مشروع “محتوى نسوي”: الفرص والتحديات

مشروع “محتوى نسوي”: الفرص والتحديات

نشر صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات خلال الأشهر الماضية عدة مواد من مشروع “محتوى نسوي” الهادف لتسليط الضوء على تجارب النساء السوريات المتنوعة في السياق التاريخي المعاصر الذي تلا سنة ٢٠١١غطى المشروع إحدى عشر موضوعاً مختلفاً خلال سنة ٢٠١٨ بهدف رسم صورة واضحة عن العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية التي تُشكل السياق الحياتي للنساء السوريات اليوم وما يُتيحه ذلك من فرص وعقبات في سوريا وبلاد اللجوء.

مضمون المشروع

يغطي الملف الأول تاريخ الحراك النسائي/النسوي” في سوريا ما قبل ٢٠١١، وفيه تعرض الدكتورة آراء الجرماني السياق التاريخي لهيمنة حزب البعث على السلطة في سوريا و أثر ذلك على أصالة الحركة النسوية، حيث تم القضاء على عفويتها وقولبتها ضمن اتحادات ونقابات وروابط ومؤسسات تحت كنف الحزب الحاكمأدى هذا الوضع السياسي التاريخي إلى تكريس أولوية الأجندات القومية والهوية الوطنية للنساء السوريات على حساب أولويات التحرر النسوي والهوية الجندريةومع استلام بشار الأسد للحكم (٢٠٠٠)استمر تأطير الحراك النسوي بدءاً من قانون الجمعيات المعيق إلى احتكار السيدة الأولى أسماء الأسد لمعظم أطر العمل النسوي، حيث لم يبقى للمجموعات النسوية الأصيلة سوى هوامش ضيقة للعملومع ذلك استطاعت النسويات والعاملات في المجال النسائي تحقيق الكثير من الإنجازات رغم المضايقات والتشديدات الأمنية.

يسلط الملف الثاني الحراك النسوي السوري بعد ٢٠١١” الضوء على الهوامش التي أوجدها الحراك الشعبي ضمن سياق الربيع العربي والانتفاضة السوريةوتلفت الكاتبة علياء أحمد النظر إلى أنه رغم تزايد عدد المنظمات والتحالفات النسوية، إلا أن فرص الحصول على التمويل والمنح المالية ليست متساوية لكل المنظمات النسوية\النسائية، حيث تحصل المنظمات الموجودة في الخارج على أغلب هذه الفرص وتُسيطر أجندة الممولين على باقي المنح التي تنالها منظمات الداخل.

يتناول المشاركون/ات في الملف الثالث النسوية واللغة العربية” الجوانب المختلفة التي تُمييز بها اللغة العربية ضد النساءفكما تُبيّن علا الجاري فإن الأمثال الشعبية تَستهدف النساء وتنشر الكراهية ضدّهن منذ لحظة الولادة كمثل ”ابنٌ عاصٍ ولا عشر مطيعات“ و”صوت حية ولا صوت بنية“وتشرح ضحى عاشور أنّ إنتاج الأمثال الشعبية الجندرية كمثل البنت تجيب العار والمعيار وتدخل العدو للدار” يتم من قبل طبقة من الرجال بهدف شيطنة النساء وإنتاجهن كعدو يجب إخضاعه والسيطرة عليهوكما يوضح هذا الملف، لاتقتصر الأمثال الشعبية التحقيرية ضد النساء على اللغة العربية بل تنتشر في معظم اللغات المعروفة غرباً وشرقاًوبالطبع هناك بعض الأمثلة الاستثنائية التي تُقدر النساء ولكن ذلك يُختصر غالباً بالصور النمطية التقليدية المرتبطة بالأمومة ودور الزوجة المربية الفاضلة.

ويمتد أثر التمييز اللغوي ضد النساء، كما تُشير مشاركة عمار ديوب إلى النصوص القانونية، لذا يدعو إلى ضرورة سن دستور وقوانين جديدة مُصاغة بلغة تتبنى المساواة بين الجنسينومع أزمة اللجوء السوري، تُضيء فاديا عفاش الضوء على أثر تعلم لغة ثانية في دولة اللجوء على الهويات الجندرية للمرأة والرجل ومنح المرأة أدوات جديدة للتعبير عن الرأي لم تعهدها من قبل مما يُساعدها على خلق صورة أكثر إيجابية عن ذاتها في المجتمع الجديد.

ويُغطي الملف الرابع النسوية والمنفى” تجارب النساء السوريات في دول الهجرة واللجوء؛ فتشارك كفاح علي ديب قصة رحلة لجوئها إلى ألمانيا وكيف استفادت هي وغيرها من اللاجئات من مساحات الحرية المدعومة بالقانون في ألمانيا لتحقيق طموحاتهن التعليمية والمهنية والاجتماعية، في حين استمرت معاناة أخريات مع العنف والسلطة الذكوريةوتؤكد وداد نبي هذا الواقع عبر تسليط الضوء على تزايد حالات طلاق السوريين/ات في المحاكم الألمانية، حيث تتخذ الكثير من النساء قراراً بالطلاق حالما تصِلن للبلد الجديد أملاً بالتخلص من مشاكل كالعنف المنزلي والاضطهاد وقلة الاحترام، بينما لا تستطيع بعض النساء التخلص من الإرث الاجتماعي الداخلي الذي يُجِبرهن على الصمت والرضوخوتضيء نيڤين حوتري على تجربة النزوح الإجباري من خلال مشاركة مشاعرها في مواجهة حكم المنفى من غوطة دمشق.

يطرح الملف الخامس موضوع النسوية والانترنت، حيث تغطي رولا عثمان المضايقات والتحديات التي تواجه الناشطات النسويات على مساحات وسائل الإعلام الاجتماعي عندما يطرَحن مواضيع حقوقية ونسويةوتناقش نوار المير علي استخدام تطبيقات المواعدة والتعارف الإلكتروني، ففي حين تتأقلم السوريات في دول المهجر مع تطبيقات كـ تيندر\Tinder للبحث عن فرص المواعدة، يقل استخدام هذا التطبيق داخل سوريا ليتم التركيز أكثر على استخدام تطبيقات المحادثة مثل المسنجر والسكايب كوسيلة للبحث عن علاقة جدية تنتهي بالزواج مابين سكان الداخل والخارجأما لمى راجح فتلقي الضوء على شجاعة النساء السوريات في الغوطة الشرقية ممن خاطَرن بحياتهن لينقلن عبر وسائل الواتس آب والماسنجر والتويتر وقائع المعاناة اليومية تحت الحصار والقصف والتهجير.

حاول الملف السادس تناول موضوع الجنسانية”، وكتبت فيه فدوى العبود عن الآمال الخائبة بخلق حركات الربيع العربي لثورة جنسانية وفرص تحرر حقيقية في العالم العربي لتستمر المضايقات والانتهاكات ضد الأشخاص ذوي الميول الجنسية المختلفة ولأجساد النساء وإرادتهن الحرة.

يتطرق الملف السابع الفن والنسوية” لعدة جوانب هامة تتعلق بتناول الفن لقضايا النساء وعن كيفية رؤية الفنانات لقيمة عملهنتُشارك فاديا عفاش تجربتها كفنانة ولاجئة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعرفت على مفهوم الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل)، وهو يعني في هذا السياق أن تعترف الفنانات بحقهن في الفضل في إنجاز أعمالهن وأن يتمتعن بالمزايا الناتجة عن هذا الاعتراففكما توضح فاديا فقد استغرقتها سنوات قبل أن تُجابه السلوك العام في المجتمع السوري الذي يختزل دور النساء بمساندة الرجال ويُهمش إنجازاتِهن كفناناتوتُغطي لجين العرنجي كيفية تناول قضايا النساء في المسرح والسينما في سوريا، حيث تُعاني هذه المجالات من قلة وتهميش المخرجات النساء، أما المخرجين الرجال فلم يُقدّم سوى عددٍ محدود منهم صورةً عميقةً وواقعية عن واقع النساءومن جهتها تتناول سلوى زكزك تجربة سينما ما بعد الحرب البوسنية التي تُقدم دروساً للسينما السورية عن كيفية تناول واقع النساء السوريات أثناء الحرب وبعدها والطرق المثلى لتطبيق آليات العدالة الانتقالية.

يسلط الملف الثامن الأدب والنسوية” الضوء على تجارب بعض الأديبات السوريات وعلى كيف يتم تصوير النساء في الأدب السوريفقد أجرت أروى الباشا حواراً مع الروائية السورية ابتسام تريسي عن أعمالها ورأيها بدور المرأة بالرواية العربية ودور الأدب والنسوية في سياق الثورة السوريةوكتبت رباب هلال عن الشاعرة هنادي زرقه مناقشةً أعمالها الحديثة التي تتناول مواضيع كذكوريّة الحرب وأهمية الحب وقسوة الموت والوحدةأما وسام افرنجية فقد تناول استخدام الرمز الأسطوري الأنثوي في الشعر العربي مركزاً على آليات توظيف سير الآلهة كعشتار وإنانا وعناة في الأعمال الشعرية بشكل يُقدر النساء ويُعلي من مكانتِهن في المجتمعوتتضمن مشاركة فدوى العبود في الملف نقاشاً لتمثيل النساء في الأدب بشكل عاماً، حيث تستعرض أمثلة من الأدب العالمي والعربي والسوري والتركي.

يركز الملف التاسع على قضايا المعتقلات والمختطفات في سوريافتتناول لامار ٲرْكَندي المعاناة القاسية المتعلقة باستعباد النساء والطفلات الإيزيديات في محافظتي الرقة وإدلب والرحلة الشاقة والمُكلفة التي يتكبدها أهالي المختطفات لتحريرهنّ من براثن التنظيمات المتطرفةوتكتب مريم حايد عن معاناة المعتقلات في سجون النظام السوري، وكيف تستغل أجهزة المخابرات مفهوم الشرف في قضية اعتقال النساء مما يحد من مشاركة النساء في العمل السياسي المعارض ويُعرض المعتقلات لضغوطات اجتماعية كبيرة عند الإفراج عنهنوتنتقد سلوى زكزك انعدام مراكز وآليات الدعم النفسي والصحي والاجتماعي للمعتقلات والمعنفات والنازحات.

يتناول الملف العاشر أثر التسليح على النساءفتصف لامار ٲرْكَندي شجاعة المقاتلات الكرديات في قتال تنظيم داعش ومواجهته على خطوط القتال الأماميةأما سونيا العلي فتشرح عبء الإصابات الحربية والإعاقات الجسدية والضغوط النفسية على النساء اللواتي يُعانين من أبعاد مختلفة من التهميش والتجاهل والعنفوتؤكد شادية التعتاع على مدى قسوة معاناة آلاف النساء في سوريا إثر بتر أطرافِهن وتعرّضهن لإصابات ناتجة عن قصف الطيران العشوائي منبهةً لمشاكِل كمُعضلة غلاء الأطراف الصناعية وتعرض النساء لإصاباتٍ نتيجةً لانتشار السلاح بين أفراد أسرهن.

وتقديراً لجهود المدافعات عن حقوق النساء والناشطات النسويات، تختتم شبكة الصحفيات السوريات مشروع “محتوى نسوي” بملف “هي مدافعة“. وتسلط فيه مها الأحمد الضوء على قصص نجاح قياديات سوريات من إدلب عملن بجهدٍ كبير للحد من الآثار التهديمية للحرب عن طريق إنشاء مراكز لتوثيق الانتهاكات الحقوقية ضد المرأة وتنظيم دورات مهنية للنساء متخصصة في محو الأمية واستخدام الكمبيوتر وتعلم اللغة الإنجليزيةوتعكس سونيا العلي تجارب النساء ذوات المناصب القيادية في منظمات المجتمع المدني داخل سوريا وخارجها، وكيف كسرت سنوات الحرب الصور النمطية والقيود التي كرستها تقاليد المجتمع على عمل النساء ودورهن في المجتمع المدني.أما ميرنا الرشيد فتغطي مشاريع ومبادرات نسائية في مدينة السويداء تهدف إلى تفعيل دور النساء القياديات في المجتمع وزيادة الوعي بحقوقهن.

الفرص والتحديات في تنفيذ المشروع

استطاع مشروع “محتوى نسوي” تغطية أصوات نسوية/نسائية سوريّة في مناطق جغرافية متنوعة داخل وخارج سوريا، ورسم صورة واضحة عن معاناة وتجارب النساء المتنوعةوسعى المشروع لتحقيق التوازن ما بين التطرق لمواضيع سياسية متعلقة بالسلاح والمنفى والاعتقال وطرح مواضيع ثقافية متعلقة بالأدب والفن واللغة العربية والانترنتويمكن القول أن المشروع نجح بشكل أساسي باستعراض أهم العقبات اليومية المادية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تُعيق النساء السوريات وتحول دون تحقيق طموحاتهن في عيش حياة كريمة مبنية على العدالة والمساواة والسلاموسلطت كتابات المشاركات في هذا المشروع الضوء على أهم عوامل اللامساواة والتهميش التي تُسهم في الإنتاج الاجتماعي للذكورة والأنوثة في المجتمع السوريإلا أنّ المشروع واجه عدة تحديات إما بسبب محدودية التمويل أو نقص الكفاءة والتدريب في بعض المجالاتأكبر التحديات التي واجهت المشروع هو الخلط ما بين مفهومي الكتابة النسوية والكتابة النسائيةفالكثير من المُساهمات تقع تحت إطار الكتابة النسائية لا النسوية، وهذا الواقع يستدعي تشبيكاً أكبر بين الناشطات النسائيات والنسويات السوريات لتعريف ماذا تعني النسوية في سوريا اليوم وكيف تتشابه أو تختلف مع غيرها من الحركات النسوية حول العالمأظهر هذا المشروع أيضاً الحاجة الملحة لوجود تضامن نسوي حقيقي مابين النسويات السوريات، فظواهر الشللية والتنفاسية والتراتبية تُشكل عواملاً محبطة تُهيمن على مناخ معظم العمل النسوي السوري على نحوٍ يؤثر على طبيعة وجودة العمل، وقد انعكس ذلك على هذا المشروع من خلال خسارة أصوات نسوية هامة رفضت المساهمة فيه لأسباب قد تعود إلى قلة المعرفة الشخصية أو الرغبة في النشر في وسائل إعلامية أكثر شهرةيستدعي هذا الجانب القاتم من العمل النسوي نقاشاً جاداً حول أخلاقيات العمل النسوي، ليس فقط من الجانب النظري بل من الجانب العملي وكيف يمكن أن نطبق في حياتنا اليومية والمهنية أخلاقاً تعكس قيم وطموحات العمل النسوي الحقيقي الساعي لمحاربة كافة أشكال الاضطهاد والتهميشومن ناحية أكثر عملية، كان من الصعب ضمن الجدول الزمني المحدد لنشر ملفات المشروع تغطية ملفات هامة كملف الجنسانية بشكل يستوفي حقهافعلى سبيل المثال تمت دعوة العديد من الأصوات الخبيرة بموضوع الجنسانية للمساهمة في الملف، لكن تم رفض هذه الدعوات لأسباب عدة منها أمنية متعلقة بالخوف من انتقام العائلة أو المجتمع عند الكتابة عن موضوع حساس كالمثلية الجنسيةمن التحديات العملية أيضاً كان عدم تقبل الكثير من الكاتبات والكتاب السوريين\ات لواقع وجود مُحررة تُشرف على كتابة المواد وتُرسل اقتراحات للتحسين، فكثير من الكاتبات والكُتاب قاموا برفض إجراء تعديلات على النص إنطلاقاً من النظرة أن النص مُلكية الكاتب وأنّ دور المحررة يقتصر على تحسين الجانب النحوي والأخطاء المطبعية فحسب دون التدخل في مضمون النصورغم التحديات المذكورة هنا بهدف التعلم منها في المشاريع المستقبلية، إلا أنّ فرصة العمل والنشر في مشروع “محتوى نسوي” كانت مُناسبة قيّمة للإضاءة على الإنتاج المعرفي لنساء سوريات وناشطات نسويات من توجهات سياسية وثقافية مختلفة.

نساء السويداء يخرجن عن المألوف: مقهى نسائي وجمعيات لدعم المرأة

نساء السويداء يخرجن عن المألوف: مقهى نسائي وجمعيات لدعم المرأة

لم يكن وضع المرأة في مدينة السويداء التي تتميز بتنوع ديني، يشكل فيه الموحدون الدروز غالبية السكان، اسثناءً عما هو عليه حال المرأة السورية عموماً. وما يقال عن أنها تحظى بجرعة زائدة من التحرر والخروج عن النمطية المجتمعية المُقيّدة بالعادات والتقاليد، التي وضعت المرأة ضمن قالب تغلب عليه السطوة الذكورية في الميادين السياسية والاجتماعية، قد لا يكون أمراً بالغ الدقة. فعدم التزام المرأة في السويداء بلباسٍ دينيٍ يغطي أجزاء جسدها كاملة لا يمكن اعتباره إلا مؤشراً ظاهرياً لهذا التحرر، ذلك أن القوانين والقيود السائدة هي ذاتها من ناحية جرائم الشرف والطلاق والإرث وحضانة الأولاد. ويمكن القول إنه في كثير من الأحيان ترضخ نساء الجبل لقوانين غير منصوصة، أشد وطأة من قوانين الأحوال الشخصية. فمن العادات الاجتماعية لدى أهل السويداء ألا تورث الأنثى، ويوصى لها في حال كانت عزباء أو مطلقة أن تمضي حياتها فيما يُعرف بغرفة “المقاطيع.” لكن يمكن للمرأة كما يقول الباحث التاريخي فندي أبو الخير “أن تقيم دعوى، لتحصل على نصيبها من الميراث، كما هو منصوص عليه في الشريعة الإسلامية”. فضلاً عن أن العديد من النساء بتن يطالبن بحقوقهن ويرفضن التقاليد السائدة التي ترفض زواج المرأة من خارج الطائفة لأن الفتاة كما تقول غزل البالغة عشرين عاماً: “بحاجة للميراث أكثر من الشاب، كما أنه لا يحق لأحد أن يحرمها مما هو حق لها ولا يمكن للحب أو قرار الزواج أن يحده دين أو طائفة معينة”.
لا تقتصر حالة “التمرد” (كما يُطلق عليها بين نساء السويداء اللواتي خرجن عن المألوف بأفكارهن ونمط حياتهن المختلف) على الآراء النظرية، بل ظهرت العديد من المشاريع التي باتت ترسم ملامح أكثر إيجابية عن كيفية تفعيل دور المرأة في المجتمع السوري وزيادة الوعي بحقوقها، وعدم الرضوخ للفكر التقليدي الذي لا يؤمن بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة.

كافيه “إيف” النسائي
في مدينة كالسويداء التي تُعرف بالاختلاط بين الرجل والمرأة في جميع المناسبات قد يستهجن البعض فكرة أن يكون للمرأة كافيه خاص يعزلها عن الرجل في وقتٍ تعلو فيه صيحات عدم الفصل بين الجنسين. وقد يظن البعض الآخر المُتأثر بالصور النمطية عن النساء أنّ “إيف” تُشرف عليه وترتاده نساءٌ لهنّ موقفٌ معادٍ للرجل ويعانين من عقدٍ نفسيةٍ. لكن الكافيه الذي ابتكرت فكرته هبة حاتم (خريجة كلية العلوم الطبيعية والتي حظيت بدعم مادي ومعنوي من زوجها المخرج المسرحي) يتميز بطابعه غير النمطي بدءاً من الديكور الخشبي غير المتكلف الذي يشبه إلى حد كبير أثاث المنزل البسيط، بعيداً عن اللون الزهري النمطي المخصص للفتيات.
تقول هالة ذات السبعة عشر عاماً، والمواظبة على ارتياد “إيف”: “إنّ العديد من فتيات السويداء كنّ ينتظرن أن تتحقق فكرة الكافيه النسائي، أسوةً بالمقاهي المخصصة للرجال، فضلاً عن أنه يحقق لنا شعوراً بالارتياح والحميمية، فهو يتيح لنا أن نتصرف على سجيتنا، دون أي اعتبار للأنماط الاجتماعية، التي تفرض قيوداً على طريقة جلوسنا وأحاديثنا وحتى على ضحكاتنا.”
تُشَبّه هبة حاتم كافيه “إيف” بـ”بيت الصديقات” كونه يقع عند دوار الزنبقة في وسط السويداء، ويجمع بين الفتيات اللواتي تُفرّقهن بعد المسافات بين منطقة وأخرى. وتصرّ هبة على أن تترافق النشاطات التي تقام بين الحين والآخر بأهداف أخرى غير الترفيه وتمضية الوقت. ففي تشرين الأول “أكتوبر” الماضي، عُرضت في الكافيه بالتزامن مع حملة الكشف المبكر عن “سرطان الثدي” العديد من الأفلام التوعوية بأخطار السرطان، وضرورة الاستجابة للحملة لتفادي عواقب المراحل المتقدمة من هذا المرض.
ليس “إيف” مجرّد مكانٍ تتشارك فيه النساء همومهن، ويتبادلن المساعدة لإيجاد حلول لمشكلاتهن وحسب، بل إنه يشكل دعماً لهنّ في العديد من المجالات العملية. فقد عملت حاتم على أن يكون المقهى مقراً لعرض ما تنتجه الفتيات المهتمات بالأعمال اليدوية وصنع الإكسسوارات، ورسم اللوحات الفنية، مما يمكنهنّ من الترويج لأعمالهن وتحقيق ربحٍ ماديٍ معقولٍ في ظل الصعوبات التي تعانيها الفتاة السورية للحصول على عمل مناسب. كما أن تشجيعها للأعمال النسائية، لا يقتصر على الترويج لها داخل الكافيه، بل حرصت على أن تشكل صلة وصل مع النساء اللواتي آثرن الخروج من عباءة المجتمع وتحقيق بصمة مميزة من حيث الاستقلالية والخروج عن النمطية.
من بين هذه المشاريع، كان لمطبخ “أماني” الكائن عند دوار كناكر نصيبٌ من هذا الدعم. ففي التجمعات النسائية الكبيرة في “إيف”، يكون لأطباق “أماني” من الكبة والمنسف والتبولة الحضور الأكبر. فبعد خمس سنوات من العمل المضني الذي بدأ بفكرة صغيرة نبعت من حب أماني وبراعتها في الطبخ، ولم تكن تملك حينها سوى جرة غاز واحدة، توسع المشروع ليضم أربع فتياتٍ وشاب. استطاعت أماني بإصرارها على جودة المأكولات أن تضاهي الكثير من المطاعم، التي استغنت عن خدمة طهاتها، وتعاقدت مع مطبخها لتلبية طلبات الزبائن.
ليس مطبخ “أماني” وحده من يحظى بدعم وإعجاب “إيف”، بل أم ويليام المرأة الخمسينية، التي تجاوزت بما تقوم به من أعمال (كانت ومازالت حكراً على الرجال) كل المقاييس والقيود النمطية. فهي تجيد منذ سنوات طويلة ما يُعرف بـ”تحبير الغاز”، وهو تعبئة الغاز من الجرات الكبيرة إلى موقد “السفير”، وبيع الأسطوانات الغازية وتوصيلها بنفسها إلى الزبون. وقد شهدت حاتم براعة أم ويليام في توصيل جرات الغاز، في إحدى المرات التي استعانت بها لهذا الأمر، ما أثار دهشتها همة هذه المرأة وإصرارها على العمل لكي تعيل ابنها وابنتها، بعد وفاة زوجها منذ سنوات بعيدة، فتقرر أن تكرمها مع بعض النساء المؤثرات في السويداء، ضمن خطة النشاطات المقررة للعام 2019.

توليب لدعم المرأة
تأسس فريق توليب في حي القنوات في مدينة السويداء في أيلول “سبتمبر” من عام 2015 وجاءت تسميته كما يقول شادي صعب المنسق العام إلى جانب زوجته المرشدة الاجتماعية هبة شيا “من وردة توليب المعروفة التي تنمو في بيئةٍ ثلجيةٍ متحدية الظروف الطبيعية القاسية.” وكان الهدف منه زيادة توعية النساء بحقوقهن، وتعزيز مشاركتهن في الحياة المدنية والسياسية. كما أن الفريق المتطوع لا يقتصر على النساء فقط بل يضم أيضاً الرجال المؤمنين بحقوق المرأة ومناهضة العنف ضدها.
لعب “توليب” دوراً هاماً في التقريب بين نساء المجتمع المدني و”الضيفات” (كما يصر أهل السويداء على تسمية النساء النازحات من مناطق أخرى). ووفقاً لربا زينيه مسؤولة التنظيم والمتطوعين في توليب، فقد وقعت في السنوات الماضية “بعض حالات النبذ والرفض ’للنساء الضيفات‘، من الأوساط المجتمعية في السويداء، فما كان من ’توليب ‘ إلا أن خرج بفكرة طاولات الحوار بين الضيفات ونساء المجتمع المدني، لكسر حالة النفور بينهن، وعقد حلقات تعريفية عن الثقافات والبيئات المختلفة التي تتيمز بها المناطق السورية.”
لا يستهدف “توليب” فئات معينة من النساء المهمشات والمعنفات وغير المتعلمات فقط، ولا تقتصر حملاته على الندوات التوعوية بخطورة جرائم الشرف وأهمية تطبيق القانون 548 الذي ينص على ضرورة أن ينال المغتصب عقوبة بالسجن تصل لسبع سنوات، بل تعدت حملاته ذلك لتطال النساء اللواتي يشغلن مراكز متقدمة في المجتمع. ففي الرابع والعشرين من تشرين الأول “أكتوبر” الفائت، أطلق فريق توليب حملة “نص بالنص”، التي تندرج تحت عنوان التثقيف السياسي للمرأة، موجهة لـ16 محامية من مدينة السويداء، لرفع الوعي بأهمية مشاركة النساء في الشأن العام وخاصة المحاميات من خلال دعم ترشيحهن لانتخابات مجلس فرع النقابة في السويداء. فالانضمام إلى مجلس النقابة، كما تقول زينيه “يتطلب شرطي العمر والكفاءة، وإن كثيراً من المحاميات يحققن هذين الشرطين، لكنهن لا يدركن أهمية ترشحهن للنقابة.”
يهدف توليب من التوجه إلى النساء القياديات في المجتمع إلى زيادة وعيهن بالكثير من القوانين التي قد يجهلنها كقرار مجلس الأمن 1325، الذي ينص على أن المرأة عنصر فاعل في الأمن والسلام. ويأمل توليب أن تؤثر النساء القياديات على زيادة وعي المجتمع المحيط بهن لتحقيق مساواة عادلة بين الجنسين.

* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات

خطبة البراءة

خطبة البراءة

الحمدُ لحربٍ وهَبَتْكم أعمارَ الرُّضَّعِ، وقلَّدتكم أوسمةً من عيون الغرقى.

والسلامُ على سِلْمٍ مُرِّغْنا فيه بين الشوك وأذناب الأشبال، وانْعَجَنّا بين الإسفلت ودواليب الحاشية.

والصلاةُ على كلِّ سقفٍ تَرَفَّقَ بساكنِيْهِ فسَما نحو حصونكم ليسوّرها بالحِمم، وعلى كلِّ طيفٍ غافَلَ الحواجزَ لينثر في شبابيك ملاجئنا غربةَ الشجر في العاصفة وأُلْفَةَ النَّايِ للرحيل.

ونعوذ بما ومَن سلَّطكم علينا مِن أن نُضْمِرَ غيرَ يأسِ الينابيعِ التي رُدِمتْ، أو أن نُظْهِرَ غيرَ ما تَأْمله الجذوع العتيقة حين تُواجه الجرّافاتِ، أو أن نعتنق غيرَ الندم على الولادة، أو نخوضَ مغامَرةً غيرَ التفرُّسِ في عتمة القبر، أو ننْضمَّ لقافلةٍ غيرِ الخليطِ الذاهل المعرّى ساعةَ الحشر.

ونُشْهدكم أننا صائنون ما وجدنا عليه آباءنا: منّا اللَّحْمُ، ومنكم الكرابيج. لنا الجِلدُ الرَّقيع كالتَّنَكِ الذي يجول به المجاذيب بين الأزقّة، ولكم العظامُ المجوَّفاتُ أبواقُ نصرٍ وقواريرُ مترَعة.

وأننا مُوْثَقون بأسماء صُلْبةٍ كالعقائد: نُجِلُّها في الليل، ونذلُّها في النهار. ونوْرِثها للآتينَ: خفيفةً على اللِّسان، ثقيلةً في الميزان، منقَّحةً بصفات الأنعام تَحَبُّباً وذكرى، ومُطَرّاةً برذاذ الشتائم، ومطرَّزةً بالحفيف المنوَّع لأوهام الفِرَقِ الناجية.

إذا خَفيتْ عليكم حالُنا، فلِبَهاتةِ المَشهَدِ لا لعلّةٍ في نظراتكم الثاقبة. وإذا أحطتم بها ولم تُبْدوا ولو هزّةً من الأكتاف، فلأنكم حَمّالو مَصائرَ ورافعو ألوية.

وقد ضاقت أعينُنا يا واسعي الحيلة، تَقَوَّسْنا يا فؤوس الجليد! 

امَّحى أكثرُنا يا راسمي الخرائط، وانكمشْنا حتى لَنُنَقَّل بالملاقط يا مُعْجزاتِ الجراحة!

مَن سَلِمَ جسدُه، طُعنتْ روحه. ومن لم يفقد عزيزاً، سُلِبَ العِزَّ.  ما نجا بيتٌ إلّا جُوِّفَ مِن أُنْسِهِ وتراثه، ما غادرَ خائفٌ محرقةً إلّا ليَسْكُنَ بين فَكَّيْن.  الآمِنُ شريدٌ، والساعي طريدٌ، والمفقودُ مَطْوِيٌّ في ثنايا الغصّة مُوْكَلٌ إلى مخالب الصُّدَف.

 خرائبُ تتساندُ، وآبارٌ تتنادى. جسورٌ صارت أسواراً، وحدائقُ استحالت عظامُ مَن دُفِنوا فيها ناياتٍ بين شفاهِ العتمِ وأكُفِّ الخريف. لا بشائرَ للصبح غيرُ ما تُلْهي به الأشجانُ عن الحشرجات، ولا سلوى عن هَوانِ الفَردِ إلّا ذهولُ المجموع.

أمّا بَعد.

فهذا يومٌ تتبرّأ فيه الأجساد من شهواتها، وتتشمَّسُ النفوس مُنَدّاةً بضباب المنامات.

لنكتشفَ بعد أوّلِ رشقةِ ماءٍ (سواءٌ أكان ساخناً طَهوراً في حمّامٍ آمِن، أو بارداً معكَّراً من ساقيةِ مخيَّم) أنكم خالطتم الغرائزَ وترسَّبتم في الرغبات.

 فليس للقُبلات الحميمة أن تزيح الأحجارَ التي سَدَدتم بها حناجرَنا،

 وليس للأحضان السخيّة أن تذيب صقيع المَهاناتِ التي رُشِقنا بها من العُلى ونحن نتناتف الأرغفةَ أو نتلمّس الهويّات.

وليس لرعشات النشوة إلا أن تستكمل الرقصاتِ الصاخبة التي أدَّيناها في سِيْركِ التحقيق(  مؤرجَحِينَ في الحالتين على الحِبال القلِقة ذاتِها: في مَهَبِّ لذّةٍ تُداني الموتَ، وموتٍ يوشك أن يصير لذّةً).

ولكي نوقن(  سواءٌ صَحَوْنا ممتنّينَ للضوء، أو نهضنا لاعِنِينَ الضجيجَ) أنّ الأحلام ألعابٌ يستدرجنا بها الغُولُ إلى مغارته؛ في مَساراتٍ مُعلَّمةٍ بالأحاجي والحُفَر، وفضاءٍ سديميّ مزخرَف بالغوايات والبشائر. فلا يَبلغ أيُّ كابوسٍ خاتمتَه القاضية، ولا تستجمع أيّةُ رؤيا مقوِّماتِ نبوءتِها. إمعاناً في التشويق وإذكاءً للشَّجَن، لتَظَلَّ اللهفة إلى الرقاد مَبْعَثَ نشاطِ الطُلقاء ومفتاحَ طواعيّةِ الأسرى.

وأنتم حول مضمارِ لهاثِنا بين الواقع والغيب: أملٌ يشجّع الذاهلين على تخطّي الحواجز أو تحطيمها، ويأسٌ يُقْنِع العازمين على الانتحار بتبديل خططهم أو تأجيلها.

وقد أكملنا لكم في هذا اليوم ذبولَنا، وأتممنا بكم أُفُولَنا، ورضينا لكم الحطامَ عروشاً. ولسنا ندري أنَلقاكم بَعده مثلما يتلاقى الطافُونَ على سقْطِ متاعِ السفينة الغارقة، أم نغيب جميعاً إذا أُسدلتْ علينا ستائرُ كِرْشِ الحوت.

نسألكم- كاشِفِيْنَ منكشفين في عَراءٍ لا يُجابُ فيه راجٍ ولا يُعابُ ناصحٌ- أن تَعكفوا على قراءةِ اللَّهَبِ المتحجّر في أحداقنا، لعلَّ هذه الحبال ترتخي.

وأن تُتقنوا الإنصاتَ لدمدمات قبضاتِنا، فلسنا نأْمن إذا واظبتْ هذه الأمواج على الهدير والتلاطُم إلامَ ستَؤوْل القواقعُ التي احتجبتم بها عَنّا.

وأن تَهَبوا أنفسَكم فسحاتٍ للفرجة، ولو بالتفاتاتٍ خاطفة كالَّتي يواكب بها صاحبُ المَسلخ اضطرابَ المارّةِ حين تختلج الأضاحي.

لا أرانا الزمانُ فيكم إلّا ما نَحْذَر!

ولا دارت الأفلاك إلا لتكذِّبَ المنجِّمينَ المتخرّجين من معاهدكم!

ولا سَكنتْ دواليبُ الحظّ إلا لتُبَدِّدَ الوهمَ بأنكم الرَّقم الأصعب في اللّوح المحفوظ!

جدي والراديو والخامس من حزيران/يونيو

جدي والراديو والخامس من حزيران/يونيو

تحلقنا حول الراديو بتركيز كامل، قطعه ضحك جدي أحمد سعيد “أبو حسن” الصاخب، الذي استمر بالقهقهة  حتى طفرت دمعة فرح من عينه، وهو يستمع للبيانات العسكرية من صوت العرب من القاهرة ومن إذاعة دمشق، في الخامس من حزيران/ يونيو.

كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها دمعة فرح، والمرة الأولى التي أرى فيها عين جدي تدمع. علا ضجيجنا فصرخ جدي بنا أن نصمت، ليستمتع بإنجازات صواريخ “القاهر” و”الناصر” و”الظافر”، التي سيدك بها جمال عبد الناصر قلب تل أبيب، وإنجازات السوريين الأبطال الذين سيهاجمون إسرائيل من الشمال. اعتقد جدي أن الملك حسين دخل الحرب مرغماً، وكان يتقبل أية نكتة تمس الملك الراحل. وكما الملايين استبشر جدي خيراً بالخطابات وكان يقول وهو يسمعها “كل العرب اليوم دخلوا المعركة بقيادة البطل عبد الناصر”.، الملايين أيضاً طربوا بخطابات عبد الناصر، وتابعوا تعليقات المذيع المصري أحمد السعيد مبتسمين و الاطمئنان يسكنهم بأن تحرير فلسطين وعودة أهلها إليها لا تتعدى أن تكون مسألة أيام أو أسابيع. وتباهى جدي أحياناً بأن اسمه قريب للغاية من اسم المذيع المصري الذي ألهب حماس العرب.

في اليوم التالي، ولأول مرة في حياته لازم جدي البيت ليبقى قرب الراديو، فقد اعتاد ألا يتغيّب عن عمله حتى بسبب المرض (علماً أنه لم يكن يعتبر بعض الأمراض مثل الأنفلونزا أو التهاب الكولون مرضاً أساساً).

قرب الراديو الخشبي الكبير جلس جدي يستمع للبيانات العسكرية التي لم تنقطع، فتارة تعلن أن القوات المسلحة المصرية والسورية والأردنية ألحقت خسائر فادحة في أرواح ومعدات جيش العدو، وأخرى تعلن أن القوات العربية أضحت تتوغل في قلب إسرائيل.

وبين زخم البيانات أطل المطربون الكبار والصغار من المذياع المتربع فوق الطاولة، يهللون لانتصارات جيوشنا البطلة ،مؤكدين أن صوت المعركة هو الأعلى. حفظنا -نحن الأطفال- حينئذ عن ظهر قلب بعض الأغاني، حتى أن كلمات ولحن بعضها مازال يتردد في رأسي حتى الآن كأغنية: “ميراج طيارك هرب … مهزوم من نسر العرب … والميغ حلّق واعتلى .. في الجو يتحدى القدر”، كنت أتخيل عندها أن طائرة الميغ  تشبه عنترة بن شداد، الذي حوله خيالي الطفولي إلى بطل سماوي وأن الميراج الاسرائيلي يفر من أمامه طالباً النجاة، ففي السماء كما على الأرض هم جبناء يفرون.

***

في المساء الخامس من مساءات الحرب، توهجت باحة السماء الغربية أمام بيوت قريتنا الصغيرة ” كفرية”؛ والتي تقع في الشمال الشرقي لمدينة اللاذقية، وتبعد نحو 500 كم عن الحدود مع إسرائيل. لم نكن نعرف ماذا يحدث، أسرع أبي إلى بندقية عمي وقرر أن يبدأ الحرب مع الأعداء القادمين من الغرب، تمسكت بقدميه وطلبت منه أن يعطي البندقية لعمي أو لأي أحد ليبقى معنا، سخر مني الجميع وقتها واتهموني بالجبن، فطلبت أن يعطوني البندقية، لتتحول اتهاماتهم لضحكات أبكتني.

بدت الأنوار التي أضاءت السماء وكأنها انطلقت من تل لا يبعد أكثر من ألفي متر، اقترح جارنا أبو صديق أن تتجه النساء والأطفال إلى الكهف المتاخم للنهر القريب، كما هجر أحد الجيران بيته وقصد مع أسرته كهفاً من الكهوف الجبلية القريبة. وفي ذلك العام كان نصر، ابن مختار قريتنا، يخدم في سلاح البحرية، وبدأ أبوه يندب ابنه والبلاد معاً مستغرباً وصول الاسرائيليين إلى مشارف قريتنا، أما أبو صلاح -رحمه الله- فقال إن أشلاء ابنه أصبحت في السماء.  فيما شرح لنا يونس عباس أن هذه الأضواء ليست إلا قنابل مضيئة تطلقها قواتنا لتكشف طائرات العدو لمدفعياتنا، وهذا ما أكده المذياع ليطمئننا الناطق العسكري بعد ذلك بأن الطائرات الإسرائيلية الجبانة أغارت على مدينة اللاذقية، إلا أن دفاعاتنا الأرضية تصدت لها وأجبرتها على الفرار، وهذا يعني أن الإسرائيليين ليسوا على مشارف قريتنا، كذلك أكدت دار الإذاعة الإسرائيلية أن طائراتها قصفت خزانات الوقود في مدينة اللاذقية وعادت إلى قواعدها سالمة.

لم يصدق جدي في الأيام الأولى حرفاً واحداً مما تقوله إذاعة لندن، كما رفض تصديق بيانات الهزيمة المجمّلة التي بثتها إذاعة صوت العرب من القاهرة، ومعها إذاعة دمشق، إلا أنه لم يتمكّن من إنكارها أخيراً، وعندما صدق، شاهدت دموع حزنه للمرة الأولى في حياتي، ولم يعلق على أخبار الهزيمة إلا بكلمة واحدة: “انكسرنا!”، صمتنا جميعاً ونحن نعاين موت الآمال الكبيرة في جنازة مهيبة، لم يكسر جدي المذياع كما فعل آخرون، بيد أنه لم يعد مولعاً به.

وبعد فقدان جدي لولعه بالمذياع البني، صار بإمكاني -أنا ابن الثامنة- أن أحركه وأستمع إلى ما أشاء، وفي تلك الأيام سمعت كلمة “مؤامرة” لأول مرة، فسألت عنها الشيخ بدر وعرّفها لي بأنها: “فعل شيطاني قطع الطريق على انتصارنا”، وعندما سأله خالي أبو عدنان عن سبب غياب الدعم الرحماني أجابه: “يمهل ولا يهمل”.

***

قرأت لاحقاً في مراهقتي، كالعديد من أبناء جيلي، الكثير عن حرب التحرير الشعبية، وعن الانتصار الفيتنامي على أمريكا نفسها، والذي بدا كنموذج يحتذى به ومثالاً على قدرة الشعوب، كذلك قرأت هوامش نزار قباني على دفتر النكسة، و(بيان 5 حزيران 1967) لأدونيس، وتمنيت أن أعرف ما هي الفقرة التي حذفها الرقيب من النص الذي كتبه حسين مروة في مجلة “الآداب” اللبنانية حول الهزيمة تحت عنوان: (طريقنا إلى تغيير الانسان العربي) .

استعرت من الأصدقاء مسرحية سعدالله ونوس (حفلة سمر من أجل 5 حزيران)، وكتاب صادق العظم (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، وتابعت مع الآخرين مجريات الحديث عن النصر الذي سيصنعه الفدائيون، والكثير من الآراء والمقالات في الصحافة العربية، وسمعت الحكايات والإشاعات التي بثتها المخابرات وأصحاب الخيال  ويبدو فيها عبد الناصر مهزوماً على يد أصدقائه الذين طعنوه في الظهر.

وفي مراهقتي أيضاً، سمعت لأول مرة كلمة انتحار عندما قتل عبد الحكيم عامر نفسه، وعايشت الاختراع الإعلامي الفظيع: “فشلت إسرائيل في تحقيق هدفها، وهو إسقاط النظام العربي التقدمي” وعرفت لاحقاً أن لدينا خيالاً هائلاً، يحول الهزائم إلى انتصارات بجرة قلم، أو بفقرة إذاعية.

***

في سجن صيدنايا في الخامس من حزيران (لعله عام 1988أو 1989 إذ تختلط علي التواريخ أحياناً) انعقدت ندوة نقاش عابرة حول الهزيمة، دون أن يخطط لها أحد، ولا تزال بالنسبة لي من بين أهم الندوات التي تمكنت من الاطلاع على مجرياتها، حيث التقى فيها بعض المعتقلين الشيوعيين مع معتقلين من الإخوان المسلمين أثناء التنفس في الساحة بين الجناحين -المعروفين باسم جيم يسار وجيم يمين- في الطابق الثاني. قال أحد الشيوعيين “في مثل هذا اليوم بدأت الحرب التي انتهت بهزيمة جيشنا وجيش مصر وجيش الأردن والجيوش العربية الحليفة، الجيوش في بلداننا تعمل لحماية النظام لا لحماية حدود الوطن”. فرد عليه أخ مسلم: “نظامنا لا يخشى الله لا في أوطاننا ولا في أعراضنا ولا في أنفسنا”، و أذكر من مطلع الحوار:

  • تحرير فلسطين ليس شأناً إلهياً يا شيخنا!
  • كله بإرادته! ولكنكم تنكرون ذلك!
  • حاشا لله أن يريد بنا شراً ياشيخ .

 ضحك الأخ المسلم وقال ضاحكاً “حسناً أنك تؤمن بالله، وترى أنه لا يريد لنا إلا الخير، صدقني يا أخي لو أن حكام العرب يخشون الله لانتصروا!”

  • كان عثمان بن عفان يخشى الله، ولكنه قتل!
  • أستغفر الله! وهل يجوز أن تقارن عثمان رضي الله عنه بحكام اليوم!
  • ولم لا يجوز؟
  • هذا ثالث الخلفاء الراشدين يا رجل! بقي أن تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم هزم في أحد كما هزم عبد الناصر.

امتد الحوار لساعات، وتناول ما أنجزته أوروبا في ميدان المواطنة والعقلانية والحداثة، وأعيد طرح سؤال شكيب أرسلان: “لماذا تخلف العرب وتقدم غيرهم”، كما أعيد طرح مفهوم الهوية وتعريف السلف الصالح العربي والعالمي، المسلم وغير المسلم. وتخلل الحوار امتداح أديسون، وعمرو بن عبد العزيز، والغفاري وجان جاك روسو، وغيلان الدمشقي، ونيلسون مانديلا.

تطرق معتقل شيوعي للخلفاء الراشدين واغتيال ثلاثة منهم وقيام حرب بين فريقين من المسلمين بل بين زوج النبي وابن عمه، شارك فيها المبشرون بالجنة وأقرب صحابة رسول الله اليه، فرد عليه إخواني بالإشارة إلى القمع الذي يكابده الناس في ظل الأنظمة الشيوعية التي تضطهد أبناءها وأبناء غيرها، وتم ذكر اقتحام المجر وقتل بحارة كرونشتاد على أيدي رفاقهم.

و بدى واضحاً في الندوة الارتجالية أن الطرفين متناقضين، وقد أكد كل من المتناقشين الأمر بمنتهى الهدوء، فعلق أحد الشيوعيين “يقول أتباع حافظ الأسد أننا وأنتم في خندق واحد، والحق هو أننا في زنزانة واحدة أو سجن واحد!”، فرد عليه الإسلامي “وضعونا في هذا الخندق البغيض، وجمعونا على نحو قسري”. فعلق أحد الحضور:”كما ترى، إنهم يجمعون ما لا يُجمع”، وانتهت الندوة بسؤال تبادله الطرفان:”لو استلمتم السلطة هل سيكون الجيش للدفاع عن البلاد في وجه الغزو الخارجي أولاً أو للدفاع عن سلطتكم أولاً؟”.

ولم أنس للآن المداخلة التي قدمها أحد المعتقلين بصوت خافت لم يغيره رغم مطالبة الجميع له مراراً برفعه وقال فيها: “وجودنا، وأمثالنا في السجون، ركن مهم لصناعة  الهزائم! بدأت صناعة الخامس من حزيران بإلغاء الأحزاب وحل البرلمان، نحتاج إلى قبة برلمان نتصارع تحتها صراعاً سلمياً، كهذا الذي نعيشه الآن، صراعاً ينوب عن الاغتيالات والاعتقالات والمجازر وتدمير الأحياء” وفي ذلك الوقت كانت المجازر التي ارتكبت قليلة إذا قارناها بما حدث بعد 2011، منها: مجزرة مدرسة المدفعية، ومجزرة حماه، ومجزرة الأزبكية، ومجزرة حي الشارقة في حلب، كما تحدث الرجل ذو الصوت المنخفض عن ضرورة تحديث معارفنا وعقولنا، وعن أهمية فصل الدين وغيره من العقائد عن الدولة، نحن سجناء هنا، ومصادرون ومهددون خارج السجون، إن أعملنا عقولنا بما لا يتماشى مع حكمة القائد، وبهذا “سيبقى الخامس من حزيران مقيماً، ما لم تتخلص عقولنا وأبداننا من كل هذه المصادرات والسجون”، وبنهاية مداخلته ذكر عنوان مسرحية قرأتها يوماً أن “السجناء لا يحاربون”.

وللآن، لا تزال هزيمة الخامس من حزيران تطرح السؤال القديم نفسه: لماذا وكيف تم ويتم تغييب طاقات الشعوب التي تستوطن البلدان العربية عن الفعل؟ وكيف بتنا نملك أمثلة أشد قباحة وإيلاماً عن القتل والقمع المباشر والعاري الذي يصنع المزيد من الهزائم؟.

قبيسيات في السويداء: “الست بتلة” وأتباعها

قبيسيات في السويداء: “الست بتلة” وأتباعها

“الست بتلة” هو اللقب الذي اختارته “سلطانة عامر” لنفسها منذ عشرات السنين لتشتهر به السيدة التي تحظى باحترام وتقدير واسع في أوساط المتدينين، وتشير بعض الشائعات المحلية إلى أن للست نفوذاً كبيراً لدرجة أنها باتت الآمرة الناهية في مجتمع السويداء.

ومُحرّك هذه الإشاعات الأساسي هو قلة المعلومات الموثّقة حول سلطانة، إضافة للغموض والسرية التي يتسّم بها المجتمع الديني عموماً لدى الدروز، إضافة إلى غرابة وندرة وصول امرأة لهذه المكانة الدينية المرموقة.

يروي أحد الشيوخ المقربين من الست والمقيم في مدينة السويداء، أن قصة “الست بتلة” بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت طالبة جامعية في قسم الفلسفة، إلا أنها تركت دراستها وحياتها المدنية وتوجهت نحو الدين. وحفظت سلطانة “كتب الحكمة” كاملة، وهي الكتب المقدسة عند الدروز وعددها ستّة، وهي الحالة التي تعد قليلة عموماً وخاصة لدى النساء، وقامت بتغيير اسمها إلى “بتلة” كنوع من الزهد معتبرة اسم “سلطانة” لا يناسبها، ونتيجة لذلك ولكونها من أسرة عامر المعروفة والتي تتمع بمكانة كبيرة في السويداء، حظيت “بتلة “بدعم واهتمام شيوخ الدين المعروفين وقتها، وهم من أطلقوا عليها لقب “الست”، وعمدت لتحويل منزلها في أحد أحياء المدينة لمدرسة دينية تعلم أصول الدين وطقوسه للنساء، بحسب الشيخ.

وازداد خلال سنوات الحرب الماضية انتشار الظواهر الدينية في السويداء بشكلٍ ملحوظ، لأسباب عديدة منها تشكيل الميليشيات المسلحة والتي أخذت غالباً الطابع الديني سواء الموالية منها أو المعارضة، كما شكل الدين رابطاً قوياً للحفاظ على وحدة المجتمع بعد أن غدت المؤسسة الدينية المرجعية الوحيدة في ظل غياب أية حركة مدنية أو سياسية.

وأثارت الست إشكاليات عديدة في المجتمع المحلي في السويداء أبرزها يتعلق بانتشار تأثيرها الواسع والتعصّب والتشدّد في التعاليم والطقوس الدينية التي تدعو إليها، وهو أمرٌ مستهجن وغريب عن مدينة تتسم بمدنيتها وعدم تطرّفها، وقد أدت هذه التعاليم إلى خلق مشكلاتٍ كبيرة بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين بعض العائلات، حتى أن فئة كبيرة من الأهالي أصبحت تسميها بـ “خرّابة البيوت”؛ إذ ظهرت العديد من حالات الطلاق بين المريدات والأزواج غير المتدنين أو ممن يرفضون التشدد في الدين، بالإضافة لرفض التعليم للفتيات والنتائج الخطيرة من جرّاء منعهن من إكمال دراستهن الجامعية ورفض الاختلاط في المدارس، وفي بعض الأحيان يتم إخراجهن من المدارس بسن مبكرة والاكتفاء بتعليمهن أصول الدين.

لا تنشر “بتلة” تعاليم خاصة بها ولا بدعاً هي اخترعتها، فكل ما تقوم به هو تطبيق التعاليم الدينية في المذهب الدرزي بحذافيرها، وفق قاعدة التصوف في الدين والشروط المعاشة اليوم، رغم أنها قد تجتهد ببعض المسائل بالقياس أو الإفتاء حسب ما تراه مناسباً، ولعل المغالاة الشديدة والتطرف الذي أثار نقمة وانتقاد البعض في مجتمع السويداء مرده إلى مريديها أنفسهم، حيث تصبح المغالاة هنا طريقة لإبراز الولاء والتقرّب من الست أكثر، بالإضافة إلى تحوله لنوع من التعويض النفسي والاجتماعي عن حالة الفشل والإحباط العامة التي خلفتها الحرب.

ولا تكتفي مدرسة “الست بتلة” بتعليم أصول الدين وتلقينه لمريداتها فقط، بل تفرض عليهنّ مجموعة من السلوكيات والطقوس الأخرى المتعلقة بكل جوانب الحياة تقريباً، من مبدأ أنّ الدين هو محور الحياة، لذا كان على المنتسبات أن يصدقن النية في التقرب لله، وأن يلتزمن بتطبيق التعاليم الدينية، والتي لا تختلف في أغلب جوانبها عن أي عقيدة أو مذهب ديني مختلف، وإن كانت أقرب إلى الطريقة الصوفية، والأساس فيها تطبيق مبدأ الحلال والحرام في كل شيء. وعند هذه القاعدة تحديداً يبدأ الاختلاف في تفسير الأشياء، فتعريف الحلال والحرام في العقيدة الدرزية ينطلق من قاعدة البحث عن أفضل الخيارات والطرق، أي الأكثر حلالاً من غيرها، وكنتيجة طبيعية لتطور المجتمع وتغيّر عاداته وثقافته، انحسر تطبيق التعاليم الدينية ليقتصر على الضرورات فقط، بما يحفظ النزاهة والكرامة والأخلاق، أو كشكل فقط وكنوع من إثبات المكانة الاجتماعية.

وبهذا ركزت الحركات الدينية المتشددة على محاولة العودة إلى تطبيق الجزئيات الصغيرة وأحكام الدين في كل جوانب الحياة، كرد فعل على ظاهرة انحسار الدين في المجتمع. ولذا يُلاحظ أن المتشددين ومنهم أتباع “بتلة” يرفضون العمل ضمن وظائف الدولة، كما يرفضون أي تعامل معها، معتبرين أموالها محرمة لاعتمادها على الضريبة والفساد، وبلغ الأمر بهم للاكتفاء بالضرورات القصوى المقدمة منها كالكهرباء مثلاً، وإن أمكن الاستغناء عنها يعتبر أفضل. كذلك الأمر بالنسبة لمياه الشرب، فهم لا يشربون مياهاً من الشبكة العامة وإنما من مياه الأمطار المُجًمعة أو من آبار خاصة موثوقة المصدر؛ وحتى لباسهن يحاولن حياكته بأنفسهن، وإن تعذّر الأمر، يشترون قماشاً من محلات خاصة أيضاً؛ و بالنسبة للمحروقات، يعتمدون على الحطب بشكل أساسي في الطبخ والتدفئة، ويمنع عنهم كافة أشكال التكنولوجيا الحديثة من تلفاز وموبايل وانترنت وغيرها لاعتبارها مفسدة بالمطلق ولا نفع منها. نتج عن هذا، تشكيل المتدينين بما فيهم “الست بتلة” لنظامهم الاقتصادي الخاص، الأشبه بالأخوية المتكاملة والمعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة وتربية الحيوانات والأعمال اليدوية والمنزلية، إضافة لبعض المحلات التجارية التي تعود ملكيتها لرجال دين، حيث يفضلون شراء حاجاتهم الأساسية منها.

وبما يخص نفوذها الداخلي، فقد حظيت “بتلة” باهتمام وتقدير كبيرين في الأوساط الدينية المحلية، وعُوملت من قبل أتباعها بشيء من التقديس والتبجيل، إذ تعتبر سلطتها الدينية مطلقة بحكم منزلتها وتأثيرها في وسطها، فالدين في المذهب الدرزي يمر عبر وسطاء حصريين لهم الحق عندما يصلون إلى مرتبة معينة من التقوى بإدخال أو إخراج الأشخاص من الدين حسب أعمالهم ومواقفهم، ويعتبر البعد أو الحُرم الديني من أهم أدوات العقاب والثواب في المذهب، ويعتبر المُبعد من الدين كافراً حتى يعود إليه دينه من جديد، فكثيراً ما تتردد عبارة (بتبعدك الست) كنوع من الدلالة على سلطتها المطلقة.

ولا يُفرض “التديّن” في العقيدة الدرزية على الأفراد أبداً، فعلى العكس توضع شروط قاسية لمن يراد الانتساب إلى مجتمع المتدينين، وسعى العديد لإيجاد طرق لتوسيع دائرة الدين وزيادة الملتزمين به، ومن هنا لعبت حركة “الست بتلة” الأثر الأكبر بنشره، من خلال ضمان وصوله للنساء وبالتالي انتقاله لأسرهن.

لو أن التعاليم الدينية التي تنتهجها “الست بتلة ” بقيت ضمن إطار الخيار الفردي أو كحالة من التصوف والروحانية، لكانت أشبه بثورة على نمط الحياة اللاإنساني الموجود اليوم؛ كما أن تبني أي جهة مدنية لتعاليمها ورفضها العلني لبعض مؤسسات الدولة، كاد أن يؤدي بها للقمع الفوري من قبل السلطة، ولكن تغطية المسألة بالصبغة الدينية فقط سمح لها بأن تمارس نشاطها وبغطاء ودعم من الأجهزة الأمنية، ما جعل البعض يظن بأن “حركة الست” ليست إلا حركة أمنية بالمطلق، ويعتقد البعض أنها استنساج لتجربة “قبيسيات دمشق”.

لكن للحقيقة وجهين متناقضين، فمن ناحية، إنّ أي تيار ديني هو صديق السلطة بالضرورة ويمكن للسلطة أن تستثمر فيه في أي وقتٍ ضمن تحالفات معلنة أو سرية لتثبيت وجودها كما حصل مراراً في المشهد السوري؛ ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإنّ هذا الاستثمار في الحركات الدينية قد لا يتحقق في مجتمع الدروز وضمن عقيدتهم، بل قد يرتدّ عكساً على السلطة إذا ما اعتبرت حركة ما بأنها تُشكل خطراً يُهدد الدروز كمجتمع أو كطائفة.

يُدرك المتدينون معادلة محاباة السلطة التي تساوي النفوذ والتمدد، ويستثمرونها سراً، والأخطر في الموضوع هو اعتقادهم بأنهم يستغلون السلطة لزيادة نفوذهم، وبالتالي توسيع مشروعهم الديني، والذي سيحقق للطائفة مزيداً من التماسك والقوة برأيهم، إضافة لعودة دور الدين في صياغة وقيادة المجتمع وحفظ وجوده.

من ناحيتها ترحب السلطة بأية حركة من هذا النوع، فتمدّد وانتشار الدين هو حتماً على حساب الحركات المدنية والفكرية في المجتمع، وهي الغاية الأهم لبقاء معادلة السلطة والدين كوجهين لعملة واحدة.

ومن هنا نجد أن حركة “الست بتلة “لم تعد وحيدة في مجتمع السويداء، فهناك اليوم أسماء جديدة ظهرت على الساحة “كالست شامية” و”الست سميّة” وغيرها، هذا عدا عن المعلمات في حلقات تدريس صغيرة في بعض القرى أو ضمن جلسات خاصة، وإن كان أغلبهم قد خرج من مدرسة “بتلة” إلا أن التنافس بينهن موجود وإن كان غير معلن.

في وداع الطيب تيزيني

في وداع الطيب تيزيني

بضع عشرات من المشيعين اجتمعوا في الثامن عشر من أيار في مقبرة حمص، يعرف الجميع بعضهم البعض فهم من القلة الذي بقوا في المدينة إضافة لبعض أفراد العائلة ممن لم يهاجروا بعد، بحثت عن وجوهٍ اعتقدت أنها لن تفوّت وداع شخصٍ بقامة الطيب تيزيني، إلا أنني لم أجدها، إذ غاب مثلاً حضور أي ممثل عن وزارة التعليم العالي واتحاد الكتاب العرب.

في المقبرة، اعتقدت لبرهةٍ أّن عدد المشاركين في وداع تيزيني أكبر من العدد الفعلي الذي لم يتجاوز الخمسين، إذ وصلت العديد من السيارات والمشيعين الذين تفرقّوا بعد دخولهم للمقبرة لحضور جنازاتٍ أخرى، كذلك غابت عن الجنازة أكاليل الورد التي يحملها المُشيعون عادةً أثناء وداع أحبتهم وأصدقائهم إلى مثواهم الأخير، فلم يحضر إلا إكليلٌ صغيرٌ أرسل باسم غرفة صناعة حمص.

ربما يعود غياب الورد عن المشهد  للضائقة الاقتصادية أو ربما لأسبابٍ أخرى؟

يعود تاريخ معرفتي المباشرة بالطيب إلى فترةٍ متأخرةٍ نسبياً، بعد خروجي من المعتقل، وتحديداً عام ٢٠٠٣ عندما استضاف الصديق عبد الحفيظ الحافظ في بيته لقاءً جمع بين الطيب ومجموعة من أبناء المنطقة الوسطى. في تلك الجلسة، تحدّث تيزيني بجرأة عن الحرس القديم، وكان صاحب النصيب الأكبر من الهجوم والنقد هو عبد الحليم خدام، الذي كان نائب رئيس الجمهورية حتى العام ٢٠٠٥ قبل انشقاقه عن النظام السوري، و كان تيزيني خلال محاضراته في مختلف المناطق السورية يعيد تأكيد أطروحته هذه منتقداً احتكار السلطة لكل شيء حتى الحقيقة.

يومها لم أكن معجباً بالهجوم على ثورٍ يتهيأ الراعي لطرده من الحظيرة، وفي لقاءٍ خاصٍ في بيته سألته ما معنى الهجوم على خدام بذلك الوقت؟ وعن معنى  مقولته الشهيرة التي قالها على مدرج جامعة دمشق (شباط ٢٠٠١) واصفاً بها المثقفين ومنتديات المجتمع المدني بأنهم “عملاء للسفارات الأجنبية” بما فيها من تبرير لقمع المنتديات، فأجابني “قلت لخدام ذلك منذ عامين وأثناء لقاء معه وليس الآن، لأنه لا معنى أن تتحدث عن الدواء الناجع لشخص بعد موته أو وصول مرضه لنقطة يتعذر شفاؤه فيها.”

قد يختلف كثيرون منا حول شخصية الطيب ونتاجه الفكري، ألا أن هناك شبه إجماع حول صدقية طرحه وانسجامه مع قناعاته، ورغم الآراء المختلفة حول مقاربته التوفيقية، إلا أنها تتوافق على حرصه على التوافق والذي يجده البعض منا أقرب إلى الطوباوية.

كان الطيب مثلاً ينظر إلى رجل الأمن وكأنه الدولة، لا كمجرد عنصرٍ في جهازٍ يفترض أنه تابع لمؤسسات الدولة، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، ومن هنا كان الاختلاف بينه وبين مجموعة عملنا في العام ٢٠٠٦. ففي ذلك العام كان التأجيج الطائفي على قدمٍ وساق في الإعلام العربي، وارتأينا أن نشكل تجمعاً أو مجموعة تحاول تدارك مثل هذه التحديات في سوريا مستقبلاً. اقترح الطيب علينا أن نبلغ أجهزة الأمن سلفاً عن اجتماعنا المقرّر كي نكون في مأمن من أية إجراءات قمعية بحقنا، فرفض بعضنا ذلك رفضاً قاطعاً، وعندما اقترحتُ إمكانية الترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية، ابتسم وقال “ستعود الى هناك، إلى الأمن، لتحصيل الموافقة، هم الدولة أولاً وأخيراً”، فـأجبته بأنه محق ولكن ليس علينا إعطاء الشرعية لمغتصبها، فردّ عليّ، “معك حق، ولكن تابع هذه الاجتماعات إذا استطعت.” وفعلاً لم نتمكن من الاجتماع مجدداً سوى مرةٍ واحدةٍ فقط قبل أن يتوقف كل شيء لمدة خمس سنوات حتى الانفجار الكبير عام ٢٠١١.

في هذا العام، تركت مشاركة  الطيب في مظاهرة أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة بدمشق، رغم اقترابه من الثمانين من العمر، أثراً طيباً لدى شريحة مهمة من الناس ممن نظروا إلى الحراك الشعبي في تلك الفترة على نحوٍ مشابه لرؤية تيزيني المُنظر للمستقبل بارتكازه على الماضي والداعي بقوة للخروج من قوقعة الوضع الراهن لا للعودة إليها.

واستطاع الطيب من خلال مشاركته في مؤتمر اللقاء الوطني الذي عقد في منتجع “صحارى” في تموز/يوليو من العام نفسه برئاسة نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع أن يسجل موقفاً تاريخياً ويرفع من شأن اللقاء بدعوته علناً لتفكيك “الدولة الأمنية” وإطلاق سراح المعتقلين ووقف إطلاق النار. وكما جرت العادة شكل المؤتمر بحد ذاته ومشاركة تيزيني ومعارضين آخرين فيه نقطة خلافٍ أدت للمزيد من الانقسامٍ بين السوريين، فمنهم من اعتبر أنّ تيزيني قد قدم خدمةً كبيرة للنظام بحضوره، ومنهم من رأى أنه قد قدّم للحراك شيئاً مهماً ومطالب مهمة تسلط الضوء على جوهر الأزمة، والمتمثل في طبيعة السلطة الحاكمة ومنظومتها، لكن هذه المرة أمام أوسع جمهور ممكن، حيث غطى الإعلام السوري الرسمي وقائع المؤتمر آنذاك، في حين كانت لقاءاته السابقة تقتصر على بضعة عشراتٍ من السوريين.

وقد أدى قرار التيزيني المشاركة في هذه المؤتمر في حقيقة الأمر إلى نبذه من قبل السلطة ومواليها من جهة، والمعارضة المتمرسة في مواقعها والرافضة لأي حل سياسي تفاوضي في ذلك الحين من جهة ثانية، وبقي مع الطيب من يعرفه ويعرف صدق نواياه وحرصه على الدم السوري.

ويلاحظ المتتبع للقاءات الإعلامية والكلمات التي ألقاها الطيب تيزيني خلال السنوات الثماني الماضية أنه قد حافظ على نفس المقترحات الإصلاحية التي كان يدعو إليها، والتي كان يعتبرها الكثير منا مقاربةَ توفيقية، و عرف عنه أنه حتى في أحلك اللحظات، بقي يعرض أفكاره بهدوء، بينما كنا نحن نغلي من الغيظ والحنق في اللحظة التي كنا نستمع فيها إلى تراشق الرصاص. في أحد الأيام قال لي “هم يعملون وفق ما يعرفونه، ألا وهو التراشق بالرصاص، ونحن علينا ألا نتجاوز التراشق بالكلمات، وحتى الكلمات يجب أن تمر عبر الفلاتر حتى لا نبتعد عن بعضنا كثيراً، الدم الذي يُسفك هو أكبر الخنادق لمنع اللقاء بين الناس، عندما نسترخص الدم نسترخص الإنسان، وعندما يكون الإنسان رخيصاً يصبح البلد رخيصاً، وحتى نحن نفقد قيمتنا بين شعبنا”. وأتذكر في شباط/فبراير من العام ٢٠١٢ وأثناء حصار بابا عمرو والقصف العنيف الذي استمر لمدة أربعة أسابيع على الحي، أنّ تيزيني قد تحدث مع محطة البي بي سي وكان متوتراً ومنفعلاً يغصّ بدمعه وهو يتذكر الدم المسفوك وكم سيبعد هذا الدم بين السوريين.

أما اللقاء الأخير الذي جمعنا حول الشأن العام فكان في صيف ٢٠١٢ في بيته بمشروع دمر، حيث تواجد ممثل لبعثة الأمم المتحدة التي كانت في سوريا يومها برفقة عبد العزيز الخير، الذي اختطف في أيلول ٢٠١٢، كما تواجد هناك بعض السوريين من المعارضة والموالاة، وقد دعيت وقتها بسبب مطالبتي بتأمين وقف إطلاق النار لتأمين خروج المدنيين من حمص القديمة إلى حي الوعر، بعد ذلك تتالت اللقاءات في مدينة حمص والتي غلب عليها الطابع الشخصي دون أن يفارقنا الحديث عن المأساة السورية اليومية حتى تدهور وضعه الصحي في العام ٢٠١٨.

أخيراً أقول تحية لذلك الرجل الذي حلم وسعى بكل إمكانياته لتحقيق أفضل ما لسوريا لتجد مكاناً لها في المستقبل وليس في الماضي تحية لروح الطيب وكل الطيبين.