري هو الكهرباء وتوافرها المعدوم مع الأسف، فكيف لي أن أدرس للامتحان ساعات طويلة ومتواصلة على جهاز إلكترونيّ لا أعلم متى ستفرغ منه الطاقة! ومن الذي له قدرة ماديّة دائمة كي يقضي معظم وقته في المقاهي التي تتوفر الكهرباء فيها، حيث يلجأ إليها العديد من الطلبة الآن؟”.
وتعتقد ريم أن هذا التحوّل يحتاج إلى “بنية تحتيّة من الأجهزة الذكية الخاصّة والتي تدعم العديد من الميزات والتي من الصعب توافرها هنا، عدا عن أسعارها الباهظة في حال توافرت، إضافة إلى العقوبات أو ما يسمى “الجمركة” على إدخالها للبلاد ومشكلة توافر شبكة الانترنت التي ما زلنا حتى الآن نعاني أشد العناء منها”.
وتشير ريم إلى طبيعة الضرر العائد على الصحة من هذه الخطوة، بداية من آلام الظهر والأكتاف بسبب الجلوس الطويل على الأجهزة اللوحية أو الحواسيب ووصولاً إلى التأثير السلبيّ على صحة العيون: “إذا استُخدم الهاتف المحمول لمدة قليلة من الزمن ولاستخدامات عادية حقاً أشعر بانزعاج في عينيّ، فما بالك بدراسة لمدة طويلة!
في النهاية نحن كطلاب نتمنى حقاً أن يتم الاهتمام بالعملية التعليميّة وتطويرها والنظر بصدق ووعي لآلاف المشاكل التي تواجه وتعرقل الطالب السوري والتي لا يلتفت إليها أحد واقعياً وهذا القرار هو وصف لمن ينظر إلى القشور ليلهينا ويترك اللبّ” على حد تعبيرها.
الهاتف بين يدي
تصف ميسون (طالبة في كلية الإعلام) جامعة دمشق، في حديثها لموقع صالون سوريا هذه الخطوة بـأنها “حسنة جدّاً لأنها تسير مواكبةً التطوّر في المجال الرقمي، وهي حقيقة لخطوة جريئة بقدر ما هي مفصلية، لأنّه وبلا شك ستتبعها تطوّرات أخرى في النظم التعليمية وطرق التعليم. وأفضل ما في الدراسة من الكتب الإلكترونية (وفي الواقع هو الأهمّ) أنّها توفّر علينا دفع مبالغ طائلة للحصول على الكتب الورقية، وهذه العملية جيّدة جدّاً ومفيدة في ظلّ تردي الوضع الاقتصادي. كما أنهّا ومن ناحية أخرى توفر الكثير من الوقت والجهد، فبضغطة زر تصبح متاحة على هواتفنا”.
وتستدرك ميسون، من ناحية أخرى، مخاطر هذه الخطوة معتبرة أنها “ليست مجرّدة من السلبيات، فاحتمال حدوث مشاكل صحية (كألم العين، ووجع الرأس.. إلخ..) عند المستخدمين يزيد أضعافاً لأنّ وقتهم يطول أمام شاشاتهم، ناهيك عن ميل أغلب الطلاب نحو الورقيّة منها واعتيادهم عليها، ما يصعّب عليهم التأقلم مع الالكترونيّة” على حد تعبيرها.
وتحبّذ ميسون بشكل شخصيّ الدراسة من الكتب الورقية “لأنها مريحة لعينيّ ونسبة تركيزي فيها تكون أعلى منها في الدراسة من الالكترونيّة، فما دام الهاتف بين يدّي، فإنني لن أقاوم إدماني على مواقع التواصل، وسأدخلها خاضعة” حسب قولها.
وتضيف ميسون: “إنّ الوضع الذي نعيش فيه يفرض عليّ وعلى غيري من عشاق الكتب الورقية استخدام الالكترونيّة، لشحّ الكتب الورقية وصعوبة الحصول على نسخ منها بأسعار تناسب أوضاعنا المادية، وعلى أي حال لن نستغني عنها بالكامل، حتى لو توفرت الورقيّة، فهناك حالات اضطرارية يفضّل أن نقرأ من الهاتف خصوصاً أثناء التنقل في المواصلات، وأنا في بعض الأحيان يحكمني مزاجي، فيروق لي أن أدرس من هاتفي”.
تركيز مفقود
وبعيداً عن أجواء الاحتفال باللحاق بقطار التقنيات الحضاريّة في التعليم، وغض نظرها عن مشكلة جوهرية تشير إلى ثغرات إداريّة، وتبدو خطوة التحول إلى “الكتاب الإلكترونيّ” فرصة للاختباء من إيجاد حلول تناسب أوضاع الطلاب، ووقوفاً عن الجانب الصحيّ لتلك الخطوة، خلصت دراسات منشورة مؤخراً إلى أن استيعاب الطلاب يكون متدنياً أثناء التعلم والقراءة من الوسائل الإلكترونية وأن مستوى الفائدة يكون أقلّ مقارنة مع الوسائل المطبوعة. وبحسب الدراسات فإن الأجهزة اللوحيّة ترهق الأعين عند القراءة وتؤثر على مدى التركيز في المعلومات وتفهمها. إضافة إلى أن عدداً كبيراً من الناس يميلون إلى الاستيعاب أكثر عندما يكون مصدر المعلومة على صفحات حقيقية أكثر من وجودها في نص إلكتروني “ربما لأن تدفق النص يعرقل الانتباه البصري ويفقد القارئ مكان القراءة” حسب ما جاء في إحدى الدراسات عن جدوى التعليم عبر الأجهزة اللوحية.
التجريب بالمواطن
يعتقد الصحفي السوري طارق علي أنه لن يكن هناك إقبال على شراء الكتب الورقية، إذ أن ذلك ليس وليد المرحل الحالية وهو أمر منذ سنوات طويلة فائتة، فالملخصات و”النوتات” هي الطاغية على الكتب الجامعيّة الضخمة، والتي بدورها-أي الملخصات- تحقّق ربحاً لدكتور/ة المادة وللمكتبة التي تطبع، وتريح الطالب من عناء قراءة كتاب تعداد ورقه بالمئات.
ويضيف طارق في حديثه لموقع صالون سوريا: ” هذا حال قديم ولا زال سارياً، وما ازدياد تلك المكتبات في محيط الجامعات إلاّ دليل على نبذ الكتب المطبوعة والاتجاه نحو حلول أكثر راحة للطالب، حتى أن دكتور/ة المادة ت/يلمّح سراً أو صراحةً إلى ضرورة شراء تلك النوتات”.
ويؤكد: يمكن ملاحظة انتشار الملخصات الإلكترونيّة -سلفاً والتي يتبادلها طلبة الجامعات لاسيما في الكليات العلمية، وتلك الملخصات المتداولة تريح الطالب أكثر لتوافره معه في هاتفه -مثلاً- طوال الوقت، وكذلك توفر عليه المال الذي سيدفعه ثمناً للمحاضرات الملخصة-وهي مبالغ كبيرة على الطلبة- لا شك أن الجامعات تخسر حين تطبع كتبا لكلياتها، ومن الجيد نسبيا تحويل التعليم إلى إلكترونيّ، ولكن بالمقابل، ألا يمكن اعتبار الأمر رفاهية مبكرة؟، فليس كلّ طلبة الجامعة يحملون أجهزة حديثة أو لديهم حواسيب محمولة أو حتى كهرباء (…) وبالتالي من الضرورة في مكان تأمين المقومات الأساسية التي تحقق الوفرة والاكتفاء للمواطن (الطالب) ثم البحث في إمكانية تعميم النموذج الإلكترونيّ في بلد كلّ شيء فيه مترابط ولا يمكن فصله عن الآخر.
ويختم طارق كلامه بالتساؤل: “هل هذا التحول سيشوبه نوع من الفساد والسمسرة؟ أم أنه قرار مدروس بشكل كاف وواف في بلد لا تصدر معظم قراراته سوى بهدف التجريب بالمواطن!”.
أخيراً..
أجمع عدد ممن تحدّثنا معهم ولم يوثقوا إجاباتهم أنها خطوة مفيدة فيما بعد، ولكن الآن هناك مشكلة كبيرة وهي توفر الكهرباء من جهة والتأثيرات الصحية من جهة أخرى، وذلك سوف يكون مصدر قلق لهم. في الوقت الذي لم تظهر فيه وزارة التعليم العالي في سوريا في أي تحقيق موثق عن سبب كساد الكتب وهدر المال العام الذي كان يمكن من خلاله تطوير وسائل أكثر تناسباً مع وضع الطلاب اليوم في الجامعات السورية.