قوننة الإجهاض الآمن حق أم ترف؟

قوننة الإجهاض الآمن حق أم ترف؟

شغلت الموافقة الدستورية التي أقرتها فرنسا منذ أيام بحق المرأة بالإجهاض -الرأي العام- وأعادت النقاش القانوني حول حقوق النساء في تقرير مصير حملهن، من خلال السماح لهن بموجب القوانين باتخاذ قرار الإجهاض في العلن ودون استغلال.

وكان “الإنهاء الطوعي للحمل” في فرنسا قانونياً منذ عام 1975، حيث أجاز القانون عمليات الإجهاض حتى الأسبوع العاشر من الحمل، وأجريت عليه تعديلات ليصبح حتى الأسبوع الثاني عشر من الحمل، ثم إلى الأسبوع الرابع عشر من الحمل عام 2022.

وقد أتى هذا الحق في تقرير المرأة لمصير حملها كردٍ على قرار اتخذته المحكمة العليا الأمريكية في حزيران عام 2022 والذي قام بإلغاء الحق الدستوري للمرأة الأمريكية في الإجهاض والصادر منذ نحو 50 عاماً.

أما باقي دول العالم فهي لا تزال بين رافض له وبين مؤيد لكن بشروط، ففي هولندا، يُسمح بالإجهاض شريطة ألا تتجاوز فترة الحمل أكثر من 24 أسبوعاً، أما في السويد يسمح حتى الـ 18 أسبوعاً.

أما الإجهاض في مالطا مثلاً فهو جريمة يعاقب عليها القانون بحبس يتراوح بين 18 شهراً وثلاث سنوات حتى في حالات الاغتصاب أو تشوهات الجنين الشديدة.

و في بولندا حظرت المحكمة الدستورية عمليات الإجهاض بسبب عيوب الجنين فيما جرى فرض حظر فعلي منذ مطلع عام 2021 على الإجهاض باستثناء أن يشكل خطراً على حياة الأم أو جاء نتيجة جريمة اغتصاب أو سفاح القربى.

وفي المجر جرى تشديد قواعد إجراء عمليات الإجهاض عام 2022 إذ بات يُطلب من النساء الراغبات في إجراء عملية إجهاض الاستماع إلى نبضات قلب الجنين قبل الإقدام على إنهاء الحمل.

أما ففي سورية فالقانون السوري يجيز الإجهاض في حالة واحدة وهي إنقاذ حياة المرأة ويعتبر في جميع الحالات الأخرى غير قانوني وتتم المعاقبة عليه.

واحد من أربع حالات من الحمل في العالم تنتهي بالإجهاض

الأرقام الصادمة تشير أن القوانين المانعة للإجهاض لم توقفه، بل على العكس زادت من معدلاته، وهذا ما أكدته منظمة العفو الدولية في تقاريرها إذ توضح: “أن عدم السماح بالإجهاض لن يمنع الإجهاض بل سيصبح بلا أمان، إن تجريم الإجهاض لا يوقف عملية الإجهاض إنما يجعلها أقل أماناً لأنّ عمليات الإجهاض تجري طوال الوقت بغض النظر عن القانون، و إن تجريم الإجهاض ضرب من ضروب التمييز يفاقم العزل الاجتماعي، وإنّ واحدة من أربع حالات من حالات الحمل في العالم تنتهي بالإجهاض” (١).

أجهضت نفسها دون علــم زوجها فطالتهـا يـــد العدالـــة

تحت عنوان “أجهضت نفسها دون علــم زوجها فطالتهـا يـــد العدالـــة” تصدّرت صحيفة الوحدة السورية جريمة نكراء مفادها أن رجلاً تقدم بمعروض إلى إحدى الوحدات الشرطية، مفاده إقدام زوجته التي يبلغ عمرها 32 سنة على إجهاض حملها عند أحد أطباء النسائية دون علمه، وهي حامل في الشهر الرابع، ورغم أنه أنذرها عدة مرات بعدم إجهاض الجنين، إلا أنها لم تستجب لطلبه وبالتحقيق معها ومع الطببب اعترفا بما نسب إليهما. ورغم تقديم بيان يشير إلى أنّ وضعها الصحي لا يساعدها على الحمل والولادة، لكن ضبطت أقوالها وقدمت مع الطبيب إلى القضاء، ذكرت كجريمة تستحق العقاب دون النظر إلى حقوقها ومشاكلها الصحيّة (٢).

مؤشرات الصحة العالمية تشير إلى زيادة معدلات وفيات الأمهات في سورية

لا توجد أرقام جديدة في سورية بعد عام 2010 حول عمليات الإجهاض وكذلك فيم يتعلق بحقوق المرأة الإنجابية ومقدار حصول النساء في سورية عليها، لكن القوانين كما هي تمنع وتعاقب على عمليات الإجهاض إلا بشروط ضيّقة جداً، تتعلق بالخطر على حياة الأم.

وبحسب تقارير “غاتماتشر” وهي جمعية خيرية تعنى بالصحة الإنجابية مقرها الولايات المتحدة الامريكية إن المرأة السورية هي من بين 37 بالألف من النساء اللواتي يجرين عمليات الإجهاض بصورة غير آمنه، حيث تقول: “إن الفرق بين الدول التي تجيز الاجهاض والتي تضع له شروطاً هو 37 لكل 1000 شخص بينما 43 لكل 1000 في الدول التي تسمح به” (١).

وحسب منظمة الصحة العالمية إن الأوضاع الإنسانية وحالات النزاع وما بعد النزاع تعوق التقدم في الحد من عبء وفيات الأمهات. ووفقاً لمؤشر الدول الهشة شهدت 9 بلدان، في عام 2020، “حالة تنبيه مرتفعة للغاية” أو “حالة تنبيه مرتفعة” ضمنها الجمهورية العربية السورية حيث بلغ متوسط معدل وفيات الأمهات في الدول الهشة ذات درجة التنبيه المرتفعة للغاية والمرتفعة 551 لكل 000 100، أي أكثر من ضعف المتوسط العالمي (٣).

القانون السوري يجرّم ويستثني

جرّم قانون العقوبات السوري في المادة 524 كل من باع أو عرض للبيع أو اقتنى بقصد البيع أية مادة من المواد المعدة لمنع الحمل أو سهل استعمالها بأية طريقة كانت.

وعاقب في المادة 526 من باع أو عرض للبيع أو اقتنى بقصد البيع مواد معدة لإحداث الإجهاض أو سهل استعمالها بأية طريقة كانت. وفي المادة 527 عاقب كل امرأة أجهضت نفسها بما استعملته من الوسائل أو استعمله غيرها برضاها تعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات. وعاقب في المادة 528 الأطباء أو غيرهم في حال إجهاضهم لامرأة ولو كان برضاها وشدد العقوبة في حال توفيت المرأة. أما إن تم إجهاضها دون رضاها فيعاقب الجاني بحسب المادة 529 التي تقول: “من تسبب عن قصد بإجهاض امرأة دون رضاها عوقب بالأشغال الشاقة خمس سنوات على الأقل، ولا تنقص العقوبة عن عشر سنوات إذا أفضى الإجهاض أو الوسائل المستعملة إلى موت المرأة”.

الاستثناء الوحيد في القانون غير المتعلق بالخطر على حياة المرأة هو الشرف، وهنا يستفيد الرجل والمرأة كما في المادة 531 التي تقول: “تستفيد من عذر مخفف المرأة التي تجهض نفسها محافظة على شرفها. ويستفيد كذلك من العذر نفسه من ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين 528 و529 للمحافظة على شرف أحد فروعه أو قريباته حتى الدرجة الثانية.

الناشطة النسوية ميه الرحبي: المسكوت عنه يقتل النساء

تقول الدكتورة مية الرحبي وهي طبيبة وناشطة بقضايا النساء في سورية: شهدتُ بحكم عملي كطبيبة لسنوات طويلة في سوريا، أن هنالك عشرات عمليات الإجهاض كانت تتم يومياً في أنحاء سوريا كلها بشكل شبه معلن في عيادات الأطباء أو على أيدي القابلات، في شروط غير آمنة وغير صحية، وتتسبب في اختلاطات كثيرة للأمهات وقد تؤدي لموتهن في بعض الأحيان، لكن ذلك كالكثير من الحوادث التي تخص النساء مسكوت عنه.

ومن خلال ممارستي الطبية لم أشهد أي عقاب طبق على امرأة تجهض نفسها أو مساعد طبي ساعدها في ذلك، حيث تباع موانع الحمل في جميع الصيدليات في سوريا علناً ولم يتعرض أي مروج لوسائل منع الحمل لأي مساءلة قانونية. بالرغم من أن القانون يعاقب بعقوبات تصل إلى السجن حتى السبع سنوات في بعض الحالات، وبحسب القانون يجب مساءلة الأطباء والصيادلة ومراكز حماية الأمومة والطفولة، بل وزير الصحة نفسه الذي يسمح بترويج وسائل منع الحمل.

 ما نطالب به كناشطات نسويات سوريات هو السماح بالإجهاض الآمن قانونياً، حفاظاً على أرواح أولئك النساء وصحتهن، فمنع الإجهاض منعاً تاماً غير ممكن في أي دولة في العالم، فلماذا لا يتم إذاً السماح به قانونياً؟

وتؤكد الدكتورة مية الرحبي أن القوانين الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان تحفظ لكل إنسان حق التحكم بجسده، فجسد المرأة ملك لها قبل أن يكون ملكاً لشخص آخر، وهي ليست أداة إنجابية، بل إنساناً من حقه امتلاك جسده والحفاظ عليه بما يرتئي، والمرأة مسؤولة في قرار الإجهاض أمام نفسها ومعتقداتها، وليس لأحد أن يسائلها عن ذلك. علماً بأن دولاً كثيرة أقرت حق المرأة في الإجهاض قانونياً، استناداً إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان، بل تم تثبيت هذا الحق دستورياً في فرنسا مؤخراً.

في عيدهنّ

أخيراً سورية ملزمة بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لإنهاء التمييز ضد المرأة “سيداو” التي صادقت عليها، لا سيما التشديد على المادة 12 المخصصة بالرعاية الصحية وتخطيط الأسرة، وهو ما يجب أن يترجم عبر إلغاء المواد القانونية التي تعاقب على تداول وسائط منع الحمل أو بيعها، وكذلك الإجهاض، وضرورة إصدار قانون الأمومة الآمنة والتي تسعى العديد من الدول لتضمينها ضمن قوانينها الداخلية.

وبمناسبة شهر آذار الذي نحتفل به بعيد المرأة (٨ آذار) وعيد الأم (٢١ آذار)، نـأمل إيجاد قوانين أكثر عدالة وحماية للنساء تعطيهن الحق بحماية أجسادهن وبملكيتهن المطلقة بأجسادهن.

هوامش
١) حقائق أساسية بشأن الإجهاض. منظمة العفو الدولية.

٢) أجهضت نفسها دون علــم زوجها فطالتهـا يـــد العدالـــة. موقع صحيفة الوَحدَة.

٣)وفيات الأمهات. منظمة الصحة العالمية.

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه الكلمة. ولعله كان شبيهاً بحكماء الهند أو الصين الذين عاشوا أفكارهم والتزموها في حياتهم.

ولد تيزيني في حمص السورية في (10/ 8/ 1934) وتلقى تعليمه الثانوي فيها ثم انتقل إلى ألمانيا، ليتابع دراسته الجامعية، فحصل على اللسانس ثم الدكتوراه في الفلسفة سنة 1973. ليعود بعدها إلى سورية، ويعمل في جامعة دمشق كأستاذ في قسم الفلسفة.

كانت أطروحته في الدكتوراه حول الفلسفة العربية في العصر الوسيط، وقد عمل على هذا المحور بعد ذلك، فقدَّم رؤية جديدة لهذا الفكر، عبر مشروع فكري يتألف من قسمين اثنين الأول خاص بقراءة التراث العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى وقتنا هذا. وقد اتسمت هذه القراءة بالطابع المادي الماركسي، معتمداً في تفسيره للحياة الاجتماعية والسياسية على عوامل مادية اقتصادية بالدرجة الأولى. وبرغم ذلك فقد تجاوز تيزيني فكرة الصراع الطبقي التي تمثِّل – في الفلسفة الماركسية – عماد أي تغيير اجتماعي، تجاوزها ليقر بإمكانية توافق الطبقات ضمن ما يسمى بالطيف المجتمعي الواسع.  

أما القسم الثاني من تلك القراءة، فقد انصب على تركيزه على عوامل النهضة وشروطها وأركانها، فشرع في كتابة مؤلفه “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي” وكتابه “من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني”، وانخرط بشكل فعلي في التنظير لقضايا الإصلاح النهضوي العربي ابتداءً من سورية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ثمة انعطافاً آخرَ أو نقلة نوعية في فكر تيزيني خاصة بمسألة النهضة العربية، وهي مرتبطة بانفتاحه على العامل الديني، وتمثل ذلك في إشراكه بعملية الاصلاح والنهضة، وهذا التجاوز تم في المراحل الأخيرة من تجربة تيزيني الفكرية والسياسية.            

ويعبِّر كتاب تيزيني “من التراث إلى الثورة” عن قناعات تيزيني الأولى حول مسألة الانتقال الحضاري للمجتمعات، وكان العنوان ترجماناً لتلك القناعات، وبتعبير تيزيني نفسه فقد كان يؤمن بأن مسألة الانتقال من التراث إلى المعاصرة أو الحداثة ما كان له أن يتم إلا عبر فعل ثوري، يكشف عنه الصراع الطبقي، تماشياً كما قلنا مع الوعي الماركسي في حتمية الصراع القائم على تناقض الطبقات وصراعها.

 لكن ونتيجة لتطورات عظمى حدثت في العالم، كسقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أحادي مسيطر على العالم، ونتيجة لموجات ما يسمى بالربيع العربي، وأخيراً نتيجة لفشل المشاريع القومية، كان لا بد من مراجعة جوهرية في المنظومة الفكرية لدى تيزيني، والتي كانت تقيم نوعاً من التعارض بين العوامل المادية التاريخية، وبين العوامل الذاتية، وتقوم على نوع من الإقصاء للعامل الديني ولحوامله الاجتماعية، لذلك كان لا بد من إعادة النظر في هذين العاملين.

ومن هنا كان تيزيني ينتقد كل القراءات الثقافية للتراث العربي والإسلامي لأنها جميعها لم تكن إلا قراءات أحادية، تركز على عامل واحد غالباً ما يكون ذاتياً لا تاريخياً. من هنا جاءت قراءة تيزيني كرؤية تاريخية وذاتية للفكر والتراث العربي الإسلامي. وخلال ذلك انصب نقده للمركزية الأوربية، لأن الفكر العربي ـ من منظور تلك المركزية الأوربية – عاجز عن إتيان الفلسفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فحسب تلك المركزية وعلى لسان رينان (1823- 1892م) وهو أحد أهم ممثليها “لم تكن الفلسفة لدى الساميين غير استعارة خارجية صرفة خالية من كبير خصب، غير اقتداء بالفلسفة اليونانية” ( تيزيني، 2002، من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة، ص 11).  وقد انصبت جهود التيزيني في نقض هذه المركزية من منظار تاريخي، مثبتاً أن الفكر الإنساني جهد متصل بحلقات متصلة من أوله إلى آخره، بما في ذلك الفكر العربي منذ ما قبل الإسلام وما بعده. بما ينسجم تماماً مع الفكر التاريخي الجدلي.

  وأذكر أنني كنت على موعد مع مناظرة أو مناظرات، جرت أو كانت ستجري بين تيزيني وبين محمد سعيد رمضان البوطي (1920- 2013)، وكان تيزيني وقتها يناقش قضايا التراث وبالذات النص القرآني من خارج النص، لكنه سرعان من اتخذ تكتيكاً جديداً وهو إجراء مناقشاته اللاحقة من داخل النص الديني، ولذا عمد إلى تأليف كتابه الهام جداً النص القرآني أمام إشكالية البنية و القراءة “كتعبير عن هذا التحول في الوعي التاريخي لدى تيزيني، فهو قد قرأ النص قراءة جدلية مركبة، وإن شئت فقل قراءة تاريخية. ومن شأن هذه القراءة “الإمعان في الروائز (العلاقات) التالية… بين الواقع والفكر، وبين الدال والمدلول، وبين الخفي والمعلن، وبين البنية والسياق…” (تيزيني، 1997، النص القرآني، ص 43).    

فمن جهة تم الانعطاف من الثورة إلى النهضة، لأن الوعي الثوري القائم على أساس الصراع الطبقي، لم يعد منتجاً؛ بسبب أن العلاقة  بين الطبقات في مجتمعاتنا العربية، ليست علاقة تصارع على نحو يقتضي الثورة والانقلاب، ومن جهة أخرى وبالنظر إلى الطبقة الوسطى وهي الطبقة الأوسع والأكثر انتشاراً، نجد أنها هي طبقة المؤمنين، فيكف يمكن تجاوز فعل وتأثير هذه الطبقة في أي فعل نهضوي ؟ يقول تيزيني: لا يمكن تجاوز هذا التأثير، وبالتالي فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار العامل الديني بأي مشروع نهضوي، وبنفس الوقت دون إغفال أهمية العامل المادي والتاريخي. ومن هنا فلا بد من تجاوز مسألة الثورة إلى مسألة النهضة، الأمر الذي يقتضي هذا التغيير الجوهري في المشروع النهضوي لدى تيزيني.

إذاً لم تعد الثورة القائمة على أساس الصراع الطبقي هي المبتغى، بل حلت النهضة محلها، وهذا لا يعني أن تيزيني لم يعد مفكراً ثورياً، لا أبداً، بل أصبحت الثورة لا تعني لديه فعلاً انقلابياً يحدث في ليلة وضحاها، بل هي لديه لقاء بين الجميع، وحوار بين الجميع من دون استثناء، من أقصى اليمين القومي والديني المتشدد، إلى أقصى اليسار الاشتراكي والليبرالي المتشدد هو الآخر. لقاء يجمع الكل من أجل إحداث تغيير نهضوي شامل.      

لم يكن تيزيني مفكراً تنظيرياً وحسب، بل كانت حياته تمثيلاً لأفكاره، فكان ينتمي للطبقة المتوسطة، وحسبي أنه عاش فقيراً، لم يكن يجد دوماً ما يلبي احتياجاته اليومية، كم كان شبيهاً بسقراط (469- 399 ق.م) وديوجين (412- 323 ق.م)، اللذين عاشا على هامش الحياة الفارهة. ومن جانب آخر نجده قد انخرط بالعمل السياسي تنظيراً وتنظيماً، وقد برز دوره السياسي في أوجه بعد بدء الاحتجاجات في سورية منذ 2011. فلم يتمترس خلف هذا الفريق أو ذاك، لكنه لم يكن محايداً حياداً سلبياً، ولا معارضاً معارضة تقليدية، ولا موالياً لنظام سياسي أو لحزب سياسي، بل كان ولاؤه وطنياً بامتياز، فاشتغل على مسألة معارضة استخدام العنف والعنف المضاد، ومارس تحريماً إنسانياً مقدساً، وهو تحريم الدم السوري، ورفض مغادرة البلاد، ورفض كل الإغراءات التي قُدمت له في الداخل والخارج؛ ليقدِّم تنازلاً في مواقفه لصالح هذا الفريق أو ذاك، واشترك في المؤتمر الوطني للحوار، كان بمقدوره بكلمة منه أن يركب السيارات الفارهة وينزل بأفخم الفنادق، ويملك القصور والوكالات كما فعل كثيرون غيره،  لكنه لم يفعل، وكان همه ينصب على إيقاف سيل الدماء، ووحدة الصف الوطني، وإعلاء شأن الإنسان وكرامته دونما أي تمييز أو عنصرية، لكن مرضه منعه من متابعة نشاطه الفلسفي والسياسي المنوط به، فانتهى به الأمر إلى أن فارقت روحه جسده في مسقط رأسه بحمص في (18/5/ 2019).

لقد مثَّل تيزيني فعلاً انعطافاً في المشهد السوري، من حيث الفكر ومن حيث الواقع، ففلسفياً استطاع أن يكشف عن الآليات التي تحكم الفكر والمجتمعات منطلقاً في تشخيصه من الوضعيات الاجتماعية المشخصة، ضمن ضوابط جدلية، تجمع بين المادي والمثالي، وبين الإيماني والإلحادي، بين التاريخي والذاتي، وبين الداخلي والخارجي… أما من حيث الواقع فقد كان فيلسوفاً واقعياً وعملياً بدأ بتشخيص الواقع تشخيصاً علمياً، وعمل على معالجة مشاكله أو الإسهام في ذلك، دون أن يتمترس خلف نظريات دوغمائية، أو أحزاب سياسية تليدة، تعوق الفكر وتقف حجر عثرة في طريق الثورة والنهضة.        

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

اصطياد المعنى وتقطيره في المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان

اصطياد المعنى وتقطيره في المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان

باعتبار أن القصة خيال محض فلا مجال للتمييز أو التدقيق بين ما هو حقيقي وما هو مزيف؛ بين ما هو واقعي وبين المغرق بالخيال، بين الأصيل والدخيل، ففي المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان الصادرة عن دار ميسلون لعام 2023 تتسع مساحة الخيال ويحتشد عالمه بكم متشابك وغريب من حواريات الجمادات والحيوانات والكائنات البشرية. المجموعة القصصية مليئة بأسئلة الكاتب الوجودية المستلهمة من ذاكرة تنبض بصور ومواقف مخيلة ثرية الحضور يحفر فيها بقاع اللاشعور لتوظيف خبرة جمالية لصالح المعنى المراد تقديمه.

يستهل الكاتب مجموعته القصصية بمقاربة عالم كافكا ومناداته “هل أنت هنا” بإيحاء مضمر بأنه يسحبنا إلى عوالمه دون إفصاح مباشر، عبر نصوصه التي ينسجها من انعكاسات الواقع أحياناً وتنويعاً على مخزونه الثقافي بأحيان أخرى، فنراه قريباً من عالم الحشرات الكافكاوية. وفي جانب آخر نجده يطل على عالم كليلة ودمنة بتشاركية الحيوانات الناطقة بالحكمة. ومرة ثالثة نراه يتقاطع مع جورج أورويل في روايته مزرعة الحيوان. 

هناك صداقات أنيسة بين كائنات مختلفة لا يدرك كنهها عالم الكبار، فهذا الطفل  المتوحد الذي تآلف مع حشرة صغيرة شاركها طعامه في قصة “الذبابة” تأتي يد قاصمة تفقده حميمية هذه العلاقة معها، الحشرة التي تكون هنا أقرب وجدانيًا لعالم ذلك الطفل الذي يجيد الصمت، بتصوير حالة الاغتراب وفقدان التواصل التي يعيشها رغم كل العناية الظاهرة من أمه، فبرغم الصمت الذي يكتنف عالمه لكنه هنا يوحي بفكرة تشابه الاندماج مع المحيط مثل التصفيق الذي يجبروننا عليه كل صباح. وهذا تلميح للواقع الشمولي العام المهيمن على صعيد الأسرة من ناحية وعلى صعيد المجتمع من ناحية أخرى ومقاومة تلك الهيمنة  للنزوع الشخصي والحر لعالم الأفراد، في لحظ السارد تقاطع ما بين الإحساس التلقائي والشعور المتخيل متحركاً بين القول الظاهري والفكرة المضمرة مما يعني الاشتغال على طبقات في توجيه الخطاب السردي حسب مستويات الفهم للمتلقي. 

 يشتغل باسم سليمان على مناوأة وضع عام أي مخالفة ما هو متعارف عليه من صفات للكائنات أو إعطاء معنى مخالف لما قرأناه بشكل سابق، ففي “القمقم” يعتمد تنقية وتقطير المعاني المتعارف عليها بقلب بديهياتها مثل عبارة “المارد لا يلدغ من الأمنيات إلا ثلاثا”، في تكثيف مذهل لرفض المارد لفقدان حريته أزماناً شاسعة وعبوديته لكائنات حقيرة الشأن مقابل أمنياتهم التافهة على غرار أمنيات الطائر البغاث بأن يحتل مكانة أعدائه وأن ينقل للنسر الرعب الذي أذاقه إياه، ولكن تبادل الأدوار لا يجدي نفعاً فعملية بلبلة الصفات الخارجية لا تغير من جوهر الكائن الذي يحتفظ بقلب عصفور ضئيل ولا يبدل الخوف الذي نشأ عليه.

القدرة الفائقة لدي صاحب “جريمة في مسرح القباني” في سحب انتباه القارئ وإدهاشه عبر أسلوب تأمله للحدث أو الفكرة المراد عرضها عبر التركيز على المتعة الجمالية بسلاسة العرض والتشويق. ونرى في “البيضة والحجر” تفسير تلك النبوءة التي جعلت الدجاج غير قادر على الطيران كسائر الطيور والتي جاءت من الهيمنة والسيطرة للديك، والحجة الخوف من الزلزال ورغبة بامتلاك الأرض والسماء، فقسم من الطيور قد هرب وهاجر ومنهم من خاف وصمت وهذا الأخير قلم له الديك أجنحته وقد شارك الدجاج الديك في الصراع أملًا في السماح له بالطيران، ولكن هيهات فقد جعلهم حراساً على من قصت أجنحته كي لا تنمو له أجنحة جديدة والعضو الذي لا يستخدم يضمر وليكونوا عبرة لهم قصت أجنحتهم كذلك ومن رفض مصيره الموت، ألا يوحي ذلك بقدر قريب جداً، فهناك سلطة فوق الديك وهو الثعلب، فالطغاة دائماً يجذبون الغزاة وهكذا الطيور تتعارك مع الدجاج والثعلب يتفرج يدعم ذاك ويقوي آخر وهذا باختصار واقع الشعوب.

تمتلئ المجموعة بسخرية والمفارقة ومخالفة توقعات القارئ أو ما تتركه القصة من حيرة والتباس فهم الأمر الذي يجبر القارئ للدخول في عملية التفسير والتفكير لاستدراج المعنى ووضع احتمالاته. وكمثال على هذا في قصة “رصاصة الحسد” تتحدث الجمادات إذ تقود قذيفة الهاون مجموعة من الرصاصات المتدربات في مدرسة المقذوفات النارية برعاية اليونيسيف حيث السخرية المضمرة من المنظمات الدولية، والسؤال المفارق بماذا تحلم الرصاصة؟ الرصاصة التي يعود نسبها إلى جبان اخترع البارود الذي ساوى بين الشجاع والجبان، كل منها لها حلمها الخاص فرصاصة صغيرة أخرى تحلم بأن تكون قذيفة صاروخية؛ ورصاصة بندقية ضغط الهواء تريد أن تكون قنبلة فراغية وقد بصقت الأمنية كحجر حطه السيل من عل في تناص مع القصيدة المعروفة.

أما في قصة “الذئب النباتي” فيكاد الكاتب أن يقنعنا بتحول الذئب إلى حيوان نباتي لا يقرب اللحوم بكل ما فيها من اعتداء على تقاليد القص المتعارف عليه بالدور التاريخي الشرير له، لكن المعنى المبطن المخفي يتسلل تحت الكلام الموارب لندرك بروز شخصية الغول التي يتخفى خلفها الذئب آكل الحشائش وفق ما أشاعه بإيماءة حول تبدل الأساليب والوجوه، وهو الغول ذلك الخطر الوهمي الذي ترتكب الجرائم تحت اسمه.

وفي قصة “قائمة الطعام” يتبع باسم سليمان تقنية القصة داخل قصة عندما تكون قصة قائمة الطعام هي قصة منشورة للولد الصغير في إحدى المجلات وتتحدث عن حوارية الحمل والمرياع قائد الخراف حول علاقتهم بالذئب والإنسان؛ بين من ينقض بهمجية على فريسته وبين من يأكلها وهو ويذرف الدموع عليها، لينتهي الحمل بحقيقة أن ذلك لا يغير من حقيقة الفعل شيئاً فالذبح واحد.

تتشابك المصطلحات الموحية بالقصة القصيرة بين الخرافة والأسطورة والحكاية والطرفة والنادرة والأمثال ونستطيع القول إنها تتغذى عليها ولكن إنريكي أندرسون امبرت كثف تعريفه للقصة القصيرة بقوله: “القصة القصيرة عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص فرد برغم ما قد يعتمد عليه الخيال من أرض الواقع فالحدث الذي يقوم به الإنسان والحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانيه أو الجمادات يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة حيث نرى التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ للوصول لنتيجة مرضية من الناحية الجمالية.”

هذا التعريف يتناغم مع نصوص مجموعة “الفراشات البيضاء” إلى حد ما، فهناك أنفاق وجسور في عالم السرد قد تكبر قصة قصيرة لتشكل رواية، وقد تجمع رواية قصص قصيرة في أسلوب سبكها وتداخله،ا وقد تتحول مجموعة أخرى إلى متوالية قصصية ذات مناخ وأبطال يتشاركون في المكان ولولا بعض القصص التي أنطقها سليمان بألسنة البشر لاعتبرت المجموعة متوالية قصصية بامتياز كونها تشترك بمناخ نفسي وسردي واحد وعلى حكم الحيوانات وألسنة الحشرات بمعانيها المرمزة ذات الدلالة العالية.

نشعر بمتعة كبيرة في ملاحقة نصوص المجموعة وقدرتها الفائقة على الاختزال في الكلمات والتكثيف في المعنى، ففي قصة “الأسماء” لكل من اسمه نصيب وفق المثل المعروف وهكذا تشوه الحقائق بحيازة صفة لمن لا تسمح مواهبه بها في استبدال اسم الحصان للحمار لكن الذي يحصل أنه يصدق ذلك الأمر والآخرون يصدقون الحمار الذي أصبح حصانًا وتوج في ميادين السباق رغم أنف الحكائين.  

أيضًا تأتي الفراشات البيضاء التي استعار منها عنوان المجموعة بشكل مقتضب في قصة ” الفراشات البيضاء” في التباس تحديد الحيوانات لجنس الكنغر (الذي يأكل الفراشات البيضاء كحلوى على لسانه) بينه وبين الإنسان كونه يقف على قائمتيه الخلفيتين لتأتي مقولة القصة بأن الإنسان لا يقتل الحيوانات فقط، ولكنه يسجن أخاه الكنغر أيضًا وهذه مشاهدة ورأي حيوانات الغابة التي جعل الحكمة على أفواهها.

تلعب الطبيعة دورها في خدمة التوازن والتناغم والانسجام في قصتي “رمادي” و”ألا ليت شعري“، حيث عبرت الأخيرة عن حوارية الإنسان والطبيعة التي تتكلم وتفصح عن مكنوناتها ما يذكرنا برواية “عالم العناكب” لكولن ويلسون عندما يتساوق أي فعل مع إيقاع الطبيعة تنسجم معه ويمشي في ركابها وعندما يخالفها تسحقه ويكون من أعدائها.

يعمل صاحب “الغراب سيد الغابة” على تطويع الاقتصاد في المفردات ليختزل فكرة شاملة وعميقة فهنالك ما يسمى قصة قصيرة جدًا تتراوح بين السطر والثلاثة أسطر، وكل أقصوصة عدد محدود من الكلمات لكنها تمتد عميقًا في معانيها مثل “نهاية، موسيقى، شوك الصبار، نمل الحب، الإزميل، صائد العصافير” يجمع فيها التركيز والتكثيف على معنى محدد عبر تناوب التوتر والاسترخاء وخاصة في القصة التي لا تتجاوز أسطر ففيها إبداع في فن الاختزال والتكثيف عبر الكلمات المشحونة بطاقة تعبيرية عالية. 

ربما تحاكي القصة القصيرة نبض الحياة المتسارع للوصول إلى المعنى بأقل ما يمكن من الزمن وحشد أكبر ما يمكن من المعاني لالتقاط حدث غير عادي بحركة مركزة ينتقل فيها بشكل متسارع إلى المحصلة عبر ثلاثين قصة يقدمها لنا باسم سليمان عبر منطق الحكاية في تمثل مجازي للواقع عبر مشهدية الرمز والإيجاز. تجلت في هذه المجموعة المقدرة على إحداث أثر لدى القارئ خلال فترة زمنية بسيطة لا مجال فيها للاستطراد والحشو كون النص يسير إلى هدفه منذ العبارة الأولى نظرًا لقصر المسافة بين البداية والنهاية.

 بعضهم شبه الرواية بالضوء والقصة القصيرة بحزمة ضوئية، ولكن في أحيان كثيرة تكون القصة القصيرة أشد سطوعًا حسب كثافة طاقتها التعبيرية المشحونة، وأعتقد أن “الفراشات البيضاء” تنتمي لهذا السطوع.

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

أقيم “احتفالٌ” لمركز يهوديّ إسرائيليّ في مدينة لارنكا القبرصيّة، القديمة، مطلع شهر أكتوبر الفائت، وقد تزامن ذلك مع عمليات حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي بدأت مؤخراً.

كان محيط المركز معزّزاً بحراسةٍ للشرطة القبرصيّة، حراسة مهيبة، لا يمكن أن تُقام أمام بيت رئيس جمهوريّة قبرص مثلاً أو حتّى قرب أيّة مؤسسةٍ حكوميّة!

وحسب ما كان يدور بين النّاس، هنا، أنّه ثمّة تخوّفاً من ردّة فعل البعض ضد إسرائيل، ممّن يعيشون في قبرص. كانت هناك صعوبة في المجتمع القبرصيّ لفهم ذلك التخوّف، هذا ما لاحظته من متابعة وسائل الإعلام المحليّة، فقد كان خطابها مرتبكاً لسببين أساسيين أبرزهما وجود جالية من جذور عربية في قبرص ترفض إسرائيل، وثانيهما أن هنالك بعض الأحزاب القبرصيّة تؤيّد القضية الفلسطينيّة وتدعم النشاط الاجتماعيّ للاجئين منهم هنا وعبر الحدود.

ترى ما هو سبب الرعب الذي يمكن أن يدفع السلطات لتشديد الحراسة الأمنيّة لمركز دينيّ قد لا يشكّل أيّة قيمة اجتماعيّة أو نفع تاريخيّ للجزيرة المتوسطية؟

يعتقد البعض أن تنامي القوّة المالية التي تحرّك جزءاً كبيراً من اقتصاد قبرص، مرتبط بشخصيات وكيانات مؤيدة أو تابعة لإسرائيل. وذلك بدوره يؤثر على القرار السياسيّ والإجراءات الأمنية المرافقة لدعم ذلك القرار؛ ألا وهو تأييد إسرائيل سياسياً، وفي الوقت ذاته هناك شريحة واسعة ترفض ذلك التأييد وكثيراً ما يؤدي هذا إلى انقسام اجتماعيّ يرفض سياسة إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.

وفي محاولة لفهم تخوف السلطات القبرصيّة على مصالح إسرائيل في الجزيرة، لا بد من النظر إلى التغلغل الإسرائيلي في السوق القبرصيّة عبر الشراكات الاقتصادية، سواء في تجارة العقارات أو وجودها كشريك مساهِم في علامات تجارية كثيرة، وهذا بدوره يجعلنا نتلمس الاضطراب الأمنيّ الذي اندلع في المدن القبرصية مع تصاعد وتيرة الأحداث في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.

هناك رغبة مباشرة لدى الحكومة في كم أفواه الرافضين لسلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهذا ما سمعته كثيراً من قبارصة وعرب يعملون في شركات على أرض قبرص، وقد يكون فيها نفوذ إسرائيلي عادةً ما يتم ضبطه بالتجاهل وعدم التماس المباشر حفاظاً على المصالح المشتركة التي تفرضها قوة الأمر الواقع وقوانين الشركات والعمالة.

رجوعاً إلى ذلك “الاحتفال”، حصل حادث توقيف لمراهق سوريّ، تصادف تجواله في لارنكا القديمة، على مقربة من المركز الإسرائيليّ ذاك، حيث طلبت الشرطة القبرصيّة من المراهق بطاقة إقامته، ثم حقّقت معه عن سبب تواجده قرب ذلك المركز وقد تم اقتياده إلى مخفر الشرطة.

بعد بضع ساعات أُفرج عن الصبيّ، وتم سؤاله ما إذا كان يعرف أي أشخاص يدعمون “حماس” أو يؤيدونها، كان هناك تخوف من وجود “خلايا نائمة” حسب الإعلام القبرصيّ. وكانت صحيفة “كاثيميريني” المحلية قد وصفت الإجراءات الأمنيّة التي قامت بها السلطات بأنّها “غير مسبوقة ومشدّدة للغاية”. ويتفهّم المرء مدى حرص هذه الجزيرة على مصالحها، ولكن ما الذي سيقوم به مراهق أعزل يمشي في الطريق دون معرفته ربما بوجود شيء يرتبط بكنيس يهوديّ أو إسرائيليّ؟

إنّ المجتمع القبرصيّ بطبيعته البسيطة، ميّال إلى السّلام والترحيب بالضيوف وحتّى مشاركة ودعم اللاجئين، بالحياة والعمل، وهذا ما شهدتُ عليه خلال تجربتي طيلة السنوات الثماني التي عشتها في قبرص، تعلّمت اللغة اليونانية، مارست معظم طقوسي الاجتماعية من لقاءات وحراك ثقافي وصحافي، عملتُ في شركات قبرصيّة وعربية وكان احتكاكي اليوميّ مع القبارصة يتطوّر ويكبر دون خوف، ولكن ليس بعد الآن!

لقد كان احتكاكاً، أيضاً، مع جنسيات أخرى بحكم تنوع الوافدين إلى الجزيرة خلال العامين الأخيرين، كان للجميع مكان وفرص للحياة وفق القانون، مساحة “آمنة” يعبّر فيها كلّ واحدٍ عن نفسه، انتمائه، طقوسه وأفكاره التي لا تضرّ بمصالح البلد المستضيف، وهذا ما ندركه ونقدّره جميعاً، كجالية تتكلّم العربيّة، وكمقيمين من بلدان مختلفة، إلاّ أن التوتر الذي يُحدثه مثلاً “الإسرائيلي” في المجتمع أينما وجد وهو يحمل تلك “المظلوميّة”، يترك في النفس خيبة لا تُحتمل من عدم وضوح المشكلة لدى السلطات القبرصيّة، ومدى تفهمها لعمق المسألة التاريخيّ مع المنبت الفكريّ والعقائديّ الجاهز الذي يحمله ذلك الشخص عنيّ كسوريّ.

إنّهم ينتبهون لك حين تتكلم بالعربية عبر الهاتف أو مع عربيّ آخر. فالقبرصيّ يحبّ ثقافتنا كسوريين، يتذكرون الجولات التي كانوا يقومون به أثناء رحلتهم إلى دمشق لشراء الستائر الشهيرة من أسواقها، وتذوق الطعام والمشي في حاراتها التاريخيّة، إنّهم يعدونها مكاناً زاخراً بالحضارات والثقافة، حسب ما أجمع معظم من عرفتهم. بينما أنتبه للإسرائيلي، الزبون، الذي يقرأ اسمي على قميص العمل فيختار شخصاً آخرَ ليطلب منه خدمة داخل الشركة، لا أدري ما الذي يخيفهم إلى هذا الحدّ طالما كانوا يزعمون أنهم على حقّ (!).

تعاني الحرّية اليوم في قبرص منذ بداية أحداث غزة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، من مأزق إنسانيّ في تفسيرها الظاهري ضمن المجتمع، فكيف لها أن تكون رمزاً للكرامة وعزة النفس لدى البعض إذا كانت تحرس بيوتهم ومصالحهم البنادق وسيارات الشرطة من أجل احتفال ما؟ وكيف لها أن ترفرف في الشوارع مع أكثرية تنتمي للضحايا وترفض القتل وتمشي في لارنكا القديمة وهي تمثل مراهقاً هرب من الحرب في سورية، هرب ليجد نفسه أمام تفضيلات غريبة بسبب فئة مكشوفة عبر التاريخ تعد نفسها مصطفاة دائماً وفوق الضحايا؟

كيف لا يعود إليّ الشعور بالخوف من لاجدوى اللجوء، إذا كانت السلطات التي منحتني بموجب اتفاقيات دولية، حمايّة إنسانيّة، لأعيش في هذا البلد سوف توقفني إذا مررت في شارع أعده قبرصيّاً ويحق لي المشي فيه بموجب تلك الحماية، وما شأني إذا كان ثمة وكر قد يأوي من يحمل أفكاراً وانتماءات تُفضل استحقاق الموت لبشر دوناً عن غيرهم؟

لقد رفضتُ القتل منذ كنت في سورية، ولا أعد لغة العنف والترهيب إلا قمعاً مركباً مع أشياء أخرى كالأسباب الأمنية المفاجئة والتخوّف الافتراضيّ من ردّات أفعال الجاليات الضيفة في هذا البلد، إنه عنفٌ بطقم رسميّ مهما تمّ تجميله بـ “مظلوميّة” مُفتعلة.

لم تسلم المجتمعات التي أخلت بمسؤوليتها عن أفرادها ودفعت بهم إلى هوة الشتات، من مبضع النقد والتفكيك، وليس ذلك في سبيل إهانتها لمكوناتها الأساسية: الفرد. إنما لأنها لم تكن يوماً مجتمعات صحيّة، أي تتقبّل أمراضها وتعد العلاج نابع بالدرجة الأولى من الفرد نفسه، وليس مستورداً من مجتمعات طارئة، خارجية، وهذا ما يحدث عادة إذا كانت تلك المجتمعات نفسها حريصة على وجودها وتحترم حرية أفرادها وتتمسك بهم. وفي الحالة القبرصيّة ثمّة مجتمع يضطرب من اختلاط الحقوق الاجتماعيّة بسلطة المصالح السياسية. والمكونات المتعددة من جنسيات أخرى، في هذا المجتمع، أصبحت فاعلة بقوة كأيادٍ عاملة، أصحابها قد يقبلون بظروف غير إنسانية في سبيل اعتراف المجتمع بوجودهم، لا بدفعهم إلى شتات جديد.

إن العلّة في الفصام القائم بين الشارع والسلطة وبين المجتمع الأهلي والإدارات الحكومية، ومع مقارنة بسيطة نجد أن القبرصي بجميع الأحوال يستاء من سلوك حكومته، يعترض، لا يقبل إلّا بالوظائف المناسبة له، يرفض القرارات الرسمية، ويسخر من رئيس الجمهورية، ويضمن دستور بلاده حريته. بينما اللاجئون والعرب وبقية الجنسيات، يعانون من عدميّة الحرية وسقوطها في تفضيل الضحايا، إذ كثيراً ما يعوّل هؤلاء العابرون على كفاف عيشهم بمعزل عن قول كلمة واحدة ضد الحكومة، فالردّ جاهز: ترحيل، حرمان أو تعطيل في أوراق الإقامة! وكيف بهم الحال إذا كانت هذه الحكومة اليوم تعتقد مسبقاً أنهم مشاريع متّهمين بسبب النيّات السياسية التي تزيد في تمزيق هذا المجتمع الجديد، الشريك، من أهل البلد والجاليات الضيفة، يستوقفون هذا السوريّ ويفتشون في بيت ذاك الفلسطينيّ، ولا أحد يعلم بالضبط عن ماذا يبحثون لدى أشخاص هربوا من الموت إلى ما يعتقدون أنه محاولة حياة جديدة أو ربّما واقع جديد لموت تدرجيّ أقلّ قسوةً!

(كاتب سوري يعيش في قبرص)

عيد الأم أم عيد المرأة: بين عقلية الماضي وبناء الحاضر

عيد الأم أم عيد المرأة: بين عقلية الماضي وبناء الحاضر

كان أطفالي صغاراً وكنا في عيد الأم كل عام نذهب للاحتفال مع جدتهم، كان زوجي لا يتذكر أن يحتفي بي أو يعايدني وحين سألته عن السبب، ببساطة قال: لأنك لست أمي! حين يكبر أولادك سيحتفلون بك.

على المرأة أن تنتظر طويلا لتجد من يحتفي بها.

 جرت العادة أن نحتفل بالمرأة في عيد الأم وهو ما يشكل ظلما كبيرا أولاً لنساء لم يتزوجن ولنساء تزوجن لكن لم يرزقن بأطفال وربما لنساء بقين وحيدات بعد أن تدحرج أولادهن في شتات الحياة، وهو ظلم للأنثى في أعوامها قبل الزواج وقد تكون أصبحت خلالها امرأة ناضجة ومنتجة وأثبتت وجودها على الصعيد العام والصعيد الذاتي.

اقتصر الاحتفال بعيد المرأة على عينة من المجتمع (المثقفين) تدعي الاهتمام والتقدير للمرأة بذاتها لكنها حقيقة في الحياة اليومية ترتكب بحقها كل ما يمارسه المجتمع الذي لا يعترف بعيد المرأة. وهذا جزء من فصامنا العام فالرجل الذي لا يقدر زوجته يسعى بكل ما يمكنه لتقدير أمه. والحقيقة أن الموضوع يتعدى الاحتفال الذي يبدو تقليداً أعمى بما يحتوي من مظاهر وقشور لا تعكس حقيقة السلوك اليومي بل تأخذ طابع المجاملة وفقدان المصداقية لابتعاد السلوك العام تجاه المرأة عن مفهوم التقدير والاحتفاء واقتصار ذلك على يوم واحد لدفع الإحساس بالتقصير.

لماذا نغفل عيد المرأة؟ 

لم يكن تكريس يوم الثامن من آذار عيداً عالمياً للمرأة حدثاً من اصطناع الغرب للسيطرة على العقول لنرفضه كالعادة!

بل أعلن رسمياً كعيد عالمي من قبل الأمم المتحدة عام 1975 وهو الذي كان يحتفل به في بلدان عدة بشكل منفصل احتراماً لعاملات  النسيج  اللواتي قضين في حريق معمل النسيج  في نيويورك نتيجة العمل في شروط غير إنسانية وهن اللواتي كن قد خرجن في مظاهرات قبل ذلك لتحسين شروط العمل وتحديد ساعاته بثماني ساعات  في اليوم الواحد، إذ كانت  المصانع الحديثة آنذاك تعمد لتشغيل النساء لأنهن يقبلن العمل ساعات طويلة دون النظر لظروفهن فيعملن بحدود دنيا من شروط السلامة مقابل الحصول على أجر زهيد يمكن العائلة من الاستمرار بينما يقوم أرباب العمل بتسريح العمال الذكور لأن أجرهم أعلى. وخرجت النساء في مظاهرات عدة سنة تلو الأخرى وتم تحسين بعض الشروط لكن المعاناة بقيت مستمرة سواء بالأجور الزهيدة أو شروط السلامة التي دفعن حياتهن ثمنا لفقدانها.

 الاحتفال بعيد المرأة ثمرة لدماء دُفعت وأجساد احترقت وتمجيد لفعل حضاري حقوقي في دفاع المرأة كإنسانة عن كيانها وإنتاجيتها الفاعلة، عيد عُمد بالتضحيات والدماء. ولعل التعتيم على هذا العيد هو نوع من الرفض والتعمية على قدرة المرأة على التغيير والمساهمة في إحداث فارق، وتعتيم على تاريخ كانت فيه المرأة فاعلة وقادرة على التغيير عبر ممارسة أساليب النضال الغريبة على مجتمعاتنا وفي محاولة لإبقائها رهينة وظيفة الأمومة. إن اقتصار الاحتفال على عيد الأم هو نوع من حصر وظيفتها في الحياة بالأمومة والاعتراف بعطائها فقط في هذا المجال وهو ما يشكل تحديداً وحصراً لها في الوظيفة البيولوجية رغم أهميتها وخطورتها عليها، إذ تدفع فيها من جسدها وهرموناتها ومخزون صحتها في الحمل ثم الإرضاع ثم ما تتحمله في التربية بشكل أكبر من ضغوط لا تتوقف.

تبدأ آلام المرأة منذ فترة البلوغ وتعيش تلك التقلبات الهرمونية الضاغطة على الحالة النفسية والمؤثرة على إنتاجيتها دون أي تقدير اجتماعي أو تعاطف سواء أسروي أو اجتماعي فكل ما يحدث لها يعتبر عادياً وهو من الطبيعة التي خلقت عليها. ومن العرف أن هذا ليس مستحباً نقاشه بل يعتبر مخجلا!

وعليها أن تعيش تلك الآلام بالخفاء وتقمعها أيضاً فلو عاشت الحب أو عبرت عن رغباتها قد تقتل ويذهب دمها هباء بجريمة شرف ما زالت تتراوح ضمن القبول الاجتماعي وغض النظر القانوني إلى حد ما.

نحن ماهرون بالاحتفال بكل ماضي

عموماً لا يحتفل بالمرأة إلا كأم وهذا يعني أن يكون كل ما تعيشه قبل هذا التقدير مجانياً وغير مرئي. إنها تنتظر أن يكبر الأولاد فيتم تقدير ما فعلته بالماضي من حمل وإنجاب وتربية!  فالاحتفاء له طابع التقدير على ما تم إنجازه وليس على  واقع العمل والعطاء القائم والتميز لتحفيزه واستثارة القدرات على الابداع والاستمرار في المنح، نحن ماهرون بعبادة الماضي الذي يجعل الجنة تحت قدمي أنثى بينما هي في رحلة حياتها كانت مقموعة وغارقة بين البيت وتربية الأولاد والعمل الذي زاد أعباءها عبئاً، إذ تركض في أيامها بين العناية بالطفل وعصر حليبها الذي ينز من ثدييها في العمل ريثما تصل لرضيعها وبين أعباء الواجبات المنزلية والتعليم كل ذلك دون تقدير الجهد الراهن أو مساعدتها في المهام. وفي انتظار أن يأتي فيما بعد من يقدر عملها وإنجازها ثم يتم الاعتراف بأن ما فعلته خلال كل تلك السنوات كان يستحق الاحتفال بها كأم فاضلة.

ليس جيداً المقارنة بين عيد الأم وعيد المرأة فلا أعتقد أن على أحدهما أن يلغي الآخر ولكن علينا الخروج من عقلية الاحتفاء بالماضي إلى عقلية الاحتفاء بالحاضر بتقدير الجهود المبذولة للإنسان في حينه لنتعلم كيف نمتلك الذهنية التي ترى المستقبل بعين الحاضر فتسعى وتقدر من يبذل جهده في هذا السبيل. وينبغي تكريس عيد المرأة في أجندتنا للاحتفاء بالمرأة العاملة والمنتجة والمتميزة والمتفوقة في دراستها والمرأة الأم التي لا يمنعها الحمل والإنجاب من ممارسة عملها داخل المنزل وخارجه، نحن بهذا نبني ثقافة وذهنية جديدة وليس فقط احتفاء بأعياد رسمية مكرسة.

آراء من حمص: “أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود”

آراء من حمص: “أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود”

حين اندلعت الحرب السورية بمفهومها العسكري المباشر كانت حمص تتجهز لتأخذ دورها كمدينة سيطول حضورها على مسرح الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية تاركةً خلفها ما حصل في بانياس ومناطق أخرى كذكريات ليست غير ذات شأنٍ ولكنها جانبية إلى حدٍّ ما قياساً بمدينة كانت تحتضن تنوعاً مناطقياً وطائفياً متشعباً ومتعايشاً للغاية، ولكن في لحظة، بالضبط في لحظةٍ واحدة، انقلبت المدينة على بعضها مناطقياً ودينياً.

يوم اشتعل الفتيل

يتذكر كثر من أهالي حمص مفترقاً مهدّ لاشتعال المدينة بأكملها، كان ذلك المفترق يوم السابع عشر من نيسان 2011، أي بعد قرابة شهر بالضبط من اندلاع المظاهرات في درعا ومناطق أخرى. في ذلك اليوم هاجمت الأحياء بعضها، حرفياً ذلك ما حصل، أحياء بأسرها هاجمت أحياء أخرى لدواعٍ لا زالت حتى اليوم غير واضحةٍ وما من أحد قادرٍ على تفسيرها.

هجمات استخدمت فيها العصي والخناجر والسلاح الأبيض والفؤوس وبعض الأسلحة النارية من نوع “بومب أكشن” وبنادق الصيد. يومها سقط ضحايا في المدينة، تزامناً مع اعتصام حمص الكبير وحصار أحياء أخرى من أحياء مجاورةٍ لها، كان ذلك في الفترة التي تعرف بتولي فصائل الشرطة من كتائب “حفظ النظام” مسؤولية ضبط الأمور، قبل أن تتعسكر المدينة وتصبح بأكملها متخذةً شكل ساتر ترابي كبير يفصل بين خصمين.

المدينة المفصل في الحرب

لم تكن حمص عادية في أيّ لحظةٍ في تقرير مصير سوريا بأكملها كمدينة وسطى تقطع دمشق عن الساحل وحلب، فقد تم وصف حيّ بابا عمرو لوحده بعاصمة الثورة السورية. وفي تلك الفترة ذُكرت المدينة بالتصريحات الدولية المتواترة والمتخوفة من سيطرة الحكومة على حمص. فمثلاً تم ذكر أسماء أحياء المدينة بتصريحات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، وبالتحديد لا ينسى أهل حمص تصريحاتها عن “شارع الستين” المحوري في المدينة والذي كان يمثل خط تماس بين السكان المنقلبين على بعضهم.

لا يمكن تجميل سنوات الصراع

تاريخياً تعايشت تلك الفئات المتباينة في المدينة بمحبة وألفة وسلام دون أي حوادث أمنية تذكر، فتبادلوا المصالح والزيجات والعلاقات الاجتماعية والأسرية، لكن فجأة تغيّر كل شيء. لا يمكن تجميل ما حصل مهما حاول التاريخ ذلك، فالقتل عمّ المدينة، القتل الذي نفذه ساكنوها بحق بعضهم قبل وجود أي عمليات منظمة. والحديث هنا لا يخص مرحلة ما بعد اتضاح الجبهات، بل يتعلق بعائلات وأحياء حاصرت أخرى وكأنّ حرباً بينها عمرها مئات السنين لا زالت مشتعلة. ومجدداً لا زال الأمر لا يحمل أيّ مبررٍ وهذا ما سيتضح من خلال تبيان حال المدينة اليوم، وهو حال مشابه ومطابق لحال كل المدن السورية الأخرى، كدمشق وحلب واللاذقية وبانياس وغيرهم، إلا أنّ البقاء ضمن نموذج حمص يخدم الفكرة أكثر لشمولية واتساع ما حصل فيها.

ما حصل لا يكرره التاريخ كثيراً

كيف يبدو وضع حمص اليوم شباط/فبراير 2024؟

بدايةً لنعد قليلاً للوراءإلى تاريخ 2014 وهو عام خروج مسلحي حمص القديمة من المدينة بالكامل، بعيد سيطرة الحكومة على الأحياء كلها في حمص تباعاً باستثناء حي الوعر الذي لم يكن يشكل عبئاً رغم تأخر استرداده حتى آذار/مارس عام 2017، لكونه يقع أساساً في مكان غير متصل مباشرةً بالمدينة ولا يؤثر على طرق العبور الرئيسية فيها.

فعلياً منذ 2014 لم يبقَ داخل المدينة أجواء توتر تذكر، إذ انحصرت جبهات القتال في الوعر والريف الشمالي وبدأت التنظيمات المتطرفة تظهر وتتمدد باتجاه الريف الشرقي لحمص وبالتحديد في تدمر والمدن الشرقية والبادية، كل ذلك أتاح الوقت والفرصة الملائمة أمام المدنيين لاتخاذ قرارات تتعلق بمسؤولية بقائهم داخل المدينة.

من قرر المغادرة فقد غادرها مع دفعات التسويات، أما من قرر البقاء فقد أثبت بسرعة لا يمكن تصورها أنّه قادر أن يندمج بلمح البصر من جديد في مجتمع متكامل عماده ذات الناس الذين ينتمون لخلفيات طائفية ومذهبية متعددة، كان يبدو الأمر في حينه لمشاهد بعيد نوعاً من المجاملة أو الخوف أو حتى النفاق، فكيف لمتحاربي الأمس أن يتعانقوا بعد مئات آلاف المهجرين وآلاف المختطفين ومثلهم من الضحايا والجرحى؟، ولكنّ المدينة احتضنت بعضها بصورة لا يمكن أن يكررها التاريخ كثيراً.

أحياء على الحياد ولكنّها ليست بمنأى

يقول الحاج أبو ناصر والذي يعيش في حي كرم الشامي الحمصي خلال حديثه معي إنّ لحيّه خصوصية كبرى بسبب موقعه الهام قبالة جامعة المدينة وإطلالته على أحياء وطرق مهمة. ويوضح أن حيّه لم يشهد عمليات عسكرية، بيدَ أنّه شهد مظاهرات استمرت فترةً من الزمن ولكن يعيدة عن حواجز الجيش ومؤسسات الدولة.

يقول: “لم يكن كل أهل الحي رافضين للمظاهرات ولا كلهم قبلوا بها، كان هناك تخوف من اقتحام حيّنا وأن يلقى مصير أحياء أخرى، فاندثرت المظاهرات تباعاً ولم تعد هناك رغبة لدى شباننا حينها بالأمر، وربما هذا ما أبقانا أقرب للوساطة بين طرف وآخر إذ كان حيّنا معبراً آمناً للجميع دون تهديدات أمنية”.

وفي ذات الوقت يبدي الرجل أسفه أنّ المدينة تحولت لكانتونات منعتهم من الخروج من حيّهم في مرحلة معينة، وساءه انقطاعه عن رفاق له في أحياء أخرى، إما بسبب اندلاع اشتباكات لديهم، أو بسبب خلافات ايدولوجية منعت الزيارات يوم انقسمت المدينة على نفسها، مؤكداً أنّهم لم ينقطعوا عن التواصل هاتفياً، قبل أن تعود حمص كما كانت قبل الحرب تماماً.

لم يعد الخارج مفقوداً والعائد مولوداً

المهندس تامر حمدان الذي ينتمي لحي الزهراء في حمص، وقد فقد اثنين من إخوته خلال اندلاع جولات الخطف التي هيمنت على المدينة، يشرح كيف حوصر حيّهم لأكثر من عام من قبل تسعة أحياء تحيط بهم، ويقول عن تجربته: “كان الخارج مفقوداً والعائد إن عاد مولوداً، كان أقسى عامٍ يمكن أن تعيشه مجموعة من الناس مع سيل قنص وشلال قذائف لا يتوقف، معظم شهداء حيي استشهدوا داخله وهم نساء وأطفال، عدا عن الـذين كانوا على جبهات القتال، لم يكن أحد يريد أن يحصل هذا في المدينة التي تربى شعبها أنّهم إخوة”.

ويضيف: “ما حصل حصل، والغريب أنّه وكأنّه ما مرّ علينا، تلك الأحياء التي كانت تحاصرنا نقضي اليوم كل أوقاتنا فيها ومع أهلها الطيبين، وأصرّ الطيبين، تلك الحرب بدأت وانتهت دون أن نعلم لماذا، حمص اليوم وبآلاف الأدلة القاطعة تصالحت مع بعضها دون أحقاد وعادت الأمور لتسير كما قبل الحرب”.

يبتسم ويوضح فكرته بالإشارة: “من كان يتوقع يوماً أنني سأشتري غرضاً من الخالدية، وأنني سأسير في سوق الدبلان وأشتري الملابس من هناك، وأني سأشتري رأس غنمٍ من دير بعلبة، وبأني سأفتل كل المدينة وأحصل على ما أريد وأزور أصدقائي في جب الجندلي والبياضة وباب السباع وبأن الناس من تلك الأحياء ستزور الزهراء لتشتري ما تريد ولتزورنا بعد أن لم يبقَ في حمص متراسٌ واحدٌ يحجبنا عن بعض”.

لا إرهاب ولا شبيحة

تطلب فهم الجو العام في حمص وكيف تسير الحياة هناك البقاء فيها أياماً ليست بالقليلة، وعلى فترات، رُصدت خلالها آراء تكاد تكون متطابقة في طبيعتها المتسامحة، في مدينة نسيت الحرب مخلفةً جراحها وراء ظهرها، وصولاً لمقابلة عمال وموظفين يعملون في أحياء قبل سنوات كان مجرد ذكر اسمها يستفزهم ويشعرهم بالخطر.

بين أولئك العمال أبو ماجد الذي ينتمي سكناً وعيشاً إلى حي بابا عمرو الذي لم يغادره حتى وهو في أتون معركته الأشد، أبو ماجد يعمل اليوم في مطعم للوجبات السريعة في حي النزهة الذي كان يشكل خصماً لحيّه في الموقف السياسي والعسكري خلال الحرب.

أبو ماجد أوضح أنّ أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود، وبأنّ في حيّه عمالٌ أيضاً من أحياء أخرى، وخلال عام عمله الثالث هذا لم يشعر لحظةً أنّه غير مرحب به وعلى حدّ تعبيره لم يعامل كـ “إرهابي” من قبل أهالي الحي، كما لم يعامل أهل حيّه بعض العاملين لديهم كـ “شبيحة”.

أطروحةٌ في العيش المشترك

في حمص حصل تصالح مجتمعي شعبي بين الأحياء ومعه عادت الخلطة الديمغرافية مناطقيا ودينيا (طائفياً ومذهبياً) بين الأحياء والقرى بعد حرب ضروس كانت تنذر بنهايات وحشية، فحتى ريفها الشمالي الذي كان يعد واحداً من أخطر بؤر التوتر حلّ به ما حلّ بأحياء المدينة من تصالح فعادت منطقة الحولة بقراها السبع ممراً لوسائل النقل التي تقل الناس بين المدينة وأرياف أخرى ممتدة حتى مدينة مصياف في ريف حماه والتي كان الوصول إليها عبر شمال حمص ممنوعاً بل حتى لم يكن هناك طريق يقود إلى ذلك الريف لشدة الاشتباكات في محيطه. وإلى جانب الحولة فتحت مناطق تلبيسة والرستن طرقها للعبور من حمص إلى حماه دون الاضطرار للالتفاف حول عشرات القرى تجنباً للرصاص والمخاطر والخطف.

مجدداً، الآن في شباط/فبراير 2024، عاد الناس للاختلاط والزيارات والعلاقات الاجتماعية والتبادلات التجارية وكأن كل من بقي قرر نسيان سنوات الحرب القاسية التي لم تخلف سوى الدم والدمار دون حلول جذرية سياسية فكان الحل بعودة الاندماج نحو الخلاص المعنوي والنفسي انطلاقاً من الترابط المجتمعي الذي يكمل بعضه في ظل استحالة عيش كل فئة منعزلة عن جوارها لتستحق حمص بكل جدارة أن تكون موضوع أطروحات أكاديمية تناقش العيش المشترك.