بواسطة عبد الحميد داوود | يونيو 29, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, مقالات
ارتبطَ اسمُها نضالاً وكفاحاً بقافلةِ شهداءِ السادسِ من أيار الذين قضوا وقد بذلوا نفوسَهم نضالاً في سبيل حريةِ أوطانِهم، وهي أول مَن لبَّى نداءَ السجناءِ مِن الأدباءِ ومعتقلي الرأي، وانبرت تدافعُ عنهم بنفسها وبقلمها الجريء، وتفضحُ حالَ السجونِ العثمانية الممتلئة بألوانِ العذابِ والاضطهادِ، التي رزح بها خيرةُ رجالِ الفكرِ والأدبِ والوطن، ولم تدخر جهداً كي لا يعلَّقوا على المشانقِ المنصوبة، لعلَّها توقِفُ ذلكَ الظلمَ الذي جرى على يدِ السفَّاح جمال باشا الذي وصفتهُ بِشرُّ طاغيةٍ ابتليت به البلاد، غيرَ خائفةٍ من عقابهِ ولا متهيبةً مشانقه وجواسيسه.
تُمثِّلُ ماري عجمي، الشاعرةُ والأديبةُ والصحافية الدمشقيَّة أو كما سمَّتها وداد سكاكيني ” أديبةُ الشَّام”، رمزاً بارزاً من رموزِ النهضة الثقافية والاجتماعية النسويَّة في سوريا في القرنِ الماضي، فهي التي وهبت الصحافةَ السورية في بداية انبثاقها، أولَ مجلةٍ نسائيةٍ ثقافيةٍ اجتماعيةٍ أسمَتها ‘‘العروس’’، وكانت رائدةَ أولَ مشروعٍ نهضويٍّ نسويٍّ، وبذلك تُعدُّ من مؤسسي الصحافةِ النسوية السورية، وقد ساهمت في تلك الثورةِ النسويةِ من خلال مشاريعِها التنويريةِ التشاركية، والعملِ في الصحافةِ وإنشاء الجمعيات والأندية الأدبية والمدارس.
ماري المناضلة:
سعتْ ماري غيرَ مُتخوّفةٍ ولا مُباليةً بِبطشِ السلطاتِ العثمانية إبانَ سياسةِ التتريك التي تعرَّضتْ لها البلاد، وجَهِدت بكلِ ما أمكنها أن توقفَ أحكامَ الاعدامِ التي أصدرتها المحكمة العُرفيةِ وطالت كوكبةً من رجالِ الأدبِ والفكر، وكانت الصحافيةُ الوحيدةُ التي دخلت السجونَ العثمانية وقابلت المحكومينَ المثقَلينَ بالسلاسلِ واطلعت على أوضاعِهم وظروف اعتقالِهم ووصفتْ أحوالَهم وما عليها من قهرٍ وحرمانٍ واحتقار للكرامةِ الإنسانية، ونقلتْ عنهم همومهم وطموحاتهم ورسائلهم، محاولةً بلقائها لبعض المتنفذين أن توقِفَ بعضَ الأحكامِ أو تخفّفها، وحين قابلت جمالِ باشا طلبتْ منه أن ينهي اعتقاله لرجالِ الثقافةِ والفكرِ الذين يوشكون على الإعدام، عقاباً لهم على تحديهم للحكمِ العثماني ومطالبتهم بتحرير بلادهم، وسعتْ لتشكيل لجنة تدافع عن حقوقهم وتطالب الواليَ جمال باشا بالعفو عنهم.
تقولُ ماري: ” لقدْ كنتُ أسمعُ أنينَ أولئك الشهداء، وأُبْصرُ مواكبهم المزمِعةَ على الرحيل، وأرى المشانقَ المنصوبةَ كأنَّها مواقفَ مناطيدِ المجدِ المحلّقة إلى السماء … “
لقد استطاعتْ ماري أن تتخطى اعتلالَ صحتها منذ شبابها، وأن تستعين بعكازها الذي رافقها دوماً لتحقيقِ نضالها وأهدافها الوطنيةِ رغم صعوبةِ الظروف، فبثباتِ روحها وإرادتها القوية، كانت تتقدمُ إلى جمال باشا لتطالبه بالعدلِ والإنسانيةِ تجاه رجالِ الفكرِ والثقافةِ.
مولد ماري وتعليمها:
وُلِدتْ ماري عجمي في دمشق القديمة بِمحيط الكاتدرائية المريميَّة في 14أيار / مايو عام 1888م من زوجةٍ ثانيةٍ لأبٍ كهل من أصلٍ حَمَويٍّ هُوَ يُوسف عَبده العجمي وكيل الكنيسة الكاتدرائية ويعمل في الحياكةِ وتجارةِ الحرير، انتقل جَدُّهُ إليان الحَمَوِيّ إلى دمشق وهُنَاكَ اكتسبتْ عائلتهُ اسم العَجَمي، لِتجارتهِ بالحُلْيِ إلى بلادِ العَجَم (فارس) كَمَا هُوَ معروف، عاشَتْ ماري في مدينةِ دمشق التي ارتبطت بها بروابطِ الحُبِّ والانتماء، ودرستْ الابتدائِيَّةَ بالمدرسةِ الإيرلندية ثُمَّ تابعت دراستها الإعداديَّة في المدرسةِ الروسيةِ؛ وُهِبتْ ماري منْذُ صِغَرها رُوحاً طموحةً، وقلباً تَفتَّحَ على دمشق التي أحبَّتْها وتَغْنَّتْ بها، نشرتْ أوَّلَ مقـالةٍ لها في جريدة ” المحبة ” وهيَ ابنةُ ثلاثة عشرَ ربيعاً، واستفادتْ من مكتبةِ نعمان قساطلي ومجلةِ ” الجامعة ” لفرح أنطون، وبعدَ أن أشبعتْ رُوحهَا من العربيةِ وآدَابها انتقلت لِتَعلُّمِ الإنجليزيَّة حتَّى أتقنتْها.
وَبغيةِ تحصيلِ علمٍ متسامٍ، واكتسابِ خبرةٍ ثريةٍ في الحياةِ، وتحقيقاً لِطمُوحها الرَّامِي إلى نهضةٍ عربيَّةٍ، حَوَّلت مسيرتَهَا الدّراسِيَّة نحوَ فنِّ التمريض في الجامعةِ الأمريكيةِ ببيروتَ في عام 1905، غيرَ أنَّها اضْطُرَّت للاستغناء عن هذا المشوارِ بسبب تدهُّور حالتها الصحيَّة، ومذَّاك الحين، اتَّسع نطاقُ اهتماماتِها ليشمَلَ تحريرَ المرأةِ وتعزيزَ دورهَا في المجتمع، وذلكَ عبرَ تبنيّها لمشروعٍ يَتَمَثَّلُ في تحطيمِ القُيود والتحدِّيات التي تعترضُ طريقَ المرأة، وإزالةِ العوائق التي تُؤخِّر تقدُّمها؛ وإنَّ براعتِها في ذلك الميدانِ وإخلاصها لهذَا الغرضِ، جعلا منها مثالاً يُحتذَى بهِ في النَّضال النَّسوي، وعُنصراً فاعِلاً في بناء مجتمعٍ أكثرَ تقدُّماً.
مجلةُ العَرُوسِ.. عَرُوس الصحافةِ السُّوريةِ:
واجهتِ الشَّابةُ السوريَّةُ ماري عجمي المجتمعَ الشرقيَّ بمشروعِها الإصلاحيَّ الجريء، فقد حملتْ بينَ كفَّيها مشروعاً إصلاحِيّاً وتنويريّاً، يُنادي بتحريرِ المرأةِ وإعطائِها مكانتها المُستحِقَّة واللَّائقةَ في المجتمع لتكونَ شريكةً فاعِلةً في النَّهضةِ العربيةِ الوليدة؛ وكانتْ تلك الفترةُ مليئةً بالتحوُّلات العميقةِ في الدولة العثمانية، التي انعكستْ تداعيَاتها على الشُّعُوب الخَاضِعة لهيمنتها، فقد بدأت نهضةً فكريةً وليدةً تتسلَّلُ بينَ طبقات المجتمع من المفكرين والأدباء، وكانت مقتصرة على الرَّجالِ دون النساء في مجتمعٍ حرَّم خُروجَ المرأةِ ونشاطَها.
لمْ تتردَّد ماري في مُواجهة مجتمعٍ رافضٍ لخروج المرأة إلى مضاميرَ تُعدُّ مِنَ المُحرَّمات، فأسَّست عامَ1910 م أَوَّلَ مجلَّةٍ نِسائيَّة في المنطقة العربية تدعو إلى تحرير المرأةِ وتمكينها وتختصُّ بقضاياها، وسمَّتها “العَرُوس” وقالت إنَّها عَرُوسُ المجتمعِ السُّوري، وعَمِلتْ ماري رئيسةً لتحرير المَجلَّة وإدارتِها، ووظَّفت عدداً منَ الفتيات المتعلَّمات للتحرير فيها مُستعينةً بأسماء مستعارةٍ خَشْيةً منْ انتقام المُجتمع.
قسَّمتْ ماري المجلَّة إلى أبوابٍ عدة أبرزها “حديثٌ ذُو شجونٍ”، حيثُ تضعُ انطباعَهَا وآرَاءَهَا حول بَعضِ القضايا وما تطالعهُ في المجلَّات الأجنبيةِ، وخصَّصت أبْواباً للمباحث النفسيَّة والفنونِ الجميلة والرُّوايةِ وتدبيرِ المنزل والاجتماع.
أصدرت ماري من عروسها أحد عشر مجلداً، طوال فترتي الحكمين التركي والفرنسي، وقد حملت أعباء المجلة وحدها، تلك التي ينوء بمثلها عُصبة من الرجال.
يبْرزُ هذا التنوُّع في الأبواب والتركيزُ على العُلُوم النفسية والاجتماعية الدَّور الرِّيَادي لهذه المجلَّةِ، أمَّا مَقَالاتُها التي يَعْلو فيها نَقْدُهَا فقد وقَّعتْها باسْمِ “ليلى”، ومنَ الواضحِ أنَّها كانت تحملُ رسالةَ التغْيِير والإصلاح في مجتمعٍ ما زالَ يرفضُ أن تكون المرأةُ شريكةً في الحياة العامَّة.
منبر العروس:
شَرَعتْ مجلة “العَرُوس” الآفاقَ أمامَ النساء ليعبِّرنَ عمَّا بداخِلِهنَّ وَيُبرِزْنَ أصوَاتَهُنَّ وَآراءَهُنَّ فيما حَولهُنَّ، فكتبتْ فيها عددٌ منَ السيَّدات الأديباتِ مثل روز شَحفة وأُنس بركات وزينب فواز وأديل عَجْمِي وسلمى كسَّاب وَنازك العابد وعفيفة صعب وغيرهنَّ.
كما كَتَبَ في “العَرُوس” رِجَالُ الفِكرِ والأدب في تلكَ الفترة كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وإيليا أبو ماضي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأخطل الصَّغير وعباس محمود العقاد وَغيرُهُم.
إن كَثْرَةَ الأدباء حوْلَ “العَرُوس” وَمُشَاركَتِهمْ الأفكارَ والمشاريعَ ذاتِها تُوحِيَان بالثَّقَافة الواسعةِ والمشروعِ النهضويِّ الذي اضطلعتْ بهِ ماري عجمي لتكونَ رائدةً في مجتمعٍ عاشَ قُرُوناً طوالاً في جهالةٍ مُطْبِقةٍ، ولِكُونِها واحدةً منهم، كانت قريبةً مِمَّا يُعانيهِ الأديبُ حتَّى تَتَجلَّى الفكرةُ أمامهُ ليحيلها إلى نصٍّ يُومضُ بما يبْتَغيه لذا صاغت قصيدةً تحكي عن حياتهِ، وَوحي فكرته، مُعَبِّرةً عن مُعَاناتِهِ، فأنشدتْ:
إن صفتْ خَمْرٌ بأقْدَاحِ الهَوَى مَــالَ يجْلُوهَا بأبْكَارِ البيانِ
أو شكتْ طيرٌ بأوداء الحمى هَــاجَهُ النَّـوْحُ فأبْكاهُ جِنَان
إنْ تقُولُوا ما بـِــــهِ مِنْ لـــوعَةٍ ليسَ ما فيهِ التياعُ بلْ حنان
كُـــلُّ قلْبٍ فـــــــــي البرايَـــــا قلبهُ فارحـموهُ إنَّهُ قلـبُ الزمانِ
رسائلُ حبٍّ في دهاليزِ الموت:
معَ اندلاعِ الحرب العالميةِ الأولى عام 1914م، ضاقت السلطاتُ العثمانيةُ بالصُّحف والمجلاَّتِ ذَرعاً فأغلقتِ الكثيرَ منها وكانتْ مجلة “العَرُوس” إحداها، كَما اعتقلت الكُتَّاب والأدُباء الوطنيين الأحرار المناهضينَ لسياساتهم، ومِنهُم بِترو الذي أملَتْ ماري رسائِلَهَا إليهِ في السِّجنِ حُبَّاً وامتِعاضاً مِنَ القمعِ الخارجي ومِنَ السجنِ المجتمعي الذي يَحُرمُ المرأةَ حُرِّيَّتها ومُطالبَتها بحُقوقِها.
كانَ المناضِلُ والصَّحفيُّ اليونانيُّ الفذْ وكيلُ مجلةِ “العَرُوس” في بيروت بِترو باولي قد وَقَعَ في حبِّ الكاتبة السورية ماري عجمي، التي أجَابتهُ بِمثلِ حُبِّهِ فَخُطِبَا وقد جمعتْ بينهُما روحُ النضالِ والكفاحِ ومحاربةِ الظلم والاستبداد التُّركي، إلَّا أنَّ السعادَةَ لم تَدم طويلاً، فبِترو كاتِبُ مَقَالاتٍ لاذِعةٍ ناقِدةٍ تهاجم السلطاتِ العثمانية وتدعو إلى التحرُّر والاستقلال، وقد كان يُوقِّعُ مقالاتهِ باسمِ “الباتِر”، الاسمِ الذي كانتْ ماري تُحبُّ أن تُناديهِ بهِ، فقَبَضَ عليه الأتراكُ وأُودِعَ في سجن عاليةَ في لُبنانَ، وكانتْ ماري تقطعُ المسافات ذهاباً وإياباً لزيارته، حتى نُقل إلى سجن قلعةِ دمشقَ، حيثُ استمرَّت زياراتُها له وللسجناء السياسيِّين والأدباء، تَطَّلعُ على أحوالهم وتنقلُ معاناتِهم، وقد خاطبتهُ مَرَّةً “أتدركُ أنَّكَ في سِجنِكَ أكثرَ حُرِّيةً مِنِّي، وَأنَّ السَّلاسِلَ والأقفالَ التي يَغلُّونَ بِها أيدِي السُّجناءِ ليستْ بأشدَّ مِمَّا تُوجَّه إلى ذاكِرَتِي”.
كانت ماري ترشُو الخُفراء في السجن لِلقاءِ خطيبِها والأدباءِ المسجُونينَ، وإن لم تستطِع، كانت تُرسلُ لهُم الرسائلَ، أو تُناجيهم عبرَ قساطِلِ المياه التي تنقُلها من عين الفيجه إلى السجنِ، ولم يخرج بِترو من السجن حَتَّى أُعدمَ معَ رفاقه في قافلةِ شُهداءِ السادسِ من أيَّار في العاصمةِ اللبنانيةِ بيروت، لم تنس ماري حبيبها الذي ذهبَ ضحيَّة الظُّلم والاستبدادِ وكان الحزنُ يتشَظَّى في قلبِها ويدفعُها إلى متابعةِ النضالِ بقلمها الدَّامي ضِدّ ظلمَ الأتراك واستبدادهم ولم تحبَّ ماري بعدهُ أحداً، بل كوَّنت فلسفتها في الحبِّ من تلكَ التجربةِ المؤلمة في دهاليزِ الموت:
يا وَاهبَ العُشَّــــــــــاقِ نضــــرتَهُ كالزَّهرِ يلهبُ حُسنَهُ وَرَقَهُ
ما الحُبُ أن ترجو مُوَاصلةً أو أن تظلَّ الدهر من عشقِه
الحُـــــــــــبُّ معنى لستَ تدركــــهُ مــــا لم تــرَ الأنوارَ مُنبَثِقه
لقد منحت ماري عجمي بقلمِها الحرِّ ولُغتها الرصِينةِ القدرةَ على نقلِ تجربةٍ عاطفيةٍ جذّابةٍ مليئةٍ بالحبِّ والألمِ في آنٍ معاً، فانصهرَ الحبُّ مع الكفاحِ من أجل الحريةِ في بوتقةٍ واحدةٍ، لتخرُجَ منها صورةٌ رائعةٌ لامرأةٍ عصاميةٍ لا تخشى الموتَ ولا تركع أمامه طالما كان الثمن هو الحرية والكرامة.
نشاطها النضالي والأدبي:
عبَّرت ماري بِتلقائيَّتها وفطنتها عن مساحاتٍ جديدةٍ في عالم الأدب والثقافةِ والإعلام واستطاعت من خلال ” العَروس ” أن تُنشئَ نهضةً نسويةً على مُستوى عربيٍّ، سمحت من خلالها للمرأةِ السورية التأكيدَ على دورها التفاعلي وقدرتها في تحمُّلِ مسؤوليةِ النهوض بالمُجتمع والنضال للتَّحرُّر من الاستعبادِ العُثماني. تقول عنها وداد سكاكيني: “وحين اتصلتْ بالمجتمع وتغلغلت في شؤونه وشجونه جعلت تدمغ بالحجة البالغة ما يُفترى على المرأة ظُلماً وكيداً، داعية قومها إلى تحريرها وتبصيرها، وإلى رفع مستواها بالتعليم والتقويم، لكي تكمِّل الرجل ويتعاونا معاً على بناء الأسرة والمجتمع”.
درست ماري الأدبَ العربيَّ في مدرسة الفرنسيسكان ( دار السلام ) مدةَ أربع سنوات في مطلع الثلاثينيات وسافرت إلى بغداد بقصدِ التدريس عام 1940م، لكنَّها لم تمكث هناك أكثر من سنة، عادت بعدها لتنصرف إلى النشاطاتِ الأدبيةِ والاجتماعية، وبعدما أثبتت الكاتبةُ مهارتَهَا اللُّغويةَ الفذّة وَقُدرَتَهَا على الترجمةِ بإتقانٍ، ترجمت أعمالَ عددٍ من الكاتبات الأمريكيَّات والإنجِليزيَّات اللواتي تركنَ بصمةً لافِتةً في عالمِ الأدب، مثلَ دُوروثِس دوكُس ولُويزا آلكوت وآلِن رُوبنسون، وقدَّمَت ترجَمَاتٍ عربيَّةً لِرُوايةَ “المَجْدَليَّةُ الحسنَاءُ” وكتاب “أمجد الغايات” للكاتبِ باسيل ماسِيوز.
ماري الشَّاعِرة:
وصفَ إسماعيل مروة شِعرَها قائلاً : عُرفَتْ ماري عجمي بجَودَةِ شِعْرِها ونَثْرِها، وقُدرتِها على نقْدِ هذَيِنِ الفَنَّينِ حتَّى أنَّها اُختيرت لتكونَ عضواً في لجنةِ النقدِ الأدبيِّ في جمعيةِ الرابطةِ الأدبية، وقد امتازَ شِعرُها بالرِّقة والعذوبة، والمَتانة والجَزالة في القافية واللُّغةِ والسَّبكِ والبلاغةِ العالية، وعمقِ المعنى وحُسنِ اختيارِ الكلمةِ، والتزامِ أوزانِ أشعارِ العربِ وقوافيهم. يقولُ محمود حاج سعيد عن ماري عجمي: ” لَمْ تعطِ ماري عجمي الشعرَ إلا جانباً يسيراً من اهتمامها، ولو تفرَّغتْ لهُ، كما تفرَّغَ فُحولُ الشُّعراءِ، لكانت شاعرةً تقِفُ إلى جانبِ كبارِ الشُّعراءِ دون ريبٍ، وقد امتازَ شِعرُها بالرِّقةِ والعذوبة، ومتانةِ القافية، وبلاغةِ المعنى، وحُسنِ اختيارِ الكلمةِ”
كان شعرها يدور في فلك الشؤون الذاتية والقضايا الاجتماعية والإنسانية والإشادة بالفلاح والعامل والجندي وحول جمال الطبيعة وحبها، ولا سيما دمشق وغوطتها، وكان لشعورها القومي أثر بيّن فقد تغنّت بلبنان وفلسطين وبغداد ومصر.
ويضيف إسماعيل مروة ” تتحول رباعية الحب والحزن والطبيعة والذات الشاعرة إلى مرتكز لرؤية الوجود والعالم في محاور البناء الفكري والوجداني والتخيلي لقصائد ماري عجمي، مؤثّرة في اختيارها موضوعاتها الشعرية.
وهي صاحبهُ قريحة شعرية اصطبغت بالرومانسيةِ لولعِهَا بالطبيعةِ التي عدَّتها محراباً لها، حيثُ هُناكَ يطيبُ العيشُ:
وأطيبُ العيشُ افتِراشُ الثَّرى وَشربَةٌ مِن سلسَبيلٍ عجيــب
فـــي ظِلِّ دوحٍ عابقٍ بالشَّـــذا يهتزُّ في الأصباحِ بالعندليب
كما وصفَ أمين نخلة شِعرَهَا قائِلاً: “أمَّا الشِّعرُ فإن ماري عجمي لمْ تجنحْ إلى نظمهِ إلَّا في بعضِ ما كانت تتحرَّكُ لهُ نَفْسُها في الأحيانِ من حُبٍّ للإيقاع وطربِ النَّغمةِ أو في بعضِ المخايلِ السامية، إنَّما شِعُرها أشْبَهُ شيءٍ بالزَّهرِ الزكيِّ في جِبالنا اللُّبنانيةِ أيامَ الرَّبيعِ يخرجُ إذْ يخرج فلا يدري أحَدٌ كيفَ طَلَعَ من قلبِ الأرض”.
كانتْ ماري تُولي دِمشْقَ بالغَ الحب وتُؤثِرها بالغَ الإيثار، وتَخُصّها بقصيدةٍ أو مُوشَّحٍ بَديعٍ كأنَّهُ نجْوَى المُحِبَّ للمحْبُوب، وكأنَّها كَتَبتْهُ وهي بعيدةٌ عن جُلَّقٍ مُشتاقةٌ لِرياضِها وغُوطَتِها وشَتَّى مَحَاسِنِها:
دمشقُ! إِذا غِبْتِ عن ناظِرِي فَرسمُكِ في حُسنِه الزَّاهرِ
مُقيمٌ على الدهرِ في خاطِرِي
يَهُـــــــبُّ نسيمُ الصَّبـــــا هاتِفًـا أَمَا والَّذي طــابَ من تُربتِكْ
إذا فتَّح الوردُ في روضـــتِكْ وغنَّــى الهزارُ على دوحتِكْ
سَمِعْتُ شَتَاتَ الأغَاني فَمَا اهْتَزَّزْتُ اهتِزَازي لأنشُوَدَتِك
ولا عبقت نفحةٌ في الفضا ألذُّ وأطـــــــــــيبُ مِــــن نَفْحَتِك
ذَهَبَتْ ماري ترنو بعيداً في أفقِ الكلماتِ، واستبصرتْ فضاءاتٍ رحبةً في الشعرِ وجاستْ أغواراً سحيقةً في الأدبِ والنَّثر قلَّما وَصَلَها أحد، لتعبِّرَ عن رؤَاهَا في دَعمِ أُمَّتِها واستنهاضِ الهممِ لصالحِ وَطَنِها، فَوَجَدت في الكلمةِ والأدَبِ ضوءاً تلتَمِسُ فيهِ طَريقاً إلى قُلُوب أبناءِ الوطن، تُقوِّي مِن عَزَائِمهم وتَشُدُّ عَضَدهُم لِلنُّهُوض بالاقتِصَاد المَحلِيِّ وتحفِيزِهِ، وتَحْرِصُ أن يَكونَ الاعتمادُ على المُنْتَجات المحليةِ في مُخْتَلَفِ المجالاتِ، فتناشدُ أبنَاءَ وَطَنِهَا بأنْ يلتَفِتُوا إلى ثرواتِ أرضِهِم ويستَثْمِرُوها ويَقِفُوا في وَجهِ المستعمرِ الذي يَسلِبُهُم خيراتِ بلادهِم ولقمةَ عيشِهم فتقولُ: “إنَّ المحراث في يدكَ أيُّها الرجُلُ، لسيفٌ تَذُودُ بهِ عنْ حَيَاتِكَ، والمِغْزَلُ في عينيكَ، أرهفُ سهم تناضلُ بهِ، دونَ مالكَ واستقلالكَ”.
وفي هذا السياقِ، لم تتوانَ ماري عن دعمِ العُمَّالِ والفلَّاحينَ في موقفٍ لافتٍ، حيثُ نسجتْ قصيدةَ “أملُ الفلَّاح” التي أبهرت الجميع بأسلُوبها البلاغيَّ ومضمونِها، وتوِّجت بالجائزةِ الأولى في محطة الإذاعةِ البريطانية بِلُنْدُن عامَ 1947، وكانَ تكريمُها للفلَّاح بأسلوبٍ فريدٍ من نوعه:
هُوَ الزَّارعُ الفــــلاحُ لولا جهــــــــــــادَهُ لَما شَمتْ بالرِّيحانِ حُسْنُ المخايلِ
هوَ الطَّوْدُ للعبءِ الثقيلِ وقدْ بَدَا على وَجْهِهِ من اتِّقَـــــــــادِ المَشَــاعِلِ
نبيٌّ فقدْ أوْحَى إلى القَفَرِ بالشَّذى وعلَّقَ أقراطَ الغصــــــــونِ الحَوامِلِ
رسَالَتُهُ طيبٌ وجنيٌ ونَشُّــــــــــــــــوةٌ وَكعْبَتهُ الخضـــــــــراءُ حجُّ القوافِلِ
نواد أدبية وثقافية:
بعدما انتهتِ التطلُّعاتُ إلى خيبةِ أملٍ بعدَ سيطرةِ الإنجليزِ والفرنسيين على دولِ المنطقة العربية، عادت ماري إلى توعية الشعبِ العربي والصدح بحقيقة مصالحِ الانتدابِ، وخاضت معركةً أدبيةً ونضاليَّةً شرسةً ضد الاستعمارِ الفرنسي الذي بذلَ كل ما بوسعهِ لإسكات صوتِها الحر وقلمِها الثائرِ، وحاولَ استمالَتَها بالذَّهبِ والجواهر، إلَّا أنها رَفَضَتْ كُلَّ المغرياتِ التي قُدِّمت لها، والذي ردَّ بتعطيل مجلة العروس نهائياً؛ وبعدَ أن تأكَّدت من أن حضارتيهما لم تأتِيا لتُعطيَ الشعوبَ العربيةَ حُقُوقَهَا وتمكِينَهَا من الحُكمِ الذَّاتيِّ، بلْ جاءت للاستيلاءِ على ثَرواتها واستعبادها، وزادت مقالاتُهَا حِدَّةً ساخرةً بفَرَنْسا ووعودِها الإصلاحيَّةِ ومُحاجَتِها وتبيَان كَذِبِهَا وَلُصُوصِيَّتها وتلاعُبِها بالبلادِ والعبادِ.
وَفي سَعْيها الدَؤُوبِ للإسهامِ في تحسينِ واقعِ المجتمعِ، أسَّستْ ماري مدرسةَ بناتِ الشُّهداءِ سنةَ 1920م بِالتَّعاونِ مع نازكِ العابدِ، وتعاونتْ مَعَ فاطمة مردم وسلوى الغزِّي في تأسيسِ جمعيَّةِ “يقظة المرأة الشامية”، وجمعيةِ “نُور الفيحاء” ونَاديها، بهدفِ تحقيقَ التَّنميةِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ للأفرادِ والمجتمعِ.
أسَّسَتْ أولَ رابطةٍ ثقافيَّةٍ في دمشقَ عُرفت باسم الرابطةِ الأدبية، انتُخِبَت ماري عُضواً في لجنةِ النقدِ الأدبيِّ في الجمعيةِ ذاتها عامَ 1921م، والتي انضمَّ إليها العديدُ من المثقَّفينَ والكتَّاب والفنَّانين من بينهم خليل مردم بيك وفخري البارودي وشفيق جبري، واصلتْ عَمَلَها المُثمر لثلاثِ سنوات حتى أغلقتها السلطاتُ الفرنسيةُ، وتحوَّلَ منزِلُهَا إلى صَرْحٍ ثَقَافِيٍّ هامٍ يجتمعُ بين جدرانه كوكبةٌ من أعيانِ دمشقَ مِنَ المثقفينَ والأُدَباء مِنَ النساءِ والرجالِ للحوار ومداولةِ قضايا الثقافةِ والسياسةِ.
بقيت ماري مستمرَّة في الدعوةِ إلى الحُرِّيَّةِ والعدالةِ وغرسِ الحسِّ الوطنيِّ وبُذورِ مناهضةِ الانتدابِ الفرنسي في نفوسِ الطلَّابِ واليافعينَ في مسيرتها للتعليمِ في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وإنارةِ العقولِ بالوعي والمعرفة، والتحريضِ على الانتفاضِ ضِدَّ القمعِ والدعوة إلى التحررِ من براثن الاستعمار، فأضحى منزلها منبراً للمثقفين يجتمعونَ فيهِ لمناقشة قضايا المجتمع العربيِّ ونهضتهِ والتداولِ فيها، وَدَعَتْ إلى النضال والثورة ضد الاستعمار والظلم، ودافعت بمقالاتها وخُطبها عن قيمِ الحرية والعدالة، ومنحت الشعبَ العربيَّ صوتًا وهيبةً وكرامةً، فهتفتْ بالنفسِ الثائرةِ التي تتوقد بين جنْبيِّ الشبابِ العربيِ في نضالهِ ضدَ الغاصبينَ لأرضهِ:
كــــــانَ كالبُلبُـلِ فـــي أيكَتِـــــهِ يَتَغَنَّــــــى بالقوافـــــــــي العامـِـرهْ
فَرَمَـى الكأسَ وألقــَـــــــــى نـــــايه وَمَضـَـــى للحــربِ نفساً ثائرهْ
باعَ يومَ النصرِ طوعاً روحهُ فهيَ ومضٌ بالنِّصالِ القاهرهْ
كـيْ يَدُكَّ الأرضَ بالخصــمِ فلا تتصبَّاهُ العوادِي الجائرهْ
هَلْ لَهَا إلَّا غيــورٌ حــــــــــــــــــازِمٌ لا يَهَابُ الموتَ، نارٌ صاهــرهْ
تَعْصِفُ النخوةُ في أضلاعهِ عصفةُ الريحِ بروضٍ عاطـِرهْ
فقد كانت الكاتبةُ والأديبةُ الرائدةُ ماري عجمي الشخصيةُ الإنسانيةُ المؤثرةُ التي تركت بصماتٍ وإرثًا لا يُنسى في عالمِ الشعرِ والنثرِ والأدب والثقافة، وواجهت التحديَّات بشجاعةٍ وعزيمةٍ وحكمة، وعملتْ دونَ كللٍ على إرساءِ دعائمِ نهضةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ في الأوساطِ العربيةِ.
الموت وحيدة:
لم تتوانَ ماري عن مُواصلةِ مشوارها الأدبيِّ والنضالي، ولم يبلُغْ منها اليأسُ محلاً فبعدَ إغلاقِ مجلةِ العَرُوس، في عامِ 1940م سافرت إلى العراقِ بقصد التدريس، وكانت من تلاميذها الشاعرةُ المبدعةُ نازك الملائكة، وبعدَ عودتِها إلى دِمَشْقَ، بدأ مرضها يتفاقم، وانزوتِ الشاعرةُ المناضلةُ في سبيل قضايا الوطنِ والمرأةِ وتحريرها وتكسير قيودِ المجتمع، وأصبحت تذوبُ وحيدةً في محيطِ الوجعِ، لا يزورها إلا بعض صديقاتها المقربات، حتَّى وافتها المنيةُ في 25 ديسمبر/ كانون الأول عام 1965م، ودُفِنت في دمشق، في جنازةٍ لم يشهدُها سوى 16 شخصاً من أقاربها ليسَ بينهم أديبٌ إلَّا فؤاد الشايب، ليبقى إرثُها يشعُّ نوراً وتألُقًا في عالمِ الأدبِ والثقافة.
وَمِنْ الكُتُبِ والمقالاتِ التي نُشرت وتحدثتْ عن أدبها، يأتي “ماري عجمي.. في مختاراتٍ منَ الشِّعرِ والنثر”، الذي يضمُّ أروعَ ما خطَّتهُ هذه الكاتبةُ الرائِدةُ، والذي نشرتهُ الرابطةُ الثقافيةُ النسائيةُ في منتصف القرن الماضي، وتباينتَ الردودُ حولَ هذا الإصدارِ الفريد، إذ نُقِشَ على صفحاتهِ الأولى بيتانٍ للزعيمِ السوري فارس الخُوري، الذي ردَّده عددٌ من المعجبين، مؤكدينَ بذلك على عبقريةِ الشَّاعرة الفذَّة:
يا أُهيلَ العبقريـــة سَجِّلوا هـذي الشَّهادهْ
إنَّ ماري العجميَّةَ هي مــــيُّ وزيــــــــــادهْ
ومنَ الشهاداتِ الأدبيةِ التي أُبرمتْ بحق الشاعرةِ والأديبةِ ماري عجمي، قالَ عنها رئيف الخوري في مهرجانِ تأبيِنها: ” نذرتْ حياتها نذراً للأدبِ، حتَّى ليمكن القولُ إنَّها ترهَّبت للأدبِ ولم تكن عروساً لغيرِ القلم “.
أمّا شهادةُ الشاعر خليل مردم بك فيقول فيها: لا أُحِبُّ من غوايةِ المرأةِ إلَّا غوايَتَهَا في الأدب، وأكثرُ ما يعجبني من أدبِ المرأةِ هو سحرُ الحياءِ، وهذانِ المعنيانِ ماثلان في الآنسة ماري عجمي وأدَبِها “، وقال أيضاً واصِفاً أدَبَها وشِعْرَها: ” جَمَعَتْ ماري بينَ الصناعتينِ النثرِ والنظم، فلها المقالاتُ والخُطبُ والقصائدُ، وعالجتِ الترجمة كما عالجت الإنشاء “
كما وصفتها الأديبَّةُ ناديا خوست: بأنَّها ” متألِّقَةُ الرُّوحِ، وَطَنيَّةٌ، حَادَّةُ البصرِ والبصيرةِ، جريئةٌ وعملاقةٌ، وكَتَبتْ بلُغَةٍ مُضرجةٍ كالفجرِ”.
وقال عنها الصحفي والأديب عبد الغني العطري في كتابه << حديث العبقريات >> وقد سمَّاها ” الأديبة الشاعرة والمناضلة الرائدة”، يقول: ” نحن لم نقمْ لها تمثالاً في حيِّها وهي جديرة بذلك، ولم نطلق اسمها على شارع وهي أهل لذلك أيضاً “.
وأشارت الأديبة كوليت خوري: لا شكَّ في أنها حتى هذه اللحظة لم تأخذ حقها من التاريخ.. ولم تحتل المكانة التي تليق بها في سجلِ المجد..”.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة طارق علي | يونيو 26, 2023 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
“العمل؟ اعمل؟ فرص؟، لا، لا، هذا لا يوجد في سوريا الجميلة، هنا تصل ليلك بنهارك، وتشحذ أنت وأهلك لتتخرج من الجامعة ثم أكبر عملٍ تقوم به هو أن تختار الجدار الأفضل في منزلك لتعلق شهادتك الجامعية عليه”. بحسرة بادية على وجهه يشكو المهندس المعماري علي غنوم (الذي تخرج قبل أربعة أعوام ولا زال دون عمل حتى الآن) من هذا الوضع خلال حديثه مع “صالون سوريا”. يحاول أن يخفي حسرته بابتسامة يبدو تعليلها ممكناً في السياق النفسي للسوريين الذين ذاقوا مرارة عيشٍ لم يشهده تاريخهم الحديث.
جيلا الثمانينيات والتسعينيات وجدا نفسيهما في مهب ريحٍ عاتية لم تسمح لهما بالحلم أساساً، ومن تمكن من خلق حلم لنفسه، لم يستطع تحقيقه.
من نافلة القول إنّ البلد التي ترزح تحت وطأة حرب غير مسبوقة دمرت معها أجيالاً كاملةً بمفاهيمها وعلومها وقدرتها على التغيير، وإن كانت نيّة التغيير تلك قائمة، ولكنّ ظروفاً أشد حجبتها وأرسلتها نحو عوالم يحكمها تأجيل المراد.
لم يكن الطريق أمام “صالون سوريا” صعباً خلال البحث بملف البطالة المتنامية، ولكن ما عقده هو احتدام التفاصيل المتشابهة بين أولئك العاطلين، فالجميع يملك القصة نفسها والأسباب والموجبات والشروط التي قادت إلى هذا الحال، ليصبح الخوض في الموضوع متطلباً لبحث أكثر تركيزاً لقراءة يوميات الناس بتأنٍ يكون معادلاً لحجم عذابهم في تأمين لقمة عيشهم.
لقمة مغمسة بالدم
مريم اسم مستعار لشابة من دمشق تخرجت قبل أعوام من كلية الآداب، قسم الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، سعت بصورة يومية متواصلة لتأمين فرصة عمل تواكب اختصاصها، ولكن دون نتيجة، حتى تمكنت من الظفر بوظيفة سكرتيرة في إحدى الشركات الخاصة.
تقول مريم عن تجربتها: “كانت رحلة بحثي عن العمل مضنية، فيها من الذل والمصاعب والبشاعة الكثير، ولكن لا بد أن أعمل، أولاً أنا خريجة جامعية، وثانياً أنا وأسرتي نحتاج المال مثل كل أسرة في هذا البلد، علينا أن نعين بعضنا لئلا نموت من الجوع، حقيقةً لا أدري إن كنا متنا من الجوع أساساً، لكني أعرف جيداً أنّ الدمعة التي لا تفارق عيني أبي لأنّه لا يستطيع إطعامنا تعادل كل قهر الكون”.
رغم أنّ مريم وجدت فرصة عملٍ، ولكنّ الأمور لم تسر لاحقاً على ما يرام، وبالمناسبة فقلةٌ من السوريين يعملون باختصاصهم الأكاديمي، وهذا كان حال مريم، وعملها ذاك ظفرت به بعد أن أكلت شوارع دمشق من قدميها لشدة ما مشت وتنقلت وبحثت حسب وصفها؟
بعد أقل من شهرٍ تعرضت مريم للتحرش اللفظي والجسدي من قبل مديرها في العمل، انهارت أعصابها وقتذاك كما تشرح لنا، وعانت الأمرّين، وحوصرت بين نارين، نار مرارة الحاجة للعمل، ونار صعوبة إبلاغ أهلها بما حصل، وفوق ذلك كرامتها التي هدرت على مذبح الراتب الشحيح.
وتصف معاناتها: “في الفترة الأولى كان يتعامل معي بشكل أخوي ومهذب جداً، وفجأة حاول الاقتراب مني ولا أريد الحديث بالتفاصيل، حصل ذلك في مكتبه، خرجت باكيةً ورحت هائمةً على وجهي في الشوارع، أنا الآن خائفة، خائفة كثيراً، خائفة من أي عمل آخر ومن الناس”.
استعباد مهني
تبدو رواية قصة مريم ضروريةً في السياق، فأحياناً تتخطى المشكلة نفسها، وتتجاوز حدودها المنطقية وتتعداها لتصل إلى تبعاتٍ تشكل عقداً نفسيةً مستحدثةً تصيب الباحثين عن العمل، أو الظافرين به. أليس غريباً أنّه حين يُسأل أي سوريٍّ عن عمله، يقول إنّه غير مرتاح؟.
قد يبدو الأمر شمولياً في طرحه بهذه الطريقة ولكن في الحقيقة إنّ قطاعات العمل المتنوعة على قلتها في الداخل السوري لا تؤمن ارتياحاً وظيفياً للعامل، فهناك مشاكل لا حصر لها تواجه العاملين، ليس بدءاً من الراتب الذي يعادل متوسطه الشهري نحو 11 دولاراً وصولاً لمشاكل الإدارات القائمة على الأعمال والشركات والمؤسسات والصراعات الوظيفية المطردة، مروراً بشروط الاستعباد المهني، وعدم التقدير، وغياب العدالة، ومشاكل التأمينات الاجتماعية.
وفوق ذلك القانون الذي يتعامى عن ضبط السوق الضيق لحماية حقوق موظفيه على صعيد القطاع الخاص الذي يعاني موظفوه أكثر من القلق الوظيفي حيث أنّ غالبية العاملين لا تبرم معهم عقود واضحة تضمن حقوقهم.
إجحاف وظيفي
هناك شركات رائدة كمثل شركة مابكو للأجهزة الخلوية والصيانة تجعل موظفيها الجدد يوقعون على أوراق ومستندات فارغة، وتلك المستندات كفيلة بسجنهم لسنوات. القائمون على العمل يرون في ذلك الإجراء حماية لحقوقهم هم من السرقة والإساءة والخيانة المهنية، أما عن حقوق موظفيهم، فلا إجابة!.
وثمة شركات كبرى أخرى تجبر الموظف على توقيع استقالته في يومه الأول بالعمل وترفقه ببقية الأوراق لتتمكن لاحقاً، في أي وقت، من الاستغناء عن موظفها دون مشاكل، ضامنةً ألّا يطالب بأيٍّ من حقوقه التي تنازل عنها سلفاً باستقالته المسبقة.
هذان الإجراءان على الرغم من إجحافهما وعدم قانونيتهما وإمعانهما في الإساءة الوظيفية للعاملين، يبدوان اليوم مقبولين جداً دون اعتراضات تذكر لدى المتقدمين للوظائف.
القبول بأية شروط
فايز الحسين (خريج قسم التاريخ وموظف سابق في شركة لا يرغب بذكر اسمها لأسباب خاصة) كان قد وقّع على أوراق فارغة واستقالة مسبقة.ويشرح فايز ظروفه: “كنت مضطراً للقبول بذلك، ثلاثة أعوام بعد التخرج ولم أظفر بعمل، هذه الظروف تتكاتف عليك لتقودك نحو خيارات غير آدمية وعليك أن تقبل بها أو أن تظل في منزلك لتسند جدرانه وتستدين ثمن الدخان من الناس”.
خرج فايز من الشركة بعد أكثر من نصف عام لعدم تمكنه من الانسجام بعد أن أعطى نفسه عدة فرص، وخرج دون أية حقوق أو امتيازات أو تعويضات، وكان يعرف ذلك سلفاً، ويستدرك قائلاً: “الشركات السورية لو تستطيع لكانت أخذت منا المال أيضاً بدل أن تعطينا”.
دراسات تبدو وهمية
توقفت إحصاءات الموقع الرسمي لمركز الإحصاء السوري (التابع لرئاسة مجلس الوزراء والمعني بتقديم بيانات وإحصائيات تتعلق بمجالات متعددة من بينها تعداد السكان والنمو الاقتصادي والسياحة والبطالة وغيرها) عند الفترة الممتدة ما بين 2001 و2011. وهذا بحدّ ذاته يثير الاستغراب على اعتبار أنّ المركز يصدر إحصائيات بين وقت وآخر، ولكن ليس على موقعه الرسمي المعني بذلك أساساً، إحصائيات متباعدة زمنياً والعثور عليها يتطلب بحثاً معمقاً عبر محركات البحث على الانترنت.
بعد بحث مضنٍ توصل “صالون سوريا” لدراسة أصدرها المركز العام الماضي تتحدث عن انخفاض كبير في نسبة البطالة التي تراجعت من 31.2 عام 2019 إلى 20.9 بالمئة عام 2020، وهي الدراسة الأخيرة التي صدرت عن المركز في هذا الشأن، ولكنّ ما جاء فيها من أرقام يبدو غير منطقي بالنسبة لاقتصاديين كثر، سيما أنّ المركز قال في وقت سابق إنّ ذروة البطالة كانت في عام 2015 ووصلت حتى 50 بالمئة.
لا أحد يدري كيف وصل المركز إلى هذه الأرقام، وعلى ماذا بنى في استنتاجاته ومسحه إن كان أجراه فعلاً، فخريجو الجامعات صاروا أكثر عدداً من أن يستوعبهم سوق العمل مهما أجريت عليه من تعديلات وتحديثات وهي لم تجرَ عملياً.
يكفي في هذا الإطار الاستدلال بخريجي كلية الإعلام كأنموذج، فالكلية على مدار سنوات الحرب كانت تخرج مئات الطلبة، بيد أنّ في سوريا قناة واحدة تتبع للقطاع الخاص، فعملياً مجموع كل القنوات بين خاص وعام في سوريا هو 6 قنوات، مع عدد قليل من الإذاعات والمواقع الإلكترونية والصحف الرسمية، إذن، خريجون جامعيون في تخصص لا سوق عمل له عملياً، وعلى هذا يمكن القياس.
يقبلون بأيّ عمل
يعمل أحمد معتز (خريج كلية الاقتصاد) محاسباً في سوبر ماركت صغير بدمشق، يجد أنّ عمله لا يتماشى بأي شكل مع طموحه، ويبدو هذا طبيعياً، فلا شك أنّ أحمد لم يدرس الاقتصاد أكاديمياً ليعمل محاسباً في محل صغير. ورغم ذلك، فهو عانى كثيراً حتى وجد هذا العمل الذي اضطر لقبوله في ظلّ شح فرص العمل بل وشبه انعدامها أحياناً، بحسبه.
ومثله سمية مؤنس الحائزة على درجة الماجستير في الأدب العربي، بيد أنّها تعمل في مجال المبيعات في محل ألبسة لقريبها، تقول سمية: “لم أجد عملاً يتوافق مع اختصاصي ولا حتى لا يتوافق معه، أقصد عملاً جيداً، وتحت اشتداد ظروف الحياة والقهر المعيشي كان لا بدّ أن أعمل بأي شيء”.
وعلى سوء حال أحمد وسمية إلّا أنّ حظهما يبدو أفضل بكثير من آلاف الخريجين الجامعيين الذين لم يجدوا عملاً رغم تخرجهم منذ سنوات. وهذا حالٌ عام في سوريا، فالسوق الضيق مكتظٌ لدرجة الانغلاق، أقلّه أنّ الحرب جعلت ذلك السوق عاجزاً عن تلبية متطلبات الدارسين مهنياً، وإلّا ما الذي كان سيدفع كل تلك الأعداد من الشبان والشابات للهجرة براً وبحراً وجواً!
هذا كلّه دون الحديث عن غير الخريجين الجامعيين، أولئك الذين لسبب أو لآخر لم تتح لهم الظروف إكمال تعليمهم، وهو حال قائم كنتيجة ضرورية للحرب القاسية، أولئك الأشخاص لا سوق عمل لهم من الأساس، باستثناء المصالح المهنية التي يمكن أن يشغلوها، ورغم ذلك، فتلك المصالح حتى وصلت حالاً متردياً لا يمكن التعويل عليه.
توزيع الثروات بعدل
تبدو العقوبات الغربية كمثل قانون قيصر وغيره إضافة إلى سوء إدارة الملف الاقتصادي حكومياً والتشعب الميداني والسياسي في الملف السوري وفقدان سوريا لمقدرات اقتصادية أساسية، كلّها عوامل أسهمت في صياغة الواقع الحالي على الأرض، والذي انعكس بطالةً متناميةً في ظلّ معدل تضخم غير مسبوق وتراجع هائل بمستوى التنمية، أشياء دفع ثمنها جيل سوريا الشاب.
لا يمكن الحديث عن البطالة دون الحديث عن الأثر النفسي المصاحب لها، والذي جعل المجتمع السوري أكثر ألماً مع تتالي السنوات، فمن كان يتوقع أن يعمل مهندسٌ على بسطة لبيع الملابس! حصل ذلك مع المهندس جابر الخير ولتكتمل معه مشهدية الغرابة في بلده أزيلت بسطته ضمن قرار إزالة البسطات الذي نفذته محافظة دمشق في العاصمة مطلع شهر أيار/مايو الفائت.
وما بين عامل بغير اختصاصه وباحث عن عمل روايات كثيرة تحكى، روايات عنوانها: نريد أن نشعر بمواطنتنا وبالقليل من حقوقنا أمام ذاك الكمّ الهائل من الواجبات، ومع ذلك الشعور مطالب يصفها أصحابها بالأحلام، مطالب على شكل توزيع الثروات بعدلٍ أمام كل ما يكتنزه أمراء الحرب من امتيازات وثروات.
بواسطة رهف حبوب | يونيو 22, 2023 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
بين رأس المعري ومدينته التي تغنّى بها وولد فيها وحضنته بعد وفاته آلاف الكيلومترات، حيث يلجأ رأسه الآن في بلدة “مونتروي” في ضواحي باريس، بينما يرقد رفاته وما تبقى من تمثاله في معرة النعمان في ريف إدلب شمالي غرب سوريا. فكيف كانت رحلة الشاعر الفيلسوف بين ريف إدلب وضواحي باريس متكئاً على أكتاف سورية حتى لا يضل الطريق؟
قصة مدينتين.. معرّة النعمان وباريس
في عام 973 وُلد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري في معرة النعمان. محطته الأولى مع المآسي التي سترسم خطوط حياته كانت منذ الصغر حين أُصيب حين كان بين الثالثة والرابعة من عمره بمرض الجدري الذي أصابه بالعمى، ذلك لم يغير من سعيه لطلب العلم في كنف عائلته التي ضمت القضاة والشعراء والعلماء.
درس في حلب علوم الأدب والإسلام وسرعان ما بدأ مسيرته الأدبية قبل أن يتركه خبر وفاة والده مفجوعاً. استمر بعدها في مشواره الأدبي لكنه لم يغامر في الرحلات كما اعتاد الشعراء من معاصريه، بل لم يبتعد المعري عن مدينته إلا حين درس في حلب ثم سافر في شبابه إلى بغداد ومكث فيها نحو عام ونصف حتى بلغه خبر مرض والدته لكنها رحلت في طريق عودته.
اعتكف بعد ذلك المعري وهجر الناس وانصرف إلى أدبه وعكف عن الزواج ولُقب بـ “رهين المحبسين” وهما منزله وبصره المفقود، كما أنه امتنع عن أكل اللحوم وعاش في زهد حتى وفاته عام 1057 في معرة النعمان بعد أن أصبح أحد أشهر الأدباء في عصره وأبرز الشعراء السوريين على الإطلاق، تاركاً إرثاً أدبياً ضخماً من عشرات الدواوين والكتب ليرقد مثوى المعري في منزله الذي احتضنه كل حياته وذلك بعد أن أوصى بأن يكتب على ضريحه: “هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”.
علاقة الشاعر بمدينته وانتمائه إليها لم ينتهِ برحيله، بل امتد الارتباط الوثيق ولم يُفك الحبل السري بينهما وخاصة بعد أن عاد إلى رحمها. فعلى امتداد القرون اللاحقة حجّ كثير من أصحاب العلم والمهتمين بالآداب إلى البناء المجاور لضريح الشاعر حيث ترك أعماله وكتبه كاملة، ولم يسمّ ذلك المكان بمركز أبي العلاء المعري الثقافي إلا في عام 1944 خلال المهرجان الأدبي في ذكرى مرور ألف عام على مولد أبي العلاء المعري، والذي دُعي إليه أقطاب العلم والأدب من العالم العربي أبرزهم طه حسين. خلال ذلك المهرجان رُفع النقاب عن التمثال النصفي للشاعر المعري والذي كُلّف بصنعه حينها النحات السوري فتحي محمد ليوضع أمام المركز الثقافي في قلب المعرّة.
الواقع المرير
الإهمال ترك بصمته على المكان كما على المنطقة بأسرها خلال الفترات اللاحقة، لكن ابن المدينة بقي أحد أبرز معالمها والشكل الأبرز لهويتها التي اعتادت المآسي. ومع انطلاق الثورة السورية في آذار -مارس عام 2011 كانت المدينة من أوائل المنضمين إليها ما جعلها تواجه عنف النظام وبطشه الذي طال قصفه ضريح المعري عدة مرات وأحدث أضراراً فيه، لكن الحدث الذي سيعيد المعري إلى خارطة أذهاننا الحالية كان في عام 2013 حين قطع متطرفون رأس تمثال المعري في حركة وصفها كثيرون بالاغتيال المعنوي للمفكر الذي اتهمه كثيرون بالزندقة بسبب انتقاداته ومواجهاته مع المتطرفين في زمانه.
جسد تمثال المعري لم يسلم أيضاً حيث استقرت فيه عدة رصاصات أرادوا خلالها أن يضعوا نهاية لمكانة الشاعر في قلوب سكان مدينته واغتياله بعد مئات السنين على وفاته. بقي تمثال المعري مقطوع الرأس شاهداً على ما مر في واحدة من أكبر مدن إدلب، فيما استعاد المركز الثقافي خلال السنوات اللاحقة بعضاً من مكانته بمساعدة مبادرات فردية ومجتمعية للحفاظ على تراث المنطقة وإرث الشاعر الضخم.
عمر خشّان، مدير المركز الثقافي السابق في معرة النعمان، كان قد صرح في تقارير إعلامية عن قيمة أبي العلاء لمدينته وأهلها أنها قيمة روحية ولا تتجسد في قبر أو ضريح. في عام 2020 سيطرت قوات النظام السوري على معرة النعمان بعد حملة عسكرية دمّرت أجزاء واسعة منها وتسببت بتهجير أغلب سكانها ليبقى المعري في حضن مدينته لكن ضريحه والبناء الذي كان يوماً أحد أهم المراكز الثقافية في المنطقة تحول إلى بناء مهجور، لتتحقق مقولة شاعر الفلاسفة عن مدينته يوماً “إن المعرة والذي فلق النوى هي للغريب وأهلها الغرباء”.
شحّت الأخبار عن المدينة بعد نزوح أغلب أهلها فلم يصل إلينا إلا بعض التقارير والشهادات التي تتحدث عن إهمال المركز الثقافي والضريح رغم مكانته الرمزية بين الأهالي، كما تحدث أحد السكان السابقين للمدينة الذي نزح إلى إحدى القرى القريبة من المعرة إلى موقع صالون سوريا قائلاً: “إن المعرة تعرضت للنهب والدمار وغياب الحياة وتدمير البنى التحتية والذي لم يسلم منه ضريح المعري أو المركز الثقافي التابع له”.
بالتزامن مع ذلك وعلى بعد آلاف الكيلومترات تحديداً في باريس انطلقت في عام 2018 مبادرة مؤسسة “ناجون” التي يرأسها الفنان فارس الحلو لإعادة الاعتبار والمكانة الرمزية للشاعر أبي العلاء المعري، الحملة بدأت بجمع المساهمات من العديد من الأشخاص بينهم ناجون من المعتقلات السورية وفنانون ونشطاء وشعراء وغيرهم، ثم عهدت المؤسسة بصنع تمثال رأس المعري الضخم للنحات عاصم باشا في غرناطة حيث نُصب هناك لسنوات قبل أن ينتقل إلى وجهته الجديدة.
المحطة الأخيرة حتى الآن في رحلة تمثال رأس المعري كانت في بلدة مونتروي الفرنسية حيث نُصب العمل الفني الضخم الذي يبلغ ارتفاعه نحو 3 أمتار في ضواحي باريس مؤخراً، بعد أن وافقت البلدة على لجوئه إليها، فارس الحلو صرّح أن العمل علامة ثقافية سورية على أن ينقل إلى مسقط رأس الشاعر معرة النعمان بعد إحلال السلام والعدالة في سوريا.
المنظمة تقول إنها اختارت المعري الذي قال يوماً “لا إمام سوى العقل” كونه رمزاً إنسانياً لحرية التفكير ومركزية العقل، إضافة إلى كونه مثالاً للمثقف الذي لا يخضع لأي سلطة، كما أرادت المنظمة التركيز على دعوته إلى ضرورة النقد الاجتماعي والثقافي ومواجهة المتطرفين.
كما أن المؤسسة تسعى من خلال المبادرة إلى تأسيـس بصمة ثقافية ســورية في الخارج، لتكون إحدى عوامل الضغط من أجل تحقيق العدالة في سوريا، كما تم إهداء التمثال إلى كل المناضلين والمغيّبين في كافة المعتقلات السورية والعالم، في محاولة أن يكون تمثال نجاة المعري ومعه أمل بنجاتنا جميعاً.
قيمة في مكانين
ربما يتساءل البعض عن أهمية مثل هذه الخطوة الرمزية، وكيف لرأس شاعر الفلاسفة -كما يلقبه البعض أن يترك أثراً على خطوط الهوية الثقافية السورية؟
في حديثنا مع الصحافي السوري المهتم بالشأن الثقافي السوري معتز عنتابي، أكّد أن نقل رأس المعري إلى باريس أعاد الاعتبار للشاعر وغيره من المفكرين الذين تعرض إرثهم الثقافي لمحاولات طمس متكررة حيث أن التمثال هو أول عمل فني سوري طوعي بهذا الحجم ويرسخ أهمية الرموز السورية التي تدعو إلى حرية السؤال والتفكير والتعبير، كما ركز عنتابي على أن تلك الخطوة تسلّط الضوء من جديد على التاريخ الفكري لهذه البقعة الجغرافية، حيث أراد القائمون على هذه المبادرة التذكير بإرث سوريا الثقافي والرموز الفكرية المعبرة عن هذا الإرث، في ظل ارتباط اسم البلاد خلال العقد الأخير بالنزاعات المسلحة والأزمات المعيشية، كما أن اختيار مدينة باريس الفرنسية مكانًا لعرضه يعبّر عن هروب ملايين السوريين نحو دول اللجوء وسعيهم للمحافظة على تراث بلادهم من النسيان.
في النهاية حصل السوريون على رصيد فني وثقافي في أوروبا في وقت يسعون فيه إلى أن يكون ذلك التمثال بمثابة “رسالة الغفران” للمعري عن المآسي التي عايشها ضريحه وتمثاله في بلده الأم.
بواسطة نادر عقل | يونيو 19, 2023 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
مع بداية كل موسم جديد، يفكِّر الفلاحون بتهيئة قطع صغيرة من الأرض متناثرة هنا وهناك في القرى الجبلية الساحليّة، من أجل زراعة شتلات التبغ استعداداً لتنميتها للحصول على موسم قد يُساعد هذه الطبقة الكادحة في مواجهة زوابع الفقر والجوع والحرمان.
تبدأ العمليّة بفلاحة الأرض، إما بوساطة الحيوانات أو جرّار زراعي، ثم تترك إلى شهر آذار حيث تُوضع كميات من السماد الطبيعيّ على وجه الحصر؛ لأنَّ السماد الكيماوي يُفقد التبغ نكهته ومذاقه الفريد، وتتفاضل أنواع السماد الطبيعيّ فأفضل الأنواع هو “بعر الماعز” ثم “بعر الغنم” وأخيراً “روث الأبقار”. وترجع جودة بعر الماعز كسماد للتبغ؛ لأنَّ غذاء الماعز من الأشجار الجبليّة التي يكون بعضها عطراً، فتعطي فضلات الماعز شتلات التبغ غذاء ممتازاً، فتصبح أوراق النبات ناعمة وممتعة للمدخنين؛ ولذلك أصبحت تجارة السماد الطبيعيّ ناجحة إلى حدّ بعيد، نظراً إلى حيويتها وأهميتها في يتعلّق بزراعة التبغ.
بعد أن يُفرش السماد الطبيعيّ على قطعة الأرض المُراد زراعتها في شهر آذار كما سبق القول، يقوم الفلاح بحراثة أرضه مرة أخرى من أجل أن يختلط السماد بالتربة على نحوٍ جيد، ويكون الفلاح قد جهّز ما يُسمّى باللغة الدارجة “المساكب”، وهي مكان من الأرض الزراعية يتراوح عرضه بين متر أو أكثر وطوله بين مترين أو أكثر، يقوم الفلاح بتكويم التراب فيه ليعلو فوق سطح التربة الطبيعية للأرض، ويبذر فيه بذور التبغ، ثم حينما تنمو الشتلات وتبلغ قدْراً معيناً من الحجم “يقلعها” من “المسكبة” ويزرعها في الأرض التي كان قد حضّرها مسبقاً في خطوط متلاحقة على امتداد الأرض، وتبعد عن بعضها بعضاً مسافات متناسبة، ويقوم الفلاح بسقاية التبغ والعناية به ومكافحته من الآفات على نحو مستمر، وإلا خسر موسمه.
ولقد قال لي أحد المزارعين إنَّ حبّات البَرَد تساقطت مرة على حقله، فتلفت شتلات التبغ كلّها؛ ولكنه ابتسم ابتسامة ماكرة، وقال: لم يستطع الطقس العنيف أن يدفعني إلى اليأس، فقد وجدتُ حلّاً، إذ قمت بقصّ شتلات التبغ كلّها من على وجه الأرض، ثم عادت ونبتت من جديد، وكان موسمي منها من أفضل مواسمي على الإطلاق.
حينما يأتي موسم قطاف أوراق التبغ في شهري تموز وآب يبدأ الفلاح هو وأسرته بقطفها ووضعها في سلال ثم نقلها إلى فسحة خاصة أمام منزل الأُسرة، يجلس بعد ذلك أفراد العائلة ويستخدم كلّ واحد منهم ما يُسمّى باللغة الدارجة “مِسَلَّة” وهي سيخ حديدي رقيق عرضه 1 سم وطوله 20 سم فيه ثقب من جهته الخلفيّة ومدبّب الرأس من جهته الأمامية مثل الإبرة، يوضع فيه خيط من القنّب ويُعقد ويتمّ شكّ أوراق التبغ بهذه “المِسلَّة”، ويُمرّر فيها خيط القنّب من رأس الورقة فتتخاصر الأوراق على الخيط، وتُراعى في عملية الشك أمور منها حجم الأوراق، فالأوراق القريبة الحجم من بعضها بعضاً تُشك في خيط واحد، وتستمر العمليّة حتى ينتهي استيعاب الخيط، ويتراوح طوله بين المتر أو المترين أحياناً. ومن هنا جاء اسم أحد أجود أنواع التبغ في سوريا وهو “شَكّ البنت”. إذ كانت البنات في القرى يساعدن أهاليهن على شك هذا النوع وهو المعروف أيضاً باسم التبغ البلدي؛ ولكن غلب عليه هذا الاسم الجميل “شك البنت”.
بعد أن تنتهي عملية شك أوراق التبغ وهي عملية مرهقة تستمر عدّة أيام، إذ إنَّ الفلاح لا يقطف الأوراق دفعة واحدة بسبب تفاوت نضوجها، فما يجب قطافه هو الأوراق التي أصبح لونها أصفر؛ أما الأوراق الخضراء، فتُترك إلى حين إصفرارها ثم تقطف. إذن، بعد أن تنتهي عملية شك الأوراق تُنقل خيوط التبغ، أي الخيوط التي تمَّ تعليق أوراق التبغ عليها إلى الخارج من أجل تعريضها لأشعة الشمس: فإما أن تُسطَح على الأرض ويتم تقليبها كلَّ يوم أو أو تعلّق بطرق مختلفة فوق الأرض، أو أن تُدلّى من أغصان الأشجار بحيث يشملها الظل، وهذه هي الطريقة الأفضل كما قال أحد المزارعين، وتبقى الأوراق على الأرض أو معلّقة حتى يتحوّل لونها من الأصفر إلى لون بني مُشرب بالحمرة، وتحتاج إلى شهر ونصف أو إلى شهرين من أجل بلوغ ذلك.
يقوم الفلاح بعد ذلك بجمع خيوط التبغ ويُشترط في ذلك أن يجمعها عند الفجر حتى تكون الأوراق طريّة مرنة، بسبب قطرات الندى، أما إذا جمعها الفلاح في الظهيرة مثلاً، فيمكن أن تتفتت الأوراق لأنها تكون يابسة بفعل حرارة الشمس فيخسر موسمه كلّه. هذا، وبعد أن يجمعها يقوم بترتيبها وتصنيفها ووضع خيوط التبغ فوق بعضها بعضاً على هيئة ما يُسمّيه الفلاحون “الشَبْحَة” وتُغلّف بغطاء أو كيس كبير مصنوع من البلاستيك وتُوضع خيوط التبغ داخله بترتيب معيّن ثم يُطوى عليها من أجل حفظها وتخميرها، ويكون ذلك طبعاً في مكان خاص (غرفة جانبيّة مثلاً) وتُترك أوراق التبغ من أجل التخمير ستة أشهر على الأقل.
بعد كلّ هذا العناء لا يحقّ للفلاح أن يبيع تبغه بالسعر الذي يراه مناسباً، وهذه هي المفاجأة الصاعقة؛ لأنَّ شركة حصر التبغ والتنباك التي يسمّيها مزارعو التبغ في سوريا (الريجي) تحتكر تجارة التبغ ولا تسمح لأيّ شخص بأن يتاجر بالتبغ وإذا فعل سيتعرض لعقوبات تصل إلى السجن ودفع غرامات ماليّة كبيرة، ولذلك تبعث هذه الشركة “خبراء” يقدّرون مدى جودة التبغ، وعلى هذا الأساس يصرفون مبالغ مالية للمزارعين الذين عملوا بإخلاص كامل من أجل الحصول على مبالغ مالية تافهة لا تتناسب مع جهودهم.
ولكن يقوم بعض مزارعي التبغ بإخفاء كميات من تبغهم عن مراقبي “الريجي”، ويبيعونها في السوق السوداء، ويتراوح سعر الكيلو غرام من ثلاثين ألف ليرة سورية إلى مئة ألف ليرة سورية، حسب جودة التبغ؛ ولكن الآن بدأت عملية مراقبة بيع التبغ في السوق السوداء من قِبَلِ الدولة، فأيّ شخص يُلقى القبض عليه وهو يقوم ببيع التبغ يتعرض إما للسجن أو لدفع غرامات مالية بأرقام كبيرة، فهناك تضييق حقيقيّ على مزارعي التبغ.
والأسوأ من ذلك أنَّ شركة حصر التبغ والتنباك في سوريا (الريجي) لم تنجح على مدى عشرات السنين في إنتاج أي نوع من التبغ صالح للتدخين، علماً أنَّ تبغ جبال الساحل السوري من أجود أنواع التبغ في العالم، ومردّ ذلك أنَّ الأنواع الجيدة من التبغ يتم تصديرها إلى الخارج للحصول على العملة الصعبة، وقد استطاعت الدولة أن تحصّل مبالغ طائلة من وراء تصدير التبغ إلى الخارج، علماً أنها لا تعطي مزارع التبغ ما يسدّ رمقه. أما الأنواع الرديئة من التبغ فيتم تصنيعها وتباع للمواطنين داخل سوريا؛ ولكن نظراً لرداءَتها اتجه المواطنون إلى شراء التبغ المُهرَّب عبر الحدود؛ ولكن حتى تهريب التبغ أصبح حكراً لأشخاص محدّدين من المقرّبين للسلطة، فما أحلاها من مهزلة ليس لها مثيل في تاريخ التبغ منذ الهنود الحمر الذين اكتشفوه إلى يوم الناس هذا.
يُعدُّ غريباً؛ بل عجيباً أن تُصادر حياة مزارع التبغ إلى هذا الحدّ، فشركة حصر التبغ والتنباك تفرض عليه زراعة أنواع محددة من التبغ، وتشتريها منه بالسعر الذي تحدّده، وتتحكم بمصيره تحكماً مطلقاً. والحقيقة أنَّ ما تفعله شركة حصر التبغ والتنباك هو استمرار لما فعله المشرفون على زراعة التبغ زمن الاحتلال العثماني وزمن الانتداب الفرنسي، فالعثمانيون والفرنسيون كانوا يعرفون مدى الأهمية الاقتصادية لزراعة التبغ في جبال الساحل السوري، فقمعوا المزارعين واستغلوهم وما زال هذا الاستغلال مستمراً، والأدهى من ذلك أنه حينما تمَّ تأميم شركة حصر التبغ والتنباك في سوريا عام 1951، تركت الحكومة آليات عمل الشركة دون أي تغيير، أي أنها تركت زراعة وصناعة وتجارة التبغ من مهامها التي لا ينافسها عليها أحد، وإن فعل سيُعاقب كما كان يُعاقب زمن الاحتلال العثماني وزمن الانتداب الفرنسيّ.
ولكن رغم كلّ هذه الضغوط ما زال القرويون يدخنون نبات التبغ مستمتعين به إلى أقصى حدّ، محاولين تأمين مؤونتهم منه بوسائل شتّى مخالفين ومتحدّين في آن شركة حصر التبغ والتنباك؛ مثلما تحدّوا شركة حصر العقول والنفوس!!! بل هناك أشخاص برعوا في صناعة سيجار يضاهي السيجار الكوبي، وهو يصنّعونه ويبيعون كميات قليلة منه سرّاً خوفاً من إلقاء القبض عليهم بتهمة الإضرار بالاقتصاد الوطني؛ الذي تهكم مرة الشاعر نديم محمد على وزيره في أبيات منسوبة إلى هذا الشاعر الكبير:
يا وزير الاقتصاد الوطني بالله قل لي كيف أصبحت غني
لم تهاجر لم تتاجر لم ترث عن أبيك الفذ غير الرسن
ولسوف نعثر على في سوريا على تجارب إنسانيّة تؤكد تأكيداً عميقاً جداً أنَّ جوهر الإنسان، يُعاد اكتشافه من جديد، أعني الإنسان بما هو إنسان، من دون انتمائه إلى عرق ولا طائفة ولا قبيلة، فجوهره هو ذلك الموجود الذي ينفث دخان لفافة تبغه في وجه الطغاة في الخارج والداخل الذين دمّروا حياته غير عابئ بهم، لأنه يبني انبثاق عالمه القادم من كفاحه وحيداً ضدهم، ولكن هذا الكفاح لا يظهر للعين غير الخبيرة، لأنه كفاح ليس من أجل قضية بعينها؛ بل من أجل الوجود، أو الاستمرار في الوجود.
بواسطة وداد سلوم | يونيو 16, 2023 | Culture, العربية, مقالات
جريمة على مسرح القباني هو عنوان رواية للكاتب السوري باسم سليمان. وقد صدرت عن دار ميم ويتناول فيها الحرب السورية التي استمرت لسنوات طويلة من خلال جريمة حدثت على مسرح القباني الشهير في دمشق. حول هذه الرواية، وعلاقتها بالموروث الثقافي، والحدث الراهن، كان لنا الحوار التالي مع الروائي:
وداد سلوم: تذهب بقوة وشجاعة في روايتك إلى تجريبٍ مختلف وحتى أقصى ما تحتمله الرواية فضمّنتها نصاً مسرحياً، مسرحية (الجثة) التي كتبها عبد الله القتيل -والحكاية أقصوصة الموت- والقصة القصيرة؛ قصة المقص على سبيل المثال، وإلى طرق أبواب قليل من تجرأ وطرقها، في الإشارة لضرورة إعادة قراءة النص القرآني والتراث وتفسيره على ضوء القراءة الجديدة، فهل غامرتَ بجمهور القراءة الذي كثيراً ما يرغب بالسهل ومتعة الحكي؟
باسم سليمان: هناك علاقة جدلية بين المضمون والشكل. ومن هذا المنحى كان لا بدّ من ورود المسرح والقصة والشعر ضمن سردية الرواية الكلية؛ وهذا ليس تجريباً محضاً. إنّ تقديم مقولة “السلام هبة العنف” التي ذكرها رينيه جيرار في بداية كتابه العنف والمقدس، والتي أوردتها في أول الرواية كبوصلة توجّه سمت القراءة، لن يكون لها من معنى، من دون وضعها موضع التطبيق العملي في الرواية. لقد اعتمد القدماء المسرح كما يشرح رينيه جيرار، كي يستحضروا العنف على خشبته محاولة منهم لإجهاض العنف، عبر تمثيله من خلال مسرحية ما، كي يحدث التطهير الأرسطي، ومن هنا كانت مسرحية الجثة في اعترافها المونولوجي أمام منكر ونكير، والذي تم التمثيل لهما بقناعي المسرح الضاحك والباكي كتطبيق لذلك. ولم يكن ورود القصص في الرواية إلا لأنّ القصص كانت الحامل الأول لنقل المعرفة والخبرة من جيل إلى جيل. وعبد الله في أوراقه كان يحكي لدميته قصص ما قبل حصول طوفان الدمار في سورية. وهو بذلك يقوم بإعطائها اللقاح كي لا تقع هي وجنسها من الدمى في العنف الذي وقع فيه البشر. وقد أتى الشعر من ذات الزاوية، فالشعر لم يكن في بدايته إلا تعازيم سحرية من أجل فرض إرادة الإنسان على واقعه العنيف والمجهول. وهكذا يصبح وجود المسرح والقصة والشعر في الرواية آلية رمزية لسحب دوافع العنف من التولد من جديد. إنّ وقوع جريمة قتل عبد الله في أول يوم من أيام عيد الأضحى على مسرح القباني، ما هي إلا باب سيتم الدخول منه إلى الأضحية الإبراهيمية وكشف الدوافع الخفية التي دفعت بالنبي إبراهيم لتقديم ابنه أضحية ومن ثم الفداء. فالأضحية الإبراهيمية تكشف لنا العنف المؤسس للوجود البشري، سواء كان ذلك بالخطيئة الأصلية المرمز لها بأكل التفاحة أو بإقدام قابيل على قتل هابيل. وأمام هذا الأصول العنفية للوجود البشري، لم يكن من مهرب إلا بإعادة سبرها مهما كانت المهمة صعبة على الكاتب والقارئ. لا أعتقد أن هناك كاتباً إلا ويقع تحت سطوة القلق من كيف تلقي نتاجه الأدبي، لكن هناك دوماً عزاء بوجود قرّاء يعوّل عليهم الروائي، سيقبلون مغامرته الخطرة، ويتقحمون معه المجهول. هذه هي أخلاقية الرواية، كما يقول ميلان كونديرا، وذلك بأن تذهب إلى حيث لم يتجرأ أحد على الذهاب. وهذه أخلاقية القراء الذين أعول عليهم أيضًا.
و.س: على خلفية هذا (حديثك عن أخلاقية الرواية وأخلاقية القارئ) وخلفية إهدائك الرواية إلى جميع السوريين. هل تعتقد أنّ الرواية يمكن أن تكون رافعة للوعي؟
ب. س: لا ريب أنّني لم أهادن القارئ في روايتي! وعندما تكلمت فيها عن الرسام الذي استغل الموت كتاجر حرب، كي ينجز لوحاته وشهرته الملوثة بالدماء، كأي قاتل آخر، أردت أن أوقظ القارئ من مثالية مخادعة. وهنا إذا أجبت متبجحاً، بأنّ فنّ الرواية يمكن عدّه من المحفّزات الجيدة للوعي؛ علينا أن نتذكر بأنّ أي أدب أو نتاج فنّي محكوم بأدلجة ما، كما يقول تيري إيغلتون في كتابه؛ نظرية الأدب. وبناء على ذلك كيف سيعرف القارئ أنّني لا أخدعه وأدس السم له في الدسم؟ إذن تكون الرواية رافعة للوعي، عندما يقف القارئ موقفاً نقدياً من الرواية، وإلا سيصبح الوعي المتأتي عن الرواية كضربة الحظ، قد يحدث أو لا يحدث! وإن كان من مثال على الوعي المزيّف الذي يحصله القارئ من رواية ما لا بدّ من ذكر تحليل رينيه جيرار في كتابه؛ الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية عن رواية مدام بوفاري؛ حيث أنّ الوعي الذي تحصّلت عليه من الروايات التي قرأتها أدّى بها إلى الاصطدام مع الواقع الحقيقي ومن ثم انتحارها.
و .س: لغة البطل كثيفة وعالية، ولولا الرمزي واتساعه، لاستغربنا السوية الثقافية والمعرفية واللغوية العالية المتجلية في أوراقه! فهل أراد الكاتب أن يعوضه بذلك عن التشوه الجسدي؟ إذ يعدّه ليكون أضحية، فتبدو أكثر كمالاً وبالتالي موصّلاً جيداً لمفهوم الفداء، فيحمل موته بالنتيجة مفهوم العنف المقدس الذي يمنع الثأر المتوالد والموروث وينهيه؟
ب .س: لقد كان الحكيم إيسوب عبداً وبشعاً. وأحدب نوتردام مشوهاً. والأول ما زالت مقولاته على ألسنة الناس إلى الآن، والثاني على الرغم من تشوهه استطاع أن يتخذ موقفا صحيحاً ومستبصراً بأنّ الثورة قادمة. وعليه ما الذي يختلف به عبد الله عن إيسوب وأحدب نوتردام، مع أنّ إشارات عديدة وردت في الرواية تشير إلى اهتمام عبد الله الجدّي بالمعرفة. بالتأكيد ستضلّل نشأته في ميتم وتشوّهه، وعمله في جمع القمامة، من حكمنا العقلي. وهذا كان مقصوداً، لأنّنا أميل لأن نأخذ بظاهر الأشياء. كان من الممكن أن يكون عبد الله غير مشوه، لكن تعارضه مع الأضحية النمطية، بأن تكون سليمة من العيوب، هو الذي فرض عليَّ تشويهه لأبرز التناقض بين أضحية عيد الأضحى التي شوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية، وتضحية عبد الله، فجاء التعارض الأول على صعيد المظهر الخارجي. أمّا التعارض على صعيد المضمون، فيكمن بأنّ التضحية المسكّنة للعنف يجب أن لا يكون من طالب ثأر خلفها. وبالمجتمع السوري الذي أدمي جراء الحرب، كيف يمكن إحلال السلام فيه من دون أن نوقف دورة العنف /الثأر. ولا يمكن حدوث ذلك إلا بأن يكون القاتل هو القتيل، والقتيل هو القاتل، فعبد الله هو القاتل والقتيل. هو الأضحية التي لا شائبة فيها، أي لا وجود لمن يطلب الثأر من أجلها.
و .س: تقول (أضحية عيد الأضحى التي شُوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية( ، ويقول المتهم في الرواية )حارس المسرح ):عيد الأضحى مسرحية تطهيرية عن خطيئتنا الأولى التي نمثلها ونكررها كل عام لكننا أضعنا جوهرها لذلك يكثر القتل فينا وعلينا” وهذا مؤشر آخر لدعوتك بإعادة قراءة النص القرآني والتراث للخروج من دوامة القتل منذ قتل قابيل لهابيل إلى دائرة الفداء. هذه الدعوة مهمة وجريئة وتصبح أكثر ضرورة كل يوم وهي تحدث بالرواية فتتقدم على الواقع الذي يطلبها ولا يتوصل إليها!
ب .س: آلية الفداء هي آلية مجتمعية لإدارة العنف كما القانون حالياً… وبالتالي الدعوة لإعادة قراءة النص الديني تندرج ضمن فهم الميكانيزميات الحاكمة بالمجتمع.
و. س: عبد الله ينسى كل يوم ما سبقه تقول : (ذاكرته تستيقظ كل يوم نظيفة من حيض التذكر) ويعود كما لو ولد تواً من التفجير، لكنه وجد طريقة للخلاص بالتدوين وكأن طريق الخروج من الأزمة يحتم التعلم والثقافة لبداية تأريخ جديد خارجاً من دوامة الحرب والعنف اليومية التي تأكل البلاد.
ب.س: إنّ النسيان أسلوب دفاعي تلجأ إليه النفس عندما لا تستطيع أن تتحمّل هول الفاجعة. لقد وعى عبد الله ذلك بشكل لا شعوري. وما القول بأنّه يستيقظ نظيفاً من حيض التذكر، إلا دلالة على رفضه للعقم، فهو يريد التذكر. ومن دون الذاكرة لا يمكن للأضحية أن تنجز مهمتها في التطهير، لذلك لجأ إلى التدوين، كما يفعل السجناء في حك حيطان السجن من أجل تدوين مرور الأيام، كي لا يفقدوا الإحساس بالتاريخ. إنّ التدوين وكتابة ما يحصل له في محيط الدمار كانا وسيلته الأولى لمقاومة الدمار، فالدمار أول ما يفعله هو أن يمحو الرموز والعلامات التي يستطيع بها العقل حيازة الواقع معرفياً. ومن هنا، كان التدوين والبحث بين الحطام على علامات متبقية، أسلوبه في إعادة رتق ذاكرته وجعلها خصبة من جديد. وعندما تم له ذلك خلق دميته/حواءه وشرع في تهيئة المسرح ورفع خشبته كي يعيد تمثيل مسرحية الجثة، كي تتم المصالحة بين القاتل والقتيل.
و.س: خشبة المسرح، هي سفينة نوح كما في حدث الطوفان!
ب.س: نعم التناص كان واضحاً.
و.س: تقول المصالحة بين القاتل والقتيل، وذلك يعيدنا إلى السؤال التالي:
ثلاثة تجمعهم صداقة الكتب، وتاريخ الميلاد، وجريمة يتقاسمونها بشكل ما؛ القاتل /المتهم ــ والقتيل/ الأضحية، ومن ثم المحقّق الذي يرث ساعة الأرمني مسيو كارنيك (والذي يعني اسمه الخروف ــ الأضحية أيضاً ) ، هل أردت مقاربة ثالوث جديد يكون فيه الموت على خشبة المسرح بانتظار قيامة الحياة /الخلق من قلب تل الخردة حيث تتشابك الأشلاء مع بقايا الدمار؟
ب.س: إنّ الجذر الثلاثي لفعل (قتل) هو الذي يمدّنا عبر الاشتقاق بكل من كلمتي: القاتل والقتيل. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني تعالقاً لا يمكن الفكاك منه، ما دمنا نأخذ معنى واحداً من معاني الجذر(قتل). ميزة مفهوم الفارماكوس اليوناني أنّه يشتمل بشكل واضح على معنيين متضادين، لكن متكاملين، فالسم يصنع منه الترياق، والترياق هو دواء السم. لهذا كانت الأضحية الفارماكوسية كعبد الله قادرة على إيقاف العنف لأنّها تكشف معاني الجذر (قتل)، فلا تصيبنا أحادية الرؤية بالعماء. ومن دون مسرحة العنف والأضحية، لايمكن أن نأخذ مسافة للحياد، ومن ثم المصالحة. والمسرح يقدم هذه المسافة عبر عبد الله نفسه، الذي قدّم نفسه أضحية على مسرح القباني جاذباً إلى دائرة الجريمة، ممثّل الثقافة؛ أي بائع الكتب. وممثّل السلطة؛ أي الرائد هشام، حتى يحدث الجدل الغائب بسبب العنف، ويتكشّف المعنى الجوهري للجذر (قتل) ألا وهو معرفة كنه الشيء! وعندها تتضح لنا أصول العنف، فمن الممكن تحقيق السلام والحياة بناء على ذلك.
البطل عبد الله كان يبحث عن هويته؛ يقول تدفعني الخيبة لا الأمل، لأبحث في الماضي عن تأصيل لهوية مضطربة. فخيبة الإنسان بالانتماء (عدم تحقّقه) تجعله يبحث في الهوامش عن بديل. وغالباً ما يعيد إحياء الانتماءات الضيقة كتعويض. وهي في الحقيقة محرك آلية العنف! أمّا عبد الله؛ فبحثه أخذه إلى المسرح والدمية ذات الصوت المكبوت أو العميق. أو كما أسميتها حواءه ومعها أكمل البحث وصولاً إلى إعادة الأب والأم إلى المسرح في إشارة لإعادة الحياة، تأصيل وتأسيس البحث عن هوية جديدة، هو القضية التي تؤسس الحياة الجديدة إذن!
لا أحد يستطيع الهرب من هويته، فهي معطى وجودي في حال ضياعه، فهذا يعني العدم. لكنّ البحث عن الهوية المحدّدة سلفاً يصبح حالة عنفية، عندما تبدأ بإلغاء الآخر، وأي هوية فيها من الإلغاء الكثير؛ لذلك قال سارتر: “الآخرون هم الجحيم”. أمام هذا الواقع المخيّب للآمال، كان لا بدّ لعبد الله ان يبتكر حلاً كي تنفتح الهوية على إنسانيتها، بحيث يصبح الآخر امتداداً حيوياً لها. إنّ تأصيل الوجود في مخيال عبد الله عبر الدمى التي صنعها لم يكن ليتم إلا عبر قصّ الخيوط التي تربط الدمى بيد محرك العرائس لتصبح حرّة. إنّها دعوة لخلق هوية تولد من محايثة الحياة تنمو كل يوم وتتجدّد، رافضة لأي شكل مسبق يحدّد وجودها، هكذا يصبح وجودها خياراً، لا قدراً محتوماً محدداً بشكل مسبق.
و. س: مقولة قتل الأب: ارتفعت الأصوات الداعية لها. وهناك الصوت التحذيري لديك قد جاء على شكل نبوءة؛ ستقتلون الأب ولن تجيدوا دفنه، ستقتلكم رائحة جثته، تقول: “سنوات، ونحن نحمل جثة الأب. ونحن نعلك لحمه كالصوف. والبلد تغرق بالقتل، نقتل الآباء ويتكاثر الأبناء كالجراد. وهكذا نعلن القطيعة، لنؤسس لأبوتنا وكراسينا المصنوعة من عظام الأباء”. فإذن قتل الأب كان تأسيساً لآباء لا يختلفون عنه، بل يتجاوزونه في القسوة! في عملية إعادة تدوير للعنف. لكنّك تعيد الأب وتجلبه للمسرح لنلمس تمييزك للأب الذي تريد إعادته المعبّر عنه بالعقل؟ ( هذا من فضل العقل) المقولة التي تحطمت في الهياج؟
ب.س: إنّ قضية قتل الأب قد تكرّرت كثيراً في الميثولوجيا الإنسانية. إذن هي رمزية أكثر منها فعلاً واقعياً، فقتل الأب، هو قطيعة مع منظومة سابقة ثبت فشلها، بأن تكون محايثة للحاضر. وبما أنّ مصير الأبناء أن يصبحوا آباء؛ إذن، هم ضحايا جدد. لهذا يقال، بأنّ الثورة تأكل أبناءها؛ وذلك عبر تحويلهم إلى آباء، من الضرورة أن نثور على الآباء الجدد. إنّ إعادة الأب عبر دمية في أوراق عبد الله مع ربطه بمقولة (هذا من فضل العقل) فقد جاء ذلك من أجل إيقاف دورة العنف، وإنشاء الحوار بين الأصول والفروع الذين سيغدون بدورهم أصولاً تنبت فروعاً وهكذا دواليك.
بواسطة محمد الواوي | يونيو 14, 2023 | Cost of War, News, العربية, تقارير, مقالات
في شباط/فبراير الماضي، ضرب زلزال مدمر جنوب تركيا وشمال سورية بقوة 7.7 درجات، تلاه آخر بقوة 7.6 درجات، ما أودى بحياة أكثر من 50 ألف شخص في البلدين.
فاقمت الكارثة الطبيعية معاناة سكان سورية بعد أكثر من عقد على اندلاع الصراع المسلح، حيث ألحق الزلزال أضراراً بالبنى التحتية إلى جانب الممتلكات الخاصة بالمواطنين، وما زالت مسألة تأمين المأوى تؤرق بال الذين خسروا منازلهم في المحافظات المنكوبة، ورغم تقديم حكومات وجهات رسمية وأهلية عربية وأجنبية منازل مؤقتة مسبقة الصنع للعائلات إلا أنها ليست بديلاً عن المساكن الدائمة في ظل أزمة اقتصادية وتضخم عام في أسعار مواد البناء والإكساء.
وأعلنت “اللجنة العليا للإغاثة” في الحكومة السورية خلال اجتماعها بتاريخ 2 آذار/ مارس الماضي أن عدد الأسر المتضررة المسجلة بلغ 91,794 أسرة، وبلغ عدد المباني غير الآمنة للعودة وغير القابلة للتدعيم 4,444 مبنى وعدد المباني التي تتطلب تدعيماً لتصبح آمنة 29,751 مبنى، أما عدد المباني الآمنة وتحتاج إلى صيانة فوصل إلى 30,113 مبنى، في حين هُدم 292 مبنى آيلاً للسقوط. (وكالة “سانا” الرسمية للأنباء).
قيمة الأضرار والخسائر
وأصدر “البنك الدولي” تقرير التقييم السريع للأضرار والاحتياجات الناتجة عن الزلزال في سورية (آذار، 2023)، حيث قدر البنك إجمالي قيمة الأضرار والخسائر بـ 5.2 مليار دولار أميركي.
ويتصدر قطاع الإسكان قائمة القطاعات المتضررة (24% من إجمالي الأضرار)، تليه قطاعات النقل والبيئة والزراعة. تعرّضت محافظة حلب لأكبر قدر من الأضرار (44% من إجمالي الأضرار)، تلتها محافظة إدلب (21%). وجاءت مدينة حلب أيضاً على رأس قائمة المدن الأشد تضرراً، إذ بلغ نصيبها نحو 60% من مجموع الأضرار، ثم اللاذقية (12%)، وأعزاز (10%). ويُقدِّر التقييم احتياجات التمويل لإعادة الإعمار والتعافي في المحافظات الست المشمولة بـ7.9 مليار دولار أميركي.
وفي سياق متصل، كشف تقييم الأمم المتحدة لاحتياجات تعافي سورية من الزلزال في أيار/مايو 2023 أن إجمالي الأضرار والخسائر وصل إلى قرابة 9 مليارات دولار، وأن هناك حاجة لحوالي 15 مليار دولار للتعافي في المناطق المتضررة.
من جهتها، أعدت “اللجنة الفرعية للإغاثة” في محافظة حلب تقريراً أولياً في أعقاب الزلزال. وأشار التقرير (تقرير غرفة عمليات محافظة حلب) في 17 شباط الماضي إلى أن عدد الأفراد المتضررين بلغ حوالي 65 ألف فرد، وتهدم 54 مبنى أثناء الزلزال، بينما هُدم 220 مبنى بسبب الزلزال في أحياء مختلفة من حلب، ووصل عدد المباني غير الآمنة لكنها قابلة للإصلاح إلى 2,287 مبنى، في حين ذكر التقرير أن عدد المباني غير القابلة للإصلاح ويجب هدمها بلغ 306 مبنى، وفي الوقت ذاته انتقلت حوالي 13 ألف أسرة إلى 188 مركز إيواء.
معضلة التمويل!
وافق “مجلس الوزراء” في آذار الماضي على مذكرة وزارة الأشغال العامة والإسكان لتأمين أراض بهدف بناء مساكن في محافظتي حلب واللاذقية تعود ملكيتها للمؤسسة العامة للإسكان والمجالس المحلية في المحافظتين، طبقاً لموقع المجلس على الإنترنت.
وفي هذا السياق، ترى وزيرة الاقتصاد السابقة في الحكومة السورية لمياء عاصي خلال حديث مع “صالون سوريا” أن تأمين التمويل اللازم لتعويض المتضررين مسألة صعبة، وتحتاج إلى جهود مشتركة من الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات المالية والتنموية المحلية والدولية، ولا يمكن أبداً الاعتماد على ما تخصصه الدولة في موازنتها العامة، لأن العجز المالي يشكل حوالي 30%، فضلاً عن نقاط ضعف كثيرة تعاني منها الموازنة ذاتها.
وصدر مرسوم تشريعي رقم 3 لعام 2023 يقضي بمنح إعفاءات خاصة للمتضررين من الزلزال تشمل الضرائب والرسوم المالية وبدلات الخدمات والتكاليف المحلية، ورسوم الترخيص على أعمال إعادة البناء أو التأهيل الكلي أو الجزئي لمنشآتهم ومحالهم ومنازلهم وأبنيتهم، حتى 31 ديسمبر/كانون الأول، 2024. وبموجب المرسوم، تمنح المصارف العامة قروضاً لمدة عشر سنوات للراغبين من المتضررين بمبلغ لا يتجاوز مائتي مليون ليرة سورية، وتسدد على أقساط يستحق أولها بعد انقضاء ثلاث سنوات على منح القرض.
تعتقد عاصي أن القروض المعفاة من الفوائد والرسوم -حسبما وردت في المرسوم- خطوة جيدة في حالة تضرر المباني بشكل جزئي، لكنها لن تكون كافية في حال إعادة البناء بشكل كلي.
وتوضح عاصي أن القروض تصبح مجدية إذا تجاوبت المصارف بشأن منح القروض دون اشتراط الملاءة المالية (ضمانات)، حسب المادة 13 من المرسوم، لأن كثيراً من أصحاب الأملاك الخاصة سيفشل بتقديم مثل تلك الضمانات غالباً، حيث لم يرد صراحة أي نص يفيد بأن الخزينة ستتحمل خسائر العجز عن السداد أو ما يسمى بالقروض المتعثرة.
ولا تخفي الوزيرة السابقة خشيتها من ارتفاع أسعار مواد البناء والإكساء بشكل مستمر، ما يعني انخفاض القدرة الشرائية للقروض الممنوحة بشكل سينعكس سلباً على عمليات الترميم وحتى البناء.
صندوق مالي
وصدر مرسوم رقم 7 لعام 2023 بإحداث صندوق وطني لتقديم الدعم المالي للمتضررين من الزلزال، وحددت موارده المالية من الاعتمادات التي ترصد له في الموازنة العامة للدولة، والمنح والإعانات والهبات والوصايا والتبرعات والمساهمات المالية ذات الطابع المحلي والدولي التي تقدمها الدول والمنظمات والاتحادات والنقابات والصناديق والهيئات والمؤسسات والشركات والأفراد وفق القوانين والأنظمة النافذة، وكذلك الفوائد المصرفية لإيداعات الصندوق أو أي موارد أخرى يوافق عليها المجلس وفق القوانين والأنظمة النافذة، وقدم المرسوم تخفيضات ضريبية للمتبرعين من المكلفين بالضرائب.
وحول هذه النقطة، تشير عاصي إلى أن المأخذ الرئيسي على الصندوق هو أن إدارته حكومية بنسبة كبيرة، في حين أن المحفزات التشجيعية لاجتذاب تبرعات رجال الأعمال غير كافية ومرنة.
تعد عاصي القروض المتاحة للمتضررين والمعفاة من الفوائد وتتكفل بفوائدها الخزينة العامة للدولة، خطوة جيدة إلا أنها غير كافية لحل المشاكل الناجمة عن الأضرار والخسائر التي سببها الزلزال، لذا فإن القروض الإنسانية التي تمنحها المؤسسات المالية التنموية الدولية قد تشكل طريقاً آخر في سبيل تأمين التمويل اللازم لتعويض للمتضررين.
قوائم أولية
أصدرت “محافظة حلب” في أيار الماضي الجدول الأول المتضمن أسماء المتضررين الذين انهدمت مبانيهم وعقاراتهم، ثم أتبعته بجدول ثان في حزيران.
وعلى غرار حلب، نشرت “محافظة اللاذقية” قائمتين بأسماء المتضررين في بعض العقارات التي تهدمت كلياً أو جزئياً أو التي أقرت لجان السلامة العامة أنها متصدعة وبحاجة إلى هدم أو تدعيم.
تقترح وزيرة الاقتصاد السابقة لمياء عاصي تقديم القروض الإنسانية من قبل المؤسسات المالية والتنموية الدولية مثل القروض والبرامج التي يطلقها “صندوق النقد الدولي” وغيره، كالصندوق الائتماني للنمو والصلابة، وهو برنامج لمنح قروض للدول المتضررة من الكوارث الطبيعية بشروط ميسرة وفائدة منخفضة، وقد تكون فائدة صفرية وفترات سداد طويلة الأمد، ويمكن استخدام هذه القروض لتغطية جزء من التكاليف المطلوبة لتعويض المتضررين.