كالضوء، لا أفهم سرّ انكساري

كالضوء، لا أفهم سرّ انكساري

ثَمرة ٌ ناضجةٌ

امرأةٌ

بقلبٍ مفتوحٍ

وعينٍ واسعةٍ

،تهزُّ شجرة الروح

:يسقطُ كلُّ شيء أمامها

الحياةُ

العينُ

القلبُ

.الروح

بنظرةٍ طويلةٍ

وابتسامةٍ عميقةٍ

،تُودِّعُ الحياة

تُوَدِّعُ ما رأتْ

.وما سترى

بنظرةٍ عميقةٍ

وابتسامةٍ طويلةٍ

ترى كلَّ ما كانَ

.وما سيكون

ليستْ عرافةً

كانت حدساً

.يضيء

كانت

.ثمرةً ناضجةً

:فهمتْ كلَّ شيء قبل السقوط

عَجْزَ الانسان في أن يكونَ أو لا يكونُ

.عجزَ الطائر في أن يطيرَ أو لا يطير

،يا حياةً

يا تعباً تُتَرْجِمَهُ الصُّورُ

امرأة بقلبٍ مفتوحٍ

وعينٍ واسعةٍ

.رأتْ الحياة صوراً مرسومةً على وجهها


كلما  مرَّ أمل اصطدتهُ

ٍمثل شجرةٍ ميتة

مثل موجةٍ تضرب الشاطئ

مثل غريبةٍ

لا أرى الطفولةَ

ولا ملامحَها

ولا أمراضَها

لا أتذكّر لقاحَ الجُدري

َّولا السل

ولا الحصبةَ

.ولا أيامَ الفِطام

َيائسةٌ مثل ثدي امرأة لم تعرفْ الرضاع

مثل أرملةٍ تنتظُر غبارَ الربيع

.كلما  مرَّ أمل اصطدتهُ


كالضوء، لا أفهمُ سرَّ انكساري

أنا الطالعةُ من رَحِمِ الأرضِ

بدعائي أشقُّ السماء

في سطوعٍ أعلو

.وفي عتمةٍ أغفو

منحتُ الحديقةَ خُضْرتَها

والأشجارَ

،أولادي

.وَرثوا أقوى عظامي

في تصاعدٍ خفيفٍ أقطعُ المسافةَ

،متصالحةً مع نفسي

يتراءى لي

.لكنّني كالضوءِ لا أفهمُ سرَّ انكساري

.أحتاجُ سفراً طويلاً كي أعبرَ المتاهةَ

.من حرير الكلام أرسمُ ألواني

:أسألكَ أيها البحر الصامتُ

لماذا رمتْ أمي ثيابي؟

،لماذا لم تترك سوى صبيةٍ في قلبها يلعبون

حفاة إلا من حبِّها؟

صادقتُ الضياءَ حتى انفجرتْ عيني

صادقتُ البحار فأخذني الموجُ

صادقتُ الصحراء فابتعلني رمْلُها

.صادقتُ البعد فخاطبني: أنت أبعدُ مني


عاريات

يا شجَرةَ الصَّفْصَافِ لماذا تَشْهَقين؟

سألتْها المرأةُ التي تنامُ تحتها

أعاريةٌ أنتِ مثلي بلا أوراق؟

ضحكت الأرض من تحتهما

،وتكوّرت

.سبحان نسائي، خَلَقْتَهُنَّ عارياتٍ


عاشقةً كنت
 

.هبطتُ من القُرَى أجرُّ أحلامي

غيمةٌ مرَّتْ فوق رأسي المجنون

.وأوحت لأقدامي بالهرب

عاشقةً  كنتُ

أرسمُ أحلامي بقَشٍّ

بلا حبرٍ

.ولا قلم

أغيّرُ وجهي مثلَ أوراق الشَّجر

ٍ من خريفٍ إلى ربيع

.إلى مطرٍ

أغيّرُ وجهي

مثل البراري

ٍ من ذئاب

.إلى حجر

بيتي لا يطلُّ على ساحلٍ

بيتي لا يطلّ على غابةٍ

ٍ بيتي ليس في مرتفع

ولا في منخفضٍ

بيتي في مساحة التيه

.تسكنهُ امرأةٌ ضائعةٌ

أعرفُ الحبَّ

يجري كماءِ الجداول

أعرفُ  الحبَّ

.يَعصفُ مثل الرياح

أنامُ مثلَ غيمة ٍفي حُضْنك

تنامُ مثل ريحٍ في عينيَّ

أغرفُ من نَبعِ أيَّامي

ألمُّ الحَصى

.وأشربُ الرمْل

كلَّ يوم أنسجُ امرأةً جديدةً

أقنعها بالحُجَج

أحتال عليها لألف ِغايةٍ

…كي أحيا

سلامٌ على هذه المرأة التي تفتحُ أبوابَ الفجْرِ

وتغلقُ خلفَها أبواب َاللّيل

.وتنتظر أبواب الصَّباح ِكي تمضي إليها

الورودُ التي زرعناها

،تبكي

.يدٌ خائنةٌ مرَّتْ عليها

أخطائي تنام ُعلى كتفي

.كنتُ لها خيرَ صديقٍ

.سأزرع ورداً كثيراً

.سأزرعُ ورداً بعددِ أخطائي

سأحفرُ الأرضَ

أحاول أن أصلَ إلى العمقِ

.ربما أجدُ نَفْسيِ

تتفتحُ الأزهار حولي

بيضاءَ بيضاء

إنّه الربيعُ

سأغنّي أغاني الحب

سأغني أغاني الفقراءِ

سأغنّي أغاني المغدورات

:وأردّدُ

.كل نفس ذائقة الحُبّ

،تعبتِ المرأة التي تسكنُ الأرض

.تعب َنعاسها من الصُّراخ

عندما أستيقظُ أرفع ُستائرَ السَّماء

ألوِّح ُلها من الأرض البعيدة

هي تطل على مَدَاري

.وأنا أدورُ مع كواكبها

يا إلهَ الغَابات

احرسْني من الضوء

.لقد سرقوا عينّي

ما لا يُقال

ما لا يُقال

الجبال لا تعرى

 في الأوقات الصعبة أستبدل مدُني

بجبال خبأتُها في عينيَّ.

الجبال لا تَعْرى

قلبها من حجر

ورداؤها عويل ذئاب.

وحدها المدن تندثر

تعْرى وتغرق أو تحترق.

هنا أو هناك في هذه المواقيت

يتجمع الناس خلف النوافذ

يطفئون نيرانهم بالنظر.

 

المطرُ، واثقاً من موسيقاه

يدمع فوق كل شيء

وتشربه الحياة كاملاً.

 

 اللا نهاية

شجرة وحيدة في قرية مهجورة:

العالم كاملاً يعيش بداخلي.

*

ما لايقال،

يشغل الفسحة الأكبر من الحياة.

*

لم تعد مقاهي المدينة تكفي وحدتي

العزلة في صمت:

أحاول تجسيد اللانهاية.

  

خشخشة                                                                                                                             

كان فضولي إلى الغد يأكلني

يأتيني كل يوم بشكل مختلف

مرة يسحرني مثل سماء على صفحة الماء

وأحيانا ً مثل صحراء تبكي من العطش.

اعتدت على تبدل أهوائه وصرت الأرض التي تستجيب.

صار بعدها يركض محملاً بما بعد الأفق

ثم غيّر اسمه فأمسى أمساً

يذوي من مجرد لمسة مني.

وينزل الليل

الآن، أستدير إليه بكلي

فلا أراه

لكنني بالكاد أسمع خشخشة.

دون قصد

 لا تكتب شعراً وأنت حزين

ولا حين تغمرك سعادة صادمة

اكتب وأنت بين حياة وموت.

*

الموتى يكتبون الشعر دون قصد

يحفرونه في ذاكرتنا

من قلوب تساقطت

بعد أن شربت من نهر أعمى.

  

اليوم العاشر من دمشق

 في اليوم العاشر من دمشق

هناك طفلٌ على الأقل

لا يتوقف سعاله في هذه اللحظة من الفجر.

*

في جانبٍ من رأسي قصص هزلية حزينة،

وفي الجانب الأرحب منه جمال منقوص.

*

ترتعش يدي حين تصدق اللحظة.

*

الكلمة أشجع من الصورة،

توقعنا في فخ التحقق،

وأما الخيال فهو لا يستحي.

*

بالكلمة أمحو حزني على نفسي

وبها أيضاً أعبر الحقيقة.

*

في اليوم العاشر من دمشق

يزداد نباح الكلاب.

موت السينما والحياة الثقافية في اللاذقية

موت السينما والحياة الثقافية في اللاذقية

لا يليق باللاذقية التي تُسمى عروس الساحل أن تتعرض لكل تلك الإنتهاكات والتشويه، فلا يزال سكان اللاذقية (وغيرها من المدن) مُروعين بجريمة تبليط البحر وإزالة أجمل المقاهي البحرية بحجة توسيع المرفأ. لقد أصبحت اللاذقية مدينة ميته تماماً، فلا مسرح راقي حقيقي ولا سينما. وأريد أن أعرض واقع دور السينما في اللاذقية.

بداية أريد أن أحكي عن مرحلة في الستينيات والسبعينيات كانت فيها عدة دور سينما في اللاذقية تعرض أهم الأفلام، ولا أنسى يوم كنت لا أزال في بداية مراهقتي وكنت في مدرسة الكرمليت الخاصة التي تشرف عليها الراهبات كيف اصطحبونا (نحن المراهقات) إلى السينما لنحضر فيلم (رجل وامرأة). وأثناء دراستي للطب البشري من عام 1977 إلى 1984 في اللاذقية كنا نتفق أصدقائي وأنا بعد تقديم كل امتحان أن نحضر فيلماً سينمائياً، وفعلاً حضرنا أروع وأجمل الأفلام في صالات سينما اللاذقية وأشهرها: سينما الكندي، وسينما الأهرام، وسينما أوغاريت.

ولا أنسى كم تأثرت بفيلم (الفراشة) لداستن هوفمان لدرجة أنني حضرته مرة ثانية. وكان أخي مولعاً بأفلام الكاوبوي وحضر عشرات الأفلام، أما سينما أوغاريت الأكبر والأجمل والمؤلفة من طابقين، فقد اشتهرت بعرض الأفلام الهندية وكم ذرفنا من دموع ونحن نحضر هذه الأفلام. وكانت صالة سينما أوغاريت فخمة ونظيفة وجميلة وقد قدمت فيها المطربة المشهورة جين مانسون حفلة حضرها معظم شباب وشابات اللاذقية بكثير من الاستمتاع. كنتُ أكتب على دفتر صغير اسم كل فيلم أحضره وبضعة أسطر عنه. وتجاوز عدد الأفلام التي حضرتها في صالات السينما في اللاذقية المئتي فيلم.

كان الأجمل والأروع أن المسؤولين (في تلك الحقبة من السبعينات وبدااية الثمانينات) سمحوا للشباب والشابات ومعظمهم جامعيون\ات أو أنهوا دراستهم الجامعية أن يُحضروا أفلاماً مهمة أو حديثة قيمة في سينما الأهرام حيث كانت  تُقام بعد كل فيلم جلسة حوار لمناقشته. أذكر أنني كنت لا أزال طالبة في كلية الطب حين كنت أحضر كل خميس أروع الأفلام في سينما الكندي وسط جو فني وثقافي رائع، وبعد انتهاء الفيلم كان الصديقان الشاعر الصديق منذر مصري (والذي كان يملك مكتبة فكر وفن التي كانت علامة حضارية في اللاذقية) والصديق مصطفى عنتابلي يقفان على المنصة في سينما الكندي ويبدآن بالتحدث عن الفيلم وكل الحضور يشارك في الحوار. كم كانت هذه الحوارات مفيدة وغنية. ولا أذكر التاريخ الدقيق لانهيار أهم منبر ثقافي وفني في اللاذقية أي صالات السينما، إذ كنت قد انتقلت إلى دمشق للاختصاص في طب العيون عام 1986 وماتت السينما تماماً في اللاذقية، ولم يتم عرض أية أفلام إلا فيما ندر وتحديداً في سينما الكندي لأن سينما الأهرام وسينما أوغاريت تحولتا إلى خراب، وتكومت هضاب الزبالة في مدخلهما.أما سينما الكندي فكانت تعرض بشكل شبه حصري أفلام عبد اللطيف عبد الحميد، ولم تتم أيه صيانه لسينما الكندي إذ كانت مقاعدها مهترئة والصوت فيها مشوش. وأحب أن أذكر تلك الحادثة حين كان عمر ابنتي خمس سنوات، وأردت أن تعرف معنى السينما وأن تحضر فيلماً سينمائياً، وللعجب كانت سينما الكندي تعرض فيلماً لعمر الشريف هو المواطن مصري، وكنت أعرف أن الموضوع لا يناسب طفلة لكنني اصطحبت ابنتي إلى السينما، وكانت القاعة خالية تماماً! كنتُ وحدي مع طفلتي التي لم تكمل الخمس سنوات وصعب علي إقناعها بالجلوس فكانت تتسلى بصعود الدرج في صالة السينما والنزول، ولأنني كنت أعرف قاطع التذاكر في سينما الكندي فوجئت أنه أحضر لي طاولة صغيرة وضعها بجانبي وفنجان قهوة وبسكويت، وشعرتُ أنني في مقهى وأظنه كان ضجراً لحد الانفجار فأخذ يتحدث إلي متنقلاً من موضوع إلى موضوع فيما الصوت الرديء للفيلم مستمر ولم أعد أركز على أحداث الفيلم إذ أحسست أنني في مقهى أرشف القهوة وأتابع ابنتي تلهو في صالة السينما بصعود الدرج ونزوله. وخرجتُ بعدها بخيبة أمل كبيرة وغصة ولم أجرؤ أن أسأل طفلتي إن كانت السينما قد أعجبتها!

وفي بداية 2011 أصبح وضع صالات السينما كارثياً بدرجة أكبر مما ذكرته سابقاً؛ حيث تحولت سينما أوغاريت إلى ثكنه عسكرية وشُيد مقابلها بناء يضم عناصر من الجيش السوري، وتم إنشاء سور عريض يحيط بمساحة واسعة حول سينما أوغاريت . كان هذا السور مكوناً من دواليب الشاحنات السوداء العملاقة والتي يزداد إرتفاعها كل مدة، حتى أن بعض الجنود وضعوا أصص نباتات في قلب دواليب الشاحنات (أي سور ساحة سينما أوغاريت)، وبعضهم وضع بوطاً عسكرياً ضخماً في داخله تختنق وردة حمراء، ولأن سينما أوغاريت تحولت إلى ثكنة عسكرية وسجن أيضاً فمن وقت لآخر كان المواطنون السوريون في اللاذقية يشاهدون العديد من الجثث يُخرجونها من السينما، ولصق مدخل السينما امتدت بسطات تبيع أرخص وأردأ أنواع المكياج وملاقط الشعر الملونة والمقصات والأهم حبال من شحاطات النايلون. وكنتُ أشعر أن فن السينما الراقي تحول إلى شحاطة في اللاذقية، كنتُ أتعجب من هذا الكم الهائل من الشحاحيط حول سينما أوغاريت، وتعفنت اللافته التي تحمل اسم سينما أوغاريت وصار المشهد كله كما لو أننا في مسرح اللامعقول أو مسرح تمجيد القبح والرداءة واغتيال فن السينما. وإنتعشت محلات بيع الأفلام المُقرصنة، وكان حلاً لا بد منه بل رائعاً أن يحضر الشباب المحرومون من السينما أفلام الأوسكارات وأحدث الأفلام العالمية لكن جماليات شاشة السينما وصوت الديجيتال والجلوس باحترام في صالة السينما وذلك الشعور بالألفة مع الحاضرين حُرمنا منه في اللاذقية. واضطررنا لشراء الأفلام المُقرصنة، وتفجرت فضيحة سينما الأهرام التي يملكها ثري مسيحي عجوز ولا وريث له، وسطا عليها أحد كبار الشبيحة، وصارت ملك الشبيح، لكن مالك سينما الأهرام وبدعم من أصدقائه ومن كل الوطنيين من كل الطوائف لجأ إلى أشهر محامي في اللاذقية لتعود ملكية سينما الأهرام له. وحاول المحامي جهده وتمكن بعد جهود جبارة ووساطات عالية أن يُعيد سينما الأهرام لصاحبها لكنه نصحه أن يتبرع بها للكنيسة الأرثوذوكسية لأن احتمال أن ينقض عليها شبيح آخر ويسلبها من مالكها وارد جداً خاصة أن مالكها رجل عجوز وأعزب ولا وريث له. وفعلاً تم التبرع بسينما الأهرام إلى طائفة الروم الأورثوذكس في اللاذقية.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تُجدد صالات السينما في اللاذقية؟ ولماذا أغلقت وتحولت إلى ثكنه عسكرية كسينما أوغاريت أو خرابة تزينها القمامة كسينما الكندي أو شبح سينما صغيرة هي سينما دمشق التي حضر فيها كل أهالي اللاذقية فيلم الفهد؟ لماذا تُصرف الملايين لتشويه أجمل شاطىء في اللاذقية ويُلون الفنار الحجري للكورنيش الجنوبي في اللاذقية بألوان فاقعة قبيحة كما لو أنها تتهافت لدخول موسوعة غينيس في القبح!! لماذا تُهدر الملايين مثلًاً في تبديل الأبواب الخشبية العالية في المشفى الوطني واستبدالها بأبواب من الخشب الرخيص الأشبه بالورق المُقوى! ومن سرق أجود أنواع الخشب (الأبواب في المشفى الوطني). وما معنى الملايين التي هُدرت لسد كل نوافذ غرف المرضى في المشفى الوطني بشبك معدني، بحجة أن المرضى يسرقون أغطية السرير بطريقة رميه من النافذة، لذا فحين يضعون شبكاً معدنياً على النوافذ لن يتمكن المريض من سرقة الغطاء الصوفي الرديء ورميه من النافذة.

تُهدر الملايين من أجل الفساد وتشويه المدينة بينما يقولون: لا توجد ميزانية لتجديد صالات السينما. ومنذ ثلاث سنوات تم تجديد سينما الكندي لكنها بقيت لسنتين دون أن يُعرض فيها أي فيلم! حتى أتحفونا منذ أشهر بفيلم لنجدت أنزور قد يبقى سنوات. وكي أقدم شهادة حق كانت وزارة الثقافة ترعى كل سنة أسبوعاً تعرض فيه الأفلام ذاتها في سينما الكندي وهي: رسائل شفهية لعبد اللطيف عبد الحميد؛ بيت الأرواح لإيزابيل إيلندي؛ وبضعة أفلام أخرى لا تسعفني ذاكرتي بتذكرها. المهزلة وقمة الاحتقار لسكان اللاذقية أنه على مدار أكثر من سبع سنوات كانت تُعرض الأفلام ذاتها في سينما الكندي تحت شعار: أسبوع الأفلام السينمائية. كم هو مُحزن ما يُمارس في حق مدينة جميلة كاللاذقية التي مسحوا فيها عن وجه الأرض أجمل سلسلة مقاهي بحرية كانت متنفساً لأهلها وتحول البحر إلى بحر واسع من الإسمنت، وماتت فيها كل صالات السينما وتحولت إلى ثكنات عسكرية أو خرابة تتراكم الزبالة حولها وتتقافز الجرذان فيها، ولا يجد جيل الشباب المسكين أي بديل أو معين لهم لصرف طاقات الشباب سوى في هدر الوقت في مقاهي الأركيلة المتكاثرة والتي تنافس محلات البالة، فعنوان الحياة في اللاذقية (وفي سوريا عامة) الأركيلة والبالة. أما الفن فلا وجود له، فالمحاضرات الثقافية كلها مختصرة لمواضيع حول الغزو والتطبيع ومعاداة أميركا. المحزن بالنسبة لي أن مدينة بدون سينما هي مدينة بلا روح. ولا زلت أحتفظ بالدفتر الصغير الذي شحبت أوراقه وقد سجلت فيه أسماء حوالي مئتي فيلم حضرتهم لما كانت اللاذقية حقاً عروس الساحل بمقاهيها البحرية ساحرة الجمال وصالات السينما فيها وجرائدها، أما الآن فاللاذقية شاحبة حزينة.

يوم لبست وجه خالتي الغريبة: حكايات النساء في زمن الحرب

يوم لبست وجه خالتي الغريبة: حكايات النساء في زمن الحرب

في مجموعتها القصصية الجديدة (يوم لبست وجه خالتي الغريبة)، تبتعد سلوى زكزك عن التمويه والخداع وتزييف الوعي أو تصوير البلاد بلوحات رومانسية، فاتنة، والمرأة في صورة متخيلة أكثر منها حقيقية ومن لحم ودم. إن قصصها واقعية وغير مباشرة بذات الوقت، والمرأة بنموذجها الواقعي الحقيقي تظهر بلا مكياج رومانسي أو أيديولوجي، امرأة حقيقية في طاحونة الحياة اليومية. ولا تنادي الكاتبة بتحرر المرأة الاقتصادي عبر الشعارات البراقة، بل ترصد متغيرات تمكن النساء الاقتصادي والاجتماعي وقدراتهن الشخصية في غياب الرجل، الشريك في بلاد الحرب المديدة.

 في قصص سلوى تغيب اللغة البلاغية والمجاز وتهيمن اللغة الواقعية في تجانس بين بناء القصة ورؤية الكاتبة الراصدة للحرب وآثارها من القذائف والحواجز والفقدان وغياب الحاجات اليومية وانعكاس ذلك على حضور المرأة وأحلامها.

لا تتحدث الكاتبة عن الحرب مباشرة ولا عن بطولات المتحاربين، بل اختارت التحدث عما تلتقطه عيناها، النساء فقط! بلا رموز وبلا رتوش، وهي بذلك تريد مخاطبة ما هو جدير بانتباهنا، نحن الذين ننجذب إلى شعارات الحرب والبطولات، مستحضرة شخصيات حقيقية لطالما نراها ولا ننتبه لها، شخصيات إيجابية رغم حزنها، وقوية رغم شح ما تقدمه الحياة لها.

في قصتها الأولى، التابوت المصدف، تأخذنا إلى امرأة تعيش في مستودع للصناديق، حتى صارت ظلاً للصناديق، تستمد الدفء من الصندوق الأسود، وتتأكد من سلامة ممتلكاتها حين تتفقدها في الصندوق البني حيث ورقة طابو البيت وصور الأولاد الذين هاجروا، وهوية الأب الذي خرج ولم يعد، هي لا تعيش في مخيم وربما يحسدها الناس على عيشتها في هذا المستودع الذي تفتقد بسكنها فيه إلى عقد إيجار أو استضافة، لكنه آمن ونظيف ومجاني. إنها قصة الحياة المؤجلة في بلد يشبه الصندوق المغلق، لكن المرأة تعيش حياتها كتحد وتنتظر الغد رغم الخوف والعفن والوحدة.

في قصة الثامنة صباحاً بتوقيت المدينة، يحضر الله في تفاصيل الحياة اليومية للناس، بالكلمات والأدعية وبالمواعيد، تكشف الكاتبة بعدستها الأدبية وبعين سينمائية أخاذة أماكن التسوق (البسطات)، ترصد كل حركة وكل كلمة وإعلان للبيع، يبدو الله قريباً من كل تفصيل، يغض النظر عن السرقات الصغيرة ويتعاطف مع المحتاجين والمتعبين، في مواجهة لا ترحم يقوم بها رجال البلدية فارضين خواتهم ورعبهم على البسطات وأصحابها. إنها القصة التي تسرد ما لا تذيعه نشرات الأخبار، قصة حيوات الذين لا صوت لهم، يهدرون أصواتهم للإعلان عن بضائعهم، ويرعبهم الصوت المنادي (اهربوا بلدية).

في قصة ع المكسر يا بطيخ، استجابت الصدفة للضرورة، ولأن بياع البطيخ في ليلة العيد كان مضطراً لبيع البطيخ كله ليسلم السيارة لصاحبها، اتجه إلى منطقة جبلية تسببت بتساقط البطيخ من صندوق السيارة، فتحولت إلى بطيخ مكسور بفعل الصدفة، إلا أيهم الفتى جامع القمامة فقد حصل وبالصدفة ومجاناً على بطيخة سليمة سكرية اللب وشهية، صدفة لبت ضرورة الاحتفال بالعيد ولو ببطيخة مكسورة بالصدفة.

في قصة، فاصل من الموسيقا، تعود المرأة لتحط كأم تلتقي بابنها المسافر ولا تلتقيه، لأن الموسيقا كانت عنواناً للوداع بدل اللقاء، وما بينهما حفل موسيقي وتبادل لأماكن الوداع، قصة الأم في لحظات انخطافها نحو الابن الذي كان مضطراً للعزف وقت وصول والدته وسفرها فامتدت الموسيقا كسنوات الغياب.

في زمن التحولات تسرد الكاتبة حكاية ليست كحكايات الأدوار العليا السائدة، بل حكاية تكسر التراتبية وتخترق السائد في محاولة لفرض التحول الخاص وكأنه جزء طبيعي من التحول العام.

 في قصة فائض عن الحاجة لا تتزوج المرأة بطلة القصة مرغمة لتغطي على حملها من حبيبها، وتضحي بجنينها الذي تعتبره فائضاً عن الحاجة في زمن الحرب وتبقي على قرارها بأن تعيش علاقة مع من تحب دونما زواج، إنها قصة تمرد وتحول وحاجة إنسانية في زمن جديد.

وفي قصة مجرد اشتياق، تكتب عن العمران الجديد وتوسع المدن الذي يأخذ من الناس ذكرياتها وأماكن الحب والتسوق وتسود الوحدة بعد تقدم العمر، وربما تكون مآلات ذلك دار المسنين، بطلة القصة رمزية تستعيد علاقتها بحارتها القديمة عبر سائق من حارتها كاد أن يدهسها، إنها قصة المشاعر المتناقضة وفيض الحاجة للآخر وإن غابت فدار المسنين هي الحل في عالم الوحدة والتصحر والاستهلاك.

وإذا كانت أسماء الأمكنة غائبة في كثير من القصص فإنها تحضر بقوة في قصة هدوء نسبي، التي تحدث في جرمانا، ودمشق تحديداً والزمن هو زمن سقوط القذائف، إنها الحرب مرة أخرى، بين الخوف واللاخوف من القذائف العابرة للسماء، إنها الحرب المحمومة لتأمين الاحتياجات في لحظة تظنها سميرة بطلة القصة لحظة أمان.

ولأن جنازات أبناء البلد صارت الفسحة الأكثر إدراراً للكلام وللتعارف، تتحول الجنازات إلى تصوير حي ومباشر لحياة النسوة العادية والتي تمنحها الجنازات حماساً وتشويقاً وتسرد قصص الموت بطرافة موازية لطرافة الموت في زمن الحرب وتصير الجنازات للفرجة كما هو عنوان القصة بدلاً من الحزن والتأسف.

في قصة ليفة للاستحمام تخرج النساء للتسوق وتعتمد الفقيرات منهن على البالة لشراء الملابس، ومن بين المتسوقات ثمة امرأة لا تشتري! لكنها تطلب ما تحتاجه وما يفيض عن رغبة سواها، لذلك تطلب المرأة الكتافيات من السيدة التي اشترت السترة، لماذا؟ لتجعل منها ليفة للاستحمام! قمة الطرافة والذكاء وحين تعجز السيدة عن تأمين أزرار لمعطفها تطلب من الله مطراً من الأزرار!! يا لها من مطالب؟

في بلاد لا يحمي القانون أهلها، تلجأ بطلة قصة (جنين) والمتزوجة إلى الحيلة، لتحافظ على عملها وجنينها في نفس الوقت، لأن صاحب العمل يشترط عمل العاملات العازبات فقط وعندما حملت بطلة القصة: (أزهرت وتكونت في أحشائها بذرة حية تنفث غلال المواسم في حياتها اليابسة) اختارت نداء قلبها (امرأة تختار ما تعرفه بقلبها)، ولكنها حين نوت الاستقالة من العمل لتعذر استمرار حيلتها أجهضت.

في قصة دغدغة مرهمية، رغم اللغة النثرية العذبة، إلا أن بطلة القصة، بائعة الخبيزة وعندما قدمت لها سيدة مترفة مطرياً ليديها تعاملت معه بأسلوب تراجيدي وكوميدي في نفس الوقت، لنكتشف المفارقة بين المطري ليدين من تعب وشقاء وبين الفقر عنوان المرأة والبلاد.

في قصة حالة طوارئ تتحول الكاتبة إلى مخرجة تلتقط اللقطات السينمائية في بلاد الحرب حيث (تتشتت الحرب على حدود العيش وتغمر بخرابها كل تفاصيله)، في لحظة محددة ينصرف الجميع تلبية لنداء الماء التي أتت فجأة وكأن قدومها بيان عسكري وجب التقيد به.

ولأن الغياب هو سيد الحاضرين في الحرب فإن المرأة هي التي تستلم كافة الأدوار في غياب الرجال، وخاصة ما تلجأ إليه الأمهات لبيع كل شيء من أجل تسفير الأبناء نحو ضفة آمنة، بطلة القصة وإن بدت فرحة بوصول أبنائها الثلاثة إلى النمسا، لكنها تقول وهي توزع الحلوى: (من قال إن قلوب الأمهات تسعد برحيل الأبناء).

في قصة إعلان عائلي، تصر الأم على خطبة شابتين لولديها الغائبين، لا تصدق غيابهما بل وتصبح حارسة الغياب، والحرب لا تنتصر بهول ما تجرفه معها وبهول خسارات البشر إنما تنتصر للباقيات، وكما قالت الأم (غداً ستنتهي الحرب، سترحل بعيداً، معترفة بأنها لم تهزم امرأة قط).

في قصة أليس وشهوة الموت، تعمل أليس خياطة وهي المرأة الأولى التي لبست بنطلون الشارلستون في مدينة دمشق، فانتصرت بعملها وبقرارها، ولكنها وفي نهاية عمرها لا تريد إلا أن تسرد حكايتها مع نجاحها، خاصة أنها تمثل الجرأة مما دفع الخياطين للقدوم لمنزلها لتعلم قصة البنطلون الشارلستون النسائي.

في قصة معايدة، تطلب أم صادق من مذيعة التلفزيون ساعة حائط وروزنامة كمعايدة في ليلة رأس السنة، مع أنها تعيش في الحديقة منذ ثلاث سنين، في خيمة قماشية على أرضيات خشبية مرتفعة عن الأرض كقبر. وعندما خرجت من بيتها لم تأخذ منه إلا كفنها الذي تجدد كيسه دورياً كي تموت بكرامة كما تقول.

في القصة الأخيرة والتي حملت المجموعة اسمها، تستعرض القاصة يومها الطويل العامر بالغربة، لدرجة أنها تتقمص وجه وشخصية الخالة الغريبة وعندما تعود إلى منزلها في الحافلة الصغيرة الخانقة تقص على الركاب قصة الخالة وكأنها هي، لتغرق في الغربة ويغرق الركاب أيضاً في عتمة الغربة الطويلة ورائحة الفجيعة فيها.
في تسعين صفحة روت القاصة سلوى زكزك حكايات النساء في زمن الحرب. إن فرادة قصص المجموعة تقوم على اللقطة السينمائية وبذات الوقت البانورامية، لقد منحت سلوى زكزك حكايات السوريات مذاقاً محلياً خاصاً، مهتمة بالبعد الإنساني الموجع لكن الذي يفور بالمواجهة والتحدي، ومن هنا يليق بها الإهداء إلى السوريات البهيات.

النَّهبُ الذي أتى وعادَ سريعاً

النَّهبُ الذي أتى وعادَ سريعاً

/لنْ يقترِبَ أحدٌ من هذياني لن يُجفِّفَ عرَقَهُ بمنديلٍ مَسروقٍ من وقتٍ يركضُ مُسرِعاً كي يلحقَ باصَ المدرسةِ الهارِبَ من وقتِهِ مُمتلئاً بتلاميذَ حفظوا درسَ النِّسيانِ كقطعة حلوى قُدَّتْ من سَفَرِ الغُيومِ/

قدَري

أنْ أرفُضَ الضِّفَّةَ التي يجرفُني إليها التَّيّارُ

وأنْ أتطلَّعَ إلى النَّقيضِ في كُلِّ نافذةٍ.

حالِماً بحَسْمِ الخُطى التي تجسُّ الرِّيحَ

للَّحاقِ بابتسامةِ الحريقِ العُليا مُباشَرَةً قبلَ لحظَةِ نُضوبِهِ

حيثُ تظمَأُ المُخيِّلَةُ لمُراوَغةِ الدَّقائقِ العنيدةِ

بسْطاً للذَّريعةِ المُسلِّيَةِ في المَخاضِ.

هكذا هيَ الفَرادةُ:

أنْ تكونَ الجُزءَ المَخفيَّ مِنَ المَخفيِّ

وأنْ يرميَ كُلُّ عابِرٍ

تخميناً حولَ الحدَثِ

أنْ تكونَ نصفُ الإشاعاتِ

عمّا لم نفكِّرْ بهِ من قبلُ

وأنْ تَزرعَ فوقَ ظلِّكَ قوسَ قزَحٍ حادٍّ كشفرةٍ

لتظلَّ الأُحجيةُ

زوجاً غيرَ مُعلَنٍ للفَرادةِ.

مُبارَكٌ شُذوذي

المُستلهَمُ من زهرةٍ مسعورةٍ

لهُ رنينٌ أحدبُ

كسقوطِ الرَّحيقِ

في يدٍ تلوِّحُ

كاصطحابِ الفراشةِ طلْعَها

إلى مغارةٍ مُظلِمةٍ

للمرَّةِ الأُولى في تاريخِ الوردِ.

مُبارَكٌ تدريبي الفصاحةَ على اللَّحنِ والمَنحولِ

حيثُ تسيلُ الفسحةُ مُتسارِعةً

وعلى رأسِ الكلماتِ تاجُ المُفاجآتِ

وإذ يحملُ الغدرُ الآسِرُ

باقةَ المُغازَلةِ والقنابلِ

إلى أقصى النَّهبِ الذي أتى وعادَ سريعاً

تُبعثَرُ النَّدبةُ

كي يُفسِّرَها كُلَّ يومٍ كتابٌ جديد.

ما من حاجةٍ الآنَ لمَا يُجدي

الهزائِمُ لا تَهزمُ مُتمرِّغاً بالزَّوايا العمياءِ

يُنقِّبُ المُلهَمُ بالغَرابةِ عن وهمٍ ساحرٍ

يَعدُهُ بساعتيْن من يأسٍ

بجَمالٍ قبيحٍ نصفُهُ قيْحٌ

وعلى مُحيطِهِ مُروِّجونَ للألمِ

ذاكَ هو الاندثارُ المُعظَّمُ

مهنةُ العباقرةِ المُنقرضينَ

حيثُ تُعانِقُ جنوني

نُسخةٌ من الفراغِ المعصورِ

بقوَّةِ شوكةٍ جرَّبتْ كيفَ أنَّ ما لا يتبخَّرُ طوعاً

ليسَ موثوقاً:

الصَّباحُ قلادةٌ منزوعةٌ

من عُنُقِ المَواثيقِ

ومرميةٌ في بئرِ القلبِ

كهودجٍ راحلٍ للتَّوّ.

في جعبتي تذوبُ السَّكاكرُ

وتلتصقُ بالقُماشِ

فيستبدلُ المُلحِّنُ بالأغنيةِ

عقاربَ ساعةٍ ترقصُ

يتصاعَدُ دخانٌ فجٌّ

من أرجُلِ المُحدِّقينَ

فلا يبدو من الضَّروريِّ

تقديمُ الأعذارِ

ما دامتْ شفتيَّ تُردِّدانِ:

ليستِ الأشياءُ بكثرتِها

لكنْ بعُمقِ زلزالِها

هكذا تصرخُ مرآتي ضدَّ الحنينِ

وأصرخُ تعاطُفاً معها.

/لو شُبِّهْتُ بسُلحفاةٍ تُهاجِرُ آلافَ الأميالِ كي تضَعَ بُيوضَها على شاطئٍ عامرٍ لكسَرْتُها جميعاً قبلَ أنْ تفقسَ وفضَّلْتُ الإياب ولو في سجنٍ مُعتمٍ في قبوِ سفينةٍ يقودُها القراصنةُ/.

مرويات نسوية صادمة توثق لحظات الموت السوري

مرويات نسوية صادمة توثق لحظات الموت السوري

يضمُ كتاب «تسع عشرة امرأة – سوريّات يروين» للكاتبة والروائية السورية سمر يزبك المقيمة في باريس، الذي نستعرضه في مقالتنا هذه، مجموعة حوارات كانت أجرتها صاحبة «المشّاءة» مع خمس وخمسين امرأة في البلدان التي لجأنَ إليها: تركيا، فرنسا، ألمانيا، كندا، لبنان، بريطانيا وهولندا، وكذلك في الداخل السوري. غير أنها اختارت منها تسع عشرة شهادة فقط، بسبب الشبه المتكرر في تجارب النساء، والذي يُظهر جزءًا من الجحيم الذي قاومنّه بشجاعة في سوريا، التي شهدت في منتصف آذار/ مارس 2011 احتجاجات سلمية ضدّ نظام الاستبداد والطغيان، وهذا الجحيم هو جزء من الويلات التي عشنها ويعشنها النساء في العالم العربي وفي مناطق أخرى من العالم، فكانت الأولوية في الاختيار لمسألة التنوّع الجغرافي السوري، لتشكيل مشهديّة أوسع عما احتفظت به النساء من حكايات الثورة والحرب العبثية.

إلى الحفيدات: لم نغلق الباب وراءنا..

الكتابُ، الصادر عن “منشورات المتوسط” في ميلانو، والذي حررته صاحبة «لها مرايا» بأسلوب عابر للخط الفاصل بين الكتابة الصحفية والأدب الرفيع، والذي يحتوي بين دفتيه على شهادات دقيقة وموجعة للمشاعر والأحاسيس والمواجد، وحكايات بطولية لتسع عشرة امرأة من السوريّات، اللاتي عملنَّ مع بدء الثورة السورية كناشطات في تنسيقيّات الثورة، بدأته يزبك بإهداء مؤلم، يرسم ما آل إليه الحال السوري بعد نيفٍ وثماني سنوات من هذه الثورة المجيدة، اليتيمة، بعد أن اختطفها أصحاب الرايات السوداء والمشاريع الجاهلية المظلمة، إذ كتبت: “إلى حفيداتنا وأحفادنا: كنا نتطلع إلى قامة مستحيلة، اسمها العدالة، لم نغلق الباب وراءنا، ولم نتركه للريح!”.

اشتغلت صاحبة «طفلة السماء»، الشاهدة على ما حصل وما زال يحصل من دموية ووحشية ومعاناة وبؤس وفوضى في بلادها، والتي أسّست سنة 2012 في تأسيس مؤسسة «النساء الآن من أجل التنمية»، على توثيق الذاكرة السورية في كتابيها «تقاطع نيران: من يوميات الانتفاضة السورية»، و«بوابات أرض العدم»، ويشكل كتاب «تسع عشرة امرأة – سوريّات يروين» الجزء الثالث من شغلها على ذاكرة المغلوبين من أبناء وبنات بلدها النازف.

تقدم يزبك لكتابها التسجيلي/ الوثائقي بمقدمة ضافية، تُبيِّن فيها مسعاها، وأوقاتها في رحلة الآلام هذه. كاشفة فيها كيف ولدت فكرة الكتاب، إذ تقول: “بدأت الفكرة في منتصف عام 2015، عندما كنت أسافر بين المدن، وأدون حكايات السوريين الذين أصادفهم في المنافي. حصل هذا مصادفة، عندما التقيت أفراد عائلة سورية في أحد القطارات، وسمعت قصتهم ووجدت نفسي أكتب ما يروونه، ثم اكتشفت أنني أستطيع لمس سوريا البعيدة، من خلال هذه الحكايات. كان دافعي الأول هو اكتشاف سورية التي لم نعد نعرفها تمامًا”.

وتشدّد صاحبة «رائحة القرفة»، على أنّ هذا الكتاب الذي جاء في (280 صفحة من القطع الوسط)، هو أحد طرائقها في المقاومة، وجزء من إيمانها بدور المثقّفين والكُتّاب في تحمّل مسؤوليّتهم الأخلاقيّة والوطنيّة تجاه العدالة وإنصاف الضحايا، والتي يتجلّى أهم وجوهها في الحرب ضدّ النسيان.

تقول يزبك عن اشتغالها على هذا الكتاب/ الشهادة المكتوبة بالدم في زمن الفجائع: “ذهب هاجس السؤال عندي إلى مسؤوليّتنا كأفراد في تكوّن ذاكرة حقيقية وفعلية، مضادّة لتلك التي تسعى إلى تبرير الجريمة، ذاكرة قادرة على تثبيت سرديّة موازية تنصف قضيتنا العادلة، وتُظهر جزءًا من الحقائق ساطعًا وبليغًا”. مضيفة “لقد رأيت أنّ أساس البدايات هو التّحديق والبحث في صورتنا المُفترضة كهوية جمعية، وتفكيكها، ومكاشفتها. ببساطة كانت هذه الذّوات التي شكّلتها النساء جزءًا من ذلك البحث المحموم الذي قادني إلى التّحديق المهول في تلك الهوية”.

الاحتجاجاتُ التي تجاوزت التوقعات منها، وشملت أرجاء الأراضي السورية، فما كان مظاهرات، أدى إلى انتفاضة، أصبحت ثورة، حررت الكتابةَ من الكتمان، كما قال ذات يوم صاحب «السوريون الأعداء» الروائي السوري فواز حداد، جعل يزبك تحمل عدّة دفاتر صغيرة وهي تتنقل ما بين مدن العالم مدوّنة حكايات السوريين. راوية لنا: “كنت أصادف سوريين يعبرون المدن والقرى للوصول إلى وجهتهم في بلاد اللجوء. كنت أرى الخوف في عيون شبابهم ونسائهم، وذلك الفراغ الأبيض في تحديق أطفالهم”. لتخبرنا في السياق كيف أنّها في أحيان أخرى كانت تتعمد السفر لأماكن محددة للقاء الناجين من قوارب الموت عبر البحار ومن المجازر اليومية التي حولت حياتهم إلى جحيم أرضي.

أما وقد تجمعت حكايات كثيرة في جعبتها وجدت نفسها تفكر في رواية المقتلة، التي يحلو للبعض أن يسميها “انتفاضة” “ثورة شعبية” “زلزال”.. إلى غير ذلك، كما عاشتها النساء الثائرات لملامسة جزء من حقيقة التراجيديا السورية.

مرويات صادمة توثق لحظات الموت..

الكتابُ موجعٌ وصادمٌ، وهو وثيقة مهمة لتوثيق كاتبة وروائية جريئة، لا تعترف بالخطوط الحمراء، شهادات لنساء كنّ شجاعات وصادقات حتى في رواية “سقطات” الثورة، وكل من تاجر بها وليس النظام فقط، ما يجعل من تلك الشهادات الجحيمية، والتي يصعب تصديقها أحيانًا، سرديّات موازية لا تبرئ أيّ طرف مما حدث في سوريا، التي صارت أكبر مسلخ بشري في العالم في العصر الحديث.

من ميزات عمل يزبك الحسنة مواءمتها بين التنوّع الجغرافي للمناطق السورية، فهناك نسوة من اللاذقية وطرطوس، وأخريات من دمشق وريفها ودرعا والسويداء وحمص وحلب وحماة والرقة ودير الزور. وهي تقول في هذا الصدد: إنّ “الأولوية في الاختيار كانت لمسألة التنوّع الجغرافي؛ لتشكيل مشهديّة أوسع عن الذاكرة السورية”.

كذلك ثمّة تنوّع وتعدّد في المهن، التي شغلتها النسوة التسع عشرة، الناشطات في الحراك السلمي، اللاتي أصبحنَّ وهنَّ الضحايا المعنفات شاهدات على الكثير من أحداث ويوميات المقتلة طوال سنوات الثورة السورية.

نقرأ من الكتاب، شهادة لإحدى النساء اللاتي كنَّ في الغالب، في مواجهة الأهوال وأمام لحظات الموت، وما أكثرها تلك اللحظات الدائرة عبر أكثر من ثماني سنوات من عمر الثورة التي انتكست في المآل، جراء التدخلات المحلية والمؤامرات الإقليمية والدولية، شهادة جاء فيها: “في اليوم الأخير وقبل خروجي النّهائي من حلب، أردتُ إيصال معونات غذائيّة إلى مجموعة عائلات، كانت على وشك الموت جوعًا. كنتُ أركض في منطقة فيها قنّاصة، فرأيتُ سيّارة مشتعلة إثر قذيفة سقطتْ عليها، وفيها ناس يحترقون. لم أتوقّف لأُسعفهم، فقد كانوا موتى، وأنا أعرف أنّ هناك أطفالًا جائعين في انتظاري. عندما وصلتُ إلى مكان وجود العائلات، وقبل أن أُسلِّمها الطّعام، سقطتْ قذيفة فوقنا. في الدّقائق العشر الأولى، لم أرَ سوى الدّخان الأسود، ثمّ بدأ ما حولي يتّضح شيئًا فشيئًا من جثث وأشلاء. عشتُ من جديد! وقلتُ في نفسي: يا للكارثة! لقد عشتُ! أمضيتُ ثلاثة أرباع الساعة أبحث عن سيارة لنقل الجرحى. كان المصابون كُثُرًا. لن أنسى ذلك اليوم ما حييتُ! مات الجرحى أمامي، ولم أستطع إنقاذهم. كانوا أفراد عائلات جائعين، تحوّلوا فجأة خلال دقائق أشلاء متناثرة أمامي! حدث هذا في حَيّ “أغيور” في الشّهر الحادي عشر من عام 2016. حتّى الآن لا أصدّق كيف بقيت على قيد الحياة. لقد خرجت عشرات المرّات من تحت الأنقاض والرّكام وانتشلت جثث أصدقائي”.

ومن الأهوال المروعة التي تنقلها لنا إحدى الراويات في الكتاب واسمها رولا، وهي من حي “كرم الزيتون” في حمص، وهو حي غالبية قاطنيه من أبناء الطائفة العلوية، قولها: إنّ “أجهزة المخابرات تلاعبت فعلا بالسُّنَّة والعلويين، وفي حي كرم الزيتون ارتكبت مجزرة، في 12/03/2012. رأيت بيوتًا على مد النظر مدمرة ومحترقة، كان الخراب لا يوصف… لقد اختفى ما يقارب من خمسة وتسعين ألف شخص، الشبيحة هم الذين فعلوا ذلك، عرفت لاحقًا من أحد أقاربي أنّ هناك مكتبًا مهمته تنظيف الأمكنة التي سيدخلها الجيش، هؤلاء لم يكونوا من الشبيحة التقليديين، كانوا مدرَّبين على القتل… الرجالُ الذين يرتبطون بالمكتب والمرتبطون بالأجهزة الأمنية هم من ذبحوا الناس”.

أخيرًا، يبقى كتاب صاحبة «صلصال» وثيقة إنسانية عن الذاكرة الجمعية السورية، التي باتت تشكل حاضرنا المؤلم في أسوأ أحواله، والتي يراد لها أن تتلاشى في بلاد اللجوء التي وصل إليها من نجا من الجحيم السوري وحرب الإبادات الجماعية بأعجوبة.

سمر يزبك: كاتبة وروائية وناشطة حقوقية، ولدت في مدينة جبلة في الساحل السوري عام 1970. تحمل شهادة في الأدب العربي من جامعة تشرين”، اضطرت بدايات الثورة لترك سوريا، وهي تقيم الآن في منفاها في باريس، وتعمل منذ سنوات طويلة في مجال الصحافة والتلفزيون. نشرت مجموعتها القصصية الأولى في دمشق عام 1999 بعنوان «باقة خريف» ثم لحقتها بمجموعة أخرى بعنوان «مفردات امرأة» عام 2002. لتتجه بعد ذلك إلى كتابة الرواية ويوميات ثورة شعبها، فنشرت خمس روايات هي: «طفلة السماء» 2002، «صلصال» 2005، «رائحة القرفة» 2008، «لها مرايا»2010، و«المشّاءة» 2017.

وكان أن صدر لها عام 2008«جبل الزنابق “حكي منامات”»، وهو كتاب بين القص والشعر النثري، وفي عام 2012 أصدرت «تقاطع نيران: من يوميات الانتفاضة السورية»، ومن ثم «بوابات أرض العدم» 2015، وهما كتابان أقرب لأن يكونا مذكرات تسجيلية ليوميات الثورة السورية.

نالت يزبك العديد من الجوائز الدولية، منها: “جائزة “بن بنتر” الأدبية، والتي يمنحها (نادي القلم البريطاني) إحياءً لذكرى الكاتب المسرحي الشهير هارولد بنتر، وذلك مناصفة مع الشاعرة البريطانية البارزة كارول آن دافي عام 2012، وجائزة “أوكسفام” عن كتابها «تقاطع نيران..» عام 2013، وجائزة “أفضل كتاب أجنبي في فرنسا” عام 2016، عن كتابها «العبور: رحلتي إلى قلب سوريا الممزق»، الذي يحكي تفاصيل رحلة دخولها بشكل غير شرعي إلى سوريا في 2012 عبر تركيا والتي تلتها عدة زيارات متتالية كانت تزداد خطورة مرة بعد مرة.