التاريخ بقراءة مغايرة في رواية “الأفغاني-سماوات قلقة” لهوشنك أوسي

التاريخ بقراءة مغايرة في رواية “الأفغاني-سماوات قلقة” لهوشنك أوسي

“الحياة والموت وجهان أبديان للعبث”، بهذه التداعيات للأفكار الملتبسة يدخلنا هوشنك أوسي في تفاصيل روايته الثالثة “الأفغاني –سماوات قلقة” الصادرة عن دار خطوط وظلال الأردنية لعام2021 إلى أجواء مكابدات بطله ذي الحيوات الممتدة في التاريخ، وهو الملقب بالأفغاني على الرغم أنه لم يثبت على انتماء محدد لبلد أو مكان، فكل صديق اقترب منه أو صاحَبه  يجزم بانتمائه إلى بلده وإلى مكان يخص من جاوره، وما يعنيه ذلك من المعرفة العميقة والحميمة بصفاته وتاريخه، في مشابهة مع فكرة رواية بول أوستر “4321” بالمصائر المتعددة للشخصية الواحدة.

 الرجل الاستثناء الذي يتجول بين العصور، هذه الشخصية المتنوعة بمنعرجاتها الفكرية والموشحة بالشعر والرومانسية في القصائد المتروكة بعهدة كل صديق وكل منها بلغة مختلفة ما يؤكد عمق انتمائها الذي يدعيه في مخاتلة من الكاتب الذي يكاد في كل رواية لحياة منها أن يقنعنا بها ليراوغنا في الحكاية الثانية فما أن نقارب على الاقتناع حتى يقوض فهمنا التالي للشخصية التي خلقها ببراعة في مرويات من شهده وعاشره قبيل مصرعه. 

هذا النسج لشخصيات متعددة تتوالد من شخصية واحدة فيما بقي في ذهن من عاصروه، الشخصية الإشكالية التي استطاعت أن تحوز على ثقة واهتمام كل من التقاه على الرغم أن الراوي لم يقابلها إلا خلال فترة بسيطة في معسكر اللجوء في جزيرة خيوس اليونانية التي جمعت أطيافاً بشرية من كافة أنحاء البسيطة،  ليتم جمع كل هذه المعلومات من خلالهم بعد موت هذه الشخصية ورغم الشكوك التي تحيط بهذه النهاية ولكن الكاتب أدار دفة العمل لما يغاير المنحى البوليسي في البحث عن القاتل وجعله في معرفة القتيل من خلال معارفه، فالأول منها يعتقد ومتأكد من أنه مصري من عشاق عبد الحليم حافظ والمقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ومن الذين شهدوا حرب مصر مع إسرائيل وله رأي يظهر فيه تخاذل السادات. 

الشخصية الثانية للأفغاني يفترضه فلسطينيًا هجر من أرضه و كبر وسط المأساة وعانى من نكبات متتالية؛ تهجير 1967؛ ومن ثم أيلول الأسود في الأردن؛ وبعدها شارك بحرب1982 بلبنان؛ وانتقل مع المقاتلين الفلسطينيين إلى تونس ومنها إلى لندن وبعدها رجع يتنقل بين العواصم خاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو ليترقى في المناصب الأمنية وبعدها استقال محاولًا الرجوع إلى حياته وتجارة الأقمشة ومعاودة  القراءة بعد أن يئس من السياسة، لأن بداية انتمائه الحزبي كانت  مشحونة بالأوهام عن أعداء الثورة الواجب تصفيتهم، الأمر الذي خلق مناخ الاحتراب بين الفصائل الفلسطينية،  ما جعله يكره ذاته إضافة لرأيه في قضية محمود درويش وناجي العلي بمن يخسر كل شيء ومن يفوز بكل شيء، وقد كان قد قرر أن يفجر قنبلة وأن يعترف بأنه أحد المتورطين باغتيال ناجي العلي لكنه اغتيل دون ذلك.

الشخصية الثالثة للأفغاني يفترضه أفغانيًا يعاني من تبعات ومخازي الاحتلال الأميركي وفجور جنوده وتعنت طالبان.

الشخصية الرابعة جزائري ابن يهودي تربطه علاقات مع قيادات الثورة الجزائرية والسلطات الفرنسية معًا الأمر الذي جعله في مرمى تهديدات المتطرفين أيام العشرية السوداء التي عصفت ببلد المليون شهيد.

الشخصية الخامسة تونسي أبوه شيوعي معارض للحبيب بورقيبة وقضى بالسجن ردحًا من الزمن ما اضطر الابن لترك المدرسة وإعالة أمه وإخوته بغياب أبيه

الشخصية السادسة إيراني جده من حزب تودة غدر بهم ستالين وأطلق يد الشاه في قمع جمهوريتي المهاباد الكردية وأذربيجان الإيرانية.

الشخصية السابعة كردي والده متورط بالصراعات الكردية الإيرانية والعراقية ووصية والده له بعد انتحاره هي الابتعاد عن السياسة فمن دخل مستنقع السياسة لن يخرج منه نظيف العقل والروح والضمير واليدين، وهو في كل هذه الشخصيات ثمة من يستهدفه ويفكر في تصفيته، ودائمًا ثمة قصيدة بلغة ما تؤكد انتماءه للشخصية التي لبسها عندما يتطور الحدث كبؤرة تتسع باستمرار للإيغال في تفاصيل شخصيات تتفرع من شخصية واحدة.

هذا التكنيك في السرد المتشظي تجاه قضايا عدة افترضتها الشخصيات المتناسلة التي نسجها ببراعة وهذا التنوع الذي خلقه في الحيوات العابرة للزمن والمتوزعة بانتماءات عدة من هوية مصرية وكردية وإيرانية وفلسطينية وسواها عاد وضيقها في الجزء الثاني من العمل بحصره استحضار الأحداث في موقعة النهروان وخلاف علي بن أبي طالب مع الخوارج.

مامن شيء حرج وشديد الحساسية مثل طرح الخلافات التاريخية ذات الفحوى الديني على بساط البحث والسجال سواء في المجال الفكري أو السردي أو النقدي، ولا ينفي ذلك الحاجة الماسة إلى رفع صفة التقديس عن كل القضايا ومناقشتها بمنطق العقل والعصر الذي لا ينتظر صحوتنا، وخاصة في ظل سعي محموم لذوي الرايات السوداء في التأليب والتكفير وتوزيع الجنة والنار وفق أهوائهم باعتبارهم قابضين على عنق الحقيقة.

بعد مرور كل هذا الزمن يطل الكاتب على الأحداث ليعيد تقييمها ورؤيتها بمنطق عقلي والاحتكام لضرورات عصرية بعيدًا عن نزاعات الطوائف والاصطفاف العاطفي. فقد عارض الخوارج عليًا لقبوله بتحكيم كل من عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وهم ليسوا أصحاب ثقة ويتوقع منهم الغدر، كما عارضوا حصر الخلافة في قريش بين بني هاشم وبني أمية كونها لا تؤسس لشورى حقيقية، كما تأييدهم لضرورة وتطبيق حكم الله لما فيه نص صريح وهو قتال الفئة الباغية في تخيل الكاتب للحوار بين الفريقين ومستشهدًا بأحكام جلد الزاني وقطع يد السارق التي فيها نص واضح.

ولكن إن وافقنا على ماذهبوا إليه في البداية فالجزء الثاني من كلام الخوارج ذو النفس الراديكالي معطل للعقل في الاحتكام للنص دون سواه فعندما حلل عمر بن الخطاب إيقاف حكم قطع يد السارق في سنة المجاعة وإلغاء حق المؤلفة قلوبهم في المغانم والكلأ بعد أن قوي عضد الدولة في قراءة معاصرة للنص المقدس بتحكيم العقل وقراءة الواقع، فقد عرف عن الخوارج أنهم كانوا ميالين للعنف والتكفير والأخذ بالنص دون هوادة وربما كانت فكرة علي بن أبي طالب حقن دماء المسلمين فمن قال إن علي كان لينتصر على معاوية لو حاربه، وابن أبي سفيان معروف بثرائه ودهائه،  في أي حرب هناك احتساب لاستشراف النصر أو الخسارة وهنا دور القادة في استقراء الوقائع، ربما سارع علي لحرب الخوارج لأنه وثق من إمكانية انتصاره عليهم وربما الأفكار المتقدمة لم ينضج ظرفها التاريخي بعد، ونحن عندما نطرح شخصية ما على بساط البحث من غير الوارد أن نشيطن جهة ونضع الأخرى بجهة الملائكة ضمن العوامل المتقلبة المنتجة لفكر الجماعات والدول. فالخوارج كانوا متشددين في حضِّهم الثوري على أئمّة الجور، وفي استحلالهم لدماء مخالفيهم، والدعوةِ إلى العدالة الاجتماعية والمساواة ولكنهم رغم ذلك انزلقوا إلى العنف والدماء أو جروا إليه ويظهر ذلك في الانشقاقات المتكررة في جماعاتهم.

المثال الذي أورده الكاتب على لسان الخوارج حول آية الرجم كمثال على الاحتكام للنص، في نص مشكوك بنسخه إذ هناك من يقول إن عمر بن الخطاب أضافها إلى القرآن بعد أن نسخت (ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وفي الموطأ والسنن الكبرى وغيرها من كتب الحديث نسخ آية الرجم لفظًا لا حكمًا أي: أنها بعد النسخ لم تعد من الآيات القرآنية، وبقي حكم الرجم الذي دلت عليه. قال السيوطي في كتاب الإتقان في علوم القرآن أن آية الرجم مما نسخ لفظها وبقي حكمها.) بالإضافة إلى أن فرقة من الخوارج والمعتزلة أنكروا حد الرجم فمن التناقض إدراج مثال ضمن حجاج المتحاورين في أمر مشكوك فيه بالأصل، وربما كان من الأفضل لو استخدم نصًا مختلفًا للبرهان والحوار الذي يتوه القارئ بين مرجعيته التاريخية وحقيقة وجوده وبين خيال الكاتب في استنطاقه لكلام الشخصيات التي يوردها، وبالعموم كمسألة فكرية الاحتكام إلى نص لزمن ما قد يعني قوة بالفكر ربما يفحم طرفًا في وقت ما، ولكن بزمننا أي احتكام لنص باعتباره الحقيقة المطلقة قد نعتبرها نوعاً من الانتقاص من القدرات العقلية للكائن المفكر.

ربما لو أبقى الكاتب الحوارية ضمن رموز لشخصيات روائية لتجنب المباشرة في طرح الحوار المتخيل بين الخوارج وعلي بن أبي طالب مما يجعل لكل ذي رأي الإدلاء بدلوه حول مصداقية الحوار والتوجه الفكري والمسألة الشائكة الذي لم يستطع الزمن المديد الذي يفصلنا عن هذه المشكلة رأب الصدع بازدياد تمترس كل وارث لفكر في موقعه وتناسل الضغائن والأحقاد.

تظهر المباشرة في طرح الأفكار في أكثر من جانب ففي الاستطراد الاستشهادي ((تشابه الخطاب الثوري الشيوعي مع الخطاب الجهادي الإسلامي)) تشابه ارنستو تشي جيفارا مع المجاهد الإسلامي في نصرة المظلومين ومناهضة الاستعمار وأيضًا الاستنتاج “أن التاريخ يكتبه المنتصرون لو انتصر هتلر أو ستالين أو لتغيرت كتابة التاريخ وفق منطقهم”، لا يترك  أوسي هذا الاستنتاج للقارئ ليترك له مساحة من القبول والاختلاف فيما يذهب إليه، كما أن المباشرة ظهرت في هذا الطرح للمماحكات الفكرية بين الخوارج وأنصار علي بن أبي طالب التي أخذت أكثر من شكل بالإضافة إلى إتباع قالب مكرر في السرد بشكل كبير كوجود أوراق في صندوق بعد مضي زمن عليه لتعاد قراءته مشكلة الجزء الأكبر من جسد العمل سبق أن فعله يوسف زيدان في “عزازيل” وآلان بادو في “عبدة الشيطان” وواسيني الأعرج في “ليالي ايزيس كوبيا” وغيرهم.

تختلط الشخصيات التاريخية بالشخصيات الروائية فهو يستنطق الأولى ويؤلف حججًا وبراهين على لسان الأخرى في حشد هائل منها، تتوزع بين الصحابة معاصري أيام الخلافة إلى عبد الله عزام والتنظيمات الجهادية التي يحتاج الخوض فيها إلى كتب وملفات واسعة تعج بالتفاصيل والتواريخ باحتشاد لا يجد القارئ صبرًا على الإلمام بكل هذا التاريخ، ولكن أهم ما فيها رفع صفة القداسة عن الأشخاص ومناقشة الأحداث بمنطق العقل الذي نتفق فيه أو نختلف.  

ولكن ما يجعلنا نتعاطف مع العمل أن الكاتب ينتصر لفئة مهزومة عبر التاريخ لم يبق لها مريدون ولكنها تحمل بذور حرية العقل إلى حد ما، فنحن نحتاج لمساحة الحرية التي تسمح لنا بمراجعة تاريخنا كله بمنطق العقل والبرهان الفكري لا التكفير والإلغاء، وإلا سنظل نؤجج الخلافات والتحزبات الطائفية والمذهبية إلى ماشاء الله وحتى لا تقوم لنا قائمة بعد اليوم.

أكرم حمزة: لوحة مفصلية في مسيرتي التشكيلية

أكرم حمزة: لوحة مفصلية في مسيرتي التشكيلية

أكرم حمزة فنان تشكيلي سوري من مواليد السويداء 1963. درس الفن وتخرج من كلية الفنون الجميلة جامعة دمشق. عمل مخرجاً صحفياً ومصمماً إعلانياً، ومصمماً للفضاء المسرحي. عمل أيضا في مسرح Pakhuis Hoorn في تنفيذ الإضاءة والصوت لسنة ونصف. أقام عدة ورشات عمل فن تشكيلي والعديد من دورات الفنون.عضو لجان تحكيم العديد من المسابقات الفنية والمسرحية. نال العديد من الجوائز الأولى في التصميم والسينوغرافيا، وصمم ونفذ العديد من مهرجانات الفن والمسرح والثقافة. عرض و شارك في عدد من المعارض والتظاهرات الثقافية في عدة مدن  أوروبية، وكتب ونشر في عدة صحف في الفن التشكيلي والغناء الملتزم. أقام نصباً فنياً في مدينة هورن لمنظمة هولندية تُعنى بشؤون البيئة من النفايات البلاستيكية، النصب بارتفاع ثلاثة أمتار وبناه من المخلفات البلاستيكية وكان حامله قضيباً معدنياً مجوفاً. عضو منظمة أطباء بلا حدود العالمية، عضو منظمة آفاز العالمية، وعضو متطوع في جمعية مساعدة مرضى الزهايمر الهولندية.  مقيم حاليا في مدينة هورن.  

صالون سوريا: متى رسمتَ هذه اللوحة، ما الشرارة الأولى التي كشفت الطريق إليها، هل هناك فكرة أو إيحاء أو تأثير معين دفعك إلى رسمها؟

أكرم حمزة: لقد اشتغلتُ على الوجه البشري في المراحل الأولى من عمري، أي منذ طفولتي، وكانت الدراسة الجامعية وما بعدها المؤثر الحقيقي لهذا التوجه الذي تكرس بعدد من التجارب اللاحقة تعددت فيها الأساليب والتقنيات، وكان تتويجا لها ارتحالي عن بلدي لأعود الي جذوري التشكيليية وأعاود دراسة الوجه وإنجاز العديد من التجارب وكم من الأعمال على مدار سنة كاملة لتبزغ اللوحة- السلسلة مع مجموعة أعمال تجولتُ بها في عدة معارض فردية وجماعية في أوروبا ( بلجيكا: مول و بروكسل، ألمانيا: بريمن وبون، هولندا: أمستردام، إيندهوفن، أوس، ستيدبروك، ميدبليك، هورن). كانت تلك الأعمال تُعنى بالوجه البشري وضمنياً بالانفعالات الإنسانية والبشرية، ونفذت تلك الأعمال بداية الشهر السادس من عام 2016 ونفذت اللوحة أعلاه في الشهر الثامن من العام  نفسه، واللوحة التالية هي أول لوحة من تلك المجموعة.

هذه هي كانت البداية والمحرض بعد استتباب مقومات الأسلوبية من ناحية التقنية-المهارة، وضمناً تماهيها مع الموضوع الذي أعمل عليه، فالشرارة عندي ليست المحرض الخارجي على الأقل من خلال بحثي الدائب في تلك الفترة عما أستطيعه، والعمل اليومي وإنجاز العديد من الأعمال التي تحاكي وتتقاطع في بعض منها تجارب أخرى. 

واقتنت هذا العمل الأول السيدة الباحثة دومنيك فان لير المختصة في تاريخ الفن و رئيسة تحرير مجلة تابلو الفنية التي تصدر في أمستردام.

ص.س: ما موضوع هذه اللوحة، وما العوالم التي تشير إليها وما الذي تحاول إيصاله فنياً فيها؟

أكرم حمزة: هي جزء من سلسلة بعنوان تحولات العواء أستلهم فيها مأساة الإنسان في رحيله وحيداً مع كامل أحزانه وآلامه الجسدية والنفسية خصوصاً ما يجري الآن من تكالب السواد والليل في منطقتنا والعالم. 

هي صرخة عواء من قعر الألم. حتى ما يسمى بالحيوان كان وسيظل أكثر التصاقا بالوجع وفي التعبير عنه، وحيداً في ألمه، وحيداً في صمته، وحيداً في ليل عوائه.

ومن خلال الوجه الذي يندمح فيه الحيوان والإنسان، والتركيز على الحس التعبيري بالعينين وعضلات الوجه، أختصر الوجه بما ذكرته، مبقياً على الشحنة التعبيرية بوجود الخط الانفعالي المستمر على مساحة من بياض تتلوث بالقليل من تونات الوجه.

وبالنسبة للوحة تلك سميتها نظراً لتميزها حالات تسعوية، لما فيها لعب على الكلام من حالات والحال (الوجد الصوفي) والتسعوية، الرقم تسعة والتعاسة كقلب الأحرف، والمهم هو كيف تشاهد وما تشاهده يبقى هو الفيصل والحكم. والتالي بعض من وجوه اللوحة.

ص. س: ما الذي تشكله هذه اللوحة في مسيرتك الفنية؟

أكرم حمزة: بهذه المجموعة وضمنها هذه اللوحة أستطيع القول أنني أنجزت شيئا ما وإضافة في مسار الفن التشكيلي ضمن مجال اللوحة المحمولة، لجدة طرحها تقنياً وأسلوبياً. 

ص.س: كيف تختلف هذه اللوحة عن لوحاتك السابقة؟

أكرم حمزة: كما ذكرت سابقا هذا العمل لا يختلف من الناحية التقنية لأنه تطوير وتصعيد للتجارب التي قمت بها سابقا فالمزاوجة بين الغرافيك والرسم، الدراسات الخطية (الإسكتش السريع، الكروكي) مع الإكرليك على اللوحة القماشية المحمولة، هذا من ناحية، ومن ناحية الأسلوب زاوجت بين اللوحة السطح أي إلغاء المنظور الهوائي والبعد الثالث في فراغ اللوحة وأبقيت على التجسيم في الوجه عن طريق الخط الغرافيكي المستمر. 

(اسكتش بقلم الرصاص 2016 ، وفيه يظهر نفس طريقة العمل في وجوه اللوحة، لكنه هنا أكثر تحرراً). 

ص. س: ما الأدوات المستخدمة في اللوحة وكم استغرق إنجازها؟

أكرم حمزة: اللوحة جزء من مشروع  وسلسلة تحولات العواء. مواد التنفيذ قلم حبر جاف أسود والدهانات الإكريلية والديكور الرمادي، على القماش  المجهز بالأساس للرسم. قياس العمل كواجهة 100×100 سم . نفذ العمل في صالة J.A.J.A  إيندهوفن هولندا عام  2016 مع مجموعة سلسلة التحولات واستغرق إنجازها أسبوعاً. في هذه الفترة من النصف الثاني من العام 2016 حيث كنت متفرغا للعمل في هذا المشروع الذي تجاوزت لوحاته الأربعين لوحة، وقد قسمت اللوحة إلى 9 مربعات متساوية يفصل بينها شريط رمادي مزرق وتشكل 9 حالات لوجوه شبه أمامية وشبه آدمية بشرية ونحن نعلم رمزية العدد تسعة في المثيولوجيا وعلم الأعداد وحساب الجمل، والوجوه كلها رُسمت بالخط الغرافيكي المتتابع والانفعالي بواسطة قلم الحبر الجاف الأسود مما كان مزواجة أولى للاسكتش الغرافيكي مع اللوحة القماشية وخلفيات الوجوه جميعاً بمادة الإكرليك التي غلبت عليها الألوان القاتمة والسطوح المتناغمة، وبعض السطوح كانت أقل دسامة وشفافية وتعتمد اللمسة السريعة والقصيرة المتقطعة. أما الحامل فهو القماش المجهز بالأساس القليل الامتصاص ومشدود على إطار خشبي. 

(دراسة وجهية 2016 بنفس الطريقة والإسلوب، لكن فقط بقلم الرصاص   B6 )

ص.س: هل كانت آراء النقاد والمشاهدين مطابقة لما ترمي إليه في هذه اللوحة؟

أكرم حمزة: تناولت الصحافة عامة كثيراً التجربة نظرا للدعوات التي وُجهت لعرضها في العديد من الأمكنة ومدن الشمال الهولندي وفي  كل الصالات التي عُرضت فيها  هذه اللوحة  مع مجموعة أخرى من الأعمال، كانت تثير الإهتمام لما فيها من غرابة و جدة. وكانت تجري نقاشات حول المجموعة ككل، وكانت اللوحة تحظى بالتأمل والوقوف مطولاً أمامها، وكثير من الأشخاص والمجموعات يعودون إليها وهذا ما جرى في المعرض الأخير حيث اقتنيت اللوحة، وكذلك أبدت اهتمامها السيدة الناقدة المختصة بتاريخ الفن دومنيك فان لير رئيسة تحرير مجلة تابلو الفنية التي تنشر في أمستردام واقتنت عملاً من نفس هذه المجموعة عام 2018 . ولا أعتقد أنها كانت بعيدة عن رؤيتي العامة للمجموعة، لأن من طبع الفن عامة أنك تستطيع ان تحلله وتفككه أو تستمتع به من خلال رؤياك أنت، وهذا ما يضفي على الفن عموماً طابع حرية التلقي، فالرسائل الموجهة تصل بالمشاهدة، والمشاهد هو الذي يحدد من أين وكيفية المشاهدة، وصحيح أن الفنان المتمكن من أدواته المعرفية والتقنية يستطيع أن يوجه المشاهد ويجعله يتفاعل مع ما يريد سواء بمتعة المشاهدة الجمالية أو المعرفية التي أعتقد أن لا انفصال بينهما إلا لضرورات الشرح والتعريف. 

اللصوص يسرقون الأسلحة الأمريكية في سوريا

اللصوص يسرقون الأسلحة الأمريكية في سوريا

(تحقيق أجراه الصحفي الأمريكي نيك تيرس لموقع إنترسيبت)

سرق لصوصٌ ما تبلغ قيمته مئات آلاف الدولارات من معدات المدفعية، و“أنظمة أسلحة غير معروفة“، وذخائر خاصة بأسلحة محددة مُرْسلة إلى القوات الأمريكية في سوريا والعراق، بحسب وثائق حصرية حصل عليها موقع إنترسيبت.
بقيت عمليات السرقة التي جرتْ في مواقع أمريكية بعيدة في المنطقة، أو أثناء النقل إليها دون حل. وشكّلت دليلاً جديداً على وجود مشكلة ملحة ساعدت قوات الأعداء من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وطالبان في أفغانستان على تسليح أنفسهم وحتى على قتل الأمريكيين وشركائهم الأجانب على حساب دافع الضرائب الأمريكي.

تُلْقي عمليات السرقة الضوء على حروب الظل الأمريكية في المنطقة، حيث قُتل مقاول أمريكي وجُرح ستة أمريكيين آخرون الأسبوع الماضي في هجوم نفذته طائرة مسيّرة انتحارية على قاعدة أمريكية في شمال شرق سوريا. كانت الغارة الجوية التي تمت بطائرة كاميكازي على القاعدة واحدة من ثمانين هجوماً تقريباً استهدفوا القواعد الأمريكية في العراق وسوريا منذ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١ ما دفع الولايات المتحدة إلى اتهام ولوم مجموعات تابعة لإيران وأمر الرئيس بايدن بشن غارات جوية انتقامية رداً على الهجوم الأخير ”كي نحمي جنودنا وندافع عن أمانهم“.
إن عمليات السرقة والخسائر التي كشفها موقع إنترسيبت هي فقط أحدث مشاكل المساءلة التي يواجهها الجيش الأمريكي في العراق وسوريا. واكتشف تدقيق أجراه المفتش العام لوزارة الدفاع في ٢٠٢٠ أن قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب- الوحدة الرئيسة التي تعمل مع حلفاء أمريكا السوريين لم تقدم حساباً دقيقاً حول اختفاء ما تبلغ قيمته ٧١٥،٨ مليون دولار من عتاد اشتُري لوكلاء وحلفاء محليين. إن فقدان الأسلحة والذخائر مسألة حساسة في غاية الأهمية، وحاول الجيش جاهداً منع ذلك. وحين سحبت الولايات المتحدة قواتها من موقع قرب كوباني في سوريا في ٢٠١٩ نفذت غارات جوية لتدمير الذخائر التي خلفتها وراءها. ودمر الجيش أيضاً عتاداً وذخيرة أثناء انسحابه العشوائي من أفغانستان في ٢٠٢١. ورغم ذلك، اكتشفت منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيئة أبحاث النزاعات المسلحة، على سبيل المثال، أن قسماً كبيراً من ترسانة تنظيم الدولة الإسلامية يتألف من أسلحة وذخيرة صنعتها أو اشترتها الولايات المتحدة استُولي عليها أو سُرقت أو تم الحصول عليها بطريقة أخرى من الجيش العراقي والمقاتلين السوريين.
كشفت ملفات تحقيقات جنائية تم الاطلاع عليها بمقتضى قانون حرية المعلومات عن التوصل إلى أدلة حقيقية حول حدوث أربع عمليات سرقة كبيرة على الأقل وفقدان للعتاد الأمريكي، وبلغت قيمة العتاد المسروق أو المفقود تقريباً مائتي ألف دولار في العراق وسوريا بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٢ بما فيه قنابل يدوية ٤٠ ملم شديدة الانفجار سُرقت من القوات الخاصة الأمريكية.
”هذا صادم ومأساوي“، علقتْ ستيفاني سافيل المدير في مشروع تكاليف الحرب التابع لمؤسسة واطسون للشؤون الدولية والمحلية في جامعة براون. ”إن هذه الأسلحة المسروقة ستنتشر وتزيد من حدة العنف السياسي واللامشروع وتجعله أكثر إهلاكاً، كما رأينا الأمر يحدث في حروب وصراعات أخرى“.

إن قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب – التي تشرف على الحرب الأمريكية في العراق وسوريا لا تعرف حتى حجم المشكلة. لا تمتلك قوة المهام سجلاً حول أية سرقات من القوات الأمريكية، كما قال الناطق باسمها. ”ليس لدينا المعلومات المطلوبة“، قال لموقع إنترسيبت مدير الشؤون العامة النقيب كيفن تي. لفنغستون حين سُئل إن كانت قد سُرقت أية أسلحة وذخائر أو عتاد في السنوات الخمس الماضية.
كان الهدف المعلن لنشر القوات الأمريكية في العراق وسوريا إلى جانب قوات أمن عراقية وقوات كردية ووكلاء سوريين إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية، لكن القوات الأمريكية تحارب أيضاً وبصورة متزايدة الميليشيات المدعومة من إيران في حرب جانبية غامضة من الناحية القانونية. ويعمل الأمريكيون في قواعد حيث عدم الكشف عن المعلومات هو في بعض الأحيان العرف ولا يتم الوثوق دوماً بالشركاء المحليين مثل قوات سوريا الديمقراطية. وفي ظل محدودية الإشراف الخارجي أو التغطية الصحفية للعمليات العسكرية الأمريكية تقتصر المعلومات حول هذه النزاعات إلى حد كبير على التصريحات المشكوك فيها للقادة العسكريين الأمريكيين، والبيانات الصحفية العسكرية، والتقارير المعتمدة رسمياً. وتلقي سجلات التحقيقات الجنائية التي حصل عليها موقع إنترسيبت بعض الضوء حول كيفية خوض الحروب الأمريكية في العراق وسوريا في الحقيقة.
تذكر هذه الملفات أنه في وقت ما في أواخر ٢٠٢٠ أو بداية ٢٠٢١ سُرقت ”عدة مدفعية ميدان متخصصة وتجهيزات عديدة“، من شاحنة عسكرية وهي تنقلها إلى القاعدة الجوية في أربيل في شمال العراق. وحين وصلت الشاحنة إلى الموقع في كردستان اكتشف الجنود الأمريكيون أنه فُقد عتاد من الشاحنة تقدر قيمته بمبلغ ٨٧،٣٣٥،٣٥ دولار أمريكي. ”لم يتم التوصل إلى أية أدلة“، ولم يتم تحديد أي مشتبه بهم بحسب ملف التحقيق. وفي شباط ٢٠٢١ سرقت ”٤٠٠ طلقة خارقة للدروع و٤٢ قنبلة عيار ٤٢ ملم شديدة الانفجار ومزدوجة الغرض ”قادرة على اختراق ثلاث بوصات من الفولاذ“، بحسب الجيش، من إمدادات ذخائر القوات الخاصة في موقع القرية الخضراء في شمال غرب سوريا. وتوصل تحقيق جنائي إلى أنه تم ”التعامل مع الذخائر بإهمال وثمة غياب للمسؤولية القانونية“، ما سمح ”لأشخاص مجهولين بأن يسرقوا الذخائر“، التي قُدرت قيمتها ب ٣،٦٢٤،٢٤ دولار.

في تموز (يوليو) ٢٠٢١ سُرقت ”خمسة أنظمة أسلحة“ تقدر قيمتها ب ٤٨،١١٥ أثناء نقلها في ”موكب عن طريق البر“ من قاعدة حقل كونيكو للغاز – وهي قاعدة غير بعيدة عن القرية الخضراء – إلى قاعدة في سوريا. سُرقت الأسلحة من حاوية شحن ولم يتم العثور على شهود أو التوصل إلى أية أدلة.
وذكرت الوثائق أن اللصوص اقتحموا في كانون الثاني (يناير) الماضي حاوية شحن في طريقها إلى القاعدة الجوية في أربيل في العراق وسرقوا عتاداً عسكرياً ومقتنيات شخصية تقدر قيمتها بأكثر من خمسة وسبعين ألف دولار. وبعد أربعة أشهر تقريباً سُرقت٢،١٠٠ طلقة خارقة للدروع الجسدية وثلاثة صناديق من ”قطع الغيار“ غير المحددة حُمّلت على حوامة بلاك هوك في قاعدة الأسد الجوية في العراق وكانت منطلقة إلى قاعدة أربيل الجوية، حيث كان من المفترض أن تصل لجنود من وحدة تُدعى قوة مهمة الهجوم. زعمت تلك الوحدة أنها لم تتلق الذخيرة أبداً ما أدى إلى الشروع بتحقيق. بعد شهر تقريباً، زعم أفراد هذه الوحدة أنهم استطاعوا تحديد مكان صندوق يحتوي على ١٦٨٠ طلقة من الذخيرة المفقودة، لكن السجلات لا تذكر بقية الطلقات والقطع.
ويظن المحققون الجنائيون في الجيش أن هناك سبباً مرجحاً في جميع الحالات، باستثناء الحالة الأخيرة، لاتهام المسؤولين بسرقة ممتلكات حكومية أو أسلحة حكومية إذا تمكنوا فقط من العثور على اللصوص.

(دورية أمريكية راجلة في قرية القحطانية في شمال شرق الحسكة)

وكشف تقرير المفتش العام لوزارة الدفاع في ٢٠٢٠ خللاً في الحسابات المتعلقة بعتاد يبلغ ثمنه أكثر من ٧٠٠ مليون دولار اشتُري لوكلاء أمريكا السوريين وتوصل التقرير إلى أن قوات العمليات الخاصة لم ”تحافظ على قوائم شاملة بالعتاد كله الذي اشتُري وتم استلامه“. هناك وحدة عسكرية أخرى، تدعى قيادة الإمداد والتموين الأولى لمسرح العمليات خزنت بشكل يخلو من الدقة أسلحة كالرشاشات وقاذفات القنابل، بحسب التدقيق. وتركت ”آلاف الأسلحة وقطع العتاد الحساسة معرضة للفقدان أو السرقة“. ونظراً لعدم الدقة في حفظ السجلات والإجراءات الأمنية غير الكافية لم تستطع هذه الوحدة حتى ”أن تحدد إن كانت الأشياء قد ضاعت أو سُرقت“.
شكل فقدان الأسلحة والذخائر مشكلة ملحة للبنتاغون. ففي منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين فقدت الولايات المتحدة مئات آلاف البنادق في أفغانستان والعراق بحسب بحث أشرف عليه إيان أوفرتون من منظمة العمل من أجل الصراع المسلح وهي مؤسسة خيرية مقرها لندن. واستولت جماعة طالبان على كميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية حتى قبل الهزيمة الأمريكية في أفغانستان. وحين انسحبت القوات الأمريكية في ٢٠٢١ تركت خلفها ما تبلغ قيمته ٧ بليون دولار من العتاد العسكري. كانت النتائج أحياناً كارثية، فمن أفغانستان إلى العراق كانت هذه الكميات من الأسلحة تُستخدم ضد حلفاء الولايات المتحدة ومن المحتمل ضد القوات الأمريكية.
”إن كل قطعة من هذه الأسلحة التي تُقدم لقواتنا الشريكة تخضع للمسؤلية القانونية وتُصوب إلى تنظيم الدولة الإسلامية“، قال ناطق من قوة المهام المشتركة في تغريدة في ٢٠١٧. لكن يبدو أنه ليس لديه أية معلومات حول السرقات، وغير متأكد من أن الأسلحة والذخائر الأمريكية التي سُرقت بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٢ لن تُستخدم ضد القوات الأمريكية أو وكلائها.
للجيش الأمريكي تاريخ طويل من التستر على فقدان الأسلحة. فقد توصل تحقيق قامت به وكالة الأسوشيتد برس في ٢٠٢١ إلى أنه ”فُقدت ١٩٠٠ قطعة سلاح أمريكية على الأقل أو سُرقت في ٢٠١٠ وعاود بعضها الظهور في جرائم عنيفة“، وإلى أن ”الجيش الأمريكي تستّر على اختفاء أسلحته النارية أو قلل من حجمه، ومن أهمية فقدان الأسلحة والسرقات وهذا نموذج من السرية والتكتم يعود إلى عقد تقريباً“.
إن افتقار قوة المهام الخاصة المشتركة للسجلات وللشفافية يجعل من المستحيل معرفة كيف فُقدت الأسلحة الأمريكية أو سُرقت في سوريا والعراق، أو إن كانت هذه الأسلحة قد استُخدمت ضد القوات الأمريكية أو حلفائها، لكن سافيل من مشروع تكاليف الحرب تخشى أن يكرر التاريخ نفسه. قالت معلقة على السرقات الموثّقة في سجلات وملفات التحقيقات الجنائية: ”سيُصاب الكثير من الأشخاص أو يُقتلوا جراء ذلك. هذه إحدى العواقب الناجمة عن القيام بعمليات عسكرية أمريكية في كثير من المواقع خارج البلاد“.

*الصورة الأساسية المرافقة للمقال: (جندي أمريكي يحمل قاذفة صاروخ أرض- جو من نوع جافلين أثناء مناورة عسكرية مشتركة في ريف دير الزور في شمال شرق سوريا في السابع من كانون الثاني، ٢٠٢١)

قانون رعاية الأطفال مجهولي النّسب والاستثمار في أزمات السوريين

قانون رعاية الأطفال مجهولي النّسب والاستثمار في أزمات السوريين

منذ ثلاث سنوات، والحديث عن “مجهولي النّسب” في سوريا، يزداد صعوداً لدى “الإعلام الرسمي” في سوريا، ولعلّ آخر ما حُرّر في ذلك كان ضرباً من المبالغة؛ تفوّهت به امرأة من الحاضرين على شاشة التلفزيون السوريّ ضمن برنامج مباشر من “حلب بعد الحرب”. أكدت تلك المرأة، عدّة مرات أثناء حديثها أن “هناك خمسة وعشرين ألف طفلٍ من مجهولي النّسب؛ من أبناء المسلّحين في حلب وحدها، كان قد تركهم المقاتلون الأجانب!” (…) وهنا لم يكن لدى مذيعة البرنامج “أليسار معلّا” أيّة شهية للشكّ في كلام المرأة؛ ولا حتّى السؤال عن مصدر معلومتها، ربما المقصدُ هو التّرويج لظاهرةٍ تريدها حكومة النظام على لسان أحد “المواطنين” مباشرة. 

مؤخراً، صدر يوم 14 كانون الثاني – يناير عام 2023.م، المرسوم التشريعي رقم (2) لعام 2023 المتضمّن “رعاية الأطفال مجهولي النّسب”، حسب ما نشرت وكالة الأنباء السوريّة الرسميّة التابعة للنظام. 

وتثير الشكّ هذه العناية المُفاجئة للأطفال “الأيتام”، في الوقت الذي تعاني آلاف الأُسر السوريّة المُهجّرة على حدود البلاد من كلّ الجهات، ظروفاً معيشيّة سيّئة بمن فيهم الأطفال. 

تُرى كيف وجِدت تلك الأعداد من الأطفال عديمي الأوراق الثبوتيّة، حسب ما يصدرها “الإعلام الرسميّ”؟ هناك اعتقادٌ سائدٌ أنّ السّجلات المدنيّة الورقيّة لمئات السّوريين قد اختفت جراء المعارك في مناطق عديدة من سورية، ورافق ذلك موجات تغيير ديموغرافيّ أعقبت اجتياح الجيش النظاميّ للمناطق ذات الأغلبيّة المعارضة، وبالتالي ضياع ملفات لعائلات بأكملها من السجلات المدنيّة أو اختفاؤها في الوقت الذي لم تستطع أيّة جهة محايدة عن سلطة النظام، أن تبحث وتحقق في الأمر.

ومع الأخذ بعين الاعتبار أسباباً أخرى لظهور “مجهولي النّسب” في المجتمع السوريّ؛ مثل الظروف المعيشيّة التي تدفع بعض الأسر إلى ترك أطفالها قرب دور الأيتام وتخليها عنهم، أو هؤلاء الأطفال الذين فقدوا آباءهم خلال الحرب في سورية ولم يعد لديهم أي معيل. 

إضافة إلى ذلك، ذكر تقرير نشرته جريدة الوطن شبه الرسمية بدمشق في 13مارس -آذار عام 2018.م، أن “عدد مجهولي النسب خلال الأزمة المسجلين بلغ نحو (300) طفل، وأن عدلية دمشق تستقبل حالة كل شهرين، وأن السجل المدنيّ يختار اسمه ووالديه”. وكانت وزارة الداخليّة التابعة لحكومة النظام قد نشرت مؤخراً خبراً مع صورة لطفل قالت إنه “وُجد قرب أحد مداخل الأبنية في منطقة داريا” حسب ما جاء في صفحتها في فيس بوك، ويمكننا أن نستنتج أن المسألة غير قابلة للضبط والملاحقة الجادة من قبل السلطات.

وفي هذه الظروف التي تنمو ضمنها ظاهرة “مجهولي النّسب” في سورية، كيف يمكن ضمان مستقبل هؤلاء الأطفال من عدم تحوّلهم إلى سلعة بيد مؤسسات النظام؟ 

توجهنا بهذا السؤال إلى المحامي السوريّ “عادل الهادي” حيث قال لموقع صالون سوريا: “لا يشكّل المرسوم رقم (2) لعام 2023 أيّة ضمانة من أيّ نوع كان؛ ألاّ يُستخدم الأطفال مجهولي النّسب كمرتزقة بعد تدريبهم عسكريّاً على عقيدة من نوع ما، ولصالح جهة ما، باعتبار المؤسسة التي أشار إليها المرسوم مطلقة الصلاحية بطريقة رعايتها للأطفال، كما أن الفقرة /هـ/ من المادة الخامسة منه تضمنت أن يتم توفير التدريب والتأهيل المهنيّ اللازم للأطفال والمتوافق مع ميوله وإمكاناته. وهي بالتالي لم تستبعد الميول العسكريّة كما أن الإدارة نفسها هي التي تقرر الميول والإمكانات للطفل”.

وبخصوص ما إذا كان لهؤلاء الأطفال فرصة في المستقبل ليكونوا أحرار العقيدة والأفكار، يؤكد “الهادي” الذي يختص بالتحليل القانونيّ: “أن ذلك غير ممكن، لأن هذا المرسوم فرض عليهم في المادة (21) منه أن يكونوا من القومية العربيّة في سوريا، كما فرض عليهم في المادة (22) منه أن يكونوا من الدين الإسلاميّ، حصراً، ولم يحدّد المذهب هل هو سنيّ أم شيعيّ أم علويّ أم غير ذلك، لأن المرسوم لم يشر إلى ذلك”.

ويعتقد “الهادي” أن المرسوم مخالف للدستور وحق المواطنة وهو يشجع على التطرف الدينيّ والعنصريّة ضد الأديان الأخرى، حسب وصفه، ويعلّل ذلك في حديثه لموقع صالون سوريا قائلاً: “لقد حرم هذا المرسوم فئة كبيرة من الشعب السوريّ من حق العناية بأي طفل مجهول النّسب، حيث اشترط في المادة (34) منه أن تكون العائلة التي تطلب إلحاق الطفل مجهول النّسب بها لتقوم على رعايته؛ أن يكون الزوجان متحدين في الدين مع الطفل مجهول النّسب، وبما أن دين الطفل مجهول النّسب هو الإسلام، حكماً، وفق أحكام المادة (22) المذكورة سابقاً، فإنّه لا يستطيع أي زوجين من الدين المسيحي-مثلاً- أن يطلبا رعاية طفل مجهول النّسب ما يعتبر مخالفاً للدستور من جهة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، واعتداء -أصلاً- على حقّ الطفل في اختيار معتقده الدينيّ بعد بلوغه سنّ الرشد”.

واعتبرت منظمات حقوقيّة أن هذا المرسوم جاء على صيغة جمّعت بعض المواد والنصوص القانونيّة في سوريا والتي “تنظّم قضية الأطفال مجهولي النّسب” من أبرز هذه القوانين: المرسوم رقم (107) لعام 1970 الخاص بـ”اللقطاء” و المرسوم رقم (26) لعام 2007 “قانون الأحوال المدنية”، الذي نظم في بعض مواده الإجراءات المتعلقة بالعثور على اللقيط وتسجيله (المادة 29). 

كما اقتبس مرسوم “مجهولي النسب” لعام 2023 من مراسيم سابقة منها تعديلات قانون الأحوال المدنية بخصوص “اللقيط”، والصادرة بالمرسوم رقم (69) لعام 2012، والذي أجاز منح “اللقيط” الذي تجاوز الثامنة عشر من عمره “كُنية” أو “نسب” الأسرة الحاضنة. وأخيراً، التزم المرسوم الجديد بما نصّ عليه المرسوم (70) لعام 2012، “الخاص بإجراء تعديلات على قانون الأحوال المدنية”، والذي نص على وجوب استبدال كلمة “لقيط” لتصبح “مجهول النّسب”.

ويرى مراقبون أن هذا المرسوم لا يحمل أي جديد باستثناء مستقبله كفرصة لتجنيد المزيد من الموارد البشريّة لخدمة جيش النظام، إضافة إلى تكريس مساعيه لتعويم حضوره دوليّاً عن طريق تلميع صورته في قضايا إنسانية أُدين بها دولياً مثل حقوق الإنسان. 

والمراقب لحال رعاية الأطفال سيكتشف من بعض الفيديوهات عن الاجتماعات الصباحيّة في المدارس الابتدائية، كيف أن الهيئات التربويّة في سوريا، تعمل دون كلل أو ملل على تشويه مخيّلات الأطفال، وتحويل مسارها إلى ما يريده المُستقبل العسكريّ للمجتمع “البعثيّ”. 

في الأحياء الفقيرة -وما أكثرها في دمشق- تدفع مجموعة من الأطفال؛ وقتاً وجهداً، حتى يلوّنوا صورة كبيرة لبشار الأسد؛ في بيوتهم التي لا ترى الكهرباء إلا بضع دقائق في اليوم، يحاولون التفنّنّ بأصابعهم الصغيرة المُرتجفة من رطوبة الأحياء العشوائيّة، وتفهم المدرسة (يمكن قراءتها شعبة أمن الأطفال) أن ذلك هو عملٌ كبيرٌ وأهمّ من فهم حصص الرّياضيات والكيمياء والفيزياء وعلم الأحياء واللّغات الأجنبيّة! أجل؛ هذا بالضبط ما تقوم به أغلب المدارس التي تستعد صباحاً لترديد الشّعارات البعثيّة مع الإدراك المدروس لضمان السّيطرة الذهنية على الأطفال القطعان الذين قد لا يختلفون كثيراً عن إخوتهم من “مجهولي النّسب”!

حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع

حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع

بحسب بعض التقديرات الحالية تحتاج العائلة السورية، المكونة من خمسة أفراد، إلى نحو مليوني ليرة شهرياً لتتمكن من تأمين حاجاتها المعيشية الأساسية، فيما لا يزال متوسط دخل الموظف الحكومي 150 ألف ليرة، ومتوسط دخل موظف القطاع الخاص بين 250 و400 ألف ليرة، وهو ما أدى لانعدام القدرة الشرائية، في ظل ازدياد معدلات التضخم التي تفاقمت خلال العام الماضي، الذي كان أقسى الأعوام على السوريين منذ اندلاع الحرب، إذ بات نحو 90% منهم يعيشون تحت خط الفقر، وقد احتلت سورية المراكز الأخيرة في سلم الرواتب وتصدرت قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم. وفي ظل ذلك الواقع والظروف المعيشية القاهرة لجأ الناس لابتكار العديد من الحيل وحلول التأقلم والبدائل المعيشية المرتجلة، في محاولة لمقاومة الفقر والجوع وتوفير بعض متطلبات حياتهم. 

نماذج من التكافل الاجتماعي 

في سبيل دعم ومساندة بعضهم البعض، يقدم الكثير من الناس اليوم نماذج عديدة من التكافل الاجتماعي التي تبرز، على سبيل المثال، في بعض البقاليات ومحلات الخضار والفاكهة، فعند دخولك إلى محل أبو ماهر (51 عاماً) ستجد على يمينك صندوقاً كبيراً مغلقاً، له فتحة عُلوية بقُطر 15 سم، يقوم معظم الزبائن من خلالها بوضع قطعة أو أكثر من الخضار والفاكهة، التي يشترونها، داخل الصندوق الذي يتم توزيع محتوياته على عددٍ من العائلات الفقيرة. وإلى جانب ذلك يوزِّع أبو ماهر بشكلٍ يومي نحو عشرة كيلو من الخضار والفاكهة مجاناً على بعض الفقراء، فيما يبيع بعضها بنصف السعر أو برأس المال.

 وفي حالة مشابهة يحدثنا أبو حسن (59 عاماً) عن بعض حالات التكافل التي يُعاينها بشكل يومي داخل بقاليته: “بعض الزبائن يشترون، إلى جانب حاجياتهم، كميات إضافية من الخضار والفاكهة، ثم يتركونها لكي أقوم بتوزيعها على بعض من يعجزون عن الشراء، فيما يتبرع زبائن آخرون ببعض المال لأوزع بقيمته بعض الحاجات المعيشية الضرورية. وفي الليل أضع على الرصيف بقايا الخضار الصالحة للأكل داخل بضعة كراتين حيث يَمُر بعض الفقراء ليأخذوا منها ما يريدون”. ويضيف: “كل حين يأتيني أحد فاعلي الخير بعددٍ من ربطات الخبز ليتم  توزيعها على المحتاجين، كما يتبرع بعض الناس، رغم فقرهم،  ببعض المواد الغذائية والمؤن التي يأتون بها من بيوتهم لكي يقدموا من خلالها العون لبعض العائلات الفقيرة التي أرى العشرات منها كل يوم”. 

وفي محل بيع الحقائب والإكسسوارات التي تعمل به، تقوم ريم (39 عاماً) بمبادرة إنسانية، تحدثنا عنها: “كثير من الأصدقاء والأقارب والمعارف يأتون إلي ببعض الثياب والأحذية، التي يمكنهم الاستغناء عنها، أو التي يجمعونها بدورهم من أماكن مختلفة، حيث أقوم بفرزها وترتيبها داخل المحل قبل توزيعها على بعض المتسولين والمحتاجين الذين يأتون إلى المحل كل حين ليأخذوا ما يحتاجون منها، كما أقوم بتوزيع جزء منها عن طريق بعض الأشخاص الموثوقين الذين يقدمون الدعم لبعض العائلات”.

ولا تكتفي ياسمين بتلك المبادرة بل تقوم، أسوة بغيرها من أصحاب الأيادي البيضاء، بتأمين الدعم المالي لبعض العائلات، حيث تقول: “بشكلٍ شهري يرسل لي أحد الأصدقاء المغتربين 800 ألف ليرة فأدفعها إيجاراً لثلاثة منازل تقطنها عائلات نازحة ومعدمة، فيما يتكفل صديقٌ آخر بإرسال 700 ألف ليرة أُغَطي بها بعض نفقات المعيشة لعائلتين ليس لديهما أي معيل”.

التعاون بين الجيران 

بات كثيرٌ من الجيران اليوم يساندون بعضهم ويتعاونون على تحمل أعباء المعيشة القاسية، فيتقاسمون ويتبادلون بعض الأطعمة والمواد الغذائية والمؤن والحاجات الضرورية فيما بينهم. وتحدثنا أم عدنان (44عاماً/ زوجة وأم لثلاثة أبناء) عن التجربة التي تعيشها مع جارتيها: “أصبحنا أشبه بعائلةٍ واحدة، نجتمع على تحضير معظم الطبخات المُكلفة والتي تحتاج لمواد كثيرة، فنتقاسم تكاليفها نحن الثلاثة (كلٌّ حسب إمكانياتها وحسب المواد المتوفرة لديها) ونقوم بطهوها في بيت إحدانا، ثم نوزعها فيما بيننا، وبذلك نوفِّر مصاريف كبيرة ونتمكن من تحضير بعض الأطعمة التي غادرت مطابخ معظم الناس. كما نقوم أيضاً، بشكل أسبوعي، بإعداد طبقٍ من الحلويات المنزلية البسيطة، حيث نتقاسم مقاديره ونشترك معاً في تحضيره”. وتضيف: “في كثيرٍ من الأحيان نلجأ نحن الثلاث وجارات أُخريات لمقايضة بعض المواد الغذائية والحاجات المعيشية فيما بيننا، كأن نقايض كمية من الأرز بكمية من السكر، أو بعض المنظفات بكيس معكرونة، أو مرطبان مكدوس بعبوة زيت زيتون.. الخ”.   

وعندما أرسل إليها أحد أقربائها الذي ذبح خروفاً احتفالاً بقدوم مولوده-  كمية من اللحم رفضت أم عدنان تناوله مع عائلتها بمفردهم، بل قامت بمشاركته مع جاراتيها وعائلتيهما، بعد أن قمن بطهوه مع بعض الخضار والأرز، حيث كانت العائلات الثلاث لم تتذوق طعم لحم الخروف منذ عدة أشهر. 

وفي ظل ظروف البرد القارس وصعوبة توفير المازوت أو الحطب، قامت عائلة  أبو مصطفى (49عاماً/ يعمل في مهنة العتالة والأعمال الحرة) بالتعاون مع عائلتين من الجيران بإيجاد حلٍ تشاركي للحصول على بعض الدفء. يحدثنا أبو مصطفى عنه :” نعيش نحن وجيراننا وجميعنا نازحون- في شققٍ غير مكسية (على العظم). في الطابق الذي نسكنه يوجد شقة فارغة سمح لنا صاحبها باستخدامها، فقمنا بإغلاق جميع النوافذ والأبواب والثقوب في صالون الشقة، بعد تنظيفه من مخلفات البناء، ووضعنا فيه مدفأة حطبٍ كبيرة نستخدمها جميعنا، ونتناوب فيما بيننا على تأمين الحطب أو أية مواد يمكن إشعالها. نوقد المدفأة بضع ساعاتٍ في النهار ونجلس خلال فترة المساء والليل بالقرب منها، نحضِّر الشاي على نارها ونتسامر ونتبادل أطراف الحديث حتى يأتي موعد النوم فيعود كلٌّ منا إلى شقته”. 

 وإلى جانب ذلك قام أبو مصطفى بالاشتراك مع بعض سكان البناية بشراء مولدة كهرباء صغيرة مستعملة، تقاسموا جميعهم ثمنها، حيث يستخدمونها، بالتناوب فيما بينهم، في تشغيل مضخات المياه وفي شحن هواتفهم وبطاريات الإنارة البديلة. 

البحث عن الاكتفاء الذاتي

ليس غريباً أن نجد بعض سكان الأرياف يلجؤون، في محاولةٍ لتحقيق بعض الاكتفاء الذاتي، إلى تربية الدواجن وزراعة بعض الخضروات، لكن الغريب أن نجد بعض سكان المدن يقومون بذلك الأمر، كحال عامل التمديدات الصحية خلدون (45 عاماً/ زوج وأب لأربعة أبناء) الذي يُطلعنا على تجربته: “في السابق كانت شرفة منزلي، رغم صغر مساحتها، تزدان بالكثير من أصص الورود والأزهار ونباتات الزينة، ونتيجة تردي الواقع المعيشي وانعدام قدرتي الشرائية لجأت لزراعة بعض أنواع الخضار الضرورية (بندورة، خيار،بطاطا، كوسا، وغيرها) في أحواض النباتات   -التي تم اقتلاعها بعد دعم التربة ببعض الأسمدة العضوية والمعادن، كما قمت بزراعة البصل والبقدونس والنعناع والجرجير في بعض الأصص والطناجر القديمة وصناديق الفلين التي قمت بتثبيتها على درابزين الشرفة وعلى جدرانها بشكل عمودي، وهكذا تمكنت من استثمار المكان بشكل جيد وحققت إنتاجاً لابأس به”. 

وفي مكان آخر قام الموظف أبو يوسف (52 عاماً/ زوج وأب لستة أبناء) بابتكار مشروعٍ مثيرٍ للإهتمام على سطح منزله، يحدثنا عنه: ” قمت بنقل عشرات أكياس التراب، من إحدى المساحات الترابية القريبة إلى سطح المنزل، وأفرغتها داخل الأحواض، التي صنعتها من قطع الطوب ومن التنكات والصناديق وبعض الأواني القديمة، وقد زرعت تلك الأحواض بأنواع مختلفة من الخضار والحشائش. ورغم الجهد والتعب الذي عانيته خلال تلك العملية إلا أن النتيجة كانت مُرضية بشكل كبير”.

وفي مساحة صغيرة، ملاصقة للأحواض المتوزعة على سطح المنزل، بَنى أبو يوسف قناً صغيراً للدجاج، وضع حوله سياجاً، يربي بداخله نحو عشر دجاجات تؤمن له البيض بشكل يومي، يُطعمها بقايا الأطعمة والخضار والخبز اليابس.  

اللجوء إلى المقايضة  

في ساعات الصباح تَمرُ أم حسام (46 عاماً) القادمة من الغوطة، على عددٍ من البقاليات لتوزع ما تحمله من منتجاتها الزراعية (السبانخ والبصل الأخضر والبقدونس وغيرها) التي تزرعها في أرضٍ صغيرةٍ ملاصقة لبيتها، حيث تقوم بمقايضة تلك المنتجات ببعض السلع  المعيشية الضرورية التي تحتاجها عائلتها (سكر، أرز، شاي، زيت، سمنة.. الخ) فيما تقوم أختها التي ترافقها بمقايضة بعض منتجات الألبان والأجبان (التي تصنعها في بيتها) والبيض البلدي الذي تنتجه دجاجاتها. وبعد الانتهاء من عمليتي التوزيع والمقايضة، تجلس الأختان على أحد الأرصفة وتفترشان ما تبقى من منتجاتهما لتقوما ببيعها للعابرين. وعلى الرغم من  الانتشار الكبير لبسطات الفلاحين في الشوراع لجأ الكثير منهم في الآونة الأخيرة (نتيجة تراجع كميات البيع وصعوبة البقاء في الشوراع لساعات طويلة) لطريقة المقايضة، التي فرضتها صعوبات الواقع المعيشي،  فيما بات كثيرٌ من  الفقراء يتعاملون مع بعض البقاليات والبسطات عبر توفير أنواعٍ مختلفة من المنتجات المصنعة منزلياً (المخللات، الزيتون، المربيات، المكدوس ودبس الفليلفة وغيرها) بغرض عرضها للبيع أو مقايضتها ببعض السلع والخضار والفاكهة.

بعض المظاهر الغريبة في الشوارع 

في الآونة الأخيرة وفي ظل ارتفاع أجور المواصلات بات بعض الناس يذهبون إلى أعمالهم وزياراتهم سيراً على الأقدام، فيما نجد من يشتركون في ركوب سيارة الأجرة لكي يتقاسموا تعرفتها فيما بينهم، على الرغم من هدر وقتهم في انتظار تجَمُّع عدد الركاب المطلوب. وفي ظل أزمة المحروقات واضطرار معظم سائقي التكاسي إلى شراء البنزين من السوق السوداء (سعر الليتر بين 15 و20 ألف ليرة) تحول بعضهم للعمل في خدمة “تاكسي سرفيس” حيث يقفون في مواقف الباصات والساحات، بدلاً من التجول في الشوارع، ليجمعوا عدداً من الركاب، وهو ما أثَّر بشكل كبير على حجم عملهم. ونتيجةً للأزمة ذاتها وفي ظاهرةٍ غريبة لجأ بعض أصحاب السيارات الخاصة (الذين تدهورت أوضاعهم المعيشية) لتحويلها إلى سيارات أجرة، فأصبحوا ينافسون التكاسي والسرافيس ويقفون في مواقفهم لينقلوا بعض الركاب، وأحيانا يستوقفونهم  في الطريق ليعرضوا عليهم خدمات النقل. ولا يقتصر الأمر على أصحاب السيارات الخاصة فبعض أصحاب الدراجات النارية حَوَّلوا دراجاتهم إلى وسائط للنقل، إذ يقومون بنقل بعض الباحثين عن وسيلة مواصلات في الساحات والشوارع.

رغم الأزمات المتعاقبة خلال سنوات الحرب وما بعدها، ورغم مرارة عيشهم المليء بشتى أشكال القهر والعذاب، يُثبت السوريون يوماً بعد يوم أنهم  قادرون على فتح آفاقٍ جديدة للحياة، التي تضيق في وجههم، وأنهم يمتلكون مهاراتٍ خارقة واستثنائية في التعامل مع الأزمات، وفي تجميل بشاعة واقعهم المؤلم.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام

عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام

أخيراً، تمكنت مها من الاستحمام! وذلك بعد مرور ثلاثة أسابيع كاملة على موعد آخر استحمام لها! لا بسبب البرد ولا بسبب المرض ولا بسبب التكاسل، السبب الوحيد هو واقع الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وشبكة الصرف صحي. تضافرت الموانع كلها لتسبب لمها حرجاً كبيراً بسبب حالتها غير الإنسانية والمفتقدة لأدنى شروط النظافة الشخصية والعامة. حرج جعلها ترتدي قبعة ليلاً نهاراً وحتى أثناء نومها لتهرب من شعورها الغامر بالقرف من نفسها التي كرهتها كرهاً مقززاً وكبيراً تسبب بوهن نفسي أصابها، وهن بات يحتاج علاجاً سريعاً وضرورياً عبر حل إسعافي وحيد، وهو تأمين دعوة للاستحمام في أي مكان يتوافر فيه ماء وكهرباء وصرف صحي مستقر في توصيلاته يسير عميقاً  في مساره الطبيعي تحت الأرض وبعيداً عن التلامس المباشر مع البشر، تحقق هذا الحل ولكن في بيت صديقتها.

تسكن مها في حي دمشقي قريب جداً من باب توما، قلب المدينة العابق بالتاريخ والآثار والسيّاح وبروائح الياسمين والمطاعم الشرقية العريقة والأنيقة. لكن كل شيء تغيّر، كأنما المدينة تحولت إلى منبع للتعب والقهر، وكأنما الأشياء وقد ضاقت باتت خانقة إلى درجة يتمنى المرء الفرار منها، والفرار هنا محدد الوجهة والمهمة، مجرد مكان صالح للاستحمام فيه. وهذه الصلاحية مبنية على تعزيل شبكة الصرف الصحي كي يتوقف طوفانها ضمن البيوت، وعلى ماء يتزامن توفره مع التيار الكهربائي لضخه إلى الخزانات المتصلة بأجهزة تسخين المياه أو يرتبط بتوفر عبوات كبيرة من الغاز تترافق  بوجود موقد غاز أرضي كبير لتسخين قدور الماء عليه.

هل تكفي قصة مها ليتحول فعل الاستحمام كحق من حقوق البشر إلى قضية رأي عام؟ منطقياً نعم! ولكن الاكتفاء هنا فعل منغلق على ذاته، فعل ميت قبل أن يولد، لأن وهن نفسية البشر يكمن في منعهم من نيل وممارسة أحد حقوقهم أو حرمانهم منها. والمنع هنا محصلة لحرمان متكرر ومعلن ومستمر ومبرر بألف سبب لأن آلية الحلول مجهضة باستحكام واستخفاف بالغ.

وتكمن قمة الخذلان في أن الحرمان من الاستحمام هو فعل لا يستدعي أي حل، فليستحموا أو فليغرقوا في روائح أجسادهم التي يعيفونها هم أنفسهم، أصلاً الغرق فعل لا يتجزأ ومن يغرق في العتمة سيغرق حكماً في مشكلة فقدان المياه، ومن تغمر شوارعه وبيته عوادم الصرف الصحي سيغرق في الخراء وفي عقر داره، وفي المكان الأكثر نظافة كما يتصور الجميع وكما هو بديهية، الحمام! 

يتناوب عامر ونجود على النوم، أمامهما مهام كبيرة ومتعبة، لم يعد الليل موعداً للنوم، للراحة أو للحب أو حتى للأحلام، تحول ليل تلك المدينة التي تزورها الكهرباء ليلاً فقط إلى نهار قاهر ومرهق، نهار تتخلله كوابيس توقظ من يفكر بالنوم لساعة واحدة وتجعله يقرّع نفسه ويهاجمها لأنها فقدت القدرة على التحكم بالبقاء على قيد الصحو من أجل الفوز والتنعم بالتيار الكهربائي. البقاء على قيد الصحو يبدأ في الواحدة ليلاً، ينبغي أولاً تشغيل مقبس سخان الحمام ووصله بمأخذ التيار الكهربائي، وبعده  مباشرة يتم تشغيل موتور رفع الماء إلى الخزان، ومن ثم تشغيل الغسالة لتأمين غسيل ملابس الأبناء، وإذا ما استمر الحضور البهي للتيار الكهربائي، ستوقظ نجود في تمام الثالثة فجراً ابنتها الكبرى لتستحم، ستخرج وجبة الغسيل من الغسالة وترميها بتثاقل ووسن وتعب على الحبال. ستبدأ بتحضير وجبة غداء اليوم على الموقد الكهربائي، في الرابعة صباحاً قد تخلد نجود إلى النوم بعد أن توقظ زوجها لينهي تحضير وجبة الغداء وليساعد ابنه الصغير في الاستحمام. سيتكرر المشهد في الأيام اللاحقة وسيكون الاستحمام في اليوم التالي لنجود وزوجها كل بتوقيت خاص حسب توفر درجة حرارة المياه الصالحة للاستحمام. كل شيء مهدور، الوقت والنوم والصحو والنقود والمياه والسلامة النفسية والهدوء والمودة والزمن والجهد والصحة والجسد ومعنى الوجود وجدوى العيش.

عدا عما يتسبب به تراكم استهلاك الكهرباء في وقت واحد في ارتفاع قيمة فاتورة الكهرباء.

 وتصيب أصوات عديدة الجميع بالغضب والجنون من تشغيل موتورات المياه ودوران الغسالات وأصوات جريان مياه الاستحمام إلى جلبة الشجارات والاتهامات العائلية بالإهمال أو الكسل بسبب سوء استخدام الطاقة أو موتورات رفع المياه. كل هذا الضجيج والتوتر يجعل الجميع يتمنى توقف كل شيء، كل شيء حتى لو كانت الحياة ذاتها.

تمكنت بعض العائلات من تركيب أجهزة لتأمين طاقة بديلة عبر تركيب بطاريات كبيرة وألواح لحفظ الطاقة الشمسية، ورغم ارتفاع كلفتها التي تتجاوز مقدرة الغالبية، لكن الناس كانت أمام خيار ضيق وملزم كي تؤمن الإنارة في حدها الأدنى والضروري وكي تصون الطعام ومحتويات الثلاجات خاصة في ظل ارتفاع غير مسبوق لقيمة المواد الغذائية، ما يجعل من تلف أي مادة غذائية خسارة كبيرة غير قابلة للتعويض وتراكماً للخسارات المتحصلة جراء الغياب الكامل للخدمات الأساسية.

لكن بقي الجميع عاجزاً عن تأمين مصادر وقود أو طاقة لتسخين المياه نظراً إلى أن كمية الكهرباء أو الوقود المطلوبة للتسخين تستنزف كمية كبيرة من الطاقة تعجز ألواح الطاقة الشمسية عن تأمينها بسبب حجم الطاقة اللازمة لعملية التسخين وبالتالي ارتفاع الكلفة إلى أرقام غير قابلة للتسديد ويعجز عنها الغالبية حتى ممن لجأوا إلى تركيب برامج لتأمين طاقة بديلة، ما أعاق بشكل شبه مطلق تأمين مياه للاستحمام عن طريق البطاريات أو ألواح الطاقة الشمسية. 

إذن، نعود دوماً للمربع الأول! تحوّل الاستحمام إلى حلم مستحيل. ولجأ سكان القرى إلى تسخين المياه على الحطب الذي ارتفعت أثمانه وحولت عملية التحطيب الجائر بساتين القرى إلى صحاري شاسعة. أما من تضيق بيوتهم بهم فقد اخترعوا أسلوب الاستحمام بالتقسيط والتقسيط هنا يشمل مراحل العمل والزمن، فقد قسم البعض عملية الاستحمام إلى عملية  تتم على جزأين: الأولى لغسل الرأس بصورة مستقلة حسب ما يمكن توفيره من مياه ساخنة لا تكفي لعملية استحمام كاملة، ليتم في المرحلة الثانية استكمال عملية غسيل الجسد. يتم تسخين الماء بقدور أو بأباريق على الغاز في حالات الضرورة القصوى بسبب شح الغاز وعدم المقدرة على التفريط به، لذلك بات تسخين الماء بواسطة الكهرباء هو الحل شبه الوحيد ولكن وبسبب الغياب الطويل للكهرباء وانقطاعها المتواتر حتى في ساعات وصل  التيار يتم الاستحمام على دفعات!

أن تتحول عملية العجز عن الاستحمام إلى قضية عامة تجمع ما بين السوريين والسوريات على قاعدة الحرمان والقهر، هو عملية توازي تغييب الحقوق. فالحق في الحياة يستلزم الحق في الحفاظ على نظافة وسلامة الجسد، وفعل الاستحمام أحد هذه الحقوق، كما يستلزم تأمين الموارد اللازمة لذلك دون اللجوء إلى ضرورة دفع مبالغ تعجيزية أو هدر للطاقة النفسية والجسدية من أجل تلبية هذا الاحتياج الحيوي والإنساني، نعم لقد تحول فعل الاستحمام، بل والحاجة إليه إلى قضية رأي عام وبجدارة.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين