تتحدث رواية “الوريث” عن “أيوب” الوريث المنتظر للعائلة الجليلة من دمٍ نقي، وعن رحلة ولادته ثم نضاله العبثي وهروبه ومنفاه الإجباري، وعن الصراع داخل العائلة، والصراع بين السلطة والمعارضة في بلاده، تحت ظل حكم دكتاتوري يحكم قبضته على كل من يتنفس في البلاد. لكن أيوب هذا بنظارته الغامقة ليس شخصاً عادياً. إنه شخصية مركبة بدقة مع شخصية عمته البتول، لتؤدي المطلوب منها في سرد قصة “العائلة الجليلة” الأب وزوجاته وأبناءه وبناته وتحول مصائرهم ودمار قلعتهم المقدسة بكل هيبتها من قبل الدكتاتور الذي كان يحكم بلاد ما بين الرافدين وأعوانه.
ربما تُختزَل الرواية كلها في العنوان “الوريث”، فالعنوان هو العتبة الأولى للنص الروائي، يُضمِر أكثر مما يُظهِر، وربما يتبادر للقارئ في البداية أن القصة ستتحدث عن شخص سيرث إرثاً مادياً من عائلة ارستقراطية ما وأن هناك صراعاً عليه، لكن ما سيفاجئ القارئ أن هذا الإرث ليس له ورثة أو أن ورثته أبناء البلاد جميعهم! لكن لن يحمل هذا الإرث الرمزي الرهيب هنا سوى سليل العائلة الجليلة المُنتظر من دم نقي “أيوب” بكل جلال اسمه المنحوت من الصبر، فهذا الإرث هو مجموعة كبيرة من التناقضات. إنه إرث عائلي، وديني، وتاريخي، ونضالي، وسياسي، وثقافي، وفكري، وهذا الوريث سيحمل عبء قرون من الصراع الديني والايديولوجي، لذلك لن يكون أيوب إنساناً عادياً بل كائناً أسطورياً، سيولد ولادةً أسطورية وينتهي نهاية أسطورية.
بالنسبة للتقنيات المستخدمة في هذه الرواية نجد أن حازم كمال الدين يأتي إلى عالم الرواية من عالم المسرح، وقليلاً من عالم السينما، وله تاريخ طويل في الكتابة والتمثيل والإخراج المسرحي في بلجيكا، البلاد التي اختارها لتكون منفاه بعد هروبه من حُكمٍ بالإعدام أصدره بحقه نظام (صدام حسين) على أثر عرضٍ مسرحي في بلده الأم العراق، لذلك سنرى تأثيرات الخلفية المسرحية في معظم أعماله الروائية، حيث ستبدو التقنيات التي يتبعها في الكتابة الروائية غريبة قليلاً على القارئ العربي، فهو من الكتاب الذين يستخدمون تقنيات ما بعد حداثية عديدة في النص الواحد، وربما روايته “الوريث” أكثر الأمثلة وضوحاً للكتابة السردية التي تستخدم هذه التقنيات.
من المسرح تبدو تأثيرات مسرح “البوتو”[1] الياباني السوداوية والنقدية بسخريتها اللاذعة لكل شيء، خاصة للواقع المحلي بطبقاته وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية، عُرِفَ حازم كمال الدين كمعارض للسلطة وهو أمر يظهر في معظم كتاباته السابقة، إحدى همومه الفكرية الدائمة تعرية السلطة وأدواتها وما أنتجته من فساد عميق تسبب في شروخ هائلة مزقت المجتمع العراقي. وأيضاً نجد تأثيرات المسرح في بداية النص من خلال التعريف بالشخصيات الرئيسية للرواية وهو أمر متعارف عليه بكتابة المسرحية وليس الرواية، ومن خلال المونولوغات التي تخاطب القارئ وكأن النص خشبة أو عتبة بين الشخصية الروائية والقارئ.
من الفنون الأخرى سنجد السينما كمونتاج وكلقطة سينمائية فهو يُقطّع الفصل، ويستخدم تعابير سينمائية مثلا كـ (كلوس آب) لتقريب الصورة مفتتحاً الفصل الأول واصفاً المشهد عن بعد ثم يبدأ بتقريبه من القارئ، حيث يمكننا أن نميز به الخلفية السينمائية للكاتب والتي نلاحظ بها تمازج عدة فنون منها التصوير والنحت والصوت الذي يصفه بدقة ليلتقط انتباه القارئ، ويهيئ دخوله إلى بيئة القلعة المقدسة مكان الحدث في الجزء الأول من الرواية، كما يستخدم “الكولاج” والآرت كونسبت” في روايته، نجده لديه في وضع صور إيضاحية مع معلومات تاريخية حول بعض الأمور خاصة عندما يصل البطل إلى أوروبا مثل الصور والحديث عن المرحاض أو التواليت، حيث يتحدث عن تاريخ المرحاض في أوروبا وكيف تطور ليصل إلى الكرسي المتعارف عليه اليوم، أو حول مكان نزول اللاجئين في قلعة “لو بتي شاتو” حيث يتحدث عن تاريخ المكان والتبدلات التي طرأت عليه، أو عندما يتحدث عن المطار والمحطة في بروكسل، أيضا نجد ذلك في وضعه لصور توحي بما يريد أن يوهم القارئ به كصورة مقبرة الأجداد، والقلعة المقدسة، وصورة الثور والكبش ثم الرضيع ثم صورة شاب ضخم الجسم، يهتم حازم كمال الدين كثيرا بالجانب التصويري للرواية لأنه يعلم أن الصور أسهل بالوصول للمتلقي من الكلمة التي تسبر عمق الشخصية، لذلك نجد أنه لم يبنِ حوارات حقيقية عميقة بين الشخصيات إلا نادراً، بل اعتمد على المونولوغات والرسائل أكثر في إشارة إلى بيئة لا تحترم الحوار أو الحوار فيها في حده الأدنى، حتى في الحديث عن التنظيرات السياسية وغيرها كل شيء كان في الحد الأدنى كقشرة رقيقة هشة، يبدو ككليشه لكونه غير أصيل في بيئته، إذ أن الحوارات الفكرية الحرة ليست ذات تاريخ في المنطقة مما سيؤدي إلى فشل معظم الجهود النضالية للمناضلين اليساريين، وبالتالي بقيت الشخصيات معزولة منفصلة عن بعضها رغم الروابط الخفية بينها. إذ لا أحد يمكنه إنقاذ أحد من المصير الذي ينتظره.
كما يستخدم المعارضة الأدبية وهي إحدى تقنيات الكتابة “الما بعد حداثية” في “سياق التناص ما بعد الحداثي للإشارة إلى دمج أو «لصق» العناصر المتعددة إلى جانب بعضها البعض”[2]. نرى ذلك مثلا في اختياره لأسماء الشخصيات المأخوذة من الأعمال المسرحية كـ”الملك لير” لشكسبير وابنتيه غرونويل وكورديليا العذراء، ومن القصص الشعبية والدينية لمنطقة الشرق الأوسط كأيوب وسارة وإبراهيم أو من تاريخ اليسار العالمي كإنجلز وروزا لوكسمبورغ، “قد تكون المعارضة الأدبية في أدب ما بعد الحداثة تكريمًا أو محاكاةً ساخرةً للأساليب القديمة. وتُعتبر تجسيدًا للجوانب الفوضوية أو التعددية أو أسلوب الحياة الغارق في المعلومات في مجتمع ما بعد الحداثة. وقد تكون مزيجًا بين أنواع متعددة بغية خلق سرد فريد أو التعليق على المواقف ما بعد الحداثية“[3] أو في ذكر الأسماء التاريخية القديمة للبلدان مثل “بلاد ما بين الرافدين” و”بلاد العماليق” و”بلاد الطاووق” في القسم الأول من الرواية كناية عن العراق وسوريا وإيران.
كما سنجد من بين التقنيات الما بعد حداثية التي استخدمها “الانعكاسية الذاتية”، إذ سنلمح ظلال التجربة الشخصية ومرارتها خلف الفنتازيا، وسنرى السخرية واللهو والكوميديا السوداء والأحلام، التي تبدو واضحة في معظم أجزاء العمل، فرحلة أيوب تشبه إلى حد ما رحلة حازم كمال الدين من العراق مروراً بسوريا ثم مروراً بأثينا إلى أوروبا وبلجيكا.
كل شيء يبدأ من الأحلام، من اللاوعي البدئي، أحلام أيوب، منذ زرع والده الملك لير نطفته في رحم سارة ابنة عمه، وبدأ ينتظر وريث العائلة الجليلة، زرعٌ طالَ حصاده، ليولد أيوب ولادة أسطورية كائن بحجم ثور هائل، يعزز الأساطير التي تحيط عائلته بقدسية قديمة. الطفل المعجزة الذي سيأخذ كل أنواع المعرفة مرة واحدة الدينية والتراثية والسياسية من أبيه ومن عمته البتول. ثم سينطلق لمقارعة النظام الاستبدادي الذي يحكم بلاده متبعاً في ذلك تقليداً عائلياً قديماً، يجعل الروائي بطله يختزل الزمن متجاوزاً المراحل الدراسية جميعها بوصفه نابغة عصره، متلاعباً بالزمن فتارة يعود إلى أزمنة سحيقة موغلة في القدم عندما يتحدث عن نشأة القلعة المنحوتة من صخرة نيزك وأسطورة الجد وتارة ينتقل إلى زمن العائلة الأحدث وتارة يتغير الزمن مع انتقال أيوب وعمته الى أوروبا، حيث يجعل الزمن يتوقف لدى أيوب الذي يكبح نمو جسده ليجمده طفلاً عند التاسعة من عمره، محارباً الزمن وتطوره مستسلماً لمصيره الغرائبي، ومتحولاً إلى جذع شجرةٍ. حين يقرر “اللا قرار” “اللا اختيار” عند سقوط النظام الدكتاتوري في بلاده على يد الكاوبوي. بعد أن يقوم بجولة في حلمه “تحت نيران القصف والتدمير مستخدماً ظاهرة “الديجافو”[4]، ويقع في صراع نفسي كبير حول واجبه ومكان وقوفه وموقفه الأخلاقي.
يعيد حازم كمال الدين في هذا العمل تقويض وتفكيك صورة كل شيء يتعلق بواقع بلاده ويعيد تركيبه بطريقة سريالية، وبسخرية سوداوية مستفيداً من جميع التقنيات التي يجيدها (ككاتب روائي ومسرحي وسينوغراف ودراماتوج وسينمائي)، مقدماً نوعاً من الكتابة الهجينة متعددة الطبقات، ساخراً من كل شيء ومحطماً له، النظام الديكتاتوري ومعارضته واليسار الذي ينتمي له، (كنوع من جلد الذات)، يضع كوابيسه كلها على الورق محملاً أيوب كائنه الأسطوري الرهيب والبريء أقصى مما يحتمل، وهو يستخدم في معظم أعماله استعارات من الذاكرة الجمعية الشعبية والنخبوية. ليس فقط من الوسط المحلي لكنه هنا يستعين بأسماء أبطال أعمال لشكسبير مثلا “الملك لير” والد بطل العمل “أيوب” الملك الذي يخسر مملكته ويصبح شريداً مصاباً بقلبه بسبب جحود بناته لكن “لير” كمال الدين مختلف تماماً. تُدمّر قلعته ومملكته العائلية بسبب معارضته للدكتاتور يخسر أبناءه وبناته وتقع عائلته تحت التعذيب، وحتى “أيوب” وما يمثله بالذاكرة الجمعية العربية كشخصية صبرت على المصائب والاختبارات الإلهية العظيمة وكورديليا العذراء وسارة، ويعد هذا التناص أحد تقنيات أدب ما بعد الحداثة، فهو يجمع عدداً من أسماء الأعلام من بيئات حقيقية وأدبية مختلفة ليبني معها وعليها نسيجَ عملٍ روائي يرصد رحلة البطل أيوب من رحم أمه حتى هروبه الى أوروبا وفي الخلف رحلة عائلته الجليلة وأخوته وبلاده تحت حكم الدكتاتور الذي اختار له اسم “إسماعيل يس” [5]ليسخر منه. وبذلك يصيب “عدة عصافير بحجر واحد” انتقاد السلطة وهرمها وفسادها، وانتقاد العائلة المقدسة وخطاياها وعاداتها البائدة، ونجد هذا مثلاً في كشف العذرية الذي تتعرض له نساء العائلة، وانتقاد الأحزاب اليمينية واليسارية، السلطة ومعارضيها، لا يتوانى عن انتقاد ما يراه نضالا مضللاً، بطريقة جارحة غير مهادنة، وينتج نصاً روائياً ما بعد حداثياً، حيث “يتسم المؤمنون بما بعد الحداثة بتحديهم للسلطات، الأمر الذي يُعتبر دليلًا على الحقيقة المتمثلة بظهور هذا النمط الأدبي للمرة الأولى في سياق الاتجاهات السياسية في الستينيات. يُمكن ملاحظة هذا الاستلهام – من بين أمور أخرى – في الطبيعة الانعكاسية الذاتية لأدب ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالقضايا السياسية التي يتناولها. غالبًا ما يُستخدم القص الما ورائي والمعارضة الأدبية في آن واحد بغرض السخرية”.[6]
بالنسبة لحازم كمال الدين كان عليه أن ينتج نصاً يوازي الواقع في غرائبيته، فالواقع العراقي وواقع المنطقة يتجاوز السريالي من جهة والعبثي من جهة أخرى بأشواط، لذلك يعتبر النص الروائي الذي يستخدم تقنيات ما بعد حداثية أصدق ما يعبر عن واقع يتجاوز المنطق الإنساني. (نلاحظ ذلك في وصف أساليب التعذيب والقمع والعنف الممارس على الأشخاص من نساء وأطفال ورجال، وتشوهات علاقة السلطة بالمواطنين).
فمنذ الفصل الأول من الرواية يصف القلعة ومحيطها، كل تفصيل في هذا الوصف متجهم ينذر بالخطر يُوظف ليدخل فيما بعد بكوابيس الجنين الذي بدأ يعي نفسه داخل رحم أمه سارة ويعي حجم المآسي التي ستنتظره خارج هذا الرحم والمصير الذي ينتظر أفراد عائلته، ويستخدم هنا “السرد المتقدم”[7] و”التوقع”[8] ويتضح هنا البعد التصويري في كتابة حازم كمال الدين، وهو أحد التقنيات التي يستخدمها ليُحَضِّر القارئ للدخول في سيرورة الحدث وتقلّب مصير الشخصيات، يحشد عددا كبيرا من التقنيات المابعد حداثية ليجعل الحكاية مرئية ومُصدّقة ليس بوصفها خيالاً غرائبياً يرتقي على ما وراء القص (الميتاسرد) وهي هنا حكايات الاستبداد التي يعرفها أبناء المنطقة جيداً وحكايات مرتبطة بأسماء شخصيات الرواية، بل مضيفاً إليها خبرته في الكتابة السوداوية التي تعمل على كشف وسبر حقائق المجتمع المحلي الموغلة في القدم وتعريتها بعنف، يتضافر الغرائبي مخلفاً الواقعي المعروف خلفه لينسج حكاية يتبدى فيها الهم السياسي الاجتماعي والثقافي والعائلي، ملمحاً لخيبة أملٍ عظيمة ألمت بالمناضلين اليساريين ولا يتوانى عن جلدهم والسخرية من طرق نضالهم القديمة وانفصالهم عن الواقع وتسرب الفساد إلى عددٍ منهم، كما يسخر من الدكتاتور الذي كاد يودي بحياته في لحظة ما، تنتهي حكايته ليلة سقوط نظام الدكتاتور في بغداد والتي يراها في أحلامه مسبقاً معلناً موقفه الأخلاقي الخاص مبتعداً عن الدكتاتور وعن من أسقطه (الكاوبوي)، رحلة شاقة تتجمد في لحظة ما.
تبدو اللغة مرنة لدى حازم كمال الدين إذ ينتقل في سرده بين طبقات متنوعة وملونة من اللغة، من اللغة البلاغية الجذلة، حيث تقوم المفردات بتصوير مشهد بصري معقد كالفصل الافتتاحي الذي يصف القلعة المقدسة لحظة استقبالها للوريث، ولحظة ولادته الأسطورية، ولحظة استعدادها لتلقي التغيير الذي طال انتظاره مهتماً بتفاصيل كثيرة تظهر التحول وتتنبأ بالقادم من الأيام، إلى مستوى بسيط من اللغة والمفردات التي تصل إلى العامية أحياناً كسيل شتائم تطلقه العمة البتول في لحظة ما، وعندما ينادي أيوب والدته مستنجداً بها، أو حادة وجارحة عند وصف مشاهد تعذيب، ومحرجة وقاتمة وساخرة عندما يصف محاولات انتزاع غشاء بكارة. تتدرج اللغة حسب الموقف والوظيفة المطلوبة منها في كل فصل. فهي تأتي من المخزون البصري العميق للكاتب ومن أهمية الصورة في عمله وحياته حتى أنه يمكننا القول إن المفردات تبدو في بعض الفصول “ثلاثية الأبعاد” مجسمة ومتحركة تصور مفردات الفضاء الذي تتحرك فيه الرواية لتواكب تقدم الأحداث والشخصيات ومصائرها، لكن هذا الأمر يظهر جلياً في الفصلين الافتتاحي والختامي من الرواية. كما كانت إحدى تقنيات الروي لدى المؤلف هي تقطيع الروي (الرواية) على شكل نصوص أو مشاهد يمكن أن تُقرأ بشكل متوالٍ أو بشكل منفصل مراعاة لصبر القارئ وللحفاظ على حيوية المتن.
صوت النساء في الرواية
للوهلة الأولى يكاد صوت النساء في الرواية أن لا يصل للقارئ، لكن بقليل من الانتباه سنجد أن نساء عائلة أيوب لهن مقاومتهن الخاصة من أمه ساره ابنة عم والده الملك لير المكلفة بإنجاب الوريث، ومعاناتها في حمله وولادته العسيرة، إلى أخواته (غرونويل وكورديليا) اللواتي حكم عليهن بالزواج من أشخاص متنفذين في النظام كان دخولهم عليهن يشبه الى حد كبير الاغتصاب الذي شارك فيه الأب والأم رغم عنهما، طقس فض البكارة الأول، البكارة التي ترفض أن تُفضَ بمثل هؤلاء الرجال العنينين والذين يرمزون للخصاء ولسلطة الأمر الواقع هنا، كان التعامل مع البكارة هنا ذا اتجاهين مختلفين الأول سلبي لِما فيه من امتهان للمرأة حيث تبدو الأنثى كائنا مجرداً من الإنسانية والمشاعر يُضحّى به من قبل الأهل بالقوة ويُرمى كأضحية أمام رجال النظام الذين يرغبون بمصاهرة العائلة الجليلة (المقدسة دينياً بسبب نسبها) لتختلط أنسابهم بأنسابها وكان جرحاً هائلاً للطرفين. والثاني إيجابي إذ أن النساء يظهرن مقاومتهن بطريقة مبطنة وهي بأن غشاء بكارتهن المطاطي يرفض الاغتصاب بما يحمله من تلوث دمهن بدم رجال السلطة المُتسيدين بالقوة والعنف وبقربهن من الدكتاتور وحاشيته الفاسدة، أيضاً نجد ذلك يظهر في حوار كورديليا العذراء وجلادها الذي أصبح زوجها رغم عنها وعن أهلها، بعد أن أنقذها من تعذيبه وتعذيب زملائه الجلادين، لكنها ترفض تسليمه نفسها وتظهر رفضها له ولمعاشرته، بينما الشخصية النسائية الرئيسية في الرواية هي العمة البتول صاحبة (طقوس النرجس) التي لا يعرف أحد عمرها الحقيقي، والتي تعترف به في نهاية الرواية وهو 750عاماً، وتبدو كشخص حارس للعائلة الجليلة منذ أجيال بعيدة، لكنها بكل ما تختزنه من معارف وحكمة ومعرفة دينية وسياسية ونضالية لا شيء يحميها من انحرافات تقودها لأفعال عكس اسمها ورمزيته وما يمثله، وتعود لتنكص في النهاية وترمي بكل معرفتها ونضالها الفكري والحركي في سلّة القمامة وتمتهن السحر وقراءة الطالع، ويجعلها من ذوي “الاحتياجات الخاصة” لا يمنحها جمالاً بل قبحاً جسدياً يعطي بعداً تهكمياً من حارسة العائلة الجليلة، إذ أنها تصبح شخصية غير معصومة عن الخطأ والتلوث بالمحيط الفاسد. مصيرٌ مرير تُرمى فيه، وربما يبالغ في قسوته في تلويث هذه الشخصية وحرف مساراتها النضالية والأخلاقية، وربما لم يكن مبرراً بما فيه الكفاية، بينما حافظ على طهرانية أيوب حتى النهاية.
بالنسبة لشخصيات الرواية الأخرى، الأخوة والأخوات الرجال والنساء والأطفال (مصير أيوب الثاني)، نعرف مصائرهم المأساوية من خلال الاسترجاع[9] وهو هنا الرسائل (وهي إحدى تقنيات الكتابة السردية القديمة أعاد استخدامها هنا ليُدخِل الماضي في الزمن الحاضر للروي) التي تصل أخيراً إليه نعرف كم التعذيب والتنكيل الذي تعرضوا له مع أبناء منطقتهم على يد أعوان الدكتاتور. تاريخٌ طويل من الألم يظهر في هذه الرواية المتخيلة التي تعكس مرحلة تاريخية سوداء غير إنسانية في تاريخ العراق.
بالنسبة لأيوب الشخصية المحورية في الرواية، يبقى أيوب ذو العينين كخرزتين كريمتين وأهداب طويلة لا تريد أن ترى العالم الحقيقي كما هو، ترمقان كل شيء من خلف عوينات غامقة، يستسلم لمصيره الذي رآه وعرفه مسبقاً عن طريق الأحلام والكوابيس وهو جنين وحاول تغييره قبل أن يولد وذلك برفض خروجه من رحم أمه لكن القدر سيُطلقه رغماً عنه ليصارع عالماً لا يرحم، فهو مجرد معجزة صغيرة، ستسحقها قسوة البلاد. الشخصية الوحيدة النقية التي تحاول مواجهة كل شيء لدرجة تجميد نفسه ليبقى بمظهر طفل في التاسعة إذ يتجمد الزمن بالنسبة له في أوروبا بينما عمره الحقيقي سيصل في نهاية الرواية الى الأربعين عاماً مختزلاً الخيبة واللا جدوى من أي فعل مقاومة أو نضال بتحوله إلى جذع شجرة في بيته ليرسم الروائي فصل النهاية مشهداً بصرياً غرائبياً يذكر بمنحوتات الغرونيك الأوروبية القديمة، منحوتة يتوقف فيها الزمن والرعب، يمرّ بها العابرون مذهولين غير مدركين لحياتها الماضية. لكن هذه المنحوتة المرعبة في لحظة تحجرها تنذر بأن لحظة حياة أخرى قادمة، لا تقتل الأمل!
القارئ والروائي
لا يزال الواقع العراقي بنظر المؤلف يبدو كجرح تخثر دمه في الأعلى وتيبس حتى بدا كأنه التئم، لكن عصفة ريحٍ صغيرة تنكأه وتفتحه من جديد ليظهر مدى عمقه، حيث الدم لا يزال طرياً يسيل عميقاً. لذلك كان على حازم كمال الدين ابتكار وتوليف عدة تقنيات كتابية ما بعد حداثية ليقارب الواقع العراقي المأساوي والفوضى التي وقع بها، إذ أن من الصعب على السرد التقليدي أن يلامس حجم المأساة والفجوات العميقة التي وقع بها تاريخ العراق المعاصر، ما بين الديني والسياسي والاجتماعي. تقول باتريشيا واو بأن القص المعاصر هو (استجابة ومساهمة في الوقت نفسه لمعنى أكثر تطرفاً يقول بأن التاريخ أو الحقيقة هما افتراضيان لم يعد هناك عالم من الحقائق الخارجية. بل سلسلة من التراكيب وفنون الخداع والهياكل غير الدائمة، كما يفكك الخطاب الميتاسردي قوانين الهيكلية الناظمة له من أجل تحقيق أهداف ما بعد حداثية مثل “كشف فوضى الوجود المعاصر وفضح زيف الوهم المهيمن على الوعي البشري، وبذلك يهدد هذا الخطاب نظام العالم الخارجي للنص، ويفضح عبثيته ووحشيته من خلال مساءلته الذاتية لسرديته وطبيعته التلفيقية بخروجه عن واقعية السرد المتخيل)[10].
لذلك لا يشتغل حازم كمال الدين على القصة بحد ذاتها إذ أن قصته غالباً ما تبنى على قصص معروفة من سكان المنطقة، فهو يخاطب عقل القارئ بما يعرفه مسبقاً كمسلمات، لكنه يُبدع باجتراح طرق جديدة لإيصال القصة، فهو يهتم كثيرا بالنواحي الإجرائية والفنية ليخلخل الأرضية القديمة للقصة تحت قدمي القارئ الذي يجد نفسه عندما يقرأ أعماله لأول مرة في أرض وعرة، لكنه سرعان ما يفكر كيف يأخذ مكانه داخل الحكاية التي غالباً ما تمسه بطريقة أو بأخرى، ومعروف عن حازم كمال الدين عمله الطويل على الرواية فهو يقوم بأبحاثه وبوضع مخطط إجرائي للتقنيات التي سيستخدمها في عمله الروائي إذ ليس هناك مصادفة في أي تفصيل يذكره في عمله. وفي النهاية لا يمكن الإحاطة هنا بكل تفاصيل الرواية فهي محملة بإمكانيات كبيرة للقراءة والتحليل والدرس. الرواية تقع في 375 صفحة من القطع المتوسط مقسمة إلى خمسة أقسام: الأول بعنوان بلاد الرافدين، الثاني بعنوان الولادة، الثالث بعنوان الطريق إلى المنفى، الرابع بعنوان أوروبا، الخامس بعنوان مونولوغات المنفى.
صدرت رواية “الوريث” حديثاً عن “دار الكتاب” في تونس في بداية عام 2024 وهي الرواية رقم 7 في منجز حازم كمال الدين الروائي، فقد صدر له سابقاً في مجال الكتابة الروائية: رواية “أورال” باللغة الهولندية عن Beefkacke publishing في بلجيكا عام 2010، ورواية “كاباريهت” عن دار فضاءات في الأردن 2014، ورواية “مياه متصحرة” عن فضاءات 2015 والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، و”يضج بي الجمال حتى يوم مماتي” عن دارPOLIS في بلجيكا وهي ترجمة (لمياه متصحرة)، ورواية “مروج جهنم” عن فضاءات 2019، ورواية “الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” عن فضاءات 2020، ورواية “من أحوال داليا رشدي” عن مؤسسة أبجد في العراق. والمؤلف مخرج وممثل وكاتب مسرحي وسينوغراف معروف في أوروبا بتجربته المسرحية الثرية، له عدد كبير من المسرحيات والترجمات في مجال المسرح والشعر والدراسات النقدية.
[1] – رغم أن “البوتو” أسلوب رقص ياباني احتجاجي عنيف في الأصل كان قد استخدمه حازم كمال الدين في عروضه المسرحية في بلجيكا إلا أنه هنا في روايته يحول الأداء إلى كلمات تصويرية سوداوية تسعى لسبر واقع الإنسان العراقي السوداوي ثم تغييره، تقول إيريني سمير حكيم “ولد الـ”بوتو” من الاضطرابات والفوضى السياسية والاجتماعية، التي أدت إلى فقدان الهوية اليابانية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي دفعتهم إلى إعادة فحص ثقافتهم، وإنشاء نوع أصلي حديث من الرقص الياباني للتعبير عنهم. بهدف تخليق التغيير في الرقص الياباني”مجلة الفيصل 2022،1.
[7] – السرد المتقدم: سرد يسبق المواقف والأحداث المروية زمنياً هو أحد خصائص “السرد التنبؤي” قاموس السرديات لجيرالد برنس ص(17)
[8] – التوقع: “مفارقة زمنية تتجه نحو المستقبل انطلاقاً من لحظة الحاضر أو النقطة التي ينقطع فيها السرد التتابعي الزمني (الكرنولوجي) لكي يخلي مكاناً للتوقع” قاموس السرديات لجيرالد برنس
[9] – الاسترجاع: “مفارقة زمنية باتجاه الماضي انطلاقاً من لحظة الحاضر” وهو هنا نوع من “الاسترجاعات التكميلية ” ووظيفتها ملء فراغات سابقة تنشأ عن الثغرات” قاموس السرديات لجيرالد برنس.
[10] – من مقال “جماليات الميتاسرد في فنون ما بعد الحداثة” للباحث أحمد عادل غازي محمود مجلة بحوث في التربية الفنية والفنون العدد رقم (1) جامعة حلوان.
باعتبار أن القصة خيال محض فلا مجال للتمييز أو التدقيق بين ما هو حقيقي وما هو مزيف؛ بين ما هو واقعي وبين المغرق بالخيال، بين الأصيل والدخيل، ففي المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان الصادرة عن دار ميسلون لعام 2023 تتسع مساحة الخيال ويحتشد عالمه بكم متشابك وغريب من حواريات الجمادات والحيوانات والكائنات البشرية. المجموعة القصصية مليئة بأسئلة الكاتب الوجودية المستلهمة من ذاكرة تنبض بصور ومواقف مخيلة ثرية الحضور يحفر فيها بقاع اللاشعور لتوظيف خبرة جمالية لصالح المعنى المراد تقديمه.
يستهل الكاتب مجموعته القصصية بمقاربة عالم كافكا ومناداته “هل أنت هنا” بإيحاء مضمر بأنه يسحبنا إلى عوالمه دون إفصاح مباشر، عبر نصوصه التي ينسجها من انعكاسات الواقع أحياناً وتنويعاً على مخزونه الثقافي بأحيان أخرى، فنراه قريباً من عالم الحشرات الكافكاوية. وفي جانب آخر نجده يطل على عالم كليلة ودمنة بتشاركية الحيوانات الناطقة بالحكمة. ومرة ثالثة نراه يتقاطع مع جورج أورويل في روايته مزرعة الحيوان.
هناك صداقات أنيسة بين كائنات مختلفة لا يدرك كنهها عالم الكبار، فهذا الطفل المتوحد الذي تآلف مع حشرة صغيرة شاركها طعامه في قصة “الذبابة” تأتي يد قاصمة تفقده حميمية هذه العلاقة معها، الحشرة التي تكون هنا أقرب وجدانيًا لعالم ذلك الطفل الذي يجيد الصمت، بتصوير حالة الاغتراب وفقدان التواصل التي يعيشها رغم كل العناية الظاهرة من أمه، فبرغم الصمت الذي يكتنف عالمه لكنه هنا يوحي بفكرة تشابه الاندماج مع المحيط مثل التصفيق الذي يجبروننا عليه كل صباح. وهذا تلميح للواقع الشمولي العام المهيمن على صعيد الأسرة من ناحية وعلى صعيد المجتمع من ناحية أخرى ومقاومة تلك الهيمنة للنزوع الشخصي والحر لعالم الأفراد، في لحظ السارد تقاطع ما بين الإحساس التلقائي والشعور المتخيل متحركاً بين القول الظاهري والفكرة المضمرة مما يعني الاشتغال على طبقات في توجيه الخطاب السردي حسب مستويات الفهم للمتلقي.
يشتغل باسم سليمان على مناوأة وضع عام أي مخالفة ما هو متعارف عليه من صفات للكائنات أو إعطاء معنى مخالف لما قرأناه بشكل سابق، ففي “القمقم” يعتمد تنقية وتقطير المعاني المتعارف عليها بقلب بديهياتها مثل عبارة “المارد لا يلدغ من الأمنيات إلا ثلاثا”، في تكثيف مذهل لرفض المارد لفقدان حريته أزماناً شاسعة وعبوديته لكائنات حقيرة الشأن مقابل أمنياتهم التافهة على غرار أمنيات الطائر البغاث بأن يحتل مكانة أعدائه وأن ينقل للنسر الرعب الذي أذاقه إياه، ولكن تبادل الأدوار لا يجدي نفعاً فعملية بلبلة الصفات الخارجية لا تغير من جوهر الكائن الذي يحتفظ بقلب عصفور ضئيل ولا يبدل الخوف الذي نشأ عليه.
القدرة الفائقة لدي صاحب “جريمة في مسرح القباني” في سحب انتباه القارئ وإدهاشه عبر أسلوب تأمله للحدث أو الفكرة المراد عرضها عبر التركيز على المتعة الجمالية بسلاسة العرض والتشويق. ونرى في “البيضة والحجر” تفسير تلك النبوءة التي جعلت الدجاج غير قادر على الطيران كسائر الطيور والتي جاءت من الهيمنة والسيطرة للديك، والحجة الخوف من الزلزال ورغبة بامتلاك الأرض والسماء، فقسم من الطيور قد هرب وهاجر ومنهم من خاف وصمت وهذا الأخير قلم له الديك أجنحته وقد شارك الدجاج الديك في الصراع أملًا في السماح له بالطيران، ولكن هيهات فقد جعلهم حراساً على من قصت أجنحته كي لا تنمو له أجنحة جديدة والعضو الذي لا يستخدم يضمر وليكونوا عبرة لهم قصت أجنحتهم كذلك ومن رفض مصيره الموت، ألا يوحي ذلك بقدر قريب جداً، فهناك سلطة فوق الديك وهو الثعلب، فالطغاة دائماً يجذبون الغزاة وهكذا الطيور تتعارك مع الدجاج والثعلب يتفرج يدعم ذاك ويقوي آخر وهذا باختصار واقع الشعوب.
تمتلئ المجموعة بسخرية والمفارقة ومخالفة توقعات القارئ أو ما تتركه القصة من حيرة والتباس فهم الأمر الذي يجبر القارئ للدخول في عملية التفسير والتفكير لاستدراج المعنى ووضع احتمالاته. وكمثال على هذا في قصة “رصاصة الحسد” تتحدث الجمادات إذ تقود قذيفة الهاون مجموعة من الرصاصات المتدربات في مدرسة المقذوفات النارية برعاية اليونيسيف حيث السخرية المضمرة من المنظمات الدولية، والسؤال المفارق بماذا تحلم الرصاصة؟ الرصاصة التي يعود نسبها إلى جبان اخترع البارود الذي ساوى بين الشجاع والجبان، كل منها لها حلمها الخاص فرصاصة صغيرة أخرى تحلم بأن تكون قذيفة صاروخية؛ ورصاصة بندقية ضغط الهواء تريد أن تكون قنبلة فراغية وقد بصقت الأمنية كحجر حطه السيل من عل في تناص مع القصيدة المعروفة.
أما في قصة “الذئب النباتي” فيكاد الكاتب أن يقنعنا بتحول الذئب إلى حيوان نباتي لا يقرب اللحوم بكل ما فيها من اعتداء على تقاليد القص المتعارف عليه بالدور التاريخي الشرير له، لكن المعنى المبطن المخفي يتسلل تحت الكلام الموارب لندرك بروز شخصية الغول التي يتخفى خلفها الذئب آكل الحشائش وفق ما أشاعه بإيماءة حول تبدل الأساليب والوجوه، وهو الغول ذلك الخطر الوهمي الذي ترتكب الجرائم تحت اسمه.
وفي قصة “قائمة الطعام” يتبع باسم سليمان تقنية القصة داخل قصة عندما تكون قصة قائمة الطعام هي قصة منشورة للولد الصغير في إحدى المجلات وتتحدث عن حوارية الحمل والمرياع قائد الخراف حول علاقتهم بالذئب والإنسان؛ بين من ينقض بهمجية على فريسته وبين من يأكلها وهو ويذرف الدموع عليها، لينتهي الحمل بحقيقة أن ذلك لا يغير من حقيقة الفعل شيئاً فالذبح واحد.
تتشابك المصطلحات الموحية بالقصة القصيرة بين الخرافة والأسطورة والحكاية والطرفة والنادرة والأمثال ونستطيع القول إنها تتغذى عليها ولكن إنريكي أندرسون امبرت كثف تعريفه للقصة القصيرة بقوله: “القصة القصيرة عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص فرد برغم ما قد يعتمد عليه الخيال من أرض الواقع فالحدث الذي يقوم به الإنسان والحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانيه أو الجمادات يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة حيث نرى التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ للوصول لنتيجة مرضية من الناحية الجمالية.”
هذا التعريف يتناغم مع نصوص مجموعة “الفراشات البيضاء” إلى حد ما، فهناك أنفاق وجسور في عالم السرد قد تكبر قصة قصيرة لتشكل رواية، وقد تجمع رواية قصص قصيرة في أسلوب سبكها وتداخله،ا وقد تتحول مجموعة أخرى إلى متوالية قصصية ذات مناخ وأبطال يتشاركون في المكان ولولا بعض القصص التي أنطقها سليمان بألسنة البشر لاعتبرت المجموعة متوالية قصصية بامتياز كونها تشترك بمناخ نفسي وسردي واحد وعلى حكم الحيوانات وألسنة الحشرات بمعانيها المرمزة ذات الدلالة العالية.
نشعر بمتعة كبيرة في ملاحقة نصوص المجموعة وقدرتها الفائقة على الاختزال في الكلمات والتكثيف في المعنى، ففي قصة “الأسماء” لكل من اسمه نصيب وفق المثل المعروف وهكذا تشوه الحقائق بحيازة صفة لمن لا تسمح مواهبه بها في استبدال اسم الحصان للحمار لكن الذي يحصل أنه يصدق ذلك الأمر والآخرون يصدقون الحمار الذي أصبح حصانًا وتوج في ميادين السباق رغم أنف الحكائين.
أيضًا تأتي الفراشات البيضاء التي استعار منها عنوان المجموعة بشكل مقتضب في قصة ” الفراشات البيضاء” في التباس تحديد الحيوانات لجنس الكنغر (الذي يأكل الفراشات البيضاء كحلوى على لسانه) بينه وبين الإنسان كونه يقف على قائمتيه الخلفيتين لتأتي مقولة القصة بأن الإنسان لا يقتل الحيوانات فقط، ولكنه يسجن أخاه الكنغر أيضًا وهذه مشاهدة ورأي حيوانات الغابة التي جعل الحكمة على أفواهها.
تلعب الطبيعة دورها في خدمة التوازن والتناغم والانسجام في قصتي “رمادي” و”ألا ليت شعري“، حيث عبرت الأخيرة عن حوارية الإنسان والطبيعة التي تتكلم وتفصح عن مكنوناتها ما يذكرنا برواية “عالم العناكب” لكولن ويلسون عندما يتساوق أي فعل مع إيقاع الطبيعة تنسجم معه ويمشي في ركابها وعندما يخالفها تسحقه ويكون من أعدائها.
يعمل صاحب “الغراب سيد الغابة” على تطويع الاقتصاد في المفردات ليختزل فكرة شاملة وعميقة فهنالك ما يسمى قصة قصيرة جدًا تتراوح بين السطر والثلاثة أسطر، وكل أقصوصة عدد محدود من الكلمات لكنها تمتد عميقًا في معانيها مثل “نهاية، موسيقى، شوك الصبار، نمل الحب، الإزميل، صائد العصافير”يجمع فيها التركيز والتكثيف على معنى محدد عبر تناوب التوتر والاسترخاء وخاصة في القصة التي لا تتجاوز أسطر ففيها إبداع في فن الاختزال والتكثيف عبر الكلمات المشحونة بطاقة تعبيرية عالية.
ربما تحاكي القصة القصيرة نبض الحياة المتسارع للوصول إلى المعنى بأقل ما يمكن من الزمن وحشد أكبر ما يمكن من المعاني لالتقاط حدث غير عادي بحركة مركزة ينتقل فيها بشكل متسارع إلى المحصلة عبر ثلاثين قصة يقدمها لنا باسم سليمان عبر منطق الحكاية في تمثل مجازي للواقع عبر مشهدية الرمز والإيجاز. تجلت في هذه المجموعة المقدرة على إحداث أثر لدى القارئ خلال فترة زمنية بسيطة لا مجال فيها للاستطراد والحشو كون النص يسير إلى هدفه منذ العبارة الأولى نظرًا لقصر المسافة بين البداية والنهاية.
بعضهم شبه الرواية بالضوء والقصة القصيرة بحزمة ضوئية، ولكن في أحيان كثيرة تكون القصة القصيرة أشد سطوعًا حسب كثافة طاقتها التعبيرية المشحونة، وأعتقد أن “الفراشات البيضاء” تنتمي لهذا السطوع.
“إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعّة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبّة والنفوس المُتضامنة بالتفاهم”. نعم الأرواح أثيرية لا تنتهي بالقبر ولا تبدأ بالرحم، تستلهم ريما بالي هذا المعنى من جبران خليل جبران في روايتها “خاتم سليمى” الصادرة عن تنمية لعام 2022، والتي دخلت بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2024 لتوحي لنا منذ البداية أنها تأخذنا إلى عالم الروحانيات الصوفي، أجواء وظفتها لوصف عبق المدينة وإرثها الحي وكل ما تذخر به ذاكرتها عن مدينة حلب ورائحة التوابل والغار وحبة البركة والزنجبيل، إلى آثارها؛ قلعة حلب؛ الخانات وأزقتها وحاراتها، إلى صناعاتها التقليدية كالسجاد اليدوي والصابون، كما تعرج على عاداتها وتقاليدها وموسيقاها، عادات الأكل والملبس وما تتميز به من تنوع ثقافي وعرقي واجتماعي، فحلب تجمع فسيفساء بشرياً متناغماً مع أصولها العريقة كأقدم مدينة مأهولة في التاريخ ، دون أن تغفل عن الواقع الذي انقلب، كيف خربت الحرب المجنونة كل هذا الجمال، الحرب التي دارت رحاها في السنوات الأخيرة وتسببت بكل ذلك الخراب والموت والتهجير لناسها وأبنائها وما خلفته من شرخ عميق في البنيان المجتمعي الذي كان تعدده أحد أهم ميزاته وخصاله البارزة.
تعلن بالي في منجزها حضور المكان بكل تفاصيله وجماليته إذ يبرز بطلًا أساسيًا في لعبتها السردية، وهو يختزن عبق التاريخ وبخوره وروائحه التي تشي بملامح حلب الثقافية وطقوسها حيث الموسيقا؛ السياحة التراثية؛ تقاليد حلب في الإفطار والسحور أيام رمضان، وأصناف الطعام الشهيرة ذات النكهة المميزة لحلب من الكبة للفتوش للمحمرة إضافة لإضاءتها على واقع الصناعات الشعبية التراثية مثل السجاد والتحف والأنتيكات لتعرج بعدها على الحرب والدمار الذي لحق بمناطقها الأثيرة ذات التاريخ والحضارة، فكل حرب خاسرة مهما كبرت أوهام النصر لدى أي طرف كان، كانت حلب المدينة التي تنزف وتحترق وكل ما عداها تفاصيل قد نتفق حولها وقد نختلف.
هذا الإسهاب في الوصف كان عميقًا وحميميًا لتبيان ذلك التناقض الحاد بين الثنائيات المتعارضة بين ما كان وما صار، بين الجمال وبين القبح، بين أيام الحرب وأيام الدعة والسلام.
من عنوان العمل يتضح أنها توظف حكاية خاتم سليمان بالقص التوراتي “خاتم سليمان منحه الرب لنبيه سليمان، خاتم ذو قدرات خارقة أهمها التحكم في الجن والتحدث مع الحيوانات إلى أن حدثت واقعة سرقة كبير الشياطين للخاتم وتشكله بصورة الملك سليمان وجلوسه مكانه على العرش”. تسقط الكاتبة الحكاية على قصة الحب التي تعيشها البطلة سلمى بين المستشرق شمس الدين الذي استوطن حلب وعشقها ولوكاس الإسباني من جذور يهودية والخاتم الذي يتحرك بينهما، مع تخوم ضائعة الدلالة لرمزية كل منها لتنهي العمل بذلك الالتباس الذي يصيب القارئ بالحيرة والتساؤل وبذلك تكون أدخلته في شرك لوثة الخاتم أهو مع شمس الدين أم مع لوكاس، من فيهما القديس ومن هو الشيطان، من هو الحي ومن هو الميت، من منهما الأثير إلى النفس ومن منهما الخيار الأفضل.
تتركنا الكاتبة في فضاء التخمين والتخيل في تقصي لعبتها التي تفضي أخيرًا لضياع الخاتم، الخاتم الذي ينتظر القرين المناسب في رمزية الحبيب والمنقذ للحبيبة والمدينة.
ريما بالي الذي حفل رصيدها السردي بأربع روايات هي “غدي الأزرق” و”ميلاجرو” (المعجزة بالإسبانية) و “ناي في التخت الغربي”كانت “خاتم سليمى” قبل الأخيرة منها لم تلتزم فيها بالترتيب المتسلسل للأحداث فكل حكاية ترصدها في زمن سابق أو لاحق ليكون على القارئ عبء لملمة الحكاية وترتيب أحداثها وفق تصوره وخياله مشركة إياه في تساؤلات عدة نلحظها من خلال حوارات أبطالها كشمس الدين العارف الذي يعرف كل شيء ولوكاس الذي لا يعرف، وكيف يعرف المرء نفسه، وماذا يريد وهل تعرف سلمى نفسها وهل المعرفة نهائية يا ترى، إذ نعرف أن الذات نفسها متغيرة نتيجة تفاعلها مع الظروف المحيطة وحسب تبدلات الزمان والمكان، وقد تتطور وتتقدم إلى الأمام وقد يحصل العكس، وتساؤل آخر عن ماهية الحب وهل هو وهم أم حقيقة، ليأتي الجواب الصادم من قبل شمس الدين بأنه كيميا، يأتي نتيجة تفاعلات بين عناصر معينة، هذه الإجابة التي جاءت بعيدة عن منطقه الصوفي فعلى الرغم من أن الصوفية توهان في ماورائيات وتجليات لاستنارة روحانية جاء تفسيره أقرب للعلم والمنطق وربما لنفسر عدم تجاوبه مع مشاعرها وجعلها قيد انتظار الزمن بالنزعة النرجسية له فلأننا نحب أنفسنا نحب استمرار عشق الآخرين لنا ومن ناحية أخرى قد نفسر الأمر بخوفه من تكرار تجربة أمه بهروبها مع شخص آخر بعد انتهاء أحاسيسها تجاه أبيه، ما جعله يبعد الصبية عنه بشكل جزئي.
من اللافت للنظر إصرار بالي على طرح نماذج لشخصيات لأمهات لا تحكمها العاطفة مثل (لولا –أم لولا –أم شمس الدين-جدتها القاسية التي لم تلتقها إلا عندما فقدت ذاكرتها) في فكرة التخلي عن الأبناء لصالح عشق أو قناعة ما، وهذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي: ماذا عن الآخر الأب وماذا عن مسؤوليته كذلك وما دوره وهل نفهم أنها نزعة ذكورية لدى الكاتبة؟
قضايا اجتماعية متعددة تثيرها ابنة حلب أهمها الزواج المختلط لتعطي فكرة عن الأنساق الثقافية السائدة وجانب آخر للتنوع المجتمعي غير المتصالح مع بعضه والذي يرفض اقتران طائفة من طائفة أخرى بقضية النسب والمصاهرة، وهو شرخ تم استخدامه للتفريق بين أطياف المجتمع لاختراقه بالحرب الكارثية التي اشتعلت بالبلد حيث الروايات خزان التاريخ الذي لم يدون بعد ولكننا نلتقطه في ثنايا الحكاية.
تجري الكاتبة تناصاً مع موروث الحكايا الشعبية وتوظفها لصالح العمل في نوع من المحاكاة لقصة السندباد وبساطه الطائر في متخيلها عن سجاجيدها اليدوية وفضاءات العالم الذي نسجته المتأرجح بين الواقع والخيال، فما أن يستلقي الشخص على سجادة منها يرافقه اشتعال شمعة إلى نهايتها، حتى يبحر في عالم لازوردي تهويمي من الأحلام والآمال، ما يكاد أشبه بنبوءة أو نوع من الإشارة لما سيحدث؛ أو نوع من الاستخارة لمشكلة أو موضوع أو رأي، هذه السجادة التي يطير فيها المستلقي على أعنة الحلم والخيال كنوع من المشابهة بين بساط سندباد الطائر الذي يطير به وينقذه من خطر محدق أو يسارع به بالوصول لإنقاذ أحد ما، ليكون بوابة التحليق في الخيال لصالح نبوءة أو رأي ويأتي حلًا لأمر مؤرق.
تحمل خيوط السرد بالتناوب على لساني لوكاس وسلمى، وتأتي قفلة العمل إبداعاً آخر مبلبلاً لانتباه القارئ ومشتتًا لقناعته في لملمة أطراف الحكاية المسرودة، عندما تخاتله في الفهم الملتبس بين الحياة والموت، بين لوكاس وشمس الدين، من الذي بقي ومن الذي مات لتبقى النهاية مجهولة وليبقى الاحتمال معلقًا ومفتوحًا وفق رؤى تبقي الحوار قائمًا حول الفكرة والقضية ولا تنتهي بانتهاء العمل.
*ملاحظة: تم حديثاً اختيار رواية “خاتم سُليم” ضمن القائمة القصيرة لـ “الجائزة العالمية للرواية العربية” (بوكر العربية) في دورتها الـ17، وسيُعلن عن الرواية الفائزة في أبو ظبي، بتاريخ الـ28 من نيسان|إبريل 2024.
تسنت لي مشاهدة فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى، الصديق الشخصي والروحي، بفضل لفتة لطيفة منه بإرساله إلي. يتحدث الفيلم عن مقايضة بين عجوز (متزوج وله بنات ثلاث)، من أحد بلدان اللجوء السوري، وبين والدة وابنتها الصغيرة (المراهقة)، اللتين تقيمان في أحد مخيماته، هرباً من قمع “النظام الديكتاتوري السوري” إثر انفجار “ثورة الربيع العربي” فيه. وتستند المقايضة على تزويج الفتاة الصغيرة من العجوز مقابل وعد منه بإنقاذ أخيها من “المعتقل السوري”، عن طريق معارف له في سورية. الوعد، الذي كان فخاً للإيقاع بالفتاة ليلى، لم يتحقق بالطبع، التي لم تجد وسيلة لمقاومة الظلم سوى بالامتناع عن الاستسلام للعجوز وبـ”الصمت”.
أصبح “التهجير السوري” بحد ذاته تراجيديا أسطورية، بكل المآسي التي يحملها، تتجاوز فيه المشابهة مع “الأوديسة” الإغريقية إلى مشهد تراجيدي مفتوح على الأمكنة والأزمنة كلها في عالمنا الشرقي ـ العربي. هل هذا ما يرده الفيلم، أم هي انطباعاتي الشخصية عنه؟
لم يطلب ثائر أن أكتب شيئاً عن الفيلم، فأنا روائي ولست ناقداً، وبالأخص سينمائياً. لكني أمام قصيدة شاعرية بصرية مذهلة بلا حدود إلى درجة الدهشة، لم أستطع كتم التعبير عن انفعالاتي الإنسانية، وقررت أن أكتب انطباعاتي الشخصية:
الدمعة تزور العين، عندما تشاهد اللقطة الأخيرة من فيلم “مزار الصمت”، كما زارت عين الأخ “أحمد”؛ الدمعة تختزن بكثافة أحزان القلوب في بلادنا، وكل القهر الذي نعانيه فيها منذ غابر الأزمان، ومازال حاضراً باستمرار. الحزن والقهر يلاحقنا في ذواتنا، وأحلامنا، وذكرياتنا، بحيث أصبحا متأصلين فينا جمعياً. والرجل العربي لا يذرف الدمعة إلا لقهر شديد ناله، بما يساوي قسوة موت أحباء، هو عاجز عن إنقاذهم، فيستسلم أخيراً لدمعته. تسقط الدمعة، وصدى عبارة “يللي حبسوك (يا أحمد) هم الذين قتلوها”، “نحن كلنا قتلناها” تلاحقنا بصدى قاتل بعد انتهاء الفيلم. نحن جميعاً قتلنا “ليلى”، وهذه العبارة بهذه الكثافة من القهر تختصر كامل الفيلم.
القصيدة البصرية تبدأ منذ اللقطات الأولى للفيلم، عندما تهفهف النسائم بستارة شفافة بيضاء، ووراءها يتساقط شعر فتاة، يغتسل بشلال مياه، كما المطر (هل تعرفون موسيقى المطر في بلادنا، كم هي جميلة، وكم تثير من الحزن المبهم والحنين في ذواتنا). والفتاة تسرح شعرها المبلول، كم هي جميلة في هذا؛ هي الحبيبة، الأخت، الأبنة، الأم. منذ هذه اللحظة، نعرف أننا دخلنا قصيدة بصرية شفافة، طافحة بشاعرية متفجرة، دون كلمات، وإنما بصور؛ رحلة في أسطورة تراجيدية، في حكاية صوفية، رحلة إلى الذات، أم إلى جموع ذوات، يحاصرها القهر والألم، وكلهم أنا، وكلهم نحن.
عند هذه اللحظات الأولى، أمسك قلم خيالي، وأبدأ معك كتابة قصيدة الصور، ثائر الجميل، وأرافقك مشاركاً رسم الأسطورة ـ الحكاية، بعد أن أبثها أحلامي، وذكرياتي، وحنيني، فتهمس لنا كلمات، توشوشنا، كي نتناقلها بتخاطر الأرواح، جيلاً بعد جيل. ألست أنت ثائر، الذي كسر بالصور الأزمنة والأمكنة، خارج التقاليد المجترة، فلا ندري، وقد خرجنا منها، في أي بلاد، وفي أي أزمنة، نحلق نحن. آه، نحن البلاد جميعها، التي نكتب حكايتها معاً، ونحن الأزمنة جميعها، المتراكمة في أرواحنا حنيناً مغمساً بالقهر، نتوارثه عبر الأجيال. والحكاية صور، نغوص فيها عميقاً، فنجتاز بالحنين الأمكنة والأزمنة فيها.
يلاحقنا البطلان الرئيسيان طوال الأسطورة ـ الحكاية إلى حد الاختناق شغفاً، يخترقان الكيان، ويسريان في الدماء، ويتغلغلان في الذاكرة. يوجعاننا بكاء، يتفجر في سفر الحنين إلى شيء، يكاد يكون مبهماً غامضاً في لاوعينا. وسرعان ما ينتزعاننا، هذان البطلان، من اختناقاتنا المكبوتة، لنكتشف كم كنا محرومين من معنى حياتنا. والمعنى في داخلنا، ينتظر شرارة صغيرة تفجره. هذان البطلان الرئيسيان، اللذان يسحراننا شغفاً، فنصبح ممسوسين بهما، هما “الموسيقى” و”المكان”، وبهما تنتظم الحكاية.
مع سير الحكاية، نكتشف شيئاً لاوعياً يرافقنا طوال الوقت، هو “الموسيقى” الخفية، القادمة من ذاكرة أسطورية مختزنة في ذاكرتنا الجمعية، موسيقى شبه بدائية تنبع من دواخلنا، من معابد أسطورية قديمة، كنا نعيش فيها روحانيتنا المفقودة، ونحن نشم رائحة البخور في الظلال. وها هي تشتعل، فتتلون بها صور المكان والأشخاص والأحداث، وتجعلها أنشودة تسمو بنا. الموسيقى هي التي تشعل فينا هذا الحنين الغامض، بحيث تطغى على الكلمات، وكلمات الأشخاص تبقى مجرد إيقاع خفيف خفي لصدى وجودهم الشبحي. تغدو الموسيقى تراتيل صوفية، ترفع الحدث الواقعي اليومي إلى مستوى أسطورة تراجيدية، تتجاوز إغريقيتها، نحو أصول شرقية غارقة أكثر في أزمان غابرة. شخصياً، انتهيت من مشاهدة الفيلم، دون أن استطيع انتزاع الموسيقى من روحي، أصبحت نبضاً أتنفسه. أجلس أكتب نصي هذا في الصمت حولي، ما عداها، ترافقني، وتسافر بي إلى حلم جميل، يراودني حنيناً إلى “المكان”.
نعم إلى “المكان”… والمفترض أن الشرارة التي أشعلت المكان هي “المعتقل السوري”، و”مخيم اللاجئين”، ولهما دلالتهما الرمزية المهمة، رغم عدم الرجوع إليهما طوال الحكاية، فيبدوان عابرين للوهلة الأولى. إلا أنهما يطغيان حقيقة على الأحداث كلها تالياً، يرميان بظلالها عليها طول الوقت، وبهما يتوطن مكان الأسطورة ـ الحكاية، وبهما تنفتح دلالتها. ومن هذين المكانين المحددين، ننطلق إلى عالم سحري (نهار/ ليل)، يفضي إلى أسطورية، تتجاوز تراجيديات بلاد الإغريق، لتحلق في عالم صوفي شرقي، يقودنا إلى “الحقيقة المطلقة”، العصية الفهم إلا على المسافرين إليها بأرواحهم. وهذه الحقيقة هنا ليست هنا إله الصوفيين، وإنما حقيقة سحر حكاية الفيلم، الذي تمضي أحداثه صوفياً، ولن نستطيع كمشاهد إلا السير بها روحياً، وإلا لن تتكتشف لك أسراره.
“نهار المكان” هو حكائي، أقرب إلى الأسطوري، بغض النظر عن وجود “المعتقل السوري” و”مخيم المهجرين السوريين” كواقع معاصر في بداية الفيلم. ما هما إلا مكانين عابرين، رغم ملاحقة رمزيتهما لنا طوال الحكاية، كمصباح خافت بعيد ينير ببصيصه دربنا الذي نشقه فيها. هذا “النهار” هو عالم يخترق اللامكان واللازمان إلى كل الأزمنة والأمكنة المتخيلة في شرقنا القديم المقهور، وما السيارة، في لقطة عابرة، إلا أداة انتقال من “العالم الواقعي” إلى “عالم الأسطورة الصوفية”.
في السيارة تتكشف أكثر حبكة الحكاية باتصال هاتفي مخادع من العجوز الذي يستولي على فتاة صغيرة من مخيم للمهجرين، مازالت تعابير وجهها توحي ببراءة الطفولة، بعقد زواج صوري، مقابل وعد بإنقاذ أخيها من جحيم “المعتقل السوري”. البنت قبلت أن تفدي نفسها لدى عجوز متزوج، مقابل “وعد” بإنقاذ أخيها من “المعتقل”. ومع النزول من السيارة، يختفي كل ما يدل على الواقع الحقيقي، الذي يغدو بعيداً؛ “المعتقل”، و”المخيم”، و”السيارة” و”الهاتف المحمول بالوعد الكاذب” (ماعدا الضحية ـ الغنيمة). يختفي الواقع نهائياً، ويصبح الزمان ـ المكان أسطورياً بالكامل، ليس فيه أي بصمة حضارية معاصرة ترتبط بعالمنا، يصبحان زمناً ومكاناً مطلقين، يمسنا نحن السوريين بالذات (وربما جميع أبناء منطقتنا، الذين عاشوا ومازالوا يعيشون نفس قهرنا وآلامنا).
“نهار شرقي”، يغمر المَشاهد جميعها بضياء الشمس. أراض مشمسة تهفو إليها أحلام الأوروبيين الرومانسية، لكنها جرداء لنا، إنما متغلغلة في أرواحنا. ورغم جفافها، فنحن نعرف جمالياتها السرية، وهو ما ستكشف سحره الكاميرة المبدعة “جماليات للمكان”، الذي يبقى طفلاً في أرواحنا، رغم تقدمنا في العمر.
نباتات الصبار الشوكية هي أول ما تطالعنا (هل أرواحنا جافة مثلها؟). وفي لقطة ذكية جمالية معبرة برمزيتها، نكتشف من ورائها بلدة قديمة بمنازلها، مترامية على تلة جرداء، حيث يسكن العجوز. الصبار هو نبات المناطق الجرداء، المحرومة من المطر إلا نادراً، وهو يزين مشاهد المكان النهاري باستمرار. ثم تتابع مشاهد البيوت الطينية القديمة، بباحاتها البسيطة وبواباتها العتيقة، الأدراج الحجرية (دروب إلى معابد قديمة ما مندثرة، مختفية في المكان)، الحارات والأزقة المتربة، والملتوية صعوداً. لا أشجار، لا نباتات مزروعة، لا ورود، لا أخضر، لا ألوان سوى البني المترب، الذي كنست الرياح الغبار عنه، فأصبح أكثر جفافاً. فقط امتداد المكان الأجرد شبه الصحراوي، في أزمنة قديمة، يختفي فيه أي مظهر من مظاهر الحياة الحديثة. مكان هو امتداد للنفوس المتعبة، التي يختفي منها الفرح والأمل، مجرد أشباح تتحرك، بوجوه شاحبة، تبدو النساء فيه شبه عاقرات.
يترافق مع هذه الأجواء المكانية الكئيبة الجرداء استقبال عائلة العجوز للعروس الشابة بشكل عدائي؛ الوجوه عدائية بصمتها، الأجساد عدائية بلامبالاتها. لكن الزوجة العجوز المغدورة، التي يعيرها زوجها بأنها لا تنجب له إلا البنات، ويتعلل أمامها بأنه مضطر للزواج من فتاة صغيرة من أجل صبي، تنفجر في وجهه. بينما تبقى الابنتان الشابتان، وإحداهن متزوجة، صامتتين، كتمثالي حجر. هكذا، تصل العروس الفتية، فلا تجد استقبالاً، لا حفل فرح، لا جيراناً، تنتظرها فقط غرفة عتيقة كقبر، وحياة راكدة، فهي غنيمة، سبي، تم شراؤها من سوق المُهجرات لمتعة عجوز.
لكن المشاهد المتربة، الكامدة، الكئيبة، في نهار المكان وفي أرواح ساكنيه، تخبئ حياة كامنة سرية صامتة، تريد أن تنفجر بقدوم ليلى؛ البيت الريفي، بغرفه وأثاثه البسيط، وباحته الجرداء، وأبوابه العتيقة، يبدو مثل قبر. مع مجيئها، تداعب النسيمات المشاهد من وراء الستائر الشفافة، ومعها الغسيل المنشور على الحبال، كما في حلم، يؤطر ماكينة الخياطة (النول الأبدي الذي ينقذ المرأة من وحدتها، ولا يتقن الرجل العمل به). يريد هذا المكان النهاري أن يمتلئ بانفجار الحياة بقدوم ليلى، بضجيج شبق صاخب، لكنه يبقى خامداً بصمتها العميق، الذي تتخذه “ملاذاً”. الصمت يسود المكان بغياب صوتها، يلفه، يخنقه، الصمت الذي ينال من جبروت العجوز ـ المستبد الشرقي البطريركي. الصمت يتحدى صلابة الرجال والحجارة، يطحنهما معاً.
لكن صمت “المكان النهاري”، المترب الكئيب، ينقلب ليلاً إلى صمت سحري مذهل، وشاعرية صوفية أخاذة، بكاميرة ذكية. تتلاعب في لقطاتها وتراقص شعلات الشموع، وأضواء الفوانيس والقناديل، مع ظلال عتمة شفافة، قادمة من صفاء روحي عميق، من سفر أحلام. القناديل تنتشر في كوى الغرف الطينية، والفوانيس هي دليل السائرين في عتمة الحارات الليلية، أما الشموع، فتتكثف بطريقة سحرية في مرقد الولي، الذي يتم عبره الولوج إلى قلب عالم صوفي. ليل حلم كأنه ينبثق من هدأة الروح وشفافيتها، لا علاقة له بنهارات مشمسة بحيادية ساطعة، دون أي ظلال حالمة، أو حتى أي ظلال.
في هذا الليل الأسطوري ـ الصوفي الحالم تعود بنا ليلى، الزوجة الصبية الفتية، إلى عالم “الأوديسة” الإغريقي. يذكرنا رفضها لنوم العجوز معها بامتناع الملكة بينلوبي في “الأوديسة” عن طلب الخُطاب لزواجها طمعاً بالمُلك. تنتظر زوجها أوديسيوس الغائب، التائه في البحار، بعد انتهاء مشاركته في “حرب طروادة”؛ تنتظر عودته، كي ينتقم لها منهم. تتعلل أمام الخطاب بأنها تريد إنهاء حياكة بساط على نولها، وبعد ذلك ستتخذ قرارها باختيار أحدهم زوجاً ـ ملكاً. لكن بينلوبي تحل ليلاً خيوط ما تحيكه نهاراً، كي تمرر الوقت، واثقة من عودة زوجها لينقذها.
تتمنع ليلى أيضاً ـ مثل بينلوبي ـ على زوجها العجوز، فتمضي ليلها في حياكة ثوب أبيض على ماكينة خياطة قديمة، بانتظار عودة أخيها أحمد لينقذها، فيما العجوز ينتظر وينتظر في الفراش دون جدوى. الثوب يطول ويطول، ويمتد منفرشاً على الأرض، ولا ينتهي. وأحمد غائب، مثل أوديسيوس، يتأخر في الحضور. يلاقي تعذيباً وحشياً في غياهب “المعتقلات السورية”، بعد أن اختار درب الحرية، بما يعادل الأهوال التي لاقاها أوديسيوس في حرب طروادة. وكان على الإثنين أن يعودا؛ أوديسيوس لإنقاذ زوجته بينلوبي التي تتمنع على الخاطبين، بعد غياب طويل في الحرب امتد سنيناً طويلة، وأحمد لإنقاذ أخته ليلى، التي تتمنع على العجوز، وغاب في المعتقل ثلاث سنوات طويلة، بدت دون نهاية. لكن أوديسيوس تاه في البحار عشر سنوات، وتاه أحمد في صحرائه، وهو يحاول اجتياز الحدود (على الأغلب السورية ـ الأردنية، أو اللبنانية أو التركية، لا يهم)، مخاطراً بحياته للوصول إلى “مخيم المهجرين”، حيث والدته وأخته المفترض وجودها هناك، ليكتشف فجأة تضحيتها العبثية لأجله.
تهرب ليلى من المنزل كل ليلة إلى مرقد ولي البلدة المقدس، فعبثية خياطة الثوب لم تعد تكفي لمماطلة زوجها، الذي ينتظرها في الفراش. وفي هروبها اليومي ينير دربها نور الفانوس، الذي يقودها إلى حقيقة روحية (في المرقد أم في داخلها؟). تبدع الكاميرة بتصوير الصمت السحري في المرقد، بشاعرية الإضاءة الشفافة، التي تنشرها شمعات تتراقص ألسنة لهبها فتنشر فيه دفئاً روحياً عميقاً. هنا، تكتسب ليلى قوى روحية من قداسة المكان؛ قداسة مختزنة منذ أزمنة قديمة، عمق الحكاية المزروعة فيه. وبالأحرى، سيفجر فيها المكان طاقاتها الروحية الحبيسة، طاقة “الإلهة الأم” من عصر الأمومة، التي تمنح الفرح والخصب والحياة لكل ما حولها. تتحدى بهما سلطة “الإله التوحيدي” القمعي، الذي يتحدث باسمه كل مستبد بطريركي؛ بدءاً من الديكتاتور الذي سجن أخاها في “المعتقل”، مع آلاف من أمثاله الساعين إلى “الحرية”، وصولاً إلى تفريخاته بصورة العجوز، الذي اشتراها سبية. وأداة تحديها المستمر هو صمت الأنثى المرعب، الذي يهزم الرجل البطريركي.
القوى الروحية المتفجرة فيها تجعلها قادرة على تسكين الأطفال الرضع، فيهدؤون، ويتوقفون عن الصراخ، والنسوة العاقرات يتباركن بها، فيحملن بعد طول انتظار. تمنح الجميع البركة وشعاع ابتسامة يشع من وجهها. أليست هي “الإلهة ـ الأم”، التي تمنح الحياة؟
في لحظة حمل زوجة طال انتظاره، يقوم الزوج بممارسة طقوس شكر باسمها ليلى “الإلهة ـ الأم”، وليس باسم الإله التوحيدي. في لحظة تلقيه الخبر، يرتل اسمها أنشودة صلاة، وهو يحتفل راقصاً في الهواء الطلق بإطلاق النار في الهواء، مقدماً لها أضحية خيالية دون دماء، بعكس ما يعشقه الإله التوحيدي الذكر وأتباعه الدمويون.
تصبح ليلى مدعوة إلى كل المناسبات الاجتماعية في البلدة، لأن وجودها يمنح الخير والبركة، وتضج الحياة بوجودها، وهي تمنح ابتسامتها للناس البسطاء، لكن ليس لزوجها العجوز. الابتسامة له تعادل منح جسدها، وهي لن تمنحه إياه أبداً. ولأول مرة نشاهد عرساً باحتفالية فرح، الناس يرقصون ويبتسمون، وليلى بينهم مبتسمة، وجودها أشعل الحياة في البلدة. وعندما يحضر شيخ البلدة التقي إلى العرس، تتراكض الفتيات لتقبيل يده تبركاً به، وليلى بينهم، فيمنعها عن ذلك. ثم يلثمها بأبوية في جبينها اعترافاً بقداستها، وهي القبلة الوحيدة التي لم يمنحها لأي امرأة في حياته من قبل.
“الراوي” في التراجيديا الإغريقية هو من ينشد الحكاية بطريقة خطابية، أثناء عرض المسرحية، كي يتطهر المشاهدون من آلامهم وأحزانهم، وهو ما يتناسب مع عقلانية الإغريق. لكن في مجتمع شرقي لا مكان لراوٍ مسرحي عقلاني، وإنما راو ينبع من حميمية المكان وأصالته الشاعرية، من الحزن المختزن فيه. يغدو الراوي هنا عازف الربابة، يروي الحكاية بعزفه المستمر كل ليلة، ونلمحه فقط خيالاً شاعرياً مثل حلم، من وراء ستارة نافذة مضاءة، وكلماته هي موسيقى ربابته. لا نسمع صوت آلته الموسيقية، وإنما صوت موسيقى الفيلم، وبها ينظم إيقاع الحكاية. بل هو أشبه براو شهرزادي ليليّ، يروي حكاية ليلى كل ليلة، وهو موجود فقط لأجلها. يرويها لأهل البلدة، كي تتطهر أرواحهم بها، وللزمن، كي توثقها ذاكرة الأمسيات للأجيال القادمة؛ صرخة حرية عالية بـ”الصمت المتحدي”؛ “الملاذ”. وليلى هي التي تحضر له العشاء اليومي، تضعه أمام باب بيته، كي يستمر بموسيقاه التي تنظم بها الحكاية.
وليلى لا تستسلم للعجوز، لا باللين، ولا بالعنف. تتقوى بصمتها، الذي يلازمها طوال الفيلم. هو التحدي، تقاوم به الجلاد، الذي اعتقل أخاها، والعجوز البطريركي المخادع الكاذب. صمتها شبيه بصمت بينلوبي، وهي تحيك بساطها، تطيلان أمد الحكاية بانتظار عودة الغائب. وعندما يقرر العجوز المستبد السيطرة على ليلى بالعنف (كما حاول الديكتاتور مع المنادين بالحرية)، فيرمي من يديها عشاء الراوي ـ المغني، ويمنعها من الخروج من المنزل، كي تتوقف حكايتها الشهرزادية، بالخضوع له، والمضي إلى فراشه البطريركي، نفهم عندئذٍ أن المواجهة قد وصلت إلى الذروة.
لن تستسلم ليلى، رغم قدوم والدتها من المخيم لزيارتها، التي تنقل لها تهديدات العجوز بلطف ولين… العاصفة الغبارية بغضبها الشديد في البلدة تأخذ رمزيتها أيضاً داخل ليلى. الطبيعة تعلن غضبها، كما ليلى. خرج المارد من قمقمه، ولن يعود إليه، فتُصَّعد ليلى المواجهة، ليس بالصمت الذي لم يعد يُجدي، وإنما بتقديم نفسها، في لحظة قدسية، أضحية عشتارية في وجه كل الظالمين؛ أضحية كي تنقذ أخاها أحمد من غياهب “المعتقل”، كما تنقذ الإلهة عشتار حبيبها الإله تموز من ظلمات العالم السفلي. يتحرر الإله تموز من ظلماته في العالم السفلي، حيث كان محتجزاً، فيمارس طقوس الخصب مع عشتار من جديد، ليظهر الخير مع ربيع الحياة (كما مع ثورات الربيع العربي، التي كان من المفترض أن تجابه استبداد الخريف العربي).
هكذا، تقدم ليلى نفسها أضحية على مذبح حرية أخيها، لقمع جلاده، وجلادها العجوز. تمضي إلى موتها راضية تحت شجرة الزيتون، رمز التجذر في الأرض والذاكرة والحكاية، وتهطل الأمطار غزيرة مدرارة على البلدة، كما لم تهطل من زمن بعيد. تغتسل الأرض الجرداء الكئيبة العطشى من أحزانها وقهرها بالمطر، كي تتجدد زيتوناً واخصراراً. ويخرج أحمد من “المعتقل”، يجتاز صحراء الحدود الخطرة، التي يترصد فيها له الموت في كل خطوة، كما كان يترصد لأوديسيوس في بحار عودته، وينجوان. تنجح تضحية ليلى بنفسها ورمزيتها على مستوى الوطن بإنقاذ أخيها أحمد. “الحرية” تحتاج إلى التضحية، كي نتحرر من الظلم. ومع تضحية ليلى، “موتها”، يختفي الراوي وربابته. انتهت أسطورة ليلى التراجيدية.
لكن الأسطورة تحتاج إلى نهاية، عندما يفرج الجلاد عن أحمد من “المعتقل الدموي”، كي تبقى حكاية محفورة في جدار الذاكرة، تتحدى الزمن. يعود باحثاً عن أخته، وعن أحلام الطفولة الشفافة المفتقدة، في زمن كانا يعيشان فيه بحرية. وعندما أراد الانتقام من العجوز الجلاد، يعرف أن “من حبسوك هم الذين قتلوها”، و”نحن جميعاً قتلناها”. يقرر أن ينتقم على طريقته، بأن يرسم الحكاية على جدار الزمن للذاكرة والتاريخ، حكاية طفولته مع أخته، حكاية جيل، وأجيال ناضلت طويلاً من أجل الحرية ولازالت.
ينتهي الفيلم، وتلاحقنا الموسيقى والمكان، قصيدة بصرية مذهلة. وستذرف دمعة مع أحمد، إذا شاهدته بشفافية روحك.
كل منا يكتب “الحكاية السورية” بأصالتها وتوقها للحرية بطريقته، بعيداً عن سلطة “البوط العسكري” و”السيف الإسلامي”. نحن نهزمهم بحكايتنا التي ستوثق نضالات سلمية طويلة من أجل الحرية. أحمد يكتبها بذكريات حريته رسوماً على جدار الزمن، وثائر موسى المبدع يكتبها بفيلمه “مزار الصمت” (وأنا أحاول أن أكتبها بمشروعي الروائي).
الحكاية السورية هي حكاية “ربيع عربي” يتوق إلى “الحرية”، وثائر موسى أبدعها قصيدة بصرية خالدة، للذاكرة وللمستقبل، قصيدة أعادت المعنى لإنسانيتنا المهدورة، قصيدة أعادت للسينما السورية ألقاً شاعرياً، اختفى تحت سطوة “الديكتاتور” و”شبيحته” الذين يتزيون بالثقافة شهادة تزوير للتاريخ.
كم من الإسقاطات السياسية للفيلم على “الربيع السوري” و”الربيع العربي”، وعلى كل “ربيع قادم”. والأهم كم من الإسقاطات الإنسانية عن كرامتنا المهدورة. هو حكاية الإنسان الثائر الباحث عن الحرية ضد “الديكتاتور ومعتقله”، وضد كل “الاستبداد الشرقي” الذي مازال متشبعاً في ذواتنا المتعجرفة. الفيلم هو حكاية “المرأة الرمز عشتار”، التي ضحت بنفسها في “المعتقلات”، وفي “مخيمات التهجير”، وفي “المنافي”، كي تعيش فكرة الحرية.
ثائر شاعر متألق بقصيدته البصرية “مزار الصمت”. وهذا الفيلم لن تستطيع مشاهدته إلا بروح شفافة، وترغب بالعودة إليه مراراً وتكراراً… ثائر هو ثائر، صدى التوق في ذواتنا إلى حكايتنا، إلى حريتنا.
شهد الكاتب هرمان هسّه، الحائز على نوبل 1946، الحربين العالميّتين الأولى(1914-1918) والثانية(1939-1945) وناهضهما بشدّة، كمناهضته للحروب عامّة. في مقال بعنوان “الحرب والسلام”، كتبه سنة 1918، يقول:” إنّهم على حقّ وبلا أدنى شكّ أولئك الذين يصفون الحرب بأنّها حالة بدائيّة وطبيعيّة. ولطالما يتصرّف الإنسان مثل الحيوان فإنّه يعيش الصراعات دوماً. والسّلام أمر يصعب تعريفه ونحن لا نعرفه، إنّما بإمكاننا الإحساس به والبحث عنه، هو مثلٌ أعلى إنّما شديد التعقيد، لا استقرار له وجميعنا يعرف القاعدة الجوهريّة:” لا تقتل!”.”لا تقتل” لا تعني ألّا تؤذي غيرك! بل ألّا تحرم نفسك من الآخر كي لا تؤذي نفسك.”لا تقتل” تكاد تعني “لا تتنفّس!” ويرى هسّه أنّ الخوف لا يعلّم البشر، ولطالما يجدون في الحرب متعة فلن يأبهوا بذكريات الخراب والدمار، أو يرتدعوا عن إشعالها باستمرار.
لكنّ هسّه بدا أكثر تفاؤلاً في مقال آخر كتبه 1948، بعنوان “عن رومان رولان”، المفكّر الثوري والأديب الفرنسيّ الحائز على نوبل 1915، بيّن فيه إمكانيّة تحقيق السلام انطلاقاً من إيمانه بالمعرفة؛ معرفة الداخل الإنساني وتلمّس الطاقة النورانيّة الكامنة فيه. وبوجود كثير من المؤمنين الصادقين خارج الكنائس والطوائف يرعبهم انحطاط الروح الإنسانيّة وتغييبها للسلام وزعزعة الثقة في العالم، من بينهم رومان رولان، وليو تولستوي أستاذ هذا الأخير، والمهاتما غاندي الذي خصّه رولان بأحد مؤلّفاته. يقول هسّه:” مات الثلاثة العظام لكنّهم ما يزالون أحياء في قلوب الآلاف، يؤازرونهم لصون إيمانهم ورفع مشاعلهم لتنوير هذا العالم البليد والفاقد للعقل.”
وإذاً، لا أمل في تحقيق سلام مستقرّ إطلاقاً، لتتأبّد صرخة كازينتزاكس التشاؤميّة:” لا جدوى يا يسوع، لا جدوى.” خاتمة روايته شبه الملحميّة “المسيح يصلب من جديد”، وتحكي إلى جانب آلام المسيح خلال صلبه، عن صراع البشر التاريخيّ لخلق حياة إنسانيّة أرقى. إنّما عبثاً! صدرت الرواية سنة نشوب الحرب العالميّة الثانية، وبعد عامين من صدور رواية إيريش ماريّا ريمارك “لا جديد على الجبهة الغربيّة.” وعندها أتوقّف قليلاً لأسباب أدرجها فيما يأتي.
يعدّ النقد “لا جديد على الجبهة الغربيّة” من أفضل الروايات التي تناولت موضوع الحرب، إن لم تكن أفضلها. صدرت عن دار أثر/الدمّام 2020، في نسخة جديدة، وللمرّة الأوّلى في ترجمة مباشرة من الألمانيّة إلى العربيّة، أنجزتها المترجمة ليندا حسين.
تحكي الرواية عن الإنسان وتحديداً عن الجنديّ في خوضه الحرب العالميّة الثانية. سبعة جنود/شخصيّات الرواية الرئيسين، زملاء صفّ مدرسيّ واحد في سنّ الثامنة عشرة. يجدون أنفسهم بغتة بعيداً عن الأهل والديار غرباء على الجبهة الغربيّة؛ مكان هو مسكن للموت المتربّص بهم كوحش جائع، للحمّى، للهذيان والجنون! وفيه سيكتشفون العالم وأنفسهم؛ حقيقة قيمهم وأخلاقهم؛ أفكارهم وقناعاتهم، إزاء خيارين وحسب، أن يكونوا قتلة أو مقتولين في حرب لا تخصّهم بشيء، حرب غير شرعيّة ولا أخلاقيّة هدف قادتها الوحيد توسيع نفوذهم وأطماعهم الاستعماريّة. فإقرار الحروب تتفرّد به الحكومات والسلطات السياسيّة، فلم يحدث في التاريخ أن شنّ شعب حرباً على شعب آخر، والشعوب هم وقود الحرب وضحاياها. تلك حقيقة موجعة واجهها الأصدقاء، ليتعاطف الراوي الجندي بول بويمر مع جنديّ فرنسيّ عدوّ مصاب، ويحاول إنقاذه.
عند استشهاد أوّل الزملاء، يطرح الجندي بويمر السؤال العبثيّ المؤلم: “الآن يرقد هنا، لأجل ماذا؟” سؤال يصعب حدّ الاستحالة أن يطرحه جنود يخوضون حرباً شرعيّة أخلاقيّة وواجبة وطنيّاً تقرّرها الشعوب بنفسها لطرد الاحتلال من أراضيهم. شاسع هو الفرق بين حرب استعماريّة، وبين حرب شعب يقاوم الاستعمار لتحرير بلاده، وصون ذاكرته ولغته وهويّته الموحّدة، كحرب غزّة ضدّ الكيان الصهيونيّ الغاصب.
في رواية ريمارك، تباغت الجنود الزملاء اكتشافاتهم المريرة: نفاق العالم وانحرافه بمؤسّساته المختلفة؛ التربويّة والتعليميّة، العسكريّة والدينيّة! فما الذي تغيّر في العالم حتّى اليوم؟ لا شيء! تكفي حال البلدان العربيّة في حروبها الراهنة شواهد لاستفحال النفاق والفساد والاستبداد وقتل حتّى المشاعر الوطنيّة، إضافة إلى توحّش هذا العالم “الفاقد لعقله” الذي تديره وتقرّر مصيره المصالح الخاصّة لثلّة من دول العالم “المتحضّر” الاستعماريّة أصلاً، تتسيّدها أمريكا! ومن بين فضائل المقاومة الغزّاويّة الفلسطينيّة الباسلة تعريتها للكيان الصهيونيّ الهشّ واللّا أخلاقيّ، وفضحها للعالم الرسميّ وضميره الميت، وللموقف العربيّ الذليل! حقّاً، يستحضر الغزاة حكّاماً عبيداً لهم، طغاة على شعوبهم. فتحالفهم حتميّ لضمان استقرارهم معاً!
في عودة للرواية، قتلت الحرب جسد الراوي بويمر، في حين قتلت روح الروائيّ ريمارك الذي خاضها بدوره. وسيثير كلاهما غضب هتلر والنازيّين، فتُحرق الرواية وكتب أخرى لريمارك، تُسحب منه الجنسية، وبدمغة خائن للوطن يُنفى إلى الخارج! وأدى تصاعد حدة التطرّف النازيّ إلى منعه من العودة إلى وطنه، ليموت في منفاه. ويجنّ جنون النازيّين لعرض أوّل فيلم مأخوذ عن الرواية ذاتها في ألمانيا، لدرجة أنّهم خلال العرض أثاروا الصخب فوق رؤوس المشاهدين، وأطلقوا الفئران بين أقدامهم! هترليّون نازيّون متعطّشون لخوض حرب عالميّة ثانية انتقاماً لهزيمتهم في الحرب الأولى، فيُهزمون مجدّداً؛ دُمّرت ألمانيا وانتحر هتلر!
ألا يذكّر هتلر بجنون عظمته وإجرامه وسعيه لإبادة من ليسوا ألماناً، بالمجرم نتنياهو المؤمن بتشريع الدين الصهيونيّ العنصريّ لاستعباد من ليسوا يهودا/”الغوييم” وإبادتهم؟! ألا يتطابق موقف هتلر المتنصّل من معاهدة فرساي 1919، التي شاركت ألمانيا في انعقادها، وأشعل شرارة الحرب العالميّة الثانية بغية تحقيق النصر انتقاماً لهزيمة بلاده في الحرب الأولى، مع موقف نتنياهو الناكر لاتفاق “أوسلو”-غير العادل أصلاً بحقّ الشعب الفلسطينيّ وخرقه لقوانين الحرب الدوليّة، ليمعن وما يزال في ارتكاب مجازره المروّعة انتقاماً لهزائمه المتلاحقة؟ يعجزه صمود المقاومة المدهش، صاحبة الأرض الشرعيّة، وقد عرّته أمام العالم: فنتنياهو ليس مقاتلاً، إنّما مجرّد قاتل متوحّش! ثمّ ألا يماثل نتنياهو هتلر بمحاولات طمسه لكلّ ما يصدر من نقل للوقائع والحقيقة، سواء صدر عن المقاومة أو عن أبناء جلدته، ولهؤلاء قانون لعقوبتهم؟ وقد بلغ الكذب والتزييف والتزوير لديه مبلغاً عالي الصفاقة، كأسلافه الصهاينة، بدءاً من تزوير التاريخ وليس انتهاء بآخر كمين أوقعت وستوقع فيه المقاومة جنوده! وما يزال يلزمهم من الأكاذيب والتزوير زنة ثلاثة آلاف عام من عمر وجود الشعب الفلسطيني على أرض كنعان العربيّة، الاسم الذي رافقها حتّى سنة 1200ق.م، مع غزو القبائل الكريتيّة لها، فسمّيت فلسطين وبقيت للفلسطينيّين وحدهم.
أليست الصهيونيّة الوجه الآخر للنازيّة؟ وفي الأحوال كلّها، الطاغية هو الطاغية!
ورجوعاً للرواية، وفيها نلقى اختلاف حول مآل معنى الكتابة وجدواها، في حالات الإحباط، فقد باتت تمثّل لبويمر اليائس خلاصاً شخصيّاً وفرديّاً. أمّا لدى ريمارك فإلى جانب أهمّيّتها على الصعيد الشخصيّ، فلها هدفها الأخطر على الصعيد العام، وضمّن روايته صرخته الإنسانيّة لشجب الحروب وإيقافها، وتحقيق حياة إنسانيّة عادلة وكريمة هي حقّ شعوب الأرض قاطبة. صرخة ساهمت في شهرة الرواية الواسعة.
لا شكّ تبقى الكلمة سلاح المثقّف الأوحد لمحاربة الظلم والطغيان، وتجفيف الحبر محال كتجفيف البحر. حتى وإن دفع مثلاً غزو الصهاينة لبيروت وحصارها 1982 بخليل حاوي للانتحار، ولشلل الكتابة لدى محمود درويش لأربع سنوات. لكنّ درويش تجاوز إحباطه، ففي سنة 1985، أجاب على سؤال أحد محاوريه عن دور الشاعر الفلسطينيّ في ظلّ غياب الأمل المطبق، قائلاً:” أن تكون شاعراً فلسطينيّاً، في هذه اللحظة، معناه أن تحوّل تساؤل هاملت إلى حسم، فبدلاً من القول:” أن تكون أو لا تكون عليك أن تقول:” أن تكون أو تكون: هذا هو القرار.”
إذاً، حين تعجز الكلمة وتسكت على السلاح أن ينطق. فلا حياة إنسانيّة حقيقيّة في أرض محتلّة!
ومجدّداً، وبحزم أشدّ اتخذت المقاومة الفلسطينيّة اليوم “القرار”.
روزا ياسين حسن روائية وكاتبة سورية. درست الهندسة المعمارية، وتفرغت للكتابة. ألفت العديد من الروايات وكذلك الكثير من المقالات الثقافية والأدبية في العديد من الدوريات العربية والأجنبية. وهي ناشطة نسوية، وعملت كثيراً على قضايا النساء. أصبحت منذ العام 2015 عضوًا في نادي القلم الدولي PEN وتقيم منذ نهاية عام 2012 فيألمانيا.
عنوان الكتاب: بحثاً عن كرة الصوف – ثلاثة أيام من متاهة المنفى.
الكاتبة: روزا ياسين حسن
الجنس الأدبي: رواية
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر.
سنة النشر: 2022.
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
روزا ياسين حسن (ر.ي. ح): إنها أول رواية لي تدور حول عوالم المنفى. احتجت سنيناً طويلة كي أستطيع الكتابة عن المنفى، كمن علق في مستنقع، لم أستطع استيعاب غرقي القسري فيه، لا استيعاب الصدمة الأولى التي استطالت كثيراً، كما لم أستطيع الخروج منه ولا التنفس فيه! الفكرة معجونة بتجارب شائكة خضتها، كما خاضها آلاف اللاجئين/ اللاجئات في منافيهم اليوم والبارحة وغداً. منبعها الأساسي هو البرزخ الذي نعلق فيه كأرواح معاقبة، التروما العميقة في دواخلنا كلنا، وفي كل شخصية من الشخصيات العديدة المختلفة، وأحياناً المتناقضة، التي تحفل بها الرواية، والتمظهرات المختلفة كذلك للتروما. تطوّر الرواية يتلخّص في صراعنا الشخصي والعام مع تشعبات متاهة المنفى، كمن يبحث عن كرة الصوف/ خلاصه الفردي التي ستخرجه من المتاهة. وكلما مرّ الوقت راحت المصائر المختلفة للشخصيات تتعقّد وتتشعّب وتتفارق.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرواية؟
(ر.ي. ح): عوالم المنفيين/ المنفيات، العوالم الجديدة التي ألفوا أنفسهم فجأة في خضمّها، خيالاتهم، أحلامهم، الشروخ العميقة التي يقعون فيها، مآزق الحياة الجديدة، تحدّيات العيش، والبحث عن الذات في مكان يخلخل الهوية والانتماء الذي حملوه معهم، كمن يبحث عن ذاته وسط أكوام قش متراكمة، وكمن يحاول إعادة تعريف بديهياته، التي كانت حتى لحظة اندلاع المنفى بديهيات. أو كمن يحاول إعادة تعريف ذاته كما تعريف الآخر. هي رواية حافلة بالأسئلة.
(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ر.ي. ح): أنا روائية، والرواية هي العالم السحري الذي بنيته وسكنت فيه من زمان. ولولا ذاك العالم/ التخييل لما أمكنني إكمال العيش في هذا العالم/ الواقع. الرواية هي التاريخ السري الذي يمكننا نحن “المهزومون” كتابته، تاريخنا الحقيقي، فالتاريخ الرسمي لن يكتبه إلا المنتصر/ المستبد. وأعتقد أن الحكاية هي التي تجعل التاريخ الذي نريده موجوداً، تخلقه ببساطة، مما يعني أن الحكاية مع الزمن هي التي ستكوّن التاريخ الذي سيقرأه القادمون فيما بعد إلى هذه الحياة، لذلك فنحن عبر الرواية نشارك في كتابة تاريخنا. والتأثير الذي تتحدّث عنه لن يكون بالتأكيد تأثيراً آنياً مباشراً، وإنما حفر بطيء صعب ولكن عميق في وجدان البشر.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ر.ي. ح): الرواية عالم موازٍ تبنيه وتعيش فيه بلحمك ودمك، لذلك فهو تجربة عيش حقيقية. في هذه الرواية كنت “مريضة” تكتب عن “مرضى”، باختصار. شخصية من شخصيات الرواية عالقة في تلك المتاهة وتكتب عنها. يعني أن أكتب عوالم التروما وصراعات المنفيين مع أنفسهم والحياة الجديدة أمر ليس بالسهل إذا كنت بنفسي واحدة منهم. كضحية تعيد عيش تجربتها وألمها مرة تلو أخرى.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ر.ي.ح): هذه هي روايتي السابعة، أول رواية كانت في العام 2004 “أبنوس”، مروراً بروايتي التوثيقية “نيغاتيف”، ثم “حراس الهواء”، “بروفا”، “الذين مسّهم السحر”، و”بين حبال الماء”، والآن رواية “بحثاً عن كرة الصوف”، بالإضافة إلى أكثر من كتاب مشترك.
(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ر.ي. ح): بالتأكيد. حتى تتمكّن من فهم نفسك وفهم الشخصيات الأخرى من المنفيين/ المنفيات، وتمظهرات التروما المختلفة لدى كل منهم، يجب أن تفهم المعنى العميق للتروما، بالمعنى السيكولوجي والثقافي والاجتماعي، وأين تكمن في دواخلنا وكيف تظهر فجأة مدمّرة كل شيء حولها. تماماً كما يجب عليك أن تطّلع قدر الإمكان على التجارب الإبداعية الأخرى التي كتبها غيرك من المبدعين/ المبدعات حول تجارب المنافي. على كل حال أظن ان الرواية صديق فضّاح، يفضح ثقافة الكاتب/ الكاتبة وعوالمه المعرفية وبنيته الثقافية وقدرته على التحليل والفهم والإحاطة بالحدث، والأهم ديمقراطيته. بمعنى أن “الكتابة الديمقراطية”، إن صحّ التعبير، تمكّن الآراء المختلفة والتفاصيل الشخصية للشخصيات المتباينة من طرح نفسها بدون أحكام قيمة.
(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول إنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟
(ر.ي.ح): لا توجد وصفة سحرية ومنجزة تجعلنا نقول، إذا تمّ تحقيقها، إن هذه الرواية إبداعية. الإبداع مفهوم شائك وخبيث ومخاتل، والرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية تملّصاً من التعريف أو التصنيف. ربما لذلك استطاعت أن تطوّر نفسها على طول الوقت، وتتجاوز أية قوالب جاهزة ومعدّة لها.
بالنسبة لي باختصار، الرواية التي تجعلني، بأية طريقة من الطرق، بعد قراءتها مختلفة عمّا كنت قبلها، سواء بالمعنى الثقافي المعرفي أو الإحساسي أو الجمالي، أو التي تهبني لحظات من المتعة، هي الرواية الإبداعية برأيي.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ر.ي. ح): أفكر بالتأكيد في مشروع جديد، خصوصاً وأن نشر رواية يجعلك تقتنع بأنها لم تعد تنتمي إليك، كأنك غادرت وطنك مجدداً، وأن عليك التفكير في شيء جديد تنتمي إليه. أي أن تبدأ بخلق ذلك العالم الموازي الذي حدّثتك عنه، والذي بدونه لا يمكن إكمال العيش.
مقطع من رواية “بحثاً عن كرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى”
غذّ “سرمد” السير مبتعداً فقد تأخّر عن موعده أكثر من نصف ساعة. سمع حديثاً بالعربية من قبل جماعة من الرجال مرّ بقربهم، لكنه لم يلتفت إليهم، فهو أمر مألوف في هذه البقعة من مدينة هامبورغ التي تمتلئ بالمهاجرين ومنهم الكثير من العرب. ثم أن حديثاً بالعربية لجمع من الرجال يرمقونه بقرف واستهجان يجعل السائل الحامض ذاته ينزل معدته حارقاً ما يمر في طريقه. لم يعد يتخيّل أن يقيم أية علاقة عاطفية مع أي رجل سيخاطبه بالعربية. كلمات الحب الحميمة بالعربية صارت بالنسبة له أقرب إلى شتائم، لا يقولها إلا زبائنه المقرفون ومتحرّشو الطرقات.
بشع كتير أن تتحوّل لغتك الأم إلى لغة تمارس عنفاً معك، تحتقرك وتذلّك!
قال “سرمد” ذات يوم لـ”مصطفى” في إحدى نوبات بكائه القاسية.
لكن الأخير كان قد اشترط سلفاً على “سرمد” أن يأتيه اليوم بملابس عادية، تناسب شاباً طبيعياً في مثل عمره، لا تلك الملابس التي تجعله يبدو أقرب إلى عاهرة غنجة ذاهبة لاصطياد الرجال. ببساطة بنطال جينز وبلوزة عادية مع الجاكيت. دون أي أثر لمساحيق التجميل على وجهه، ولا حتى لبعض الماسكارا السوداء على الرموش والتي تظهر واضحة جلية وصادمة حين تنعكس على زرقة عيون “سرمد”. لم يتعب نفسه ويذكر شيئاً عن كريم الشعر، الذي يضمّخ “سرمد” به شعره كي يصفّفه إلى الخلف ويبقى لمّاعاً حيوياً، فهو متأكد بأن صديقه لن يتحرّك خطوة من دونه.
وهو يغذّ السير، تذكّر “سرمد” لوهلة الكابوس الذي استيقظ عليه اليوم، هجمت عليه المشاهد كوحش جائع! كان في منطقة شبيهة للغاية بهذه المنطقة، وعيون الرجال في الكابوس، الذين كانوا يراقبونه وهو يُغتصب وسط الشارع، شبيهة للغاية بعيون هؤلاء الرجال، محتقرة هازئة ومليئة بالتشفّي. هو يصيح من الألم وهم يقهقهون.
نفض رأسه بقوة كي يطيّر الذكرى، لكن غصّة قلبه لم تغادره، وشعر برغبة عارمة في البكاء. حين سيرى “مصطفى” سيحكي له عن كوابيسه، وسيقول له إنه لم يعد يميّز بين كوابيسه وواقعه، لم يعد يعرف إن كان ما حدث معه الليلة الفائتة مثلاً هي حقيقة أم كابوس! وسيسأله “مصطفى”: ما الذي حدث؟! لكنه لن يخبره بشيء.
في العمل لا يعرف أحد حقيقة “مصطفى” البتة، هم يعرفون فحسب بأنه شاب في الثلاثين من عمره، درس علوم الكيمياء في سوريا، وولد في إحدى ضواحي المدن السورية، تلك البلاد المنكوبة التي كانت تتصّدر نشرات الأخبار الألمانية كمثال عن المدن العريقة الأثرية التي تحطّمها يد الغوغاء. الغوغاء في نشرات الأخبار الألمانية غالباً لا شكل لهم ولا لون، هناك داعش والإسلام المتطرّف على الأرض، وهناك من يضرب من السماء على المدن ولكنه مجهول، لا اسم له في الغالب، إلا حينما يكون الأمر أوضح من أن يتمّ إغفاله، فيخرج اسم النظام السوري أو حليفه الروسي ضعيفاَ حيّياً كمسؤول عن إلقاء البراميل المتفجرة والغارات المتلاحقة على مناطق المتمردين.
Oh Syrien, arme, schade, es ist wirklich eine Katastrophe.
آه سوريا، مساكين، يا للخسارة، إنها حقاُ كارثة!
يتأوّه زميله الألماني في العمل كل صباح ويهزّ برأسه أسياناً، حتى أن “مصطفى” كان يشعر في بعض الأحيان بأن عليه مواساة ذلك الألماني على مصاب سوريا وليس العكس!
لكنه فجأة يقف نافضاً تلك الفكرة اللئيمة الساخرة من رأسه:
هل نكون قد تحوّلنا إلى تماسيح؟! صخور؟! أم أن الكوارث حين تتوالى لا يعود لمساحة التعاطف والحزن مكان، التعاطف حتى مع أنفسنا وأحبابنا! لا يعود هناك وقت لنبكي أو نندب، المكان والوقت كله مسخّر لنبقى على قيد الحياة، لنكمل السير في تفاصيل متشعبة للغاية في هذه الحياة التي ينبغي أن تستمر.
على الرغم من أن “مصطفى” كان ينتظر كل يوم خبراً مشؤوماً، خبراً صاعقاً يتوقّعه، وراحت روحه بكليتها تتقبّل قدومه، حتى أنه من الممكن أن يستمر في حياته هذه لو سمع بأن كامل عائلته رحلت في قصف ما قد يحدث في أية لحظة!
ألهذه الدرجة يمكن أن يعتاد المرء الكوارث والفقدان!
كان على “سرمد” أن يأتي لرؤية “مصطفى” اليوم، فالأخير أخبره قبل عدة أيام بأن صاحب البيت الألماني الذي يسكن فيه وافق أن يؤجّر “سرمد” غرفة في البيت مقابل أجار زهيد، وفي البداية دون أي أجار حتى تتحسّن أوضاعه الاقتصادية المتأزّمة، وذلك دعماً منه للشباب المثلي الشرقي، “ذاك الذي يخوض حرباً حقيقية ضد عاداته وتقاليده ومجتمعاته وذاكرته التي تضطهد المختلف وخصوصاً المثليين”، حسب تعبيره. يقولها هكذا وهو يضمّ قبضته ويدفعها في وجه الفراغ أمامه، كأنه يكيل ضربة قاضية لتلك التقاليد والعادات والمجتمعات والذاكرة! حتى أن “مصطفى” تمنى فعلاً لو أنها تتحوّل إلى كتلة مادية، لكان مزّقها نتفاً بأظافره وأسنانه ويديه ورجليه!
تنحدر أصول صاحب البيت من قرية صغيرة قريبة من العاصمة “برلين”، لكنه يسكن في مدينة “هامبورغ” منذ مدة طويلة، وعلى الرغم من أن “برلين” تعتبر من أكثر المدن الصديقة للمثليين في العالم، إلا أنه اختار كمثليّ مدينة “هامبورغ”، المدينة البحرية المنفتحة، للعيش فيها، مدينة تقبل المختلف وتعتبر نسبة المثليين فيها من أعلى النسب في المدن الألمانية.
صاحب البيت يسكن مع شريكه، الذي يصغره بعشر سنوات، منذ أعوام طويلة. رغم أنهما لم يتزوجا إلا قبل مدة قليلة. وهو حريص أن يظلّ النادي الذي أسسه باسم: نادي قوس قزح Rainbow Club، فاعلاً ونشيطاً ومستقطباً للكثير من الشبان المثليين، خصوصاً الشرقيين منهم. يتفاخر أمام أصدقائه بأن هناك أكثر من سبعين شاباً سورياً من أعضاء النادي، لا يتأخرون عن حضور اجتماعاته وأنشطته وحفلاته، وكذا الخروج في مظاهراته المناهضة للعنصرية والهوموفوبيا. وهو إذا وافق على سكن “سرمد” في البيت فلأنه لا يمكن أن يقبل شخصاً في بيته لا يحترم ويفهم ماذا يعني أن يكون الرجل مثلياً، ويعيش مع زوجه الحبيب.
رغم أن المثليين في بلداننا يا ستيف لا يعيشون في سلام تام داخل مجتمعاتهم الصغيرة، إلا أن القوانين في النهاية تحميهم. أما أنتم فلا قوانين ولا دعم اجتماعي يقف إلى جانبكم.. مساكين. علينا أن نكون سوية فليس لنا إلا دعم بعضنا..
ثم غمز صاحب البيت “ستيف” وقهقه بألم وهو يجهّز سلطة خضراء لطعام العشاء.
“ستيف” هو اسم “مصطفى” الذي يعرفه كل الناس به في وطنه الجديد “ألمانيا”، إلا ابن بلده “سرمد”.
يبدو صاحب البيت الألماني وهو يكلّم “مصطفى” كأنه يهجّي كلماته في درس لغة، فيما يتكلّم مع زوجه بسرعة لا يكاد “مصطفى” يلتقط من حديثهما شيئاً!
“مصطفى” يشعر حقاً بأن هذا وطنه، هذا ما يكرّره دوماً أمام “سرمد”. على الرغم من أنه يعيش شخصيتين متناقضتين تماماً:
في النهار يعمل كأي رجل ملتحٍ و(شديد) في مستودع الأدوية، ولا يمكنه أن يسمح لأي تفصيل صغير يشي بحقيقته أن يظهر أمام زملاء العمل، حتى لو كانت ثياب صديقه الآتي ليزوره في العمل.
أما في الليل فيتحول إلى “ستيف”، يرتدي ثياب النساء وحليهنّ ومكياجهنّ ويذهب للسهرة في بارات المثليين والعابرين الجنسيين. يحرص على اختيار الثياب الأنثوية الملونة المليئة بالدانتيلا والشبك والتزيينات، التي تجعله يبدو بالفعل امرأة بكامل أنوثتها، ولولا تلك اللحية المشذّبة الناعمة لما شكّ أحد بأنه امرأة حقيقية، خصوصاً حين لا يخرج ليلاً إلا بستيانات محشوة بإسفنجات سميكة تظهره بثديين عارمين، تضفيان على مظهره أنوثة إضافية شهيّة.
“الأمر بيشبه وقت كنّا في سوريا قبل الحرب”.
يقول لي “ستيف”، “كان ينبغي أن نكون بشخصيتين: شخصية المواطن البعثي المؤمن بالقائد وحزبه، واللي ما ممكن يعمل أي شيء فيه معارضة، وفي البيت وبين الأوساط المغلقة الموثوقة نشتم الرئيس وحزب البعث والقيادة الحكيمة والقدر الذي جعلنا في مثل هكذا بلد يحكمه مجموعة من الطغاة العرصات.. أرأيت؟! مو بس هيك، بل أكثر من شخصية اجتماعية متناقضة لذات الشخص أيضاً، أمام العائلة شيء، وفي المجتمع المحيط شيء آخر، وفي غرفتك أمام كومبيوترك والتشاتينغ شيء ثالث لا يشبه ما سبق. التناقض، الشخصيات المتناقضة المختبئة فيك، أمر معتاد في مجتمعاتنا. بل تربينا عليها.. صحيح؟! استتروا، داروا، خبّئوا.. وهكذا، أنا معتاد على الأمر، بل أستمتع به! يعني.. أممم.. أقصد أن أكون بشخصيتين متناقضتين أو أكثر، لا يمكن لأحداهما أن تشي بالأخرى أو تؤثر عليها أو تتأثر بها! عالمان متوازيان تماماً!”.
يمدّ “مصطفى” كفيه إلى الأمام بشكل متواز وهو يعيد الفكرة ذاتها مجدداً أمام صاحب البيت وهما يلتهمان عشاءهما.