حتى أنتِ أيّتها الزلازل

حتى أنتِ أيّتها الزلازل

    يعيش المرء بصفته سوريّاً في بلاده، من أجل تحقيق غاية واحدة وحيدة، وهي أن يتدرّب على الموت بأنواعه المختلفة، ذبحاً وتفجيراً وجوعاً وبرداً، وأخيراً أن يتدرّب على أن تبتلعه الأرض، ليكتمل المشهد المأسويّ الفريد، ليحكي قصة شعبٍ مزّقته الفتن الطائفية والصراعات العرقية والحروب الداخلية والتواطؤ الدوليّ وانهيار مفهوم الدولة إلى أدنى الدرجات التي عرفها التاريخ، ليتوِّج ذلك كلّه غضب إلهيّ أو طبيعيّ حصد أعداداً هائلةً من الضحايا، شيباً وشُبّاناً-نساءً وأطفالاً، ولا تزال هذه الأعداد تزداد على نحو مطّرد لتزيد مع زيادتها الأهوال والمآسي والفواجع. 

    إنَّ من يعاين حقيقة الأحداث، ويتأمّل على نحو معمّق في هذه الكارثة، ليس في وسعه أن يستنبط إلا فكرة جوهريّة رئيسة، وهي أنَّ الشعب السوري في حلب أو اللاذقية أو إدلب وغيرها من المحافظات السوريّة قد سرت فيه، فرداً فرداً، مشاعر متجانسة أو واحدة في كيفيتها، وهي أنَّ شعباً وحّده الألم لا يجب أنَّ تفرّقه العقائد والإيديولوجيات وفساد السُّلطات.

    لكن ما يثير غضب كلّ سوريٍّ الآن هو وجود عجز كبير-على المستوى الأهليّ-في إمكانية تقديم أي مساعدات للمنكوبين، إذ لا يقدر المواطن السوريّ الآن على أن يسدّ رمقه ورمق أطفاله، فكيف يمكن له أن يقدم يد العون لأبناء جلدته من المصابين والمشرّدين من الذين هُدِمت بيوتهم؟ 

     إنَّ المجتمع الأهليّ شبه عاجز الآن عن المساعدة؛ ولكن رغم ذلك نجد مبادرات يمكن وصفها بأنها فدائيّة بكلّ معنى الكلمة، إذ نجد المئات من المواطنين الشرفاء قد تعاونوا، بعضهم مع بعض، على نحو يدعو إلى الاعتزاز.

    نزل بعض أبناء ريف الساحل-بما أنَّ الريف كان أقل تضرّراً-إلى مدينة جبلة المنكوبة ليساعدوا في رفع الركام عن الأبنية، ومنهم من يمتلك آليات مثل الجرّافات (بلدوزرات) أو الشاحنات (عربات نقل ثقيل) وإلى ما هنالك؛ ولكنهم غير قادرين على تزويد هذه الآليات بالوقود، فانبرى أبناء مدينة جبلة ليزودوا آليات هؤلاء القادمين من الريف بالوقود، من أجل أن يباشروا عمليات الإنقاذ في الأحياء المتضررة. لقد كانت مبادرة شعبيّة بكلّ معنى الكلمة ولم يكن قد مضى على وقوع الزلزال ساعة أو أكثر بقليل، كما أنَّ المتطوعين من الريف والمدينة استطاعوا أن يبادروا مباشرةً إلى تكوين فريق تحرك بجدارة على أرض الواقع، وبدأ العمل بإزاحة الركام، وإخراج الجثامين، والناجين من تحت الأبنية، ومن ثمة قامت السلطات المحلية بالتدخل وفقاً لإمكانياتها المحدودة.

    ولكن في الحقيقة ورغم هذه الجهود وما تبعها من دخول فرق إنقاذ خارجية من جزائرية ولبنانية وعراقية وغيرها؛ إلا أنَّ الجهود غير كافية في مدينة جبلة، إذ عملية انتشال الجثث من الضحايا، كانت بطيئة جداً، وهذا أمر تقتضيه عملية البحث عن المصابين من الأحياء، فأي استعجال يمكن أن يؤدي إلى وفاة المحاصرين من الأحياء تحت الأنقاض، ولكن البطء في العمل أدى إلى استخراج جثث بدأت بالتحلل وفاحت منها رائحة الموت، وهذا أثّر على نحو سلبي في مشاعر ذويهم وأصدقائهم. فهناك عمليات انتشال لعشرات الجثث، من شباب وشيوخ وأطفال، وأبناء وأمهات، وتجد في هذه المشاهد انتشال أمٍّ تحضن طفلها وقد توفي كلاهما في مشهد مؤثّر إلى أبعد حدّ. 

    هذا، إلى أنَّ الذين خسروا بيوتهم في جبلة يعيشون حالة قاسية جداً، إذ توزّعوا على أمكنة متعددة، في بيوت أقربائهم وأصدقائهم والمساجد والفنادق والصالات…، ولكنهم يعانون من نقصان كبير في الأدوية والتدفئة والطعام.

     ونجد هذه المشاهد القاسية نفسها تتكرر في مدينة اللاذقية، إذ حدث انهيار هائل في الأبنية، ترك وراءه مئات الضحايا، ريفاً ومدينةً، فحجم الدمار الكبير، وتراكم الأنقاض، كوّن في الاحياء السكنيّة كتلاً إسمنتية أشبه بسجون، حُبِسَ الناس داخلها، منهم من توفي ومنهم من بقي حياً؛ ولكن التباطؤ في المبادرة وضعف الإمكانيات وقلّة الخبرة أدى من دون شك إلى تعقيد الأمور. 

    وعليه، إنَّ ما يثير الحزن سواء أكان ذلك في اللاذقية أم غيرها من المدن السورية المنكوبة هو ظاهرة هذه السجون الإسمنتية التي خلّفها الزلزال، إذ بقي عدد من الناس أحياء تحت الركام، مسجونين في بيوتهم، وقد سُدّت عليهم المنافذ كلّها، ولا يمكن وصول فرق الإنقاذ إليهم بسبب الركام الكبير المحيط بهم، فبقي هؤلاء الناس بين الموت والحياة. والحقيقة أنه توجد بين هؤلاء الناس أنفسهم حالات تحرّك الوجدان الأسيان، إذ تعرّض الكثير من المحاصرين تحت الأنقاض إلى كسور ورضوض وإصابات، ورغم ذلك عانى هؤلاء الناس من البقاء أحياء في أمكنة أشبه بالتوابيت، وهم لا يعرفون مصيرهم، إذ ترى ضمن عائلة واحدة في منزل منهار أحد الناجين ليخبرك أنه بقي مدة يومين أو أكثر محاصراً بين أجساد الموتى من أفراد عائلته، فما أشدّ صعوبة وقسوة وألم هذه المعاناة المريرة!

     إنَّ الجهود المبذولة الآن تتركز على إنقاذ الناجين-إن وجِدوا-وانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، وتتضافر جهود عديدة من أجل تحقيق هذه الغاية؛ لكن المشكلة الكبيرة في هذا الاتجاه هي أنَّ انهيار أبنية مكوّنة من طوابق عديدة يقتضي استغراق عدة أيام في إزاحة الكتل الإسمنتية والحديد وإلى ما هنالك، وهذا يقلل من فرص نجاة الذين بقوا أحياءً. وهناك ملاحظة مهمة في هذا المنحى وهي أنَّ بعض المنقذين لاحظوا على أساس استقراء واقع الأبنية المنهارة أنه في كلّ بناء منهار يوجد فيه حيّز معيّن تتجمّع فيه جثامين الموتى أو يمكن أن يوجد فيه أحياء، وهذا يدلّ على أنَّ الناس أثناء وقوع الزلزال وانهيار الأبنية قد اتجهوا حسب سُكناهم في كلّ بناء إلى حيّز وجدوا فيه أماناُ من سقوط الركام، وهذه قضية تستحقّ كل اهتمام من المتخصصين.

    ولا شك في أنَّ انهيار الأبنية في جبلة واللاذقية-وهذا ينسحب على المحافظات المتضررة الأخرى-يرجع إلى سببين: الأول، نوع التربة، فيمكن أن تكون التربة ضعيفة غير قادرة على الصمود أمام هبوط أو سقوط الصفائح التكتونية المسببة للزلزال. الثاني، هو عدم إنشاء الأبنية وفقا لمواصفات الأبنيّة المقاومة للزلازل، علماً أنَّ منطقة الساحل السوريّ هي منطقة زلزاليّة.

     وتطال المأساة محافظة إدلب، والمعاناة فيها كبيرة جداً، تحديداً مدينة إدلب وفي ريفها الشمالي، وفي مدن مثل جسر الشغور، وسلقين، وعزمارين، إذ يوجد مئات الناس في العراء من دون مأوى، في ظروف مُناخية من برد شديد ونقص كبير جداً في مياه الشرب النقيّة والطعام والأدوية، هذا إلى أنَّ المنازل متصدّعة غير صالحة للسكن، علاوة على أنَّ الهزات الارتداديّة دفعت الناس إلى الفرار من منازلهم إلى الحقول والبساتين والغابات ليجعلوا سُكناهم تحت الأشجار، ليحموا أنفسهم من الثلوج والأمطار، ولذلك يوجد نقص كبير في مراكز الإيواء، ويحتاج الناس هناك على وجه الخصوص في الريف إلى مساعدات فورية أهمها: الخيام والأدوية والألبسة والوقود وإلى ما هنالك. 

   ونجد في إدلب مبادرات إنسانية رائعة، فهناك مطاعم أغلقها أصحابها وحولوها إلى مراكز إيواء للمنكوبين، وقدّموا لهم كلّ ما يقدرون عليه من مساعدات، فضربوا بذلك مثلاً رائعاً في الشهامة وسمو الأخلاق، ويوجد كثير من هذه النماذج تُعيد لنا الثقة الكبيرة باستعادة الإنسانيّة المفقودة.

     لم يترك الزلزال حلب أيضاً؛ بل كانت الخسائر فيها كبيرة، ولجأ كثير من الناس إلى الجوامع والمدارس والحدائق والشوارع، بعد أن خسروا منازلهم، ويعانون معاناة كبيرة بسبب نقصان اللباس والطعام والشراب والأدوية، ولكن لا يعرف المرء ماذا يقول للمسؤولين عن أناس لا يوجد لهم مكان ليعيشوا فيه، وتنتابهم مشاعر اليأس من القيام بأيّ مبادرة حقيقية نحوهم. فكيف يمكن تسويغ تركهم من دون مأوى، ولو لساعة واحدة؟!

     ولا شك في أنَّ المساعدات العربية والدوليّة المقدمة ليست في حقيقتها مساعدات جوهريّة، وإنما هي مساعدات مؤقتة تقتصر على الأدوية والطعام واللباس وما يجري هذا المجرى، ولن تسهم هذه المساعدات في حل مشكلة المنكوبين؛ لأنَّ أهم مساعدة لهم هي تأمين منازل لهم عوضاً عن منازلهم المهدّمة؛ ولكن في هذه الظروف يبدو هذا الأمر حلماً بعيد التحقيق، ولذلك يُخشى أن تتفاقم أزمة قاهرة لاحقاً تتعلّق بوجود فئة من المجتمع السوري تعيش من دون سكن!

   إنَّ الحقيقة التي لا يمكن نكرانها، وتقود الإنسان إلى يأس كبير محفوف بالقهر هو أنَّ هناك أناساً في المحافظات السورية المنكوبة فقدوا بيوتهم، وأصبحوا بلا سكن، ولا يمكن لهم في هذه الظروف الكارثية البغيضة التي عصفت وتعصف بسوريا، أن يعيدوا بناءها، ولا يوجد أمل بإعادة بنائها في واقع داخلي متمزّق، ومحيط دولي يغرز براثنه في أحشاء بلاد تنهار. 

على خط الزلازل، على خط الحروب

على خط الزلازل، على خط الحروب

حين جئْنا إلى الحياة

وُلدْنا على خط الزلازل،

وكبرنا على خطّ الحروب

ومنذ الولادة والأرضُ التي تحتنا تميدُ بنا،

والبناياتُ التي نعيش فيها تتأرجح

كأنها مبنية في الفراغ.

يأتينا الضوء بالقطّارة

والظلام كنهر أتشيرون.

دوماً نسير على حبل البهلوان

ونتعجّب كيف نتوازن طيلة الوقت فوق الهاوية

وهي تقول لنا بصوت ساخر:

أينما توجهتم فأنا تحتكم!

وحين تنشقّ الأرض غاضبةً وتبتلع كل شيء

حين يشهر التاريخ مخالبه

 ويمزّق قطعاً من الخريطة

حين تكشّر القوة عن أنيابها

وتقضمُ حديد البنايات ورؤوس البشر

تأخذ المسرحية أبعادها

في انفجارات متتالية

في تدافع جنوني

في انزلاق أبله للصخور

 في شقّ كأنه شدقُ الجحيم

في طيش في باطن الأرض

يخطر أيضاً في رؤوس بشرية

تتكسّر الأجساد فوق صفائح  الطغيان

ويحطّم الاهتزاز الأعمى جدران الأرض.

أيتها الصفائح التكتونية الكبيرة التسع

أيتها الصفائح الصغيرة الاثنتا عشرة

التي تضمنا جميعاً بذراعين صخريتين

وتتحرك بطيئة فوق وشاح الأرض

أيتها الأحجار التي تسحق رؤوساً،

أيتها الأنقاض التي تدفن أجساداً

أيتها الرصاصات والانفجارات التي تدوي

يا صنّاع الحروب والفقر

نحن هنا،

على قشرة الكوكب

نركض بين الاهتزازات هاربين

من كوى في الكتب المقدسة

من شقوق في الشعارات

من فجوات في العقائد

من ثقوب في الرايات

الأرض تغلي تحت أقدامنا

خلفنا تركض الموجة العالية

وتحتنا تتطوح الصخور

في رقصة سقوط تستمر أربعين ثانية.

ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا

ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا

(شذرات وأقوال)

-١-

من يتطوعون لإنقاذ الآخرين، ويهرعون إلى نجدة الضحايا والمحتاجين، هؤلاء هم أبطال الحياة الحقيقيون. الضوء الذي يتوهّج من أيديهم يعري رجال السياسة ورجال الدين والكذب الذي صار الروح المحركة لوجودنا. 

يندفع الأبطال وسط الأنقاض غير آبهين بالخطر كي ينقذوا حياة الآخرين لأنهم يعرفون قيمة الحياة الإنسانية، ولهذا يحق لهم أن يقودوا المجتمع لأنهم بتطوعهم يعلموننا درساً عظيماً في السياسة ألا وهو أن المهمة الإنسانية الأنبل هي إنقاذ الإنسان من كل ما يستهدف وجوده وإنسانيته، في وقت تعمل فيه كل السياسات العربية على تحويله إلى رقم خاضع ومدجن.

-٢- 

حين تنشبُ الحرائق ولا نقدر على إطفائها، حين تضربُ الزلازل ولا نقوى عن رفع أنقاضها،  حين تتمدد الحروب ولا نستطيع احتواء نتائجها، حين يُخْترق الفضاء وتُقْضم قطع من الأرض ويُعاد رسم الخريطة ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا، ألا نستطيع التساؤل: لماذا عجزنا على امتداد أكثر من نصف قرن عن بناء مؤسسات تكون جاهزة للعمل في اللحظة التي يتعرض فيها الشعب لخطر وجودي؟

-٣-

أحزاننا تفيض كالينابيع وقلوبنا مقهورة. أعيننا تفتش الأنقاض بحثاً عن أية علامة، وآذاننا تصغي. لقد دُفنت البيوت تحت الركام، البيوت المنكوبة، البيوت المهزوزة والمردومة والتي تبدو كفلول جيش من الإسمنت محطم ومهزوم.

-٤-

تغزونا صور الأنقاض: أنقاض مدن دمرتها الانفجارات ثم جاء زلزال كي يضع ختمه على الفاجعة، لكن النبل الإنساني يتجلى في أوقات الكوارث لدى من يعرف أن الضحايا أينما سقطوا على الخريطة، وكيفما كان شكل قتلهم، هم أعضاء بُترت من جسده، وصورهم تسكن في قلبه وتظل حية فيه.

-٥-

لي أصدقاء في أنطاكيا، وفي كل المدن المنكوبة، منهم من عاش ومنهم من لا أخبار عنه. 

قال لي صديق من أنطاكيا على الهاتف: لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده.

-٦-

مات صديق لي في جبلة تحت الركام هو وزوجته، حين رُفعت أنقاض البناء الذي كان بيتهما فيه وجدهما رجال الإنقاذ متعانقين. هذا العناق، هذا الحب وسط الكارثة، زرع روحاً جديدة في حياتنا تهزم الموت، وهذا ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا.

-٧-

العنصريون ينمون كالفطر في العالم، وثمة كثيرون يمارسون العنصرية حتى دون أن يعوا ذلك في طريقة استخدامهم للغة. هناك عرب يعيشون في أمريكا أعرفهم شخصياً يطلقون على السود اسم العبيد دون خجل.  وثمة في تركيا من يحتقر الناطقين بالعربية، ووصل الأمر إلى جرائم قتل ضد السوريين، وتجاهلهم تحت الأنقاض.

في أوقات الكوارث لا تخبو نار العنصرية، ويصبح إنقاذ الآخرين من الموت معتمداً على مرتبتهم القومية. إن هذا النوع من العنصرية الذي ينتشر بيننا وبين شعوب كثيرة مجاورة دليل على أن الحجر قد يكون أفضل من الإنسان أحياناً، كما قال أبو العلاء المعري:

أفضل من أفضلهم صخرة

لا تظلم الناس ولا تكذبُ.

-٨-

إلى طفلة عُثر عليها حية تحت الأنقاض:

كان وجهكِ عينين فقط، رأيتُ بهما كيف اتخذ الموت شكل الأنقاض. 

كان الموت أيضاً أجسادنا التي تقف بعيداً وتتفرج

 غير قادرة على فعل أي شيء. 

-٩-

بعد الموت عصّة قبر، قال كثير من السوريين.

بعد الموت يعضّك القبر،

يسحق صدرك، يفتتك، يخلطك بالتراب.

إلى حياة محاصرة،

إلى حياة من الفقر والضيق والنزيف

في خريطة أدمتها الحرب والتهمت قطعاً منها

سكانها على حافة الهلاك

أتى الزلزال ليوقّع لوحة تحمل اسم:

 الموت لا يأتي بالتقسيط.

-١٠-

الذين نسُيوا تحت الأنقاض،

 جرح لن يندمل في الذاكرة، 

سينزف كلما تذكرنا ما حدث.

-١١-

رائحة الموت تفوح بين الأنقاض.

 جندريس،

 على أطلالك لا تعرف العين أين هي

أو إن كانت عمياء أم مبصرة، 

والشاشة التي تعبر فوقك ليست صهوة.

جندريس،

فوقك كان الفراغ يجهش بصوت الريح

والسماء تبكي وتذرف قطرات المطر.

-١٢-

حلب،

عمارات كثيرة مضعضعة. 

الشقوق في الجسد الإسمنتي

جراح في الأجساد

طعن في الأرواح.

المدينة مثخنة بجراح وكدمات غيرت ملامح وجهها.

 لكن لها جذوراً في القلوب لا تتوقف عن النمو.

حلب،

زائر آخر في مطلع الفجر

يُركع المدينة 

ويكسر عظماً آخر في ظهرها.

-١٣-

جبلة\اللاذقية

كان المطر غزيراً،

الظلمةُ تسيل داخلة من النوافذ المحطمة،

والبَشَرة تتجلد.

كان البحر خريطة مطفأة

والجبال تندب أشجارها.

فوق أنقاض بيوت هدمها الزلزال،

كانت الريح تخمد الأصوات

وهي تحملها بعيداً.

-١٤-

إن قدرة الدول سواء الكبرى أو الصغرى على تدمير الحياة أعلى بكثير من قدرتها على الحفاظ عليها وحمايتها. 

تمارس الدول الكبرى فحولتها باستعراض عضلاتها العسكرية من خلال صواريخها الفرط صوتية وطياراتها الشبح أو المسيرة ورجالها الآليين وقنابلها وقاذفاتها الاستراتيجية. بضغطة واحدة على الزر تتغير مصائر وتولد مراحل جديدة، وفي هذا السياق تتحول الثقافة المكتوبة والمنطوقة إلى تعليق على السياسات القاتلة التي هي توأم للزلازل.

الطبيعة تقتل من دون عقل، فيما العقلُ البشري يوظّف نفسه في خدمة القتلة. إن نظرة فتاة مأسورة بين الأنقاض تخترقنا وتصل إلى تلك النقطة من تحللنا الإنساني ككائنات للتنوير، زعمت مرة أنهم امتداد لله.

  إننا الآن صفر ممتلئ بنفسه حتى التخمة وملغم في كل أطرافه وعلى وشك الانفجار وتفجير الكوكب. 

-١٥-

ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون لاعبون في فريق الخداع نفسه، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.  

-١٦-

مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.

-١٧- 

لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.

-١٨-

ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟ 

-١٩-

نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.

-٢٠- 

سكنتُ في غرف وشقق في دمشق كانت كلها على القائمة السوداء للزلازل. هزة خفيفة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فتخيلوا الأمر إذا حدثت هزة قوية. لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لامرئية في ريح الدمار.  نعيش حياتنا دوما على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء. 

-٢١-

لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وبالجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهتها وسياسيون يؤمنون بأن هدف السياسة هو خدمة الإنسان، وبأن توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم هي البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية. 

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.

أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”

 وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.

جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.

لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.

جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.

بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.

الناس لبعضها

ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.

ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.

ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.

حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.

إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.

وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”

أين المساعدات؟

اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.

وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.

ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”. 

وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.

تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.

قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.

وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.

ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.

وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.

وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.

تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.

بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.

ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.

وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.

وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس. 

وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.

في الأسباب

قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.

وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.

يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.

الوجود منبثقاً من أعماق العدم: تأويل أنثروبولوجي للبقاء حيّاً مدّةَ يوم في سوريا

الوجود منبثقاً من أعماق العدم: تأويل أنثروبولوجي للبقاء حيّاً مدّةَ يوم في سوريا

أستيقظُ في الساعة السادسة صباحاً حسب التوقيت السوريّ، وأنا أكاد أتجمّد من البرد، والشمس لم تشرق بعد، فعن أي صباح يتحدّثون؟ أبحث في العتم عن صنبور المياه لأغسل وجهي المتحجّب بطبقاتٍ من الظلمة لا نهاية لها، فأصل إليه متعرّفاً على موقعه بصعوبة، فالتيار الكهربائيّ مقطوع دائماً، وبطارية السيارة التي اشتريتها لأعتمد عليها في إضاءة محل سكني بعد تركيب وصلات ومصابيح عليها فارغة تماماً، وذابت آخر الشموع التي كانت عندي. وها أنا الآن أصبحتُ البصير –الضرير، إذ رغم امتلاكي لعينين حادتين أو لآلة باصرة –على حدّ تعبير الفلاسفة-إلا أني بدأت أتعلّم كيف أسلك سلوك الأعمى، وكان الأفضل منذ طفولتي أنَّ أسلك سلوك إنسان مثل أبي العلاء المعرّي، فهو لم يكن ليعلّمني فقط البقاء حيّاً على المستوى الفيزيولوجي في مثل هذه الظروف اللعينة؛ بل كان ليعلّمني أيضاً ألا أتحطّم على المستوى النفسيّ؛ لأنه يعرف كيف يدرّب العقل على مواجهةِ شناعة الحياة.

أصلُ إلى صنبور المياه، أتحسّسه ثم أفتحه، فأجد أنَّ حظي كان جيداً، لأنَّ المياه غير مقطوعة، تتدفق المياه، أضعُ يدي فيها، فيقشعرُ جسمي من شدّة برودتها، أقرّر التراجع، ثم أتردّد، فأقول في نفسي: لا بدّ من إزاحة غبار الظلمات عن وجهي فأخاطر بغسل رأسي ووجهي…أرتدي ملابسي، راقصاً، من هولِ البرد…أفتحُ باب منزلي وأخرج، في سِفْرِ خروجٍ لا خروج فيه… أقف على الرصيف منتظراً مرور أيّ وسيلة نقل…لا شيء …وفجأةً تمرّ سيارة أجرة…ألوِّح له بيدي …يقف سائقها…أسأله: كم تريد أجرة للوصول بي إلى مكان عملي…إنّه يبعد 16 كيلو متراً؟ أجاب: أريد خمسين ألف ليرة سورية…قلت له: إنَّ راتبي 150 ألفاً…فهل من المعقول أن تأخذ مني هذا المبلغ….شَخَرَ بسيارته وابتعد عني دون أن يتكلم كلمة…فَقَفلتُ راجعاً إلى منزلي، وجلست على الكرسي الخشبي واضعاً كفي الحائرة على ذقني وقارعاً سنّ نادمٍ على هذه الحياة المريرة التي اخترتُ أن أعيشها.
هذا ما قاله لي “محمد” الشاعر وأستاذ الأدب العربي حينما سألته عن أحواله؛ ولكن ربما كان “محمد” أقلّ صلابةً من غيره، نظراً إلى أنَّ مشاعره مرهفة بصفته شاعراً ولغويّاً.

غير أنّي حينما التقيتُ مع “عبد الله” الخرِّيج الجامعيّ وسألته عن أيامه، فقال لي: أنا أعمل الآن في سوق الهال في بيع الخضار…وهذا أفضل عمل استطعت أن أحصل عليه…وعندما سألته عن سبب عدم رغبته في الاستفادة من شهادته الجامعيّة. قال بسخرية مريرة: إنّ ما أُحصّله من مال في يوم واحد هنا يعادل الراتب الحكوميّ بناء على تعييني في وظيفة حسب شهادتي… الشهادة الجامعيّة أمر تافه وسخيف من الناحية الماديّة. وتابع قائلاً: لولا عملي في سوق الهال لتحطّمت حياتي كلّها، فقد استأجرت غرفة في إحدى العشوائيات بمبلغ قدره 200 ألف ليرة سورية، وأسكن فيها أنا وزوجتي وابني، فعملي في سوق الهال يسهّل عليّ الحصول على الطعام، فالخضار يعطيني إياها ربّ العمل كجزء من أجرتي عن عملي معه، وهنا أتعرّف على أناس جَيِّدين من جيراني في المحلات المجاورة، فيمكن أن أشتري اللحم والحبوب والمنظِّفات وإلى ما هنالك بأسعار مقبولة مقارنةً مع غيري، لأنه بسبب العمل في مكان واحد توجد مراعاة لي من قِبَلِ التُّجار. وبعد أن سألته عن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي. قال: لقد اعتدنا أن تكون لنا عيون خفافيش، ولكن من أجل زوجتي وابني اشتريت بطارية درّاجة نارية، ومددت لها أسلاكاً ومصابيحَ مناسبة، مع شاحِنٍ كهربائيٍّ لها، والأمور تسير على ما يرام…وحاولت أن أفهم منه كيف يؤمّن التدفئة في منزله….ضحك بأعلى صوته وقال: هذا أمر نسيه الناس كلّهم، لقد بلغ سعر ليتر المازوت عشرة آلاف ليرة سورية في السوق السوداء، ولا يمكن لنا أن نشتريه إطلاقاً!! نحن نضع علينا فوق اللباس السميك أغطيةً تحمينا من البرد، ونبقى أياماً طويلة غير قادرين على الطبخ أو شرب أي مشروب ساخن، لأنَّ أسطوانات الغاز مفقودة، وننتظر دورنا أحياناً للحصول على أسطوانة غاز شهرين أو ثلاثة أشهر…وليس أمامنا أي حلّ، إلا أنه كنت قد اقتنيتُ أسطوانة غاز من الحجم الصغير يمكن تركيب قاعدة لشعلة اللهب عليها وأحياناً عندما يتوافر معي مال زائد أقوم بتعبئتها من أجل الطبخ؛ أما إذا لم يتوافر معي المال، فلا حول ولا قوة إلا بالله…ثم سألته: ماذا بالنسبة إلى الثياب والأحذية كيف تؤمّن لعائلتك هذا النوع من المتطلبات؟ فقال: عليك بـ”البالةِ” يا صديقي ففيها ألبسة أوروبية من أجود الأنواع، ولا يهم إن كان أصحابها الأصليون موتى أو أحياء، مرضى أو أصحّاء، فنحن نغسلها ونلبسها..

أما محمود وهو مزارع قويّ شديد البأس، فجاء كلامه غريباً عندما سألته عن طريقة تدبيره لأحواله المعاشية. قال: أنا أعيش في قرية جبلية عالية جداً، والبرد هناك شديد جداً يكاد يفتك بالمرء، ولذلك أذهب قبل حلول الشتاء إلى الأحراش المجاورة لقريتي وأحفر في الأرض بحثاً عن جذور الأشجار، لأنه لم تبق جذوع وأغصان أشجار على الإطلاق، إذ بسبب حاجة الناس إلى التدفئة تم القضاء على غابات بأكملها. المهم أني أحفر بحثاً عن الجذور العميقة للأشجار مدة طويلة حتى أجمع ما أستطيع جمعه وأقوم بتخزينه من أجل برد الشتاء. كما أقوم بزراعة قطعة الأرض الصغيرة قرب منزلي في الصيف بأنواع مختلفة من الخضار، وتقوم زوجتي بتخزين ما يمكن تخزينه منها بعد تعريضه لأشعة الشمس. وقد قمتُ بتربية الدجاج في “قُنٍّ” قربَ منزلي، فيمكن أن أحصل على اللحم والبيض في بعض الأحيان وليس دائماً. ويهمني أن أخبرك عن أمرٍ هو أنني أذهب في موسم صيد الأسماك إلى بعض سدود المياه القريبة من قريتي، واصطاد ما أقدر عليه من أسماك وأقوم ببيعها للناس في قريتي، لأنهم غير قادرين على شراء لحم الدجاج والضأن والأبقار، وهكذا أحصل على بعض الدَّخل الماديِّ. كما أنني أذهب في موسم قطاف الزيتون إلى بعض القرى لأعمل عند بعض مالكي أشجار الزيتون، فأحصل على ما يكفيني من ثمار الزيتون والزيت كأجرة لي على عملي في قطاف الزيتون…وإذا توقفت عن العمل بهذه الطريقة سأعجز تماماً عن الاستمرار في الحياة…

أما “شادي” وهو طالب جامعيّ، فقد أخبرني أنه متزوج وعنده ثلاثة أبناء، وهو يعيل أمه، بسبب موت والده…أشار إلى ثيابه وقال لي: انظرْ هل هذا لباس يليق بإنسان؟ إني أعمل، ليلاً ونهاراً، من أجل الصمود في الحياة، فأنا الآن ملتزم بالعمل في “كشك” على الشارع وأبقى موجوداً فيه طوال الليل، أبيع للعابرين التبغ والكحول وإلى ما هنالك. وأعمل في النهار في “العتالة”. نعم أذهب إلى أي مكان فيه هذا النوع من الأعمال، وأحمل على ظهري الأشياء الثقيلة من مختلف الأنواع من أفران وبرادات وغسالات…وما إن أنتهي من العمل في “العتالة” وألبث قليلاً في المنزل حتى يأتي موعد ذهابي إلى الكشك؛ غير أني أكون سعيداً لأنَّ زوجتي قادرة على طبخ وجبات مقبولة وهي تعطي لأمي حصتها منها كلّ يوم…وتابع قائلاً: ماذا في مقدوري أن أفعل أكثر من ذلك؟ إني أفعل كلّ ما في وسعي من أجل البقاء حيّاً مع أمي وزوجتي وأبنائي…ولكن كلّ ما أجنيه من مال لا يسد الرمق، فالأسعار مرتفعة جداً ولا يمكن الاستمرار على هذا النحو…إنَّ الفقر ينخر في عظامي وروحي…وهناك أناس يقبعون في شققهم الفاخرة مثل الرخويات في قواقعها دون أن يكترثوا بمعاناة الناس.

ودّعت شادي ودخلت في صمت عميق، متفكِّراً في هول المعاناة التي يمرّ فيها السوريون، ولكن يمكن هنا أن نكتشفَ بنيةً عميقةً ومباطنةً موجودةً في الإنسان بصفته إنساناً، وليس في الإنسان السوريّ وحدَه، وهي أنَّ الرجوع إلى “البدائيّة” بالمعنى الأنثروبولوجيّ قد يصبحُ حلّاً لمشكلة الإنسان في أزماتٍ معيّنة، أي أنَّ الإنسان السوريّ هنا في أزمته عاد إلى مواجهة الطبيعة بأساليب بدائية ولكن مبتكرة، عوضاً عمّا خسره من تقنيات حضارية حديثة، ولذلك تحوّل الإنسان السوريّ من تحديد هربرت ماركيوز للإنسان، بصفته ذا بُعدٍ واحد، ويقصد منه البُعد الاستهلاكيّ في المجتمعات الصناعية الأوروبيّة التي تمَّ تصديرها في نسخ مشوّهة إلى عالمنا العربيّ، إلى الإنسان الذي يمتلك “فكراً بريّاً” على حدّ تعبير كلود ليفي ستراوس؛ ولكن الفكر البريّ هنا هو فكر أعمق مما حدّده ستراوس نفسه، فهو ليس فكر القبائل البدائية القائم على الأسطورة والسحر والوثنية وطقوس الصيد في المجتمعات الأوليّةِ على نحو يكوِّن بنيةً ثقافيّة مخصوصة تضاهي، إنسانيّاً، في رأي ستراوس بنيات المجتمعات الأوروبية المعاصرة؛ بل أصبح الفكر البريّ هنا في سوريا محاولة لإعادة تجديد الذات في ظروف أشدّ صعوبة من الظروف التي يمرّ فيها البشر البدائيون، فما تزال، مثلاً في الأمازون، الأراضي والمياه والهواء تعجّ بأنواع متعددة من الحيوانات والأسماك والطيور، وبكلمة بالنسبة لقبائل الأمازون البدائيّة توجد عندهم المصادر الأساسية للحياة، لأنهم لم يعتادوا على أنماط الحياة الحديثة، لذلك هم متكيّفون تماماً مع واقعهم.
أما الإنسان السوريّ، فإنّه فَقَدَ وسائل الاستمرار الحديثة من أجل البقاء، ولا توجد حوله طبيعة غنيّة بأسباب الحياة. من هنا أصبح الإنسان السوريّ نوعاً جديداً غير الإنسان الأوروبي المعاصر وغير الإنسان البدائي. إنّه مزيج من كليهما، ولذلك لا بدّ من أن ينبثق من أعماقه ما يسمّيه نيتشه “الإنسان الأعلى” من أجل تغيير هذا الواقع الشائن، هذا الواقع الذي يتجه بكلّ قواه إلى تحويل شعب ابتكر للعالم أول أبجدية في التاريخ إلى شعب بدائي يعيش في “مجتمعات غير كتابية”، على حدّ تعبير ستراوس نفسه.

ملف حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين”

ملف حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين”

تُعنى مجلة صالون سوريا الإلكترونيّة في الوقت الراهن بإعداد ملفّ يتناول حياة السوريين اليوميّة، ويتكوّن هذا الملف من موادّ صحافيّة يقدّمها باحثون من مختلف الاختصاصات، وستكون المنهجيّة المُعتمدة ذات أبعاد ميدانية استقصائيّة من أجل استطلاع آراء عينات من الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية؛ ذلك من أجل الكشف عن آليات مقاومة الظروف القاهرة من انقطاع للتيار الكهربائي أكثر من عشرين ساعة في اليوم في غالبية أنحاء سوريا، والنقص الكبير في مياه الشرب، وتوقّف المواصلات بسبب فقدان الوقود، والنضوب الشديد في المحروقات، ومعاناة سوء التغذية، والتعرّض للبرد القارص، وغياب الخدمات الطبيّة والصحيّة، وإلى ما هنالك من ظروف لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً؛ إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

أصبح الإنسان السوريّ ضحية لحصارين: داخلي وخارجيّ؛ غير أنه استطاع التكيُّف مع أوضاع لا يمكن أن يوجد ما هو أسوأ منها في العالم الآن، من هنا جاءت المواد الصحافية من أجل التعمّق في فهم كفاح شعب بأكمله من أجل الانبعاث من الرماد، ولذلك جاءت محاور الملف على النحو الآتي:

أولاً-استقصاء آراء عينات من المجتمع السوري في أسباب معاناتهم الدامية أكثر من عقد من الزمان؛
ثانياً-استطلاع وجهات النظر فيما يتعلّق بابتكار أساليب إنقاذية للحياة على مستويات مختلفة؛
ثالثاً-البحث عن تحديد خطر التأثيرات النفسية المرضية في الأطفال بسبب قسوة الظروف الحياتيّة: التوحّد-السايكوباتية-النرجسيّة-اضطراب الشخصيّة الحدّيّة وإلى ما هنالك؛
رابعاً-اكتشاف طرق تأمين الطعام والشراب والعلاج والتدفئة والنظافة الشخصيّة والعامة، وكل ما يتصل بالحياة اليومية؛
خامساً-دراسة الواقع التربويّ بأبعاده المختلفة؛
سادساً-تحليل سوية التعليم الجامعي بمرحلتيه الدنيا (الإجازة) والعليا (ماجستير ودكتوراه).
سابعاً-البحث في واقع العمال والفلاحين والحرفيين؛
أخيراً-استقصاء آراء العاطلين عن العمل.

عناوين المواد المنشورة ضمن الملف:

أن تعيش في هذا الموات: السويداء المُهَمَّشة

نهر عيشة.. حياة مزدحمة بالفقر والصّبر!

دمشق: أزمات متواصلة وحلول غريبة للبقاء على قيد الحياة

عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام

حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع

عن مقاومة العجز اليومي في ريف حماه