الطالعات يهْدمن بيت المقاطيع

الطالعات يهْدمن بيت المقاطيع

منذ بدء المظاهرات في السويداء، خرجت النساء من مختلف المراحل العمرية وبصوت يصدح عالياً مطالباً بالحريّة، لتتحول أغنية ياطالعين الجبل، إلى يا طالعات من الجبل ترددها بشغف وفخر شفاه النسوة اللواتي هدمن كلّ أنواع الظلم الذي بدأ من الأسرة لينتهي بنظام كامل قائم على قوانين تمييزية ضدّ النساء.

لم تقف الشعارات عند المطالبة بالقضاء على الفساد بكافة أشكاله، بل طالبت النساء بالمساواة: “الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون“، هكذا رفعت النساء والفتيات والرجال الأحرار شعاراتهم، ورفعوا أيضاً لافتات تقول: “طالعات سوريات للحرية للعدالة للمساواة مشاركات وشريكات“.

وظهرت النساء على الشاشات وخرجن إلى الساحات يطالبن بالمواطنة المتساوية والمساواة مع الرجل أمام القوانين في لفتةٍ تؤكد أن هذا هو الوقت المناسب وكل وقت هو الوقت المناسب تحدّياً لعقود كانت تتحكّم بحقوق النساء وتعتبر أن الوقت ليس مناسباً للمطالبة بحقوقهن فالأولوية للقضايا الكبرى.

عقود من الاضطهاد والتعسّف بمظهر متحرّر

عانت المرأة في السويداء ذات الغالبية الدرزية، مثلما عانت المرأة في كافة المحافظات السورية من الاضطهاد والتعسف في القانون الذي يأتي لصالح الرجل دوماً وخاصّة عند التطبيق. فهنا المرأة من حيث الظاهر متحررة يمكنها الخروج للعمل والقيام بأعمال كالرجل ومعه، ويمكنها مشاركته في الأفراح والأحزان، ولها قوتها ورأيها، وكذلك قانون المذهب الدرزي يمنع تعدد الزوجات ويعطي للمرأة حقاً في الميراث، ولها الحق في اختيار شريكها، لكن عند التطبيق تختلف الموازين.

يحكم الطائفة الدرزية قانون أحوال شخصية مذهبي خاص بالموحدين الدروز يرجع ببعض أحكامه للشريعة الإسلامية حسب المذهب الحنفي فيوافقه أحياناً ويخالفه أحياناً أخرى فالقانون المذهبي يمنع تعدد الزوجات ويمنع الطلاق بالإرادة المنفردة.

ويتوافق معه في نقاط تضطهد النساء من مثل أنه يجيز زواج الطفلات كما في المادة الأولى من القانون: “ﻴﺠﻭﺯ ﺍﻟﺨﺎﻁﺏ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﺯﻭﺍﺝ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻪ ﺍﻟﺜﺎﻤﻨﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻭﺍﻟﻤﺨﻁﻭﺒﺔ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺒﻌﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﺭ“.

ويمكن أن يأذن شيخ العقل أو القاضي بالزواج  كما تقول ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 2:

“لشيخ العقل أﻭ ﻗﺎﻀﻲ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ أﻥ ﻴﺄﺫﻥ ﺒﺎﻟﺯﻭﺍﺝ ﻟﻠﻤﺭﺍﻫﻕ ﺍﻟﺫﻱ أﻜﻤل ﺍﻟﺴﺎﺩﺴﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻤﻥ ﻋﻤﺭﻩ ﻭﻟﻡ ﻴﻜﻤل ﺍﻟﺜﺎﻤﻨﺔ ﻋﺸﺭﺓ إﺫﺍ ﺜﺒﺕ ﻟﺩﻴﻪ ﻁﺒﻴﺎ أﻥ ﺤﺎﻟﻪ ﻴﺘﺤﻤل ﺫﻟﻙ، ﻋﻠﻰ أﻥ ﻴﻜﻭﻥ إﺫﻥ أﺤﺩ ﺸﻴﺨﻲ ﺍﻟﻌﻘل أﻭ ﻗﺎﻀﻲ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ ﻤﻭﻗﻭﻓﺎً ﻋﻠﻰ ﺇﺫﻥ ﻭﻟﻲ ﺍﻟﻤﺭﺍﻫﻕ“.

وتحتاج المرأة إلى ولي لإتمام الزواج وهو شيخ العقل أو قاضي المذهب في حال عدم موافقة وليها دون مبرر. وتلزم المرأة بالطاعة وتعتبر ناشزاً إن تركت بيت الزوجية أو منعت زوجها من معاشرتها كما في المادة 23:

التي تقول: “ﺍﻟﺯﻭﺝ ﻤﺠﺒﺭ ﻋﻠﻰ ﺤﺴﻥ ﻤﻌﺎﺸﺭﺓ ﺯﻭﺠﺘﻪ ﻭﻤﺴﺎﻭﺍﺘﻬﺎ ﺒﻨﻔﺴﻪ ﻭﺍﻟﺯﻭﺠﺔ ﻤﺠﺒﺭﺓ ﺃﻴﻀﺎ ﻋﻠﻰ ﺇﻁﺎﻋﺔ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻭﻕ ﺍﻟﺯﻭﺠﻴﺔ ﺍﻟﻤﺸﺭﻭﻋﺔ“.

والمادة 36 تقول:” ﺍﺫﺍ ﺘﺭﻜﺕ ﺍﻟﺯﻭﺠﺔ ﺒﻴﺕ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﺒﺩﻭﻥ ﺴﺒﺏ ﻤﺸﺭﻭﻉ ﺃﻭ ﻜﺎﻨﺕ ﻓﻲ ﺒﻴﺘﻬﺎ ﻭﻤﻨﻌﺕ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﻤﻥ ﺍﻟﺩﺨﻭل ﺇﻟﻴﻪ ﻗﺒل ﻁﻠﺏ ﻨﻘﻠﻬﺎ ﻟﺒﻴﺕ ﺁﺨﺭ ﺘﺴﻘﻁ ﻨﻔﻘﺘﻬﺎ ﻤﺩﺓ ﺩﻭﺍﻡ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻨﺸﻭﺯ“.

و تعاني المرأة الحاضنة من مخاوف إسقاط الحضانة منها في حال زواجها من رجل غريب .

الوصية الذكورية وانتهاك الحق

وبالرغم من أن البنت تعتبر حاجبة للإرث بخلاف المذهب الحنفي، إلا أن الكارثة الإنسانية والأخلاقية التي تصيب النساء هي استخدام المادة القانونية التي تسمح بالوصية بكامل التركة حيث أنّه ” ﺘﺼﺢ ﺍﻟﻭﺼﻴﺔ ﺒﻜل ﺍﻟﺘﺭﻜﺔ ﺃﻭ ﺒﺒﻌﻀﻬﺎ ﻟﻭﺍﺭﺙ ﺃﻭ ﻟﻐﻴﺭ ﻭﺍﺭﺙ” . ومن هنا تبدأ معاناة المرأة التي تخضع لهذا القانون ويستخدمها المجتمع الذكوري ضدها فقي أغلب الحالات يوصي الوارث بكل ما لديه للذكور من العائلة ويترك للنساء من بناته أو أخواته أو زوجته ما يسمى ب”غرفة المقاطيع” حيث يتم إبقاء غرفة من منزل الأهل للإناث اللواتي لا يبقى لهن معيل مثل المطلقة أو الأرملة التي لا تملك شيئاً، وكذلك للبنت العزباء طالما أنها لم تتزوج ولا تملك معاشاً.

وبالمقابل يكون لهذه المرأة من الغرفة حق الانتفاع فقط، وهو ما يعني بأنه لا يحق لها أن تبيعها أو تورثها لأولادها، فقط يحق لها الانتفاع بها كأن تقوم بتأجيرها أو السكن فيها وهو ما يعني حرفياً حرمانها من ميراثها الشرعي.  

 فـ”الوصية المطلقة حسب المادة ٣٠٧ من قانون الأحوال الشخصية في المذهب الدرزي تنص على أن تنفذ الوصية للوارث أو لغيره بالثلث أو أكثر، ما يعني أنها شاملة بكامل التركة، ويمكن التوصية بها جملةً، حتى لغير الوارث، وهي غير محددة أو مقيدة بحدود الثلث من التركة.”

سلام لن يتحقق دون الشريكات

ولأن السلام لن يتم دون مشاركة النساء في جميع مستويات صنع القرار، وفي عمليات حل الصراعات والمفاوضات كما جاء في قرار مجلس الأمن 1325 كأول قرار  يهدف إلى ربط تجربة النساء في النزاعات المسلحة بمسألة الحفاظ على السلام والأمن الدوليين لذلك لا بدّ من زيادة تمثيل المرأة على جميع مستويات صنع القرار في المؤسسات الوطنية والإقليمية والدولية وفي آليات منع نشوب الصراعات وإدارتها وحلها، واتخاذ تدابير خاصة لحماية المرأة والفتاة من العنف القائم على نوع الجنس.

وهذا لن يتحقق نهائياً إلا بخروج المرأة السورية لتهدم بيديها بيوت المقاطيع بكافة أشكالها وأماكنها من خلال العمل للوصول إلى قانون أسرة عصري يحمي النساء والرجال والأطفال بمختلف احتياجاتهم وانتماءاتهم دون النظر إلى الدين أو المذهب أو الطائفة يجمع السوريين  والسوريات في ظل دستور يحمي المرأة الإنسان  ويمنحها حقوق المواطنة والمواطنة المتساوية.

هوامش

١- ياطالعين الجبل أغنية من التراث الفلسطيني كانت تغنّيها النساء لتنبيه السجناء الفلسطينيين بأن هنالك عملية فدائية وشيكة وكي لا ينتبه السجّانون كنّ يغنينها مشدداتٍ على حرف اللام.

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

     كان عبد الرحمن الكواكبيّ (1855-1902 م) شخصيّة استثنائيّة نادرة في عصرٍ مُظلم، ولقد امتازَ بشعورٍ فريدٍ بحرّيته بين أُناسٍ سُلِبت منهم القدرة على المبادرة والفعل والتعبير عن الرأي، فاكتشف أنَّ كثيراً من أبناء جِلدته مِنَ العرب يغرقون في مَوْحِلِ الجُبن والضَّعف والاستسلام لواقعٍ قاسٍ فرضته عليهم قُوى حاكمة، تمثّلت آنذاك في السَّلطنة العثمانيّة، وأدرك بعمق بصيرته أنَّ سبب الانهيار الرَّهيب في القيم والمبادئ والأخلاق ناجم عن الطَّاعة العمياء للحاكمين أو ولاة الأمر. ولقد أُصيبَ الكواكبيّ بخيبة أمل كبرى من تماهي النّاس مع سَحْقِهم وظُلمهم وتهميشهم، أي إنَّ الإنسانَ أصبح مجبولاً بعبوديته، إلى حدّ أنَّ الحريّة أصبحت ظاهرة غريبة وغير مقبولة بين النّاس؛ لأنَّها يمكن أن تسوقهم إلى نهاياتهم. من هنا وجد الكواكبيّ بعمقه البالغ أنَّ النّاس أنفسهم هم أساس قوّة الحاكمين الظَّالمين. ويرجع خنوع النَّاس في رأيه إلى أنّهم-في مرحلة السَّلطنة العثمانيّة-لم يعودوا قادرين على التمييز بين السُّلطة الدينيّة والسُّلطة السياسيّة؛ لأنَّ شخصيّة الحاكم لَبَست لَبوس القداسة، فالتبست على عقول العوام الأمور، فظنّوا أنَّ معارضة الحاكم هي معارضة ولي الأمر الذي يمثِّل المطلق أو الألوهيّة. ويمكن إرجاع هذه الطَّريقة من التّفكير عند الكواكبيّ إلى هدفٍ رئيس وهو تقويض تمثيل السلاطين العثمانيين للخلافة الإسلاميّة، لنزع فكرة حصانتهم الدّينيّة من عقول النّاس، وتحفيز العرب على استرجاع حقّهم بالسُّلطة؛ لكن الخنوع لرهبة السلطة الدينيّة العثمانيّة كان أكبر من طموح الكواكبيّ بإحداث تغيير جذريّ. واستنبطَ الكواكبيّ من ذلك حدوث امتزاج بين الاستبداد الدِّينيّ والاستبداد السياسيّ، فأصبح مضمون الطغيان باسم الدِّين مسكوباً في دَنِّ الطُّغيان السياسيّ، أو بالأحرى وُظِّفت أدوات الاستبداد الدِّينيّ على نحوٍ غير ظاهر لصالح الاستبداد السياسيّ؛ لذلك يتبنّى في كتابه “طبائع الاستبداد” رأياً عن الحكّام الذين هم وفق ما ذكرَ: “يسترهبون النَّاس بالتعالي الشخصيّ والتشامخ الحسيّ، ويذلونهم بالقهر والقوَّة وسلب الأموال حتى يجعلونهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتّعون بهم كأنّهم نوع من الأَنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.”[1]

      ويدهشُ المرء من هذه الشجاعة المنقطعة النّظير التي تحلّى بها الكواكبيّ في عصر كان يمكن إسكاته فيه بأبسط الطُّرق، إلا أنّه آثر المسير في مشروعه الفكريّ ذي الخصوصيّة الغريبة عن الأجواء الثقافيّة السَّائدة في عصره. وكانت الموضوعة الرئيسة الشَّاغلة له هي قبول الإنسان بذله ومهانته واستعباده، فحاول أن يبحث عن الأسباب التي تقف وراء اقتناع الإنسان بسلبه من شخصيته الإنسانيّة الحرَّة.

      ويثير الكواكبيّ إشكاليّة تدلّ على عُمق في التّفكير لا نظير له، فهو يبحث في موقف الطُّغاة من العلوم، ويُحدِّد ببراعة فائقة أنواع العلوم التي يسمح المستبدّون للنّاس بتعلُّمها؛ لأنّها لا تؤدي إلى تطوير تفكير المتعلّمين على نحو يهدِّد عروش هؤلاء الطُّغاة.

      يقول الكواكبيّ: “المُستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان (…) وكذلك لا يخاف المُستبد من العلوم الدينيّة المتعلّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربّه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنّما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاعَ فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذَ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شرّ السّكران إذا خمر (…) وكذلك لا يخاف من العلوم الصِّناعية (…)، لأنَّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين لأنَّ أكثرهم مبتلون بإيثار النَّفْس، ولا من الرِّياضيين لأنَّ غالبهم قصار النّظر.”[2]

     يكشف الكواكبيّ هنا أنّه لا يمكن تأسيس وعي حقيقيّ داخل المجتمعات الخاضعة للاستبداد، لأنَّ الإيديولوجيا التعليميّة للمستبدين، بوجهٍ عامٍّ، تقوم على نشر علوم لا تؤدي إلى تكوين ثقافة حقيقيّة لدى الإنسان، فعلوم اللغة، لا تساعد على امتلاك رؤية حقيقيّة للواقع، وتقتصر على تنمية قدرات هي في حدّ ذاتها لا تعدو أن تكون وسائل لتحصيل علوم من نوع أعلى. كما أنَّ العلوم الدينيّة التي تركِّز على العالم الآخر، ونشر روح الزُّهد والتخلّي والحياد، تسهم في تمكين الحكم للمستبدين، لأنها تدفع الإنسان المتديِّن بهذه الطَّريقة إلى ترك الواقع، كما هو، من دون أن يُعنى بتغييره، ويغلق أبواب نفسه عليه، غارقاً في عوالم موهومة مجذوذة الصِّلة بالحياة الإنسانيّة في أبعادها المختلفة. هذا، إلى أنَّ الكواكبي نبّه إلى أنَّ العلوم الصِّناعيّة لا تدفع المستبدين إلى القلق من انتشارها بين النَّاس، لأنَّ المعارف التي تتأسّس عليها والنتائج المحصّلة فيها تقتصر على أمور تقنيّة نافعة للحياة، والذين يمتلكون العلوم التي تبتكر المنتجات الصّناعيّة-في رأي الكواكبيّ-لا يفكّرون إلا بالأرباح، ولن يفكِّروا بتغيير الواقع ومواجهة المستبدين، لأنهم راضون بما هو كائن، واستمالتهم تُعَدُّ أمراً سهلاً بالنسبة إلى الحكّام الطغّاة. ويبني الكواكبي في سياق كلامه استنتاجاً يستحق التأمُّل وهو أنَّ المستبد لا يخاف من الماديين، ويقصد من ذلك أنَّ المعارف التي تُنمِّي الفهم الماديّ للعالم تولِّد شخصيات غارقة في نزعة ذّاتيّة-حسيّة إلى أقصى حدّ، وغير مكترثة بمشكلات وآلام الآخرين. دعْ أنَّ الكواكبيّ يتّخذ موقفاً سلبيّاً من الرِّياضيين، ويعني بهم علماء الرِّياضيات، ويبدو أنَّه لم يكن من المُعجبين بعلم الرياضيات، لأنَّ المعرفة الناتجة عن هذا العلم تبقى في حيِّز تجريديّ، ولا تقدّم رؤية حقيقيّة عن معاناة الإنسان في العالم.

     يمكن هنا أن نكتشف في شخصيّة الكواكبيّ ناقداً إبستمولوجيّاً للعلم من الطراز الرّفيع، ويتصف نقده بخصوصيّة نادرة، فهو يحدّد قيمة أي نوع من أنواع العلوم من جهة دوره في مساعدة الإنسان على مواجهة الطغيان والاستبداد والظُّلم. والحقيقة أنَّ هذا الضَّرب من النَّقد لا يجب أن يُعَدّ غير منصف في مجتمعات تحتاج إلى تحفيز أفرادها لاستعادة وعيهم بضرورة حرّيتهم.

    ويتابع الكواكبي كلامه بشأن علاقة ماهيّة العلم بمواجهة الاستبداد قائلاً: “ترتعد فرائص المُستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النّظريّة، والفلسفة العقليّة، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنيّة، والتّاريخ المفصَّل، والخطابة الأدبيّة، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النّفوس، وتوسِّع العقول، وتُعَرِّف الإنسان ما حقوقه، وكم هو مغبون، وكيف الطلب، وكيفَ النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة…”[3]

      يقصد الكواكبي بعلوم الحياة –كما هو ظاهر من كلامه-الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ولم تكن دلالة العلوم الإنسانيّة واضحة في عصر الكواكبيّ، إلا أنه كان واعياً مما ذكره بمدى تنوّع العلوم الإنسانيّة، فذكر “علم السياسة المدنيّة” “وعلم حقوق الأمم (=القانون الدولي لحقوق الإنسان) –وهما علمان معياريّان-، وعلم الاجتماع–وهو علم تعميميّ-، وعلم الخطابة –وهو علم فنّي-، كما ذكر التّاريخ المفصّل ويدخل في إطار العلوم الإنسانيّة. إذن، نحن هنا بإزاء مفكِّر سوريّ مضى على موته نحو مئة وواحدٍ وعشرين عاماً كان واعياً في أكثر العصور ظلاميّةً بأهميّة العلوم الإنسانيّة لإنقاذ الإنسان العربيّ من الاستلاب الذي يعانيه في مختلف جوانب حياته.

       ولقد ركّز الكواكبيّ على خوف المستبدين من الخطابة والكتابة، وتُعَدَّ الخطابة سبباً رئيساً لنشر الوعي بين النّاس، فالخطيب المفوّه قادر على تغيير سيكولوجيا النّاس، تحديداً إن كان يقول الحقيقة، فإنّه يستنفر غضبهم على الظَّالمين، ويدفعهم إلى إعادة النّظر في قناعاتهم، وتوجيه جهودهم نحو مواجهة المستبد، لذلك كان رأي الكواكبيّ في مكانه، فكلّ مَنْ يُعبِّر عن رأيه بشجاعة، خطابةً أو كتابةً، يُعَدّ خطراً داهماً على العرش، ولذلك لا بدّ من إسكاته، فاتّبع المُستبد سياسة تكميم الأفواه، وأصبح أي إنسان عُرْضة لأفظع أنواع العقوبات إذا امتلك الجرأة على الكلام الذي يضرّ بمصلحة المُستبد.

    ويتحوَّل الكواكبيّ إلى مُحلِّل نفسيّ لشخصيّة المُستبد، فيذهب في تحليله إلى أبعد الأعماق، كاشفاً خبايا نفسه، على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب الشديد من براعة وصفه:

    “المستبد في لحظة جلوسهِ على عرشه، ووضعِ تاجه الموروث على رأسه، يرى نفسَه أنّه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يرجعُ النّظر فيرى نفْسَه في الأمر نفْسِهِ أعجز من كلِّ عاجز، وأنّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التّاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الرّيش في رأسك طاووساً وأنت غراب؟ (…) والله ما مكّنك في هذا المقام وسلّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظرْ أيُّها الصَّغيرُ المُكَبَّر، الحقيرُ الموقَّر، كيف تعيش معنا؟!”[4]

     لقد كان الكواكبيّ شجاعاً –وهذا أمر يجب التأكيد عليه دائماً-بل كان بطلاً فكريّاً قلَّ نظيره، وكانت شخصيته مجبولةً بحبِّ الخطر، وقد اختار مواجهة الظَّالمين، وأكسبته أسفاره الكثيرة خبرات كبيرة، فقد كان جوَّاب آفاق: سافر إلى الهند والصين ووصل إلى سواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا إلى أن ألقى عصا التّرحال في مصر، ولكن في مصر-كما يُجمِع المؤرِّخون- ترّصده أتباع السلطان العثماني عبد الحميد، ودسّوا له السُّم في فنجان قهوة في حينما كان جالساً مع أصدقائه في أحد مقاهي حي الأزبكيّة في القاهرة، فمات أحد أكثر المفكِّرين جرأة في التّاريخ العربيّ الحديث، واختفى مع موته كتابان هما “صحائف قريش” و”العظمة لله”، وقيل: إنَّ أعواناً للسلطان عبد الحميد سرقوا هذين الكتابين من منزل الكواكبيّ، ولم يبق من كتبه سوى “طبائع الاستبداد” و”أُمّ القُرى”.

    ولكن ها هو صدى صرخته المدويّة التي تُعبِّر عن اليأس الكبير الذي كان يسري في نفسه، ما زال يتردّد وقعها في أسماعنا:

      “يا قوم ينازعني والله الشُّعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حَيٍّ فأحييه بالسَّلام، أم أنا أخاطبُ أهل القبور فأحييهم بالرَّحمة؟! يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مُستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يُسمّى التنبّت، ويصح تشبيهه بالنّوم! يا ربّاه: إنّي أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة، وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون.”[5]

الحواشي


[1] -عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2009، ص: 30.

[2] -المصدر نفسه، ص: 45.

[3] -المصدر نفسه، ص: 44-45.

[4] -المصدر نفسه، ص: 59.

[5][5] -المصدر نفسه، ص: 108.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مشروع لإحياء المدن الميتة في الشمال السوري

مشروع لإحياء المدن الميتة في الشمال السوري

على هيئة كائنات حيّة لها هيئة وتفاصيل تتحوّل صور المواقع الأثرية في لوحاته، حيث يعمل الصحفي أغيد شيخو على مشروع قوامه الحفاظ على المواقع التراثية الواقعة بين حلب وإدلب شمال سوريا والتي يعود تاريخها إلى القرن الرابع للميلاد، وتُعرف باسم “المدن الميتة”.

يوضح شيخو في حوار أجريناه معه أنه “كان من المهم أنسنة المواقع الأثرية في اللوحات عبر برامج تقنية وتقديمها على شكل طائر أو إنسان أو نبات دون إضافة أي عناصر خارجية من خارج الصورة، كل حالة حسب ما تستوجبه..الخيال هنا يلعب دوراً هاماً وطبيعة الموقع، الذي يتحول بالمحصلة إلى كائن حي له روح ومشاعر نتعامل معه كما نتعامل مع بعضنا كبشر، التعاطي مع الأماكن التاريخية لابد أن يكون بذات المستوى من الحساسية بهدف تقدير أهميتها وحفظها من الاندثار”.

“الكثير من المواقع التاريخية والقلاع والمعابد الأثرية تعرّضت في بعض أجزائها وهيكلها للخراب، نتيجة الحرب في سوريا ومن هنا انطلقت الفكرة، يوضح شيخو “المواقع الأثرية كانت واحدة من الأماكن التي التجأ إليها النازحون اضطراريا بهدف حماية أنفسهم ، ولكن هذا النزوح كان له انعكاس سلبي عليها بسبب قلة الثقافة والوعي وعدم المعرفة بماهية الأماكن وقيمتها التاريخية وأهمية المحافظة عليها، هذا فضلاً عن عمليات التنقب  العشوائي، كلّ ذلك أدى إلى تضرّر عدد كبير من المواقع الأثرية في الشمال السوري”.

يضيف شيخو “التخريب الذي تعرضت له المواقع الأثرية في الشمال السوري كان يحتاج لجهود جبارة لحماية التراث عبر الإضاءة على المواقع الأثرية والتأكيد على أهميتها عبر اللوحات، بأنها ليست عبارة عن حجارة عشوائية فقط، إنما هي كائنات لها روح وكينونة وشخصية، دائما نستخدم مصطلح روح المكان وهو ما أحببت تجسيده على هيئة كائنات مختلفة بشرية وغير بشرية”.

يعدّ الشمال السوري بيئة خصبة تزخر بالمواقع الأثرية والتاريخية.. وفي هذا السياق يوضح شيخو الأساس الذي اعتمده لاختيار بعض المواقع الأثرية دوناً عن غيرها.. “المناطق التي اخترتها أوشكت على الاندثار في الذاكرة السورية، عملي بالأساس سيكون بلا جدوى من دون وجود صور للمواقع الأثرية، عندما يكون للصورة مصدر أقوم بذكر الأرشيف أو المصور فهذا يعطي عملي قيمة إضافية، لابد من شكر الجهات أو الأشخاص الذين قاموا بالتصوير والتوثيق، معظم صور المواقع التي عملت عليها كانت لرحّالة أجانب أو مستكشفين زاروا المنطقة بفترة عام 1900 للميلاد”.

التحدي الأكبر بالنسبة له كان تقديم المواقع الأثرية برؤية شبابية، عبر نمط مختلف وجديد، يُعقّب الصحفي السوري ” اللوحات اعتمدت على صورة واحدة فقط للموقع الأثري، الصعوبة كانت أنه حتى لنفس الموقع لايوجد صورة من جانب آخر، لطالما تساءلت كيف أستطيع خلق شخصية بصورة واحدة فقط بشكل جديد لا يعيد نفسه، الشخصيات التي ابتكرتها نستطيع تسميتها دمى أو كرتوناً حسب رؤية كل شخص، هذه الكائنات ليست لها حدود وقادرة على وصف الفكرة ببعدها التاريخي والإنساني والمكاني”.

وحول الخلطة التي جمعت بين عمله الصحفي ومجالات التصميم والرسم يقول شيخو “شغفي بالفنون ليس جديداً، بداياته كانت عبر محاولاتي احتراف فن الزخرفة الإسلامية، كذلك حاولت تجربة أنماط أخرى من الفن، منذ بداية عملي في الصحافة كان لديّ اهتمام بالثقافة والتوثيق، نطّلع يومياً على كم كبير من المعلومات بحكم عملنا كصحفيين، وهو ما انعكس على المشروع حيث دمجت بين العمل الصحفي والفني، في الحقيقة الأمر كله أتى بمحض الصدفة ولم يكن عن تخطيط مسبق”.

وبالنسبة للمرحلة القادمة من المشروع يوضح شيخو “المشروع مستمر ولكنه في الحقيقة بحاجة لدعم كبير أنا أعمل عليه بجهود شخصية بحتة من دون أي تمويل، الخطوة الثانية في حال توفرت الإمكانيات المناسبة تحويل اللوحات إلى دمى حقيقية، وتوزيعها على الطلاب في مخيمات النزوح في الشمال السوري أو أهالي المنطقة، لتسهيل شرح تاريخ المواقع الأثرية عبر دمىً لها تاريخ وأحداث عاشتها، مما يسهم في حفظ التراث الهام للمنطقة من الضياع والاندثار”.

“أغيد شيخو” صحفي ومذيع سوري مهتم بالبحث والتوثيق يقيم في إسطنبول، من مواليد عام 1987، أنهى اختصاصه الجامعي في اللغة العربية وآدابها، ويتابع دراسته حالياً في قسم “التراث الثقافي والسياحة” في جامعة إسطنبول، في رصيده العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومنها برنامج “خبر نوستالجي”، كما شارك في عدد من المعارض الجماعية في جامعة حلب بمجال التصوير، وله عدد من المطبوعات في مجال توثيق الحياة العامة.

مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

منذ منتصف مارس / آذار عام 2011، لم تفكّر الأصوات التي انطلقت في الشّوارع السوريّة، بحمل السّلاح من أجل التغيير، كان لدى أصحابها حلم بالحريّة. كانت أداة تعبيرهم الأبرز هي الهتاف ضدّ السلطة.

أصوات انطلقت من قهر العقود التي تسلّطت فيها عائلة واحدة على حكم البلاد، فانهمرت دون خوف، لتغير مسار التاريخ السوريّ والمنطقة. لم يكن ثمّة تخطيط للحالة التي وصلت إليها الأوضاع الأمنيّة لاحقاً، هذا ما يبدو، ولكنّ الجميع كان يدرك أنّ مصلحة النظام في سوريا هي أن تتسلّح الثورة، أن تتطرّف، أن تصبح شيئاً آخراً غير الثورة الشعبيّة.

وعلى مدى سنوات اكتسب فيها المجتمع وعيه السياسيّ الحرّ، كان يبدو ذلك بين حين وآخر في صور حراك شعبي هنا، ومظاهرات خجولة هناك.  بعد أن حصر النظام أغلب قوات المعارضة المسلّحة، في إدلب، شمال البلاد.

وعلى اختلاف تنوّع المناطق وتأثّرها بالحدث السوريّ، كانت حدّة التفاعل السياسيّ تظهر عبر منصّات التواصل الالكترونيّة، كردّ فعل على غياب العمل السياسيّ الميدانيّ على الأرض، بسبب القمع الأمنيّ والقتل العشوائيّ لكلّ من لا يؤيد أفعال النظام ضدّ معارضيه.

واليوم، هضم المجتمع في سوريا، كلّ أكاذيب السلطة وذرائعها لمنع التظاهر والثورة، وشهدت على ذلك مدينة السويداء، جنوب البلاد. إذ ومنذ أيام، لم يغادر أهل المدينة ساحات الاعتصام والتظاهر ضدّ النظام السوريّ، ورفع شعارات سياسية كانت هي السّيرة الأولى لثورة 15 آذار/ مارس 2011.

لقد استعاد الناس رغبتهم بالاحتجاج مجدداً ضد حكم النظام في سوريا، ترى ما الذي دفعهم للنزول مجدداً إلى الشارع في ظلّ الضغط الأمنيّ والاجتماعيّ الذي تعيشه البلاد؟

تواصل “موقع صالون سوريا” مع عدد من الناشطين في السويداء ومنهم شادي صعب، الذي أجابنا قائلاً: “نتيجة الاستعصاء الحاصل في العملية السياسية، وفشل اللجنة الدستورية في إيجاد مخرج للمسألة السورية. وقد ترافق ذلك بحالة خذلان عام بعد المبادرة العربية وانكفاء المجتمع الدولي عن إيجاد حلّ عادل للمقتلة السورية. كلّ ذلك ترافق مع حالة انهيار اقتصاديّ وقيميّ على المستوى المحليّ والوطنيّ في ظلّ انعدام أبسط مقومات الحياة والنجاة” بحسب رأيه.

ويضيف شادي خلال حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: “إن السّياسات الاقتصاديّة الخاطئة التي انتهجها النظام والتي فاقمت من معاناتنا وضيّقت علينا خيارات الحياة، حولت المجتمع السوريّ لطبقتين متمايزتين؛ الأولى، أقلية مستفيدة من فساد النظام وعابرة لكلّ الطوائف والجغرافيّات، تنعم برغد العيش، تستثمر بالفساد والدم، غير مكترثة بصرخات المقهورين. بينما الثانية، طبقة الأكثريّة المسحوقة، كذلك العابرة لكافة الطوائف والجغرافيّات، والتي دفعت الفاتورة الباهظة لفساد البطانة الحاكمة واتجارهم بدمائنا تحت ذريعة الحصار والعقوبات الأمميّة!” على حدّ قوله.

هي أسباب برأي شادي صعب “لم تجهض الأمل بالتغيير السلميّ، رغم مرور السنوات”. ويتوافق مع تلك النظرة، مرهف الشاعر، وهو مسؤول عن “مركز إعلام الانتفاضة” حيث يرى أن “هناك حالة قهر واستبداد منذ عقود، مضافاً إليها تهميش سياسيّ وتدمير لمستقبل الشباب وتهجيرهم” حسب ما وصف لـ “موقع صالون سوريا”.

بينما تعتبر أريج عامر (اسم مستعار)، وهي أحد الذين يشاركون اليوم في مظاهرات السويداء، أن دافعها للنزول إلى الشارع كان يقوم على “المطالبة برفع الرواتب في ظلّ رفع الدعم الحكوميّ عن الوقود” والذي “سوف يلعب دوراً كبيراً بارتفاع الأسعار، وعدم قدرة المواطن على شراء أبسط مستلزماته اليوميّة من طعام وأدوية وطبابة وكلفة اتصالات”.

وتؤكد أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا”: “أصبح راتب المواطن السوريّ لا يكفي أجرة مواصلات مع ارتفاع أسعار المازوت والبنزين. إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي، وانقطاع الماء بشكل كبير. أصبحت الحياة معجزة حقيقية بعد اثني عشر عاماً من النزاع، جميع شرائح المجتمع من معارضين وموالين، هي تحت خط الفقر” حسب تعبيرها.

أمّا رانيا ياسر (اسم مستعار)، وهي محامية وناشطة، تقول إنها نزلت إلى الشارع من أجل “إسقاط النظام” والمساهمة “كمحامية في ترسيخ العدالة وسيادة القانون وبناء الدولة الديموقراطية المتعددة”.

وتضيف خلال حديثها مع “موقع صالون سوريا”: “إننا ننادي دائماً بوطن حرّ، كريم، ومعافى لجميع السّوريين على اختلاف مشاربهم. لقد كانت انتفاضة السويداء وكنّا في الساحات نحلم بدولة ينال فيها السّوريون حقوقهم التي لن تتحقق إلا برحيل هذا النظام”.

طبيعة القوى

يروي شادي صعب بالتفاصيل كيف عادت المظاهرات إلى الشارع ومن كان خلفها، يقول: “اندلعت الانتفاضة في السويداء صباح الخميس 18 آب/أغسطس 2023، بشكل عفويّ، وذلك ردّاً على القرارات الجائرة التي اتخذتها الحكومة ليلاً برفع الدعم وزيادة أسعار المحروقات بنسبة 250% بشكل غير منطقي. وجاءت ردّة فعل المجتمع المحليّ في السويداء بقطع طريق دمشق السويداء في عدة قرى وبلدات، وتجمع المواطنون/ات بشكل عفويّ قبيل الظهر في ساحة الكرامة، للتعبير عن حالة الرفض ونفاذ الصبر لديهم، ووجهوا دعوة عامّة لكافة القوى الوطنيّة والاجتماعيّة للمشاركة في الإضراب العام صباح يوم الأحد 20 آب/أغسطس 2023، وسط ساحة الكرامة، موجهين دعوة للتجار في مدينة السويداء لإغلاق المتاجر ومشاركة أبناء مجتمعهم همّهم وحراكهم”.

ويضيف شادي في حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: لاقت دعوة الإضراب يوم الأحد قبولاً واسعاً لدى تجّار مدينة السويداء. أغلقت المحال التجارية بشكل كامل، كما شاركت مختلف الشرائح الاجتماعية في الوقفة الاحتجاجيّة وسط المدينة في صورة فريدة من نوعها”.

وفي إشارته لطبيعة القوى السياسية المشاركة، يقول شادي: “تعتبر القوى السياسيّة والديموقراطيّة للانتفاضة هي الحوامل الأساسية للحراك في السويداء، مثل “الهيئة الاجتماعيّة للعمل والوطنيّ” و “تجمّع القوى الوطنيّة” وغيرها من الكتل السياسية المعارضة. كذلك “تجمّع أحرار جبل العرب” بقيادة الشيخ “سليمان عبد الباقي”، و”قوات شيخ الكرامة” بقيادة ليث البلعوس، وعدد من منظمات المجتمع المدنيّ وتجمع المحامين الأحرار.

ويؤكد شادي أن الثقل الأكبر في الحراك كان بيان الرئيس الروحيّ لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري. حيث وصف موقفه بأنّه “غيّر كافة الموازين، حيث انهالت البيانات المؤيدة لمطالب المحتجين، ولعلّ أبرز تلك المواقف كان موقف حركة “رجال الكرامة” التي أكّدت دعهما ومشاركتها في الحراك وأعلنت جاهزيتها لحماية المنتفضين في الساحة”.

ولا تشك رانيا ياسر، أثناء حديثها لـ “موقع صالون سوريا” بأهمية مشاركة رجال الدين والمرجعية الدينية لها، لما لها من “احترام أمام الأهالي” لقد كانت أصوات المحتجين واضحة، ليست بحاجة إلى بيان، وإن استمرار وجود المشايخ بين الحشود “يكسب الحراك قوة، ودعم الرأي العام والذي ينعكس بشكل إيجابيّ على مستقبل الانتفاضة في السويداء، خصوصاً، وفي الثورة السورية، عموماً” على حد تعبيرها.

وكما تؤكد أريج عمار على تنوّع المشاركين في مظاهرات السويداء، وحسب ما قالته لـ “موقع صالون سوريا”: “كانت المشاركة جنباً إلى جنب بين عشائر الجبل ورجال الدين، وكذلك ثمّة مدنيون ونخب ثقافية إلى جانب فقراء الوطن. وظهرت أيضاً مشاركة ملفتة لحرائر السويداء، كانت ساحة الكرامة مليئة بكل الأطياف والأعمار، كباراً وصغاراً ونساءً وأطفالاً ويافعين”.

وتعتبر أريج أن مشاركة رجال الدين باحتجاجات السويداء هي جزء من قوّة الحراك “بعيداً عن الطائفية” لأن “لسان حالهم هو حال كلّ السّوريين، لسان الإنسانيّة، فكلّنا بشر. الدين لله والوطن للجميع، وهنا أذكر كيف ملأت السماء جملة واحد (واحد واحد الشعب السوري واحد)” على حد قولها.

ويرى مرهف الشاعر أن الانتفاضة الآن “شعبية جامعة” وفيها “قوى ناشئة كحركة الشبيبة الثورية” و “المحامين الأحرار” و “المهندسين الأحرار”.

ومع وجود طيف ديني في هذا الحراك، لا يخشى شادي صعب أن يكون هناك “تأثير سياسي” حسب ما قال لـ “موقع صالون سوريا”. إذ يؤكد أن “رجال الدين الداعمين للحراك هم يعبرون عن مطالبهم كمواطنين لهم حقوق ولا يتواجدون بصفتهم أصحاب مشروع دينيّ، ومشاركتهم المختلفة لها ثقلها وتأثيرها في تغيير المزاج العام للمجتمع المحليّ”.

وحول الانتقادات التي وجهت للحراك حول استخدام الرايات الدينية الخاصة بالطائفة الدرزية والمتمثلة براية التوحيد، فمن وجهة نظر شادي “أن ذلك لا يحمل أي بعد طائفي، هي هوية محلية تمثل أبناء المحافظة، لأنه من حق المجتمعات المحلية أن تعبر عن هويتها الخاصة وأن تنضوي تحتها في ظل العجز الحالي عن إنتاج مشروع وطني وهوية وطنية جامعة لكلّ السّوريين”.

ومن جهة أخرى، يرى مرهف الشاعر أن التأثير الديني في الحراك غير موجود “بمعناه المتطرف أو الإقصائيّ أو حتى الدينيّ التبشيري”.

وأكد مرهف لـ “موقع صالون سوريا” أن “رجال الدين يمارسون دوراً اجتماعياً مرتكزاً على مجموعة أعراف وعادات وتقاليد تدعم مطالب الناس، ولها تأثير إلى حد ما في ذهنية الناس، وبالأخص تلك اللحظات التي تتطلّب وقفات إنسانية” بحسب تعبيره.  

ومن هنا، يعتقد مرهف أن “رجال الدين المسلمين الدروز كان لهم دور في دعم الحراك المدني وجعلهم يتنفسون الصعداء، وذلك بعد أن كانت السلطة الحاكمة في سوريا تؤثر على تيار منهم وتحتكرهم تحت عباءتها”.

العُنف المنتظر

لا تخفي أريج عمار قلقها مع تجارب العنف التي شهدتها سوريا ضد المتظاهرين “خصوصاً إشاعات دخول تنظيم (داعش) الإسعافية للنظام، أو عمليات الاغتيال والتفجيرات المترافقة مع أي حراك داخل السويداء، لكن هذا لا يلغي إصرار المحتجين على النزول إلى الشارع في وقت ليس فيه ما يخسرونه سوى كرامتهم والتي هي خط أحمر”.

وتعتبر أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا” أن “خروج بقية المدن السورية إلى المظاهرات هو حافز لاستمرارية الحراك في السويداء”.

فيما يعوّل شادي صعب على ما سمّاه “خصوصية محافظة السويداء” وذلك خلال عقد من النزاع على آلية التعاطي من قبل سلطات الأمر الواقع، وخاصة مع الاحتجاجات وحالات العصيان. ونتيجة “المعادلات الصعبة في الجنوب وضبابية المواقف الدولية والإقليميّة، أعتقد أنه من الصعب استخدام القوة المفرطة من قبل النظام السوريّ في قمع التظاهر وإنهاء حالة الانتفاضة”.

ويؤكد شادي خلال حديثه لـ” موقع صالون سوريا”: “أن استمرارية الحراك وديمومته ليست مقتصرة على حالة عدم استخدام العنف فقط من قبل سلطات الأمر الواقع، دون رؤية استراتيجية واضحة للحراك، وفي ظلّ غياب تكتيكات جديدة ومتنوعة للمقاومة المدنية غير الاحتجاج اليومي في السّاحات، وفي حال عزوف باقي المدن السورية عن المشاركة، سيكون حراك السويداء معزولاً ويختنق داخل جغرافيته” على حدّ وصفه.

وترى أيضاً رانيا ياسر، أن هناك “خصوصية لمدينة السويداء وأن أي تصعيد من قبل النظام السوري سوف يقابله ردّ من قبل الفصائل التي كسبت في هذه الجولة تأييد رجال الدين مع التأكيد على سلمية الحراك منذ البداية”.

ظل ثورة 2011

تشكل “انتفاضة السويداء” حسب ما يسميها من قابلهم “موقع صالون سوريا”، امتداداً للثورة السورية التي انطلقت في 15 آذار / مارس عام 2011. والتي بدأت بمطالب إصلاحية شاملة ما لبث أن اتجهت إلى رفع سقف المطالب من الخدمية إلى السياسية.  

وهذا ما أكدّه شادي صعب، الذي أشار أنه في البداية كانت “المظاهرات عبارة عن احتجاج على قرارات الحكومة الأخيرة، ثمّ أصبحت تطالب باستعادة المال العام المنهوب ومحاسبة الفاسدين، لتنتقل في وقت قصير إلى إسقاط النظام والمطالبة برحيله، والمطالبة بجلاء كافة الاحتلالات عن الجغرافيا السورية” حسب تعبيره.

فيما كانت بعض المطالب “نوعية” كتطبيق القرار الأممي 2254، والمطالبة “بالانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، وإطلاق سراح المعتقلين”. وتطورت الشعارات لإسقاط “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المهيمن عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين وتركيا، والذين سرقوا حلم السوريين سابقاً” على حد قول شادي.

وإضافة إلى ذلك، قال مرهف الشاعر إن أحد المطالب كانت تتجه نحو “تطبيق لامركزية إدارية في محافظة السويداء، وفتح معبر باتجاه الأردن”.

كما أجمع كلّ ما تحدثوا لـ “موقع صالون سوريا” أن مظاهرات السويداء تجسيد جديد لثورة آذار/مارس 2011 من خلال طبيعة الشعارات والمطالب التي برزت في دوامة الاحتجاجات “كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة” حسب ما يقول شادي صعب. ومن خلال “نضوج الوعي السياسيّ” حسب ما تصف رانيا ياسر، وكذلك وجود بصمة جديدة من “رسائل التطمينات الجامعة مع رفع أعلام الثورة وعلم السلطة وراية التوحيد لنقول إننا نريد كلّ السوريين ضد هذه السلطة” حسب قول مرهف الشاعر.

لقد كانت الاثنا عشر عاماً الماضية “فرصة للنظام للإصلاح والتغيير ولإجاد الحلّ السياسيّ، ومحاربة الفساد ورفع مستوى المعيشة لكن ما حدث هو العكس تماماً، ونفذ صبر السّوريين وصار صوت الشارع هول الحلّ” حسب تعبير أريج عمار.  

وأخيراً يختم شادي صعب: “إن جلّ المشاركين في المظاهرات، هم من جيل الشباب الذين كبروا خلال عقد من النزاع “يصدحون بنفس الأهازيج والشعارات ويحييون باقي المدن السورية ويؤكدون على وحدة الدّم السوريّ في ظاهرة تؤكد أن النهايات المكتوبة بالدم وبسلب حقوق الشعوب هي بدايات مزهرة لجيلٍ جديد يرفض ما كتب وقرر أن يعيد البدايات كما يشتهي”.

يمكن مشاهدة عدة فيديوهات تغطي مظاهرات السويداء على قناة صالون سوريا على اليوتيوب هنا.

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

 قبل عام 2011  كان الاقتصاد السوري من أكثر اقتصادات الدول النامية تنوعاً، حيث كانت سوريا تنتج أكثر من 80% من غذائها وأدويتها وتُصدر الفائض منها إلى أكثر من 60 دولة، كما كانت من بين البلدان الخمسة الأولى عالمياً في إنتاج القطن وتربية الأغنام والأبقار، ويترواح إنتاجها من الحبوب بين 3،5 إلى 6 ملايين طن سنوياً، وهو ما يزيد عن حاجة السوق المحلية، فيما يصل إنتاجها من النفط إلى حدود 45 ألف برميل يومياً، هذا إلى جانب أنها كانت قبلة لملايين السياح من حول العالم، إذ وصل عددهم عام 2010 إلى أكثر من 8 ملايين سائح. 

ذلك الاقتصاد، الذي لم تُبق منه الحرب وتبعاتها  أي شيء يُذكر، بات اليوم يحتاج إلى معجزة لكي يتعافى، وذلك في ظل تراجع حجم الإنتاج المحلي في شتى المجالات، خاصة الإنتاج الزراعي والصناعي، وتراجع حجم الصادرات بشكل كبير، وغياب الاستثمارات، هذا إلى جانب توقف مئات المصانع والمعامل عن العمل، وهجرة آلاف الصناعيين -الذين نقلوا أعمالهم إلى الخارج- وأهم الخبرات والكفاءات الاقتصادية ورجال الأعمال والأيدي العاملة الماهرة.

ورغم أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد مستمر منذ سنوات وبشكلٍ متصاعد، أدى لانحسار وجود الطبقة الوسطى وازدياد نسبة طبقة الفقراء، إلا أن ما جرى خلال الشهرين الماضيين كان الأشد قسوة على معيشة الناس، مقارنة بسنوات الحرب وما بعدها، حيث  تصاعد سعر صرف الدولار من 7 آلاف ليرة إلى أكثر من 14 ألفاً، علماً أن سعر الدولار  مقابل الليرة قد تضاعف بنحو 280 ضعفاً بين عامي 2011 و 3023، فيما وصلت معدلات التضخم، وفق بعض المصادر، إلى 16137،32 بالمئة مع بداية العام الحالي. وفي ظل ذلك كله، أصبح اليوم متوسط دخل الموظف الحكومي أقل من تسعة دولارات، وهو يكفي فقط لشراء ثلاثة كيلو لحم فروج، أو 6 كيلو أرز، أو 6 كيلو عدس، أو أربعة ليترات زيت نباتي من أسوأ الأنواع، فيما لا يكفي لشراء كيلو لحم خاروف.

وبحسب بعض الدراسات الحديثة باتت الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج اليوم إلى نحو 6.5 مليون ليرة  لشراء متطلبات المعيشة الأساسية، ووفق بعض التقديرات المتعلقة بمستويات المعيشة الحالية فإنه يجب أن يتجاوز دخل الموظف الحكومي الستة ملايين ليرة شهرياً لكي يقترب من حجم القوة الشرائية لعام 2010.  وبالنظر إلى حجم دخله الحالي سيحتاج الموظف الحكومي اليوم، إذ ما ادخر كامل دخله الشهري، إلى نحو 150 عاماً (قرن ونصف) ليتمكن من شراء بيتٍ في مناطق العشوائيات، فيما سيحتاج إلى أكثر من ست سنوات ليتمكن من شراء برّادٍ منزلي، علماً أن سعر البرّاد (متوسط الجودة) حالياً يعادل سعر ثلاثة شقق سكنية في ريف دمشق عام 2010. 

ورغم أن القدرة الشرائية معدومة أصلاً عند معظم الناس، بعد أن تضاعفت أغلب الأسعار نحو 161 ضعفاً  بين عام 2011 وبداية عام 2023، إلا أن قفزات أسعار السلع الأساسية تتالت خلال الأسابيع الماضية لترتفع إلى أكثر من 70 % وتزيد من مأساة وأوجاع الشعب المهدد بلقمة عيشه.

هذا الواقع جعل عائلة الموظف عدنان (45 عاماً)، التي لجأت لسياسة تقشف مالية قاسية، تتخلى عن معظم عاداتها المعيشية بما فيها طقس شرب الشاي، وعن ذلك يحدثنا عدنان: “منذ سنوات اعتدت وعائلتي شرب الشاي ثلاث مرات يومياً، لكن هذا الطقس بات يكلفنا اليوم كامل دخلي الشهري (115ألف ليرة) من وظيفتي الحكومية، فهو يحتاج شهرياً لأربعة كيلو سكر (حوالي 65 ألف ليرة) ونحو 400 غرام شاي (60ألف ليرة)، لذا تخلينا عنه واستبدلناه بشرب النعناع -الذي نزرعه على الشرفة مرة واحدة يومياً مع إضافة بضع ذراتٍ من السكر في حال توفره”.

وإلى جانب عمله الوظيفي يعمل عدنان في المساء ولنحو ثماني ساعات سائقاً لسيارة أجرة، لكن عمله هذا لا يلبي ربع الحاجات المعيشية لعائلته، حيث تراجع دخل تلك المهنة بشكلٍ كبير، نتيجة شراء الوقود من السوق السوداء وارتفاع تعرفة النقل التي بات معظم الناس يعجزون عن دفعها.

وبالإضافة لمشروب الشاي، أصبحت القهوة، التي تُعد من أهم المشروبات اليومية، تغيب عن بيوت كثير من الناس، الذين باتوا يشربونها بتقشفٍ شديد، ويشترونها بكمياتِ قليلة قد تقل عن 100 غرام، حيث وصل سعر كيلو القهوة الجيدة إلى ما بين 130 و 160 ألف ليرة. وقد انتشرت في الأسواق بعض أنواع القهوة المغشوشة التي يضاف إليها مواد أخرى، مثل نواة التمر والقضامة والخبز اليابس، وذلك في محاولة لتخفيض سعرها (سعر الكيلو أكثر من 80 ألف) الذي بقي مرتفعاً ولا يتماشى مع القدرة الشرائية للفقراء.

سوء التغذية يهدد صحة الناس 

بحسب أحدث تقارير برنامج الأغذية العالمي فإن أكثر من نصف سكان سوريا يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما وضعها في صدارة البلدان التي تواجه أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، ما يعني أن معظم الناس باتوا يعانون من سوء التغذية الحاد، الذي يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض مثل فقر الدم، الكساح، هشاشة العظام، الاكتئاب، تضخم الغدة الدرقية وضعف المناعة، كما يؤثر بشكل كبير على صحة النساء الحوامل والمُرضعات وعلى نمو الجنين، ويهدد الصحة الجسدية والنفسية للأطفال الذين سيكونون عرضة لأمراض الهزال والتقزم، إلى جانب الإعاقات العقلية وصعوبات التعلم.

ولأن 90 % من الناس يعيشون  اليوم تحت خط الفقر، فإن معظمهم باتوا محرومين من تناول أبسط الأطعمة الصحية، التي يحتاجها الجسم السليم، خاصة اللحوم الحمراء (كيلو لحم الخاروف 130 ألف ليرة) ولحم الفروج (الكيلو بين 30 و50 ألف ليرة)، وقد باتت محلات بيع اللحوم تقلل من حجم الكميات المعروضة للبيع خوفاً من تعرضها للتلف، بعد تراجع نسبة الإقبال على شرائها، فيما غاب الفروج المشوي عن معظم المطاعم، لينحسر بيعه في أماكن محددة بعد أن تجاوز سعره السبعين ألف ليرة. وبينما كان بعض الناس يستعيضون عن تناول الأسماك (سعر كيلو السمك البحري بين 70 و200 ألف ليرة) بتناول السردين المعلب، فإن هذا الأمر لم يعد متاحاً اليوم، بعد أن وصل سعر علبة السردين إلى10 آلاف ليرة، وعلبة التونة إلى 20 ألف ليرة.

وإذا كان بعض الفقراء قد استبدلوا اللحوم بالبقوليات والحبوب، التي تمد أجسادهم ببعض القيم الغذائية، فإن الكثير منهم باتوا اليوم عاجزين عن شرائها، حيث وصل سعر كيلو العدس إلى عشرين ألف ليرة، والبرغل إلى أكثر من 12 ألف ليرة، والحمص إلى 15 ألف ليرة، فيما تجاوز سعر كيلو الفاصولياء اليابسة الـ 25 ألف ليرة. وفي المطاعم الشعبية التي كانت قبلة الفقراء، وصل سعر صحن الفول أو الحمص إلى 10 آلاف ليرة، وسعر الكيلو من تلك المادتين (مع إضافة صلصة اللبن أو الليمون والثوم) إلى 20 ألف ليرة.

أما الخضار والفاكهة فقد غادر بعض أنواعها موائد الكثير من الفقراء، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الفاصولياء الخضراء والبامية إلى نحو 15 ألف ليرة، وتخطى سعر الليمون  حاجز العشرة آلاف ليرة، فيما تراوح سعر بعض أنواع الفاكهة، كالخوخ والإجاص والتفاح والعنب، بين 8 و12 ألف ليرة. أما الكرز والتين والموز، التي وصل سعرها إلى 20 ألف ليرة، فقد باتت تتواجد في الأسواق بكميات قليلة وتباع في بعض المحلات التي يرتادها الزبائن الأثرياء.

ويعود ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة غير المبرر، إلى مجموعة عوامل منها: ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وتكاليف النقل بين المحافظات، صعوبة توفير المحروقات وارتفاع أجور العمالة، وانتشار أزمة المياه، التي أجبرت كثيراً من الفلاحين على شراء صهاريج الماء بأسعار كبيرة، هذا إلى جانب فتح أبواب التصدير الذي ساهم بارتفاع الأسعار محلياً، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الثوم بعد تصديره إلى 25 ألف ليرة، وهو ما حرم معظم الناس من شرائه بغرض المؤونة.

بيع الممتلكات لتأمين لقمة العيش

” خلال العام الحالي بعتُ كل ما تملكه زوجتي من مصاغٍ ذهبي، في محاولة لمقاومة الفقر وتأمين لقمة عيشنا، فالبقالية التي أعمل بها منذ سنوات لم تعد تحقق أية أرباح تذكر ولا تعود عليَّ سوى بمزيدٍ من الخسائر، في ظل ارتفاع الأسعار- الذي قلص حجم رأس المال وتراجع القدرة الشرائية. وخلال الشهرين الماضيين، ومع تدهور الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق  وصعوبة إيجاد عملٍ بديل يحقق أبسط متطلبات المعيشة، أُجبرت على بيع خاتم زواجنا الذي لم يُغادر إصبع زوجتي طوال عشر سنوات”. هذا ما يقوله خليل (45 عام/ أب لثلاثة أبناء) عن واقعه المعيشي الذي استهلك جميع مدخراته، مضيفاً بحسرة وألم: ” في الأسبوع الماضي وبعد عجزي عن دفع إيجار البيت (400 ألف ليرة شهرياً) لمدة شهرين، اضطررت لإعطاء صاحب البيت  بعض الأثاث المنزلي (تلفاز، أسطوانة غاز، مروحة، خمسة كراسي بلاستيك) كتعويض عن مبلغ الإيجار”.

  خليل هو واحد من آلاف الناس الذين أجبرهم تردي الواقع المعيشي على بيع مدخراتهم وأثاث بيوتهم. ففي محلات بيع الأثاث المستعمل ستشاهد المفروشات والخزائن وأدوات المطبخ والقطع الكهربائية تتكدس فوق بعضها بشكل يفضح حجم الألم، وكأن ذاكرة الناس تباع في الأسواق. ويحدثنا أبو معتز (54 عام/ صاحب محل لبيع الآثاث المستعمل) عن طبيعة مهنته في ظل الظروف الحالية: “فيما مضى كان الناس يبيعون بعض الأثاث القديم (خزائن، أَسرَّة، كنبايات، برادات وغسالات) بغرض استبداله بأثاثٍ جديد، أما اليوم فقد بات الكثير منهم يبيعون كل ما يمكن بيعه، بما في ذلك الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها. فإلى جانب المفروشات والكراسي وأسطوانات الغاز والأدوات الكهربائية (خلاط، مكنسة ، مروحة ، مكواة.. الخ) يضطرون لبيع البطانيات والطناجر والصحون والفناجين وجميع أدوات المطبخ”. ويضيف “كل يوم يأتينا من يعرض أغراضاً يُمكن بيعها مباشرة أو وضعها برسم البيع، حتى ولو حصل على ثمنها بالتقسيط. وقد استغنى كثير من الناس عن بعض القطع الثمينة (أطباق القيشاني والخزف، النحاسيات، التحف والأنتيكا وغيرها) التي كانوا يفاخرون باقتنائها، كونها تحظى بقيمة فنية أو أثرية، ليبيعونها بأثمان بخسة لا تراعي قيمتها”.

 وإلى جانب بيع المدخرات والأثاث المنزلي يضطر بعض الناس لبيع ثيابهم وأحذيتهم، التي كانوا يوزعونها على الفقراء فيما مضى، إلى محلات البالة وبسطات بيع الألبسة، التي صار بعضها يعتمد على البضائع المحلية المستعملة، بعد ارتفاع تكاليف استيراد الثياب الأوربية وارتفاع أسعار بيعها في الأسواق وعجز كثير من الناس عن شرائها.

هل هناك حلول؟

عند سؤال البعض عن الحلول الاقتصادية الممكنة في سوريا وكيف ينظرون إلى المستقبل، أجاب معظمهم  بكلمات مقتضبة، سوداوية وتشاؤمية، أو تحمل طابع السخرية المفرطة. المهندسة المعمارية نسرين، التي عجزت عن تكوين تصور واضح لأي حلٍ يمكن أن يضع حداً لتردي الواقع المعيشي، اكتفت بتوصيف معاناتها طيلة السنوات الماضية: “حين بدأت الحرب في سوريا كنت في الخامسة والعشرين من عمري، اليوم أصبح عمري  37 عاماً، المرحلة الذهبية من شبابي ضاعت وأنا ألهث باحثةً عن فرصة عملٍ مناسبة وعن تأمين أبسط متطلبات المعيشة ومقومات الحياة البشرية. نفذ صبري في انتظار أمل ما أو حلٍ لا يبدو أنه سيأتي قريباً، حتى صرت أشعر بالكره تجاه هذه البلاد وأحقد عليها”.

من جهته يرى الفنان التشكيلي منيار (34عام) أن تحسن الواقع المعيشي بات مستحيلاً في الأمد القريب، وسيزداد سوءاً مع قادم الأيام، في ظل غياب جميع مقومات الاقتصاد. ويضيف: “يجب على العالم ومنظمات الأمم المتحدة إيجاد حلٍ يوقف مأساة  الشعب السوري، وهذا الأمر يحتاج إلى حل سياسي ينهي وجود القوى الخارجية في سوريا، ويتيح إمكانية البدء في إعادة الإعمار وترميم البنى التحتية و فتح أبواب الاستثمارات”.

منيار الذي حرمه واقعه المعيشي من تحقيق حلمه الفني، ينتظر وعائلته بيع بعض ممتلكاتهم(منزلٍ أو قطعة أرض) لجمع مبلغ مالي يساعدهم على السفر نحو الخارج.

قبل أيامٍ قام جاري ببيع منزله، الذي بناه وأثَّثه بعناية فائقة، بنصف سعره الحقيقي، ليسافر مع عائلته إلى أربيل على أمل مغادرتها فيما بعد نحو أوروبا. ورغم أن جاري يُعد من ميسوري الحال، إلا أنه عجز عن مواصلة العيش في هذه البلاد، التي رفض مغادرتها طوال سنوات الحرب، رغم الخطر والموت، إذ كان يعشق دمشق بشكل جنوني ويشعر بانتماءٍ كبير نحوها، لكنه غادرها اليوم، وهو على أبواب السبعين من عمره، دون أن يشعر بأي حزنٍ أو أسف.

أنور السباعي وسردية تفكيك المقدس

أنور السباعي وسردية تفكيك المقدس

رغم التطور العلمي المتسارع والاختراعات التكنولوجية، مازالت الغيبيات تشكل عنصراً أساسياً من حياة الكثير من أعضاء مجتمعنا، ما يجعل فكرة تفكيك المقدس وتناوله بالتمحيص والتدقيق وطرح الشك والسؤال ركيزة لا بد منها للنهوض بالعقل المستنير المعتمد على الحقيقة العلمية المثبتة فكريًا، كخطوة أولية للحاق بركب التطور واختزال الزمن الذي يفصلنا عن مواكبة آخر ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية.

 من هنا برزت أهمية الجرأة في تناول الأدب لفكرة محاورة المقدس رغم ما ينتظر من يقتحم هذا الموضوع من مخاطر التكفير والتهديد بالقتل وقريب العهد محاولات المتشددين اغتيال نجيب محفوظ ومحاربة نصر حامد أبو زيد ونجاحهم في اغتيال فرج فودة رغم أنهم يعترفون بعدم قراءتهم  شيئًا لكل من ذكر. ولكن نما إليهم أنهم كافرون ومعادون للدين، فالدين يتشارك في كل مناحي الحياة الدنيوية التي تتغير بشكل متسارع ما يستوجب إعادة فهمه وقراءته بما يتناسب وروح العصر المتغير، وهذا ما اشتغل عليه أنور السباعي في كل من روايتيه: الأعراف ” برزخ في جنتين” و”مسيح الخلافة” حيث العتبة النصية بالعنوانين توحي بمقاربته للمسألة وتثير التساؤل بمقاصده وتدفع القارئ لتقصي ما يكتنف هذا العنوان من لبس وغموض.

ففي رواية “الأعراف” الصادرة عن كتابنا لعام 2018 يسوق الأقدار للقاء في زنزانة بين شيخ إمام جامع و ثوري ملحد على خلفية الأزمة التي مرت على البلاد السورية ضمن حوارية عملت على خلخلة العقلية الدينية في عمق قضاياها المسلم بها ورغم ضيق المكان الذي احتجزا فيه كان الفكر يحلق عاليًا مفككًا التاريخ والشرائع والنزاعات العقائدية والمذهبية يستند فيها إلى قول جلال الدين الرومي: “الحقيقة كانت مرآة بيد الله، وقعت وانكسرت شظايا، لذلك صار كل من ينظر في جزء منها يعتقد أنها الحقيقة كاملة.” ومن هذا الباب يتمترس كل في موقفه ويدعي احتكار الحقيقة ويرى الآخر مخالفًا له، رغم أن كل طرف منهم يستند على جزء منها ويترك جزءًا آخر ويمضي الحوار متصاعدًا حول معنى قبول الإله بالظلم المطبق على البشر وقتل الأطفال والكوارث التي تحصل. ما معنى أن يتفرج على ذلك كله، معرجًا على موضوع العقاب والثواب ومعنى العبادة ذاتها وما حاجة الإله المتعالي إليها وهو الغني عن ذلك كله، وربطه حواريات الفقهاء بالواقع السياسي في كل مرحلة، وكيف وظف الدين دائمًا في خدمة السياسة وحصد نتائجها المدمرة الفقراء والمضطهدون مستعرضًا بعض الآيات العنفية: “إن الذين كفروا بآياتنا، سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب” سورة النساء:56، عدا عن إثارة قضية خلق القرآن من جديد، هل هو خالق أم مخلوق؟ التي راح ضحيتها العديد من أصحاب فكر المعتزلة في التاريخ وهذا بحد ذاته كاف كي نتجاوز النصَّ إلى المعنى والفكر المعاصر.

أما في روايته “مسيح الخلافة” الصادرة عن دار سامح للنشر لعام 2022 فقد  بدأ بها كمن يسرد يوميات كائن يعيش اللاجدوى في السويد ولا يستوعب عقله أن تخلو الطرقات من الجثث والضحايا وألا تثقب أذنيه أصوات الهاون والمتفجرات مستحضرًا ذاكرة قريبة تشبه في جزء منها  أدب اليوميات في رؤية حداثية لتمازج الأجناس الأدبية عبر مذكرات الشخصية المحورية جيلان وتقاطعها مع حياة فادي وتلاقي مصائرهما رغم الاختلاف الطائفي، الطائفية التي كان لها وجوداً مدمرًا في المقتلة السورية،  وقد اجتمعت فصائل جهادية من كافة جهات الأرض لتمعن في النسيج الاجتماعي هتكًا وتمزيقًا، وتغيب بعدها مطالب الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية حيث  تبدلت المواقع مع أسلمة الحراك وتنوعت الأصوات والآراء والمواقف بين مؤيد ورافض وصامت.

فمقاربة المقدس الاجتماعي بدأت منذ البداية عندما تنامت تساؤلات جيلان الشخصية المحورية عن مفاهيم العقل الذكوري السائد باستخدام مفردات الأنوثة على شكل شتائم وما مر بها من الهواجس الأولى للفتاة وخوفها من ملامح أنوثتها؛ ولماذا هي عورة، وتخوفها من الحيض الأول؛ وبين الحيض والموت قصة حياة كل أنثى في الشرق وتطاولت أسئلتها لتتجرأ على المحرمات ورميها في محراب الرفض فمثلاً لماذا يحلل ضرب الزوج لزوجته في الآية المعروفة.

وما كلمات الأب ليتني “ما جنيت على أحد” كنوع من التناص مع وصية أبي العلاء على قبره “هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد” حيث نصف الكلمة يوحي بالشق الكامل الذي سكت عنه النص وهو تخوف الأب مما ينتظر كل امرأة لا تندرج في القطيع السائد فكيف تقنع المرأة بدين يدعو إلى ضربها، وهي ستضرب على أي حال ولكن مع الفتوى الدينية تحرر الذكر من عقدة الذنب تجاه الموضوع بأنه حق له ولكن علم الأخلاق هل يقول ذلك!

 فالصبية التي ربيت على الاعتزاز وفق قول نوال السعداوي: “لا تكوني مثل أي أحد كوني أنت” في صوت متفرد للمرأة في النص سليلة أبوين من طائفتين مختلفتين تعاني مواجهة مضاعفة في الحق والانتماء والهوية.

لا يريد أنور السباعي أن يتهم بأنه متحيز لدين محدد أو طائفة معينة ونقدها فهو ينتقد الجميع لذلك رغم كل ما نعرفه عن المحبة بالمسيحية يورد قول السيد المسيح: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا.
 
فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا.” (متى 10: 34) مؤكدًا على وجوب تأويل أي نص بما يتفق وينسجم مع روح وحاجات الإنسان المعاصر حيث يرى بذور للعنف في أي دين يجري استثماره لقضايا دنيوية وعهود محاكم التفتيش لاتزال حاضرة في الذاكرة.

يدخل الكاتب عميقًا في أفكار الأقليات مشيراً إلى ظاهرة التقمص عند بعض الطوائف الباطنية وكيف تستخدم في التنابذ المذهبي مستبطنًا وقوفها على الحياد في الأزمة التي عصفت بالبلاد والخوف الذي تعيشه لانتماء ولدت به ويتم تكفيرها بناء عليه.

يضيء كذلك على الأعراف المبثوثة بالوعي الديني وكيف المعزون بجد فادي من الأصدقاء يتحرجون من كلمة “الله يرحمه” لأن الرحمة لا تجوز على الكافر أو النصراني “ص 133” في بعض الفتاوى المتشددة، ويعيد للأذهان عبارة “نصراني طورق” التي درجت في فترة ماضية كان لا يستطيع فيها أن يمشي بالسوق رافعًا رأسه، فادي كان صوت الآخر في الحراك الذي يرى كيف يقصيه لانتمائه المذهبي ويورد استهجانه للتاريخ الذي يعتبره كمسيحي ذميًا أي ناقص المواطنة. الإضاءة كذلك على مجتمع داعش المتشدد في المجالين الديني والاجتماعي الذي ينظر للنساء نظرة دونية واستعبادية فيقول: “كل النساء عاهرات ماعدا أمي” والمواقف المتطرفة الأخرى في فهم الشريعة فكل من يمتنع عن بيعة الأمير يصنف في حكم الخوارج ويتوجب محاربته وNهدار دمه.

وكل ذلك باسم الرب، لمن يدعي امتلاك صوت الإله وجنته وناره، ناهيك عن الخوف الذي يكتنف صورة عذاب الآخرة وتصوير الخالق بشكل مفزع يقوم بشي من لا يلتزم بتعاليمه وعبادته ليكون ظل المستبد ودريئته التي يتحصن بها.

في أسلوب آخر من قراءة المذكرات للدخول في تاريخية أحداث حصلت بطريقة ما وعلى الرغم من أنها طريقة كلاسيكية لكنها لبست لبوسًا عصريًا في ذاكرة فادي عبر استخدام الذواكر الرقمية وأجهزة النت، فطريقة زر الإطلاق بالقتل لا تشعر القاتل بوطأتها وبالجرم المرتكب وتبدو كأنها لعبة كمبيوتر تدرب عليها اليافعون طويلًا لذا لم يدركوا أبعادها، ألا وهي سهولة القتل الذي لا يرى القاتل فيها ضحيته.

الريف الحلبي يشتعل وآمال الثورة عند جيلان باتت في الحضيض. سوريون بانتماءات مختلفة يتبادلون مواقعهم المتناقضة فمن كان مع الجيش السوري انتقل لصفوف داعش ومن كان مع الجيش الحر صار مع الجيش النظامي وهكذا دواليك. وفادي تحول من الإنسان المسالم المؤيد إلى مجاهد دوره جز الرقاب عند فقدانه لذاكرته ما يذكرنا بالمسلوب في قصة جنكيز إيتماتوف الذي لا يعي ولا يتذكر من كان وإنما حنين عميق يسحب روحه لشيء ما ولا يدرك معناه.

ففي حادثة موت سلمى صديقة جيلان، كل الاحتمالات واردة بالتسبب في مقتلها، هل هم الثوار الذين هاجموا بسيارة مفخخة؛ أم هو النظام الذي اضطرهم للسلاح؛ أم أن السلاح كان موجودًا من اليوم الأول؛ أو من أعطاهم التمويل للسلاح؛ أو من صنع تلك السيارة التي فخخت. من القاتل ومن الضحية، حيت بات تبادل الأدوار بردود الأفعال والدفع نحو الانتقام كل لمظلوميته التي يراها.

السؤال القاسي هل خرجنا للحرية أم لدفنها، الحرية باتت ثوبًا مطاطًا يلبسه جسد بكل الأحجام والكل يعتبرها قضية له وهدفه، ولكن الضياع هو مآل الكثيرين ممن خابت أحلامهم وممن لم يكونوا يريدون الوقوف في صف الرصاص، الضياع الذي أودى بنوار “ابن الساحل” للانتحار وهو ابن السجين السياسي السابق خوفًا من دخوله في حرب ليس طرفًا فيها.

الاسم الكردي لجيلان صاحبة الرؤية الملونة التي بها جذبت عاشقها إليها إذ إن هشاشتنا تعكس إنسانيتنا، حاول الكاتب من خلالها المرور ليطرح بعض النماذج عن القضية الكردية ومظلوميتها في طرحه لهموم الجنسية والحق فيها.

ينفصل السارد عن شخصياته ليذكرنا أنه في السويد يعيش غربته الأخرى في الزمن الحالي الذي يطل فيه على ذاكرته القريبة يحاور ذاته: كيف لي أن أحيا بلا أصوات قذائف وبلا جثث موزعة على الطرقات، ويفتش عن وجود يكون فاعلًا فيه، فالراوي المجهول الذي نكتشف دوره في الحكاية يميط الستار عن الأحداث في البدء ويسدله مرة أخرى ليكون أحد الشخوص في نهاية حكايته وقد انكسرت أحلامه واغتصبت ثورته وبقي وحيداً لا يقبله أحد معبرًا عن خيبة جيل كامل توزع مقهورًا في رحاب الأرض.