“توقف الزمن، ما زلت عاجزة عن الكلام والتعبير، أشعر أنني لم أعد على قيد الحياة، أنا محض جثة نجت بأعجوبة، وليتها لم تنج”، تقول علا علي (19 عاماً) وتنهار بالبكاء خلال حديثها مع “صالون سوريا”.
كانت علا تدرس على طاولة الدراسة الجامعية الصغيرة في زاوية غرفتها في الطابق الثاني فجر الكارثة. بعد أن اطمأنت أنّ أهلها نائمون بأمان وسلام، ابتسمت في وجه المرآة ووعدت نفسها بمستقبل أفضل حالما تنهي سنواتها الجامعية، أعدت كوباً من القهوة الساخنة وبدأت تتصفح إحدى محاضراتها، شغلت أغنية لنجاة على هاتفها الصغير، كانت تحب نجاة كثيراً قبل الكارثة.
“لا أدري ماذا حصل، كان كل شيء جيداً، لا أذكر، لا أريد أن أتذكر، فجأة ارتج المنزل، هزة، هزتين، لحظات، ساعات، عمر بأكمله، صراخ شديد، صرت أسمع صراخاً من منزلنا، من الجوار، صرت أشعر بأصوات صرخات تحطم رأسي، لا أدري كم استغرق الأمر، ولكنني الآن أدرك أكثر ما حصل، أتعلم ما الذي حصل؟، أهلي توفوا، ومنزلي صار ركاماً ؟”.
شيء ما يبدو غريباً في علا، هل كلمة غريب مناسبة بعد ما عاشته؟، هي الآن عند أقاربها، يقولون إنّها ليست بخير، لا تنام ليلاً، تبكي طوال الليل، وإذا ما غفت فإنّها تستيقظ صارخةً.
في حديثي معها، بدا لدى علا طاقة كبيرة للكلام، أرادت أن تقول شيئاً لم تستطع التعبير عنه بأسلوب واضح، أفكارها مبعثرة للغاية، ذكرياتها مشتتة، لا يبدو أنّها قد استوعبت ما حصل بتمامه حتى الآن، وريثما تستوعب ما حصل، قد يكون فات الأوان على شابة كانت تتوسم خيراً رغم كل ما في بلادها من محن.
بسطاء يتقاسمون القهر
الأمر في سوريا مركب قليلاً، فالناس تجاوزت عقداً من الحرب، وحملت فيه ما حملت من هموم ومشاكل وآلام وخسارات نفسية ومعنوية ومادية زادها سوء الحال الاقتصادي تعقيداً واستنزافاً، فجاء الزلزال مكملاً على أحلام بسطاء يتقاسمون القهر من شمال إدلب إلى حلب والساحل وحماه وكل منطقة تضررت من الزلزال.
في جولة على حالات كثيرة نجت من الزلزال يبدو واضحاً اتحاد المشاعر التي تنحو نحو العدمية ويبدو من غير المنطقي “الطبطبة” على جراحهم، فجراحهم عميقة للغاية، عميقة إلى ذلك الحدّ الذي تحتاج فيها مرمماً طبياً من النوع الوجداني – المادي غير المتوفر حتى الآن لهؤلاء الضحايا.
إذا اعتبر أحدٌ ما أنّ الفقد يمكن تجاوزه مع مرور الوقت، معللاً ذلك بالسنن الكونية الناظمة لحياة البشر، فكيف سيمكن تعليل شكل الحياة لأناس كانوا يستظلون تحت سقف وصاروا في المأوى، والسقف في سوريا ليس اصطلاحاً من الترف، بل هو المعنى الحقيقي لـ “جنى العمر”، فهل تؤمن الحكومة لضحايا البلاد دفئاً من النوع الذي يحيطهم من خلال أربعة جدران؟، يبدو ذلك مستحيلاً في المدى المنظور، فلا الإمكانيات متوفرة ولا القدرة المادية والاقتصادية واللوجستية كفيلة بحل تلك الإشكالية التي كتبت على السوريين نزوحاً تلو نزوح في حياة واحدة.
لا تتوقف الأرض عن الاهتزاز
لم تتوقف الحياة عند علا فقط فجر السادس من شباط، كثر مثلها، وفاء حمدان (38 عاماً) من ناجي اللاذقية لا زالت تعيش آثاراً وتبعات لما بعد الزلزال، تقول: “شيء غريب يحصل في بدني حين تصير الساعة الرابعة وقليل فجراً منذ يوم الزلزال، أشعر ببدني كلّه يرتعد، دقات قلبي تتصاعد كثيراً، أشعر بدوار شديد، أشعر بالأرض تهتز من تحتي، أهرع لأوقظ أفراد أسرتي، أصيح بهم جميعهم، فيقفون من نومهم مرتعبين، أخبرهم بوجود زلزال، ولكن يبدو أنّ لا أحد يشعر به غيري”.
يؤكد منصور شقيق وفاء روايتها وبأنّهم في الأيام الأولى التي تلت الزلزال كانوا يستجيبون لصرخات أختهم وينزلون للشارع على الفور، لكنهم تبينوا مع الأيام اللاحقة أنّها حالة نفسية عصيبة، وعليهم أن يتعاملوا معها بهدوء وحذر كما أشار عليهم أحد الأطباء النفسيين الذين استشاروه دون وجود وفاء التي رفضت الذهاب إليه مؤكدةً أنّ أحاسيسها بالهزات الأرضية اليومية هي أحاسيس حقيقية.
يقول منصور: “لا أريد أن أقول هذا، ولكن الزلزال أثر على عقل وفاء، وأثر علينا جميعنا، نحن خائفون، نجونا من الزلزال بأقل الأضرار ولكن شدته وسقوط الأبنية من حولنا وصرخات الجوار كلها عالقة في أذهاننا حتى الآن مذكرةً إياناً بأقسى يوم مرّ على بلادنا”.
متلازمة ما بعد الزلزال
مئات الحالات وربما أكثر بدأت تشتكي من مخاوف وهلوسات وما فسره الأطباء النفسيون بمتلازمة ما بعد الزلزال، فالبعض بات لا شعورياً يشعر بهزات كل لحظة وهي غير موجودة حقيقة، وآخرون باتوا يخافون النوم، وغيرهم توقفت الحياة لديهم عند لحظة بعينها، لحظة وقوع الزلزال، لحظة سماع خبر وفاة أحد من الأهل تحت الأنقاض، لحظة استعصاء إنقاذ أحد، لحظة فقدان أيّاً كان نوعها.
يقول الأكاديمي بعلم النفس أحمد سميح لـ “صالون سوريا” إنّ متلازمة ما بعد الزلزال هي متلازمة مشخصة أساساً من قبل باحثين يابانيين في عام 2011، وتنضوي على اضطراب ما بعد الصدمة مركباً مع القلق والخوف والتوتر.
وبين سميح أنّ المتلازمة تتمثل بدوار واهتزاز وتأرجح يشعر به الشخص لمدة تتراوح ما بين ثوانٍ عدة ودقيقة ونصف في عموم الحالات المسجلة، إضافة لشعور بالحاجة للتقيؤ أحياناً وآلام في المعدة وتشوش في الرؤية، والسيء بالأمر بحسب سميح هو قابلية استمرار الظاهرة حتى ستة أشهر ما بعد التعرض للصدمة الأولى (الزلزال).
ويتابع المختص بعلم النفس أنّ المتلازمة تلك قابلة للعلاج عبر زيارة الطبيب النفسي الذي يكون مؤهلاً لوصف أدوية تخفف من وطأة المشكلة وتنظر في موضوع الاكتئاب والقلق والخوف المرافقين.
ويحذر سميح أنّه في بعض الحالات الشديدة التي لا يجري علاجها ومتابعتها أو لا تزول أعراضها من تلقاء نفسها فمن الممكن أن تتطور المشكلة للدخول في أطوار اكتئابيه ومشاكل نفسية أخرى تتطلب علاجاً أكثر تركيزاً: “الكثير من الحالات التي تصلنا ونتعامل معها، بعضها بسيط، والبعض الآخر لا ينذر بالخير ما لم يتم التعامل الطبي معه بشكل سريع، فثمة أناس يرزحون تحت تأثير الصدمة التي من الممكن أن تغير شكل كل حياتهم القادمة.”
الأمراض العضوية
لا يمكن القول إنّ عدد الضحايا هو نهائي رغم مرور قرابة شهر على الزلزال، فبحسب الرأي الطبي لا زال عدد الوفيات قابلاً للارتفاع ولو كان بنسبة بسيطة، الطبيب مهدي أحمد شرح لـ “صالون سوريا” الموضوع مبيناً أنّ الوفيات الأولى حصلت خلال الزلزال مباشرة، أما الموجة الثانية فكانت من خلال تسجيل وفيات بين المصابين الذين نجوا وأودعوا المستشفيات، أما الاحتمال القائم مستقبلياً فهو تسجيل وفيات بعد أشهر من الآن، والتي قد تكون ناتجة عن التهابات كامنة وفشل في أداء بعض وظائف الجسم.
وبين الطبيب أحمد أنّ الأثر الذي تمكن ملاحظته خلال الفترة القادمة قد يكون ناجماً عن التلوث الذي خلفه الزلزال الذي دمر جزءاً من منظومة الصرف الصحي ما سيشكل بيئة ملائمة لانتشار الأمراض المعدية وعلى رأسها تلك المعوية والتنفسية، وكذلك الكوليرا والملاريا وغيرهم من الأمراض المنقولة عبر القوارض أو الحشرات.
هل ظلّ ما يقال
ما بين أثر نفسي وآخر عضوي، يدفع السوريون ثمناً باهظاً، ولكن هذه المرة ثمن جاءهم من الطبيعة التي ما ظنوا يوماً أنّها ستخذلهم وهم المنتشون بابتعاد الحرب عن مراكز مدنهم وأرواحهم وأرزاقهم، ليأتيهم غضب من الطبيعة يحيل معه القهر لتسميات أخرى، تسميات أبعد وأشمل، كمثل الحلم بميتة طبيعية في بلد ما من شيء طبيعي فيه.
كان المنكوبون عشية الزلزال يفكرون كيف سيتدبرون غدهم بما يكفيهم خبز يومهم، الآن صاروا يفكرون كيف سيتدبرون غدهم وهم مرميون في مراكز الإيواء في أدنى شروط الخصوصية التي عرفوها يوماً، مرميون منتظرون تلك الجمعيات التي تأتيهم بالـ “ساندويش”، ثم يسأل سوريٌّ: “هل ظلّ ما يقال!”
ربما هو معتاد بالنسبة لبلد تتكرر فيه هذه الظاهرة، لكن هنا في سوريا كل ما يحدث هو إشارة لسوء الطالع. حرب، فيروس كورونا ومن ثم “حصار اقتصادي” ليتبعها أخيراً زلزال خيّب كل توقعاتنا بأنه عابر. فجيعتنا مضاعفة! وكأن السوري خُلق محظوراً عليه التنفس، مسرفاً في الفقد والعوز للأمان والطمأنينة؛ قلوبنا أضحت مأوىً للتشرد.
تمر الحياة مثل شريط سريع في لحظات الأزمة؛ وهذا ما حدث لي فجر الاثنين، فأثناء نومي شعرت وكأن قوة جبّارة تشدّني عن السرير وهدير مرعب خمّنت أنه بسبب العاصفة في الخارج، لكن ما علاقة ذلك باهتزاز الأرض من تحتنا؟ قفزت من سريري وأنا نصف نائمة متوجهة إلى غرفة العائلة لأجد أمي مذعورة تبتهل وأبي يهدّئ من روعنا. “إنها هزة أرضية!”.
في ذلك الصباح لم يعد بمقدورنا النوم؛ فكنّا رابضين في أسرّتنا مذعورين من هذا الحدث الجلل، ننتظر هول ما هو قادم، خاصة وأنّ الحادثة تزامنت مع عطل في كهرباء البلدة لتأتي الصدمة بانهيار بيوت وسقوط آلاف الضحايا وتشرّد السوريين من جديد وكأنّ كل ما مرّ بهم لم يكفِ.
يستحضرني أمام آلامنا المتكررة ما قاله أيوب بعد أن حلت به المصائب متعاقبة: “عرياناً خرجت من بطن أمي.. وعرياناً أعود إلى هناك”.
الحضن الدافئ
الاثنين، 6\2\2023، الرابعة صباحاً، استيقظ السوريون على زلزال لتتواصل الفواجع على سوريا. جرح مؤلم جديد. دمار في كثير من الأماكن، ذروته في حماه، حلب، اللاذقية وإدلب.
ولكن بالمقابل، كانت هناك عشرات القرى المجاورة انتفضت لإغاثة الأهالي واستضافت المحتاجين. ومن بين تلك القرى بلدتي كفربهم التابعة لمحافظة حماه، حيث أعيش، كنت أرى صور التآخي في أبرز تجلياتها عبر التعاون لإغاثة الملهوفين دون تفرقة.
فتحت البلدة ذراعيها كأمّ حنون منذ اليوم الأول بعد الزلزال؛ فبادر الأهالي بإرسال الحافلات الكبيرة من المحافظة لإحضار العوائل المنكوبة، حيث تكفلت الجمعيات الخيرية في البلدة بتزويد تلك الحافلات بالوقود ودفع أجرها. وبمجرد وصولهم اندفع الأهالي للمساعدة بفتح بيوتهم مستقبلين حوالي 162 عائلة؛ أي حوالي 550 فرداً، رافضين وبشدة أن يكون هناك مراكز إيواء في البلدة معتبرين ذلك عاراً بالنسبة لهم. تقول “فضة جوهر (67 سنة): “الصدر لهم والعتبة لنا، إن لم تسعهم عيوننا نضعهم في قلوبنا”. معظم المتضررين كانوا من حلب وما تبقى من اللاذقية وعوائل قليلة من إدلب.
وحسب ما رأيت هبّ شباب البلدة فأمّنوا الاحتياجات التي كانت مطلوبة من “بطانيات، اسفنجات، حليب أطفال، فوط للأطفال، وملابس” كما قام أهل البلدة بتجهيز الطعام للعائلات، إضافة لمدرسين وأطباء وصيادلة من البلدة قاموا بتقديم خدماتهم مجاناً.
أيقونة للعطاء
فاجأتني كمية المحبّة والتعاطف الاجتماعي في لهجة من حدّثتهم بهذا الخصوص. شعرت أن الجميع يحب ويساند الجميع، وكتف السوري ما كان يوماً إلا عكازاً لأخيه السوري المنكوب.
الدكتور “نزار نصار”، أخصائي أشعة، أبدى استعداده للتعاون في مساعدة المحتاجين من العائلات، حيث أعلن أنه على استعداد لإجراء الفحوصات الشعاعية للمتضررين من الزلزال مجاناً في عيادته، وأنه مستعد للتبرع بأجور المشفى التي نُقل إليها أحد المتضررين الذي عاين ساقه.
“رعد الديبان” من سكان بلدة كفربهم قال: “عرضت استضافة عائلة في بيت ثانٍ لي ولم يعجبهم لمشكلة فيه لم أستطع حلها، فعرضت أن يقيموا في منزلي ومرحِّباً بهم إلى أي وقت”.
ورغم أعمال الترميم التي كان يقوم بها، لم يتوانَ السيد “وجيه غانم” مالك منتجع كفربهم السياحي، عن تقديم العون والمساهمة إلى جانب أهل البلدة، حيث أخبرنا أنه أوقف جميع نشاطات المنتجع وأعمال بناء كان يقوم بها في منتجعه لاستقبال العائلات المتضررة، وقد قدم لهم الطعام والرعاية.
كان “واسكين قبانجيان” أحد المتضررين من حلب، وقد أخبرنا في حديثه عن شعوره بالأمان بين أهل البلدة كأنهم أهله، وعلى وجه الخصوص تلك الرعاية الكريمة التي قاموا بها لوالده السبعيني المريض حيث عرضوه على طبيب وقدّموا له العلاج المناسب.
الحياة مِنحة
أثناء حديثي مع “الأب فيلبس” وهو راعي كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، داهمتني الكثير من الأسئلة تجاه ما حدث في البلدة بهذا الخصوص فأخبرنا قائلاً: “صباح الاثنين أتتنا توجيهات من مطرانية حماه لنفتح الكنائس للمتضررين، وبما أنه ليس لدينا مراكز إيواء في البلدة فتحنا بيوتنا للعائلات بكل محبة وقدّم الناس كل ما يستطيعون لهم”.
وأضاف: في اليوم التالي قدِمت الجهات المعنية والهلال والصليب الأحمر إلى البلدة ليجدوا كل شيء على أكمل وجه. وقد كان التعاون بيننا وبينهم على قدم وساق، وبادر الكثير من الأشخاص القادرين مادياً والمغتربين إلى التبرع بمبالغ كبيرة للجمعيات الخيرية في البلدة، كما قدّمت صيدليتا أليسار وكفربو الأدوية مجاناً، وقد كان لشبابنا وقفة عظيمة ومختلفة، فبذلوا ما بوسعهم لإبعاد شبح الرعب عن قلوب الناس والمتضررين.
-هنا في كفربهم كل من يدخلها يغدو ابناً لها لا ضيفها-وشرح الأب فيلبس كيف أن العديد من العائلات عاد إلى حلب بعد هدوء العاصفة تاركين قدماً لهم في البلدة خوفاً من تكرار الحدث: “فالزلزال لم يستكن تماماً و الهزات الارتدادية قائمة. وهناك عائلات فضلت البقاء في البلدة بسبب دمار منازلهم، وسنكون سنداً حقيقياً لهم إلى أن تنتهي هذه الأزمة؛ أزمتنا جميعاً”.
مجدداً
فجر الثلاثاء 21\2\2023 ضرب زلزال ثانٍ لثوانٍ معدودة أتى كصدمة سمجة فما كان منّا إلا الاستهجان فقط، إذ بات الخطر حالة اعتيادية في حياة السوريين، فدائماً هناك الأمل الذي يهبط فجأة، لكن ليس الأمل الساذج وإنما إرادة الحياة التي تخلق نفسها بعد كل أزمة أو كارثة طبيعية.
إن الكوارث التي تعصف بالإنسان والبشرية جمعاء وتهدد الوجود الإنساني تجعلنا نخرج من دائرة الأنانية الضيّقة، لتصبح الحياة بكامل تفاصيلها اليومية، حياة تشاركية مبنية على المحبة والمساندة. إن سوريا اجتازت كل الآلام، حسب ما أشعر في كل مرة يدميها الدمار تنهض كطائر الفينيق، وشعبها غدا متصالحاً مع الموت الذي يقرع أبوابنا في كل حين.
يوم ٦ شباط من سنة ٢٠٢٣ زلزال كهرمان مرعش، لن ينسى أحد هذا التاريخ من سكان منطقة شرق المتوسط لعشرات الأجيال القادمة، سيروى مع حكايات أدب (الديستوبيا). إن ما فعلته مجموعة الزلازل التي حدثت ولاتزال تحدث في سوريا وتركيا هي شاهد أولاً على غضب الطبيعة الأم، وثانياً على تعرية الواقع الرهيب الذي أحدثته سنوات الحرب الطويلة في هذه المنطقة، والآثار الكارثية التي خلفها صراع مصالح القوى على الأرض، والإهمال الكبير للناس واحتياجاتهم الضرورية وأبسطها الحصول على سكن متين ولائق وآمن، إذ إن معظم الأبنية التي انهارت في معظم المناطق التي ضربها الزلزال المدمر وخاصةً التي كانت بعيدة عن مركز الزلزال كانت تفتقد إلى المعاييرالإنشائية السليمة ومواد البناء الجيدة، وقد أدلى خبير الزلازل الياباني يوشينوري موكوفوري بتصريح صادم لا يمكن أن ينسى في اليوم الأول لوقوع الزلزال إذ يقول: “وقت وقوع الكارثة يمكن للناس أن يشعروا بالندم ولكن من المستحيل أن تعفو الأبنية عن الأخطاء البشرية التي تحدث في عملية إعمارها، وبالتالي تتحول فوراً إلى قبور لنا.” فيما يلي محاولة لرسم صورة حول ماحدث في الأيام الأولى، وقد استعنت بشهادات حية لأشخاص متضررين وناشطين ومتطوعين على الأرض من مختلف المناطق التي ضربها الزلزال المدمر: تركيا أنطاكيا يقول أحد الناشطين القادمين لتقييم الوضع على الأرض إن الوضع في انطاكيا رهيب. جزء كبير من المدينة سوي بالأرض وهناك بنايات غاصت تحت الأرض تماماً، أنطاكيا المدينة الأكثر تضرراً وأيضاً نور داغ و مرعش. ويضيف: ما رأيناه في بلدة نارلجا يشيب شعر الرأس منه، من بقي على قيد الحياة سافر إلى أقاربه في أورفا أو مرسين أو غيرها من المدن، أوانتقل إلى الخيم ومراكز الإيواء التي استقبلت المتضررين لأن الأبنية التي لم تسقط أصبحت متصدعة وغير قابلة للسكن عدا عن حالة الهلع بين السكان بسبب الهزات الأرضية المتكررة، ويقول للأسف كان هناك تمييز في المعاملة بين المتضررين وكان الاهتمام موجهاً بالدرجة الأولى للأتراك على حساب السوريين، فقد فتحت المطارات وقدمت تذاكر طيران مجانية للمواطنين الأتراك لإجلائهم على وجه السرعة، وهذا لم يحدث مع السوريين.
اسكندرون وتقول السيدة روعة وهي من سكان اسكندرون “أكثر الولايات التركية تضررا هي أنطاكيا حيث تدمر 80% من المدينة ثم اسكندرون ثم كرخان وأُعلِنت إحدى عشرة ولاية تركية منكوبة جراء الزلازل المتلاحقة”، وتقول: “قامت السلطات التركية بترحيل سكان اسكندرون السوريين الذين فقدوا منازلهم إلى مرسين حيث تفاجأ الناس هناك أنهم سيقيمون في ملاعب رياضية دون تدفئة أو شروط إقامة مناسبة للعائلات، فعاد عدد كبير منهم إلى اسكندرون وانطاكيا ليقيموا في الخيم ومراكز الإيواء”.وعندما سألناها عن أصعب الحالات التي رأتها قالت:”عائلة جيراني، بقيت تحت الأنقاض لفترة، ثم عندما انقذوا أُخِذَ كلُ فردٍ منها إلى مستشفى مدينة، العائلة مشتتة في مشافي ثلاث مدن تركية الآن” و”هناك طفلة صديقة ابنتي بالصف توفي أهلها الأب والأم وأحد أخوتها وبقيت هي وأخ وأخت على قيد الحياة فقط، وأصبحت الآن هي مسؤولة عنهما”. في مدينة أديامان التي تقع جنوب شرق تركيا وهي ذات أغلبية كردية يقول أحد الناجين من الزلزال المدمر: “بقيت أنا وعائلتي 44 ساعة في العراء وفي ظروف جوية سيئة للغاية حتى تمكنا من مغادرة المدينة بعد أن انهار البناء الذي نقطن فيه”. الشمال السوري كارثة إنسانية وواقع شديد التعقيد
إدلب وجسر الشغور تقول السيدة نسرين وهي مدرسة لغة عربية من جسر الشغورو تقيم حالياً في بلدة ييلداغي على الحدود السورية التركية: “في جسر الشغور تضررت الأبنية التي كانت متصدعة أصلاً بسبب الحرب وتضررت من القرى التابعة للجسر القنية، والملند، لكن الأضرار الكبيرة وقعت في بلدتي حارم، وسلقين، وتقول أن المساعدات لا تصل لهذه القرى بسبب المحسوبيات فمن ليس لديه واسطة في إدلب لا يصله شيء من مستحقاته”.
جنديرس وعفرين الأهالي يدفعون الفاتورة الأغلى للمرة الألف، بأرواحهم ومنازلهم وأرزاقهم ومستقبل أطفالهم، جميع القوى المتصارعة على الأرض مسؤولة عن تأخر وصول المساعدات إلى ضحايا الزلزال المدمر، كما حدث في جنديرس وعفرين حيث حُرِمَ الأهالي ومعظمهم من المكون الكردي من المساعدات بينما وزعت المساعدات على المقيمين الجدد (وهم أيضاً ضحايا الصراع القائم على الأرض منذ سنوات) الذين جاءت بهم قوى الأمر الواقع السياسية والعسكرية أثناء الحرب لتقوم بعمليات تغيير ديمغرافي في مناطق الشمال ذات الغالبية الكردية، حتى المنظمات الإنسانية في الشمال تذهب في نشاطها أحياناً باتجاه سياسي وتهتم بفئات بعينها، وسبق أن تداول ناشطون فيديو صوره متضررون من الزلزال من عفرين وجنديرس وقرى عفرين لجأوا إلى قرية الأمل يقولون فيه إن إدارة قرية الأمل من منظمة (أنصر) تمنع المنظمات الإغاثية من الوصول للأهالي فقد مُنِعت منظمة شفق الإنسانية من الوصول لهم وكانت تحمل مشروع مساعدة مالية مؤلفة من 150$ لكل عائلة متضررة، كما يقول أحد المتضررين و يقول أيضاً نحن ندفع ثمن الماء هنا، على الرغم من أن هناك منظمات توزع الماء الصالح للشرب لكن منعوهم من الدخول إلى مشروع القرية مسبقة الصنع، ومُنِع وصول مساعدات عدة منظمات أخرى، ويقول الطعام الذي يوزعونه هنا لايكفي كل المتضررين، وهم يقومون عن قصد بهذا التضييق ليجبرونا على الرحيل من هنا ليستقبلوا متضررين من فئات أخرى، والمنطقة هنا جبل بعيد لايمكننا أن نؤمن أغراضنا من الخارج، إن لم تأت به المنظمات لنا ، ثم وجه نداء للمسؤولين والإدارة التركية للطوارئ وللمجلس المحلي و لمنظمة آفاد أن ينجدوهم بأسرع وقت ممكن”. وتقول ناشطة: “حتى المنظمات التي فيها أكراد مُنِعَ موظفوها من خدمة أهلهم في جنديرس وأُمروا بأخذ المساعدات إلى مخيمات ومناطق أخرى، ليُترك أهل جنديرس وعفرين ليواجهوا قدرهم لوحدهم عزلاً من كل مساعدة ممكنة من الآخرين، هذا ماقالته الناشطة الكردية المقيمة في ألمانيا السيدة أمينة مستو التي تقوم بتوثيق الانتهاكات في المنطقة الشمالية، وهي من قرية “كفر صفرة” قضاء جنديرس، تبعد عنها حوالي 5كم وجميع سكان قريتها ينزلون بشكل يومي إلى جنديرس لشراء حاجياتهم الضرورية. تقول تهدم 85% من بلدة جنديرس التابعة لعفرين، انهار 140 بناء بشكل كامل، ويوجد أربعة أبنية متصدعة كما يوجد أبنية متصدعة أيضاً في عفرين وقراها، وعندما سألناها من الحاكم على الأرض في هذه المناطق قالت: “الفصائل الإسلامية التي تحكم المنطقة هي أحرار الشرقية، وأحرار الشام، وفصيل سليمان شاه (أبو عمشة) متحكم ببلدة شيا وفصائل تركمانية فصيل السلطان مراد متحكم بنواحي راجو والبلبل. وتتابع السيدة أمينة: في جنديرس هناك عدد كبير من الأشخاص الذين بقوا على قيد الحياة فضلوا أن يبنوا خياماً فوق ركام بيوتهم وحاولوا سحب ما يمكن من أغراض منازلهم من تحت الركام، لأن الفصائل منعت عنهم المساعدة، الأهالي في حالة يرثى لها فوق مصابهم، وتقول: حتى المناطق التي حدث فيها الزلزال في تركيا غالبيتها أكراد لذلك كانت استجابة النظام التركي للكارثة التي حدثت هناك مخجلة ففي هاتاي ومرعش توفي عدد كبير من الضحايا بسبب بطء الاستجابة للكارثة وتُرِك السوريون تحت الأنقاض لفترة طويلة، لم تفتح الحدود حتى اليوم الرابع للزلزال. وتتابع حول ما جرى في جنديرس: “عانى السكان من التمييز العنصري فقد تُرِكَ الأهالي تحت الأنقاض وسحبت معظم الآليات التي كانت تقوم بعملية بناء في جنديرس إلى مناطق أخرى لإنقاذ الآخرين في إعزاز وإدلب في (حارم وسرمدا)(وأيضاً كان هناك أضرار في بلدات سنارة والنقلة وكاخرية). وتعقب: في منطقتناهناك خوف دائم من بناء مستوطنات جديدة أعمق وأكبر، و خوف من طرد الأهالي خارج قراهم. عندما سألناها عن موقف الإدارة الذاتية من ذلك أجابت أن الإدارة لا تهتم أبدا بالأهالي داخل عفرين وجنديرس. حلب تقول السيدة غفران المقيمة في مدينة حلب قامت المبادرات الفردية في الأيام العشرة الأولى على نجدة الناس وذلك من خلال تقديم الحاجات الضرورية الاسعافية من سلات غذائية وأدوية وتقديم مساعدات مالية لتأمين سكن مستأجر للعائلات، وقمت أنا وزوجي بمساعدة وتأمين 65 عائلة متضررة، المناطق التي تضررت في حلب (الفردوس، وصلاح الدين، والأعظمية، والعزيزية ) بعض البنايات التي انهارت كانت قد تصدعت منذ وقت الحرب ووصل عدد الوفيات في حلب لأكثر من 500 حالة وفاة ويوجد عدد كبير من المصابين. تقول السيدة ديمة وهي من العائلات التي نزحت من حلب بعد الزلزال باتجاه دمشق: “كنت أسكن في الأعظمية في حلب بعد أن نزحت من إدلب بسبب الحرب وهذه المرة أنزح للمرة الثانية بسبب الزلزال أنا وأمي وأخواتي وطفلة عمرها أربعة شهور من حلب لبيت أقاربي في حي “جبل الرز”في الشام. وتقول السيدة أم منى “نزحت بعد الزلزال من بستان القصر في حلب إلى بلدة “صحنايا” في دمشق، بعد أن تصدع منزلنا وكُسِرت يد زوجي من جراء الزلزال، أتيت أنا وزوجي وابنتي ونزلنا عند أقاربنا هنا”وكان قد نزح عدد كبير من العائلات من مدينة حلب باتجاه حماه و اللاذقية ودمشق بعد الزلزال.
حماه والسقيلبية والغاب يقول السيد باسل انهارت 10 أبنية في حي الأربعين وقسم من حي الفيحاء، وهذه الأبنية كانت متصدعة بالأصل بسبب خلل في الأساسات وتسرب في المياه، الوفيات حدثت في اليوم الأول للزلزال فقط بسبب انهيار هذه المباني. في السقيلبية كما يقول السيد منذر حنا الناس يعيشون حالة خوف وهلع حتى الآن حتى أنهم نصبوا بيوت شعر وخياماً في الخارج. وقالت لنا زوجته: “الناس لا تنام في الليل من الخوف” انهارت بعض البيوت في الحارة القديمة، لكن دون خسائر بشرية في قرى الغاب. في الشريعة انهارت البيوت التي بدون أعمدة في قرية عين الكروم انهارت بنايتان حديثتان وهناك حالتا وفاة و 16 إصابة وهناك أضرار في قرية الحوايق، وفُتحت مراكز إيواء في السقيلبية لمساعدة المتضررين وقامت الجمعيات الأهلية والأهالي بمساعدة كل شخص متضرر من الزلزال.
في اللاذقية وجبلة أكبر فاجعة صدمت أهل جبلة واللاذقية سقوط “بناء الأطباء” وسط مدينة جبلة حيث لقي مجموعة من نخبة أطباء المدينة حتفهم مع عائلاتهم، جراء الزلزال بسبب سوء البناء مع العلم بأن جميع الأبنية التي تحيط ببناء الأطباء لم تسقط، ووصل عدد ضحايا الزلزال من الأطباء والصيادلة فقط في مدينة اللاذقية وما حولها إلى 31 طبيباً وطبيبة. يقول عبدالله كنت أسكن في الرمل الجنوبي (الرمل الفلسطيني) لكن بيتي تصدع من جراء الزلزال خرجت أنا وزوجتي وأطفالي لنقيم عند والدة زوجتي مؤقتاً حتى نتمكن من استئجار منزل صغير خاص بنا. تقول بسمة وهي معلمة سابقة ومتطوعة في مدينة اللاذقية تنشط في تقديم المساعدات منذ الأيام الأولى من حدوث الزلزال، أنا أسكن في المساكن الجديدة في القنجرة الحمد الله لم يتأذ البناء الذي أسكن فيه ، وعندما سألناها أي الحالات التي قامت بمساعدتها وتأثرت بها أجابت: “أكثر الحالات التي أثرت بي هي عائلة في (روضو) مكونة من أب وأم و6 أطفال أخبروني أنهم كانوا يحتفلون قبل وقوع الزلزال بمرور أسبوع على تسديد آخر قسط لبيتهم وأنهم انهاروا من الحزن عندما تصدع البيت وسقط أمام أعينهم وهم في الأصل أتوا نازحين من حلب إلى اللاذقية أثناء الحرب، و حاولوا أن يشتروا هذا البيت في قرية روضو بالتقسيط وهم أناس بسطاء للغاية، وليس لديهم تلفون للتواصل” . يقول السيد محمد من مدينة جبلة “خرجت أنا و زوجتي وأطفالي السبعة من بيتنا المكون من طابقين والذي تصدع من جراء الزلزال في أول العسّالية في جبلة التي تهدم فيها مايقارب ال 14 بناء سوي بالأرض والتجأت إلى بيت أهلي في حميميم الذي التجأ له أيضاً أخي وعائلته، ولكن منزل أهلي أيضاً مهدد بالانهيار بسبب بعض الشقوق التي حدثت به بسبب الزلزال، لا ندري أين سنذهب إذا تصدع بيت أهلي أيضاً”. وعندما سألناه عن إمكانية استئجار بيت في جبلة أخبرني “أن عدداً كبيراً من الناس في مدينة جبلة تركتها وذهبت إلى القرى لأنهم يخافون من هزات قادمة وخاصة الأطفال الذين اختبروا هذا الرعب”. وعن المساعدات المقدمة قال: “أن الهلال الأحمر السوري يقدم بعض المساعدة المنظمة لكن بشكل عام هناك فوضى وعدم تنظيم بموضوع المساعدات و عدالة توزيعها”. ويقول أخ أحد الضحايا الذين قضوا في العسّالية: “لم يتمكن أخي الشاب وزوجته من النجاة بعد أن أنهارت البناية التي يسكنون بها. اتصلت بأخوتي وقدموا إلى مكان الردم وحاولوا الحفر بأيديهم لإخراجهم من تحت الأنقاض لساعتين دون جدوى لأنه لم توجد آليات هناك للحفر وللإنقاذ، فقدناهما” في جبلة تضررت مناطق الرميلة ، العسّالية، الفيض، الجندرية، العمرونية ، قبو العوام. في القرداحة تضررت مناطق الهنادي، وسطامو، فديو. تواصلنا مع بلدية قمين وقال لنا أحد موظفي البلدية إن “البلدية مسؤولة عن 7 قرى منها ثلاث قرى متضررة وهي اسطامو، ومرخو، والنبي ريح، وحرث الهوى عدد الوفيات وصل إلى 54 شخصاً في اسطامو، وانتشل من تحت الأنقاض 21 شخصاً أحياء وتضرر 100بيت ،وهناك 14 كتلة بناء متضررة” وفي قرى بستان الباشا وصل عدد الوفيات إلى 49 شخصاً.
تقول السيدة هيام سلمان وهي فنانة تشكيلية أسست مع زوجها النحات ماهر علاء الدين جمعية “أرسم حلمي” في 2010 في مدينة اللاذقية، وهي جمعية ثقافية فنية تشكيلية تعنى باكتشاف مواهب الأطفال: “بدأت بالعمل الإغاثي من ثاني يوم لحدوث الزلزال. تواصل معي أصدقاء من كل سوريا ومن الخارج كانوا يسألون عن كل ما يحدث هنا، اضطررت أنا وزوجي للنزول إلى الميدان، وكان مؤلماً جداً ما رأيناه، وماتعرضت له الأسر من جراء الزلزال، بيوت مدمرة بالكامل تحولت إلى ركام، وبيوت أخرى متصدعة متخلخلة، المأساة الأكبر كانت جموع الناس التي تشردت وفقدت بيوتها البيت الذي يعني الحماية والسكينة، حزَّ بنفسي الأطفال الذين تشردوا وفقدوا أهلهم والصبايا والشباب و الأشخاص الذين فقدوا كل شيء، نظمنا عملنا باتجاه العائلات التي استضافت عائلات منكوبة بينما اتّجه البعض للعناية بالمتضررين الذين التجأوا إلى مراكز الإيواء، نحن اتجهنا للعائلات التي استضافت عائلات أخرى منكوبة لمساعدتها في تحمل مسؤوليتها، وكان التواصل الكبير عن طريق الانترنت لتأمين الدعم للناس، قام المجتمع مدني بعمل جبار كأفراد وكمنظمات وكمؤسسات. الزلزال قرّب السوريين من بعضهم البعض، التواصل بين المجموعات على الأرض وبين المغتربين، والثقة المتبادلة في المجتمع الأهلي من أجل الدعم والمبادرات لتأمين أماكن سكن وجمع مبالغ لاستئجار بيوت للمتضررين، العمليات الجراحية التي تكفل بها أشخاص، الأطفال الذين أخرجوا من تحت الردم والدعوة لإقرار قانون للتبني وكفالة الأطفال اليتامى الذين فقدوا ذويهم، قدمنا المساعدة في اللاذقية ثم خرجنا إلى الريف لنرى كيف يمكننا أن نساعد المتضررين في القرى النائية في ريف اللاذقية وجبلة والتي لم تصلها مساعدات، والتي رغم فقرها الشديد تستضيف عائلات منكوبة. وعندما سألنا السيدة هيام كيف ترين مرحلة مابعد الحلول الأسعافية.أجابت: “للأسف لا أرى هناك شيئاً يبشر بالخير، هناك بطء بتقديم الخدمات للناس، والناس عندها حزن وعتب كبيرعندما نزورها تشتكي بألم. قالت لي إحدى العائلات في الريف لم يعزنا أحد أو يقدم لنا مساعدة حقيقية، ليس هناك عدالة في توزيع المساعدات، المبادرات الفردية جيدة جداً نتمنى أن تحدث إعادة إعمار سريعة وبناء بيوت للمتضررين لأن أماكن الإيواء يجب أن تكون حلاً مؤقتاً وليس دائماً ويجب أن ينتقل الناس إلى بيوت بأسرع وقت ممكن وتُقدم لهم تعويضات ليحدث استقرار. لايوجد تعويض عن الضحايا لكن تأمين المسكن مهم جدا. وعندما سألنا متطوعين ناشطين على الأرض حول أهم الصعوبات التي واجهتهم في الأيام الأولى للكارثة، أجابوا: “صعوبة إنقاذ الضحايا بسبب تأخر وصول الآليات إلى أماكن الردم بسبب عدم توفر المحروقات من بنزين ومازوت في البلاد، عدم وجود مختصين برفع الأنقاض، سوء الأحوال الجوية ليلة وقوع الزلزال، صعوبة إسعاف المصابين إلى المشافي، ثم واجهنا فيما بعد صعوبة في تأمين حليب الأطفال وأدوية مرضى السرطان وأمراض الكلى والأمراض المزمنة ذات التكاليف العالية جداً”، بعد الأيام الأولى من العمل التطوعي الاسعافي طلبت منا الجهات الرسمية الحصول على تراخيص للاستمرار في العمل التطوعي من تقديم مساعدات وغيرها، وجدنا صعوبة في ذلك لأن معظمنا يعمل بشكل تطوعي فردي وليس تحت غطاء جمعيات أو مؤسسات.
دور السوريين في الخارج في مساعدة أهلهم داخل الوطن أنشأت على وجه السرعة مجموعات دعم كبيرة من شبكات التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وواتس، وغيرها، لتنسيق عمليات المساعدة وتقديم الخدمات للمتضررين من الزلزال حيث قام عدد كبير من السوريين المقيمن في الخارج من مهاجرين ولاجئين بإرسال حوالات مالية بشكل مستمر لأهلهم وأصدقائهم في الداخل ليتمكنوا من تقديم المساعدة للمصابين ولعائلاتهم، وكان للنساء دور كبير في ذلك من جميع دول العالم قامت النساء بالمشاركة بالعمل الإغاثي. إحدى السيدات السوريات المقيمات في السويد كانت تهتم بأمور تنسيق وتوصيل المساعدات لأهالي مدينتها في سوريا بينما تنقل طفلتها المريضة باللوكيميا إلى المشفى، وهي (أي السيدة) تقاوم نوبات الشقيقة، بينما تفكر بأبناء بلدها المنكوب وتبكي بحرقة عجزها أمام مصابين كبيرين مصابها الشخصي ومصاب بلدها، أيضا سوريات مقيمات في فرنسا وإيطاليا والنمسا وبريطانيا وتركيا ومعظم دول العالم كن يعملن مع مجموعات الدعم على الأرض، يقمن بجمع التبرعات وإرسالها إلى المدن السورية المنكوبة، ويقمن بعمليات جمع المعلومات الإغاثية وأماكن توفر الدواء وحليب الأطفال ومساعدة المتطوعين على الأرض، وإرشاد المتضررين إلى مراكز الإيواء. بعض الملاحظات المشتركة بين جميع المناطق التي حدثت فيها الزلازل:
بطء الاستجابة الرسمية للكارثة الإنسانية إن كان في تركيا أو في مناطق نفوذ قوى وسلطات الأمر الواقع في الشمال السوري أو في مناطق سيطرة الدولة السورية، مقابل سرعة ونجدة المجتمع الأهلي لأهله المتضريين حيث قام الأهالي بمحاولات يائسة لنجدة عائلاتهم بحفرالأنقاض بأصابعهم وأيديهم لساعات وفي مناطق أخرى لأيام لإنقاذ الضحايا حدث هذا في أنطاكيا وجنديرس وحلب وجبلة، سمعنا القصص نفسها، لأن الآليات تأخرت لساعات في الوصول الى أماكن الكارثة.
أيضاً تأخر قرارات فتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية وفرق الطوارئ في الشمال.
البطء في تذليل الصعوبات للوصول للأماكن المنكوبة.
البطء بسبب الاعتبارات السياسية والقوى الحاكمة على الأرض وتحكم هذه القوى بمصائر الأهالي داخل مناطق نفوذها في الشمال.
وصول كميات كبيرة من المساعدات الدولية والأهلية، لكن كان هناك فارق كبير بين كمية المساعدات الواصلة وكمية المساعدات الموزعة على أرض الواقع وعدالة توزيعها على المتضررين في معظم المناطق، داخل سيطرة الدولة السورية وخارج سيطرتها، وهناك مناطق تم فيها الاستيلاء على المساعدات وتوزيعها لفئات تهم الفصيل المسلح الذي يحكم المنطقة.
قامت الكارثة الطبيعية بتعرية دور الفساد الهائل الذي انتشرعلى مستوى البلاد جميعها في العقد الأخير، وترهل مؤسسات الدولة وتخليها عن مسؤولياتها تجاه مواطنيها، إن كان في مناطق سيطرة الدولة الرسمية أو في المناطق التي أصبحت خارج سيطرتها وما اصطلح على تسميته سياسياً بالمناطق المحررة، والذي يقع تحت حكم قوى الأمر الواقع من فصائل عسكرية مسلحة تتبع سياسياً لقوى دولية وإقليمية مختلفة، يعاني الأهالي تحت حكمها الأمرين لولا بعض منظمات المجتمع المدني الإنسانية التي تقدم في بعض المناطق الشروط الدنيا للعيش.
معظم الأبنية التي انهارت في جميع المناطق غير مطابقة للمواصفات المعيارية للسكن، في جنديرس كل ما بني بعد عام 2011 انهار، وفي حلب الأبنية المتصدعة من جراء الحرب والمُنشأة بعد الحرب، وفي جبلة واللاذقية الأبنية التي انهارت كانت غير مطابقة للمواصفات بناها مقاولون تجاريون غير مهتمين بحياة الناس، حتى في الأبنية ذات الأسعارالمرتفعة جدا.
تواضع الحلول، فقد ذكرت وكالة سانا السورية الأخبارية الرسمية أن مصرف “الوطنية للتمويل الأصغر” أطلق قرض “ساند” المخصص لترميم وإعادة تأهيل المساكن المتضررة من الزلزال في محافظات حلب واللاذقية وحماة، دون فائدة وبقيمة تمويل تصل حتى 18مليون ليرة سورية، وعلى فترة سداد تمتد إلى ست سنوات، لكن معظم المتضررين لن يتمكنوا من الاستفادة منه بسبب شروطه المعقدة وثانياً لأن معظمهم لايمكنهم أن يقوموا بسداد الأقساط الشهرية بعد أن فقدوا كل ما يملكون وعدد كبير منهم يعيش على المساعدات المقدمة من الآخرين، أيضاً هذا المبلغ لا يمكن أن يفعل أي شيء حقيقي لمن فقد منزله بسبب انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي، الحل الحقيقي الذي يجب أن تقوم به الدولة هو بناء وحدات سكنية بشروط فنية صحيحة مُقاومة للزلازل للمتضررين، وكانت مؤسسة الهلال الأحمر الإماراتية قد أعلنت عن نيتها بناء 400 وحدة سكنية للمتضررين لكن غير معروف في أي مكان حتى الآن، وكانت قد أعلنت قطر عن نيتها إرسال غرف مسبقة الصنع كانت قد استخدمت في المونديال سابقاً لمتضرري الزلزال في الشمال.
في تركيا وعد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الأتراك بأنه خلال عام سيكون قد بنى وحدات سكنية تستوعب جميع المتضررين الأتراك من الزلزال، لكن هذا لن يشمل للأسف السوريين الموجودين في تركيا بشكل غير قانوني أو نظامي، ممن لا يملكون “الكملك” الرقم الوطني التركي.
حتى الآن لم يتلقَ المتضررون ( من غير المتواجدين ضمن مراكز الإيواء الرسمية) أي دعم نفسي لما بعد الصدمة، وخاصة الأطفال، في حين أُعلن عن خارطة خدمات الدعم النفسي الاجتماعي المجانية من قبل منظمة “مستقبل سوريا الزاهر” ويضم الملف عدداً من الجمعيات والفرق والمنصات الجاهزة لهذا الدعم لكن سيكون هناك عوائق كبيرة أمامها خاصة أن معظم هذه المنظمات ستقوم بعملها عن بعد، أي أنها بحاجة لخدمات وخطوط انترنت وهاتف سريعة لتتمكن من الوصول إلى المتضررين، وبالتالي سيكون هناك عدد كبير من المتضررين خارج شبكات الدعم هذه بسبب سوء خدمات الاتصالات في الكثير من المناطق المتضررة، في حين تقول السيدة ريتا أن الجمعية السورية للتنمية الاجتماعية في حلب تقدم الدعم النفسي بشكل مباشر للمتضررين المتواجدين في ستة مراكز للإيواء في حلب، منذ اليوم التالي لزلزال المدمر 7منذ شباط.
الزلزال جيولوجيا
سألنا الجيولوجي الأستاذ مضر سليمة بضعة أسئلة أولها لماذا وقع الزلزال وكيف؟ ثانيها ما التربة التي تأثرت بالزلزال بناءً على قراءتك الجيولوجية؟ ثالثها هل هناك إحصاء لعدد الأماكن المتضررة بالزلزال؟ رابعها كيف تتوقع أن يكون مستقبل المنطقة بالنسبة للزلازل، هل ستبقى مهددة؟ وكانت إجابته كالتالي: يقع الجزء الأكبر من سورية تكتونياً؛ شمال الصفيحة العربية، ويحد هذه الصفيحة من الشمال الغربي صفيحة الأناضول ومن الشرق والشمال الشرقي الصفيحة الآسيوية، في حين يحدها من الغرب الصفيحة الأفريقية التي يمثل الساحل السوري أطرافها الشمالية الشرقية. تتدافع الصفيحة العربية مع صفيحة الأناضول وفق فالق تنغرز أحداهما تحت الأخرى نتيجة حركة الصفيحة العربية نحو الشمال ويتفرع عن فالق التدافع فوالق انزلاق،هذه الحركة بطيئة وأحيانا متوقفة نتيجة المقاومة التي تبديها صفيحة الأناضول ولكن في اللحظة التي تتراكم فيها القوة وتصبح مقاومة صفيحة الأناضول أقل من قوة الدفع القادمة من الصفيحة العربية تحدث الهزات. وهذا بشكل عام ما حدث منذ أيام وماسبق أن حدث منذ أكثر من مئة عام، لكن التفاصيل في حدثنا الآني تحتاج الى دراسات ميدانية وسيزمية لتحدد بالضبط نوع الحركة ومدى تأثيرها وما قد ينجم عنها. لكن في الأيام الاولى: لا يستطع المختصون سوى تقدير ما حدث، من خلال قراءة البيانات المسجلة ومنها شدة الهزات ومدتها الزمنية وعدد الهزات ومناطق وقوعها وترتيب وقوعها، وهذا ما حاولت فعله شخصيا، الجميع شعر في اليوم الأول أن الهزات كانت كبيرة وطويلة وهذه صفات الهزات الناتجة عن التصادم أما لاحقاً فقد ظهرت هزات قصيرة وشديدة وهذه صفات الهزات الناجمة عن الانزلاق strike-slip وكان معظمها (أي الانزلاق) في الساحل السوري. لماذا تأثرت مناطق بعيدة عن الزلزال كجبلة أكثر من مناطق أخرى قريبة ككسب ورأس البسيط؟ هناك عوامل كثيرة يمكن ذكرها، ولكن ما يستحق الاهتمام (برأيي) هو نوع التربة أو الصخر الحامل فبالعودة إلى الخرائط الجيولوجية في المنطقة (حيث تثنى لي التحقق) نلاحظ الآتي:
منطقة دمسرخو وما حولها مناطق السهل الساحلي من اللاذقية إلى جبلة تقع فوق ترب لحقية.
الرمل الفلسطيني (تربة رملية). أما الأماكن التي لم تتضرر أو كان الضرر فيها محدوداً فكانت على سبيل المثال:
صلنفة وكسب، والتربة فيها كلس صخري.
برج اسلام ، كرسانا، القنجرة، سقوبين، عين البيضا، المشرفة والتربة في هذه المناطق كلس مارني.
وكنتيجة، وبغض النظر عن جودة البناء نجد أن أنواعاً من التربة، ساهمت في التقليل من أضرار الزلزال بعكس أتربة أخرى كان لها دور فاعل في انهيار كثير من المباني. الاحصاء هو مهمة تقوم بها المؤسسات المتخصصة وعلى هذه المؤسسات الأخذ بعين الاعتبار الدور الذي يلعبه الجيولوجيون في المساهمة بدراسات ناجحة. مستقبل المنطقة: وفق ما ذكرنا في بداية الحديث فإن الصفائح المكونة للقشرة الأرضية دائمة الحركة وهناك لحظة (قد تطول) ولكنها آتية آجلا أم عاجلاً تعجز فيها صفيحة ما عن مقاومة الأخرى. وسورية التي يقع جزءها الأكبر على الصفيحة العربية يقع بعضها على الصفيحة الأفريقية في حين يمثل شمال اللاذقية امتداداً لصفيحة الأناضول، أي أننا مزنرون بالفوالق المتحركة، وهي مناطق زلزالية نشطة دوماً.
رغم أنّ عدداً من المبدعين في سوريا، يمتهن أشياء أخرى لسدّ رمق عيشه إلى جانب شغفه الإبداعيّ في أحد أجناس الفنون، ورغم أنّ الظروف المعيشيّة تزداد سوءاً في الداخل السوريّ على الجميع، إلا أنّ الحدث العملاق الذي ضرب مناطقَ واسعةَ من شمال سورية؛ زلزل قلوب الملايين حول العالم، ودفع بعض الفنانين والكتّاب إلى محاولات في التبرّع بما لديهم من نتاج إبداعيّ، ربّما كانوا يحاولون مساعدة المتضررين من زلزال 6 شباط / فبراير 2023 على طريقتهم وبقدر إمكانيتهم.
ثمّة من لا يزال يمتلك إحساساً بالتعاطف والتضامن مع أبناء جلدته إذاً، يرغب في تقديم ما يستطيع من أجل إنقاذ ومساندة بعض الأسر المنكوبة من آثار ذاك الزلزال، لقد باع معظمهم ما لديهم من نتاج إبداعيّ بشكل عشوائي ومعلن عبر منصات التواصل الافتراضيّ، ليشارك الآخرين آلامهم. وبالمقابل هناك من وجد أن مثل هكذا ظواهر كانت “فرصة للشهرة” حسب تعليق أحد الشعراء السوريين المقيمين في أوروبا، بمنشور منذ أيام.
ترى ما الذي دفع بعض الشعراء لبيع مجموعاتهم الشعرية من أجل المساهمة في إغاثة المحتاجين بسبب الزلزال، وكيف من الممكن أن تترك هذه الخطوة أثراً لدى الآخرين في ظواهر المساعدة؟
الشّعر أضعف الإيمان
يقول الشّاعر والصحفيّ زيد قطريب في حديثه لموقع صالون سوريا: “لا أملك عقاراتٍ أو أرصدةً في البنوك.. ليس لديّ صمديّات أو تُحف. اسمي بريء الذمّة تماماً في سجلات وزارة الماليّة والاقتصاد. حتى بمعدلات الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسف، يمكن أن يضعوني في قاع الفقر”.
ويضيف: “لدي مسودّات كثيرة تنتظر فرج الله كي تذهب للمطبعة، وباعتبار أن الانفراجات تأخرت على السوريين بشكل كبير، لم يكن بالإمكان أن أواجه تلك الساديّة التي يتعرض لها الشعب السوري، إلّا عبر بيع الكلمات التي أملكها. وقد نشرتُ إعلاناً عن بيع مجموعة شعريّة، وبصدد الإعلان عن بيع كتاب نصوص ساخرة، فما نفع الكتابة إذا لم نتمكن من انتشال بعضنا من قاع الموت؟”.
وفي هذا الصدد لا يعتبر قطريب أن الكتابة رفاهية. فهو شخصيّاً ليس لديه طموح بصناعة الانعطافات في الكتابة العربيّة، مؤكداّ: “لا مانع لديّ أن تحفظ كلماتي التي أبيعها، كرامة أهلي وأبناء جلدتي الذين يتعرّضون اليوم لأقسى اضطهاد في التاريخ، حتى من الطبيعة التي لم يسلموا منها! إننا نبيع أعزّ ما لدينا، هكذا وبكل بساطة، وليحسبها الآخرون مثلما يشاؤون، فما يهمّني أنّني تمكنت من التبرع بمبلغ 500 دولار إلى المنكوبين ولم أقف عاجزاً مكتوف اليدين”.
وعن طريقة الترويج لمثل هكذا مبادرات يتساءل زيد: “لماذا يحق للمنظّمات الدوليّة والأهليّة وللدول العالميّة، أن تصوّر طائراتها وهي تحمل أكياس الرز والبطانيات للشعب السوريّ، ولا يحق للفنانين التشكيليين والكتّاب أن يعلنوا عن بيع لوحاتهم ونصوصهم من أجل توفير هذا الدعم؟”
ويضيف: كلّ من تبرّعوا لهم تجارب مكتملة ولا يحتاجون أخباراً عابرة على السوشيال ميديا، فليذهب الفيس بوك إلى الجحيم، ومعه التيك توك واليوتيوب وما لمّ لمهم. المهمّ أنّنا نفعل أضعف الإيمان، وهو أقلّ ما يفرضه ما نسمّيه الانتماء لشعب تخلّى عنه الجميع.
ويستغرب زيد ممّن ينشغلون بأسلوب التبرع ولا ينشغلون بالتبرع نفسه (!) مشيراً إلى أن المشكّكين في هذه الخطوات، غالباً “هم عالم “كحتة” لم يقدّموا شيئاً سوى الكلام الفارغ من وراء البحار، وبالتالي لم يشعروا بكلّ ما يجري في سوريا التي تُذبح وحيدة دون أن يوقف السكين أحد” بحسب وصفه.
ويختم زيد قطريب حديثه بالقول: “العملية لا تحتاج إلى ندوات لتنظيم أساليب التبرّع، بل إلى حملات للتشجيع على التبرّع. ليتبرّع كلّ النّاس بأعز ما يملكون، وليحصدوا الشّهرة، فما المشكلة في ذلك إن حصدوها فعلاً. نمارس الكتابة، ونحن مقتنعون أنّنا منظمات إغاثة فعلاً. منظمات يمكن أن تهدي الأمل وتضيء الطريق عبر النصوص العزلاء التي تقاوم المخرز، ومنظمات إغاثة يمكن أن تساهم في تأمين بعض من العيش الكريم للأهل إذا ما اضطر الأمر. لذلك، كونوا للحق والوطن والمشاعر الإنسانية.. أيها السادة المبجلون!”.
في حضرة الركام
يقول الشّاعر السوريّ آرام في حديثه لموقع صالون سوريا: “لا بدّ أن نتذكر ما كتبه جبران خليل جبران في عبارته الشّهيرة (لا تغني للجائع فإنه سيسمعك بمعدته) ومع ذلك بقي وسيبقى الغناء مستمراً، وكم منّا غنّى ليؤانس وحدته أو عزلته أو ليبدّد خوفه، لكن بالتأكيد؛ خوفاً عن خوفٍ يختلف”.
ويضيف آرام: “ماذا تفعل القصيدة في زمن الكوارث الطبيعيّة؟ أو ماذا يمكن أن يقدّم أيّ عمل فنيّ لمنكوبين فقدوا بيوتهم، أو فقدوا عائلاتهم وأقاربهم، وفقدوا الأمان بكلّ معنى الكلمة، وأصبحوا مشرّدين بين الركام؟”.
بادئ ذي بدء، القصيدة ليست مهمتها إنقاذ الكوكب، أو إيقاف زلزال، ولا يمكن للشّعر أن يتولى أيّة عمليّة إنقاذيّة بالمعنى العاجل الإسعافيّ، الحرفيّ للكلمة، أي لحظة الدّم أو الانهيار أو سقوط سقف بيت وتهدّم جدرانه، لكنّه يبقى نوع من الصّلاة، التي تقويّ، ونوع من الملاذ لكلّ مشرد قلب أو روح أو عاطفة، ونوع من العمل الفكريّ الخلّاق الذي يمزج بين عناصر جماليّة ومعرفيّة مختلفة، على حدّ تعبيره.
ويعتبر آرام أنّ “عموم الفنّ لا يمكن أن يقوم بأيِّ عمل ميدانيّ، وإنّه سيحظى بتقدير أقلّ، وأنّ مبادرات بعض الفنّانين والشّعراء تمثّل نوعاً من التّحريض الإنسانيّ لأشخاص، ربّما يكون امتلاك عمل فنيّ بالنسبة لهم، أهمّ من إرسال مبلغ من المال لضحايا الزّلزال أو فرصة للحصول على مقتنى فنيّ بأقلّ من ثمنه الحقيقيّ بكثير، أو نوع من إشاعة ثقافة العمل الإنسانيّ.. وبالعموم مثل هذه الأعمال الإنسانيّة، الفنيّة الإنسانيّة، لا تنجح في البلد المنكوب نفسه، فلا بدّ أن تحدث في مجتمعات مستقرّة”.
ويؤكد آرام: لا يمكن محاسبة نوايا أيّ فنّان أو أيّ شاعر، لبيع بعض من لوحاته أو دواوينه، في محاولة لتقديم أيّ نوع من المساعدة للمدن المنكوبة. في النهاية كلٌّ يساعد بحسب إمكانياته وقدرته؛ ففي محاولة وصف البعض ممّن حاول أن يضع قصيدته أو عمله الفني في خدمة ضحايا الزّلزال، بأنّه نوع من البحث عن الشّهرة، نوع من التجنّي! فما المشكلة أن يضع فنّان تشكيليّ ريع لوحاته الفنيّة لمساعدة المتضرّرين من الزّلزال؟ على حد قوله.
ويختم آرام: “ربّما في الشّعر يبدو الأمر مستهجناً أو غريباً بعض الشيء، فلم تدرج العادة أن يبيع شاعر دواوين شعره، لإرسال ريعها لمنكوبين لاحول لهم ولا قوة، ومع ذلك حصلت، رغم أنّي شخصياً أفضّل الذهاب بنفسي لإغاثة من هم تحت الأنقاض أو مساعدة الأطفال وكبار السنّ، عوضاً عن أن أبيع كتبي الشعريّة، لكن لكلّ منّا وجهة نظره وزاوية رؤيته، وبصورة عامّة لا يجب السّخرية من أيّ شخص لديه النّية الطيّبة لتقديم العون الإنسانيّ، بأيّة طريقة كانت. كما أن الكثير من الشّعراء -وأنا منهم- يعتبرون بأنّ الشّعر في كثير منه هو احتفاء لغويّ وجماليّ بالخسارة، وإن كان في كثير منه أيضاً هو احتفاء بالمعنى. لكن بالرغم من كلّ شيء، إنّه لجميل أن نجد أحداً يفكّر بالمساعدة والعمل الإنسانيّ سواء أكان فنّاناً أو شاعراً أو غير ذلك، لكن العمل الإنسانيّ بحدّ ذاته لن يصنع شاعراً عظيماً، فعظمة القصيدة في القصيدة نفسها، وعظمة اللوحة -كذلك- في اللوحة نفسها”.
لوحاتٌ لمساعدة المنكوبين
كانت الأعمال التشكيليّة هي أيضاً في موضع البيع من أجل مساعدة المتضرّرين من الزلزال، ومن بين الفنانين الذين ساهموا في بيع لوحاتهم ليقدّموا ثمنها كمساعدات، الفنّانة والمهندسة ريما الزعبي، التي أكّدت في حديثها لـموقع صالون سوريا: “أنّ المبادرة كانت دون تفكير مسبق أو قرار أو تردّد، لقد ساهمتُ بما عندي وهو أعمالي الفنيّة، هي كلّ ما أملك، كانت سرعة الخاطرة هي ما انتابني بسبب رؤيتي للحاجة الملّحة من أجل المساعدة. بدأت أعرض أعمالي عبر فيسبوك، دون انتظار تنسيق مع أي أحد، أنا لا أنتمي لأيّة جهة، لا اتحاد الفنانين ولا النقابات. كنتُ مغتربة طيلة عمري، وعدتُ إلى سوريا منذ ثلاث سنوات بقصد العيش هنا والاستقرار. لقد أقمت أكثر من خمسة عشر معرضاً فرديّاً حول العالم ولديّ معارف كثر في الخارج؛ بسببهم كان التجاوب رائعاً من أجل بيع اللوحات للمساهمة في مساعدة متضرّري الزّلزال”.
وتضيف: “بعد أن بدأت مبادرة بيع اللوحات هذه، بدأت الفكرة تنتشر، وصرتُ أرى العديد من الفنّانين يقومون بذات الشيء بعد أيام قليلة. وهذا شيء إيجابيّ كون الهدف الأسمى منه هو المُساعدة، حتّى أنّ البعض اتصلوا بي كي يسألوني كيف يستطيعون أن يقوموا بنفس الخطوة. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن أغلب أعمالي تم اقتناؤها من قبل أصدقاء ومعارف لي خارج سوريا ومن قبل متابعين لصفحتي الشخصيّة في فيسبوك مباشرة”.
وتؤكد ريما أن عمل الخير هو أهمّ ما يمكن فعله في اللحظات الكارثيّة، سواء كان هذا العمل فرديّاً أو جماعيّاً، هو عمل واحد وواجب دون تفكير أو تردّد من أجل إنقاذ ما يمكن من النّاس. ولكن بعد أن تتسع دائرة الحاجة يدخل العمل المؤسساتي ليبدأ دوره في الترتيب والتنسيق. إنّ البيروقراطيّة في الكوارث تقتل وتزيد من الخسائر على كلّ المستويات، حسب رأيها.
لم تحدد الفنانة ريما الزعبي أسعاراً معيّنة لأعمالها المعروضة للبيع، وتركت أمر التقدير للمقتني بما يتناسب مع وضعه وقدرته ضمن حدود مقبولة كسعر للوحة. وتشير ريما إلى أن الشريحة التي وجّهت النداء لها حين عرضت أعمالها الفنيّة للبيع؛ هي شريحة الأصدقاء والمعارف الذين هم خارج سوريا معظمهم من المغتربين ومن ذوي الضمائر الحيّة، حسب وصفها.
وتختم ريما حديثها بالقول: “إنّ ما يهيمن على حياتنا في سوريا هو الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة، ويوجد هنا أناس لا يتردّدون أبداً في المساعدة ولو بأقلّ القليل، بالمتاح. إنّ ظروفنا الحياتيّة صعبة أصلاً”.
معرض زلزال
الفنّان السوريّ كيفان الكرجوسلي، المُقيم في برلين، يقول في حديثه لموقع صالون سوريا: “جاءت فكرة المعرض المشترك بعنون (زلزال) على وقع تراكم عمره اثنا عشر عاماً. كان وقع الزّلزال كبيراً وبشكل لا يمكن استيعابه. وقد انتاب المرء ذلك الشّعور بالعجز بعد مشاهدة الفيديوهات وسماع الأخبار، وذلك بسبب قلّة الحيلة وبُعد المسافات!”. ويضيف كيفان: “ليس لدى الفنّان منّا سوى أعماله والتي هي مثل الأموال المجمّدة، ربّما يحاول أن يساعد من خلالها. كانت فكرة المعرض عبارة عن مبادرة اقترحها صديق لي اسمه أحمد ياسين، والذي شاركني تلك الرغبة بالبحث عن مكان يمكن أن نقيم فيه معرضاً للوحات ونجمع من خلاله التبرعات لمساعدة متضرري الزّلزال في سوريا. وقد تواصل ياسين مع الفنانين وكنت أنا قد قدّمت المكان وهو محترفي الخاص، وعرضت أيضاً بعض أعمالي مع بقيّة الفنانين”.
ويعتبر كيفان أنّ الفكرة الأساسيّة للمعرض ليست الترويج للأعمال أو الشّهرة، الفنّان لا يستطيع تقديم شيء عينيّ للناس مقابل المال الذي سوف يتبرعون به سوى من أعماله الفنيّة، لأنّ فكرة التبرّع العامّة هي أن الشخص يتبرّع بالمال لدعم فكرة أو هيئة أو منظمة، وبما أنّ الأهل في سوريا قد تضرّروا من الزّلزال وهم بحاجة أكبر قدر ممكن من المساعدة، كانت فكرتنا أن نقدّم أعمالاً فنيّة على قدر إمكانيّة المتبرّع كمقابل يعادل ما دفعه، بحسب قوله.
ويرى كيفان أنّ أهميّة الفنّان القادر على المساعدة أن يكون على تواصل مع عدد جيّد من المقتنيين وجامعي الأعمال الفنيّة، والأهمُّ برأيي “أن يكون قادراً على التواصل مع منظّمات أو جمعيات مُلمّة وموجودة على الأرض من أجل إيصال المُساعدات للناس المحتاجة بأسرع ما يمكن”.
ولا يشكّ الفنّان كيفان أنّ مثل تلك المبادرات سوف تترك انطباعات حسنة لدى النّاس “وقد تقربهم من الفنّان والعمل الفنيّ ليعيشوا دورهم ومساهمتهم في المجتمع. ورغم ذلك، يا للأسف، ثمّة من يريد الصيد في الماء العكر، ومن يودّ أن يركّز على الأزمات بسبب حبّ الظهور، هؤلاء قلّة، ولكنّنا بحاجة إلى تغيير تلك النظرة عن مفهوم التبرّع التي سوف تغيّر بدورها نظرة المجتمع للفن والفنّانين على أنّهم يستطيعون المُساعدة، وهم لا يعملون لطبقة معيّنة من المجتمع، إنّما يعملون من أجل الجميع”.
ويختم كيفان: “إنّ المبادرات الحاليّة في معظمها هي مبادرات فرديّة، وناتجة عن لهفة الفنّانين للمساعدة، وحتّى يتمُّ إنجاحها وإظهار تأثيرها على المجتمع، لا بدّ من الوقوف عند مثل هكذا أحداث ليتم دراستها وتطويرها بشكل منظّم بمشاركة الفنّانين والمنظمات المختصّة بجمع التبرّعات، لأنّ الأمر متعبٌ بالنسبة للأفراد، كفنّانين، وقد عشتُ ذلك على أرض الواقع مؤخّراً، وكان الأمر صعباً جدّاً دون تخطيط مسبق”.
كأن الفجائع صممت على مقاس السوريين، لم يمض وقت طويل على إغلاق باب الحرب وترميم جراحها الغائرة حتى باغتهم زلزال مدمر وقع على رؤوسهم لتكتمل روزنامة المأساة وحزمة الألم. قلوب مفجوعة ووجوه فزعة وصرخات مدوية قضاها المنكوبون منذ يوم وقوع الكارثة لغاية كتابة التقرير، تاريخ يتمنى السوريين شطبه من التقويم الميلادي إلى الأبد. لم يعد 6 شباط من التواريخ العادية بالنسبة للشابة لميس وللكثير من السوريين، فهذا الرقم سيظل بمثابة دمغة ألم لن تفارقها ولحظات خوف فاقت الوصف لم تختبرها من قبل. بكلمتين مختصرتين تصف مشهد الرعب: “كأنه يوم المحشر”. تروي لميس التي نجت من مجزرة تلكلخ في حمص وحصارين تفاصيل نجاتها مع طفليها لحظة وقوع الزلزال في مدينة جبلة وتقول لـ”صالون سوريا” بصوت متهدج: “جربت شعور شاهد العيان على مجزرة، وعايشت ظروف الحصار والعيش في ملجأ لأشهر طويلة، اختبرت جميع أنواع الخوف، غير أن طعم الخوف عند وقوع الزلزال كان مختلفاً كلياً ومرعباً لدرجة تفوق الوصف، كأنك تهرب من يوم الطوفان، أن تشعر بانشقاق الأرض وبكاء السماء”.
وعن تفاصيل ليلة الزلزال تقول: “كنت أنتظر وصول زوجي عند الساعة 3 فجراً بعد أيام من المناوبة في قطعته العسكرية، بينما كان طفلاي نائمين، عند وصوله دخل للاستحمام فيما كنت أهيأ له الطعام، بعد انتهائه شعرنا بالمنزل يهتز قليلاً ثم تعالت أصوات الجيران ونداءات الاستغاثة والمطالبة بالإخلاء”. تتابع حديثها: “حاول زوجي فتح النافذة للخروج منها لكن دون جدوى، ثم طلب مني إخراج الطفلين على أن يلحق بي بعد أن يحضر هويته وبعض المال، صرت أصرخ وطلبت منه مرافقتي، لكنه رفض وطالبني بالخروج وإنقاذ الأطفال أولاً”. تضيف الناجية أن قوة الزلزال تضاعفت أثناء لحظات إخلائها للمنزل، كان شكل المطر غريباً ينهال علينا كالرصاص، والجيران يتدافعون بقوة خوفاً من انهيار المبنى فوق رؤوسهم، حينها أمسكت بأيدي طفليّ بشدة وحرصت على عدم إفلاتها والركض بسرعة قصوى، خشية وقوعهما على الأرض لأن ذلك يعني موتهما الحتمي، إما نتيجة الزلزال أو بسبب دعس أقدام الجيران فوق جسديهما وتجاوزهما خلال هربهم من الموت”.
بملابس مبللة وجراح كبيرة قضت لميس مع طفليها يوماً كاملاً في الحديقة دون مأوى. قدم لها أحد الجيران كيساً من الخبز واللبنة والتفاح لمحاربة الجوع. عند حلول الليل لجأت السيدة إلى أحد الجوامع للمكوث هناك، أودعت طفليها عند امرأة لتعود إلى منزلها بحثاً عن زوجها بين المفقودين. وللأسف اكتشفت موته بعد يومين من الانتظار، حيث وجد رجال الإنقاذ جثته وقاموا بإخراجها من تحت الأنقاض ووضعها في مكان موحد للتعرف على هوية المفقودين من الأهالي والأقارب. وفي قصة مؤلمة أخرى، رضيعة لا يتجاوز عمرها الساعات كانت سبباً بنجاة أسرتها والخروج قبل انهيار المبنى في ريف جبلة، تتحدث أم محمد عن تفاصيل فجر الزلزال: “ولدت حفيدتي قبل يوم واحد من وقوع الزلزال، كانت تصر على عدم النوم والرضاعة طوال الليل، فكانت تبقينا مستيقظين، لذلك كنت أسهر على راحة ابنتي وتحضير الطعام المناسب لها، عند خروجي من المطبخ شعرنا جميعاً بالأرض تهتز من تحت أقدامنا، هرعنا إلى الخارج بملابسنا”. تتابع حديثها: “ما هي إلا لحظات حتى انهار البناء وتداعت البيوت، حصل الأمر في ثوان سريعة، لو كنا نياماً لمتنا جميعاً أو كنا تحت الأنقاض”.
من جانب آخر، تصف الناجية صفاء تجربتها في الفرار من سقوط المبنى الذي تقطنه في حي صلاح الدين بمدينة حلب: “كان الناس يصطدمون ببعضهم البعض أشبه بتدافع السيل الذي لا يتوقف، أن تتوقف عن الركض للحظات يعني أن تقلل من فرصة نجاتك”. نجت صفاء مع أطفالها الثلاثة وزوجها ووالدته، وعن تفاصيل ليلة الزلزال، تضيف قائلة: “عند الساعة الثانية ليلاً شعرنا بهزة خفيفة، لم نشعر بالخوف حينها لأننا اعتدنا على الهزات المستمرة التي تحدث عادة، لكن عند حلول الرابعة فجراً بدأت تشتد ليهتز المنزل يميناً ويساراً، خرجت حافية القدمين وأنا أحمل طفلتي ذات الأشهر الستة بينما حمل زوجي البقية وساعد والدته في الإسراع بالخروج”. تتابع حديثها: “كنت خائفة من فقدان أطفالي وزوجي، كنا نركض كالمجانين بدون وعي، هبط البناء بأسره ليستحيل إلى رماد وغبار، 40 ثانية تعادل 12 عاماً من الحرب والخوف”.
أما ريم فتصف ليلة ٦ شباط كمشهد ظنت أنه قد يكون الأخير في شريط حياتها: “طوقت رضيعتي بقوة، ثم عانقنا زوجي بملء ذراعيه، بينما كان السرير يتأرجح بنا وجدران المنزل ترتجف من حولنا”. نجت ريم بأعجوبة، حيث تمكنت مع أسرتها من النهوض والخروج قبل وقوع الهزة الثانية بفارق دقيقة، وتقول عن تجربتها لـ”صالون سوريا”: “كنا نائمين وفجأة شعرت بالبيت يرتج من حولنا، للوهلة الأولى ظننت أن المنزل يتداعى نتيجة التشققات الحاصلة في أعمدته وذلك لوقوعه في العشوائيات وتعرضه لجحيم القذائف طوال سنوات الحرب، لكن اتضح أنه زلزال حين نادى الجيران بذلك وتيقنوا من الأمر”. انقطعت سبل ريم للوصول إلى محطة آمنة في دمشق، وعجزت عن إيجاد مقعد شاغر في وسيلة نقل بسبب الازدحام الكبير، لتضطر إلى المكوث في الحديقة لثلاثة أيام متواصلة في ظل ظروف جوية قاسية عليها وعلى رضيعتها التي لا يتجاوز عمرها الشهر. وتصف مأساتها: “لم نجد أي باص أو سيارة أجرة متوفرة، كادت ابنتي تتجمد من البرد القارس حتى استحال لون جسدها إلى أزرق، كان زوجي يجمع أغصان الشجر للتدفئة وكسر حدة الصقيع”. تلازم ريم مشاعر الخوف والرعب كل الوقت بعد مرور أكثر من 10 أيام على الكارثة، وتصف الناجية لحظات الزلزال بأنها الأكثر ذعراً على الإطلاق: “مشهد اهتزاز الأرض وانشقاقها وكأنها على وشك ابتلاعنا يفوق رعباً أصوات القذائف وأنين الرصاص، لا تعرف إلى أين ستذهب بنفسك، فالأرض برمتها ترتعش وتتحرك من تحت قدميك، تُذَكر ولا تُعاد”.
لم يعد يكفينا قلبٌ واحد، صرنا نتمنى كما قال الشاعر العربي القديم قيس بن الملوح أن يكون لنا قلبان نعيشُ بواحد ونفرد الآخر للحزن، ذلك أن الموت صار يأتي بالجملة، وخاصة في أعقاب الزلزال المدمر الذي دمّر المدن والأرياف في تركيا وسوريا وقتل وجرح وشرد أعداداً كبيرة، وعوضاً عن أن نتجاوز حدود النزعة الإنسانية السائدة والبيروقراطية الفاسدة التي تتحكم بها، ونصبح أكثر إنسانية في تضامننا بما أن الخطر جماعي وعابر للحدود، أعدنا إنتاج خطاب ما قبل الكارثة وحولنا خطاب الزلزال إلى امتداد لخطاب الحرب، حيث تتحكم المصالح والاصطافافات ويتم التلاعب بمصائر البشر ويُترك الضحايا تحت الأنقاض. حين يأتي الموت يكون فاجعاً، تتحول الحياة التي كانت إلى شريط ذكريات ثم يهيمن النسيان على المشهد، ذلك أن أعلى قمة في جبل الكينونة كما قال الفيلسوف الألماني هايدغر هي قمة النسيان، لكن الحياة البشرية تستمر أيضاً دون أن تُنسى تجلياتها السابقة، ذلك أنه مقابل قمة النسيان تتوضع قمة التذكر وإن كانت القمتان تتصارعان على حكم سلاسل جبال الحياة والموت. لهذا من الصعب التسليم بفكرة المحو، فالحياة تتمسك بما لديها وتعمّق خطها وتحتفظ في داخلها بزخمها المخترق للأزمنة وهي تتقدم في سياق من العدم الشامل كمشعل يضيء ليل العالم، فنحن نتاج تاريخ طويل ضارب في القدم لا يكف عن التطور.
أمام الموت نفكر بالجسد، بما رسمنا له من مسارات تحولية ماورائية منذ الميثولوجيا مروراً بالأديان التوحيدية وصولاً إلى العلم الذي صنع شعرية الذرات المسافرة والمتنقلة بين العوالم في رواية تنفي الرواية الدينية. ما يبقى هو التراث: انظروا إلى محيط الأسماء الباقية في الكتب والمدونات، إلى الاختراعات والثورات والقفزات النوعية للبشرية وإلى المنجزات الفردية في جميع حقول المعرفة وإلى الإبداعات الشعرية والفنية والروائية والمسرحية، دوماً نعود إليها ونمد أيدينا إلى رفوف المكتبات وندخل إلى المتاحف كي نبحث عما يضيء لحظتنا ويدفئنا من بردها. هناك أشخاص يتوهجون عبر ما تركوه من آثار وتأثيرات، وما ولّدوه من خلال أسلوب حياتهم ولقد كانت حياة رفعت عطفة فضاء وقصيدة ومقطوعة موسيقية وكتاباً مترجماً أو مؤلفاً ومائدة مشتركة وسيمفونية صداقة. في ضوء هذه الاستمرارية لقوة الحياة مَن ماتَ يولدُ من جديد داخلنا بطريقة أو أخرى، ويشكل جزءاً من وجودنا، يتواصل في حياتنا داخل الشعلة التي تتقدم في الظلام. ولعمري إن هذا التراكم الإبداعي المتواصل الذي يغذّي هذه الشعلة بوقوده هو ما يجب أن نعول عليه. وهنا، فيما أعلن تضامني مع كل الضحايا الذين سقطوا تحت أنقاض البنايات التي غدر بها الزلزال وأعبر عن عزائي لكل من فقد عزيزاً، أكتب عن أشخاص عرفتهم عن قرب وكانوا أصدقائي وشعرتُ بفداحة خسارتهم ماتوا قبل الزلزال وبعده. كان رفعت عطفة شعلة مضيئة لمن حوله ولقرائه، وفي مجتمع منقسم طائفياً وسياسياً كان نقطة وصل بين سوريين كثيرين، جسراً للعبور نحو منطقة آمنة يجلسون فيها ويتناقشون، ويدخلون ويخرجون متعانقين. تعرفتُ على ذلك الجو الذي كان يضم فيما يضم كوكبة من أجمل الشخصيات الفكرية والأدبية والموسيقية والناس الشعبيين والعاديين. وكأس العرق، الذي كان على رأس القائمة في الطقوس الأبي زيدونية، والسلطات المبتكرة كسلطة الهندباء والجرجير والقرص عنّة والتبولة والفريفيرة غير المسبوقة في المطبخ السوري، وبعض الأطباق الجديدة والتجريبية، التي كان يتفرد بإعدادها وأنواع الفطر التي كان يجمعها ويقليها مع البصل اليابس وزيت الزيتون والمأكولات الأسبانية التي كان يعدّها بسرعة كبيرة والتي حين تتذوقها تظن أنه أمضى ساعات في إعدادها، والحميمية المتأصلة والعميقة والحب الذي يفيض منه ويتوهج على من حوله، كانت كل هذه الأمور توسّع من غنى الحياة اليومية وفسحتها وتضيف إليها وتسرع في تحويلها إلى جامع بين أفراد كانوا يعيشون ضائعين وخائفين ويائسين ومحبطين في مجتمع يخلو من المنتديات الفكرية والصالونات الحرة وأماكن التجمع العامة. وكانت هذه الفسحة تقدم لهم بديلاً منزلياً يستمتعون فيه بالطعام والشراب والحوار الفكري والسياسي الغني والإصغاء لمختلف الفنون الأدائية. وكان منزل أبي زيدون هو من المنازل الأولى التي يحنّ إليها كل من زارها فما أن تدخل من الباب الحديدي حتى تشم رائحة الحبق والنعناع وترى الورود متفتحة والطراوة على الأوراق الخضراء، وحين تصعد الدرج بين صفوف النباتات وأصص الأزهار الموضوعة على يسار ويمين كل درجة في الدرج المؤدي إلى باب الصالون تشعر كما لو أن الطبيعة أرسلت حشداً من أجمل ورودها ونباتاتها لاستقبالك، وحين تدخل البيت تشعر بأن جوه الداخلي فضاء تستطيع أن تكون فيه نفسك، وفيما تستكشف أكثر تشعر أنك ابن هذا البيت بوروده ولوحاته وتماثيله والكتب على رفوفه ونوافذه المطلة من الخلف على شجرة خرنوب باسقة، ومن الأمام على شجرة رمان وعريشة كرمة تتدلى عناقيدها وتنضج في طريقها إلى زجاجات النبيذ والتي إن كنت محظوظاً ستحظى بكأس منها في ليلة شتائية باردة. داخل هذا الجو كانت الحوارات تنطلق والقصائد تُقرأ والأغاني تنشد والموسيقا تصدح، وقد توهجت هنا وجوه أصدقاء من الأموات والأحياء مثل غالب هلسا ومظفر النواب وحيدر حيدر وممدوح عدوان وعبد الرحمن منيف وأنطونيو غالا وغيرهم كثيرون، واجتمع شعراء أسبان وعازفو عود وكمان وناي وشعراء شباب وكتاب قصة قصيرة وروائيون ومسرحيون ورسامون ونحاتون، وكان رفعت يختتم كل جلسة بعزف مازح على ناي يحمله بين أصابعه، وحين ينعس تتواصل السهرة ويعتذر قائلاً إنه ذاهب ليقطف للموجودين بعض الفواكه أو البصل الأخضر أو الفجل أو قرص العنة، ويكون في طريقه إلى فراشه في الطابق الثاني. لن أتحدث هنا عن رفعت القاص والروائي والشاعر والمترجم وكاتب المقالة فكل هذا الإرث موجود لمن يريد الاطلاع عليه، بل أريد أن أتحدث عن فرادته في العلاقة مع الآخر، وقد ترجم هذه الفرادة من خلال إيمانه بالمواهب الشابة ودعمه لها بكافة السبل. يمكن القول إنه كان مناضلاً من أجل الآخرين، ولم تكن التجربة الثقافية والفكرية بالنسبة له سوى باب مفتوح نحو شيء آخر أفضل. لعب دوراً مثمراً وبناء في ظهور مواهب مهمة ودعمها ليس فقط بمساعدتها على الأداء أو النشر أو تزكيتها بل من خلال الدعم المادي المباشر لكل محتاج، فقد ساعد مادياً وأحياناً على حساب احتياجاته واحتياجات عائلته (رغم أنه لم يكن من الأثرياء) كثيرين ضاقت بهم ظروف الحياة سواء كانوا في سوريا أو أسبانيا كما لو أنه مؤسسة قائمة بذاتها تقدم المنح. ويمكن القول إن ما في جيبه لم يكن له بل كان للآخرين المحتاجين والموهوبين الذين لديهم شيء يقدمونه. وكان غيوراً مندفعاً إلى المساعدة بشهامة قلّ نظيرها ولقد لمستُ هذا بنفسي في مواقف عدة. وكان يعول على الروح المدنية السورية، وعلى التعددية واختلاف الآراء والتوجه العلماني، وعلى الديمقراطية التي لا يمكن أن ينمو أي شيء مهم إلا في تربتها، واحترام الآخر المختلف. وحين أدار المركز الثقافي في مدريد، تحرك رغم الإكراهات والقيود والرقابة وصنع منزلاً عالمياً للثقافة أثار خوف الرسميين الذين ترعبهم الأصوات المختلفة. صارع رفعت عطفة المرض العضال في وقت تعاني فيه سورية من المرض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كأنها ممددة على سرير الحرب والمجاعة والكورونا، ولم يكن ما يشعر به ويقض مضجعه وهو على الفراش ألماً ناجماً عن السرطان فحسب، كان الألم الأكبر الذي عانى منه هو المتولد من حزنه على سوريا، على بلاد تتفكك وتضيع وتتقسم، بحيث أن ألمه الناجم عن المرض كان منسياً في طيات ذلك الألم. ولم يكن يرى وهو طريح الفراش سوى الانهيار حوله في كل مكان. كان العنف هو سيد الموقف، والرصاصة أهم من الكلمة، والقذيفة هي الفيصل، والتدمير هو الخيار والطريق، لكن هذا الخيار وصل إلى طريق مسدود، إلى حاجز التعطل والانهيار، وخاصة بعد أن بدأت الليرة تتهاوى والتضخم يلقي بظلاله المشؤومة على الجميع. وبعد أن كان السوري يواجه العنف وغياب الأمن صار يواجه البرد وانقطاع الكهرباء وغياب الخدمات الشامل، وندرة الطعام والافتقار إلى الحياة الكريمة والمريحة إلى درجة أن أبي قال لي في اتصال هاتفي معه: ”إننا نأخذ دورات للتدرب على الجحيم”. في هذا الجو الكئيب، توفي رفعت عطفة على سرير في مستشفى يعاني مثل غيره من النقص الشديد في كل شيء. كانت جنازته عرساً حقيقياً، فقد أتى المئات من محبيه كي يسيروا في جنازته رغم الظروف الصعبة للتنقل، منهم من أتى مشياً على الأقدام ومنهم من تدبر أمره وحملوه على الأكتاف إلى مدفنه قرب قبر أمه في مقبرة مصياف. كانت هذه خاتمة حياة تفجرت عطاء في كل اتجاه، وكان أثناءها يحاول أن يقول إن سوريا لا يُساوم على استقلالها وحريتها، وكان يعني بذلك سوريا المستقبل، لا المستقبل القريب، كما قال ابن منطقته المرحوم حسان عباس قبل وفاته هو الآخر بالسرطان، بل المستقبل الذي لا ريب أنه آت وسيكون مزهراً.
رفض رفعت عطفة مغادرة سوريا رغم أنه كان قادراً على الخروج، أصر على البقاء مع الناس العاديين والذين هم إيقاع الحياة ونبضها، وطيلة بقائه حياً كان أهم ما يميزه هو قدرته على العطاء، ولقد أعطى حتى النفس الأخير في أشد الظروف قسوة. بعد أيام من وفاته ضرب الزلزال. لا بد أنه شعر بالهزة وعثر على طريقة ما كي يساعد، ذلك أن من رسّخ هذه النبالة في حياته سيلهمها بعد موته.
وها هي سوريا بعد أكثر من عقد من حرب عبثية مدمرة تشهد كارثة أخرى، فقد أتى الزلزال كي يضع توقيعه على لوحة الدمار. في هذا الزلزال المدمر فقدنا الصديق الدكتور فائز عطاف، والذي جمعتني به صداقة مدنية، تواصلت عبر الإنترنت، أقول مدنية لأننا تعاونا في الترتيب لأنشطة مهرجان جبلة الثقافي والذي أقيم بمبادرة من جمعية العاديات المدنية في جبلة بجهود جبارة من الصديق جهاد جديد وزوجته بديعة والقاص والنحات أحمد اسكندر سليمان والمسرحي والمعارض والسجين السياسي السابق بدر زكريا وآخرين كثيرين عملوا لتحويل المسرح الروماني في جبلة إلى أفق آخر للثقافة بعيداً عن القيود الرسمية وعن طريق الانفتاح على الكتاب والفنانين والموسيقيين في العالم العربي والعالم الأوسع. دمرت سنوات الحرب كل شيء لكنها لم تهزم إرادة الحياة وقوة الثقافة التي تحول الكلمة إلى فعل، وهذا ما تجسد في تجربة فائز عطاف الرائدة في العمل الإنساني من خلال وضع خبرته الطبية في خدمة الفقراء والمحتاجين مفتتحاً أفقاً للروح التطوعية لم يسبقه إليه أحد من أبناء جيله. كان مثال النزعة الإنسانية الجريئة المتجاوزة للحدود. كان طبيباً ماهراً وفناناً فوتوغرافياً مبدعاً ومحباً للشعر والرواية والقصة ومواكباً لنتاج الأجيال الجديدة، وتميز باللطف الشديد والحضور الإنساني والشهامة. كان سورياً تزهو بمثله البلدان وتبني على ما فعله الأجيال وقد شكل موته خسارة كبيرة لأصدقائه ولمرضاه ولكل من عالجهم في ظروف الحاجة والفقر. قضى فائز عطاف تحت أنقاض بناية أساساتها مشبوهة هو زوجته وأطباء آخرون، وبموته تحول إلى إرث سوري عظيم، إلى روح أخرى تغذي المشعل الذي يضيء في ظلام حياتنا.
وفي أعقاب الزلزال الذي حصد وما يزال أرواح الأحياء تحت الأنقاض، سقط صديقنا القاص ناظم مهنا عن صهوة اللحظة وتوفي في وقت ما نزال نندب فيه أصدقاء آخرين. كان ناظم من كتاب القصة الموهوبين والمتميزين ويمتلك فرادة فكرية في قصصه ميزته عن غيره من الكتاب الآخرين، فشخصياته دوماً لديها مقاربتها الوجودية الساخرة ونظرتها غير المألوفة والجديدة، فاتحة منافذ لاستكشاف واقع لم تكن معروفة من قبل. جمعتني صداقة طويلة بناظم مهنا وخضنا حوارات وأمسيات كثيرة. كان إنساناً نظيفاً ووطنياً لا يشق له غبار. وكان يؤمن بسوريا علمانية وديمقراطية تعددية. كان ضد الظلم وقتل الآخرين واللعب بمصائر البشر. إن موته خسارة لا تُعوض. مات أصدقاء كثيرون حزنّا لرحيلهم، ولكن علينا أن نتعمق أكثر في ما تركه الراحلون باحثين عن الجميل والمختلف فيه، عما يلهمنا ويمنح وقوداً لحياتنا في وقت تتحالف فيه الطبيعة مع التوحش في الإنسان لتحويل الحياة إلى سلسلة متواصلة من المآسي. وإذا ما واصلنا فعل ذلك، إذا بحثنا عن الجميل في إرثهم وسلطنا عليه الضوء واستلهمناه في مسيرة حياتنا فإننا سنهزم الموت والخراب ونشحن قوة الحياة بطاقة جديدة.