بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 4, 2020 | Culture, غير مصنف
إعداد وحوار: أسامة إسبر
منذ أن عثر على وسيلة التعبير المناسبة له، والتي هي الكاميرا، بدأ الفنان السوري المقيم في المجر بهجت اسكندر حياة جديدة، مختلفة كلياً عن حياته كطالب يدرس الهندسة. علق على كتفه الكاميرا الأولى التي أهداها لنفسه، لأنه يعرف نفسه وما تحب، وانطلق كي يقبض على المشاهد العابرة، وبنى عالماً فنياً متكاملاً من الصور التي تسلسلت من الصور الواقعية التي وثقت لمراحل مهمة في المجر، إلى فن البورتريه الذي دعاه النقاد ”ملكاً له“، إلى الصور الموحية كاللوحة الفنية، ولهذا يجمع في صوره بين العالم المرئي، في جمالية حضوره، والعالم اللامرئي الذي يظل هارباً لكنه يتجسد للحظات ويتجلى حولنا ويمنح نفسه لمن يعرف أن يراه.
بهجت اسكندر يعرف جيداً أن العلاقة مع الصورة ليست علاقة حب عابرة، ليست نوماً في سرير الأشياء واستيقاظاً ورحيلاً، بل هي غوص وسفر وهجرة وإقامة في عوالمها وفي ما وراءها وفيما تقود إليه، ولهذا تظل الصورة ناقصة بالنسبة للروح التي تسعى وتطمح إلى الكمال في منجزها الإبداعي، هذا اللاكمال، هذا النقص هو طريق الروح التي يتجلى بحثها في الصورة.
يعرف كثيرون بهجت إسكندر كفنان وثق لتواريخ وأمكنة وحالات كثيرة في سوريا بلده الأول والمجر بلده الثاني الذي شهد ولادته كمصور فوتوغرافي منذ أن هاجر إليه سنة 1967 وحيث حصل على أرفع الجوائز والأوسمة، ورسخ اسمه كأحد أبرز المصورين الضوئيين في المجر، وسيتعرفون عليه من جديد هنا في هذا الحوار الذي يروي فيه قصته كمصور وكيف ينظر إلى الصورة، مضيئاً تجربته من الداخل، ومتحدثاً عن حياته وفنه، كي يمنح القراء صورة أخرى يرون فيها الفنان في حياته وعمله.
أسامة إسبر: ما الذي قادك إلى الكاميرا وفتنة التصوير؟ هل كان التصوير في البداية مهنة، أم أنك اخترته كفن؟
بهجت إسكندر: عندما وصلتُ إلى المجر من أجل الدراسة والتخصص كان هدفي الأول هو أن أحاول الاستفادة من كل شيء جديد ومفيد. كنتُ متعطشاً للعلم والمعرفة باختلاف أنواعها. وكنت أشعر أنني أمثل منطقة وبلداً أحبه وأعتز به وأحاول حفر ونقش أعمالي بحجر صلب. ومن يعيش هذا يفهم ما أقوله. شاركتُ من البداية دون معرفة واتقان للغة بشكل جيد في الندوات والأنشطة الثقافية، وجذبني الفن بشكل خاص من نحت ورسم وموسيقى وتصوير فقررت أن أحاول التعبير من خلال الصورة لأنها سهلة القراءة والفهم ولغة العصر الحديث.
بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة في عام 1968 قدمت لنفسي هدية هي آلة تصوير روسية الصنع من نوع زينيت، واشتريتُ في الوقت نفسه الأحماض والأوراق والأفلام اللازمة معاهداً نفسي بأن ألتزم التصوير كأداة للتعبير وليس لكسب المال، لأنني كنت أدرس الهندسة وكانت في حينها كافية جداً لتأمين المعيشة بأمان ورفاهية.
كانت الصورة في كثير من الأحيان تحل مشكلة اللغة فكان الجميع يفهمونها مما زادني ثقة وأملاً.
أإ: تركز في كثير من صورك على وجه الإنسان وعينيه. متى تستطيع الصورة أن تنقل الحالة التي يمر فيها الوجه، ومتى يكون الوجه الواقعي، الذي هو موضوع الصورة، جاهزاً للصورة؟
ب. إ: منذ بدايتي بالتصوير ركزتُ على الإنسان وهمومه اليومية بشكل كبير، وكانت قراءتي للإنسان من خلال وجهه وتعابيره وعينيه تملك كثيراً من الأسهم والميزات التي لا يمكن تجاهلها حيث هي أن العين هي مرآة الإنسان، ولربما كانت العين هي مصدر وهدف قراءتي للحقيقة. وكانت دائماً تذكرني عندما كنت طفلاً صغيراً في سن الثالثة أو الرابعة بوالدي الذي أحضر لي مرة هدية وكانت صندلاً أذكره تماماً بلونه الخمري. وحين انحنى والدي وناولني الحذاء ناظراً إلي توهجت عيناه وبقي معي هذا البريق في العين من وجه أبي الذي فقدته بعدها وأنا في سن الرابعة أو الخامسة. هذه آخر صورة في الذاكرة عن أبي رحمه الله، وفيما بعد أصبح الخيال حقيقة عندما أرى المشاهدين يقفون أمام الصورة ويحاولون قراءتها جيداً وعند ذلك أقول لنفسي وصلت الرسالة وأخذت الصورة مكانها
أإ: كيف تستكشف الوجه فوتوغرافياً؟ ما هي فلسفتك الخاصة في تصوير البورتريه، هل تقوم بالتقاط صورة الوجه مباشرة أم تتحدث مع الشخص وتتعرف عليه ثم تصور وجهه؟ ولماذا تفعل ذلك؟
ب. إ: كما ذكرتُ سابقاً إن الوجه بالنسبة لي هو كل الإنسان، ومن يفهم الوجه يقرأ الإنسان بكامل طباعه، بحزنه وفرحه، بصمته ومحبته. وغالباً عندما ألتقط الصورة الفنية للأشخاص أحب الاطلاع على الشخص من خلال الحديث معه، وقد يستغرق الوقت أكثر من إخراج الصورة لأن كثيراً من الأشياء المهمة تظهر ويتم توضيحها من خلال معرفة الشخص جيداً.
يُقال عني في المجر إنني سيد البورتريه أو ملك البورتريه، وهذا يتطلب مني الجدية وأخذ كل ما يمكن أخذه، من أجل إخراج الصورة المناسبة والمعيرة على الشخص، ولذلك يجب اختيار الوقت المناسب من أجل توقيف الزمن لمدة وجيزة جداً، وكل ذلك من أجل أن تكون الصورة عملاً فنياً أدخل من خلاله إلى باطن الإنسان .
هذا هو السر في جودة وقوة البورتريه، ففي كثير من الأحيان تأخذك تعابير الوجه وحركة الأيدي إلى الباطن وعندها تختار بسرعة الزمن والمكان المناسب لالتقاط الصورة.
أإ: صورتَ كثيراً من الكتاب والشعراء المشهورين، هل كان لقرائتك لأعمالهم دور أو تأثير ما في مقاربةالبورتريه؟
ب. إ: كان لي الحظ الكبير والنادر في المشاركة بمعرض فني في لقاء لأدباء المجر في عام 1979 من القرن الماضي، وحضر اللقاء في الوقت نفسه كبار مفكري المجر في ذلك الوقت الذين تعرفتُ على الكثير منهم، ومع الأسف الشديد غادروا الحياة لتقدمهم في العمر. حدث هذا اللقاء التاريخي في مدينة لاتي تيلك ولامس الأوضاع المجرية في ذلك الوقت، وكانت لي شهرة كبيرة بين أدباء ومفكري المجر بسبب اهتمامي وتصويري للريف المجري بدون تحيز. وبدأت المجلات والصحف بنشر أعمالي بإعجاب شديد وهذا سهّل لي الطريق كي أكون قريباً جداً من أدباء وشعراء المجر الذين بادلوني المحبة والاحترام والتقدير وصار كثيرون منهم أصدقاء لي، وتبادلنا الزيارات، وكانت حديقتي مركز تجمع للأدباء سنوياً مما سهل عليَّ العمل فقد كنت دائماً أراقب تصرفات وحركات المشاهير كي أستطيع التقاط الصورة المناسبة وأحياناً كنت أقوم بقراءة أعمال بعضهم من أجل إخراج الصورة المعيرة الناطقة.
أإ: أقمْتَ الكثير من المعارض، ودوماً صورك كانت مرتبطة بفكرة أو بتوثيق مرحلة بصرية في المجر أو أمكنة أخرى زرتها، وهذا يقودنا إلى سؤال يتعلق بالصورة كعالم قائم بذاته، كيف تجمع الصورة بين كونها وثيقة وكونها عملاً فنياً إبداعياً؟
ب. إ: لقد أقمتُ الكثير من المعارض في أنحاء العالم وبلغ عددها أكثر من 300 معرض خاص. شاركتُ في البداية في المعارض الجماعية بلوحة أو عدة لوحات في السبعينيات من القرن الماضي ولكن بعد استدعائي للعمل كعضو في لجان التحكيم تمكنت من أن أترك المعارض الجماعية من أجل التركيز على مشاكل ومواضيع مختلفة ولطرح أفكاري وأعمالي بشكل أوسع للجمهور ومحبي الفن. فكان من أعمالي التي حصدت الرعاية والجمهور والاهتمام الصحفي والعالمي معارض مثل معرض ”حفنة من العالم“ وكذلك ”الريف المجري في السبعينات“ و“الأمهات الحوامل“ و“أدباء وشعراء ومفكري المجر“، ودائماً كان لدي مجموعة من الصور جاهزة للتنقل بين المدن وصالات العرض. وكانت كل المعارض تستقطب جمهوراً أكبر واهتماماً أوسع وتغطية إعلامية أشمل.
أأ: ما الصورة التي يعتبرها الفنان بهجت إسكندر صورة إبداعية، ماذا يجب أن يتوفر في الصورة كي تكون إبداعية؟
حين ألتقط الصورة الفنية تأتيني فكرة سريعة جداً ويتوضح الهدف من الصورة سواء كانت تذكارية عابرة أم فنية باقية، وتتراكم علي بسرعة فائقة المشاعر مع الهدف، وأحياناً أرى الصورة في مخيلتي بشكلها النهائي على الجدار بالإطار اللازم وكل ذلك في لمحة بصر في جزء من الثانية . يحدث كل ذلك ويتم توقيف الزمن لتبقى الصورة مجالاً للجدل والنقاش وتعيش بدون المصور الفاعل.
وليس أجمل من أن يقوم المصور بكسر الجواجز النفسية من أجل إخراج الصورة المعيرة الصادقة الباقية الدائمة وكل ذلك بسرعة فائقة وأخلاق عالية بدون استغلال مع فهم الآخر ومعرفة مسبقاً بتصرفات وحركات الموديل على أمل اختيار الوجه الإنساني الأفضل المعبر عن الشخص.
أ. إ: أنت فنان متجول، ولقد صورتَ في مدن كثيرة، ما المدينة الأحب إلى قلبك فوتوغرافياً ولماذا؟ هل تبني بعض الأمكنة علاقات خاصة مع المصور؟
زرتُ الكثير من بلدان العالم ولكن كانت دائماً دمشق وجبلة ملازمتين لأفكاري وأحلامي وحبي وحناني. كان أملي كبيراً في توثيق دمشق قبل تكون عاصمة الثقافة العربية ولكن مع الأسف لم يساعدني الحظ في ذلك وبقيت حسرة في قلبي حتى الآن. أما مدينة جبلة فقد حالفني الحظ بدعوة ومساعدة الأصدقاء من محبي المعرفة والقيم حيث شاركت في مهرجان جبلة الثقافي لعام 2004 وتعرفتُ على كثير من الأصدقاء هناك من مختلف البلدان. فألف شكر لهذا المهرجان المستقل والفريد من نوعه وللقائمين عليه.
أ.إ: ما الكامير الأحب إليك كفنان، والتي تشعر أنها امتداد لعينك الفنية؟ هل من علاقة خاصة مع كاميرات معينة؟
ب.إ: كانت البدايات صعبة جداً حيث كانت الكاميرا الأولى هي زينيت روسية وكنت أعيش حياة صعبة جداً. كانت غرفة العائلة في الليل هي عبارة عن مخبر لتحميض وتكبير الصور. وكانت التجهيزات بسيطة جداً رغم أن مشاركتي في المعارض العالمية والمحلية كانت كبيرة وكثيرة رغم التكاليف والإرهاق في العمل حيث كان عملي الأصلي مهندساً في إحدى الشركات لتصنيع الآلات في هنغاريا. بعد ذلك استعملت الكثير من الكاميرات الألمانية واليابانية، وأخيراً جهزت استديو ثابتاً وكاملاً بالفلاشات وآلات التصوير وكان استنتاجي أن أفضل كاميرا هي الفكرة والتفكير والموضوع والمكان والزمان. إن الصورة تخرج بأي وسيلة حديثة الآن من الموبايل حتى أغلى العدسات. إن آلات التصوير غالية الثمن وعالية الجودة إذا لم تلازمها فكرة تكون كالسيارة الفاخرة بدون طريق أو الحاسوب الجديد بيد من لا يعرف تشغيله، وكل ما تعطيك الكاميرا الحديثة هو جودة الإنتاج وسرعة المراقبة وطاقة الإنتاج ولكن كل ذلك يبقى بدون طعم إذا كان بدون رسالة أوفكرة.
منذ البداية كان الهدف الأول الصدق والمسؤولية الأخلاقية فالصورة تعكس هوية المصور. المهم أن تكون الصورة ذات رسالة أخلاقية وليست بالدرجة الأولى لحصد الشهرة. فالصورة في هذا العصر بالذات تستطيع التدمير أكثر من أي سلاح لهذا المسؤولية كبيرة جداً.
أ.إ: هل يلعب فن الفوتوغراف بالنسبة لك دوراً بالمعنى السياسي؟ خاصة أنك صورت كثيراً من الفقراء والمحتاجين وأشخاصاً في ظروف صعبة؟ ما الدافع الذي كان لديك آنذاك؟
ب. إ: فعلاً أشعر بنخوة كبيرة عندما أقف إلى جانب المهمشين وصوري أغلبها إن لم تكن كلها من أجلهم وليس ضدهم. كنت أحاول أن يراها الجميع من أجل تقديم المساعدة، وكان اختيار مواضيعي وتوسعي الفني دوماً في خدمة الإنسان والمجتمع وليس تفريقه وإحداث الكراهية من مبدأ كلنا زائلون والأعمال باقية.
وعلى سبيل المثال معارضي كلها افتتحت من قبل أدباء ومفكرين وشعراء وليس من قبل سياسيين. وبالمناسبة سمحت لي الفرصة أن أصور ميخائيل غورباتشوف وملكة بريطانيا إليزابيث وولي العهد الأمير تشارلز ووالده أيضاً في سباق الخيل وبقيت هذه الصور في سياقها التذكاري وليس الفني. كما أنني دُعيتُ لقاء راتب باهر كي أصور بشكل دائم مسؤولين سياسيين كبار لكنني لم أقبل العرض لأنني أحب أن يُطلب مني التصوير عن مواضيع مثل مشاكل البيئة والمواصلات والمجتمع والصحة والمقابر والطفولة والشباب، هذه هي الأعمال المهمة التي أحب أن أكون جزءاً منها.
أ. أ: عصرنا هو عصر طغيان الصورة، والانبهار البصري، وتطغى الطبيعة الاستهلاكية الوظيفية على الصورة، والتي صارت مرتبطة بالشهرة العابرة. كفنان، كيف تنظر إلى الصورة الفنية، وأين تضعها في هذا السياق؟ وما الذي ينقذ الصورة من كونها وظيفية واستهلاكية وعابرة؟
ب. إ: إن التصوير متعدد الجذور والأسماء ومتشعب الأهداف: تصوير حفلات وأعراس وأطفال ورياضة وصحافةوطبيعة ومناظر ومجتمع وطب وعلوم وفضاء والكثير من المعرفة، غير ذلك.
بالنسبة لي اخترتُ الإنسان وإبداعاته والمجتمع بما فيه وظروف الحياة وابتعدتُ قدر الإمكان عن تصوير العجائب والأشياء الباهرة بدون معنى أو هدف. أو بالأحرى لم أفهمها كما يبدو لي. ولقد شبهت ذلك بمطعم فيه الوجبات المختلفة وكل إنسان يطلب ما يحب وربما جميع المطبوخات طيبة ولذيذة.
أ. أ: ما الذي يراه المصور الفنان المبدع ولا يراه المصور العادي؟ هل تشعر كفنان أنك تتجاوز المصور – العدسة وتجمع بين الفنان التشكيلي والمصور أحياناً؟ أطرح سؤالي على ضوء بعض الصور التي لديك والتي تتحرك في مناخ أو فضاء تشكيلي.
ب.إ: أحياناً أخلط بين الفن والشطارة في مجالات الفن بشكل عام. أحب الرسم والنحت والموسيقا والشعر وما إلى ذلك. لكننا نعيش في عالم خيالي تتوفر فيه لنا كل وسائل العلم الحديث ويمكن استعمال ذلك بطرق حكيمة وجيدة للبشرية أجمع. ويمكن استعمالها للهدم والتحريض ومثال على ذلك بالنسبة لي الفوتوشوب والفيسبوك الذي فتح لنا نوافذ جيدة للحياة غير أن هذا يمكن عكسه. وفي جميع الحالات يجب أن يكون الإنسان أميناً وصادقاً في علمه وعمله.
أ.أ: كيف نظر نقاد فن الفوتوغراف في المجر إلى تجربتك، وخاصة أنك تأتي من خلفية ثقافية وبصرية مختلفة؟
ب. أ: لقد كُتب عن أعمالي الكثير وأُخرجت حلقات وأعمال تلفزيونية كثيرة، ورغم كل ذلك بقي في ذاكرتي ما كُتب عن أعمالي وشخصيتي بالذات عندما كنت أشارك في المعارض في السبعينيات من القرن الماضي. حيث كتب أحدهم: ”لا يمكن أن يستطيع إنسان غريب الثقافة أن يدخل أعماق الثقافة المجرية والمجتمع المجري والريف المجري كما فعل بهجت إسكندر ولا أحد يصدق أنه لم يولد هنا مع آبائه وأجداده“.
إنها حقيقة وصارت أعمالي مرجعاً للمهتمين بالريف المجري والشأن الاجتماعي.
أ.إ: ما مشاريعك الحالية؟ هل من مشروع فوتوغرافي ما تعمل عليه؟
ب.أ: لدي أحلام ومشاريع كثيرة وكبيرة وربما أكبر من حجمي. أنا متقاعد منذ أكثر من عشرين عاماً ومتزوج ولدي بنت وولد وثلاثة أحفاد الحمد لله كلهم بصحة جيدة، ويوجدلدي استديو خاص بي بنيته على كيفي ووفق متطلباتي، وهو خاص وليس عاماً. وبنيت حديقة إلى جانب البيت وهي كبيرةوجميلة جداً حيث أخذت من وقتي الكثير ومن حبي الكثير والكثير من العمل والتخطيط والتنفيذ أي أكثر من 30000 ساعةعمل منذ أكثر من 35 عاماً حيث زرعت أشجاراً ووروداً كثيرة، وغرس فيها بعض الشعراء والجمعيات أشجاراً باسم الصداقةوالمعرفة. لقد تغنى بالحديقة الشعراء وهي مكان لاجتماع سنوي لأدباء وشعراء المجر الأصدقاء حيث كان يتواجد من 60 إلى 70 شخصاً في اللقاء الواحد، وهي نموذج في المنطقة وجلبت لي السعادة والراحة كثيراً، وكانت ملتقى للعائلة أيضاً. ولكن يوجد بعض الأفكار والأحلام والمواضيع التي تؤرقني ليلاً ونهاراً. لقد تقدمتُ في السن ويوجد عندي تراث ثقافي كبيروعمل أكثر من خمسين عاماً بدون كلل. وأحياناً أفكر بالعاصفة التي تأخذ الزهر قبل الثمار بالرغم من حصولي على مئاتالجوائز والتقديرات الحكومية والدولية ورضا المجتمع وكثرة الأصدقاء الأوفياء إلا أنه ما يزال يقلقني وضع أعمالي ونهايتها. يوجد كميات هائلة من الأفلام بمختلف المقاسات مكدسة بشكل أنالوج وأحب أن تكون على الدجيتال لحفظها وتنقيتها بأمانومسؤولية وهذا يحتاج إلى إمكانات مادية ضخمة وخمس سنين عمل متواصلة وآلات وتكنولوجيا للحفظ والكثير من الأشياءاللازمة كي يكون لدي أرشيف آمن وسهل البحث وفي متناول المختصين . والسؤال كان دائماً أين محطة هذه الأعمال. قديماًكان يوجد فكرة دار اسكندر للثقافة ولكن حالياً هذه الفكرة صعبة المنال ولربما قد يحالفني الحظ يوماً بمساعدة مجهولبامتطاء الفرس الأبيض. وأقول بصراحة إنه لولا دعم رجال الأعمال المجريين لما تمكنت من إقامة معرض واحد، فكل الشكرلهم، وكل ذلك موثق. أقوم حالياً بتصوير طبقة اجتماعية كبيرة تعيش في المجر وهم الغجر وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم وسوف تصدر الصور في كتاب مشترك مع صديق مجري قبل نهاية العام ولكن فيروس كورونا كان لنا بالمرصاد.
بواسطة طارق علي | أغسطس 27, 2020 | Culture, غير مصنف
“يا شام لن ننساك إن ننسى.. حتى يضم رفاتنا القبر (…) فدمشق عاصمة الزمان.. فإن رضيت دمشق تبسم الدهر”، بهذه الأبيات ختم ياسر العظمة /دمشق 1942- 78 عام/، قصيدته الأولى “إن رضيت دمشق” التي اختار من دمشق مكاناً لإطلاقها، ومواقع التواصل الاجتماعي مكاناً لاحتوائها.
مشروع العظمة الجديد حمل اسم “مع ياسر العظمة – حطو القهوة عالنار”. ويأتي بعد أن غاب النجم طويلاً عن بلاده، بفعل ظروف الحرب التي أبعدته لمدة سبعة أعوام اعتباراً من 2013 عن مدينته التي قدم لها كل شيء في سلسلته الشهيرة “مرايا”، ليعود إلى عاصمة سوريا بنمط جديد لم يعتده السوريون من بطل الدراما، فمجرد اختياره العرض عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلق حالة من الجدل المستمر، إذ راح يتساءل البعض حول السبب. واعتقد آخرون أن الأمر يعود لترتيبات سياسية كان يعمل عليها العظمة وتتعلق تالياً بإنتاج جزء درامي تلفزيوني جديد، شرط ألا يكون من إنتاج من أشار إليهم مواربة بالمطبلين والمزمرين في قصيدته، “فالمشهديات التي عرضت.. فيها تجلى الطبل والزمر”، إذ اعتبر البعض أنه يقصد المنتج السوري “محمد قبنض”، النائب البرلماني السابق وصاحب المداخلة الشهيرة تحت القبة، التي قال فيها: “تحية لإعلامنا، الإعلام الوطني الكبير، والإعلام ضروري، والطبل والزمر ضروري”. وزاد في أثر التشبيه الذي رصده مدونون على مواقع فيسبوك قول العظمة في قصيدته أيضاً: “عجباً لكتاب وهم قزم.. يتطاولون وطولهم شبر”.
حط العظمة إذاً رحاله في “عاصمة الزمان” كما أسماها، حيث وجد مساحة كافية لمشروع قد يعيش لأشهر قادمة لقامة فنية يصفها الناس بالعبقرية لأسباب كثيرة، ليس على صعيد النظر العنصري إلى المكونات القومية إطلاقاً، بل على قاعدة أن الرجل الذي كان عماداً في الشراكة مع محمد الماغوط ودريد لحام في سبعينيات القرن الماضي، انفصل منتقلاً لمشروعه الخاص، الذي اتضح أن تمكن وسيتمكن من العيش أكثر من كل المشاريع العربية الأخرى، بفعل ذكاء عال تحكم بخط سير المنتج على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، إذ أن العظمة مثل بنفسه ورشة كاملة في وضع القصص والحكايات لحلقاته التي بلغ عددها الآلاف ربما.
رفع العظمة سقف مشروعه عالياً، فالرجل ما أن وضع العرض الترويجي لمشروعه قبل أيام حتى حصد سريعاً نحو 140 ألف إعجاب و25 ألف تعليق وآلاف المشاركات، قبل أن ينشر حلقته الأولى لتقارب الأرقام التي حققها العرض خلال ساعات، وبواقع مليون ونصف مشاهدة فعلية في صفحة الفنان التي تسارع ارتفاع مشتركيها ليصلوا إلى أقل من مليون مشترك بقليل.
يعتمد الرجل بصورة قطعية على رجع الذاكرة السورية-العربية المتعلقة به كفنان كبير وغامض في آن، إذ يكاد يكون من القلائل الذين رفضوا أي تكريم أو ظهور تلفزيوني متأخر خلال مسيرتهم الفنية، لذا فقد عرف العظمة وفريقه كيف يشتغلون على ترويجهم، تجد في التعليقات أن الجميع كان منتظراً، وكعادته فإن العظمة لم يبخل برفع السقف عالياً، وهذا ما خلق جدلاً مستمراً على صفحات الموقع الأزرق.
انقسم الموقف حيال ما قدمه في قصيدته عالية السقف والنقد والإشارة في مضامين سياسية أكثر منها اجتماعية، فالبعض يراه من أزلام السلطة التي لا زالت ترعاه وقد تكون تحاول استخدامه مجدداً كعنصر منفس للغضب إزاء قضايا عديدة. فيما يراه آخرون أنه سيد نفسه وليس “زلمة” أحد، بل هو كما كان دائماً، صوتا عالياً في وجه الفساد والمحسوبيات والرشى، لولا أن هذا الرجل عمق الخلاف عينه باستخدامه مصطلحات قاسية إلا أنها لا تخرج من إطار الرمادية المباشرة، لتحاكي كل ما أنتجته الدراما من أعمال متحررة ذات سقف مفتوح على أن يظل الحديث في العموميات، وهو ما فعله العظمة بالضبط. وما زاد في الأمر سوءا أنه راح يصعد الخطاب نحو الكتاب والمنتجين والمخرجين بقوة واندفاع، ولولا أن قافية القصيدة تسمح لكان لن يدخر فرصة في ذكرهم واحداً واحداً، ورأى البعض أن الحق معه، فأي عمل إذا ما قيس بسلسلة “مرايا” سيخسر، وإلا لكانت هي خسرت وما استمرت عشرات السنين.
اعتقد البعض في منشورات غير قليلة أن الفنان عاد إلى دمشق متحاملاً على أهلها ليبيعهم وجعاً عاينوه عن قرب بينما كان هو في دول أخرى ينعم بالرفاه، بعيداً عن أهل بلاده الذين وجه لهم قصيدته، تاركاً إياهم وحدهم في السنين العجاف الطويلة.
وهذا بمطلق الحال لا يعني أن السواد الأكبر لم ينتش بما قدمه النجم، وراحوا يشاركون قصيدته ويعلقون عليها برثائيات جديدة، فالحزن – بحسب فرويد- هو أصدق المشاعر المتناقلة، وأكثر تأثيرا إذا ما وجه لأناس يعتريهم الحزن والألم.
إذن، نجح العظمة في تكريس الحزن، في بلد تنقصه الحلول الآتية بالفرح، لا بالتنظير الفني-السياسي الكئيب، الذي يجعل مع الوقت من الحزن عادة، وهو ما جاء عليه العظمة في كل أبيات قصيدته.
بواسطة Amarji | أغسطس 26, 2020 | Culture, Poetry, غير مصنف
سَقْسَقَةٌ
من غابةٍ إلى غابةٍ، من شجرةٍ إلى شجرةٍ، من غصنٍ
إلى غصنٍ — أنصِتِي جيِّـداً! — من حَنْجَرَةِ هازجةِ
الزَّيتونِ إلى حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ الشَّواطئ، من حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ
الشَّواطـئ إلى حَنْجَرَةِ جُشْـنَةِ الغَيْـط، مـن حَنْجَرَةِ
جُشْـنَةِ الغَيْـطِ إلى حَنْجَرَةِ عـصـفـورِ الشَّـوك، مـن
حَنْجَرَةِ عصفورِ الشَّوكِ إلى حَنْجَرَةِ أبي حنَّاءالأحراش
الأحمر، مـن حَنْجَرَةِ أبـي حنَّاء الأحراش الأحمر إلى
حَنْجَرَةِ سُمـنةِ الصُّخور الزَّرقاء، مـن حَنْجَرَةِ سُمـنةِ
الصُّخـور الزَّرقـاء إلى حَنْجَرَةِ نِمْـنِـمَـةِ الشَّـجر، مـن
حَنْجَرَةِ نِمْنِمَةِ الشَّجر إلى حَنْجَرَةِ نُقشارةِ الجبال، من
حَـنْجَـرَةِ نُـقـشـارةِ الـجبـال إلى حَـنْجَـرَةِ قُـرقُــفِ
المستنقعات، مـن حَنْجَرَةِ قُـرقُـفِ المستنقعات إلى
حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ، من حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ
إلى حَـنْجَـرَةِ زرزورِ سُـقَطـرى، مـن حَنْجَـرَةِ زرزورِ
سُـقَطـرى إلى حَنْجَرَةِ زُمَيرِ الثُّلوج، مـن حَنْجَرَةِ زُمَيرِ
الثُّلوج إلى حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ الكرز، من حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ
الكـرز إلى حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ القصـب، حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ
القصـب إلى حَنْجَرَةِ الحسُّـون الأخضـر — أردِّدُ —
بحناجر كلِّ المجنَّحات —
أحبُّكِ
أحبُّكِ
أحبُّكِ.
*
قنديلٌ
ربَّما في سَهْلٍ بعيدٍ
حرَّكَتْ ريحٌ خفيفةٌ زهرةَ دِرْيَاسٍ ثُمانيَّةِ البتلات.
ربَّما في أجمةٍ بعيدةٍ
حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرياسِ رموشَ مُوظٍ حزين.
ربَّما في مستنقعٍ بعيدٍ
حرَّكَتْ ريحُ المُوظِ ريشَ لقلقٍ أصفرِ المنقار.
ربَّما في خليجٍ بعيدٍ
حرَّكَتْ ريحُ اللَّقلقِ شراعَ زورقٍ أزرق.
ربَّما في نافذةٍ بعيدةٍ
حرَّكَتْ ريحُ الزَّورقِ أهدابَ ستارةٍ بيضاء.
ربَّما في حديقةٍ بعيدةٍ
حرَّكَتْ ريحُ السِّتارةِ شَعْرَ امرأةٍ وحيدة.
ربَّما في غرفتي الآنَ
حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرْياسِ والمُوْظِ
واللَّقلقِ والزَّورقِ والسِّتارةِ والمرأةِ —
شعلةَ قنديلي وأطفأتْها.
*
مَلَنْخُوليا
القمرُ على الدَّرجات الحجريَّة المهجورة
أصيصُ حبقٍ منسيٌّ أيضاً
قطٌّ خَدِرٌ
حفيفُ
نَقْلِ
نِعَالِ
كآبتي
في صعودها ونزولها.
بواسطة أسامة إسبر | يوليو 29, 2020 | Culture, غير مصنف
تعرفتُ على الفنان نديم آدو منذ أكثر من عقدين في سوريا، وكنا نلتقي في مقهى الروضة والهافانا، وفي أمكنة دمشقية أخرى تجمع الكتاب والفنانين كالرواق، وحضرتُ معارضه آنذاك، ولقد أثرتْ بي تلك المعارض وفتحت ذهني على عوالم بصرية فوتوغرافية مشحونة بالعمق الشعري المستحضر لذاكرة المكان. دمشق أكثر دفئاً وإشعاعاً وحميمية في صور نديم آدو كما لو أنه حارس لحظاتها الأكثر سحراً وحارس ضوئها الذي تتربص به ظلمات كثيرة من خلال عدسته التي تنقب عن الجمال مطاردةً الضوء والظلال في أزقة دمشق القديمة وفي شوارعها حيث لا تكف الأشياء عن الإحالة إلى ذاكرة عميقة تختلط فيها الأزمنة وتفسح نوافذها للحاضر.
في صوره يسترشد نديم آدو بلغة الأشياء، وبالحوار بين الضوء والظل ورائحة التراب وعلاقة الضوء بالكتلة أو الشكل وخفايا الحركة والسكون وأسرار الظلال وتدرجاتها نحو مكامن النور، ولهذا كانت صوره الفوتوغرافية تاريخاً وذاكرة وثقافة وارتباطاً بالجذور ولملمة لشظايا الذاكرة ونتف الحكايات الضائعة، فالضوء الذي قاد عينيه وما يزال هو ضوء مجبول بتواريخ الأمكنة وذاكرتها.
نديم آدو مصور ضوئي وفنان تشكيلي سوري مبدع، اقتنيت أعماله في عدد من دول العالم وأقام معارضه الخاصة وشارك في معارض في حلب ودمشق وبيروت والسليمانية في كردستان العراق وكندا.
للحديث عن فنه ورؤيته الفنية للصورة الفوتوغرافية أجريتُ معه الحوار التالي والذي هو الأول في سلسلة من الحوارات مع أبرز فناني الفوتوغراف السوريين من مختلف الأجيال، في محاولة لإلقاء الضوء على هذا الميدان الفني الغني والذي يغنيه يوم بعد يوم فنانون مبدعون ومتميزون على امتداد الجغرافيا السورية وفي المنفى الطوعي أو القسري.
نص الحوار:
أسامة إسبر (أ. إ.): ما الذي قادك إلى التصوير الفوتوغرافي؟
نديم آدو (ن. آ): في سن مبكرة جداً عندما كنت طفلاً مشاكساً في أزقة حلب القديمة، كان لدي شغف دائم للرسم على الجدار. كانت الحيطان الفضاء الوحيد للتعبير عما في داخلي، وكنّا نركض لاكتشاف ما وراء الضوء. هذا السبب قادني إلى التصوير الفوتوغرافي، كنت أحلم بالقبض على فقاعات الصابون التي كانت تطير وتطير. هذه خطواتي الأولى للطيران نحو الفوتوغراف.
أ. إ.: ما هي المحطات الأساسية في تحربتك في حقل التصوير الفوتوغرافي؟
ن. آ: كان امتلاك الكاميرا المرحلة الأولى للبدء بخوض تجربة الفوتوغراف. فالكاميرا بالنسبة لي كانت البيت الذي يجلب الراحة و السعادة. وبعد نشاطات ومعارض مختلفة، استطعتُ كسب سمعة فنية وبصمة مميزة في عالم الفوتوغراف، الذي قاد الى فتح أبواب مهمة أمامي. انتقلتُ من مرحلة شغف امتلاك الكاميرا إلى مرحلة عروض فنية على مستوى المراكز الثقافية الأجنبية في سورية منها كالمركز الثقافي الأمريكي، والمركز الثقافي الفرنسي، ومعهد غوته الألماني، ومعهد ثربانتس الأسباني، قدمتُ خلالها رؤيا جديدة للأماكن الأثرية التي تشتهر بها سورية قديماً وحديثاً. ومازلتُ حتى الآن أبحث عن فضاءات جديدة.
أ. إ.: ما التأثيرات المهمة في تجربتك؟
ن. آ: كان المقهى هو الفنان الأول، حيث تجتمع هناك فئات مختلفة من المثقفين والمبدعين ضمن حلقات نقاش ونقد. كنتُ أعطي آذانا صاغية لهم وأراقب حركة الأيدي والوجوه. كانت الكلمات تحفظ في ذهني على شكل صور، فأصبح لدي مع الأيام ذاكرة فوتوغرافية غنية.
أ. إ.: ما المجال الفوتوغرافي الذي تركز عليه؟
ن. آ: لا يهمني مجال معين بقدر ما تشدني الأشياء الراسخة في ذاكرتي وعلاقتها بالبيئة الملونة حولي، أحاول دوماً ربط الذاكرة بالمحيط حيث يمتد المدى، كل شيء صورة، كل إنسان صورة، كل كلمة صورة، كل عاطفة صورة. ذاكرتي الفوتوغرافية مبنية على صلة رحم قوية بيني وبين ما تتلقفه حواسي.
أ. إ.: ماذا تريد من الصورة الفوتوغرافية أن تقول، أو عن ماذا تريدها أن تعبّر؟
ن. آ: من الجميل أن تكون فوتوغرافياً تقبض على الزمن بلحظة وتحتفظ بها للأبد. الصورة لحظة مكثفة من حسٍ هارب، تعبٍ مزمن، معاناة ما. كل صورة ألتقطها أراها بعيني الثالث التي هي جزء كبير من أبعاد تمنح اللقطة شخصية وشعوراً لافتاً للنظر.
أ. إ.: ما الشروط التي يجب أن تتحقق في الصورة كي نقول إنها صورة إبداعية؟
ن. آ: الصورة عندي قصة متكاملة لها مقدمة ونهاية. الشرط الأساسي لصورة إبداعية هو الإحساس العالي بالجمال وذاكرة مفعمة بالخبرات الضوئية، من الضوء تنطلق الحكاية.
أ. إ.: أنت من المصورين المعروفين للأزقة والأبواب القديمة والوجوه والأيدي في الأمكنة المزدحمة المليئة بتفاصيل الحياة، لكنك الآن تعيش في كندا وتتحرك في مجال بصري مختلف، أراضي زراعية وأجواء باردة؟ كيف تعاملت فوتوغرافياً مع هذا الانتقال بين عالمين؟
ن. آ: ما زلتُ في حنين مستمر للأبواب والشبابيك العتيقة في أزقة حلب القديمة، في البيوت المبنية بلصق بعضها، تسند بعضها بدفء يدوم للروح التي تقاوم النسيان. هذه الأبواب وأزيزها الذي لا يتوقف في رأسي حالة عشق لا تنتهي، ما زالت رائحة تراب البيوت الدمشقية القديمة في باب توما عالقة في ذاكرتي بعد ليل طويل من المطر. أما بعد انتقالي إلى كندا حيث السهول الشاسعة على مد النظر لم أفتح حقيبة الكاميرا بعد. أحتاج إلى وقت كي أبني علاقتي مع المكان الجديد والذي تغير علي كلياً من حيث المناخ والطبيعة والتاريخ. قد ألتقط صورا جميلة في أي مكان ما من العالم ولكنها ستفتقد إلى الحس المرتبط بالذاكرة الفوتوغرافية.
أ. إ.: هل من الضروري برأيك أن ترتبط الصورة الفوتوغرافية ببيئة معينة، أن تكون نتاج ثقافة معينة أم أن عناصرها الجمالية هي التي تحدد هويتها؟
ن. آ: كل إنسان هو ابن البيئة التي نما فيها، وأنا ابن بيئة تاريخها ٧٠٠٠ سنة. الصورة ابنة البئية، ولكل بيئة عناصر جمالية خاصة تحدد هويتها.
أ. إ.: ما العوالم التجريبية التي خضت فيها كفنان فوتوغرافي؟ كيف تنقل الصورة أشياء العالم الحميمية والصغيرة وتثير ذاكرة أشياء مادية محددة؟
ن. آ: في اعتقادي أن العوالم التجريبية التي يخوضها الفنان عادةً ما تكون عصية على أي وصف أو تحديد، وذلك لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها تطورات الكينونة النفسية ذاتها لدى الفنان، والتي تتغيّر باستمرار عبر التفاعل الحثيث والمتبادل، بينها وبين كافة ظواهر الوجود الخارجي. بالنسبة لي كان أهم تلك العوالم، وما يزال، هو علاقة الضوء بالكتلة أو الشكل، وكيفية توثيق خفايا الحركة والسكون، و مازلت مشغولاً بأسرار الظلال وتدرجاتها نحو مكامن النور. بالإضافة الى الانشغال الأساسي لي في تتبع عوالم الجمال الخفي الذي ترميه الأشياء هنا وهناك على هيئة تشظيات ذاكرة.
في النهاية أية صورة هي عبارة عن منجز فني يحمل في طياته فكرة، أراد فنان الفوتوغراف أن يفشي من خلالها سراً جمالياً أو أن يدل على مكمن لكنز من الجمال على الأقل.
أ. إ.: الوجه البشري دائماً هارب، وهو في الفوتوغراف يتجسد في لقطات تعبر عن أطوار أو تحولات عابرة في حركيته؟ ما الذي يستطيع الفوتوغراف أن يلتقطه في الوجه؟
ن. آ: يمكن القول إن الفوتوغراف هو الخصم اللدود لذاك الهروب المقصود في الوجوه، وهو الخصم العنيد لحركة الزمان وتجدد الوجود ككل. وبحسب زعمي، لا يوجد في الوجوه عموما، كما في كل الأشياء، تطابق تام، إنما لكل وجه حضور فريد، يحمل بصمة من المشاعر المميزة، ولو دققنا قليلا في هذا الحضور سنجد أن هناك مئات بل الآلاف من الحالات التعبيرية المتباينة، والتي لا يستطيع الفهم الإنساني أن يعيها دون مساعدة الفن، وربما فن الفوتوغراف بالذات، لما يملكه من قدرات على تثبيت اللحظة وإمكانية توثيق انبثاقات التعابير وتخلقاتها بكل آن، وكذلك يستطيع أن يروي حكايات الملامح ويسرد بفرادة اللقطة، اللغة التي يتحدث بها كل وجه. إن فن الفوتوغراف مثله مثل بقية الفنون، يستطيع فنان الفوتوغراف عبر اللقطة أن يلتقط التعابير الدقيقة، وأدق دقائق القسمات في الوجوه من جهة، كما يستطيع أن يجبر المتلقي على إكمال الكثير من الجمل والعبارات التي باحت بها هذه الملامح أو تلك من جهة أخرى.
أ. إ.: ما هي أحب المدن إلى قلبك بالمعنى الفوتوغرافي؟ ما المدينة، أو المكان الذي لم يتوقف عن جذبك إليك كمصور؟
ن. آ: من خلال هذا الحوار إجابات واضحة أي المدن أحب الى قلبي كمصور، وما زلت أبحث، القليل من الضوء يكفي لأنجو بصورة من حارات حلب و دمشق القديم.
أ. إ.: كيف يعرف نديم آدو نفسه كفنان فوتوغرافي، ما هي الإضافة التي حققها وكيف ينظر إلى اختلافه عن غيره منطلقين من فكرة أن كل تجربة هي فضاء مختلف عن التجارب الأخرى؟ كيف يعرّف الفنان نديم آدو عالمه الفني؟
ن. آ: نديم آدو الطفل الراكض باتجاه الشمس، مثل زهرة عباد الشمس أدير وجهي حيث الضوء. عالمي الفني مليء بصور تروي حكايات وقصصاً لا تنتهي، أجد نفسي في قلب كل شخص اقتنى لوحة من أعمالي.
بواسطة Katty Alhayek | يوليو 20, 2020 | Cost of War, Culture, غير مصنف
*This article was originally published by the LSE Conflict Research Programme blog.
Since 2011, media has played a significant role in the Syrian conflict, which started as a peaceful uprising, then escalated into a violent civil war resulting in the largest refugee and displacement crisis in the world. Mass media played a negative role, acting as a driver of the Syrian conflict by inciting violence, hate speech, and sectarianism. In this article, I focus on successful alternative media interventions that challenge the violent, stereotypical discourse dominant in mass media. As part of a larger research project, I examine, as a case study, the discourse surrounding the Syrian television drama series Ghadan Naltaqi (GN) [We’ll Meet Tomorrow] which generated an exemplary dialogue between the forcibly displaced segment of its audience and the writer/creator of the show, Iyad Abou Chamat. I consider GN as an alternative media intervention because it provides a case where media creators help displaced people both to mitigate the traumatic effects of a highly polarising conflict, and to find a healing space from violent and alienating dominant media discourses.
The context of Syrian media
Before the war, Syrian media was known for its successes in regard to the Syrian drama industry, and for its failure in term of news and public affairs programming (Kraidy, 2006). However, this has changed rapidly with the emergence, since 2011, of new, alternative online spaces reporting new political perspectives (Wall and El Zahed, 2015). Regardless of these new spaces, it is widely argued that the media interventions that addressed general Syrian audiences from different political opinions were rare throughout the years of the war. Syrian TV dramas were the best medium to expose structural inequalities and the corruption of the ruling social and economic elites (Salamandra, 2011). After the war, several new challenges would face the Syrian media sector, including the television drama industry. Challenges, such as the departure of the most qualified drama makers from Syria and the severe decrease in production budgets of drama serials inside the country have negatively affected the quality of the final products, resulting in many drama series that escape from reality through the genre of soap opera. And yet, the cultural production environment of Syrian drama after the “Arab Spring” and the Syrian war has new, positive margins supporting drama that explicitly tackles the current political events in Syria and the Arab region. A representative example is Ghadan Naltaqi (GN) which ran during Ramadan in the summer of 2015. It is particularly interesting because it provides a case where Syrian TV audiences used Facebook as a space to engage with the producer of the show that undertook representation of displaced Syrians experiences.
Production and broadcast of Ghadan Naltaqi (GN)
Ghadan Naltaqi (GN) focuses on the daily lived experiences of a group of displaced Syrians who rent separate rooms in one modest building in Lebanon. The group is composed of individuals coming from different social positions in pre-war Syria, and represent diverse political views vis-à-vis the conflict. The show depicts many of the political, economic and cultural challenges that face Syrian refugees who live in neighbouring countries such as Lebanon. The series received positive reviews from Arab critics and audiences, and it was awarded the 2015 Best Comprehensive Drama series of the Year – shared with The Godfather-East Club – by the Television and Radio Mondiale in Egypt (Alaraby Aljadid 2015).
The show also generated controversy over gender-related themes and scenes around sexuality and virginity, which resulted in the decision of Arab TV stations such as Abu Dhabi Al Emarat TV to delete such scenes from broadcast because they did not fit with their censorship standards. However, an uncensored version of the series in high definition, was uploaded by the series production company ‘Clacket Media Productions,’ and is available on YouTube free of charge. The availability of GN on YouTube provided broader access to Syrian audiences around the world who had no other way to watch the series.
Censoring the content that tackles sexuality from the series angered some Syrian critics (such as Brksiah, 2015) because that omits new experiences of personal freedom many refugees encounter once they move out of their traditional, conservative communities inside Syria. Indeed, one of GN contributions – to the representation of gender issues in Arab media – is showing the agency of refugee women and the new margins of freedom that displacement offers for women to explore newfound bodily pleasures.
Audiences experiences and communication needs
As a coping mechanism with displacement, watching Syrian TV drama serials provided Syrian audiences with ways to connect with family, friends, and other displaced Syrians all over the world. From pre-war life in Syria, the ritual of watching TV drama serials during Ramadan–with the rest of the family members–was a common family tradition that constructed shared memories between Syrians. Separated by borders and racist politics since 2011, watching Ramadan TV serials and discussing them online with family members, friends, and other diasporic Syrians became a continuation of that nostalgic tradition.
To explore Syrian audiences’ experiences with media texts that tackles the war and the refugee crisis, I interviewed the writer/creator of GN Iyad Abou Chamat and 25 members of his audience who friended him on Facebook after GN aired. Some of these interviewees reside inside Syria and others live in countries like Germany, Turkey, Saudi Arabia, France, Dubai, Morocco, and the United States. The particularity of the Syrian war-related topic in GN and its applicability to both the creator of the series, as well as to audiences’ lived experiences evoked a significant level of online participation with Chamat. He assured me that the series was inspired in many ways by his real-world experience. In 2012, he fled Syria, due to the ongoing war, to Lebanon. Then he travelled to France, a country where, in 1996, he had received post-graduate training in scenography after he graduated from the Higher Institute for Dramatic Arts in Damascus, Syria.
GN fulfilled Syrian audiences’ communication needs to be represented in the media in a way that resembles the reality of the war and its complexity. For instance, Reem (female, resides inside Syria) said: ‘The series, for me, is my voice, my opinion, my ideas. It is everything that is going on in my head and my heart about what is happening in Syria. The series described what is happening in a very professional and honest way.’ Additionally, Syrian audiences who engaged with GN and its writer/creator identified with the represented experiences of the series’ characters. Most interviewees identified with the whole represented lived experiences of the series’ characters and preferred not to name any particular character as the one that they identify with the most. However, several interviewees named Jaber as the character that they identify with the most. The reason is because Jaber (regardless of his political positions as supporter of the Syrian regime) is the character that deals the most with the challenges of displacement and transferring from a middle-class lifestyle in Syria to an impoverished lifestyle in Lebanon. Unlike his brother Mahmood, who is a poet, and Wardeh, who continues her on-demand job in bathing the deceased, Jaber came to Lebanon after he lost everything in the war including his small shop. Thus, Jaber’s storyline focuses on his search for any job while he finds a way to emigrate to Europe. The following comment explains the reason behind some participant audiences’ identification with Jaber: “Ghadan Naltaqi represented the suffering of every Syrian inside and outside the country. I saw myself in the suffering of Jaber while he was searching for a job, while he was wandering the street selling CDs in order to live with dignity not needing anyone.” (Ibrahim, male, resides in undisclosed place outside Syria).
Syrian audiences used Facebook as a platform for pedagogical exchange with TV drama creators. Like in live theater where, after the performance, audiences may be able to approach the cast to inquire about certain scenes and storylines, after each episode GN’s audiences were able to communicate with Chamat to praise, critique or clarify some aspects of the series’ narratives. GN audiences’ online participation with Chamat is also motivated by recognising and admiring Chamat’s political intervention and reading of the Syrian conflict through the text’s symbolism. Joubin (2013) argues that Syrian drama creators use metaphors of love, marriage, and gender (de)constructions indirectly to challenge and explore larger issues of political critique, nationalism, government oppression, and corruption. My research supports Joubin’s argument.
Chamat confirmed that the main storyline in his series – about the love triangle between Wardeh and two brothers Jaber and Mahmood (who reside next to Wardeh’s room in the same Lebanese school building that was turned into a refugee location for Syrians who rent separate rooms) – is a metaphor of the Syrian war. Wardeh is a symbol of Syria, Jaber is a symbol of the Syrian regime, and Mahmood is a symbol of the Syrian opposition. Chamat clarified this point: ‘…this symbolism was explicit and implicit. The audience figured out quickly this symbolism and they dealt with Wardeh in a real way as if she was Syria.’ Chamat admits to having a larger pedagogical message in his series: ‘Today there is a complete political failure in tackling the Syrian war; therefore, I depend on art to speak to Syrian people’s consciences. Art is very important when politics fail.’ Several audience members explain this symbolism by referring to a scene from Episode 26 where Jaber and Mahmood fought in Wardeh’s room over who loves her and deserves her more, which accidentally causes the burning of the room. Batoul (female, resides inside Syria) said: ‘the most amazing scene was the fire scene in Wardeh’s room because this scene summarised the years of the Syrian crisis. The two brothers burnt the room of the girl who they both loved.’
Salamandra (2011) notes that Syrian drama creators, before the current war, were known for confronting audiences with the consequences of corruption and neoliberal policies by using ‘stark social realism’ (285). After the war, GN symbolises, for Syrian audiences, a continuity of this respected tradition of Syrian art and culture that reflects and critiques the power structures of their society. Zeno (2017) demonstrates that refugees’ experiences are dominated by feelings of loss and humiliation; thus, it is important for them to find cultural references that invoke a sense of dignity and pride to cope with their displacement. Based on that, GN served as a source of national pride motivating audiences to participate online and engage with Chamat and his show. Interviewees reported feeling national pride because of the series’ success in globally representing the experiences and stories of real-world people like them who suffer from and survive through the Syrian war.
In sum, GN functioned as an entertainment intervention that provided displaced Syrians with scripts to interpret their nostalgic past in Syria, their painful present in the diaspora, and their hopeful future that contains newfound freedom. Interviewees’ perspectives show that the main intervention of drama serials like GN is complicating news media narratives about the Syrian conflict by representing diverse, complex characters and storylines that resemble the lived experiences of audiences in contrast to the news media that is either ideological or stereotypical or both (Alhayek, 2014). One particular strategy that GN’s team used was to choose famous actors who are known for supporting or opposing the Syrian government and assign them opposite political positions in the show. Syrian audiences saw and appreciated this strategy as an intervention to encourage audiences to listen to the opposite political views from their own and to acknowledge that no political side is solely responsible for the destruction of Syria.
بواسطة أسامة إسبر | يوليو 15, 2020 | Culture, غير مصنف
–I–
يخطرُ في ذهني أحياناً أننا وُلدْنا من الريح
أو على ظهور الأمواج وهي تَجْمحُ
أننا أتينا مع ضوء الفَجْر إلى لحظاتنا
وتَساقَطْنا مع الأمطار
أو ربما وُلدنا من ضوءٍ هربَ من الشمس
كي يُضيء لحظته ويثملَ بنفسه
من الدوران السريع لجناحيْ الطائر الطنان
أو من ارتعاشِ جناح فراشةٍ
وربما مكثْنا قليلاً في أوراق الأشجار وثمارها
وفي مياه الينابيع.
وعلى الشواطئ التي غادرْناها
وُلدَ أطفالٌ آخرون
ما يزالون هناك،
لا يفكرون بمن خرجوا منهم ورحلوا.
–II–
الشاطئُ الذي غادرْتهُ
أراد أن يحبس صوتيَ في أصدافه
بعد أن منحني أجنحةً وأخذ مني الفضاء.
أقول له الآن:
شاطئي آخرُ حانةٍ خرجتُ منها
أوّل حانة سأدخلها
آخرُ كتاب قرأتهُ
وآخر موسيقا سمعتُها أو سأسمعها.
شاطئي امرأةٌ أعانقها الآن.
–III–
المدينةُ التي درستُ فيها أربع سنوات
على شاطئ المتوسط
لم يسافرْ منها شيءٌ معي.
نزلتُ من سفينتها
وهي تُبحر دون خريطة أو بوصلة
في بحر ماضيها.
–IV–
المدينة التي عشتُ فيها عقدين من عمري
عاصمةٌ تغنّى الشعراءُ بجوامعها وأسواقها ونسوا آلامها.
تخيّلوا الماءَ يجْري في نهرها
ولم يروا الذبول في أوراق أشجارها.
المدينةُ التي يتغنّى الشعراءُ بشموخ جبلها
ولا يريدون أن يروا أنها في الهاوية
آثرتْ ألا تسافر معي
أن تبقى جامعاً أو سوقاً
أن تظلَّ نهراً متخيلاً في قصائد الشعراء
زقاقاً أو مئذنة في صور السائحين
سجادةً على جدار
أو جرّة فخار على الطاولة.
المدينةُ التي عشتُ فيها عقدين من عمري
لم تكن حيةً في داخلي
لم أسمع فيها إلا الموتى
يُلقون مواعظهم على الأحياء.
–V–
المدينة التي رحلتُ إليها
تلبسُ في الشتاء ثوباً أبيض
فتخالها ممرضةً في مستشفى كوني
وحين تلمحُ الأضواء تنزلقُ على صدْرها الثلجي
لا تعرف إن كانت تنير الدروب أم تُعْتمها.
التقيتُ فيها مرة بكاهنٍ نذرَ حياته للمشرّدين
كان يجمع التبرعات ويموّل صالة تقدم الطعام والسرير لهم مجاناً.
سألني: ما رأيك بشيكاغو؟
قلت: مدينة كريمة، لا تُشْعركَ بأنك غريب.
علتْ وجهه ابتسامة غامضة، وقال:
أريدك أن تأتي معي في أحد الأيام كي ترى شيكاغو.
حين ذهبتُ معه رأيتُ مدينةً أخرى
تضع أبناءها في برادات الشتاء وتنساهم.
–VI–
أتمنى لو كان بوسعي
أن أمسكَ الطفل الذي كنتهُ
لحظةَ خروجهِ من الرحم
وأبلّلَ أصابعي بدم ولادته
كي أتأكد أنني ولدْتُ
أنني لستُ نسمةَ هواءٍ.
ربما لم تحدث الولادة
ربما نحن قصصٌ رواها أحدٌ ما
ما يزال يرويها أحدٌ ما
كلماتٌ همستْها شفتا الريح.
–VII–
يحدث أن تختفي بلادكَ عن الخريطة
أن تتكسّر خطوطُ مدنها وقراها
أن تنخفض سماؤها كسقف زنزانةٍ
وتضيق وديانُها وجبالُها وسهولها
ولا تعثر على مهرب إلا في روحك الضالة.
أحياناً لا تعرف أين أنتَ أو من أنتَ
أو إلى ماذا تنتمي.
ترى نفسك تغضّناً في ماء البحر
زبداً أو رملاً على الشاطئ
يلتصقُ به ضوءٌ مبلّل مجنون.
–VIII–
حين أعودُ من اللحظة التي أنا فيها
إلى لحظاتٍ عشتُها
أرى نفسي صياداً
يرمي صنارته في الرمال.
حين أستعيد طفولتي
أشعر بملمس رمادٍ بارد على أصابعي.
ألمح قمراً ضيّع ضوءه
أفكر بالريح
بأشكالٍ تتفتّت في معدتها
الريح
التي تقتاتُ على الأشياء.
–IX–
في شيكاغو
تدفعني الريحُ أمامها في الشارع.
يكتسي وهْجُ بياض الثلج بضوءٍ
يغلّفُ المدينة بكفنِ ضباب أصفر.
ربما أستطيعُ أن أعلنَ ولادتي
في حانةٍ ما
أو في مخدعٍ ما
حين يتوهّج الضوءُ
لا من شَمْسٍ تشرقُ
بل حين ينزاحُ اللحاف قليلاً
عن جسدٍ عارٍ
وأسمعُ جريانَه
في عروقي.
حزيران، 2020