بواسطة Christa Salamandra | سبتمبر 5, 2017 | Culture
يُجّسد المُخرِج السوري نبيل المالح شخصية الفنان الناشط، المُنِتج الثقافيّ المُلتزم اجتماعياً والناشط سياسياً. تحدّى المالح بأعماله، على مدى عقود من إنتاج أنماط فنية مختلفة، الأنظمة الفنية والثقافية والسياسية. غالباً ما يستشهد المالح بلحظة حاسمة من الطفولة المقاومة: يُواجِه الطفل نبيل, البالغ من العمر سبع سنوات, الجندي الذي حاول أن يبعده عن أرجوحة حديقة عامة لكي يتمكّن أطفال ضُبّاط من اللعب فيها. في مقابل تحديه هذا، تلقّى الطفل الصفعة التي، كما المالح يقول، تردد صداها طوال حياته. [1]
ولد المالح عام 1936، وهو ابن طبيب رفيع المستوى في الجيش ، هوالشقيق الأكبر لأربعة أخوة في أسرة نخبوية دمشقية. درس القانون في جامعة دمشق، ولكن ميوله انصبت في العلوم وشغفه كان في الكتابة والرسم. التقى المالح بالملحق الثقافي التشيكي بالصدفة ، الذي شجعه على متابعة حلمه في دراسة الفيزياء في براغ. بسبب عدم وجود التمويل، قام الفتى ذو السبعة عشر ربيعاً ببيع واحدة من لوحاته للأونروا، ليكسب بذلك ما يكفي لأول أشهر من وجوده في تشيكوسلوفاكيا. غيّر المالح اختصاص دراسته من الفيزياء النووية الى قسم السينما في براغ ، وانضمّ بذلك الى فريق ضمّ جيري مينزل وميلوس فورمان. وأثناء تواجده في تشيكوسلوفاكيا، لفت انتقاده للنظام الناصري المسيطر على سوريا في ظلّ الجمهورية العربية المُتّحِدة انتباه أجهزة الاستخبارات السورية التي دعته بالمُنشَق الأمر الذي بقي مصدر ضيق وإلهام.
بعد عودته إلى سوريا بعد التخرج في عام 1964 كأول خريج سوري من مدرسة السينما الأوروبية، أخرج المالح الأفلام القصيرة واستمر بالرسم مقيماً أول معارضه الفنية. وكتب أيضا سيناريو مقتبس عن رواية للكاتب السوري حيدر حيدر بعنوان (الفهد)، و هذه الرواية كانت تصوير خيالي لأبي علي شاهين، الثائر الأسطوري لحقبة الاربعينيات 1940. وقبل أسبوع من موعد التصوير المُقرّر، ألغت وزارة الداخلية تصريح التصويربحجة أن الفيلم يُمجِّد سفاح. وفي عام 1971 أعطي فيلم ليوبارد إذناً رسميّاً، وأصبح هذا التجسيد للمقاومة الريفية أول أطول فيلم روائي سوري.
أسر فيلم (الفهد) قلب الجمهور العربي حين صدوره عام 1972 ليقدم بذلك السينما السورية إلى الساحة العالمية. تدور أحداث الفيلم في العام 1946 حين قلّصت قوات الانتداب الفرنسي وجودها، واستغراق الاقطاعيين المحليين المعروفين بالأغوات في الظلم. يبدأ الفيلم بمشهد يعاد أكثر من مرة وهو مشهد قريب لوجه بطل الرواية مقطب قبالة بحر هائج يرسم القصص الشعبية السورية. في المشهد الثاني، ذو الصورة الظلية، تسأل شفيقة، زوجة أبو علي، عن سبب امتلاكه بندقية بعد أن غادر الفرنسيون. أبو علي يتجنّب الإجابة على السؤال، ولكن يأتي الجواب بسرعة: الإقطاعيين السوريين المدعومين من قبل الجنود يطلبون جزية تفوق قُدرة الفلاحين على الدفع بعد موسم حصاد سيّئ. يُقاوِم البطل ولكن يُلقى القبض عليه ويُضرب، إلا أنه يتمكّن من الهرب إلى التلال ليشنّ هجمات مُتمرِّدة ضِدّ قوات جديدة من الاستبداد. حاول رفاق من أيام مقاومة الفرنسيين الانضمام إليه، ولكنّ أبو علي صدهم ؛إنها معركته وحده.
حاول الجنود حمل المتمردين على الاستسلام من خلال مضايقة سكان القرية وسرقة طعامهم وبعد الغارة العسكرية البشعة التي قُتِل فيها ابن أخت أبو علي، طالبت شقيقة البطل أخيها بالثأرلابنها. لقد أدّى تمرُّده هذا إلى انتقام عنيف. زارت شفيقة أبو علي في مخبئه مُؤكِّدة دعم القرويين له، على الرغم من وحشية الآغا ليُجسِد هذا اللقاء العاطفي لأول مشهد إغراء في السينما العربية، إذ داعبت الكاميرا جسد المُمثّلة العاري إغراء المُتمدّد تحت المُتمرد الوَلِه (الإغراء “، نهاد علاء الدين).
انضمت شفيقة في وقت لاحق لزوجها في الدفاع عن موقفه ضدّ فصيلة مُسلّحة. كمادوّن Cecile Boëx أنّ هذا التصوير للأنثى المُقاوِمة يُفِسد اتفاقيات السينما التجارية، وشفيقة لم تَعُد مُجرّد جسد يُرضِي الرغبات الجنسية، ولكنها مُتمرّدة تُحارب من أجل قضية جماعية )2011,135(
تدهورت أحوال الفلاحين ، وعبد الرحيم “المُسلّح الوحيد”، قتل لإطعام صديقه المُطارد. مدفوعين بالغضب، انضمّ عدد من رجال القرية لأبو علي في غارة على مجموعة من الجنود تتناول الذبائح عند الآغا، سرقوا أسلحتهم، وأضرموا النار في مستودع القائد العسكري. أُلِقي القبض على شفيقة وابنها علي في محاولة لإرغام الُمتمردين على الخروج من مخبئهم، لكنه فاجأ الحُرّاس وأنقذهم. عاد إلى أهله وحاول نقلهم إلى مكان أكثر أماناً، لكن هذه المحاولة فرقتهم ليعود أبو علي وحيداً مرة أخرى. لجأ لفترة قصيرة لأحد شيوخ القرية، الذي شكك في الخطة التي خلقت سلسلة انتقام دموية ، ليجيب أبو علي “لم أستطع إلا أن أفعل شيئاً”. أجابه الحكيم “لكن بندقيتك لم تقم بما هو خير”، ، مشيراً إلى أن الجنود إن هم الا رجال فقراء مقموعين يحاولون إطعام أسرهم.
اتهم الفلاحون أبو علي بخوض معركة خاسرة وجلب الخراب إلى القرية و لكنهم تملصوا من مطالبة السلطات بمعرفة مكان البطل. إلا ان خيانة أبي علي أتت من عمه الذي خنقه المتمردون قبل تمكن الجنود من سحبه بعيدا عنه. رُبط البطل وتم جره في شوارع القرية، ثم قُيّد بشبكة من السلاسل و تم ضربه. طلقات من النار على البحر لجلب الانتباه لشخصية أبو علي المكبلة بالأصفاد تسير على طول الشاطئ متجهة لحبل المشنقة، حيث القرويين جنبا إلى جنب مع الآغا ورجاله، ينتظرون بصمت كئيب. و عند شنق أبو علي يظهر مشهد جوي لكامل الريف وتظهر في الأفق صورة ظلية خيالية للفلاحين الحانقين.
يمثل الفهد جهده الأول المتواصل لاستكشاف، من خلال المثال السردي، الخطأ الذي استمر في إضعاف مساعي السوريين الثورية. تعزز السياسة صياغة الفيلم بدلا من السيطرة عليه. يتماهى المالح مع بطل روايته ، وهو المتمرد المنعل الوحيد الذي يقاتل من أجل الاستقلال الحقيقي، “مدفوعاً بالكرامة واحترام الذات والتصميم على الذهاب للحد الأقصى، حاملاً صليبه بلا ندم.” بسرده قصة أبو علي، كما هو الحال في أعماله الأخرى، يناضل المالح من أجل لغة سينمائية جديدة لا تنتمي إلى مدارس النمط السينمائي:
لم يسبق لي ان أحسست بأن هناك مدرسة أستطيع اتباعها، فأنا أحاول ايجاد طرق خاص بي. أحيانا أنجح. لكن كشف الخمار عن ما لا نعرفه عن أنفسنا يبدو لي أكثر أهمية من اتباع حركة سينمائية. . ما من أنماط قابلة لإعادة الاحياء، هنا فقط اشكال يجب أن تُخلَق وتُكتَشف. أنا أتجنب المدارس والاتجاهات الموجودة مسبقاً.
يوظف فيلم الفهد تقنيات الواقعية الجديدة بما في ذلك مواضيع الفقر والقمع، والاستعانة بممثلين غير محترفين و بالتصوير الأسود والأبيض. يمكن القول أن الفيلم أسس للهجة الأسلوبية على مدى العقود اللاحقة للإنتاج الخيالي الاعلامي السوري. يعكس الفهد جمالية الظلام التي أصبحت السمة المميزة لأسلوب البصرية السورية. إذ يعتمد المنتجون الثقافيون الحاليون، عمدا أو من غير عمد، على جمالية قاتمة قُدّمت في الفهد ( Salamandra 2012;2015).
تعكس مشاهد مؤطرة للريف وبيوته الحجرية التقليدية اهتماما مدروسا لمصداقية الديكور والملابس. يرى المالح الفيلم كجزء من التوثيق الثقافي، كشكل من الأنثروبولوجيا الإنقاذ لتقفي ما تبقى من “البيئة الريفية الحقيقية “. تظهر مشاهد الحصاد في المناطق الريفية الممارسة اليومية تحت مراقبة الجنود المتوعدة. يصف المالح الدافع وراء تقنياته الواقعية:
تطلبت البيئة القاسية حلولاً قاسية. كرهت ولازلت أمقت الادعاء. جسد اللون، بالنسبة لي في ذلك الوقت، نزيفا كاذباً غطى أصالة الأشياء والشخصيات والعواطف. استكشفت مع الفهد المواقع والناس. أذهلتني أصالة كليهما [في المنطقة الساحلية السورية] تجانست تماما مع مفهومي للفيلم. حتى أنني رفضت مساحيق التزيين. قلت الجميع أن أشعة الشمس كانت أفضل خبير تزيين. غمرني العمل مع الناس من تلك القرى، الذين لم يذهبوا إلى السينما قط، بنشوة الفرح.
يتوقف غنى الفيلم الواقعي المحلي على اللغة، و يعتمد الحوار على مصطلحات العامية السورية. وهذا، بحسب المالح، يعكس روح السياسي في عصره. توظف الأفلام من حقبة الثمانينات والدراما التلفزيونية من التسعينات فصاعدا اللهجات المحلية مع التجمعات الطائفية والإقليمية المصاحبة لها – مودية في كثير من الأحيان إلى تأثير مثير للجدل (سالاماندرا 2004). لكن مازالت أواخر السبعينات تحمل أمل الوحدة العربية: “لم أعط اهتماما خاصا للهجة، بالنسبة لي كان الفهد رمزا سوريا أو حتى رمزا قوميا عربيا.. في ذلك الوقت، لم تكن للهجة الساحل السوري نفس الدلالات السياسية أو الاجتماعية كما اليوم. لم أتنبأ بالانتقال الجلي من اللهجة إلى الموقف “. [2]
حصل الفهد على جائزة خاصة في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي في عام 1972، وهو نوع من الاعتراف الأوروبي بما حققه صانعوا السينما العرب. كما حظي الفيلم بنجاح محلي غير مسبوق. ومن مفارقات صناعة السينما السورية فإن معظم أعمالها التي المؤسسة العامة للسينما إما أن تكون ممنوعة من العرض أو ببساطة تفشل في تحقيق التوزيع المحلي (السلطي 2006). عرض الفيلم في دور السينما في جميع أنحاء سوريا رغم رسالته الضمنية: لقد مات الاستعمار الأجنبي ، ولكن لازال القمع حياً. احتل فيلم وصانعه مكانة متميزة في الذاكرة الجمعية للوسط الفني السوري، وألهمَ أجيالاً من صُنّاع الإعلام. استشهد شريف كيوان، عضو جمعية أبو النضارة للمخرجين المُتمردين، بمشهد الحبّ:” رؤية جسد امرأة في الفيلم مَلأني بشعور حرية عارم، لقد تخطّى المشهد الحدود إذ أثّر فيي أكثر من أيّ شيء سياسي مباشر “. [3]
ما زال الفيلم يُذكر خارج منطقة الشرق الأوسط: اختار مهرجان بوسان الدولي في كوريا الجنوبية عام 2005 فيلم الفهد كأحد “الروائع الخالدة في السينما الآسيوية.”
يُجسِد المالح تناقض السينما السورية؛ على الرغم من تلقيه تمويل المؤسسة العامة للسينما إلا أنّ المالح يُعامَل كمنفي، تمييزٌ يعتبره المالح شرفاً. لقد مكّنه التمويل الحكومي بالتخلي عن مصادر تمويل خارجية، الأمر الذي منحه بحسب اعتقاده مصداقية محلية أكبر. على غير عادة الأفلام العربية نال الفهد كغيره من أعمال المالح وخصوصا الكومبارس، على حدّ سواء الإعجاب العالميّ والشعبية المحلية. عُرض في أكثر من عشرين صالة عرض سورية لأكثر من ثلاثة أشهر، أسّس العمل لسمعة رائعة في العالم العربي وخارجه.
وعلى الرغم من التدخُّل المُشتِّت من مُمثّلي الدولة الذين وصف المالح تصرفاتهم بـ “تصرفات أشبه بالمخابرات أكثر من كونها تصرفات وكلاء ومديري مشاريع ثقافية،” كانت فترة السبعينات مُثمرة للصناعة السورية الحديثة. عقدت دمشق عام 1972 أول مهرجانها السينمائي الدولي السنوي مُعزّزة السينما العربية البديلة. أنتج المالح خلال هذا الوقت العديد من الأفلام القصيرة التجريبية، بما في ذلك ” نابالم” ذو التسعين ثانية، الذي يربط بين حرب فيتنام والاحتلال الإسرائيلي مستوحياً قصته من الحروب في فلسطين وفيتنام لينال عليه الجائزة الأولى في مهرجان تولون السينمائي. وفيلم ” الصخر” الذي ناقش ظروف العمل المحفوفة بالمخاطر لعمال المقالع السوريين. وأخرج أيضا عمل ” المخاض” الجزء الأول من ثُلاثية ” رجال تحت الشمس”، الثلاثية التي تناقش وضع الفلسطينيين والتي عُرِضت عام 1970. وقد قدّم عمله ذو المُحاكاة الساخِرة والمُموِّل من القطاع الخاص ” غوار جيمس بوند” دريد لحام كشخصية تلفزيونية كوميدية إلى الشاشة الكبيرة عام 1974. فيما ناقش “السيد التقدمي” عام 1975 تحقيقات صحفية لكشف فساد الطبقة الوسطى. لكن تمّ حظر الفيلم في سوريا لتصويره السلبي لصورة النظام/الحكم.
بحلول نهاية فترة السبعينيات، واجهت سوريا توتراً متزايداً مُتمثّلاً بتحديات الإسلاميين المُسلّحة والتي بلغت ذروتها في القمع الوحشي للانتفاضة في حماة عام 1982 .وفرضت دولة البعث سيطرتها على التعبير الإبداعي. يقول المالح “تعارضت مع البيئة الثقافية المتحجرة في شعارات التقدم الزائفة “، ولكنه واصل عمله. وشهد العام 1979 إطلاق رائعته الثانية ” بقايا صور” معالجة واقعية لرواية السيرة الذاتية التي كتبها حنا مينا، مُؤرّخاً الحياة الاجتماعية في الريف السوري. [4] أٌعجب المالح بأسلوب مينا الغني في رسم شخصياته وإحساسه ببيئته الريفية، الأمرالذي قد يؤدّي إلى ” الوجود الإنساني الهشّ والبحث عن حياة كريمة” صوّر المالح فيلمه المُلوّن ناسباً إياه لعشرينات القرن الماضي. يروي الفيلم قصة صراع أبو سالم السكير في محاولاته الحثيثة لاستعادة أرض زوجته التي انتزعها منهم الأتراك، كما يحكي الفيلم عن جهود أبو سالم الضائعة للحفاظ على أسرته الفقيرة. تنازل البحار الخبير فقبل بوظائف غريبة في قرية ساحلية، روى أبو سليم لجيرانه قصص البحارة ” أوه مصر والمرأة” ولم يجيد الأعمال الوضيعة التي قُدّمت له ، لم تناسبه حياة اليابسة، ولم يلبث أن تحوّل إلى التهريب ولكنه خُطف. تسولت زوجته أم سليم(الممثلة والمخرجة المسرحية نائلة الأطرش) للحصول على الطعام وطلبت من جيرانه ذلك ، بما في ذلك الأرملة الجميلة )سمر سامي) والتي تربطها بزوجها علاقة غرامية. تفاقم الجوع و منع أطفالهم الثلاثة من تناول الطعام حتى يحيط ظلّ بعد الظهر صخرة بعينها.
انتقلت العائلة إلى الجبال، حيث يجد عمّ أم سالم، برهوم عملاً لأبو سالم مع مُختار القرية البخيل النزق الذي يغسل ثيابه بنفسه. ولكن البحّار تعب بسرعة من العمل في الأرض. أُجبرت الابنة الكبرى للزوجين والتي لازالت في سن المراهقة، على الخدمة المنزلية في بيت المختار لإعالة أسرتها . حملت تربية دود القزّ وعود الخلاص، تُظهِر بعض اللقطات فرحة القرويين وهم يُعاملون دودة القزّ برفق على أوراق التوت، لكن تُغرِق الهند سوق الغزل والنسيج الدولي بمواد أرخص. تعاظمت ديون الأسرة للمختار، الذي يسيطر على الإمدادات الغذائية ، فيتم إرسال الابنة الأصغر للعمل في منزل أحد آغوات السهول بالقرب من الحدود التركية. انضمت الأسرة لها بعد تسريحهم ابنة العم برهوم البكر من الخدمة لدى المختار.
وتقع القرية في حالة اضطراب، إذ سُرق مستودع الآغا. يبدو أن لا أحد يعرف أو يهتمّ بوظيفة وسكن أبو سالم الموعودين. تشهد الأسرة مُواجهة بين رجال الزعيم والقرويين . تخطو الشجاعة زنوبا )المظفرة منى واصف(، التي سُمّيت باسم الملكة المُحارِبة التاريخية في سوريا، ضاحكةً بخطوات واسعة ، متهمة مختار القرية بسرقة الحبوب نيابة عن الآغا. “أنت كلب”، تسخر قائلة “هزّ ذيلك للآغا وسوف يعطيك عَظمَة” يحاول أبو سالم الاقتراب من الآغا ولكنه يُزجر . يتعرّف عبدو أحد جنود الآغا على ابن عمه أبو سالم ويجد للبحّار وظيفة حِراسة مستودع الآغا . يُعطّى بُندقية ليكسب شبهة جيرانه الجُدد، باستثناء زنوبا التي أصبحت صديقة الأسرة. كانت تأخذ ابن سالم الجائع في رحلات طويلة إلى النسخة المحلية من حساء المطبخ، وتغسل عيون الصبي الصغير الملتهبة بماء البحر.
حاول عبده مهاجمة زنوبا، ولكن أبو سليم قام بحمايتها. وازداد التوتر بين الرجلين أكثر بسبب موقف الجندي من الفلاحين، الذين كما يقول:”لا يخرجون للعمل إلا تحت تهديد البندقية.” استفحل الخلاف بعد اتهام المُزارعين الجائعين بسرقة الطعام من الآغا، ليجد أبناء العمومة أنفسهم على طرفي نقيض من معركة بين القرويين والجنود. تجمّع المزارعون لاقتحام المستودع “لاسترجَاع حقنا” حاول الجنود منعهم وحصل تبادل لإطلاق النار. قَتلَ البحّارُ الغاضب ابنَ عمه . أضرمت زنوبا الضاحكة بجنون النار في مستودع الآغا، وتمّ إطلاق النار عليها من أعلى السطح . ليبلغ أبو سليم الجريح مشارف الفيلم النهائية وصوت ابنه المذعور يُردّد “ضاعت الحياة.”
يعزف الفيلم على وتر تحولات الضعف والقوة. على الرغم من كونها شخصية ثانوية، فإن برهوم طويل القامة، القوي، يسعى في حين أن أبو سالم، الذي يُجسد دور البطل الأعلى. أضعفت زنوبا كلا من القرويين والجنود على حدّ سواء بعدوانيتها. يوسع الفيلم المشهد المحلي الحميم للرواية ليغطي موضوعات الهيمنة والقمع. حوّل المالح شخصية مينا )أبو سالم( الماجن، و مُحبّ النساء السكير، إلى شخصية مُحبَطة ولكن كريمة “بصراحة، لم أكُن أحبّ كونه مُدمِن على الكحول، كان لدى أبو سالم شيئاً نبيلاً وصادقاً ، لقد سعى لحياة كريمة. لم أستطع تجاهل كلّ هذا. لم أحبّ تجربة المؤلف، لذلك قمتُ باختيار ما أحبّ في الناس: قُدرة المشقة والفقر على خلق النبل”.
[هذا المقال هو نسخة مختصرة من “نبيل المالح: فهد سوريا،” في عشر مخرجين عرب، الذي حرره جوزيف غوغلر (بلومينغتون: مطبعة جامعة إنديانا، 2015).]
[ترجمه إلى العربية رفاه برهوم. للنسخة الإنجليزية اضغط/ هنا]
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 5, 2017 | Culture
(إذا كنتُ سوريّاً، فما العجبُ أيُّها الغريب؟
نحن نحيا في وطنٍ واحد هو العالم)
ميلاجر، شاعر سوري فينيقي
من أين أنت في سوريا؟
يربكني هذا السؤال، يجرحني في الصميم، ويُخَلْخِل تكويني، يُشعرني أنني ابن القوالب الاجتماعية القديمة، أنني أنتمي إلى ما قبل إنسان الحداثة، إلى ما قبل إنسان الحقوق والقوانين، ينبّهني إلى السجن الذي أعيش فيه، وإلى الجدران التي تخنق فرديتي بهوائها المحبوس الملوّث، ويجعلني ذرة باهته لا مرئية متراصة مع ذرات أخرى، وبالتالي يلغي اختلافي، ويُجرم بحقي. يعرّيني في قفص الحزب الواحد، والمذهب الواحد، والإيديولوجيا الواحدة.
أعشق كلمة سوري حين تكون طبيعية كالهواء الذي نتنفسه، لا يفرضها أحد عبر لعبة التصنيف أو التسمية ذات الطابع الإقصائي أو الإلغائي. وفي خضم المأساة، وفيما السوريون يموتون على الجبهات أو الطرقات أو في المنازل أو في أعالي البحار، أو يعانون في مخيمات اللجوء والمنافي، أو في بيوتهم من الظمأ والجوع والبرد والعتمة والحزن، وفي ظل هذه الحرب المدمرة التي اتخذتْ طابعاً طائفياً، والتي قادت إليها سياسات وجملة ظروف وتدخلات نجحت في تحويل حراك مدني إلى حراك عسكري ثم إلى حرب طائفية دفعت سوريا إلى حافة الهاوية، فقدت كلمة سوري قيمتها وصارت بحاجة إلى تعريف، عرّشتْ عليها الأسماء التصنيفية، وظلتْ، كما كانت، منفصلةً عن مفهوم المواطنة، وعن الحرية والديمقراطية، وعن جملة الحقوق التي تحدِّد الإنسان كإنسان حديث، ظلت كلمة مرتبطةً بانتماءات إلى أحزاب حاكمة أو تطمع بالحكم، مكيّفةً مع ولاءات فئوية مستعادة من القرون الغابرة، في سياق اجتماعي نبدو فيه كما لو أننا ننتمي إلى منظومات متباعدة زمنياً ومتجاورة كالطبقات الجيولوجية )كما عبّر المفكر عبد الله العروي(، والتي ترتبط الآن بمشاريع إقليمية ودولية الهدف منها تدمير سوريا.
كانت البداية ملحمة مدنية ألّفها جيل جديد، مغاير ومختلف، صادر عن قطيعة ثقافية مع النخب والإيديولوجيات السائدة، تظاهر مطالباً بحريته وكرامته ضمن دولة القانون والمواطنة، دولة الحقوق والحريات، لكن فتح النار على المتظاهرين، وركوب المتطرفين والغرب للموجة وعسكرة الانتفاضة، والتدخلات العابرة للحدود وأدوا الحلم في مهده، وقضوا على الجيل المدني الذي فجّر الانتفاضة، كي يخلو المكان لأصوليات شرسة، عثرت على التربة الخصبة الملائمة، وعلى الحاضنة المناسبة في البيئة التي أنشأتها البراميل المتفجرة.
ثمة من يستخدم سوريا كوقود للحفاظ على الكرسي، ويضحّي بها كلها للبقاء عليه، وثمة من يقوم بالعمل نفسه كي يستولي على الكرسي. ثمة من يحتكر سوريا في الخطاب، ويمارس القتل لترويجه، وثمة من يزجّ بسوريا بأكلمها في سجون العقائد، ويمارس الذبح باسمها، والذين يموتون هم أبناء سوريا، والقتل هو واحد سواء تم باسم الوطن أو باسم الجنة، من أجل الثأر أو من أجل العرش.
سوريا تتفكك وتنصهر لا لكي يعُاد سبكها وفق رؤية أو مشروع وطني مدني وديمقراطي، بل كي يهيمن على أشلائها النازفة أمراء الحرب، كي تتحول خريطتها إلى قطع صغيرة في أفواه ذئاب كثيرة. ففي هذه البلاد الممزقة والنازفة والمدمرة، التي شُرِّد أبناؤها، المليئة بالجرحى والأرامل والمبتورين والمعطلين والعاطلين عن العمل، تنتشر فوهات القتل على امتداد الخريطة، ويتبخر الشبان تحت شمس الهجرة، فارين من الجحيم، تائقين إلى المغادرة حتى لو كان ثمنها الموت غرقاً، لأن الحياة ضيقة، منعدمة، لأنهم يُسَاقون إلى حروب خاسرة ويُضحَّى بهم على مذابح العروش.
إن الذين يدّعون الدفاع عن الوطن يعرفون في سريرتهم أنهم لا يدافعون إلا عن السلطة واميتازاتها، ليس عن سلطة تمثلهم، انتخبوها ديمقراطياً، أو عن حقوقهم التي يدوسون عليها فيما هم يُستخدمون كأدوات لقمع من ينادي بها، وبإعلانهم عن استعدادهم لحرق البلد من أجل الكرسي، يرسّخون ثقافة الانتقام، ويحاربون بلا بوصلة، مختارين الانتحار ومضحين بأنفسهم مجاناً على مذبح السلطة. أما الذين يقولون إنهم يقاتلون من أجل الإسلام وباسمه ودفاعاً عن أغلبية الشعب فيدمرون الوطن بعقليتهم الثأرية مرسخين الهويات القاتلة. فهل لغة الثأر لغة الحضارة أم لغة البداوة؟ هل نريد “ثواراً” يقفزون فوق القانون ويرسخون شريعة الغاب، يعبّر عنهم ويسوّغ لهم مثقفون تحريضيون يصفوّن حسابات طائفية؟
سوريا السجينة في قوالب السياسة الإيديولوجية الأحادية والتطرف العسكري، في قوالب التدين النفطي المهادِن والمُشترى، في قوالب التطرف المُعَد في المخابر الأمنية، سوريا التي يتسلّل إليها القتلة عبر الحدود، ويُربى فيها القتلة داخل الحدود، ما الذي حدث فيها ولها؟ وما الذي يمكن فعله من أجلها؟
تتبلبل الأذهان وتعجز الألسنة أمام هول الدمار والقتل والتشريد والنفي والاعتقال.
اقتتال شرس على السلطة، هذا ما تشهده سوريا، والغائب الأكبر هو رؤية واضحة، خريطة طريق نحو وطن يتعانق فيه جميع أبنائه، وطن المواطنة والحرية والكرامة. هل صار هذا حلماً بعيداً؟ لا شك أنه حلم بعيد، ذلك أن سوريا على طريق الهاوية. إنها بحاجة إلى معجزة والمسؤولية جماعية.
ستنفق سوريا سنيناً طويلة في بناء بيوتها ومعالجة جراحها والشفاء من رضوضها وصدماتها، ستستغرق سنيناً طويلة للتحرر من أفكار كثيرة يسوّقها ناطقون بأسماء الجماعات المتناحرة. والآن، يدفع المجتمع السوري ضريبة حلمه المدني، وتطلعه إلى حياة حرة وكريمة، يدفعها على كل مستوياته وفي كل مناطقه، لكن بالرغم من التشرد والنفي والموت والاقتتال والدمار، سيسير السوريون إلى العناق في النهاية فوق الأنقاض، لا لكي يتصالحوا قابلين الأوضاع القائمة، بل ليتصالحوا مجمعين على استمرار سيرورة التغيير في إطار عناق مدني وحراك مدني يخرجان من أنقاض المدن والقرى نحو بناء سوريا للجميع، بعيداً عن المحاصصة الطائفية، والصفقات الإقليمية والدولية، وتسوّل التدخل الخارجي، وتسوّل التدخل العربي، وبعيداً عن كل العصبيات الدينية والإيديولوجية.
هذا هو الحلم، هذا ما يجب أن نصبوا إليه بالرغم من طبقات الألم والقهر المتراكمة، بالرغم من أسوار الكراهية التي تعلو.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 4, 2017 | Culture
“سوريا خارج الإطار، فنانون معاصرون من سوريا” (2016) ، عنوان جميل لكتاب مهم صدر مؤخراً في إيطاليا (Imago Mundi, Luciano Benetton Collection). يعكس الكتاب جهداً حقيقياً بذله كل من الباحثة الإيطالية المتخصصة بالدراما والفن السوري دوناتيلا ديلاراتا، ومساعدة التنظيم رولا علي ولوشيانو بينيتون المشرف على “Imago Mundi” ولفيف من الأصدقاء والفنانين والباحثين الذين تعاونوا لتحقيق المشروع. العنوان هو أيضاً الاسم الذي أُطلق على المعرض الذي افتتح في 31 آب/أغسطس،2015 في مدينة البندقية بإيطاليا، وذلك في إطار معارض أخرى ل”Imago Mundi” الذي يرعى ويشرف على معارض من كل أنحاء العالم.
وهدف معرض الفن السوري هذا إلى كسر الصورة النمطية السائدة عن سوريا بأنها بلد الصراع الطائفي والحروب الأهلية واختزالها في موضوع اللاجئين والمآسي، متجاوزاً في ذلك الدور الذي يثير الشكوك للإعلام في عصر العولمة. فسوريا، في هذا المعرض، هي بلد الفن على مر العصور، وبلد الثقافات والحضارات المتنوعة والمختلفة، وبلد فنانين من مختلف المناطق يتجاوزون بفنهم وشعرهم وإبداعهم التقسيمات الضيقة واختزال البلد في عقلية القاعدة أو الإيديولوجيا الأحادية التي تنسج قناعاً من خيوط العلمانية والتدين.
وبين دفتي هذا الكتاب الضخم توثيق لعدد كبير من الفنانين والشعراء والمصورين. ويشكل هذا الكتاب ـ الوثيقة الذي يتألف من أكثر من 400، صفحة من القطع الكبير خطوة مهمة في التوثيق للفن السوري وتسليط الضوء عليه، ويحتوي على السير الذاتية للفنانين وصور الأعمال الفنية، ويحتفي بالعمق الثقافي والفني والشعري السوري في وقت يتم فيه تهديد تراث سوريا الحضاري والثقافي ويتعرض للتدمير، سواء بالقصف العشوائي أو بالتدمير المنظم الذي تمارسه تنظيمات دينية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية.
يعكس الكتاب جهداً كبيراً في محاولته إلقاء الضوء على فنانين سوريين من مختلف المشارب والاتجاهات والأجيال والمناطق، وهو بصدوره يؤكد أن العمق الحضاري والثقافي في سوريا هو الذي سينتصر في النهاية مهما طال التدمير والتخريب ومهما استمرت الحرب الحالية والتي دمرتها وحولتها إلى ممالك للوردات الحرب.
صدر الكتاب بالإنكليزية والعربية والإيطالية وقدم له لوشيانو بينيتون، الذي ذكر في مقدمته إن سوريا تقاوم الصراعات الداخلية وشلل الدبلوماسية بقوة الجمال، وبالهيام الحيوي للفن. وسوريا هذه تهدف إلى تجاوز التصوير الإعلامي لها: “الحرب والدراما واللاجئين الذين يضغطون على حدودنا”.
وأضاف أن جمع وعرض 140عملاً فنياً لفنانين سوريين من داخل سوريا ومن المنفى، والتي تعبر بشكل حقيقي عن سوريا اليوم، عَنَيا التغلب على تعقيدات تتعلق بالصراع، وتبدلات مفاجئة في الجبهة (أحياناً في التحالفات بين الأطراف)، ومجازفات وصعوبات بلد يعاني من الوحشية. لكن “Imago Mundi” تمكن من التغلب على هذه التحديات، وجمع مجموعة فريدة، عبر جهود كبيرة بذلها الذين ساهموا في تنظيم المعرض.
قدمت الناقدة الفنية مالو هالاسا أيضاً للكتاب وذكرت في مقدمتها أن رعاية دوناتيلا ديلا راتا للمعرض تجاوزت الحدود التقليدية بين الفن التشكيلي وأشكال أخرى من التعبير الفني. فما هو تجريبي أو شعبي تحدى ووسّع وجامل الأشكال الفنية الأكثر تقليدية. أي أن هناك، بحسب هالاسا، مقاربة توفيقية لا تهدف إلا إلى تأكيد حضور الفن عبر معرض واسع الطيف كهذا.
وتضيف هالاسا: “يعبر المعرض عن الدوافع الأولية للإبداع والتعبير الحر في ثورة بلاد اسمها سوريا. فبعد خمس سنوات من الحرب في سوريا تقريباً، يساعدنا الفن أيضاً في معرفة أين يجد بعض السوريين أنفسهم اليوم. وتلعب أعمالهم الفنية دوراً مهماً كمضاد لإحصائيات اللاجئين والوفيات وتطويع الجهاديين التي اختُزلوا إليها عالمياً هم وبلادهم”.
منظمة المعرض دوناتيلا ديلاراتا قدمت للكتاب أيضاً وذكرت في مقدمتها أن المعرض يفكك الصورة النمطية التي تسوق إعلامياً عن سوريا، وأن اللوحات المائة والأربعين المعروضة تشير إلى ما هو غير مرئي وغير معلن وغير مسموع، وتقترح وسيلة جديدة لطرح أسئلة على قصتنا غير الدقيقة عن سوريا وابتكار القصة الحقيقية من جديد عبر النظر إلى أنفسنا كبشر يتوقون إلى الحياة والجمال.
وأضافت أن “سوريا خارج الإطار” يقدم 140 فناناً سورياً من مجموعة واسعة من الأجيال تمتد من الخمسينات إلى التسعينيات. ومن عدة مدن وقرى سورية ومن خلفيات دينية وعرقية متنوعة. ويضم المعرض رسامين ومصورين ورسامي كاريكاتير وشعراء وخطاطين وفناني مسرح ومخرجين وفناني غرافيتي وصانعي أفلام. وهو يشمل كلاً من الفنانين المعروفين الذين يتم عرض أعمالهم وبيعها عالمياً، وطلاب الفنون الجميلة الواعدين الشباب الذين بدأوا للتو مسارهم الفني.
وقد احتوى الكتاب على لوحات وصور ونصوص لكل من هاني عباس ونضال عبد الكريم ومحمد عبد الله، وهبة العقاد ودينو أحمد علي وفادي الحموي ووضاح السيد وأسامة إسبر ولارا حداد وهالا محمد وكفاح علي ديب وحسين غرير وعلا الأيوبي وريم يسوف ولاوند ظاظا وعليا خاشوق ومحمد ديبو وياسمين فضة وأمير فخر الدين وهبة الأنصاري، ودلير موسى وجون إيف بيزيان ونهاد الترك وهاني موعد ورزان حسان، بالإضافة إلى فنانين آخرين لا يتسع المجال لذكر جميع أسمائهم هنا.
كما وجه معدو الكتاب الشكر إلى رولا علي، مساعدة التنظيم، والتي من دونها ما كان معرض “خارج الإطار” ليرى النور، وللوشيانو بينيتون الذي منح فرصة استضافة المعرض ولمجموعة أصدقاء من مختلف الثقافات ولسوريين بقيت أسماؤهم مجهولة.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Salon Syria Team | يوليو 1, 2017 | Reviews, غير مصنف
Ahmad Dallal’s The Political Theology of ISIS: Prophets, Messiahs, & “the Extinction of the Grayzone” is now available for purchase on TadweenPublishing.com! Read a description of the book below and place an order today:
Description
The Political Theology of ISIS: Prophets, Messiahs, & “the Extinction of the Grayzone”
More than any other actor on the contemporary Arab political landscape, ISIS represents the most expansive and potent threat to the territoriality of the modern Arab nation states, and it has exceeded the expectations of all observers in its expansiveness and resilience. While it is true that the rise of ISIS was enabled by a confluence of interests, it is now abundantly clear that ISIS has a dynamic project of its own and is not a mere proxy for such interests. ISIS entirely rejects the current order and its beneficiaries, and as such, it claims to carry the revolutionary project to its conclusion. The ISIS alternative to the failed Arab states is not just a normative Islamic cultural identity that guides the actions of the state, but an Islamic State that is itself the embodiment of the imagined new order. By examining the political theology of ISIS, this essay aims to understand the challenge posed by ISIS to the struggle for justice in the contemporary Arab and Muslim World.
Table of Contents
Introduction
The Religiousity of ISIS
Pedigrees of the Political Constructions of ISIS
The Pillars of the ISIS Ideology
The Conflation of Prophetic and Messianic Justice in the ISIS Tradition
Endnotes
About the Author
Praise
Ebrahim Moosa, professor of Islamic Studies, Keough School of Global Affairs, University of Notre Dame: In a nuanced but bitingly critical reading of the ideology and ideologues of the proponents of the Islamic State in Iraq and Syria (ISIS), also known as Daesh, as well as the propaganda of al-Qa’ida, Ahmad Dallal points out the threat these groups pose to Muslim thought and practice in the world today. Dallal points out that the political theology of ISIS is nihilistic: to sacrifice self and other for the sake of a blind justice that justifies unlimited retaliatory cruelty. In many ways ISIS is an extreme throwback of similar mid-twentieth century radical groups who mocked the entire complex history of Muslim thought by turning to hollow slogans such as “sovereignty derives from God.” The ideologues of ISIS are shrewd: they deploy narratives of truth in the service of falsehood-kalimatu ḥaqqin urīda bihā bāṭilun-as a well-known Muslim theological aphorism states. They succeed in hoodwinking the naive and lead astray the earnest Muslims onto a path that Dallal describes “a twisted model of prophetic justice.” In Dallal’s view, with which few can disagree, ISIS and radical groups consist of a cocktail of maladies and poisons dating back decades. They are the harvest of failing and corrupt political orders in Muslim majority societies tied to the merciless politics of globalization and ambitious Western political designs. This is compulsory reading for its incisive, bracing and honest accounting of ISIS and a more than subtle indictment of the reigning theologies of contemporary Islam.
About the Author
Ahmad Dallal has a storied intellectual history between Lebanon and the United States, where he has demonstrated his core interest in research and teaching about the cultural traditions of the Islamic world. Dallal is currently professor of history at the American University of Beirut. Between 2009 and 2015 he served as Provost of the American University of Beirut. Prior to that, between 2003 and 2009, Dallal served as chair of the Department of Arabic and Islamic Studies at Georgetown University. He had previously taught at Stanford University, Yale University, and Smith College. Dallal has written and lectured widely on a variety of topics, including the Islamic disciplines of learning in medieval and early modern Islamic societies, the development of traditional and exact Islamic sciences, Islamic medieval thought, the early-modern evolution of Islamic revivalism and intellectual movements, Islamic law, and the causes and consequences of 11 September 2001 attacks. Dallal earned his PhD from Columbia University in Islamic studies, and his BE in mechanical engineering from the American University of Beirut. He is the author of An Islamic Response to Greek Astronomy: Kitab Ta‘dil Hay’at al-Aflak of Sadr al-Shari‘a (1995), and Islam, Science and the Challenge of History (2012).
[This article is published jointly in partnership with Jadaliyya.]
بواسطة أسامة إسبر | يونيو 23, 2016 | Culture
صاحبة القبو تشكو دوماً، تكرّر الكلمات نفسها كلما جاءت لقبض الأجرة في نهاية الشهر. لديها أربع شقق تؤجرها، في أربعة أحياء في دمشق. تفترض أن المستأجر مليء، تنبت على رأسه نقود بدل الشَّعر. حين سألتُها عن الدهان الذي يهرُّ من السقف، وعن رائحة رطوبة قديمة في الزوايا كما لو أن النوافذ لم تُفتح منذ عام، وعن الحنفيات التي تسرّب الماء، وعدم وجود لمبات في السوكات المتدلية من السقف، سدّت أذنيها، مدعية الطرش، ثم غيرت الموضوع وتحدثت عن ابنها، استجدتْني من أجل تأمين أي عمل له.
قلتُ لها إن بلاطات الأرضية مخلخلة، وثمة بقايا لفئران وصراصير ميتة فحلفت أنها شطفت القبو البارحة. شعرتُ أن الرائحة قديمة، متوارثة، كما لو أنها جزء من عملية الاستئجار، وقد كافحتها طويلاً بالمنظفات حتى طردتها. حين أسمعها تشكو يخطر لي أن أخرج من جيبي مبلغاً وأحشره في فمها كي تخرس. لم تكن تشبه النساء. حاولت أن أتبين في شكلها عرق أنوثة، ذكرى حسية. لا بد أنها كانت تفعل كل شيء مع زوجها في الظلام. أما ابنها فيخلو من الرجولة، لا أذكر إلا طريقة كلامه التسوّلية، وكان عليَّ أن أدفع إجرة القبو، وأعطيهم من ملابسي وأغراضي.
استأجرتُ القبو وفرشتهُ بأثاث اشتريته بالتقسيط، وبدأت التأقلم مع الحي بصعوبة. كان أول من تواصل معي صاحب بقالية، طرق الباب وقال: “جار، حان موعد الصلاة، هل ستذهب معنا؟” لم أفتح له الباب فرحل بعد أن قرعه بشكل ملح ومزعج. في اليوم نفسه، وبعد أن عدت من العمل وتناولت غدائي المؤلف من بيض مقلي، وقرص شنكليش مع الزيت، وقطعتي مكدوس وبعض حبات الزيتون المرصوص، نادتني صبية. أتى صوتها من الشرفة التي أترك بابها مفتوحاً من أجل تنقية الجو، وهي الفسحة الوحيدة غير المسقوفة لكن الجلوس فيها خطر، بسبب رمي القمامة من الطوابق العليا. كانت أكياس القمامة تتطاير في الحي في كل الاتجاهات، ولم يكن سكان الطوابق العليا يتعبون أنفسهم في النزول إلى الحاوية الوحيدة للحي، والتي تكدست فيها القمامة على ارتفاعات عالية، وتخيلت أحياناً القمامة تعلو وتبز البنايات، وأن أكياس القمامة جبال يعيش الناس في سفوحها. حين خرجت إلى الشرفة لمحتُ رأس فتاة فوق الحائط الفاصل. كانت قد وضعت كرسياً ووقفت عليه كي تتمكن من التحدث معي: “جار، هل عندك قهوة؟”. دخلت وأنا أنظر نحو الأعلى حذراً من سقوط كيس قمامة طائش، ملأت لها كأساً متوسط الحجم بالبن وأعطيته لها. نادت في اليوم التالي أيضاً:” جار، هل عندك رغيف خبز زيادة؟” بدأ الطلب يتكرر كل يوم. لم يلفت صوتها أو وجهها نظري. كان صوتها كغيره من الأصوات ووجهها كغيره من الوجوه، لكنني كنت أمنحها كل ما تطلبه من أشياء، هذه هي العادة المتبعة، غير أنه كان من الصعب أن أفهم إن كانت تريد شيئاً آخر. زوجها خياط، ووالد زوجها خياط، وكل أخوته خياطون. لديهم ورشة في الحي، ويعملون في المنزل أيضا، إذ إن أصوات آلات الخياطة لا تتوقف. والجميع يعيشون في القبو المجاور لقبوي. الأب والأم، الأخوة وزوجاتهم وأولادهم، واختلط الأمر عليَّ كثيراً إذ لم أستطع التمييز بينهم أحياناً. وفي الليل كنت أسمع أصواتاً مكتومة، ثم صوت شخير، ثم صوت تدفق مياه من الصنابير، وكانت المياه تنقطع كثيراً، ويضطر الجميع إلى الاستيقاظ في الليل كي يملأوا الآنية حين يُفرج عن الماء من سجون التقنين الأبدية، ومن أجل هذا اشتريت من البقالية المجاورة بيدونين من البلاستيك، واحداً للاستحمام والآخر للشرب والطبخ والشاي والقهوة . وحين تنقطع الكهرباء أشعل شمعة وأجلس أحياناً صامتاً لفترة طويلة.
كان الحي الذي أسكن فيه بعيداً عن مركز المدينة، سِحْنتهُ رملية صحراوية، والتلال المحيطة به جرداء، يمنحك الغبار، و يشعرك بالانفصال، ورغم أن الطريق يمرّ في مساحة من الخضرة حيث تكثر المطاعم والمتنزهون إلا أن انقطاع الماء والكهرباء اليومي يشعرك بأنك من سكان الصحارى. نعم الصحارى، هذا إذا تخيّلنا الكتل الاسمنتية خياماً، وكل مجموعة من الخيام قبيلة، وفي وسط أرض كل قبيلة بئر ماء. وكان يجب أن أذهب إلى إحدى الكتل كي أملأ البيدونين كل يوم. “بالدور يا جماعة”. “هنا دور النسوان”. “النسوان أول شي”. يأتي دوري، يتدفق الماء،الأعين تراقب الصنبور، ألمح قشاً في المياه المتدفقة، أوساخاً سوداء، ربما يجب أن أغلي الماء لكنني غالباً ما أنسى ذلك. النساء بلا رؤوس وأعني أن شعرهن مغطى، لا أعرف كيف يحدّقْنَ بالصنبور، وأي انعكاس لمنظر الماء وصوته على وجوههن. أضع البيدون الثاني تحت الصنبور، الذي يخف ماؤه قليلاً ثم يتدفق بقوة أكبر. أحمل البيدونين وأعود، أتخيل نفسي من سكان الزمن القديم، لكن في الزمن القديم كان هناك ضفة نهر أو بحيرة، مساحة رحبة للمياه، وليس ماسورة معدنية مستقيمة تُخرج الماء كما لو أنها تطلق عليك النار وأنت في صف، محكوم عليك بالإعدام ظمأ.
في أحد الأيام بعد أن فتحتُ الباب ودخلتُ وضعت البيدونين في المطبخ الضيق. وما أن ملأت الركوة كي أغلي القهوة حتى سمعت صوتاً من فوق الحائط لكن النبرة مختلفة هذه المرة. شيء ما في الصوت شدني. كان صوت فتاة تطلب مني بعض القهوة، غير تلك الفتاة التي طلبت أول مرة. ثمة عذوبة هائلة في صوتها، لم يسبق أن سحرني صوت بهذه الطريقة، فيه بحة غريبة، إيقاعات قادمة من أعماق النشيد، من كثافة جمال الصوت الأنثوي، كما لو أن العذوبة تنتقل عبر الدم إلى الصوت. ملأتُ لها كأساً بالبن وناولته لها. “يسلمو جار”. كان لكلماتها وقع خارق للمألوف جمّل المكان حولي وشحنه بالألفة، خفَّ اغترابي داخل البيت وقويتْ علاقتي به. بعد ساعتين جاء شخص آخر، ربما زوجها أو أخوها، من الصعب معرفة الأمر، وطلب مني بعض السجائر وقال إنه مقطوع. كنت وقتها أدخن الحمراء لأسباب اقتصادية. كنت على وشك أن أقول له: سأعطيك السجائر لكن شرط أن ترسل صاحبة الصوت الجميل كي تطلبها، لكنني تمالكت نفسي. طال غيابها. صرت أسترق السمع علّني أسمع صوتها في الليل، علّ نثرة إيقاعٍ من صوتها تصل إليَّ. أين صوتك؟ كنت أهذي في الليل. خذوني إلى حيث أسمع صوتها.
في أحد الصباحات، سمعت الصوت يناديني: “جار!” الجيم والألف والراء خرجوا من حنجرتها كدواء أنعش وجودي بعد أن كان ميؤوساً منه. أسرعت إلى الشرفة حيث الحائط الملاصق لشرفتهم. نظرت إلى الأعلى. كان في العينين سطوة سحر، دعوة عالم من الدهشة والإغواء. أمعنتْ النظر في وجهي والتفتت إلى الخلف كما لو أنها تتأكد أن لا أحد يراها. “جار، هل يمكن أن أستعير بعض البن؟” تخيلتها تشرب القهوة معي وتبصّر لي، تقرأ مستقبلي في خريطة البن داخل الفنجان. لم يكن قد مضى على سكني في هذا القبو شهران. اعتادوا عليَّ بسرعة. وكرمى لصوتها صرت حريصاً على أن تكون الأشياء متوفرة دائماً. يجب أن يكون كيس البن ممتلئاً على الدوام، والثلج جاهزاً في الثلاجة حين لا تكون الكهرباء مقطوعة. كنت وقتها أتلقى راتباً تافهاً من عملي في محطة إذاعية، أعمل على تصحيح الأخطاء والتخلص من الركاكة وعلى صياغة الأخبار، لكنني لم أشعر أنني أنتمي إلى المكان أبداً. كان كريهاً وكنت دوماً أشعر بضيق نَفَس فيه. وكان قلمي مغمّساً بحبر الكذب ويداي مصبوغتين به. أكاذيب لم أشغل نفسي بتفكيكها كثيراً. كنت بحاجة إلى الراتب التافه الذي بالكاد كان كافياً للدفع لصاحبة القبو التي لا تتوقف عن الشكوى. كنت أعتبر زيارتها في نهاية الشهر كابوساً، لم أكن أطيق كلماتها، ولا طريقة ابنها في التحدث. حين يدخل يعرض خدماته: أستطيع أن أشطف، أن أجلي، أن أغسل وأكوي. جميع أنواع الخدمات، مقابل مبلغ تافه. كانوا يعبدون النقود، ومنفرين، مثل الجمل التي كنت أحاول صياغتها مرغماً كي تتقبلها الآذان المفترضة، الآذان التي تفضل محطات إذاعية أُخرى، أو أَخْرى.
ناولتها القهوة، امتدت أصابعها! يا إلهي! لقد خطفني البياض والرشاقة واللون القرمزي على الأظافر، أي وجود مكتمل مكتنز بالحياة هنا! أية رقّة مكثّفة لا تُضاهى! أية نعومة في ظلمات القبو قربي وأنا أعيش وحيداً، فيما وراء الجدار حديقة أنوثة تتفتح أزهارها وتنصب فخاخ عطرها في طريقي!. حين أمسكتْ بالكأس المليء بالبن والتفّت أصابعها عليه تخيلت ما الذي سيحدث لي لو أن هذه الأصابع مرت على بشرتي، لا شك أنني سأعيش الفردوس بكل نعيمه في لحظات مقطرة تنعش وتحيي في ظل واقع صعب لا يُحتمل. “شكراً جار! عمبنغلّبك معانا”، قالت هذه الكلمات وابتسمت، لا بد أنها شعرت بأنني أتلقى رسائل منها، لكنها بدت حذرة وخائفة ومتحفظة وكنت أشطح في تخيلي. كانت تلفّ شعرها بإشارب. منحني هذا وقتاً جميلاً كي أتخيل لون شعرها، أهو أشقر أم أسود؟ هل يصل إلى أسفل ظهرها؟ هل هو سابل أم مجعد؟ هل هو طويل أم قصير؟ أسئلة لا تنتهي تلهب مخيلتي في الليل، وفي الصباح يقودني الشوق إلى سماع كلمة:”جار!” أجمل كلمة في القاموس الدمشقي! أجمل جيرة في المدن التي تتحدث لغات غامضة غير قابلة للفهم إلا في لحظات إشراق معينة.
في أحد الأيام بقيت صامتاً طيلة الوقت في مكتبي في الإذاعة التي كنت أعمل فيها، مما لفت نظر أحد الموظفين، فبدأ يتهامس مع ضيف لديه من دائرة أخرى. الضيف كان ينظر من البداية إليَّ ويركز على شعري ثم ما لبث أن تحدث:
– أستاذ، أريد أن أسألك سؤالاً لو سمحت.
– تفضّل.
– ما المادة التي تستخدمها لشعرك كي يبقى طويلاً ومنتعشاً هكذا؟
نظرت إليه وضحكت، تخيّلت ماء الصنبور المتّسخ يتدفق على رأسي كي يزيل رغوة لوح صابون الزيت. لم أكن أستخدم الشامبو وقتها. ولم يخطر في بالي أبداً أن يُطرح عليَّ سؤال كهذا، وكان يبدو متجهاً نحو الصلع. ركزت على عملي، ثم غادرت وأنا أطلق ضحكة رنانة. تخيلت وقوفي أمام صنبور الماء في الصيف وصنبور المازوت في الشتاء والأوقات التي تبددت بينهما، كما لو أن أعمارنا تسيل من صنابير الزمن وتُسفَح على الطرقات ويُداس عليها في العبور، كما لو أننا أشباح، أو نسائم عابرة مثقلة بروائح التلوث غير قادرة على أن تبث رسائل بهجة وانتعاش.
عدتُ إلى البيت في السرفيس. كان انتظاره كارثة من نوع آخر، تشعر كما لو أنك حيوان يُحمّل كيفما اتفق، أو ربما صندوق أشياء تالفة أو كيس قمامة. يتدافع الجميع كقطيع، يدوسون على بعضهم ويدخلون حاشرين أنفسهم وعليك أن تكون جزءاً من هذا، ومن أنت كي لا تكون جزءاً من هذا؟ نجحت في دخول ميكرو وهو يسير، أي لم يصفّ بشكل طبيعي ليستقبل الركاب. أحتاج إلى الوصول بسرعة فقد اتخذتُ قراراً، يجب أن أتحدث معها، بعد أن تتفوه بكلمة جار، الكلمة التي تلهبني بإيقاعاتها الخارجة من فم ساحر، من بين شفتين تختزنان تاريخ الوردة الجورية. بعد أن وصلت لم يحدث شيء. لم تأت. لم يطلب أحد منهم شيئاً. خيم الليل، نمتُ واستيقظت. أمضيتُ اليوم التالي كله، وكان يوم جمعة، أي يوم عطلة، منتظراً أن أسمع صوتها يناديني، لكنني لم أسمع، كنت أسمع أصوات تحريك أثاث، أصوات مكانس تعمل على الأرض، فتخيلت أنهم ربما يشطفون المنزل، وربما سيحتاجون إلى بعض الماء أو سائل الجلي، أو أي من سوائل التنظيف، أو قد يقومون باستراحة وتناديني كي تطلب بعض البن كي تعد لهم القهوة، لكنها لم تأت. خيم الليل من جديد، وفي الحلم جاءني صوتها في حديقة من الورود، على درب محاط من جانبيه بالوردة الدمشقية، تجسّد صوتُها في شكلها وحين مددت يدي نحوها اختفت من جديد وبقيت كلمة جار تتردد في الهواء، كما لو أنها تخرج من بين تويجات الورود. وفجأة تصحّر كل شيء، صار الحي الذي أسكن فيه خياماً واتسعت الصحراء، جفت المياه في الصنبور، ووجدت نفسي في خيمتي وحيداً دون حائط يفصل بيني وبينها، أو بيني وبين صوتها. استيقظت فجأة على صوت سيارة مندفعة، كان الفجر قد قارب الطلوع. فتحت كتاباً لكنني لم أستطع التركيز. وضعت شريطاً في المسجلة لكنني انتبهت إلى أن الكهرباء مقطوعة. بحثت عن بطاريات فتبين أنها مستنفذة. اللعنة! ما من مشكلة، الصباح يقترب، وستأتي الجملة الساحرة: “جار! هل لديك قهوة؟”
قرع الباب في الثامنة صباحاً، هل هي يا ترى؟
فتحتُ الباب فإذا بصاحبة البيت ووراءها ابنها، دخلا دون أن أطلب منهما ذلك.
– خير!
– خير إن شاء الله!
– نريد شخصاً مثلك، أكابر!
– ولماذا؟
– كي نؤجره القبو الثاني!
– أي قبو ثان؟
– هذا المجاور لك؟
– لكنه مسكون
– لا لقد تركوا.
أسرعتُ إلى الشرفة مذهولاً. نظرتُ إلى الحائط فرأيت فوقه وردة جورية تويجاتها مدارة نحوي. حملت الوردة ودخلت. خرجتُ من الباب الرئيسي، صعدتُ الدرج إلى الشارع، كانت الشاحنة قد بدأت بالانطلاق، وكانت هي هناك مع النساء الأخريات جالسة بين الأثاث، وفي اللحظة التي انتبهتْ فيها إلى وجودي انعطفت الشاحنة إلى اليمين وغابت عن البصر. عدتُ وأنا أصارع حزني وأروّضه، كما لو أنني قبر من الأحزان المدفونة. كانت الوردة في يدي، كانت تويجاتها تتفتّت في يدي.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Suzan Al-Mahmoud | مارس 1, 2016 | Culture
ما نحاول القيام به هنا هو محاولة رصد بعض التغيرات التي حدثت على واقع الطباعة والنشر والقراءة في سوريا في ظل ظروف الحرب والدمار الكبير الذي حلَّ بالبلاد من خلال حوارات قصيرة مع عدد من المثقفين والصحفيين وأصحاب دور نشر ومكتبات في بعض المدن السورية الرئيسية، حيث تتركز دور النشر بالدرجة الأولى في العاصمة دمشق تليها حلب واللاذقية وطرطوس كما حاولنا رصد واقع الطباعة والقراءة في بعض مدن الجزيرة والشمال السوري التي خرجت منذ سنوات عن سلطة النظام السياسي المركزي في دمشق، لكنها وقعت تحت سيطرة سلطات أخرى، كسلطة الإدارة الذاتية الكردية في كوباني و ما حولها من مناطق ذات الغالبية الكردية وكسلطة الفصائل المسلحة الأخرى، كالدولة الاسلامية في العراق والشام أو ما يعرف اختصارا بـ (داعش) في الرقة وغيرها، إحدى نتائج الحرب المستمرة كانت تدمير عدد كبير من المراكز الثقافية التي كانت تحتوي آلاف مؤلفة من الكتب، ومن المكتبات الخاصة ومن مستودعات الكتب واللوازم الطباعية، هذا غير سرقة وتهريب آلاف المخطوطات التراثية النادرة والقديمة، كما حدث في مدينة حلب، وبالتالي يكون الفكر والثقافة والتعليم، قد دفعوا أثماناً باهظة في هذه الحرب المستمرة منذ سنوات، يتناول هذا التقرير النشر التقليدي والطباعة التقليدية أي النشر الورقي الذي يعتمد على الكتب والمجلات والصحف، وليس النشر الالكتروني. اختلفت طبيعة الأسئلة بين المناطق بحسب الوضع الراهن في هذه المناطق، وبالتالي اختلفت طرق الإجابة بحسب الطبيعة السلطوية التي تحكم كل منطقة.
كما حدثت تغييرات كبيرة على جغرافية تواجد المثقفين فقد حدثت حركة نزوح وهجرة كبيرة للمثقفين من مدن ومناطق إلى مدن أخرى أو إلى بلدان أخرى بسبب الأوضاع السياسية والأمنية والمعيشية المضطربة حيث هاجر عدد كبير من المثقفين خارج البلاد، من جميع المدن السورية (كما حدث لمثقفي المناطق التي وقعت تحت سلطة الإدارة الذاتية والمناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة المتشددة، ومن العاصمة دمشق وريفها، ومن المدن السورية الداخلية والساحلية جميعها ) وقام عدد آخر فضل البقاء في البلاد بتغيير أماكن إقامتهم فعاد عدد منهم إلى مدنهم الأم المستقرة نسبيا ً.
في المناطق االتي تحت سلطة الدولة
يتركز تواجد دور النشر والمطابع في سوريا في المدن الرئيسية وفي العاصمة دمشق بالدرجة الأولى، ومنها كان يتم التوزيع لباقي المحافظات في الدولة عن طريق المؤسسة العامة للمطبوعات وبعض موزعي القطاع الخاص، وتأثرت دور النشر جميعها بالحرب المستمرة منذ خمس سنوات والتي تسببت بتدمير وحرق عشرات المستودعات في ريف دمشق، (لم يتم حصر الأضرار حتى الآن)، وبالحصار والعزلة المفروضة على السوريين (خاصة الذين لايزالون في الداخل السوري) بسبب الوضع السياسي المعقد، كما تأثرت بانخفاض سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار تأثيرا مباشرا، وبصعوبات النقل وغيرها، طرحت هنا بعض الأسئلة على عدد من اصحاب دور النشر الذين لايزالون في الداخل السوري وحاولت أن افهم هواجسهم وظروفهم والصعوبات التي تعانيها دورهم، وكيف يتكيفون مع ظروف الحرب ونتائجها، وإن كان هناك قوانين تحميهم وتعوض خسائرهم وعن دور اتحاد الناشرين السوريين بوصفه مؤسسة ترعى مصالحهم، وعن رؤيتهم لواقع القراءة اليوم.
يقول الأستاذ سامي أحمد وهو شاعر وناشر وصاحب “دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر” :”توقفت عن نشر الكتب لمدة عام ونصف بسبب الحرب وفكرت بالهجرة، لكنني عدلت عن الفكرة في اللحظة الأخيرة وفضلت مواصلة العمل هنا ونشر الكتب رغم الصعوبات، واستمريت في المشاركة في معارض الكتاب، شاركنا مؤخرا ًفي معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الرابعة والثلاثين الذي أقيم بين 4-14-2015 و معرض بيروت الدولي للكتاب في دورته التاسعة والخمسين في 28-11-2015.
وحول المشاركة السورية في معرض الشارقة الأخير يقول الأستاذ سامي “كان هناك سبعون دار نشر سورية مشاركة في المعرض معظمها من خارج سورية من بيروت والقاهرة والإمارات، وغيرها، بينما شاركت 15 داراً فقط من الداخل السوري، وشاركت دار التكوين ب 400عنوان هذا العام في معرض الشارقة و بـ300 عنوان في معرض بيروت، وعن رغبته في مواصلة نشر الكتب يقول الأستاذ سامي “أعلم أنها مغامرة لكنني سأستمر بالعمل هنا” وتقوم دار التكوين بالإعداد لأسبوع ثقافي سنوي، ولحفلات توقيع للكتب الجديدة الصادرة عن الدار.
وعن تأثير سنوات الحرب على النشر يقول الأستاذ سعيد البرغوتي صاحب دار كنعان “الأزمة تركت آثاراً بالغة بالنسبة لدار كنعان، فنحن كنا نصدر سنويا ما يقارب الأربعين عنواناً، لكن في السنوات اﻷربع الأخيرة أصدرت الدار أربعة عناوين فقط! وتلك آثار مدمرة، لأن العناوين الجديدة هي التي تتيح استمرار الدار وتطورها. الأمر الذي وضع الدار عمليا في مأزق شديد الصعوبة، يهدد استمرارها، وعند سؤالنا إن كانت الصعوبات هي في ارتفاع أسعار المواد الأولية للطباعة أم في التسويق للكتب؟ أجاب “الأمر أكثر تعقيدا بحصره بسبب أو سببين، هناك صعوبة باستدراج العناوين المناسبة، وهناك صعوبة بتكاليف الترجمة، إضافة لارتفاع أسعار كافة المواد، وشحن الكتب، وتكاليف السفر والمعيشة، وغير ذلك.
وعن دور اتحاد الناشرين السوريين إن كان يقدم أي تسهيلات او خدمات حقيقية. يقول” “خدمات الاتحاد إدارية ليس أكثر، لأن الصعوبات موضوعية أنتجتها الأزمة. طبعا الأزمة لم تؤثر في كافة دور النشر، وخاصة المقتدرة ماليا، فتأثر تلك الدور يبقى محدودا.
وعندما سألنا الأستاذ سعيد عن إحدى تعليقاته في معرض الشارقة على حيتان النشر ومن يقصد بذلك؟ أجاب “لم أقصد بذلك تجريحا أو ما يحيل على شيء سلبي بإحدى تلك الدور، ذلك فقط لإمكانياتها التي جعلتها في مأمن من التأثر باﻷزمة، وحافظت بالتالي على سويتها ومكانها في المعارض. فمن الطبيعي أن دارا تنتج كما كبيرا من الكتب، أن تظفر بشروط أفضل من غيرها، وذلك يسهم آليا باستمرارها وعدم تأثرها، وكل ذلك لا يطال نوعية الكتب وتقييمها بين هذا وذاك.
وحول واقع القراءة و تأثير الحرب عليه يقول برغوتي” واقع القراءة مأزوم تاريخياً لأسباب تربوية بالأساس، تليها أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية. أزمة القراءة ليست محصورة في بلدان الأزمة، كسوريا مثلا، بل هي في عموم البلدان العربية ، وهذا لا ينفي أن أزمة القراءة تتعاظم في البلدان التي تجتاحها الأزمات”.
وعن وضع دور النشر في هذه الظروف يقول الدكتور مصعب الجندي صاحب ومدير دار “الجندي”:
“دوماً وفي جميع الأزمات التي تمر فيها المجتمعات البشرية ، خاصة ً إذا بلغت الأزمة ذروة الصراع الدموي، أول النشاطات (الاجتماعية/الاقتصادية) تأثراً هو قطاع الطباعة والنشر خاصةً وما يرتبط منها بالثقافة عامة ً، حيث أن الناس تبدأ بالبحث عن ما يبقي استمرارية الحياة، وللأسف القراءة تصبح في آخر الأولويات . في سوريا وعلى الرغم من قسوة الحاضر و دمويته لا تزال بعض دور النشر والمطابع تصارع للبقاء وتعتمد في نشاطها على المعارض الخارجية .. طبعاً هناك أثر سلبي آخر هو انتشار الفوضى وفقدان الضوابط والحماية لدور النشر من خلال انتشار الكتب المزورة والمطبوعة طباعة تجارية رخيصة ومن دون حفظ حقوق الناشر أو المؤلف . بالنسبة لدار الجندي فقد كان الأثر كبيراً والخسائر تكاد تأتي على كل ما تملكه الدار، لأن مقرها الرئيسي في مدينة عربين التي أصبحت شبه مدمرة، ومستودعاتها في قرية الشيفونية في الغوطة الشرقية . وللأسف الشديد لا يوجد قوانين خاصة بحماية الدور في سوريا، وبالرغم من ذلك ننظر للأمر بأن مصابنا مصاب السوريين جميعهم . للأسف لم تقم الدار بنشر أي عنوان جديد منذ عام 2011 ، ولا نية لنا بطباعة أي إصدار قديم أو جديد. أكثر الكتب رواجاً في سوريا هي الكتب التراثية، تليها الروايات المترجمة، .. للأسف لا تزال المؤلفات لكتاب عرب وسوريين أقل رواجاً وغالباً ما يتم الترويج لها من خلال معارض الكتب وحفلات التوقيع . تجربة اتحاد الناشرين السوريين لم تكتمل بسبب هيمنة الأجهزة الوصائية عليها ( الرقابة والمؤسسات الرسمية ) ومع ذلك يقدم الاتحاد الكثير من الخدمات للناشرين السوريين كالمشاركة وإبلاغهم بمواعيد المعارض الخارجية” .
الأستاذ جامع بهلول صاحب دار “الحصاد” يقول (من التأثيرات التي لحقت بقطاع الطباعة والنشر توقف كثير من المطابع ومراكز التجليد عن العمل، (إما بسبب وقوعها في المناطق الساخنة، ضواحي دمشق، إذ المعروف أن أكثر المطابع تتواجد في الضواحي)، فمنها ما تعرض للتدمير ومنها ما توقف لعدم قدرة أصحابها للوصول إليها، تعرّض الكثير من مستودعات دور النشر للتلف أو الحرق، الحظر الذي فُرض على الناشرين السوريين من قبل عدة دول عربية مما تسبب بإغلاق أسواق مهمة أمام الناشرين السوريين ، تعطُّل السوق المحلية لأسباب عدة ناجمة عن الحرب: (انخفاض القيمة الشرائية الحاد عند القراء وانهماكهم في تأمين مستلزمات الحياة الأخرى الضرورية، إغلاق كثير من المكتبات في أغلب المحافظات)، الحالة النفسية والقلق الذي يسيطر على القراء.
أما عن الصعوبات التي واجهت دار الحصاد فيقول الأستاذ جامع “أهمها إحراق المستودع الرئيسي للدار والذي كان يحتوي معظم الإصدارات الحديثة ولم يبق منها سوى ما كان قد أرسل للمعارض الخارجية، وفقدان القسم الأكبر من البلاكات المعدنية لقسم كبير من الإصدارات سواء ما كان منها في مستودع الدار الذي أُحرق أو في المطابع التي تعرضت للتخريب أو تلك التي لم يُعرف مصيرها حتى الآن، وفقدان البلاكات المعدنية تسبب في إعاقة كبيرة في إعادة طباعة الكتب التي أُحرقت، أيضا ًفقدان كميات من الورق ــ (لثلاث كتب، مع مجموعة كتب أطفال) ــ الذي كان قد وُضع في إحدى المطابع التي لم يُعرف عنها أي شيء منذ ما يزيد عن أربع أعوام، ويُضاف إلى ذلك التأثيرات العامة التي أصابت الغالبية من الناشرين .هذه العوامل خلقت لنا إرباكاً في متابعة المعارض الخارجية، وبالإجمال تزيد الخسائر التي تعرضت لها الدار عن 20 مليون ليرة بالتقييم الراهن لليرة”.
وعن قوانين الحماية “حتى الآن لا أعلم إن كانت هناك قوانين خاصة لحماية الناشرين وتأمين دور النشر والمطابع” وعن العناوين التي أصدرتها دار الحصاد في السنوات الأخيرة يقول: “بقيت اصدارات الدار في السنوات الأخيرة بنفس الاتجاه العام للدار، لكننا أصدرنا عنواناً واحداً فقط (رواية) تدور عن الأحداث الجارية في سورية”، وعن إمكانية اصدار منشوراتهم الكترونيا ” نفكر بإصدار بعض كتبنا إلكترونيا كمرحلة أولى لمعرفة مدى نجاحها” وعن العناوين التي تلقى نجاحا “الدراسات النقدية في الفكر والتاريخ والدين، الصادرة عن الدار تلقى رواجاً مقبولاً. وعن طريقة البيع وتوزيع منشورات الدار، “يتم البيع المباشر لإصدارات الدار داخلياً بالتعامل مع بعض المكتبات، التي ما زالت تمارس نشاطها وبخاصة في المدن الساحلية ومدينة دمشق، وتضع الدار أسعاراً خاصة بلا ربح للداخل، وأما في الخارج، فقد قلّت مشاركة الدار في المعارض الخارجية خلال الأعوام الثلاث الأولى من الأزمة، بسبب ما تعرض له مخزون الإصدارات، ومع نهاية عام 2014 عادت الدار إلى سابق عهدها بالمساهمة بالمعارض الخارجية”
وعن رأيه بدور اتحاد الناشرين السوريين “تجربة اتحاد الناشرين السوريين تجربة فتية وجاءت الأحداث فحدّت من نموها بالشكل المطلوب”
وعن وضع توزيع الكتب يقول “تتراجع عملية توزيع الكتاب سواء بداخل البلاد (سورية) وخارجها لأسباب عديدة، منها حالة التوتر وعدم الاستقرار التي تعانيها المنطقة العربية، ومن الصعب تنشيطها في ظل ظروف كهذه إذ يصعب أي تقدم في هذا الاتجاه قبل أن يحدث الاستقرار بكل معانيه (السياسي والاجتماعي والمادي ) إذ لا أحد يُعير أذنا لأي اقتراح الآن بشأن تطوير وتحسين عملية التوزيع”.
طرطوس
أما في مدينة طرطوس الساحلية وهي إحدى المدن المستقرة والتي استقبلت عدداً كبير من النازحين خاصة من مدينتي حمص وحلب ، يوجد فيها بعض دور النشر مثل “دار عروة” للكاتب علي ديبة، ولم تطبع كتابا منذ سنتين، ودار “الأعراف” و يطبع فيها كتاب كل عدة أشهر ودار “قرطاج” وتعمل مع نقابة المحامين حيث تطبع مشاريع أستذة ومرافعات لم يُطبع فيها كتاب خاص منذ سنين. وفي صافيتا “دار الغانم” للشاعر والناشر غانم بو حمود.
الدار الأكثر شهرة في طرطوس والتي تعمل بشكل منتظم وتقوم بإصدار الكتب الأدبية والفكرية هي دار “أرواد” لصاحبها الشاعر الأستاذ أحمد .م. أحمد وحول تأثير الحرب على قطاع الطباعة والنشر يقول:” كأي قطاع آخر، تأثرت مهنة الطباعة والنشر بالحرب، إذ ارتفعت أسعار المواد الطباعية ارتفاعاً خيالياً، وبالتالي أثرت على تكاليف إنتاج الكتاب، إن كان الكتاب المطبوع على نفقة كاتبه، أو الكتاب الذي تتبناه الدار، وفي الحالة الثانية توقفت الدار عن تبني أي كتاب للأسباب السالفة التي أضيفت إليها صعوبات التوزيع، وصعوبات الحصول على المواد اللازمة للطباعة كالورق والأحبار و البلاكات ومواد التجليد بالإضافة إلى غلاء هذه المواد كما أسلفتُ أعلاه، وصعوبات الشحن، انقطاع الكهرباء والإنترنت، وهناك صعوبات تتعلق بالتسويق وضعف الطلب على الكتاب.
وحول واقع القراءة اليوم يقول أحمد “تدنتْ نسبة القراء التي كانت أصلاً متدنية، ربما بسبب غلاء الكتاب، وربما بسبب حالة (العدم) التي سيطرت على القراء، وربما لتدني مستوى الأدب بشكل عام، لكن لا يزال هناك جمهور لبعض أجناس الأدب، كالشعر المحكي والرواية العربية والمترجمة.
وعن وجود قوانين تحمي الناشرين في سوريا ودورهم ومطابعهم أجاب “لا أظن أن هناك قانوناً يحمي دور النشر والمطابع. فقد عثرتُ على مؤلفات الأديب عصام حسن وقد نسخت على آلة (الريزو) في مكان ما وبطبعة رديئة عن الأصل المطبوع (أوفست) الصادر عن دارنا، دون حسيب ورقيب”.
وعن عناوين الكتب التي أصدرتها دار ارواد في السنوات الأخيرة، يقول: ” لا عناوين تختلف عما قبل الحرب، باستثناء عناوين عن الإرهاب، وداعش. وربما تأثرت بقية الكتب بهذه الحرب لتحمل أغلفتها عناوين كئيبة وسوداوية، ما يشبه دواخلنا جميعاً على الأرض السورية”.
وإن كانوا قد فكروا بإصدار منشوراتهم إلكترونيا؟ يقول “لم يحدث أن نشرنا إلكترونياً، لكن بعض الكتاب يحولون كتبهم إلى إلكترونية بعد نفاد الطبعة الورقية. وتعتبر تجربة البيع إلكترونياً غير مأمونة بسبب عدم وجود قوانين صارمة تحفظ حقوق الملكية الفكرية.
وحول مجال اهتمام الدار و عملية اختيار مخطوطات الكتب يقول:
“تهتم الدار أولاً بالنتاجات الأدبية المكتوبة قبل المترجَمة. وهناك تركيز على التجارب الجديدة الجريئة في الشكل، ومَيل إلى قصيدة النثر على وجه الخصوص، من حيث أن قصيدة النثر تعرضت لـ (الاستسهال)، فغدت بحاجة إلى تشجيع الشعراء الجدد المجيدين في هذا الفن لأن ينشروا قصائدهم ويدخلوا الميدان في مواجهة الغثاثة والاستسهال. وفي الاختيار، هناك سوية لا نحيد عنها لدى اختيار الكتاب، ولستُ وحدي من يقرر، فهناك أصدقاء عديدون أستشيرهم في مدى جودة هذا النتاج أو ذاك.
وعن تجربة اتحاد الناشرين السوريين يقول” لا أعرف عن هذا الاتحاد أي شيء. ولست عضواً فيه حتى الآن”. وحول عملية توزيع الكتاب داخل وخارج سوريا وما إذا كان لديهم اقتراحات بشأن تطويرها يقول: ” أتمنى أن تعمد (الجهات المختصة) إلى تخفيض أجور الشحن وتسهيل عملية مرور الكتاب عبر المنافذ الحدودية، وأيضاً تخفيض الرسوم الجمركية على المواد الطباعية التي تدخل في صناعة الكتاب، وربما، حين تتماثل البلاد للشفاء، أن يتمّ دعم هذا المنتَج الآيل للانقراض، مالياً وإعلامياً. أهو نوع من الحلم؟!!
اللاذقية
في اللاذقية عدد من المكتبات التي تبيع آخر إصدارات الكتب أهمها مكتبة “بالميرا”، و”مجد” و”بيطار” ودار نشر وحيدة تعمل بشكل منتظم وهي دار “الحوار” تقوم بإصدار كتب فكرية وأدبية عربية ومترجمة، يقول مديرها الأستاذ نشوان حسن: “الصعوبات التي تعانيها الدار خلال سنوات الحرب هي ارتفاع أسعار تكاليف الطباعة وارتفاع سعر الورق و أجور الشحن. تعتمد الدار على المعارض الخارجية في تسويق وبيع إصداراتها، أما بالنسبة للسوق الداخلية فقد انخفض المبيع بنسبة 80 % ، كما نعاني كناشرين من خسارة بعض الأسواق الخارجية بسبب الحصار والعقوبات المفروضة على السوريين من بعض الدول.
بالنسبة للعناوين التي تصدرها الدار لم تختلف بعد الحرب، ونحن نصدر من 30 إلى 35 عنوانا ً جديداً كل عام، كما نقوم بإعادة طباعة 30 إلى 35 عنوانا ً قديما ً، تعمل الدار بشكل منتظم .
حلب
الأستاذ محمد عبد المنعم صاحب دار نشر (عبد المنعم) في مدينة حلب ( في المناطق التي تحت سيطرة الدولة) وهو لايزال مقيما في حلب ويذهب إلى داره يوميا يقول: “إن النشر منذ بدأت الحرب والحصار على مدينة حلب هو، 0% ، و هذه الحال تشمل جميع دور النشر العشر التي كانت ناشطة في حلب قبل الحرب، فدار “عبد المنعم” للنشر كانت تطبع قبل الحرب من أربعين إلى خمسين عنوانا ً في كل عام، وهي تهتم بالأدب المحلي والمترجم والفكر، لكنها منذ أربع سنوات لم تصدر أي عنوان، ننشر في دار “عبد المنعم” لكتّاب من حلب بشكل أساسي وبنسبة جيدة لغير ذلك، وحول دور النشر الأخرى في حلب يقول ( يوجد بحلب حوالي عشر دور نشر عاملة ،كما يوجد دور نشر كثيرة مرخصة لكنها غير عاملة) وحول الدور الأكثر شهرة في حلب يقول: (أشهر دور النشر دار شعاع وهي متوقفة عن العمل، و دار الإنماء الحضاري لكن توفي صاحبها وتوقفت، و دار القلم العربي وهي شبه متوقفة”.
وعن واقع القراءة اليوم يقول ” القراءة تحتاج إلى مناخات خاصة وهذه المناخات لم تكن متوفرة ﻻ قبل اندلاع الحرب و ﻻ بعدها، اليوم الناس في مدينتي تبحث عن لحظة حياة”.
وحول تدمير المطابع ودور النشر أثناء الحرب يقول الأستاذ عبد المنعم “نعم لقد دمر عدد من دور النشر والمطابع والمستودعات ، وبسبب الحصار الطويل المدينة تتهالك على كل الأصعدة”
ولدى سؤالنا حول قوانين تأمين يمكن أن تعوض أصحاب الدور والمطابع الخاصة المدمرة أو قوانين تأمين خاصة بالناشرين يقول ” لا ، لم اطلع على أي قوانين للتأمين أو الحماية”..
وحول رأيه بتجربة اتحاد الناشرين السوريين يقول: “شخصيا لم أنتسب له ولم تعجبني بنيته: “ليس لدى اﻻتحاد أي حالة تعبيرية عن منتسبيه، وهو غير معبر عن جميع الناشرين، بالإضافة لأمور أخرى لها علاقة بمركزيته”.
وعندما توجهنا بالسؤال لرئيس اتحاد الناشرين السوريين هيثم الحافظ إن كان الاتحاد قد قام بحصر الخسائر المادية التي لحقت بدور النشر ومستودعاتها، قال:
“لم نتمكن من القيام بالعمل على أي إحصاء لحصر الأضرار الكبيرة التي وقعت لدور النشر ولمستودعات الكتب وغيرها بسبب الحرب حتى الآن ولا يمكننا القيام بذلك حتى تنتهي الحرب “. وعن الصعوبات التي تواجه الناشرين السوريين: ” جميع أصحاب دور النشر يعانون من صعوبات دخولهم ومشاركتهم في معظم الدول بسبب العقوبات المفروضة على كل من يحمل جواز سفر سوري، نحاول مساعدتهم باستصدار تأشيرات خروج و بترتيب مشاركة من يرغب منهم بالمعارض الخارجية “
وعن تأثيرات الحرب الأخرى على واقع الثقافة السورية يقول:
“للحرب جانبين سلبي تحدثنا عنه سابقاً وإيجابي، الجانب الايجابي هو ظهور جيل جديد من الكتاب على الساحة الثقافية بسبب خروج عدد كبير من الأسماء المعروفة التي كانت مكرسة من قبل وسائل الاعلام لسنوات طويلة “.
قطاع التعليم
بالنسبة للقطاع التعليمي:
يقول السيد عبد الحليم غنوم مدير مركز المنار للكتاب MBC الوكيل الحصري لدار نشر ماغروهيل (MCGraw-Hill) التي تقوم بدعم وتوريد الكتب لمعظم المؤسسات التعليمية في سوريا: أهم تأثيرات الحرب على المركز كانت بانخفاض نسبة مبيعات و توزيع الكتب التعليمية بنسبة 75% بسبب إغلاق عدد كبير من المدارس والجامعات الخاصة في كل من دمشق وحلب وحمص، حيث كانت تقع هذه المؤسسات بالقرب من المدن الرئيسية واغلقت بسبب الحرب ولأن عدداً كبيراً من الطلاب والأساتذة هاجر إلى خارج البلاد.
جولة على المكتبات الدمشقية
في الحلبوني:
يقول عمر النوري صاحب مكتبة النوري إحدى أكبر المكتبات في دمشق: “لقد انخفض مستوى القراءة وهو قليل أصلا بنسبة 75% بعد الحرب، والكتب التي تباع قليلة جدا، وهي في معظمها روايات، تبيع المكتبة عناوين مختلفة من كتب التاريخ والفلسفة والقانون وعلوم ولغات، وغيرها، لكن الطلب يكون عادة على الروايات والكتب التي يحتاجها الطلاب في المناهج الجامعية فقط والقوانين السورية التي تقوم دار النشر الملحقة بالمكتبة بنشرها، والتي تهم المواطنين السوريين والمحاميين . كما يقول السيد عمر إن مستودعات المكتبة في حرستا قد دمرت ولا يعلمون عنها أي شيء منذ اندلاع الاحتجاجات والاشتباكات العسكرية، ولا يوجد أي قوانين تأمين تحمي أو تعوض أصحاب المكتبات أو دور النشر أو المطابع في سوريا وكل ما دمر في الحرب يُعتبر أنه دمر بعمل إرهابي وأي شيء يدمر بعمل ارهابي أو تفجير هو غير محمي بالقوانين السورية ولا يطاله أي تعويض تأميني، بسبب هذه الظروف قام العديد من أصحاب المكتبات بتحويل مكتباتهم إلى متاجر تبيع أموراً أخرى غير الكتب.
وحول الإقبال على شراء الكتب يقول أصحاب بعض المكتبات الأخرى كمكتبة الفارابي، وغيرها: إن هناك إقبالاً جديداً، لكنه ضعيف على شراء كتب البرمجة العصبية.
بالنسبة إلى المكتبات التي تبيع المواد الخاصة بالفنانين وبطلاب كليات الفنون من ألوان، وغيرهاكمكتبات (حكيم وألوان والاطلال) تراجعت بنسبة كبيرة جدا تفوق 75% ويعزو أصحاب المكتبات والمتاجر ذلك إلى هجرة معظم الفنانين والشباب، وغيرهم، من البلاد. وإلى الصعوبة الكبيرة في استيراد المواد من خارج البلاد بسبب الحصار الاقتصادي وارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة السورية الذي خفض القوة الشرائية لليرة فعكف الناس عن شراء أي شيء غير الأشياء الضرورية للحياة من طعام وحاجات ضرورية جدا تساعدهم على الاستمرار في العيش داخل البلاد، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأصحاب المتاجر التي كانت تورد الأحبار ومستلزمات الطابعات لمؤسسات الدولة والأفراد والذين مع من سبقهم تعرضوا لخسائر فادحة بسبب دمار مستودعاتهم في الأرياف المحيطة بدمشق والمدن الرئيسية التي كانوا يحفظون فيها موادهم لأن أجور المستودعات هناك منخفضة أكثر من أجور المستودعات داخل المدينة معظم هذه المستودعات دمر بالكامل ولا تعويضات قدمت لهم حتى الآن.
المناطق الشمالية خارج السلطة الرسمية للدولة السورية
اندلعت الحرب وخرجت كثير من المناطق عن سلطة النظام السياسي في دمشق. تعقدت الأمور وتعددت السلطات الحاكمة على الأرض في معظم المناطق الشمالية أحرقت المكتبات وقصفت المراكز الثقافية بسبب اتخاذها مراكز للمجموعات المسلحة المتصارعة على الأرض، وأحكمت العديد من القوى قبضتها على مناطق محددة حاولت السيطرة على كل من فيها ومنعت دخول أي شيء إلا تحت مراقبة شديدة وخاصة الكتب والمنشورات، أي منشور كان. تغير نمط ما كان ينشر ويوزع من صحف الدولة الرسمية، وغيرها، وكل ما كان سائداً في زمن ما قبل الحرب ( ما قبل الثورة على النظام السياسي الحاكم) أحرق وأصدرت بدلاً منه صحف جديدة تعنى بالواقع السوري الجديد بعد الثورة وتهتم بالشأن الإنساني والسياسي والواقع اليومي لتلك المناطق، لكن في مرحلة ما حتى هذه الصحف توقفت كما حدث عند دخول الدولة الإسلامية في العراق والشام الى مدينة الرقة مثلاً، والتي أصبحت تمنع كل ما تعتقد أنه يخالف الشريعة، في مناطق أخرى كما في مدينة كوباني (عين العرب) الكردية تسلمت زمام الأمور ما يطلق عليه (الإدارة الذاتية الكردية) والتي يفضل معظم مثقفو كوباني تلقيبها بـ”سلطة الأمر الواقع”، لأنها جاءت دون انتخاب وفُرضت على الأكراد السوريين، وهي تمارس أشد أنواع الرقابة على كل ما يدخل على المناطق الكردية التي تتحكم بها ككوباني وعفرين، وغيرها، وتمارس المنع والإقصاء لكل ما لا يوافقها، معظم ما ينشر في الشمال ويوزع يطبع خارج الحدود السورية في تركيا ويدخل للمناطق والمدن الشمالية، سنعرض لواقع النشر و القراءة والثقافة وماحل به من تغيرات من خلال حوارات قصيرة مع مثقفين وصحفيين من أبناء هذه المناطق.
في مدينة الرقة
يقول الأستاذ الصحفي يوسف دعيس: (لم يكن في الرقة قبل الثورة أي دار نشر حقيقية بالمعنى الحقيقي للكلمة، كان هناك عدد من المطابع اثنتان أضيف إلى عملهما مسألة نشر الكتب وهما مطبعة الاتحاد وكانت قد طبعت عدد من الكتب لا يتجاوز العشرة ، ومطبعة البلاغة واهتمت قليلاً بطباعة الكتب أيضاً لم يتجاوز عدد مطبوعاتها أصابع اليد، وكان هناك دار واحدة للنشر اسمها “الفرات”، ولكنها لم تطبع سوى عدد محدود من الكتب، معظم الكتب كان تتم طباعتها في حلب وحمص ودمشق واللاذقية وبيروت واستثناءات قليلة لكتاب كبار تما طباعة كتبهم في مصر أو أوروبا.
أما بالنسبة للقراءة يقول الأستاذ يوسف كان هناك مكتبة كبيرة في مديرية الثقافة تحتوي أكثر من 30 ألف عنوان تم تدميرها على يد سلاح الطيران وحرقها بالكامل في شهر 3 عام 2013 ، وهناك أيضاً مكتبة اتحاد الكتاب ولم تكن للقراءة كانت لبيع الكتب فقط، وهي مكتبة كبيرة تحتوي منشورات اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة تم حرق كتبها وبيع بعضها بواسطة إحدى الكتائب الإسلامية أظن من قبل جبهة النصرة قبل توغل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وكان هناك عدد من المكتبات الكبيرة التي تبيع الكتب أهمها مكتبة الشهيد ومكتبة السلام وأقدمها بور سعيد وأيضاً هناك مكتبتان أو ثلاث: “اقرأ” و”لفردوس”، بالنسبة للصحف كانت تصدر في الرقة صحيفة واحدة اسمها “الرافقة” عن مديرية الثقافة تهتم بالأدب والثقافة والفكر وهي نصف شهرية.
بعد الثورة قامت شخصيات ثقافية وسياسية وإعلامية بإصدار عدد من المطبوعات منهم أنا واثنان من أصدقائي أصدرنا صحيفة تحت اسم “منازل” أصدرنا منها 12 عدداً، و صدر بمبادرات شبابية أكثر من 20 مطبوعة أسبوعية ونصف شهرية أهمها “منازل” و”ثوري أنا” و”كلمة حرة”)، لكن توقف كل شيء عند سيطرة ( داعش) على المدينة.
في كوباني (عين العرب)
يقول الأستاذ محمد علي أحمد وهو مدرس وصحفي من أبناء كوباني: قبل المعارك، واستلام سلطة الأمر الواقع (حكم الإدارة الذاتية الكردية) لكل شيء في كوباني، كان هناك مركز ثقافي عربي تابع لوزارة الثقافة السورية، فيه مكتبة تعد من أكبر مكتبات حلب، ومنهل لطلاب العلم والثقافة، إضافة إلى وجود حركة ثقافية نشطة، من خلال الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الحديثة العهد، إضافة إلى العديد من المكتبات الخاصة الغنية لبعض المثقفين.
لكن بعد استلام سلطة الأمر الواقع، يمكن تقسيم الأحوال إلى مرحلتين: الأولى قبل دخول (داعش) إلى المدينة حيث بدأت سلطة الأمر الواقع بالتضييق على كافة مناحي الحياة، ومنها الثقافية وقامت بمحاولة احتكار كل شيء، وتلوينه بصبغتها الخاصة ، ووضعت يدها حتى على المركز الثقافي. الثانية بعد دخول (داعش) إلى كوباني فقد دمرت المكتبات الخاصة، وتعرض المركز الثقافي لأضرار كبيرة، كذلك مكتباتها فقد أتلفت أعداد كبيرة من الكتب، والأهم من ذلك، غادر كوباني الغالبية العظمى من المثقفين لذلك، الثقافة والكتاب في كوباني حالياً بلون واحد ورائحة حزبية واحدة، وهم إما لجأوا إلى أوروبا أو لم يعودوا من النزوح، فمع هجوم داعش نزح أهالي كوباني إلى تركيا بينما نزح قسم صغير إلى إقليم كردستان العراق، وبعد إخراج داعش من المدينة عاد حوالي نصف السكان، لكن المثقفين وغير المقتنعين بفكر سلطة الأمر الواقع، ومن لهم فرصة العيش بمكان آخر لم يعودوا، بالنسبة إلى دور النشر في كوباني يقول محمد:
“لم يوجد دور نشر في كوباني أو مطابع رسمياً، لكن بالسر يوجد بعض المطابع فقط، تصدر منشورات حزبية تابعة لسلطة الأمر الواقع ولا شيء آخر، هناك رقابة شديدة على الكتب التي تدخل إلى المدينة أما بالنسبة للإنترنت فلا يوجد سوى الانترنت التركي فقط بحكم أنها منطقة حدودية، أما بالنسبة لواقع القراءة الآن لا أحد يقرأ سوى منشورات الفيسبوك إلاّ من رحم ربي ووجد كتاباً.
وفي المناطق الأخرى في الشمال التي أصبحت خارج سلطة النظام السياسي في دمشق يقول محمد “المناطق التي تحت سيطرة (داعش) صورة طبق الأصل عن مناطقنا، مع تغيير اسم سلطة الأمر الواقع بالنسبة للمناطق الأخرى، كل منطقة لها خصوصيتها حسب الكتيبة العسكرية التي تحكمها، في المناطق الأخرى النشر والطباعة شبه متوقفة. كل ما ينشر اليوم ينشر في تركيا ولا يدخل من هذه المنشورات إلا ما يُسمح بدخوله من البوابات. هناك رقابة شديدة على المنشورات من المتحكمين بالبوابات، ففي المناطق التي تسيطر عليها داعش، تحولت أغلب المراكز الثقافية إلى مقرات أو محاكم للتنظيم، لذلك قصفت، كما حدث في مناطق كجرابلس ومنبج والباب.
جميع الصحف والجرائد والمجلات السورية التي توزع في الشمال تطبع بتركيا، يمكن القول إن المجتمع المدني السوري انتقل إلى تركيا ولبنان بل وتطور أيضاً، لأن هنا بتركيا ولبنان مجالات أوسع للنشر والتواصل والتوزيع، وحتى التمويل عن طريق المنظمات الدولية،
وحول عدد المنشورات التي تدخل تلك المناطق يقول “قسم قليل، حسب مشيئة من يتحكم بالبوابة، التي تتحكم بها فصائل إسلامية أو كردية ويسمح بدخول المنشور من صحف وغيرها إذا كان مضمونه لا يحتوي ما ينقد الفصيل المتحكم بالبوابة”.
صدرت في المناطق الشمالية عدة منشورات منها مجلة ” سنابل” من الحسكة و مجلة “فانوس” وتصدر من عامودا بالعربية والكردية والسريانية ومجلة “ربيع”، وتصدر عدة مجلات في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق منها “خويبون” رئيس تحريرها جان بابير كما أنشأت نقابة للصحفيين الكورد السوريين تحت رعاية وزارة الإعلام في إقليم كردستان العراق تقيم دورات للصحفيين الناشطين من كرد وغيرهم..
خارج الحدود
في دول الجوار
بدأت حركة نشر سورية واسعة خارج حدود الوطن بداية من دول الجوار إلى دول المهجر واللجوء البعيدة ففي تركيا صدرت عدة منشورات منها جريدة “تمدن” وتصدر من اسطنبول وتوزع على السوريين في تركيا وفي الداخل السوري يرأس تحريرها الصحفي “دياب سرية”. مجلة “تواصل” كان يرأس تحريرها الكاتب والصحفي السوري نجم الدين السمان توقفت بسبب صعوبات التمويل، مجلة “حنطة” وكان رئيس تحريرها الصحفي ناجي الجرف الذي قتل برصاصة مسدس كاتم للصوت في مدينة غازي عنتاب التركية، وصحيفة (كلنا سوريون) ورئيس تحريرها الأستاذ بسام يوسف التي تصدر من تركيا يقول: “نحن صحيفة مطبوعة وإلكترونية نطبع ورقياً ولدينا موقع إلكتروني. نوزع في تركيا ونسبة القراءة جيدة هنا لأن الحدث السوري ساخن ومتغير يوميا، ولأننا نوزع جريدتنا مجانا ً، نطبع كل عدد 7500 نسخة يوزع منها داخل سوريا 4200 عدد والباقي يوزع في تركيا، وعند سؤالنا إن كانت صحيفتهم قد منعت من عبور الحدود، يقول: “نعم أغلب الصحف تمنع من الدخول أحيانا جريدتنا مُنعت أكثر من خمس مرات، لكن نعود للمحاولة أكثر من مرة وننجح في النهاية.
وصدرت في الأردن عدة منشورات لناشرين سوريين منها جريدة “الكرامة” وتصدر في عمان توزع في الداخل السوري خارج سلطة الدولة الرسمية في المناطق الجنوبية ودرعا وريف دمشق، ومجلة “بناة المستقبل” ويرأس تحريرها الدكتور رياض نعسان آغا.
وفي القاهرة تصدر جريدة “سوريا اليوم” وهي سياسية ثقافية يومية يشرف عليها شباب سوريون.
في الدول الأوروبية
في ألمانيا صدرت جريد “أبواب” وهي أول صحيفة يصدرها لاجئون سوريون في ألمانيا، وهي صحيفة سياسية ثقافية مجتمعية مستقلة، و توزع مجاناً و تصدر شهريا. تم إصدار 45 ألف نسخة من عددها الأول وتوزع بالتعاون مع وزارة الهجرة في المخيمات الرئيسية، وأماكن وجود اللاجئين السوريين والعرب، وهي مكونة من 20 صفحة تتضمن الأخبار الدولية والمحلية، كذلك تتضمن أخبار السكان العرب داخل ألمانيا، وتهتم أيضاً بتقديم المعلومات للوافد الجديد إلى ألمانيا، من خلال ترجمة بعض القوانين وبعض بنود الدستور الألماني إضافة إلى اطلاعه على مواضيع الدراسة في ألمانيا بما فيها دورات اللغة”. و”تخصص صفحات للمرأة والنسوية، وإضاءات على قصص النجاح والنجاة والأمل… هذه المواضيع التي يحتاج إلى سماعها السوري القادم إلى ألمانيا”.
وفي السويد ومن مدينة ستوكهولم تصدر مجلة السلام الدولية لصاحبها صبري يوسف، وهي مجلة أدبيّة ثقافيّة فكريّة فنّية سنويّة مستقلة صدر منها حتى الآن ثلاثة أعداد.
خاتمة
من خلال بعض الحوارات و محاولة رصد ما تيسر من الواقع الحالي للنشر في سوريا نلاحظ أن هناك واقعين مختلفين أنتجتهما سنوات الحرب:
الأول: حالة إرباك كبيرة تعيشها معظم دور النشر السورية الموجودة في الداخل السوري، والتي لم ينج منها إلا القليل الذي كانت مستودعاته تقع داخل أماكن مستقرة، أما الباقي وهم النسبة الغالبة فقد تعرضوا لخسائر فادحة، تحاول بعض الدور الصمود من خلال مشاركتها المحدودة في المعارض الخارجية، حيث أغلقت الكثير من الأسواق في وجهها بسبب العقوبات والحصار، بالإضافة إلى السوق الداخلية التي أصبحت شبه متوقفة بسبب الأحوال المعيشية الصعبة جدا، وهجرة عدد كبير من المثقفين والقراء خارج البلاد.
الثاني: في المقابل هناك واقع آخر نتج عن الحرب وهو نشاط المثقفين السوريين خارج البلاد والذي ترجم بصدور عشرات المنشورات الجديدة التي تواكب تطور الحدث السوري بكل تنوعاته و أحوال السوريين في الداخل والخارج، وبالتالي يحاول المثقف السوري أن ينتج فضاءً ثقافياً جديداً، رغم كل الصعوبات التي يواجهها المثقفون من أصحاب المشروع المدني خاصة من ناحية التمويل لمجلات تعنى بالشأن الإنساني والثقافي بالدرجة الأولى، وخاصة المثقف السوري المستقل الذي يحاول أن يعمل على القضايا الإنسانية والفكرية بعيداً عن تجاذبات الأقطاب السياسية.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]