كهرباء تغيب عن معظم الأحياء لأكثر من عشرين ساعةٍ في اليوم، أزمة محروقات جعلت البرد يُعِّشش في المنازل، أزمة غاز، أزمة ماءٍ وغلاءٍ ومعيشة وغيرها الكثير من الأزمات التي صارت جزءاً أساسياً وطبيعياً من حياة الناس الذين نسوا كيف تُعاش الحياة العادية والطبيعية، وصار قصارى حلمهم أن يستعيدوا بعضاً من أبسط تفاصيلها.
الشتاء الأقسى على السوريين
وصفت الأمم المتحدة فصل الشتاء الحالي في البلاد بأنه “الشتاء الأقسى على السوريين”، إذ تغيب جميع وسائل التدفئة، في ظل أزمتي المحروقات والكهرباء، فيما تنتظر معظم العائلات حصولها على مادة مازوت التدفئة (50 ليتر) التي ينبغي أن توزَّع في فصل الشتاء بسعرٍ مدعومٍ، حيث لم يستلم تلك المخصصات، التي لا تكفي لأكثر من أسبوعين، سوى أعدادٍ قليلة. ونتيجة لذلك لم يبق أمام الناس سوى خيارين: شراء المازوت من السوق السوداء (سعر الليتر12 ألف)، أو شراء الحطب (سعر الطن مليوني ليرة). أما من كان وضعه الاقتصادي معدماً فعليه الاستسلام للعنة البرد أو البحث عن حلولٍ شبه معدمة، قد تحتاج إلى معجزة.
ويحدثنا أبو أحمد (52 عام/ عامل في ورشات البناء) عن الحل الذي لجأ إليه لجلب بعض الدفء إلى منزله البارد: “استعرت مدفأة حطبٍ من أحد أقربائي، كانت مهملة في المستودع منذ عقود، ولأننا عاجزون عن شراء الحطب رحنا نوقد تلك المدفأة بما تيسر من موادٍ نقوم بجمعها من الشوارع والدكاكين، كالقطع الخشبية، الكراتين وأكياس الإسمنت الفارغة، بعض أوراق الشجر وعيدان الأغصان التي نجلبها من الحدائق، وقشور الفستق واللوز التي تُخلفها بعض المحامص، هذا إلى جانب الكتب المدرسية والجامعية ودفاتر الأطفال القديمة التي يستغني عنها أصحابها”. ويضيف: “نضطر أحياناً لإشعال قصاصات الأقمشة التي يرميها أصحاب المعامل، وأكياس النايلون والعلب البلاستيكية وبعض الأحذية والثياب الرثَّة، رغم أن اشتعال تلك المواد يسبب كثيراً من الأضرار كونها تَبعَثُ دخاناً كثيفاً ورائحة ًبشعة تُشعرنا بالاختناق”.
أما الطالبتان الجامعيتان رشا وحنان فقد وجدتا حلاً للتدفئة عبر اللجوء لفحم الأركيلة أو فحم الشواء. وعن ذلك تحدثنا رشا: “نُشعل الفحم في منقل الشواء، على شرفة المنزل، وحين يصبح جمراً نحمل المنقل إلى الداخل لنجلس بقربه وننعم بالقليل من الدفء. لكن ذلك الحل ليس ناجحاً أو مجدياً فهو يتطلب مصاريف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعار الفحم الذي نحتاج لكمياتٍ كبيرة منه، ناهيك عن الأضرار الصحية التي يُسببها احتراقه واستنشاق الكربون المنبعث منه”.
وتبقى الطالبتان أفضلُ حالاً من الموظف علاء (35عام) الذي يضطر لمغادرة منزله ليلاً هرباً من البرد والعتمة، حيث يتسكع في الشوارع لنحو ثلاثة ساعاتٍ فتمنحه الحركة بعض الدفء وتُشعره ببعض التعب الذي يُجبر جسده على الرغبة في النوم مبكراً.
الاستحمام عملية معقدة
بات الاستحمام، عند معظم الناس أمراً مؤرِّقاً وصعباً ويحتاج لمعجزة في ظل صعوبة توفير الماء الساخن، فكمية المياه التي يمكن تسخينها، خلال توفر الكهرباء على مدار اليوم وفي معظم الأحياء، بالكاد تكفي لاستحمام شخصٍ واحد، هذا إلى جانب استحالة استخدام السخانات التي تعمل بالمازوت. وفي ظل ذلك الواقع يحاول الناس البحث عن حلولٍ إسعافية من بينها الذهاب إلى حمامات السوق، التي نشطت بشكلٍ كبير، أو العودة إلى الطرق القديمة كالاستعانة بنار الحطب أو ببور الكاز لتسخين الماء، كحال السيدة أم خالد (48 عام / زوجة وأم لخمسة أبناء) التي تتحدث لنا عن تعاملها مع تلك الأزمة: “بعد انعدام توفر الكهرباء واستحالة تأمين الماء الساخن أحضرت ببور الكاز، الذي انعدم استخدامه منذ عقود، من منزل أهلي بعد أن كان موضوعاً في الصالون كتحفةٍ أثرية، ورحت أسخن الماء على ناره في حال توفر مادة الكاز، فيما أسخنه، في حال عدم توفرها، على نار ما توفر من حطبٍ وكراتين أو أية مواد يمكن إشعالها، حيث أُوقدها داخل تنكةٍ على شرفة المنزل وأضع فوقها طنجرة الماء”.
الشاب مازن (33 عام/ موظف في شركة خاصة) وجد حلاً جيداً لكنه مكلفاً. يحدثنا عنه: “أخبرني صديقي أن النادي الرياضي، الذي يذهب إليه لممارسة تمارين اللياقة البدنية وبناء العضلات، يؤمن ماءً ساخناً لزبائنه على مدار اليوم لكي يستحموا بعد التعرق الناتج عن التدريبات الرياضية. ورغم أنني لست من محبي الرياضة لكنني حذوت حذو صديقي وسجلت في النادي فقط لكي أتمكن من الاستحمام متى أردت”. ويضيف مازن:”رغم أن الاشتراك الشهري في النادي (45 ألف ليرة) يُعتبر مكلفاً إلا أنه يبقى أوفر من دخول حمامات السوق، كما يتيح إمكانية أن يتناوب شخصان على دخول النادي في أيامٍ مختلفة، وهو ما منح شريكي في السكن فرصة الذهاب عوضاً عني لكي يستحم مرتين في الأسبوع”.
أما الطالب يوسف (23 عام) فلم يجد سبيلاً للاستحمام سوى أن ينتظر موعد زيارته إلى قريته كل أسبوعٍ أو عشرة أيام، حيث يقول: “خَفضتُ عدد مرات الاستحمام من ثلاث مراتٍ أسبوعياً إلى ثلاث أو أربع مراتٍ شهرياً، في انتظار زيارتي لعائلتي التي يُمكنها تسخين الماء في القرية على نار الحطب، فيما تغسل أمي وأختي ثيابي المتسخة، التي أحملها معي، بشكل يدوي في حال تَعذُّر عمل الغسالة”.
قهوة من عربة البائع الجوال
“في الصباح الباكر وقبل ذهابنا إلى الجامعة نمرّ بعربة بائع المشروبات الساخنة، لنشتري قهوتنا الصباحية ونشربها على مصطبةٍ قرب الرصيف في ظروف البرد. لا نملك أي مصدرٍ للنار في بيتنا ما يضطرنا أحياناً إلى الاستعانة بالجيران لتحضير ركوة القهوة أو إبريق الشاي، وكثيراً ما نهرب من بيتنا إلى بيوت بعض الأصدقاء والأقارب لكي نشرب مشروباً ساخناً أو نتناول طعاماً مطبوخاً”. هكذا يلخص الطالب الجامعي عمران (24 عام) معاناتة اليومية التي يعيشها مع صديقه في ظل غياب أزمة الغاز التي حرمت الكثير من الناس من طهو طعامهم أو حتى تحضير مشروبٍ ساخن، حيث باتت العائلات تنتظر نحو 100 يومٍ لتستلم مخصصاتها من مادة الغاز (أسطوانة سعة 8 كيلو) الموزَّع عبر “البطاقة الذكية”، فيما لا يحصل الكثيرون على أية مخصصات، ما يضطر بعض ميسوري الحال للجوء إلى السوق السوداء حيث تباع الأسطوانة بأكثر من 200 ألف ليرة، فيما يلجأ البعض لاستخدام ببور الكاز أو الببور الصغير، الأشبه بالفانوس، والذي يعمل بواسطة الكحول الأزرق، لكن ذلك الأمر يُعتبر مكلفاً أيضاً، إذ يصل سعر ليتر المادتين إلى نحو عشرة آلاف ليرة.
وفي ظاهرة غريبة على الشوارع، نشطت في الآونة الآخيرة مهنة تعبئة البوتوغازات الصغيرة عبر عرباتٍ جوالة أو بسطات. ويحدثنا الرجل الستيني أبو شادي- الذي يَجرُّ عربة، في شوارع مدينة جرمانا، تَحملُ أسطوانتي غاز وميزان- عن طبيعة مهنته: “في ظل أزمة الغاز الخانقة يلجأ الناس إلينا لتعبئة البوتوغازات الصغيرة المحمولة (التي كانت تستخدم سابقاً للرحلات والسيرانات) حيث نضعها على الميزان خلال تعبئتها من الأسطوانة لنقوم بتسعيرها بحسب الكمية المعبأة، إذ يُباع سعر كيلو الغاز بعشرين ألف ليرة”. ويضيف: “ونتيجة تردي الوضع المعيشي عند بعض الناس لا يسعهم سوى شراء كيلو أو نصف كيلو غرام من الغاز وأحياناً أقل من ذلك، فمثلاً، قد يطلب أحدهم تعبئة كمية غاز بقيمة سبعة آلاف ليرة فقط”.
طرق جديدة للرفاهية
على طريق مطار دمشق وفي بقعة ترابية، تجلس أم محمود بصحبة أولادها الثلاثة وجارتيها. يفترشون التراب ويثرثرون وكأنهم بذلك يحاولون محاكاة طقس السيران الذي غاب عن حياة معظم السوريين. لا شيء يُسَلي جلستهم سوى بعض الموالح الرخيصة وإبريق شاي تم تحضيره على نار الأخشاب والكراتين التي جُمعت من أرجاء المكان. هذه الجلسة تُعدُّ رفاهية كبيرة بالنسبة لأم محمود ومن معها، حيث تقول: “هذا المكان هو المتنفس الوحيد بالنسبة إلينا، نهرب إليه من بيوتنا الباردة لنحظى بدفء أشعة الشمس الذي لم نُحرم منه حتى الآن. لم يعد هناك أية أماكن يمكن زيارتها بما فيها الحدائق والبساتين والمقاهي، فالأمر بات يحتاج إلى أموالٍ طائلة”. ترتشف شايها البارد وتذكر ماضيها: “فيما مضى كنا نخرج بصحبة الأقارب والجيران إلى البساتين لنفرد أمامنا عشرات الأطعمة من المشاوي والكبب،الطبخات المنزلية المتنوعة، والسلطات والعصائر والفاكهة وغير ذلك، في أجواء من الفرح والمحبة، أما اليوم فنحن عاجزون حتى عن شراء الفاكهة أو مستلزمات الأركيلة وعن تحضير أبسط أنواع الحلويات المنزلية”.
حالة مشابهة يعيشها أبو عمر (58عام) الذي لا يمتلك سوى رفاهية زيارة الحديقة بعد انتهاء عمله في ورشات البناء، حيث يشتري كأس شاي من عربة بائع المشروبات ويجلس على إحدى المقاعد محدقاً بالمارة وهو يدخن ويرتشف شايه. وعن سبب ممارسته لهذا الطقس شبه اليومي يقول: “بت عاجزاً عن دخول المقهى ولعب طاولة الزهر بصحبة أصدقائي فيما أصبحت لقاءاتنا في البيوت صعبة للغاية إذ نخجل من عجزنا عن توفير الدفء وتقديم واجب الضيافة”. يطلق تنهيدة ثم يضيف: ” كل يوم نصحو على أسعارٍ جديدة، وكل حينٍ يُذكرنا صاحب المنزل بضرورة زيادة الإيجار. صرنا نجبر أطفالنا على الاكتفاء بوجبتي طعامٍ في اليوم، نؤِّخر موعد الغداء حتى المساء لكي نستغني عن وجبة العشاء”.
وليست الرفاهية داخل المنزل أفضل حالاً من خارجه، إذ بات الجلوس بداخله يشبه “العقوبة” بحسب ياسمين (27 عام/ خريجة كلية الفنون الجميلة) التي تصف واقع حالها: “نحن محرومون من مشاهدة التلفاز، محرومون من الدراسة والمطالعة، نلتحف البطانيات طوال الوقت، وإذا ما فكرت في مشاهدة فيلمٍ ما على شاشة اللابتوب سينفذ شحن بطاريته في منتصف الفيلم أو حتى بدايته، وإذا ما حاولت التواصل مع أصدقائي في الخارج أو تصفح اليويوب ستنقطع خدمة الإنترنت في أي لحظة أو تغيب شبكة الاتصال أو ينفذ شحن بطارية هاتفي المحمول الذي أضطر في كثيرٍ من الأحيان للذهاب إلى بيوت الجيران أو الأصدقاء لأتمكن من شحنه”.
وفي ظل هذا الواقع لا تمتلك ياسمين وأخوتها سوى رفاهية لعب ورق الشدة وطاولة الزهر وبعض ألعاب الطفولة، رغم أنها ترى في ذلك الأمر مضيعة للوقت.
ونتيجة غرق معظم البيوت في العتمة الدامسة وصعوبة شحن بطاريات الإنارة البديلة وارتفاع أسعار الشموع، لجأ كثير من الناس، كحال عائلة ياسمين، لاستخدام الفوانيس القديمة (الأنتيكا) التي كانت تعمل بواسطة الكاز، عبر تشغيلها بما توفر من مواد كالكيروسين أو الكحول أو الزيت.
قبل أيام كنت أسير في الشارع المحاذي لقلعة دمشق والحديقة البيئية، أحرك قدميَّ بتباطؤ وأنا بالكاد أبصر تفاصيل المكان في ظل غياب أي مصدر للضوء. ولأن هاتفي المحمول قد نفذ شحن بطاريته فتعذَّر الاستعانة بضوء مصباحه، استعنت بضوء القداحة لكي أُضيءَ الطريق أمامي وأنا أتساءل: كيف لأقدم عاصمةٍ مأهولةٍ أن تجتاحها كل هذه الوحشة وكل هذا الظلام؟.
يمضي أدونيس وقته في خدمة القصيدة واللوحة (الرقيم) والشذرة والتحليل العميق والفكر النقدي التفكيكي، لا يتوقف عند السطح بل يتغلغل إلى أعمق داعياً إلى نسف البنى الثقافية السائدة من جذورها، وعن بكرة أبيها، بغية الانطلاق من أرضية هذا الهدم الإيجابي الخلاق نحو لحظة بناء حقيقية لمستقبل يمكّن من وضع الأقدام على خشبة مسرح العالم الحديث. ويدرك أدونيس جيداً أن عناصر الرؤيا لا تكتمل إلا عبر تكريس يقارب العبادة للإبداع الشعري والفكري. ومايجعل النص الشعري الأدونيسي المتجاوز للقصيدة في شكلها السائد والموروث عصياً على القولبة والإلغاء والنسيان هو أن لغته مجبولة بالتاريخ ومنبثقة من التراث بأصواته المغايرة والمتغايرة والمبدعة والمُهمَّشة التي لم يُعترف بشرعيتها الفنية، ومَنحَ الشاعرُ أصواتها في ديوانه ذي الشكل الفني الجديد والمختلف، ”الكتاب“ فضاء لحضور جديد وصَهرَها في خصوصية صوته الشعري وتفرده. يمزج نصه في تضاعيفه أصوات القدماء والمعاصرين العابرين لحدود الثقافات والخارجين على تعريفها للوجود مع استكشاف لا يتوقف لطبقات الواقع وإيقاعات اللحظة، ولهذا يأتي شعره كالألماس الذي يتشكل مما يشبه انفجارات بركانية في أعماق الكوكب الأرضي. وعلاوة على أن التاريخ الجمالي للغة الشعرية العربية ينبض في النص الأدونيسي، فإن ما يبقيه حياً وحيوياً هو قدرة الشاعر على أن يظل متحولاً وباحثاً ومتسائلاً ومانحاً على المستوى العميق، فأي كرم أروع من أن تمنح قراءك قصيدة تتحقق فيها شروط الإبداع تنقلهم من سياق يتسم بالتكرار والنمطية والمهادنة ومحاكاة القدماء إلى فضاء جمالي يشير إلى الطريق نحو أفق الأسئلة، وأي خدمة أنبل من أن تقدم كتاباً فكرياً يغير النظرة إلى التراث ويخلخل تعريفاً متوارثاً للوجود تم الاتكاء عليه طويلاً، فاتحاً باب التساؤل والتجريب تحت شعار ”للحرية، والإبداع، والتغيير“، الذي تبنته ”مواقف“، وهي مجلة أسسها أدونيس في ١٩٦٨، وكانت في قلب الانقلابات الثقافية العمودية البيروتية.
في هذا الإهاب زار أدونيس المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة أثارت جدلاً قيلَ إن السياسة حاولت أن تجني ثمارها وتجيّرها لصالحها بعد أن قامت بحراسة المشهد ورعايته دون السماح لأجهزة الرقابة، أو أية جهة بالتدخل لتعكير صفوه، غير أن ما جعل الزيارة تخترق السياسة وفن إخراج المناسبات لخدمة مآربها وتنجح بقوة وتكتسب صفة شعرية وثقافية أصيلة، هو أن أدونيس سافر مراراً من قبل إلى هذه الأرض المحورية عن طريق دواوينه وكتبه الفكرية ومقالاته الصحفية وحواراته المتلفزة والإذاعية الكثيرة، ما ضمن له جمهوراً كبيراً من القراء والمحبين في المملكة الذين رأوا في تجربته الشعرية والفكرية فسحة أملٍ للحداثة والتحرر في سياق تُطْبق فيه الرؤية السلفية الموروثة على خناق الوجود، فضلاً عن أن المؤسسات الثقافية التي دعته أبدت استقلالية جديرة بالاحترام.
نجحت الزيارة أيضاً لأن المطلعين في المملكة يعرفون أدونيس وقيمته الإبداعية بعد أن سبقته كتبه إليها، وهم أبناء أرض كانت ينبوعاً للشعر العربي الكلاسيكي ومهداً للنبوة، ينبوعاً لا يكف عن الانبجاس والتدفق. ولقد قال أدونيس في المملكة ما يقوله في أي مكان، إلا أن قوله له فيها اكتسب أهمية رمزية كبيرة، فهنا يتقاطع التراث مع الحداثة ويتحول، أو يبقى أسير الرؤية الماضوية ويتجمد، وهنا يتوضح صوت الشاعر سياقياً، ويتجسد حضوره الشعري والفكري المستند إلى مخزون شعري هائل أنجبه حوض هذه الأرض المباركة. وأن تكون أناك الشعرية والفكرية امتداداً تحويلياً، تم عبر الانفتاح على التجارب الكبرى في العالم، لأرقى وأهم الإبداعات الشعرية في هذا المخزون الإبداعي فإن هذا منح الشاعر زخماً هائلاً وقوة حضور تجلّيا في وقوف أدونيس على المنبر في سن الثالثة والتسعين كأنه في أوج شبابه حين كان المحرك الجبار لقطار الحداثة في ”شعر“ و“مواقف“ على السكك الوعرة للثقافة العربية.
حاولت مقالات صحفية كثيرة أن تربط الزيارة بالتوجهات السياسية الجديدة في المملكة التي تسعى قيادتها الشابة الحالية إلى تحييد القوى السلفية التي تتحكم بمفاصل الحياة، ولا شك أن انفتاحاً كهذا تُرفع له القبعة، ويشير إلى أن الأجيال الجديدة في هذه البلاد ملت من إكراهات الرقابة وضغوطها على الفكر والحياة الحرة والتي كانت تقليداً تشترك فيه معظم الدول العربية سواء التي رفعت شعارات العلمانية أو التي حرست الفكر المحافظ، كما عبّر عن ذلك الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب حين قال إن الدول العربية سجون متلاصقة.
ويجب ألا تفوتنا الإشارة إلى أن السعودية التي دعت أدونيس ليست المملكة السياسية وحسب بقدر ما هي المملكة الفكرية والشعرية والفنية، فهذه الأرض، والتي هي في الأساس أرض النبوات والشعر والتصوف، أنتجت وما تزال شعراء ومفكرين وفنانين مبدعين ضاقت عليهم نواحي الآفاق المتاحة فقرروا توسيعها، أو أن قوة الثقافة تمكنت من أن توصل رسالتها فكانت ثمراتها الأولى دعوة أدونيس.
ألقت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية الأضواء على خشبة مسرح احتجبت عقوداً خلف ستار الرقابة والنظرة الدينية التي وقعت في شباك الموروث وبقيت على حالها دون تغيير، وأغلقت الأبواب والنوافذ في وجه أية قراءات جديدة للنص الديني. وانكشفت أثناء هذه الزيارة أرض جديدة مضاءة بقوة رغبة الخروج من عباءة الماضي وضرورتها.
كانت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية بمثابة زيارة كاشفة ومضيئة، بمعنى أنها أوضحت الانقسام في الخريطة الثقافية، فهناك من هاجمها انطلاقاً من نظرة ضيقة وبلغة اتهامية لا تُحسب داخل حدود الثقافة بالمعنى الفكري والإبداعي الحقيقي، وثمة من نظر إليها كزيارة قابلة للتوظيف السياسي من ناحية أن بعض الصحفيين والمسؤولين الثقافيين في السعودية قاسوا بها مدى التحول في ظل التوجه السياسي لولي العهد محمد بن سلمان، أي أن الزيارة كشفت أن ولي العهد انتصر في حربه على الظلاميين وشرطة الشرف والرقابة الدينية والممارسات الوهابية وجلب ما منعته وحرمته سلطة الثابت إلى القلب الذي يتوضع فيه الحجر الأسود للفكر السلفي. وهناك من اعتبر الزيارة انتصاراً للشعر والفكر ناجماً عن تحول وانفتاح يتدفق نهره في صحراء الجزيرة العربية، ولهذا ينبغي ألا نقلل من حجم ما يجري من تحولات مهمة داخل المملكة العربية السعودية، ويجب أن ننظر إلى الزيارة على أنها لفتة كريمة ومبادرة توضح تقدير السياسي لأهمية الفنون والآداب ولضرورة بناء السياسة على الثقافة، الأساس الذي تفتقر إليه السياسات في معظم الدول العربية.
أدونيس يعي هذه المسألة جيداً، ويعرف أن الصحافة دوماً تتحرك ضمن خطوط مدروسة وتوظف أي شيء، إلا أن الإعلام الاجتماعي غير الخاضع لرقابة الأنظمة بيّن أن محبي أدونيس والأفق الذي تفتحه كتاباته الشعرية والفكرية كثر. وكان الاحتفاء بأدونيس وحضوره وشعره نسائم ثقافية منعشة، ودليلاً على أن المؤسسات العربية يمكن أن تتجدد وتنهض إذا حالفها الحظ بقيادات شابة تمتلك نظرة سياسية أكثر عمقاً مستندة إلى رؤية ثقافية.
لقد هدرت الدول العربية، المنتجة منها للنفط، والأخرى المنتجة لخطابات وشعارات الوحدة والنضال والتحرير، الكثير من مالها على القمع والحروب الأهلية والتدخل الأجنبي وتمويل الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، والنخب الفاسدة، وتدمير البلدان لحماية الكراسي وحقن الأنظمة المتداعية، أما السياسات التي بُنيت على الثروة النفطية وحراستها فقد ولّدت تبعية سياسية واقتصادية دارت وما تزال في فلك القوى الكبرى من خلال تصنيع الأخطار والتجييش العسكري والاقتصادي والإيديولوجي على هذه الخطوط، وربما آن الأوان للخروج من نير هذه السياسات ومن التبعية للغرب لإنقاذ ما تبقى من الثروة وصرفها لبناء دولة مؤسسات حقيقية نستطيع أن ننطلق منها نحو مستقبل إنقاذي عربي، ونأمل أن تكون زيارة أدونيس خطوة على هذا الطريق.
تغيرت الصورة، يبدو المشهد العام مشوشاً، والأمهات يقفن على أعتاب القهر بصمت شديد، باتت الأمومة مخلباً يجرح القلوب ويوقظ ذاكرة القلب الموجوع بالغياب، فينساب التعب ملوثاً بشوق عصي على الاستجابة.
طالما كان عيد الأم مناسبة لهدية مميزة، ضخمة وغالية الثمن، ولطالما سعى الأبناء والبنات وبمشاركة الزوج أحياناً لشراء هدية جماعية وإن سعى البعض لشراء الذهب حسب مقدرتهم. لكن الغالبية توافقت فيما يشبه العرف على شراء هدية منزلية مثل طقم من القدور أو غسالة أو مجموعة كبيرة من الصحون وأدوات المطبخ.
تلعب الصورة النمطية لأدوار النساء الاجتماعية دوراً بالغاً في تضمين عيد الأم لمعنى وشكل الهدية، هي هدية تبعية متضمنة حكماً للقالب الاجتماعي التوصيفي لمهام النساء، كالطبخ والتموين وإعداد الولائم في المناسبات العائلية والغسيل وسواه من أدوار الرعاية المنزلية. المؤسف أن الهدايا رحلت مع البيوت وبقي الدور الوظيفي للنساء كما هو بفارق بسيط لكنه مؤلم وهو تشتت شمل العائلة. رحلت البيوت بهداياها وما ابتلعته الحرب أكمل عليه الزلزال، وما تبقى من البشر بعد قضم الحجر ابتلعته الهجرات.
تحتفل الأمهات اليوم بأعيادهن على شاشات الهواتف الجوالة، يستقبلن أحفادهن الذين ولدوا بعيداً جداً وخارج أسوار البلد العصي على استقبالهم على شاشات الهواتف الجوالة أيضاً. أعراس الأبناء والبنات، نجاحاتهم واحتفالات تخرجهم، رحلاتهم، مواعديهم العاطفية، وحتى لقاءات الأخوة والأخوات ببعضهم في بلدانهم الجديدة المختلفة تتابعها الأمهات عبر الشاشات الموصوفة بالذكاء والغارقة في الهجران والقسوة والاغتراب.
يتعامل الأبناء مع المستجدات اليومية بعين حذرة، يعرفون كل ما يحدث في بلدهم، أخطاء طبية بالجملة، فقدان الدواء، عجز الأمهات الجلي والواضح عن تأمين احتياجاتهن اليومية بسبب الغلاء أولاً وبسبب تردي أنواع الخدمات المقدمة وغياب أهمها كالكهرباء والماء والمواصلات.
قررت سمر أنها ستهدي أمها في يوم عيدها دعوة إلى الغداء تجتمع فيه مع شقيقاتها. يعتقد الأبناء والبنات أن تلك الدعوة هي هدية مميزة وغير تقليدية وتسعد الأمهات، لكن الأمهات لا يفكرن بالدعوات ولا يرغبن بها، يردن لقاء حقيقياً، احتضاناً شغوفاً واقعياً يمتزج فيه الجسد بالجسد وتحدق العيون بالعيون وتسمع الآذان صوت الأنفاس وصدى العواطف، باتت جملة: (المهم أنتم بخير) كذبة كبيرة ملت الأمهات من ترديدها وملّ الأبناء والبنات من سماعها.
بالأمس حصلت مرام على قسيمة تموينية بقيمة مائتي ألف ليرة كهدية مسبقة لعيد الأم من شقيقها المقيم في ألمانيا، لم تفرح بها لأنها لا تغني عن جوع تعانيه مرام مع طفلها الوحيد، تسكن في منطقة بعيدة جداً عن مركز المدينة، والمواصلات متقطعة، ما اضطرها لمغادرة بيتها في الثامنة صباحاً لتتمكن من الوصول والعودة قبل العتمة وقبل توقف المواصلات بسبب البعد وشح المازوت، اصطحبت معها طفلها، وفي مركز استلام مواد القسيمة، أعلنت لطفلها أنه حر في اختيار كل ما يشتهيه، تركت له حرية اختيار المواد التي تغطيها القسيمة، وكأنها تمنحه تعويضاً عن قسوة الحياة والحرمان الذي يعيشه. حدثٌ سيقول الجميع بأنه خاطئ ومفرط في عاطفيته وسذاجته، لكنه محاولة بائسة لإسعاد طفل محروم من الأب ومن السند العائلي ومن الأساسيات الضرورية للعيش ولتنشئة طفل ضئيل الحجم وبلا مدرسة أو رعاية وفاقد للاحتياجات الأساسية.
ثمة عنف جديد يحاصر الأمهات، في مراكز الإيواء التي ضمت الأمهات وأطفالهن الهاربين من الزلزال بعد فقدان المنازل أو تصدعها، تحولت الأمهات إلى مشاجب تحمل أخطاء أبنائها في بيئة محصورة وضيقة وخانقة. تم تأطير النساء هنا وخاصة الأمهات بأطر تقييمية قاسية يفرضها الأقوى والمتحكم بالمكان. ارتبطت كل الأخطاء بالأمهات حكماً، من بكى ابنها فهو طفل لم تضبط أمه مشاعره ولم تقوّم سلوكه كما ينبغي كي تحوز على رضى المجتمع، ومن بكت من الأمهات وصفت بأنها امرأة عاطفية وضعيفة وهشة وغير جديرة بأن تكون أماً مسؤولة عن حماية وتربية أبنائها وبناتها. ومن سرق طفلها قطعة من البسكويت أو تفاحة أو ضرب طفلاً آخر وصفت الأم بأنها هي من علمته أو دفعته للسرقة أو للاعتداء على طفل آخر.
ثمة واقع جديد تفرضه تفاصيل العيش غير الآدمية التي يعيشها الأبناء والأمهات معاً. في الحافلة الصغيرة تجلس أم وابنتها التي ولدت طفلاً مريضاً ويخضع الآن للعلاج في المنفسة، بدلاً من تهدئة الابنة تعبر الوالدة عن فرحتها بأنهم وجدوا جمعية تتبنى علاج الطفل لعجزهم عن علاجه. تقول الأم لابنتها: “الحفاضات من نوع ليبرو، وهي الحفاضات الأغلى ثمناً بين أنواع الحفاضات لجودتها.” في بلد تلجأ فيه الأمهات إلى استعمال الحفاضات التي تباع فرطاً وبالقطعة ومن النخب الثالث وربما الخامس وهي غير معقمة أصلاً والمطاط المحيط بها قاس ويسبب الحساسية لبشرة الأطفال الرقيقة.
تُعبر البنت عن قلقها بدموع محبوسة، لكن الأم تمنعها من البكاء بذريعة أن ذلك يوازي التشكيك بعدم نجاة الطفل، هكذا إذن تحرم الأمهات حتى من التعبير عن القلق على أطفالهن بغطاء من قيم تقليدية تشكك بالدعاء أو بالإرادة الغيبية المهيمنة.
والأمهات الوحيدات كيف يحتفين بيومهن؟ باتت كل الاحتفالات مكروهة، مناسبة لتذكر ماض لم يكن وردياً لكنه أفضل من أحوالهن اليوم. واقع بلا أي ضمان ولا أمل أو ثقة بأنهن سيبقين محميات أو سالمات أو أنهن سيمتن بحضور الأبناء والبنات والأحبة. تعبر أمل صراحة عن سعادتها الغامرة بسفر أولادها، تغص بدموع الشوق، لكنها تتابع قائلة: “أنا عاجزة حتى عن إعداد قالب كاتو منزلي، لا غاز ولا كهرباء ولا قدرة مادية على شراء مكوناته، سأحتفل بنفسي وحيدة كي أضمن بقائي متمكنة من شراء حاجاتي الأساسية.” وتضيف: “العيد مجرد ذكرى ومشاعر داخلية عليها ألا تهدر مقتنياتي الشحيحة.”
تغدو الأمومة بحد ذاتها إطاراً قاسياً ومجهداً للنساء، يُفرض على البعض ولادات جديدة رغم أن لهن عدداً كافياً من الأبناء أو البنات، وتحرم أخريات منه لأنهن زوجات لرجال متزوجين، تزوجن وقبلن زواجاً عرفياً أو سرياً طلباً للمأوى أو للدخل وربما فقط للحماية من استبداد أفراد العائلة والأقارب أو من المتحرشين والمستغلين والمتحكمين بالموارد وحتى بلقمة الطعام.
يتحول الأبناء فجأة إلى حوامل للضغط على الأمهات والنساء، تضطر النساء وخاصة الأمهات لاستنزاف طاقتهن وعواطفهن وقدراتهن الجسدية والنفسية لحماية الأبناء والبنات. تصير الأمومة مصدراً للقهر والخوف والتعب، تغدو الأمومة كما الحياة عملاً شاقاً في إطار عام غير إنساني وعنيف ينحدر بسرعة نحو الدرك الأسفل، درك مضيع للحقوق وهادر لمقومات العيش اللائق بالأمهات وبالأبناء وبالجميع. تتحول الاحتفالات مهما تغيرت لتلبية الاحتياجات الكبيرة والمتجددة، إلى مناسبات للبكاء وتأكيد الفقدان وتثبيت العجز، عجز شامل ومتمكن وهادر للقوة ولأمل.
كلّما تذكّرت المكان الأول الذي كبرتُ فيه، أذهب إلى محرّكات البحث على الإنترنت لأطمئنَّ على النّاس هناك، كأنّهم جميعاً عائلتي، ولستُ أدري لماذا؟ علماً أنّ معظمَ عائلتي قد غادروا من هناك، أبحثُ عن أخبارهم، أتصلُ بمن بقي من أقاربي وأصدقائي دون جدوى تعالج تلك النوستالجيا الطارئة.
بينما أحرّر هذا الموضوع، أمطرتُ قلبي بصورِ الطفولة والوعي الأول للمكان والبيئة المحيطة بي، حيث ولدتُ هناك جنوب دمشق في الحيّ المعروف باسم “نهر عيشة” أو كما حدّثت الحكومة اسمه ليصبح “حيّ السّيدة عائشة”. ربّما يحاولون جعله أقلّ عشوائيّةً!
هذا الحيّ هو حزام من البيوت والشوارع المتقاربة للغاية، زحام يفوق الـ 80 ألف شخصٍ، يعيشون في منطقة تشبه شكل المثلث، تقع قرب حيّ الميدان الشّهير، جنوب دمشق، وتمتد بين منطقتيّ كفرسوسة والقدم.
يحاول النّاس هناك بشتّى الوسائل مثل آلاف السّوريين البقاء على قيد الحياة، ومع الزوّار الجدد (يمكن أن تقرأ النّازحين) من المناطق القريبة، أصبحت أجرة البيت المؤلف من غرفة وصالون؛ تتراوح بين 300 ألف إلى 500 ألف ل.س، والزيادة حسب المساحة، هذا ما أشار له “ناصر” (33 عاماً) المقيم في نهرعيشة اليوم، وهو يعمل كمحرر في صفحة خدميّة عامة تعنى بأخبار الحيّ على الإنترنت.
إرشاد وتبرع
يعمل ناصر على وصل المنطقة بالعالم الخارجيّ، فهو يشبّك إلى جانب فريق، بشكلٍ تطوعيّ، ما بين الأُسر المحتاجة وأصحاب التّبرعات خارج سورية أو أهاليهم من أبناء المنطقة بشكل أساسيّ، يقول: “أعمل نجاراً منذ سنوات، لكنّ دراستي كانت في معهد تقنيات المعلوماتيّة، لم أجد فرصةً مناسبةً لتحصيلي العلميّ، وكذلك لم أستطع السّفر لأنّي وحيدٌ لأميّ. كان والدي قد توفي في الأحداث منذ سنوات، أحاول أن أجمع التّبرعات العينيّة أو الماليّة لمساعدة المحتاجين في الحيّ وأن أصل الناس ببعضها البعض عن طريق عدد من المجموعات في فيسبوك وخصوصاً من منطقة “نهرعيشة”؛ والهدف هو تقديم خدمة مجانيّة للناس من أجل التواصل.”
اكتسب ناصر سمعةً جيدةً وثقةً، وهو يعمل في الخفاء تقريباً، خوفاً على حياته من اللصوص أو الملاحقة الأمنية، يقول: “معظم حاجات الناس اليوم تنحصر في إمكانية إيجاد الحطب والمازوت والبحث عن البيوت والمفقودات وبطاريات الشحن المنزلية لأن تقنين الكهرباء طويل ويصل إلى حوالي 12 ساعة في اليوم وإذا كانت الظروف الجويّة سيئة، فإن الكهرباء تنقطع ليومٍ كاملٍ!”
أكثر من وظيفة
يخبرنا ناصر كيف تحوّل حيّ “نهرعيشة” إلى محجّ للنازحين من الأحياء القريبة، وكيف تنوعت اللّهجات والانتماءات بغزارة، ويضيف: “معظم سكان المنطقة يعملون في وظيفتين أو أكثر لسدّ رمق حاجة أسرهم، فالموظف في جهة حكومية أو قطاع خاص قد يعمل أيضاً على بسطة لبيع الثياب أو الفاكهة أو في معمل خاص، أو يعمل ناطوراً لمشاريع معماريّة في المناطق المدمّرة القريبة”.
ومن بين الموظفين في قطاع الدولة، “أنس.ج” (اسم مستعار) 38 عاماً، والذي يعمل موظفاً حكومياً من الدرجة الثانية في أحد المؤسسات الرسمية بدمشق، يقول: “أعيش في حيّ نهرعيشة منذ وُلدت، لدي ثلاثة أطفال، زوجتي ربّة منزل، لا تعمل رغم أنّها جامعيّة، والسبب هو سوء الظروف وقلّة الأمان في مؤسسات القطاع الخاص، وهي الآن مهتمة بتربية الأولاد”.
يشير أنس إلى أنّ راتب الوظيفة لا يكفي أسرته لبضعة أيام، فهو يعمل أيضاً كحارس بعد فترة العصر في أحد المركز التجاريّة بريف دمشق، وهذا يعني أنه يعمل حوالي 16 ساعة، كي يستطيع أن يعيل أسرته، يقول: “راتبي من الحكومة ينتهي في اليوم الثالث بعد بداية الشهر ومقداره 130 ألف ل.س، وفي القطاع الخاص حيث الوظيفة الثانية أتقاضى 309 آلاف ل.س، مقابل 9 ساعات دوام يوميّة طيلة الأسبوع”.
ويشير أنس أثناء حديثنا معه إلى أنّ أحد أبرز المشكلات التي يعاني منها أبناء الحي، هي غلاء الأدوية وعدم ثبات الأسعار عموماً، وضرب مثلاً على ذلك سعر دواء “الأوجمنتين” الذي يصل إلى 20 ألف ليرة سورية، حسب قوله.
ومن صور المعاناة اليوميّة للسكان في المنطقة: عدم توفر الوقود والغاز والكهرباء، إضافة إلى صعوبة المواصلات المتعلقة بارتفاع أسعار البنزين بشكل مستمر.
يقول أنس: “لقد اخترعت الحكومة لنا شيئاً يُسمّى (بطاقة عائلية)، والتي نستلم من خلالها عبوة الغاز مرة كلّ 90 يوماً وقد يطول الأمر إلى 100 يوم. عبر رسالة في تطبيق يدعى “Way-in” وندفع ثمنها 10 آلاف ل.س، لكنّها تكفينا لمدة 15 يوماً تقريباً، ثم تنتهي! بينما إذا كنتُ أريد شراءها بشكل حرّ فإنها تكلفني 170 ألف ل.س”.
بيع حرّ
وتنتشر ظاهرة البيع العشوائيّ في المنطقة، دون ملاحقةٍ من الحكومة، وعادة ما يكون خلف هؤلاء الباعة بعض العناصر القديمة من ميليشيات “الدفاع الوطنيّ” حسب ما أشار ناصر خلال حديثه.
فيما يؤكد أنس أن هناك ما يُسمّى “البيع الحرّ” والذي يتوفر فيه الغاز وكلّ أنواع الوقود السائل، إذ ينتشر السماسرة على طرفي أوتوستراد درعا الذي يقع على أطراف الحيّ: “هناك أكثر من عشرة أشخاص يبيعون بشكل حرّ، عدد منهم يحمل بيدونات بنزين، وتباع كلّ 10 ليترات بـ 85 ألف ل.س، أمّا إذا كان لديك سيارة يمكنك أن تشتري البنزين من كازيات الدولة، مرتين في الشهر، وحسب البطاقة الذكيّة كلّ 20 ليتر ثمنها 75 ألف ل.س”.
وأجمعَ عدد من السكان المحليين في “نهرعيشة” ممّن تواصلنا معهم على أن وضع المازوت ليس بأحسن حال من غيره، حيث يحق لكلّ عائلة حسب “البطاقة الذكيّة” أن تحصل طيلة الشتاء ولمرة واحدة على 50 ليتر من المازوت وثمنها 100 ألف ل.س، أمّا عن طريق “الحرّ” فإن ليتر مازوت واحد ثمنه 12 ألف ل.س، وعادة ما يستبدل السّكان هناك المازوت بالحطب من أجل التّدفئة، ويبلغ ثمن الكيلوغرام الواحد من الحطب 3000 ل.س، ويمكن أن يدفّئ المنزل لمدة نصف نهار تقريباً، حسب تأكيد عدد من سكان الحيّ.
أحلام مؤجلة
تؤكد أمل (31 عاماً) وهي تعمل معلمة لغة عربيّة، أنّ النّاس مرتبطين بشيء يُسمّى “البطاقة الذكيّة” بشكل دائم، حتّى إذا أردوا شراء السّكر والشاي والسّمنة وزيت الزيتون، وهذا الأخير إذا توفّر في البقالية فإن ثمنه 22 ألف ل.س لليتر الواحد، أمّا عن طريق البطاقة الذكيّة فثمنه 13 ألف ل.س، ويحقّ لكل عائلة ليتر واحد مرة كلّ شهر!
تعيش أمل مع والديها إلى جانب ستة من إخوتها الصّغار، وتشير إلى صعوبات توفير حاجيات هؤلاء الذين ليسوا مؤهلين للعمل بعد، تقول: “إلى جانب عملي في جهة رسمية، أعمل كذلك في تصحيح مخطوطات الكتب لبعض دور النشر، وأعطي أحياناً دروساً خصوصيةً، وذلك يساعدنا قليلاً في وضعنا العائلي. فأبي يعمل على ميكروباص، وأمّي تهتمّ بتربية إخوتي الصغار الذين يبلغ أكبرهم 16 سنة وأصغرهم 5 سنوات، لديّ تقريباً أكثر من 15 ساعة عمل يوميّاً خلال الأسبوع، ولم أفكّر في السّفر لأسباب صحيّة تتعلق بوالدتي، وكذلك من أجل إخوتي الصّغار”.
وبسبب وجودها داخل سورية، لا يتم تقدير مجهود أمل بشكل مستحقّ في عملها من قبل بعض من تتعاقد معهم، تقول: يتمثل القهر الكبير في التعاون مع بعض المؤسسات خارج سورية، مثلاً، عندما أصحح الكتب وأحرّرها وأدقّقها، تكون قيمة تعبي مبالغ سخيفة مقارنة مع ساعات العمل، وفي أيّ بلد لا يعاني من الحرب مثل الدّول الأوربيّة، سيكون أرباب العمل أكثر احتراماً، لكن بسبب الحاجة أقبل بهذا القليل”.
لم تكن أمل تفكر للحظة أن المستقبل سوف يتغير بهذا الشكل فهي التي عايشت سنوات الحرب كانت تعتقد أنّها بمجرد التخرّج من الجامعة سوف تسافر بحثاً عن فرصة أفضل خارج سورية، لكن مرض والدتها بالسكريّ وعدم قدرة والدها على تغطية مصاريف البيت بوجود هذا العدد من الأطفال، جعلها تؤجل مشاريع حلمها بالسفر التي باتت بعيدةً في الوقت الراهن. وتختم أمل: “أعرف أن بعض الأحياء تشتري الماء، لكن في نهرعيشة الماء متوفر بشكل جيد، ولا يشعر المرء بالخوف أحياناً كثيرة لأن الناس في كلّ مكان، كأنّنا في بيتٍ كبيرٍ ضمن هذه المنطقة المكتظّة بالفقر والصبر، نحاول أن نجد مبرّراتٍ للحياة، فيكون الأمل الوحيد هو أن نجعل لهؤلاء الأطفال الذين في بيتنا، مستقبلاً أقلّ وجعاً وأكثر أماناً، ولك أن تتخيل فأنا أشعر بالشبع من الأمومة بسبب انهماكي الطويل في تربية إخوتي مع أمّي وأبي!”.
ناصر وأنس وأمل، هم شباب من أعمار متقاربة، حسموا خيارهم بالبقاء في بقعة جغرافيّة قريبة من العاصمة دمشق، في بيوت تحتضن بعضها البعض من شدّة البرد والخوف، وأمام هول المأساة والضغط المعيشيّ كان يأتي صوتهم من هناك عبر الأثير حزيناً مشحوناً بالقوة والحلم بالخلاص. كان صوتهم صورة أخرى للنوستالجيا الثقيلة التي لا تغادرني.
أريكا هيلتون شاعرة وفنانة تشكيلية أميركية من أصول سورية ولبنانية، هاجرت عائلتها إلى تركياوولدتْ في مرسين، ثم هاجرت مع أمها حين كانت في سن السادسة إلى الولايات المتحدة الأمريكيةحيث استقرت نهائياً. نشرت في كثير من المجلات والصحف المرموقة مثل أوشن جيوغرافيك ماجازين،شيكاغو تربيون، توركواز ماجازين، أوثوريتي ماجازين ومجلات أخرى، وكانت مديرة سابقة لمركزالشعر في شيكاغو. يصدر ديوانها الأول في العربية قريباً. هذا الحوار أجري باللغة الإنكليزية معالشاعرة المقيمة في شيكاغو وتُرجم إلى العربية.
أسامة إسبر: أنت من أصل سوري ولبناني وتركي، وبعد ذلك أصبحت مواطنة أمريكية. كيف تؤثر قصتك كمهاجرة في تجربتك كشاعرة وفنانة تشكيلية؟
أريكا هيلتون: ولدتُ في تركيا لأبوين أحدهما سوري والآخر لبناني. كان أبي من أنطاكيا، وأمي من مرسين. في طفولتي كان جميع أفراد أسرتي يتحدثون التركية والعربية والفرنسية. وبعد أن انتقلنا إلى الولايات المتحدة لم أكن أنطق كلمة واحدة بالإنجليزية. لا أستطيع تذكر الوقت بين اللغات. في أحد الأيام بدأت أتحدث كما لو أنني كنت دوماً أتحدث الإنجليزية فحسب. وكما يحدث، نترك أحياناً شيئاً ما خلفنا حين نصل إلى شيء آخر، في هذه الحالة، كانت الخسارة هي خسارة اللغة العربية. ولأنني ولدتُ في تركيا كانت أمي تتحدث التركية معظم الوقت في البيت، وغالباً ما كانت مختلطة بالعربية، ولهذا ما يزال لدي فهم أولي حين أسمع كلمات معينة. لكن قدرتي على التفاعل مع العربية اختفت لأن رغبتي كانت شديدة للتفاهم مع أطفال آخرين، أردت أن أصبح أمريكية مثلهم وكنت أتضايق حين تنطق أمي باللغات التي وُلدتُ في جوها. أخيراً، أعتقد أنني وجدت نفسي ضائعة في عالمي الخاص أبحث دوماً عن جذوري. وهكذا وجدت نفسي أحاول أن أبتكر حقائقي.
أإ– ما الذي قدح لديك الشرارة الأولى لكتابة قصيدة؟
أ. هـ: أحببت دوماً المكتبات. في أوقات فراغي (قبل الإنترنت) كنت أذهب إلى المكتبات في معظم الأحيان وأسير في الممرات باحثة عن كتب يمكن أن تغريني. عثرت في إحدى المرات على كتاب ورقي صغير يدعى ”أركيولوجيا الروح“. أحببت الملمس المخملي لغلافه، والعنوان بالطبع. وهكذا اشتريته من دون أن تكون لدي فكرة عن محتواه. وجدت نفسي مأخوذة بمعنى الكلمات. داخل الصفحات، اكتشفتُ ريلكه وشعر جلال الدين الرومي وبابلو نيرودا وخاصة قصيدته التي سحرتني ويقول فيها: ثدياك كافيان لقلبي وجناحاي لحريتك. ما كان غافياً في روحك سيصعد من فمي إلى السماء…“. وهكذا بدأ ظمأي للرمزية الغنائية للكلمات التي تربط بين العوالم. بعد بضع سنوات، سجلت في مشغل يدعى ”كيف تعيش حياة أسطورية شعرية“، وكان المدرّس هو مؤلف الكتاب الذي أثر بي كثيراً، فيل كوسينيو. كانت ضربة حظ.
٣– تنحدرين من سلالة من الشعراء في شجرة نسبك العائلية. علمتُ أن ابن عربي هو أحدهم. ثمة خط من الشعراء الذين كتبوا في العربية يمتد الآن إلى الإنجليزية. كيف تتواصلين في شعرك مع هذا الخط؟
أ. هـ: هذا مدهش حقاً. حين كنتُ صغيرة لم أكن أعرف أنني أنحدر من أسماء مهمة كهذه في تاريخ الشعر والفلسفة. كان أبواي مطلّقين حين جئت إلى هذه الدنيا. تزوجت أمي شخصاً آخر وأحضرتني إلى أمريكا في سن السادسة. التقيتُ بوالدي للمرة الأولى بعد أن بلغت الأربعين من العمر. في ذلك الوقت كان لدي ولدان وكنت منخرطة بقوة في عالم الفن والشعر. والمدهش أن ابني البكر جيم أراد أن يصبح شاعراً وفي النهاية نال شهادة الماجستير في الفلسفة. أظن أن هذا يجري في دم العائلة. حين التقيت بأبي لأول مرة كانت تجربة سريالية. طلبتُ منه أن يحدثني عن العائلة التي لم ألتق بها أبداً فروى لي قصصاً كثيرة لكنه قدم لي في النهاية الهدية الأعظم وهي نسخة من خريطة النسب الخاصة بعائلتنا والتي حُفظت لقرون. لم أعتقد أن قائمة كهذه يمكن أن توجد ولم أكن أعرف أي شيء عن معظم الأسماء إلى أن أطلعت عليها أساتذتي الذين تعرفوا على محي الدين بن عربي وحاتم الطائي وامرئ القيس، وأسماء أخرى لم أسمع بها من قبل.
كان هذا سحرياً بطريقة ما. للحظة تشعر أنك تائه في عالم ضائع، كاليتيم الذي لا ينتمي إلى أي مكان، إلى أي عائلة، إلى أي ثقافة أو أي وطن. تعرف أنك مختلف، لكنك لا تفهم لماذا وكيف ومن أنت. ثم في تلك اللحظة السحرية تعرف من كان حياً في دمك، ثم تبدأ بفهم لماذا وكيف كما لو أن السماء تنفتح وضوء السماوات يُمْطر عليك ولا تعود تشعر بأنك وحيد. تمتلك الآن إحساساً بالانتماء. تبدأ بفهم لماذا أنت مركّب هكذا، ولماذا تفكر بالطريقة التي تفكر بها.
بوسعي القول إن الاطلاع على أسلاف كهؤلاء شهادة على قوة الحياة، فحين أقرأ شعر ابن عربي يبدو متقاطعاً مع شعر كتبته عن السماء والأرض، عن النجوم والتواشج مع الكون، عن الحب والضوء وكل ما هو موجود. والآن بعد أن عرفتُ من أين أنحدر يبدو من الطبيعي القول إنني عثرت أخيراً على جذوري، كما لو أن الضوء ظهر في نهاية النفق كي يضيء طريقي.
أ.إ: كفنانة تشكيلية وشاعرة كيف تعرّفين العلاقة بين الشعر والفن؟
أ.هـ: لا أظن أن هناك حدوداً فاصلة بين الفن والشعر. إنهما توسيع لحواسنا الخمس. يسألني الناس كثيراً كيف يمكن أن يفعل الإنسان أكثر من شيء واحد، وأن يكون أكثر من شيء واحد. بالنسبة لي، سيكون من المستحيل أن أكون بخلاف ذلك. أذكر أحبَّ الفنانين إلى قلبي وذائقتي في التاريخ ليورنادو دافينشي. كان مهندساً وعالم نبات وبالمصادفة صار رساماً. كل شيء مترابط.
أ.إ: أحد كتبك الشعرية سيصدر بالعربية قريباً. ستعودين إلى لغتك الأصلية المنسية لكن عبر الترجمة، ما الذي يعنيه هذا لك؟
أ.هـ: ثمة مفارقة عذبة في هذا. بصرف النظر عن المكان الذي نذهب إليه وعن المسافة، تعلمت أننا لا نستطيع أن نهرب مما يشكلنا. طلبتُ من الكون أن يساعدني في العثور على جذوري، وها أنذا هنا، أعود إلى البدء. إن لغتي الأصلية، ثقافتي الأصلية جذبتني كما يجذب نداء حوريات البحر. ليس هناك ما هو أفضل من هذا.
أ.إ: كرئيسة سابقة لمركز الشعر في شيكاغو ما الأنشطة التي قمت برعايتها، ما المميز في تلك التجربة؟
أ.هـ: كان عملي في منظمة تُعنى بفن الشعر وتروج له تجربة تكوينية بالنسبة لي. التقيت بأكثر الشعراء شهرة في العالم، وقمتُ بتسهيل ورشات الشعر واستمديت الإلهام من أفكار الآخرين وتجاربهم.
أ. إ: كراعية للفنون ما الذي يجعلك تختارين فناناً أو مصوراً لعرض أعماله؟
أ.هـ: بالنسبة لي الفن تمثيل بصري لجوهر الفنان وأفضّل أن أعمل مع فنانين يحدثون فرقاً بطريقة ما في العالم. أقدم فنانين يدعمون القضايا الإنسانية، مثل تأمين التمويل وتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على محيطاتنا وبيئتنا، وفنانين يساعدون في تأمين التمويل لأبحاث الأطفال المصابين بالسرطان ورفع الوعي بالأخطار التي تهدد أنواع الحيوانات ووضعنا الإنساني. كما قال أرسطو: ”إن هدف الفن ليس تمثيل المظهر الخارجي للأشياء بل دلالتها الباطنية“.
أ.إ: برأيك ما الذي يجعل قصيدة قصيدة بالمعنى الإبداعي الحقيقي؟ وكي أوسع هذا السؤال: ما الذين ترينه في لوحة إبداعية؟
أ.هـ: إن قصيدة أو لوحة إبداعية يمكن أن تكون أي شيء يلامس عاطفة في قلب وذهن المرء. قد تكون بسيطة ككلمة واحدة أو ضربة ريشة. إن القصيدة قصة مقطرة في بضع كلمات بينما اللوحة تمثيل بصري لقصة. وهذا متشابه إلى حد ما. كما قال الفنان مارسيل دوشامب: ”إذا دعوتُ هذا فناً فهو فن“.
أ.إ: هل تؤمنين بالقوة التحويلية للفن والشعر؟ كيف يقوم الشعر أو الفن بتغييرنا من الداخل؟
أ. هـ ـ: نعم أؤمن بها، ذلك أنه عبر الألفيات تعلم الناس عن أنفسهم وتاريخهم عن طريق قوة الفنون البصرية، وقوة الصوت. منذ التقاليد الشفهية التي تحولت إلى كلمة مكتوبة، ومنذ رسوم الكهوف إلى النهضة وحتى الأزمنة الحديثة، بحثنا عن معنى وهدف الحياة على الأرض. من دون فن لن يكون لدينا تاريخ. وثمة حاجة لدى البشر كي يصقلوا إحساسهم بالمكان في العالم، كي يتوحدوا مع الأرض والنجوم ومعنى وجودنا. نحن كبشر مستكشفون، لا يرضينا أن نكون موجودين فحسب بل نسعى، نبحث ونوسع حدودنا كي نتغلب على مخاوفنا، كي نحقق أحلامنا، ونذهب إلى حيث قيل لنا إننا يجب ألا نذهب. إن جمال كونك إنساناً هو أن تواصل البحث، أن تسافر إلى أراض بعيدة، أحياناً جسدياً وفي الغالب من خلال أذهان وتجارب الفنانين. نحب رحلات القلب.
أ.إ: حين تفكرين بجذورك، من منظور شعري وفني، ما الذي يتولد في ذهنك؟
أ.هـ: أفكر بزهر البرتقال والبحار التي بزرقة الياقوت، بعطر الياسمين، وببشر يتقاسمون الطعام، بعشاق يسيرون على الشاطئ، بالهيام والقوة وبأشجار الزيتون وخطوطها على الجبال، وبأشجار التين على طول الطريق وأشجار النخيل، برائحة الخبز من التنانير في الجبال وصوت الأذان والحرارة الحارقة لصيف البحر الأبيض المتوسط، النسيم في الجبال حيث بيت عمتي بوروده التي تتسلق إلى شرفة الطابق الثاني، أفكر أيضاً بأشجار الدراق في الصيف، وبساتين الليمون والبرتقال، وبالشمس تشرق على صوت المدينة المستيقظ، وهذا محزن ومفرح في آن، ويتضمن دوماً متعة قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء الذين يتقاسمون الطعام معاً. هذه هي ذكريات أرضي.
مختارات من شعر أريكا هيلتون
اللحظة الأخّاذة
The Magical Instant
-I-
وحدثَ أن بُعثْتُ حيةً
في تلك اللحظة الأخّاذة.
تسارعتْ دقاتُ قلبي
واخترقَ صدري حنينٌ هاجع
كنيزكٍ يندفع نحو الشمس.
وكما اشتهى بجماليون جالاتيا
جذبتْ نظرتُكَ المتوقدة النَفَس
إلى كون متعددٍ في الفضاء
وطوتْ نسيج الزمن
قبل أن يكون هناك
أي مفهوم للسماء…
وفيما كنتَ تُسرع عائداً عبْر الألفيات
بدت عناصرك كمعادلة
كنتُ أحاول حلها،
كقداسة سيميائية،
أشعلتْ لسانَيْ لهبٍ توأمين
يسعيان إلى مرآتهما في الضباب.
كيف حدث أن عشنا
فيما نصف حياتنا
يتدفق في اتجاه آخر؟
وأي جبالٍ من الحقيقة
تعلو صامتة في عناقك؟
-II-
أنا مكتبةٌ تزخر بالأفكار
لكن من يكتب بالضوء
هو أنتَ.
في أحد الأيام،
تزحلق كبير الملائكة جبريل
نازلاً على درابزين بيتي
فسألتهُ في دهشة:
لماذا ولدتُ في عالم كهذا،
مترع بالأسى والألم واليأس البشري؟
فزمّ شفتيه
وكان جوابه الصمت
فيما بدأت الكتب تتدفق
من فتحة في صدري
وظهرت معرفة ثرّة.
-III-
انفتح رتاجُ بوابة قديمة
وانكشف عالمٌ جديد
ينقّب عن جذوره.
آهٍ أيها القلب،
أنشدْ لي أشعارك
عن أول صوتٍ
عن أول ضوء كشف النور
فقد أبان التأمل المزهر للسماء
قبة متألقة كألماسة،
تنفث مزاميرها المقدسة في جلدي.
-IV-
حين أسبح في مضيق البوسفور
على أية يابسة أنزل؟
صارت ذراعاك جناحين
تطوقان تيارات المحيط.
لكن أي نهر حملك بعيداً
إلى ظلال نومي؟
كُنتَ الأفق الأزرق
لخيالي.
ولو كان بوسعي الرجوع،
لزحفتُ إلى صنجات قلبك
ورتّلتُ أنشودةً لمدك العالي.
-V-
هالتُكَ الذهبية امتزجت بهالتي
كعطر أزهار البرتقال
الفوّاح في الربيع.
انبعث انسجامنا العميق
من أرض ولادتنا.
دمك دمي.
وقفتك الطويلة،
تعكس ألق الوجود،
وأنا أخطو في الحياة
بين السماء والأرض
وكلي توقٌ
لأغتسل بشعاع أنفاسك.
ملاكٌ يتحدث إلى شيطان
Angel Speaks to a Demon
حسناً، تريدُ أن تختبرني.
تظنُّ أنني لن أقوى على الصمود،
أنك أشدّ بأساً مني،
وأنك سيّاف أمهر.
حسناً، ربما أنت كذلك
ربما ليس بإمكاني أن أستخدم نصلاً
بدقة مماثلة
أو أن أُحْدث الجرح نفسه.
فأنت تثير خوفاً يقطع الأنفاس
في عالم أحلامي.
في صحوةٍ أريد أن أكون
وليس في نومك المرتعش
حيث أخشى فكرةَ السقوط
خارج سماء امتلائي وانعتاقي
حيث أعيش.
إذا كنت تريد دمي خذْهُ
فأنا لا أحتاجه كي يخفق قلبي
لديّ طريقة مختلفة
ليس لكَ أن تعرفها
لأنك شيطان
والشياطين تجهل هذي الأمور.
لو عرفتَ ستذهب إلى
أول طبيب وتطلب منه قائلاً:
”أيها الطبيب، هبْني وجهاً جديداً
بعينين مفتوحتين
كي أستطيع أن أرى هذه الأشياء
التي تقول بأني لا أعرفها“.
”لماذا أشربُ دمها وأبصقه
كما لو أن غضارتها مدفونة في حلم؟“
”مثل ذي اللحية الزرقاء
التهمتُ مائة زوجة
ومع ذلك لساني ما يزال جافاً
وما من دم يروي ظمأي“.
ما زال عليّ أن أكتشف معجم الضوء
أم هو الحب؟
”ما الحب يا طبيب؟
ما هو وجه الحب؟“
وسيُجيب الطبيب:
”أيها الشيطان،
أستطيع أن أمنحك وجهاً جديداً
لكن لا يمكنني أن أمنحك عينين لتشعر
فأنت تلتهم ما تخافه.
إن ما يجفف لسانك
ويدفعك للجنون
ويسلبكَ روحَك
ويرميها في النسيان
هو الخوف،
فأنصت
أنصت إلى قلبها
وستلمح العديد من الوجوه
وستسمع أغنيتها الحزينة
حين يتوقف حبيبها عن العزف على نايِه
في غرفة أسرارها المخملية.
إذا اقتربتَ
واقتربت أكثر
يمكنك تذوق فخذيها
اللذين يقطران بلآلئ من زهر البرتقال
على لسانك
إلى أن تُنعّم نصلك
فيغدو ريشةً من نار حرارتها المستعرة
أشدّ من أن يحتويها عالم خوفك.
باختصار، يا صديقي الشيطان:
كفّ عن التربصّ في ظلامك
حدّق في مرآة عينيها
ستلمح نهراً
يسكب ضوءاً في ذلك المكان
لا يمكن إلا لقلبٍ من ياقوت أن يحمله.
(أجرى الحوار بالإنجليزية وترجمه إلى العربية مع القصائد: أسامة إسبر)
“توقف الزمن، ما زلت عاجزة عن الكلام والتعبير، أشعر أنني لم أعد على قيد الحياة، أنا محض جثة نجت بأعجوبة، وليتها لم تنج”، تقول علا علي (19 عاماً) وتنهار بالبكاء خلال حديثها مع “صالون سوريا”.
كانت علا تدرس على طاولة الدراسة الجامعية الصغيرة في زاوية غرفتها في الطابق الثاني فجر الكارثة. بعد أن اطمأنت أنّ أهلها نائمون بأمان وسلام، ابتسمت في وجه المرآة ووعدت نفسها بمستقبل أفضل حالما تنهي سنواتها الجامعية، أعدت كوباً من القهوة الساخنة وبدأت تتصفح إحدى محاضراتها، شغلت أغنية لنجاة على هاتفها الصغير، كانت تحب نجاة كثيراً قبل الكارثة.
“لا أدري ماذا حصل، كان كل شيء جيداً، لا أذكر، لا أريد أن أتذكر، فجأة ارتج المنزل، هزة، هزتين، لحظات، ساعات، عمر بأكمله، صراخ شديد، صرت أسمع صراخاً من منزلنا، من الجوار، صرت أشعر بأصوات صرخات تحطم رأسي، لا أدري كم استغرق الأمر، ولكنني الآن أدرك أكثر ما حصل، أتعلم ما الذي حصل؟، أهلي توفوا، ومنزلي صار ركاماً ؟”.
شيء ما يبدو غريباً في علا، هل كلمة غريب مناسبة بعد ما عاشته؟، هي الآن عند أقاربها، يقولون إنّها ليست بخير، لا تنام ليلاً، تبكي طوال الليل، وإذا ما غفت فإنّها تستيقظ صارخةً.
في حديثي معها، بدا لدى علا طاقة كبيرة للكلام، أرادت أن تقول شيئاً لم تستطع التعبير عنه بأسلوب واضح، أفكارها مبعثرة للغاية، ذكرياتها مشتتة، لا يبدو أنّها قد استوعبت ما حصل بتمامه حتى الآن، وريثما تستوعب ما حصل، قد يكون فات الأوان على شابة كانت تتوسم خيراً رغم كل ما في بلادها من محن.
بسطاء يتقاسمون القهر
الأمر في سوريا مركب قليلاً، فالناس تجاوزت عقداً من الحرب، وحملت فيه ما حملت من هموم ومشاكل وآلام وخسارات نفسية ومعنوية ومادية زادها سوء الحال الاقتصادي تعقيداً واستنزافاً، فجاء الزلزال مكملاً على أحلام بسطاء يتقاسمون القهر من شمال إدلب إلى حلب والساحل وحماه وكل منطقة تضررت من الزلزال.
في جولة على حالات كثيرة نجت من الزلزال يبدو واضحاً اتحاد المشاعر التي تنحو نحو العدمية ويبدو من غير المنطقي “الطبطبة” على جراحهم، فجراحهم عميقة للغاية، عميقة إلى ذلك الحدّ الذي تحتاج فيها مرمماً طبياً من النوع الوجداني – المادي غير المتوفر حتى الآن لهؤلاء الضحايا.
إذا اعتبر أحدٌ ما أنّ الفقد يمكن تجاوزه مع مرور الوقت، معللاً ذلك بالسنن الكونية الناظمة لحياة البشر، فكيف سيمكن تعليل شكل الحياة لأناس كانوا يستظلون تحت سقف وصاروا في المأوى، والسقف في سوريا ليس اصطلاحاً من الترف، بل هو المعنى الحقيقي لـ “جنى العمر”، فهل تؤمن الحكومة لضحايا البلاد دفئاً من النوع الذي يحيطهم من خلال أربعة جدران؟، يبدو ذلك مستحيلاً في المدى المنظور، فلا الإمكانيات متوفرة ولا القدرة المادية والاقتصادية واللوجستية كفيلة بحل تلك الإشكالية التي كتبت على السوريين نزوحاً تلو نزوح في حياة واحدة.
لا تتوقف الأرض عن الاهتزاز
لم تتوقف الحياة عند علا فقط فجر السادس من شباط، كثر مثلها، وفاء حمدان (38 عاماً) من ناجي اللاذقية لا زالت تعيش آثاراً وتبعات لما بعد الزلزال، تقول: “شيء غريب يحصل في بدني حين تصير الساعة الرابعة وقليل فجراً منذ يوم الزلزال، أشعر ببدني كلّه يرتعد، دقات قلبي تتصاعد كثيراً، أشعر بدوار شديد، أشعر بالأرض تهتز من تحتي، أهرع لأوقظ أفراد أسرتي، أصيح بهم جميعهم، فيقفون من نومهم مرتعبين، أخبرهم بوجود زلزال، ولكن يبدو أنّ لا أحد يشعر به غيري”.
يؤكد منصور شقيق وفاء روايتها وبأنّهم في الأيام الأولى التي تلت الزلزال كانوا يستجيبون لصرخات أختهم وينزلون للشارع على الفور، لكنهم تبينوا مع الأيام اللاحقة أنّها حالة نفسية عصيبة، وعليهم أن يتعاملوا معها بهدوء وحذر كما أشار عليهم أحد الأطباء النفسيين الذين استشاروه دون وجود وفاء التي رفضت الذهاب إليه مؤكدةً أنّ أحاسيسها بالهزات الأرضية اليومية هي أحاسيس حقيقية.
يقول منصور: “لا أريد أن أقول هذا، ولكن الزلزال أثر على عقل وفاء، وأثر علينا جميعنا، نحن خائفون، نجونا من الزلزال بأقل الأضرار ولكن شدته وسقوط الأبنية من حولنا وصرخات الجوار كلها عالقة في أذهاننا حتى الآن مذكرةً إياناً بأقسى يوم مرّ على بلادنا”.
متلازمة ما بعد الزلزال
مئات الحالات وربما أكثر بدأت تشتكي من مخاوف وهلوسات وما فسره الأطباء النفسيون بمتلازمة ما بعد الزلزال، فالبعض بات لا شعورياً يشعر بهزات كل لحظة وهي غير موجودة حقيقة، وآخرون باتوا يخافون النوم، وغيرهم توقفت الحياة لديهم عند لحظة بعينها، لحظة وقوع الزلزال، لحظة سماع خبر وفاة أحد من الأهل تحت الأنقاض، لحظة استعصاء إنقاذ أحد، لحظة فقدان أيّاً كان نوعها.
يقول الأكاديمي بعلم النفس أحمد سميح لـ “صالون سوريا” إنّ متلازمة ما بعد الزلزال هي متلازمة مشخصة أساساً من قبل باحثين يابانيين في عام 2011، وتنضوي على اضطراب ما بعد الصدمة مركباً مع القلق والخوف والتوتر.
وبين سميح أنّ المتلازمة تتمثل بدوار واهتزاز وتأرجح يشعر به الشخص لمدة تتراوح ما بين ثوانٍ عدة ودقيقة ونصف في عموم الحالات المسجلة، إضافة لشعور بالحاجة للتقيؤ أحياناً وآلام في المعدة وتشوش في الرؤية، والسيء بالأمر بحسب سميح هو قابلية استمرار الظاهرة حتى ستة أشهر ما بعد التعرض للصدمة الأولى (الزلزال).
ويتابع المختص بعلم النفس أنّ المتلازمة تلك قابلة للعلاج عبر زيارة الطبيب النفسي الذي يكون مؤهلاً لوصف أدوية تخفف من وطأة المشكلة وتنظر في موضوع الاكتئاب والقلق والخوف المرافقين.
ويحذر سميح أنّه في بعض الحالات الشديدة التي لا يجري علاجها ومتابعتها أو لا تزول أعراضها من تلقاء نفسها فمن الممكن أن تتطور المشكلة للدخول في أطوار اكتئابيه ومشاكل نفسية أخرى تتطلب علاجاً أكثر تركيزاً: “الكثير من الحالات التي تصلنا ونتعامل معها، بعضها بسيط، والبعض الآخر لا ينذر بالخير ما لم يتم التعامل الطبي معه بشكل سريع، فثمة أناس يرزحون تحت تأثير الصدمة التي من الممكن أن تغير شكل كل حياتهم القادمة.”
الأمراض العضوية
لا يمكن القول إنّ عدد الضحايا هو نهائي رغم مرور قرابة شهر على الزلزال، فبحسب الرأي الطبي لا زال عدد الوفيات قابلاً للارتفاع ولو كان بنسبة بسيطة، الطبيب مهدي أحمد شرح لـ “صالون سوريا” الموضوع مبيناً أنّ الوفيات الأولى حصلت خلال الزلزال مباشرة، أما الموجة الثانية فكانت من خلال تسجيل وفيات بين المصابين الذين نجوا وأودعوا المستشفيات، أما الاحتمال القائم مستقبلياً فهو تسجيل وفيات بعد أشهر من الآن، والتي قد تكون ناتجة عن التهابات كامنة وفشل في أداء بعض وظائف الجسم.
وبين الطبيب أحمد أنّ الأثر الذي تمكن ملاحظته خلال الفترة القادمة قد يكون ناجماً عن التلوث الذي خلفه الزلزال الذي دمر جزءاً من منظومة الصرف الصحي ما سيشكل بيئة ملائمة لانتشار الأمراض المعدية وعلى رأسها تلك المعوية والتنفسية، وكذلك الكوليرا والملاريا وغيرهم من الأمراض المنقولة عبر القوارض أو الحشرات.
هل ظلّ ما يقال
ما بين أثر نفسي وآخر عضوي، يدفع السوريون ثمناً باهظاً، ولكن هذه المرة ثمن جاءهم من الطبيعة التي ما ظنوا يوماً أنّها ستخذلهم وهم المنتشون بابتعاد الحرب عن مراكز مدنهم وأرواحهم وأرزاقهم، ليأتيهم غضب من الطبيعة يحيل معه القهر لتسميات أخرى، تسميات أبعد وأشمل، كمثل الحلم بميتة طبيعية في بلد ما من شيء طبيعي فيه.
كان المنكوبون عشية الزلزال يفكرون كيف سيتدبرون غدهم بما يكفيهم خبز يومهم، الآن صاروا يفكرون كيف سيتدبرون غدهم وهم مرميون في مراكز الإيواء في أدنى شروط الخصوصية التي عرفوها يوماً، مرميون منتظرون تلك الجمعيات التي تأتيهم بالـ “ساندويش”، ثم يسأل سوريٌّ: “هل ظلّ ما يقال!”