عشوائيات دمشق… صناديق الفقراء والمثقفين

عشوائيات دمشق… صناديق الفقراء والمثقفين

بلوكات تشكل صناديق مربعة أو مستطيلة تطل من كل الاتجاهات على دمشق. تختلف في البعد، لكنها تشكل طوقاً حولها. هذه الأضلع المتشابهة من البلوكات ليست حكراً على الفقراء فقط، في منازلها العشوائية وعلى أدراجها التي يعجز عن تصميمها أهم المهندسين تعيش نُخب ثقافية من كتّاب وكاتبات، مهندسين/ات، أطباء وطبيبات، وأساتذة جامعة، وصحفيين /ات، يصعدون كل يوم مئات الأدراج للوصول إلى منازلهم، أو ربما كان حظ أحدهم عظيم فاستطاع أن يهرب من حفرةٍ ولم يقع بها منتصف أو طرف الطريق. هنا الجميع متساوون في الحقوق، حق صعود الأدراج، وحق المرور أو ربما العيش بجانب خزانات كهرباء مفتوحة دائماً، وحق أن يشارك الجار جاره حتى بغرفة النوم بسبب انعدام المساحات الآمنة للعيش والحياة، نعم في عشوائيات سوريات لا يعيش الفقراء فقط، بل للنُخب حياةٌ في صناديق العشوائيات.

أحزمة البؤس!
“ماشفت حالي هون”، هكذا عبر فادي (38 عاماً) وهو أحد النحاتين الشباب عند سؤاله عن عدم سكنه في عشوائيات حي المزة بحكم تواجد الكثير من أبناء منطقته في المكان، ربما أتاحت له ظروفه الاقتصادية أن يرقى بفنه خارج جدران حارات لا تدخلها الشمس إلا قليلاً، بينما يرفض الكاتب ناظم مهنا تسمية “النخب”، ويشير أن العيش ضمن أسوار أحزمة البؤس (العشوائيات) حول المدن ليس اختيارا،ً إنما وجدت هذه الأحزمة كي تستوعب الفقراء الذين لا يستطيعون السكن الا بمثل هذه الأماكن. تجمع هذه الأحياء المتناقضات من فقراء وغير فقراء، متعلمين وغير متعلمين، فيها الشعراء والفنانين والكتاب، كل هؤلاء يعيشون في مكان غير لائق وغير إنساني على حد تعبيره. ويسأل: ” ماذا لو شُيدت هذه المنازل على ذات المساحة المشغولة والحافلة بالتناقضات بطريقة لائقة؟”.
توافق المحامية زينة إبراهيم كلام الكاتب، وتشير أنّ من يعيش في هذه المنطقة لديه رضا مبطن بالألم. ألم المعاناة اليومية من طرقات سيئة، ومنازل بدون شكل، و “كل ما يفعله الناس هنا، أن الجميع يستيقظ على مشاهد التلوث البصري في العمران”، وما يوحد الناس هنا أيضاً هو الحلم بمنزل لائق للعيش، دون الشعور أن كل جار يجلس مع جاره ويشاركه حتى غرفة النوم والمطبخ، منزلٌ يفضل بين الجيران جدران ومساحة آمنة.

ملك..الحمد لله!
تشكر المعلمة نجوى ( 40 عاماً) الرب أن لديها صندوقاً لا تدخله الشمس، تسكن به مع أسرتها، يقع على أحد أدراج “المزة 86” غرب دمشق، وتتعايش مع المجتمع بكل تفاصيل الحياة من جيران وسكان جدد عابرين ومستقرين في الحي، لكن تتحدث لـ “صالون سوريا” ضاحكة بمفارقة صباحية تعيش بها، وتقول، ان الآنسات في المدرسة التي تعلم بها يتحدثن عن النوادي الرياضية التي يرتادونها، وتفضل أن تبعد أبناءها عن الاختلاط مع الأقران في الشوارع، بسبب الخوف من سلوكيات لاحظتها عند الأطفال.
وفي الحديث عن تفاصيل الحياة في هذه العشوائيات التي تحمل فوق طرقاتها الوعرة ومنازلها الكرتونية، لا تختلف عن أي حي آخر سوى الضجيج الذي يعيق هدوءَ الحال لبعض الناس، حيث يتابع الكاتب مهنا أن الإنسان “مضطر للتكيف مع الأمر الواقع هنا”، أي في العشوائيات “ضجيج وزحام وفوضى شاملة، والسكن أيضاً بلا إيجابيات إلا كمأوى، لكن في هذه الأحياء يوجد أثرياء سعداء، وتفاصيل حياتي في السكن كشخص يكتب ويقرا الكتب ويلتقي بأشباهه لا تختلف كثيرا عما لو كنت في حي اخر، هذا العالم المحيط بي أشبه بعالم الحشر أو الجحيم حسب تعبيره، ولا يعتقد أن أحلام الخروج من هذا الآتون سوف تتحقق”.

منزل الأحلام!
تسند المحامية زينة رأسها على شباك “السرفيس” الذي يعود بها بعد عراك يومي مع الحياة إلى العشوائيات، وتحلم بمنزل في حي منظم، يعيش فيه طبقات متوسطة من الناس، تستطيع أن تستيقظ فيه دون صوت جارة تسلل عبر البلوكات العشوائية إلى غرفة نومي. تشاركها الصحافية حسناء (30 عاماً) بنفس الحلم، اي “غرفة وصالة خارج حدود العشوائيات:ـ لكن تقول أنه لسوء حظ هذه المهنة أنها تقوم على آلام الناس.
وتعتقد حسناء أن هذا المكان مليء بالقصص التي تخدم الدراما والمواد الصحفية “فيمكن أن يموت بعض الأطفال هنا في حفرةٍ للصرف الصحي إذا قرر اللعب بالشارع دون انتباه، وهنا أيضاً مات الناس يوم خفست بهم الأرض من عامين، وفي هذه المنطقة حيث هبطت الأرض والمنازل يعيش فقراء ومثقفون ونخب أيضاً”. ورغم كل ذلك لاتزال حسناء وزينة تحلمان بالخروج من صناديق البلوك، بعكس السيد ناظم الذي انعدم حلمه في العيش خارجها لصعوبة الواقع. ربما كان الكاتب الذي يحيك روايات وقصصاً واقعياً بحبكته أكثر من صحفية تنقل معاناةٍ خدمية يومية للناس، ومحامية تنتظر حكماً قضائياً لطفل حاول سرقةَ جارته يوماً في ذات الأحياء.

موقف قاس
لا يمر يوم مع أي مواطن دون حصول موقفٍ أو حادثة تعلمه دراساً يجعله يشعر إما بالرضى أو الحزن، وأحياناً يجعله يسأل أسئلة وجودية يحاور بها الرب؟ وكيف إذا كان يعيش في العشوائيات؟
تتذكر الصحافية أن أقسى موقف وضعت به يوم طافت الشوارع في منطقة “المزة 86” وبقيت ساعة ونصف تنتظر كي تصل بيتها رغم أن قطع مسافة الوصول لم تكن يتجاوز الخمس دقائق، وسألت الرب يومها لماذا تعيش هنا؟
وعاشت زينة في ذات الموقف ووجدت حلولاً بديلا كحمل حذائين مثلاً أحدهما للعمل وأحدهما للعشوائيات، لكن من أصعب المواقف التي أحياناً تلعن حظها عليها، وبعدها تحمد الله، عندما تحمل أسطوانة الغاز وتتسلق بها أدراج منزلها المرتفعة.
بين هذه البلوكات التي ترتفع أسعارها شراء وأجاراً شهرا بعد شهر، يقرأ الساكن والمتابع عن كثب كل حكايا المتناقضات بحبكات واقعية، تختلط فيها كل حياة الفقر والثراء والحب وحرب الحياة، تتجاور الهموم بنوافذَ تطلُ على بعضها، تنقل للجار حديثاً عابراً لجاره؟ بين كل هذه البلوكات تعيش بعض النُخب السورية، وتصدر الكثير من المؤلفات والمواد الصحفية والوصفات الطبية وينجخ الطعن بقرارات محكمية.

السوريون و “رحلة الموت” الى بيلاروسيا… بحثاً عن الحياة

السوريون و “رحلة الموت” الى بيلاروسيا… بحثاً عن الحياة

“لن تصدق، هي رحلة إلى الموت حرفياً”، يقول عامر وهو اسم مستعار لناشط سوري تحدث لـ “صالون سوريا” عن رحلته إلى أوروبا عبر بيلاروسيا. الناشط المعروف في مدينته رفض الكشف عن اسمه، لما أسماه تخوفاً من السلطات الألمانية التي وصل بلدها أخيراً. وقال: “خمسة عشر يوماً، لن أنساهم ما حييت”. لا شك، انه لا يرغب الخوض في التفاصيل الدقيقة، فالشاب الواصل حديثاً إلى ألمانياً يقول إنّ السلطات هناك ستسحب الهواتف منهم لبضعة أيام كإجراءات احترازية وروتينية في ذات الوقت.
يقول عامر بأنّ رحلته إلى ألمانياً كانت محفوفة بالمخاطر والمجازفات، واصفاً إياها بالأهوال. خلال الحديث معه، سرعان ما راح يشرح سبب سفره، متناسياً لوهلة عناء ما كابده حتى وصل، ذلك أنّ السوريّ ما كان ليسافر لولا أنّه ضاق ذرعاً بما يحصل حوله، ولكلّ مهاجر أسبابه المقنعة.
“صالون سوريا” خاطبه خلال الحديث الالكتروني عبر أحد وسائل التواصل الاجتماعي بـ”الاستاذ”، ليحتد عامر ويجيب بكلمات غاضبة: “لا أستاذ ولا طالب. الوضع كان صعبا، وصار في كتير ضغط عليّ، واضح أنه اللي بيشتغل نظامي بيطحنوه وبيحرقوه، وفي أفضل الأحوال يقصوه ويحطوه على الهامش”. لم يشرح الناشط أيّ نوع من الضغط يقصد، ولكنه استطرد: “ضيعت عشر سنين من عمري في سوريا”.
يؤكد الآن أنّه في أفضل حال: “وصلت من أيام إلى ألمانيا. الآن ولدت من جديد”. ويضيف: “اليوم حددوا لنا مقابلة بعد خمسة أيام، لا زلت في الكامب، اليوم وضعوا الأرقام والأسماء، طبعاً هناك عدة لقاءات، من أجل اللقاح، ومعاينة طبيب، وأشياء أخرى، وقد تتطلب الأمور نحو شهرين، قبل الاستقرار، لذا يظلّ الواصل خائفاً هذه الفترة، فمن الممكن أن تتعقد الأمور، أو أن تمرّ بخير وسهولة”، يتعمد عامر أنّ يهرب من تفاصيل مرّ بها في الفترة الأخيرة، ربما هي نشوة الفرح بالوصول، وربما هو الحلم ببداية حياة جديدة لا ذكرى فيها لأيّ حزن مرّ، وقد يتفق ذلك الطرح مع ملهم الجاني وهو مهندس آخر قد وصل ألمانيا بذات الطريقة، يقول باقتضاب ل”صالون سوري”، “وصلت وفقط، ليكن الله بعون العالقين هناك”.
يبدو حال عامر وملهم أفضل من آلاف العالقين في العراء، في البرد، في مواجهة مصير غامض حتى الآن على الحدود البيلاروسية. لكنّهما بحظ السوري، وللسوري حظ واضح، إذ أنّه من نجا من الموت لعشرة أعوام، لا شك يملك من الحظ الكثير، من لم يمت هنا، اختار، بعضهم على الأقل، تجربة فرصة النجاة والمقامرة على الموت، على حدود دولة، كثرٌ منهم، وربما معظمهم، لم يكن يعرف مكانها أو حدودها على الخريطة، قبل عشرة أعوام وبضع.
وقبل عشرة أعوام، كان بلدهم يتصدر قائمة الدول الأكثر أمناً على الخارطة، أما اليوم وبكل بساطة فإنّه يتذيل قائمة الدول الآمنة، وعلاوةً على ذلك، ليس أصعبّ من أن يجد السوريّ نفسه لاجئاً داخل بلده، ونازحاً، ومعدماً، وفقيراً، وغريباً.

تفاصيل اليوم
تواصل “صالون سوريا” خلال الأيام الحالية مع عدد من العالقين على الحدود البيلاروسية – البولندية، أكدّوا أنّ الوضع يفوق الخيال. مأساويٌّ للغاية، وفي ذات الوقت فإنّ البيلاروسيين والبولنديين أيضاً، لم يقصروا في هذا الإطار، يحاولون تأمين الأغطية وشيء من التدفئة البسيطة، وكذلك مدّ العالقين بالأخشاب الناشفة لاستخدامها في التدفئة، وهذا الخشب سريع الاشتعال، يستخدمه العالقون للتدفئة طوال الليل، في ظل درجات حرارةً باردة جداً، وآخذة بالتناقص في هذه الفترة من العام.
مازن (34 عاما) واحدٌ من العالقين هناك، يقول: “ننتظر أن يكون هناك حل من الجانب الأوروبي لاستقبالنا، نحن نتجمد هنا، وقد نموت من قلة الغذاء والبرد إذا طال وقت مكوثنا القسري”.
ويشترك الجميع، العالقون والواصلون، في مخافة إرسال صور ومقاطع فيديو توثق وجودهم وأوجههم، خشية أي طارئ غير محتمل.

الرحلة
“صالون سوريا” تتبع خط سير رحلة السوريين التي تبدأ من مطار دمشق الدولي، بحجز رحلة إلى دولة بيلاروسيا، تحديداً إلى العاصمة مينسك، ومن هناك باتجاه الحدود البيلاروسية – البولندية وهناك منطقتان حدوديتان مستهدفتان، منطقة بريست، ومنطقة هيلدونا، هناك يوجد مثلث حدودي بين ليتوانيا وبيلاروسيا وبولندا، ومن جهة الجنوب أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا، ومن مينسك يستقل السوري سيارة تكسي توصله إلى غابة تحاذي السياج البيلاروسي.
المنطقة العازلة بين بيلاروسيا وبولندا تمتد بنحو 450 كيلو متر، وعلى طول هذه الحدود تنتشر حواجز أمنية، أحياناً يكون بين الحاجز والآخر عشرات الكيلومترات، وأحياناً عشرات الأمتار، على حسب وصف دقيق قدمه عالقون هناك لـ “صالون سوري”، فضلاً عن الأنهار والسواقي والمستنقعات والغابات الكثيفة التي يواجه المهاجرون خطر الضياع فيها في حال لم يمتلكوا دليلاً محلياً مرافقاً أو خدمة gps، لذا فإنّ هذه الرحلة محفوفة بالمخاطر.

المهاجرون
بعد قرار الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشنكو السماح للمهاجرين بعبور أرضه بدأت موجة كبيرة جداً بالتدفق إلى الحدود عبر دولته، ولم يكن هؤلاء المهاجرون من حملة الجنسية السورية فقط، بل إلى جانبهم عراقيون ويمنيون وصوماليون وجيبوتيون وسودانيون وأفارقة وآسيويون آخرون، فباتت بيلاروسيا تحتضن الناس من كل حدب وصوب، وبين كل أولئك الأكثر هم السوريون والعراقيون واليمنيون.
مصدر في أوروبا أشار لـ “صالون سوري” أنّ المهاجرين ليسوا أفراداً فقط، بل يتميز هؤلاء المهاجرون، بأنّهم أسر بأكملها، بمن فيهم من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، ويلاحظ ذلك بشكل جليّ في العوائل العراقية على وجه الخصوص. وأوضح أنّ وصول المهاجرين إلى المنطقة الحدودية يجعلهم خارج القانون، وبالتالي لا يمكن لهم العودة من حيث جاؤوا، حيث انّهم دخلوا بيلاروسيا بطريقة شرعية، لكنهم اتجهوا إلى حدودها بطريقة غير شرعية، والجيد أنّ البولنديين يتعاملون بشيء من الإنسانية مع العالقين، البولنديون يسيرون سيارات ليلية بمكبرات صوت تقول: “أنتم المهاجرون القادمون من جنسيات متعددة، أنتم جئتم بطريقة غير شرعية، كان عليكم الحصول على فيزا من بلدك، أو القنصليات المتواجدة في البلدان القريبة منك”.
البولنديون حذوا حذو البيلاروسيين في تقديم الماء والخبز والأخشاب وبعض وسائل التدفئة إلى المهاجرين، البيلاروس بشكل مباشر، والبلونديون من فوق السياج عبر رميها للعالقين.

قليل من كثير
كثير من التفاصيل التي قد يبدو لا حصر لها يمكن كتابتها عن المهاجرين العالقين على حدود بولندا، إلّا أنهم وباختلاف مشاربهم لا شك كانوا ضحايا، مرة ضحايا الحرب، ومرة ضحايا الاستثمار السياسي البيلاروسي.
يبقى أنّ كل ما ورد من معلومات في هذه المادة، على كثرتها أو قلتها، هي بعض من مأساة بشر يدفعون ثمن حروب بلادهم، عالقون تحت المطر وفي أشد ظروف الطقس برودة، ومع شبه انعدام لموارد الماء والغذاء الكافيين، لذا، فكل ما رود هنا، هو جزء يسير من شهادات أناس لا زالوا عالقين، أو آخرون حالفهم الحظ ووصلوا البرد الأوروبي.
كل ما ورد هنا هو روايات انسانية لا سياسية جاءت على لسان المهاجرين، مهاجرون كل همهم أن يصلوا بلداً جديداً ليحيوا حياةً جديدة لا خوف فيها ولا قتل ولا دماء.. ولا جوع أو فقر.

حرائق تبدل وجه دمشق

حرائق تبدل وجه دمشق

على وقع ألسنة النار المتصاعدة، كان الخبر يتصاعد ويتسع: “حريق في زقاق المحكمة”. أعمدة خشبية عريقة تأكلها النار، تسقط قطعا متفرقة. كان موتها مضاعفا. احتراق، فسقوط ينهي عمرها الذي عاشته متصلة ببعضها وكاملة من جدار إلى جدار. وصلت الأخبار، انه “ماس كهربائي”، اشتعل في أحد المحال وانتقل إلى خمسة أخرى. وفاة عامل إطفاء، وثلاثة من الباعة وأصحاب المحال في المشفى.
رتابة الخبر، واعتياد توارد الأخبار السيئة في ظل وضع عام غير مستقر ينذر دوما بالأخطار، لا تخفف من فداحة المشهد في اليوم التالي، محال الزقاق كلها مفتوحة. اعتاد “الشوام” على ملاحقة أرزاقهم حتى وسط الحرائق. في مقدمة السوق، حطب محترق، بات بلا هوية وبلا تاريخ. رائحة الحريق تعبق في المكان، ثلاثة محلات فارغة من بضاعتها. محلان مغلقان ومحل يرتب أصحابه وعماله القماش من جديد. يبدو أنهم لم يناموا ليلهم، بقوا هنا لتنظيف المحل والرفوف وإعادة ترتيب الأقمشة عليها. نظرة إلى الأعلى، تلسعك قشعريرة مؤلمة، السقائف المليئة بالبضائع بلا سقف، بلا بضاعة، بلا رائحة التخزين والنفتلين. يبدو أنها قد فارقت الحياة دونما رجعة.

لامكان للفرح
أغلب المحال في زقاق المحكمة، ملك لعائلة واحدة، تتكرر الكنية على واجهات المحال، كلهم أخوة وأبناء عمومة. ويعتبر زقاق المحكمة سوقا موازيا لـ “سوق الحرير”، و “سوق تفضلي يا ست” أو “خان الجمرك” و “سوق الصوف”، لكنه يختص ببيع أقمشة البرلون والتنتنة والريكامو المطرز والنايلون السميك والرقيق وكلف قمصان النوم وقمصان النايلون الداخلية النسائية الطويلة والتفريعات. وتتواجد فيه بعض الورش الصغيرة لصناعة الجوارب المنوعة والمصنوعة من القطن أو القطن الممزوج أو من الأقمشة التركيبية، لكنه يصنف على أنه “سوق الدراويش”، سوق الأقمشة الأقل سعرا وربما بنفس الجودة، لكن لكل سوق زبائنه.
في سنوات الحرب تراجعت مبيعات تجار السوق بشدة، وتراجع الإقبال على السوق بفعل توقف مناسبات الأفراح ونزوح البعض وحصار البعض الآخر. وبسبب هجرة وغياب الفنيين مثل معلم الحبكة ومعلم القص والدرزة الخاصة بهذه الصناعة التقليدية والمميزة، وبسبب طبيعة الأقمشة المستعملة والتي تتطلب حياكة حرفية وأدوات وصنعة خاصة، أضاف الباعة أصنافا جديدة إلى تجارتهم لجذب جمهور جديد من الزبائن، مثل الأقمشة الرخيصة والتي تشترى بالكيلو أو بالبالة أي بالحاوية، وتحتوي على مزيج من أنواع الأقمشة للفساتين والسراويل والسترات والستائر وكلف المعاطف والتنانير والقمصان، كما أضاف منتجو وباعة الجوارب بضائع جديدة إلى محالهم مثل القبعات الصوفية والشالات، لتعويض نقص الطلب على بضائعهم بسبب قلة الزبائن وبسبب نقص السيولة.
داهم البكاء سيدة تعمل خيّاطة فور دخولها إلى السوق، كانت على موعد مع أبي معتز البائع الذي وعدها بإحضار كلفة جميلة وجديدة لتفريعات العرائس التي دخلت حديثا على خط الخياطة المنزلية لارتفاع أسعارها جاهزة، كان محل أبا معتز محترقا بأكمله.
عبرت النساء عن تعاطفهن مع الباعة بعبارات: “الله يجبر كسركم، والله يعوض، والحمد لله على سلامتكم”. كان الجميع مكسورا وقلقا، أحد الباعة قال لسيدة عاندته في سعر بضعة أمتار من القماش: “اليوم في! بكرا الله يعلم”. أكثر من سيدة قالت له: “طول بالك”، فأجاب: “كلنا تحت ألطاف الله”، عشرات الألسن أجابت: “الله يتلطف!”. حوارية مسكونة بالوجع والود، خوف وحسرة وإصرار على الشراء والمضي بالحياة في كل تفاصيلها، ترقبا لساعة فرح أو حزن لا فرق، طالما تعاضد السوريون والسوريات فيما بينهم بسردية معممة، إيمانية، ومجبولة بالمحبة والمساندة، حتى لو بالكلمات والأدعية.

فتى يسأل
فتى في الرابعة عشرة من عمره، يسأل عن نوع محدد من قماش تول أسود، يفرد القماش على كف يده ويتفحصه بدقة، ويجيب بأنه يريد نوعا آخر. والدته خياطة، ترسله للتسوق بدلا عنها توفيرا في الوقت وكسبا لراحة نسبية، يقول للبائع: “”هذا تول خشن”، ولآخر بأنه “تول مفرّغ جدا”. ويقول لثالث بائع بأن ما لديه من تول “يتمزق بسرعة”. يبدو أنه قد اكتسب خبرة من والدته، يظنه أحد الباعة خياطا، فيجيب، بأنه لا يحب الخياطة أبدا، وسيصبح لاعب كرة سلة، ولكنه لا ينسى بأن يقول لهم: بأنه ممتن لأمه ومهنتها التي تعينهم على حياتهم القاسية، ويؤكد بأنها تتكفل بكل تكاليف عيشهم .
في زقاق المحكمة ازدحام كبير، سيدة تطلب وصلة لتنورة، يجيبها صاحب المحل بأن ما لديه من قماش لونه أكثر اسودادا من لون تنورتها. يجيبها بكل أمانة قائلا: “سيبرز الفرق واضحا بين اللونين”. تتحاور السيدة مع خياطة موجودة في نفس المحل، تقترح عليها وصل التنورة من الأعلى، حيث لن يظهر الفرق في اللونين بعد تغطيته بالكنزة. توافق السيدة على مقترح الخياطة، فيعاود البائع تقديم نصيحة جديدة قائلا: “البسي فوق التنورة قميصا طويلا، تضمنين حينها عدم ظهور أي فرق بدرجة اللون، وتمنحين التنورة قيمة أكبر”. وافقت السيدة ممتنة للبائع، واشترت ما يكفيها للوصلة.
ثمة تعاقد مألوف ومتكرر ما بين الباعة والزبائن وخاصة الزبونات الدائمات والخياطات، تعاقد يرحب بالنصيحة ويثمنها عاليا، وقد يصل في بعض الحالات لأن يقوم بائع بإرشاد بعض السيدات إلى خياطة محددة بالاسم والعنوان، إما لمهارتها بالشك أو قصات فساتين السهرة مثلا، أو لبساطة أجرها، أو لأنها مقطوعة وتحتاج دعما، كل التبدلات واردة، إلا تلك العروة الوثقى ما بين مستفيدين اثنين، اجتمعا على المودة والرغبة بالدعم، كل من موقعه.

تاجر وكأس شاي
يتجمع خمسة من تجار السوق على إحدى الزوايا، يشربون الشاي، يقول أولهم: ” أنا متأكد بأن فلانا (ويقصد أحد الباعة الذين احترق محله) لن يعود أبدا إلى السوق”. ويقول آخر بأنه قلق على سلامة بائع متضرر آخر: “من أسبوعين أجرى عملية قسطرة قلبية، أتمنى أن ينجو قلبه من هذه المحنة”.
يُجمع الباعة والزبائن على أن كل شيء يتبدل بقوة وخارج المتوقع. الجميع يشير إلى أن حجم التبدلات أكبر من قدرة الناس باعة وزبائن على تحملها أو تصديقها.
في بلد الحرائق، قد يقول البعض: ” إن ما بعد حريق زقاق المحكمة ليس كما قبله”. لكن حريقا جديدا قد يطوي صفحة الحريق الذي بات قديما، ليعبث بالحياة من جديد.
الخسارات كبيرة وفرص التعويض معدومة، والتعاضد والتكافل المادي بات عملة قديمة لا قوة فعلية لها اليوم، لأن أسسه ضعيفة جدا وتكاد أن تكون مستحيلة، بسبب العجز المتراكم للأفراد وبسبب غياب الحماية والتعويضات وغياب برامج التأمين والمساندة بتعويضات فورية أو متدرجة، عبر غرفة التجارة أو النقابات أو المؤسسات.
تقول زبونة دائمة لأحد المحال، بعد أن هالها ما رأته من خراب: “ميت لا يجر ميت”. يصمت البائع، بانفعال بالغ ويجيبها: “كلنا موتى”.
على بعد دكانين من مركز الحريق، يعتذر أحد الباعة من سيدة تطلب قماش بطانة، يقول لها نحتاج عشرة أيام لمعاودة البيع، ترجوه: “عرس ابني بعد أسبوع والخياطة طلبت مترا إضافيا”. يكرر اعتذاره ولكن بغضب، ويقول: “لم نصحُ من صدمتنا بعد، نحن عدة شركاء وعلينا جرد البضاعة وإحصاء كل ما خسرناه وكل ما تبقى من البضائع كي نصفي الذمم المالية”. ترحل المرأة صامتة دون أي رد. يعود الشاب إلى عمله وهو يقول، لفتى يمسك ورقة وقلما، سجّل: “ثلاث أثواب بطانة سميكة لمّيع عرضين”.
دمشق 30 أيلول 2021

رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحل امس “عمود الطرب العربي الاصيل”، صباح فخري، عمر ناهز 88 سنة، امضاها في الغناء والابداع الاسطوري… الى حد انه ذات مرة غنى في شكل متواصل لعشر ساعات.
ولد صباح الدين أبو قوس، وهم الاسم الحقيقي لصباح فخري، في العام 1933 في حلب القديمة حيث كان محاطا بشيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، حيث اعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع الأطروش في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والانشاد.
وفي باب النيرب كانت له أول حلقة إنشاد، وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، وغنى أولى القصائد أمام الملأ والتي تقول: “مقلتي قد نلت كل الأرب، هذه أنوار طه العربي، هذه الأنوار ظهرت، وبدت من خلف تلك الحُجب”. وكان تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى. وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.
التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة. ويروي كتاب “صباح فخري سيرة وتراث” للكاتبة السورية شدا نصار أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود حيث تقول إن الفنان سامي الشوا تعهده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى “محمد صباح” واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات. ولم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب، حسب تقرير لوكالة الصحافة الالمانية، كتبته ليلى بسام.
بمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز 14 عاما وكانت أنشودة: “يا رايحين لبيت الله / مع السلامة وألف سلام / مبروك عليك يا عبدالله / يا قاصد كعبة الإسلام).
انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء، إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح. وتقول نصار: “لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق”.
وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بخدمة العلم عندما أصبح شابا يافعا. ومع “اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها”.
جاء الى دمشق للانتقال الى القاهرة سعيا لصقل موهبته. لكن السياسي المخضرم فخري البارودي غير حياته، حيث اعجب بصوته. دخل القصر الجمهوري فتىً يافعاً وفقيراً في أربعينيات القرن الماضي، يحمل تحت ابطه سجادة صلاة، بطلب من زعيم دمشق وراعي فنونها الراحل فخري البارودي، الذي تبناه فنياً وأعطاه اسمه “فخري” بدلاً من اسمه الحقيقي “صباح الدين أبو قوس”، حسب مؤرخين سوريين.
أطرب الرئيس شكري القوتلي يومها، وتكرر ظهوره في عرس احدى بناته، ثم عندما أذن أمام الرئيس القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر في حلب، خلال زيارة الزعيمين إلى جامع جمال عبد الناصر في حي الكلاسة. لم يترك عاصمة عربية إلا ومر بها منذ ذلك التاريخ، تاركاً بصمات ما زالت واضحة في مخيلة كل من حضر حفلاته.
ذات يوم، سال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن “الأراصية” التي طالما غنى عنها صباح فخري، وعند زيارته دمشق، طلب أن يستمع اليه شخصياً بعد أن قدم له الأراصية. ثم بدأ بالغناء، فوقف عبد الوهاب حينها وطلب من الحاضرين الوقوف قائلاً: “احتراماً لهذا الصوت الرخيم، عليكم جميعاً أن تقفوا معي!” كانت أم كلثوم تطلب من أصدقائها كلما زاروا سوريا: “والنبي، عاوزة كاسيت لصباح فخري.”
عاش فخري أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق مع المطربة اللبنانية صباح. كما غنى صباح فخري “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ما يقرب من 160 لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب. كما تلى أسماء الله الحسنى مع الفنان السوري عبد الرحمن آل رشي والفنانة منى واصف والفنان وزيناتي قدسية.
وقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل “الوادي الكبير” الذي تم تصويره في لبنان.
تقلد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 “تقديراً لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل” كما جاء في منشور التكريم. وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب كما انتخب عضوا في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.
رحل المطرب، الذي سجل رقما قياسيا من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية عام 1968.

تكريم فيلم «رضا» عن قصة امرأة ريفية دون أوراق ثبوتية

تكريم فيلم «رضا» عن قصة امرأة ريفية دون أوراق ثبوتية

تدور أحداث الفيلم السوري “رضا” وفقاً للمخرج السوري الكردي ياسر حمزة في قرية “سيكركى” في ريف مدينة القامشلي شمال سوريا. يحمل الفيلم اسم بطلته رضا وهي امرأة في الخمسين من العمر لينقل لوحة مأساة تمثل وجهاً من وجوه الحرب السورية وأزمتها.

وفي حديث خاص، يقول المخرج حمزة إن رضا أرملة عاشت بعد وفاة أمها وخالها بمفردها في كوخ طيني متهالك الجدران على أطراف قريتها وحيدة لا تملك أوراقاً ثبوتية في السجلات المدنية للدولة.

خاضت رضا معترك الحياة وكونت عائلتها الخاصة، فكانوا سندها في رحلة الصراع مع الوحدة فصنعت دمية بنفسها أسمتها زوزان وضمت لأسرتها الجديدة كلباً أسمته صورو إضافة إلى قطتها المدللة وملهمة صبرها عزيزة.

ولتأمين لقمة عيشها، يوضح حمزة أن رضا اعتمدت على دجاجاتها وبيع بيضهم لكسب دخل مادي إضافة لتوفير قوت يومي لنفسها ولعائلتها الجديدة.

تكريم عربي

وفي السابع من شهر نيسان (إبريل) الفائت، أعلنت إدارة مهرجان البحرين السينمائي أسماء الفائزين في فئات مسابقتها التي أقيمت بصورة استثنائية راعت الاجراءات الاحترازية وضوابط التباعد الاجتماعي بسبب تفشي فيروس كوفيد19. ومن أصل (450) وافقت إدارة المهرجان على  مشاركة (92) فيلماً في الفئات الخمس للمسابقة وهي الأفلام الروائية القصيرة، والوثائقية، وأفلام التحريك، وأفلام المرأة إضافة الى أفلام الطلبة.

ورشح فيلم رضا من بين 20 فيلماً للقائمة القصيرة للجائزة التي شهدت تنافساً قوياً للمستوى العالي للأفلام المشاركة من حيث مضامينها وجودتها التصويرية. وبين ياسر حمزة أنه المخرج السوري الوحيد الذي شارك في قائمة الأفلام الوثائقية التي بلغت 33 فيلماً قدمت من 18 دولة.

وكرم مهرجان البحرين السينمائي في دورته الأولى المخرج السوري الكردي ياسر حمزة بجائزة (دورة فريد رمضان) التقديرية والتي حملت اسم الروائي والسيناريست البحريني الراحل فريد رمضان تكريماً لدوره الرائد في الإنتاج السينمائي، وتقديراً لجهوده في تقديم نصوص الأفلام السينمائية إضافة لدعمه خلال مسيرته الفنية كجزء من دعم الطاقات السينمائية الواعدة في البحرين والعالم العربي.

وحاز فيلم “رضا” على شهادة تقدير من إدارة المهرجان قسم الأفلام الوثائقية تكريماً للمستوى المتقدم لتقنية الصورة وللقفزة التكنولوجية المميزة التي ظهرت على مستوى الصورة والإخراج ونوعية الإنتاج ولقيمة قصة الفيلم الإنسانية.

وضمت لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية للمهرجان: المخرجة الإمارتية “نجوم الغانم”، والناقد السينمائي البحريني “حسن حداد”، والأستاذ في جامعة البحرين “محمد السيد”.

مهرجانات وتقديرات

ونوه المخرج الشاب إلى أن فيلم “رضا” شارك في العديد من المهرجات العربية والدولية ومنها: مهرجان النهج السينمائي بالعراق، حيث رشح للقائمة القصيرة لأفضل فيلم وثائقي، و مهرجان “بي يوند” الدولي للأفلام القصيرة.

إضافة لذلك نال ياسر حمزة شهادة تكريم من مهرجان كركوك بدورته الثانية لعام 2021 تقديراً لمسيرته المهنية الممتدة لأكثر من 25 عاماً.

وعن آخر أعماله تحدث ياسر حمزة لسكاي نيوز عن إنهائه لفيلم تسجيلي بعنوان “أميرة” بالتعاون مع المخرجة رنا شاهين ويعمل حالياً على فيلم تسجيلي آخر بعنوان “لن ترى” مع المخرج أحمد عرفات.

من هو ياسر حمزة

ينحدر المخرج ياسر حمزة 43 عاماً من مدينة القامشلي. وكان قد بدأ مسيرته المهنية في مجال الإعلاموالاخراج كمصمم لوحات إعلانية للمحال التجارية ومصوراً فوتوغرافياً. وبعد إنهاء الخدمة العسكرية انتقل حمزة إلى دمشق وعمل بصفة مونتيراً ومصوراً مع شركة مرح للإنتاج الفني لأربع سنوات، قبل انتقاله بصفة مدير فني ومونتير ومساعد مخرج في شركة شيخاني للإنتاج الفني.

وعمل حمزة أيضاً مع العديد من الأقنية العربية والمخرجين العرب. ومن الأعمال الفنية التي شارك بها: مسلسل رحلة المليون للمخرج الأردني سالم الكردي و لقناة أبو ظبي؛ ومسلسل هوامير الصحراء بجزئية الثاني والثالث لقناة روتانا للمخرج أيمن شيخاني؛ ومسلسل “جاري يا حمودة” مع المخرج وليد العاقل لقناة (MBC). هذا إضافة لمسلسلات عديدة أخرى منها: بيني وبينك (فكاهي)، ومسلسل انباع الوطن (سياسي كوميدي)، ومسلسل الساكنات في قلوبنا (دراما)، وغيرها.

كما أخرج العديد من الكليبات العربية لفنانين من أمثال عامر الغريب، لبنى كمر، حسام طه، وغيرهم.

ويذكر أيضاً أن ياسر حمزة أخرج أفلاماً وثائقية عدة إضافة لفيلم “رضا” وهي “على عتبة الطفولة”، “وعد”، و”زوارق في الظلام”.

قصة قصيرة: بيت…بيوت

قصة قصيرة: بيت…بيوت

الساعة الثانية ظهراً، الشمس كرة من نحاس أحمر، نسمة خفيفة غربية، والسيارات ليست كثيرة في هذا اليوم على طريق المطار. ذلك ما لاحظه محمد من موقعه في الصف الأخير من المدرج.
على منصة الشرف المسقوفة في الملعب البلدي الصغير في جرمانا، جلس عشرات الأشخاص، رجال نساء وأطفال. لم تكن هناك أية مباراة، والأطفال يقفزون كالكرات فوق العشب الصناعيّ على أرضية الملعب. الكبار كانوا ساهمين يحدقون في الفراغ، ويراقبون المشهد ببياض عيونهم، ويتدربون على الانتظار.

محمد، ممسك جواله القديم بيد، وسيجارة الحمراء الطويلة ترفض أن تنتهي بين أصابع يده الأخرى، وعيناه لم تعد تريا إلا أمواجاً سائلة، وأشياء ضاعت معالمها في النظرة الرطبة.

كانوا من الذين خرجوا من بيوتهم، ونزحوا إلى جرمانا. ظنوا أن القصة مسألة أيام، وأصبح الوقت من المطاط. تم تجميعهم وإيواءهم مؤقتاً، تحت مدرجات منصة الشرف في الملعب، حيث توجد غرف للكوادر الرياضية، وغرف لتبديل ملابس اللاعبين وحمامات مشتركة. الآن، أصبحوا هم الكادر كاملاً، وهم وحدهم اللاعبون الأساسيون. وأصبحت كلمة، مؤقتاً، الكلمة الأثقل وزناً في ضمائرهم المثقلة.

فتح محمد جواله، تأكد من وجود تغطية، وأشعل سيجارة أخرى. رن الهاتف رنة قصيرة، نظر باتجاه أطفاله فوق أرض الملعب. إنها زوجته تذكره بأن لا ينسى جلب حصتهم من الطعام.
الساعة الثالثة بعد الظهر، الشمس غيرت قليلاً من زاويتها، أصبح ظل المنصة أكثر طولاً، إلا أن الأطفال ما زالوا في الشمس. إنها ساعة توزيع الطعام. اجتمع الأطفال والنساء وبعض الرجال، حاملين قدورَهم، وصفائح الماء. كان غداء اليوم مؤلفاً من الأرز، حساء الفاصولياء مع البندورة، وربطة خبز.
أعطى محمد حصتهم من الطعام لزوجته، وعاد إلى المدرجات، يدخن ويتابع عد السيارات المارة على طريق المطار غير البعيد.

نزح محمد وزوجته وأطفاله الثلاثة، من قرية ليست ببعيدة عن جرمانا. وفكر لو أن المدرجات أعلى قليلاً، لاستطاع رؤيتها. غير أن المدرجات كانت أقل ارتفاعاً من مخيلته. كان يمتلك محلاً لتصليح الأدوات الكهربائية والإلكترونية، وعندما خرجوا فجراً من المنزل، بقي رجاء زوجته معلقاً في رأسه إلى الآن:

” عدني بأننا سنعود”

في تلك الليلة، كان صوت تكسير الزجاج في بيته يغطي على صوت الرصاص في الخارج. أخذت زوجته بتكسير كل الأواني الزجاجية، وتقلب كل ما تطاله يداها، كانت تصرخ، تبكي، وتكسر. ومع كل صحن يتفتت، تتفتت هي، إلى ملايين القطع. وعندما رجاها محمد بألا تفعل ذلك، قالت:

“لا علاقة لك، اتركني أفعل ما أشاء”

” لكنكِ سترعبين الأطفال النائمين”

“ألم يرتعبوا إلى الآن؟ وهل ناموا أصلاً؟ لقد قضوا الليل وهم يجفلون من صوت القذائف والرصاص”

” أرجوكِ، توقفي عن التكسير”

” أريد أن أحطم كلّ شيء، هل تسمع؟ كلَّ شيء. أليست صحوني، كؤوسي؟ أليس هذا جهاز عرسي؟ أتذكّر كل قطعة، كيف وفرتُ ثمنها واشتريتها. وكيف لمعتها ووضعتها في الفيترينة. ألا تذكر أنت؟..أنا أتذكر، كل قطعة لي معها قصة: الستائر، الصمديات، الطربيزات، طقم السفرة والكراسي، السجادة وحتى نزّالات الطعام. لي معهنَّ قصة: ثيابي، ثياب أولادي، ثيابك. قصة ماذا؟ قصة حب إذا شئتَ. والآن يريدون منّا أن نخلي البيت، بيتنا، وأن نخرج بثيابنا فقط. أريد أن أكسر كلَّ شيء، اريد أن أمزق حتى الثياب”

” أرجوك، يكفي”، وكان يبكي

“هل تصرخ فيَّ؟”

” أصرخ فيكِ ، فيّ، وفي كل العالم. لا أتذكر!! بلى أتذكر، ماذا تريدين مني أن أفعل؟ أحطم الجدران، أحرق الأبواب والنوافذ. أليسَ هذا بيتنا، بيتي، بيتكِ، بيت أطفالنا. هل أهدمه بيديّ؟”

تضحك زوجته بهستيريا وتقول:

” بيتنا؟ بيتي؟ بيتك؟ بيت الأطفال؟ والآن لم يعد كذلك”

“إنه بيتنا، وسيبقى، وسوف نعود إليه، ليست لنا علاقة بأي أحد، ولم نرتكب أي خطأ، ولن نذهب بعيداً. مسألة أيام فقط، وسيبقى كل شيء على حاله. ألا ترين هذه الشراشف؟ سأغطي بها كل الأثاث، والأجهزة، ولن تتلفها الغبرة. كل شيء سينتظرنا حتى نعود، سيحتفظ برائحتنا فيه، ورائحته فينا”

” نعم سنعود، ولن نجد لا رائحتنا ولا رائحته”

تصمت قليلاً وكأنها تأخذ نفسَاً:

” هل ترى ما هو مرسوم على هذه الصحون؟ “

“روميو وجولييت”

“كانوا عشاقاً؟”

” نعم”. وكان يكاد يلمس هدوءاً في صوتها، فيشرق قليلاً.

” أتذكر من أين جلبتَه؟”

” أذكر، من لبنان”

” إنه جديد وما زال في علبته”. تخرج الطقم كاملاً من العلبة. وتتابع:

” لن يكون هناك أصدقاء في السهرة، ولن نقدم الحلويات في هذه الصحون” . تضربه في الأرض وتتحول الصحون إلى طحين زجاجي.

“أرجوكِ”

” هل ترى هذه النرجيلة؟ طويلة مثل زرافة من كريستال. اشتريتها من الحميدية لكي نضعها على الشرفة وندخن. لا أريد أن أسمع صوت نفسَها في صدر أي أحد. هل تسمع. في صدر أي أحد”

وتنفجر النرجيلة.

” أرجوكِ، يكفي”. قالها بلا صوت.

“لا يكفي، الثياب، ثيابي، ثياب الأطفال، لا أريد أن أراها على أي جسد غير أجسادنا والصور، صورنا على الجدران والرفوف، سأحرق كل شيء..”

” الصور لا. سأخفيها في الحقيبة”

وبعد دقائق من صمت حاد. قالت:

“عدني بأننا سوف نعود”

جاء رنين الهاتف، الآن، برنة طويلة ينقذه من ذكريات تلك الليلة، ومن وعده أيضاً.

كانت الأخبار التي تلقاها جيدة، ولأول مرة، منذ ثلاثة أشهر، يرى بياضاً ضمن كل هذا السواد الذي أحاطهم منذ خروجهم في فجر تلك الليلة. لقد تمت الموافقة على تشغيله في معمل لتجميع الأجهزة الكهربائية براتب جيد.
ألقى نصف السيجارة، وهبط الدرجات قفزاً. على باب غرفة الحارس الأمني لمركز الإيواء، استوقفه المسؤول، أخبره بأنه يتعاطف معه، وأنه يسعى جاهداً لمساعدته في الحصول على الموافقة الأمنية التي تمكنهم من الخروج من المركز واستئجار منزل. لكنه قال بأن الأمر يحتاج إلى مبلغ من المال، ليس له بأية حال فهو يعتبر نفسه كأخ، وإنما لأشخاص مسؤولين عن ذلك ويتعاطفون معه أيضاً، وكل ما كان الدفع بشكل أسرع كان ذلك أفضل له. ومستمداً ثقة إضافية من الخبر الذي تلقاه للتو، ضمن محمد له ذلك، وأخبره بأنه سيدفع له فور استلامه الموافقة، وأن المبلغ جاهز.

“هذا ما كنت أريد سماعه”. قال الحارس.

وضغط على يده بقوة، كشعور متبادل بالتضامن.

كانت غرفتهم هي الأخيرة ضمن صف غرف تبديل الملابس، وكان الممر مملوءاً بحبال غسيل وثياب وشراشف وكأنه سفينة شراعية. وهواء مملوء بالدوار.
في غرفتهم، كان اللون الرمادي هو المسيطر، ككل الغرف. فرشات وبطانيات رصاصية من تلك التي توزعها الأمم المتحدة، بالإضافة إلى بعض الأشياء الضرورية الأخرى التي اشتراها بسعر رخيص من سوق الأشياء المستعملة. من ضمنها تلفزيون سيرونكس ملون 14 بوصة مع جهاز استقبال، كان التلفزيون مخصصاً لمشاهدة برامج الأطفال والأخبار، حيث ضمن له الحارس خط من الصحن اللاقط الخاص بغرفة الحراسة مقابل مبلغ من المال.

كانت زوجته وأولاده يتناولون طعامهم عندما دخل، ولمحت زوجته ظل ابتسامة وتغير في لون وجهه، حدقت فيه مطولاً، لم يستطع أن يصمت أكثر، أخبرها أولاً بخبر تشغيله، نهضت، احتضنته، عندها أخبرها بأمر الموافقة الأمنية. همست له:

” أخرجنا من هنا بأقصى سرعة”

ناولته صحناً أبيض مصنوعاً من الميلامين وملعقة. سكبت له الأرز مع الفاصولياء، وكانوا يتناولون الطعام بصمت. وشعر بمرارة فمه نتيجة التدخين المستمر.

قليلة هي المرات التي خرج فيها من الملعب، كان يشعر، في كل مرة يخرج فيها، أن الشوارع ترفضه، أن الجميع سيعرفون بأنه مهجَّر، بأنه غريب. على دوّار المصارف، القريب من الملعب، جلس على حافة رخامية، كان عدد المارة قليلاً، وخطر قذائف الهاون مازال مستمراً. كان يدخن وينظر إلى الأسفل، وكأنه لا يريد أن يعرفه أحد، أو أن يتعرّف إلى أحد.

رنَّ هاتفه للمرة الثانية اليوم، كانت المكالمة قصيرة، حادة ومؤلمة.

في تلك الليلة، بعد أن تركت زوجته ما لم تقوَ على تكسيره، خرجوا خمستهم فجراً، كأشباح، مشوا مع الناس التي تمشي باتجاه نقطة التجمع، أشباح تشبههم أيضاً، ومع كل خطوة كان البيت يبتعد حتى أصبح شبح بيت. ومع اتساع الضوء، كان المئات من الناس، يحملون حقائبهم، أمتعتهم وأولادهم ويسيرون. سيارات صغيرة وكبيرة، باصات وسيارات شحن، كلها مملوءة بحشد لا يعرف الطريق. كان التكهن سيد الحفلة.
على معبر الخروج انتظروا أربع ساعات حتى فرغ الجنود من تدقيق كل شيء، وكان هناك تعب وجوع وصراخ ونفاد صبر.
على الحاجز الآخر، انتظروا وقتاً أطول، وشوطاً جديداً من التدقيق. في حدود الرابعة عصراً وصلوا إلى مأواهم الأخير في الملعب البلدي الصغير في جرمانا. باقي الناس تقاسمتهم مراكز الإيواء.

أشعل سيجارة جديدة، نظر إلى السماء، كانت صافية ونفس النجوم كان يراها من سطح بيته. شعر بأنه لا بد وأن يبدأ من جديد، وأن يخفي أمر المكالمة عن زوجته خشية أن يفسد عليها فرحها البسيط هذا اليوم. كانت المكالمة قصيرة وحادة:
لقد أصيب بيتهم بصاروخ، وسوّي بالأرض والتهمت النار كل شيء.