لم يعد يكفينا قلبٌ واحد، صرنا نتمنى كما قال الشاعر العربي القديم قيس بن الملوح أن يكون لنا قلبان نعيشُ بواحد ونفرد الآخر للحزن، ذلك أن الموت صار يأتي بالجملة، وخاصة في أعقاب الزلزال المدمر الذي دمّر المدن والأرياف في تركيا وسوريا وقتل وجرح وشرد أعداداً كبيرة، وعوضاً عن أن نتجاوز حدود النزعة الإنسانية السائدة والبيروقراطية الفاسدة التي تتحكم بها، ونصبح أكثر إنسانية في تضامننا بما أن الخطر جماعي وعابر للحدود، أعدنا إنتاج خطاب ما قبل الكارثة وحولنا خطاب الزلزال إلى امتداد لخطاب الحرب، حيث تتحكم المصالح والاصطافافات ويتم التلاعب بمصائر البشر ويُترك الضحايا تحت الأنقاض. حين يأتي الموت يكون فاجعاً، تتحول الحياة التي كانت إلى شريط ذكريات ثم يهيمن النسيان على المشهد، ذلك أن أعلى قمة في جبل الكينونة كما قال الفيلسوف الألماني هايدغر هي قمة النسيان، لكن الحياة البشرية تستمر أيضاً دون أن تُنسى تجلياتها السابقة، ذلك أنه مقابل قمة النسيان تتوضع قمة التذكر وإن كانت القمتان تتصارعان على حكم سلاسل جبال الحياة والموت. لهذا من الصعب التسليم بفكرة المحو، فالحياة تتمسك بما لديها وتعمّق خطها وتحتفظ في داخلها بزخمها المخترق للأزمنة وهي تتقدم في سياق من العدم الشامل كمشعل يضيء ليل العالم، فنحن نتاج تاريخ طويل ضارب في القدم لا يكف عن التطور.
أمام الموت نفكر بالجسد، بما رسمنا له من مسارات تحولية ماورائية منذ الميثولوجيا مروراً بالأديان التوحيدية وصولاً إلى العلم الذي صنع شعرية الذرات المسافرة والمتنقلة بين العوالم في رواية تنفي الرواية الدينية. ما يبقى هو التراث: انظروا إلى محيط الأسماء الباقية في الكتب والمدونات، إلى الاختراعات والثورات والقفزات النوعية للبشرية وإلى المنجزات الفردية في جميع حقول المعرفة وإلى الإبداعات الشعرية والفنية والروائية والمسرحية، دوماً نعود إليها ونمد أيدينا إلى رفوف المكتبات وندخل إلى المتاحف كي نبحث عما يضيء لحظتنا ويدفئنا من بردها. هناك أشخاص يتوهجون عبر ما تركوه من آثار وتأثيرات، وما ولّدوه من خلال أسلوب حياتهم ولقد كانت حياة رفعت عطفة فضاء وقصيدة ومقطوعة موسيقية وكتاباً مترجماً أو مؤلفاً ومائدة مشتركة وسيمفونية صداقة. في ضوء هذه الاستمرارية لقوة الحياة مَن ماتَ يولدُ من جديد داخلنا بطريقة أو أخرى، ويشكل جزءاً من وجودنا، يتواصل في حياتنا داخل الشعلة التي تتقدم في الظلام. ولعمري إن هذا التراكم الإبداعي المتواصل الذي يغذّي هذه الشعلة بوقوده هو ما يجب أن نعول عليه. وهنا، فيما أعلن تضامني مع كل الضحايا الذين سقطوا تحت أنقاض البنايات التي غدر بها الزلزال وأعبر عن عزائي لكل من فقد عزيزاً، أكتب عن أشخاص عرفتهم عن قرب وكانوا أصدقائي وشعرتُ بفداحة خسارتهم ماتوا قبل الزلزال وبعده. كان رفعت عطفة شعلة مضيئة لمن حوله ولقرائه، وفي مجتمع منقسم طائفياً وسياسياً كان نقطة وصل بين سوريين كثيرين، جسراً للعبور نحو منطقة آمنة يجلسون فيها ويتناقشون، ويدخلون ويخرجون متعانقين. تعرفتُ على ذلك الجو الذي كان يضم فيما يضم كوكبة من أجمل الشخصيات الفكرية والأدبية والموسيقية والناس الشعبيين والعاديين. وكأس العرق، الذي كان على رأس القائمة في الطقوس الأبي زيدونية، والسلطات المبتكرة كسلطة الهندباء والجرجير والقرص عنّة والتبولة والفريفيرة غير المسبوقة في المطبخ السوري، وبعض الأطباق الجديدة والتجريبية، التي كان يتفرد بإعدادها وأنواع الفطر التي كان يجمعها ويقليها مع البصل اليابس وزيت الزيتون والمأكولات الأسبانية التي كان يعدّها بسرعة كبيرة والتي حين تتذوقها تظن أنه أمضى ساعات في إعدادها، والحميمية المتأصلة والعميقة والحب الذي يفيض منه ويتوهج على من حوله، كانت كل هذه الأمور توسّع من غنى الحياة اليومية وفسحتها وتضيف إليها وتسرع في تحويلها إلى جامع بين أفراد كانوا يعيشون ضائعين وخائفين ويائسين ومحبطين في مجتمع يخلو من المنتديات الفكرية والصالونات الحرة وأماكن التجمع العامة. وكانت هذه الفسحة تقدم لهم بديلاً منزلياً يستمتعون فيه بالطعام والشراب والحوار الفكري والسياسي الغني والإصغاء لمختلف الفنون الأدائية. وكان منزل أبي زيدون هو من المنازل الأولى التي يحنّ إليها كل من زارها فما أن تدخل من الباب الحديدي حتى تشم رائحة الحبق والنعناع وترى الورود متفتحة والطراوة على الأوراق الخضراء، وحين تصعد الدرج بين صفوف النباتات وأصص الأزهار الموضوعة على يسار ويمين كل درجة في الدرج المؤدي إلى باب الصالون تشعر كما لو أن الطبيعة أرسلت حشداً من أجمل ورودها ونباتاتها لاستقبالك، وحين تدخل البيت تشعر بأن جوه الداخلي فضاء تستطيع أن تكون فيه نفسك، وفيما تستكشف أكثر تشعر أنك ابن هذا البيت بوروده ولوحاته وتماثيله والكتب على رفوفه ونوافذه المطلة من الخلف على شجرة خرنوب باسقة، ومن الأمام على شجرة رمان وعريشة كرمة تتدلى عناقيدها وتنضج في طريقها إلى زجاجات النبيذ والتي إن كنت محظوظاً ستحظى بكأس منها في ليلة شتائية باردة. داخل هذا الجو كانت الحوارات تنطلق والقصائد تُقرأ والأغاني تنشد والموسيقا تصدح، وقد توهجت هنا وجوه أصدقاء من الأموات والأحياء مثل غالب هلسا ومظفر النواب وحيدر حيدر وممدوح عدوان وعبد الرحمن منيف وأنطونيو غالا وغيرهم كثيرون، واجتمع شعراء أسبان وعازفو عود وكمان وناي وشعراء شباب وكتاب قصة قصيرة وروائيون ومسرحيون ورسامون ونحاتون، وكان رفعت يختتم كل جلسة بعزف مازح على ناي يحمله بين أصابعه، وحين ينعس تتواصل السهرة ويعتذر قائلاً إنه ذاهب ليقطف للموجودين بعض الفواكه أو البصل الأخضر أو الفجل أو قرص العنة، ويكون في طريقه إلى فراشه في الطابق الثاني. لن أتحدث هنا عن رفعت القاص والروائي والشاعر والمترجم وكاتب المقالة فكل هذا الإرث موجود لمن يريد الاطلاع عليه، بل أريد أن أتحدث عن فرادته في العلاقة مع الآخر، وقد ترجم هذه الفرادة من خلال إيمانه بالمواهب الشابة ودعمه لها بكافة السبل. يمكن القول إنه كان مناضلاً من أجل الآخرين، ولم تكن التجربة الثقافية والفكرية بالنسبة له سوى باب مفتوح نحو شيء آخر أفضل. لعب دوراً مثمراً وبناء في ظهور مواهب مهمة ودعمها ليس فقط بمساعدتها على الأداء أو النشر أو تزكيتها بل من خلال الدعم المادي المباشر لكل محتاج، فقد ساعد مادياً وأحياناً على حساب احتياجاته واحتياجات عائلته (رغم أنه لم يكن من الأثرياء) كثيرين ضاقت بهم ظروف الحياة سواء كانوا في سوريا أو أسبانيا كما لو أنه مؤسسة قائمة بذاتها تقدم المنح. ويمكن القول إن ما في جيبه لم يكن له بل كان للآخرين المحتاجين والموهوبين الذين لديهم شيء يقدمونه. وكان غيوراً مندفعاً إلى المساعدة بشهامة قلّ نظيرها ولقد لمستُ هذا بنفسي في مواقف عدة. وكان يعول على الروح المدنية السورية، وعلى التعددية واختلاف الآراء والتوجه العلماني، وعلى الديمقراطية التي لا يمكن أن ينمو أي شيء مهم إلا في تربتها، واحترام الآخر المختلف. وحين أدار المركز الثقافي في مدريد، تحرك رغم الإكراهات والقيود والرقابة وصنع منزلاً عالمياً للثقافة أثار خوف الرسميين الذين ترعبهم الأصوات المختلفة. صارع رفعت عطفة المرض العضال في وقت تعاني فيه سورية من المرض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كأنها ممددة على سرير الحرب والمجاعة والكورونا، ولم يكن ما يشعر به ويقض مضجعه وهو على الفراش ألماً ناجماً عن السرطان فحسب، كان الألم الأكبر الذي عانى منه هو المتولد من حزنه على سوريا، على بلاد تتفكك وتضيع وتتقسم، بحيث أن ألمه الناجم عن المرض كان منسياً في طيات ذلك الألم. ولم يكن يرى وهو طريح الفراش سوى الانهيار حوله في كل مكان. كان العنف هو سيد الموقف، والرصاصة أهم من الكلمة، والقذيفة هي الفيصل، والتدمير هو الخيار والطريق، لكن هذا الخيار وصل إلى طريق مسدود، إلى حاجز التعطل والانهيار، وخاصة بعد أن بدأت الليرة تتهاوى والتضخم يلقي بظلاله المشؤومة على الجميع. وبعد أن كان السوري يواجه العنف وغياب الأمن صار يواجه البرد وانقطاع الكهرباء وغياب الخدمات الشامل، وندرة الطعام والافتقار إلى الحياة الكريمة والمريحة إلى درجة أن أبي قال لي في اتصال هاتفي معه: ”إننا نأخذ دورات للتدرب على الجحيم”. في هذا الجو الكئيب، توفي رفعت عطفة على سرير في مستشفى يعاني مثل غيره من النقص الشديد في كل شيء. كانت جنازته عرساً حقيقياً، فقد أتى المئات من محبيه كي يسيروا في جنازته رغم الظروف الصعبة للتنقل، منهم من أتى مشياً على الأقدام ومنهم من تدبر أمره وحملوه على الأكتاف إلى مدفنه قرب قبر أمه في مقبرة مصياف. كانت هذه خاتمة حياة تفجرت عطاء في كل اتجاه، وكان أثناءها يحاول أن يقول إن سوريا لا يُساوم على استقلالها وحريتها، وكان يعني بذلك سوريا المستقبل، لا المستقبل القريب، كما قال ابن منطقته المرحوم حسان عباس قبل وفاته هو الآخر بالسرطان، بل المستقبل الذي لا ريب أنه آت وسيكون مزهراً.
رفض رفعت عطفة مغادرة سوريا رغم أنه كان قادراً على الخروج، أصر على البقاء مع الناس العاديين والذين هم إيقاع الحياة ونبضها، وطيلة بقائه حياً كان أهم ما يميزه هو قدرته على العطاء، ولقد أعطى حتى النفس الأخير في أشد الظروف قسوة. بعد أيام من وفاته ضرب الزلزال. لا بد أنه شعر بالهزة وعثر على طريقة ما كي يساعد، ذلك أن من رسّخ هذه النبالة في حياته سيلهمها بعد موته.
وها هي سوريا بعد أكثر من عقد من حرب عبثية مدمرة تشهد كارثة أخرى، فقد أتى الزلزال كي يضع توقيعه على لوحة الدمار. في هذا الزلزال المدمر فقدنا الصديق الدكتور فائز عطاف، والذي جمعتني به صداقة مدنية، تواصلت عبر الإنترنت، أقول مدنية لأننا تعاونا في الترتيب لأنشطة مهرجان جبلة الثقافي والذي أقيم بمبادرة من جمعية العاديات المدنية في جبلة بجهود جبارة من الصديق جهاد جديد وزوجته بديعة والقاص والنحات أحمد اسكندر سليمان والمسرحي والمعارض والسجين السياسي السابق بدر زكريا وآخرين كثيرين عملوا لتحويل المسرح الروماني في جبلة إلى أفق آخر للثقافة بعيداً عن القيود الرسمية وعن طريق الانفتاح على الكتاب والفنانين والموسيقيين في العالم العربي والعالم الأوسع. دمرت سنوات الحرب كل شيء لكنها لم تهزم إرادة الحياة وقوة الثقافة التي تحول الكلمة إلى فعل، وهذا ما تجسد في تجربة فائز عطاف الرائدة في العمل الإنساني من خلال وضع خبرته الطبية في خدمة الفقراء والمحتاجين مفتتحاً أفقاً للروح التطوعية لم يسبقه إليه أحد من أبناء جيله. كان مثال النزعة الإنسانية الجريئة المتجاوزة للحدود. كان طبيباً ماهراً وفناناً فوتوغرافياً مبدعاً ومحباً للشعر والرواية والقصة ومواكباً لنتاج الأجيال الجديدة، وتميز باللطف الشديد والحضور الإنساني والشهامة. كان سورياً تزهو بمثله البلدان وتبني على ما فعله الأجيال وقد شكل موته خسارة كبيرة لأصدقائه ولمرضاه ولكل من عالجهم في ظروف الحاجة والفقر. قضى فائز عطاف تحت أنقاض بناية أساساتها مشبوهة هو زوجته وأطباء آخرون، وبموته تحول إلى إرث سوري عظيم، إلى روح أخرى تغذي المشعل الذي يضيء في ظلام حياتنا.
وفي أعقاب الزلزال الذي حصد وما يزال أرواح الأحياء تحت الأنقاض، سقط صديقنا القاص ناظم مهنا عن صهوة اللحظة وتوفي في وقت ما نزال نندب فيه أصدقاء آخرين. كان ناظم من كتاب القصة الموهوبين والمتميزين ويمتلك فرادة فكرية في قصصه ميزته عن غيره من الكتاب الآخرين، فشخصياته دوماً لديها مقاربتها الوجودية الساخرة ونظرتها غير المألوفة والجديدة، فاتحة منافذ لاستكشاف واقع لم تكن معروفة من قبل. جمعتني صداقة طويلة بناظم مهنا وخضنا حوارات وأمسيات كثيرة. كان إنساناً نظيفاً ووطنياً لا يشق له غبار. وكان يؤمن بسوريا علمانية وديمقراطية تعددية. كان ضد الظلم وقتل الآخرين واللعب بمصائر البشر. إن موته خسارة لا تُعوض. مات أصدقاء كثيرون حزنّا لرحيلهم، ولكن علينا أن نتعمق أكثر في ما تركه الراحلون باحثين عن الجميل والمختلف فيه، عما يلهمنا ويمنح وقوداً لحياتنا في وقت تتحالف فيه الطبيعة مع التوحش في الإنسان لتحويل الحياة إلى سلسلة متواصلة من المآسي. وإذا ما واصلنا فعل ذلك، إذا بحثنا عن الجميل في إرثهم وسلطنا عليه الضوء واستلهمناه في مسيرة حياتنا فإننا سنهزم الموت والخراب ونشحن قوة الحياة بطاقة جديدة.
يعيش المرء بصفته سوريّاً في بلاده، من أجل تحقيق غاية واحدة وحيدة، وهي أن يتدرّب على الموت بأنواعه المختلفة، ذبحاً وتفجيراً وجوعاً وبرداً، وأخيراً أن يتدرّب على أن تبتلعه الأرض، ليكتمل المشهد المأسويّ الفريد، ليحكي قصة شعبٍ مزّقته الفتن الطائفية والصراعات العرقية والحروب الداخلية والتواطؤ الدوليّ وانهيار مفهوم الدولة إلى أدنى الدرجات التي عرفها التاريخ، ليتوِّج ذلك كلّه غضب إلهيّ أو طبيعيّ حصد أعداداً هائلةً من الضحايا، شيباً وشُبّاناً-نساءً وأطفالاً، ولا تزال هذه الأعداد تزداد على نحو مطّرد لتزيد مع زيادتها الأهوال والمآسي والفواجع.
إنَّ من يعاين حقيقة الأحداث، ويتأمّل على نحو معمّق في هذه الكارثة، ليس في وسعه أن يستنبط إلا فكرة جوهريّة رئيسة، وهي أنَّ الشعب السوري في حلب أو اللاذقية أو إدلب وغيرها من المحافظات السوريّة قد سرت فيه، فرداً فرداً، مشاعر متجانسة أو واحدة في كيفيتها، وهي أنَّ شعباً وحّده الألم لا يجب أنَّ تفرّقه العقائد والإيديولوجيات وفساد السُّلطات.
لكن ما يثير غضب كلّ سوريٍّ الآن هو وجود عجز كبير-على المستوى الأهليّ-في إمكانية تقديم أي مساعدات للمنكوبين، إذ لا يقدر المواطن السوريّ الآن على أن يسدّ رمقه ورمق أطفاله، فكيف يمكن له أن يقدم يد العون لأبناء جلدته من المصابين والمشرّدين من الذين هُدِمت بيوتهم؟
إنَّ المجتمع الأهليّ شبه عاجز الآن عن المساعدة؛ ولكن رغم ذلك نجد مبادرات يمكن وصفها بأنها فدائيّة بكلّ معنى الكلمة، إذ نجد المئات من المواطنين الشرفاء قد تعاونوا، بعضهم مع بعض، على نحو يدعو إلى الاعتزاز.
نزل بعض أبناء ريف الساحل-بما أنَّ الريف كان أقل تضرّراً-إلى مدينة جبلة المنكوبة ليساعدوا في رفع الركام عن الأبنية، ومنهم من يمتلك آليات مثل الجرّافات (بلدوزرات) أو الشاحنات (عربات نقل ثقيل) وإلى ما هنالك؛ ولكنهم غير قادرين على تزويد هذه الآليات بالوقود، فانبرى أبناء مدينة جبلة ليزودوا آليات هؤلاء القادمين من الريف بالوقود، من أجل أن يباشروا عمليات الإنقاذ في الأحياء المتضررة. لقد كانت مبادرة شعبيّة بكلّ معنى الكلمة ولم يكن قد مضى على وقوع الزلزال ساعة أو أكثر بقليل، كما أنَّ المتطوعين من الريف والمدينة استطاعوا أن يبادروا مباشرةً إلى تكوين فريق تحرك بجدارة على أرض الواقع، وبدأ العمل بإزاحة الركام، وإخراج الجثامين، والناجين من تحت الأبنية، ومن ثمة قامت السلطات المحلية بالتدخل وفقاً لإمكانياتها المحدودة.
ولكن في الحقيقة ورغم هذه الجهود وما تبعها من دخول فرق إنقاذ خارجية من جزائرية ولبنانية وعراقية وغيرها؛ إلا أنَّ الجهود غير كافية في مدينة جبلة، إذ عملية انتشال الجثث من الضحايا، كانت بطيئة جداً، وهذا أمر تقتضيه عملية البحث عن المصابين من الأحياء، فأي استعجال يمكن أن يؤدي إلى وفاة المحاصرين من الأحياء تحت الأنقاض، ولكن البطء في العمل أدى إلى استخراج جثث بدأت بالتحلل وفاحت منها رائحة الموت، وهذا أثّر على نحو سلبي في مشاعر ذويهم وأصدقائهم. فهناك عمليات انتشال لعشرات الجثث، من شباب وشيوخ وأطفال، وأبناء وأمهات، وتجد في هذه المشاهد انتشال أمٍّ تحضن طفلها وقد توفي كلاهما في مشهد مؤثّر إلى أبعد حدّ.
هذا، إلى أنَّ الذين خسروا بيوتهم في جبلة يعيشون حالة قاسية جداً، إذ توزّعوا على أمكنة متعددة، في بيوت أقربائهم وأصدقائهم والمساجد والفنادق والصالات…، ولكنهم يعانون من نقصان كبير في الأدوية والتدفئة والطعام.
ونجد هذه المشاهد القاسية نفسها تتكرر في مدينة اللاذقية، إذ حدث انهيار هائل في الأبنية، ترك وراءه مئات الضحايا، ريفاً ومدينةً، فحجم الدمار الكبير، وتراكم الأنقاض، كوّن في الاحياء السكنيّة كتلاً إسمنتية أشبه بسجون، حُبِسَ الناس داخلها، منهم من توفي ومنهم من بقي حياً؛ ولكن التباطؤ في المبادرة وضعف الإمكانيات وقلّة الخبرة أدى من دون شك إلى تعقيد الأمور.
وعليه، إنَّ ما يثير الحزن سواء أكان ذلك في اللاذقية أم غيرها من المدن السورية المنكوبة هو ظاهرة هذه السجون الإسمنتية التي خلّفها الزلزال، إذ بقي عدد من الناس أحياء تحت الركام، مسجونين في بيوتهم، وقد سُدّت عليهم المنافذ كلّها، ولا يمكن وصول فرق الإنقاذ إليهم بسبب الركام الكبير المحيط بهم، فبقي هؤلاء الناس بين الموت والحياة. والحقيقة أنه توجد بين هؤلاء الناس أنفسهم حالات تحرّك الوجدان الأسيان، إذ تعرّض الكثير من المحاصرين تحت الأنقاض إلى كسور ورضوض وإصابات، ورغم ذلك عانى هؤلاء الناس من البقاء أحياء في أمكنة أشبه بالتوابيت، وهم لا يعرفون مصيرهم، إذ ترى ضمن عائلة واحدة في منزل منهار أحد الناجين ليخبرك أنه بقي مدة يومين أو أكثر محاصراً بين أجساد الموتى من أفراد عائلته، فما أشدّ صعوبة وقسوة وألم هذه المعاناة المريرة!
إنَّ الجهود المبذولة الآن تتركز على إنقاذ الناجين-إن وجِدوا-وانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، وتتضافر جهود عديدة من أجل تحقيق هذه الغاية؛ لكن المشكلة الكبيرة في هذا الاتجاه هي أنَّ انهيار أبنية مكوّنة من طوابق عديدة يقتضي استغراق عدة أيام في إزاحة الكتل الإسمنتية والحديد وإلى ما هنالك، وهذا يقلل من فرص نجاة الذين بقوا أحياءً. وهناك ملاحظة مهمة في هذا المنحى وهي أنَّ بعض المنقذين لاحظوا على أساس استقراء واقع الأبنية المنهارة أنه في كلّ بناء منهار يوجد فيه حيّز معيّن تتجمّع فيه جثامين الموتى أو يمكن أن يوجد فيه أحياء، وهذا يدلّ على أنَّ الناس أثناء وقوع الزلزال وانهيار الأبنية قد اتجهوا حسب سُكناهم في كلّ بناء إلى حيّز وجدوا فيه أماناُ من سقوط الركام، وهذه قضية تستحقّ كل اهتمام من المتخصصين.
ولا شك في أنَّ انهيار الأبنية في جبلة واللاذقية-وهذا ينسحب على المحافظات المتضررة الأخرى-يرجع إلى سببين: الأول، نوع التربة، فيمكن أن تكون التربة ضعيفة غير قادرة على الصمود أمام هبوط أو سقوط الصفائح التكتونية المسببة للزلزال. الثاني، هو عدم إنشاء الأبنية وفقا لمواصفات الأبنيّة المقاومة للزلازل، علماً أنَّ منطقة الساحل السوريّ هي منطقة زلزاليّة.
وتطال المأساة محافظة إدلب، والمعاناة فيها كبيرة جداً، تحديداً مدينة إدلب وفي ريفها الشمالي، وفي مدن مثل جسر الشغور، وسلقين، وعزمارين، إذ يوجد مئات الناس في العراء من دون مأوى، في ظروف مُناخية من برد شديد ونقص كبير جداً في مياه الشرب النقيّة والطعام والأدوية، هذا إلى أنَّ المنازل متصدّعة غير صالحة للسكن، علاوة على أنَّ الهزات الارتداديّة دفعت الناس إلى الفرار من منازلهم إلى الحقول والبساتين والغابات ليجعلوا سُكناهم تحت الأشجار، ليحموا أنفسهم من الثلوج والأمطار، ولذلك يوجد نقص كبير في مراكز الإيواء، ويحتاج الناس هناك على وجه الخصوص في الريف إلى مساعدات فورية أهمها: الخيام والأدوية والألبسة والوقود وإلى ما هنالك.
ونجد في إدلب مبادرات إنسانية رائعة، فهناك مطاعم أغلقها أصحابها وحولوها إلى مراكز إيواء للمنكوبين، وقدّموا لهم كلّ ما يقدرون عليه من مساعدات، فضربوا بذلك مثلاً رائعاً في الشهامة وسمو الأخلاق، ويوجد كثير من هذه النماذج تُعيد لنا الثقة الكبيرة باستعادة الإنسانيّة المفقودة.
لم يترك الزلزال حلب أيضاً؛ بل كانت الخسائر فيها كبيرة، ولجأ كثير من الناس إلى الجوامع والمدارس والحدائق والشوارع، بعد أن خسروا منازلهم، ويعانون معاناة كبيرة بسبب نقصان اللباس والطعام والشراب والأدوية، ولكن لا يعرف المرء ماذا يقول للمسؤولين عن أناس لا يوجد لهم مكان ليعيشوا فيه، وتنتابهم مشاعر اليأس من القيام بأيّ مبادرة حقيقية نحوهم. فكيف يمكن تسويغ تركهم من دون مأوى، ولو لساعة واحدة؟!
ولا شك في أنَّ المساعدات العربية والدوليّة المقدمة ليست في حقيقتها مساعدات جوهريّة، وإنما هي مساعدات مؤقتة تقتصر على الأدوية والطعام واللباس وما يجري هذا المجرى، ولن تسهم هذه المساعدات في حل مشكلة المنكوبين؛ لأنَّ أهم مساعدة لهم هي تأمين منازل لهم عوضاً عن منازلهم المهدّمة؛ ولكن في هذه الظروف يبدو هذا الأمر حلماً بعيد التحقيق، ولذلك يُخشى أن تتفاقم أزمة قاهرة لاحقاً تتعلّق بوجود فئة من المجتمع السوري تعيش من دون سكن!
إنَّ الحقيقة التي لا يمكن نكرانها، وتقود الإنسان إلى يأس كبير محفوف بالقهر هو أنَّ هناك أناساً في المحافظات السورية المنكوبة فقدوا بيوتهم، وأصبحوا بلا سكن، ولا يمكن لهم في هذه الظروف الكارثية البغيضة التي عصفت وتعصف بسوريا، أن يعيدوا بناءها، ولا يوجد أمل بإعادة بنائها في واقع داخلي متمزّق، ومحيط دولي يغرز براثنه في أحشاء بلاد تنهار.
من يتطوعون لإنقاذ الآخرين، ويهرعون إلى نجدة الضحايا والمحتاجين، هؤلاء هم أبطال الحياة الحقيقيون. الضوء الذي يتوهّج من أيديهم يعري رجال السياسة ورجال الدين والكذب الذي صار الروح المحركة لوجودنا.
يندفع الأبطال وسط الأنقاض غير آبهين بالخطر كي ينقذوا حياة الآخرين لأنهم يعرفون قيمة الحياة الإنسانية، ولهذا يحق لهم أن يقودوا المجتمع لأنهم بتطوعهم يعلموننا درساً عظيماً في السياسة ألا وهو أن المهمة الإنسانية الأنبل هي إنقاذ الإنسان من كل ما يستهدف وجوده وإنسانيته، في وقت تعمل فيه كل السياسات العربية على تحويله إلى رقم خاضع ومدجن.
-٢-
حين تنشبُ الحرائق ولا نقدر على إطفائها، حين تضربُ الزلازل ولا نقوى عن رفع أنقاضها، حين تتمدد الحروب ولا نستطيع احتواء نتائجها، حين يُخْترق الفضاء وتُقْضم قطع من الأرض ويُعاد رسم الخريطة ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا، ألا نستطيع التساؤل: لماذا عجزنا على امتداد أكثر من نصف قرن عن بناء مؤسسات تكون جاهزة للعمل في اللحظة التي يتعرض فيها الشعب لخطر وجودي؟
-٣-
أحزاننا تفيض كالينابيع وقلوبنا مقهورة. أعيننا تفتش الأنقاض بحثاً عن أية علامة، وآذاننا تصغي. لقد دُفنت البيوت تحت الركام، البيوت المنكوبة، البيوت المهزوزة والمردومة والتي تبدو كفلول جيش من الإسمنت محطم ومهزوم.
-٤-
تغزونا صور الأنقاض: أنقاض مدن دمرتها الانفجارات ثم جاء زلزال كي يضع ختمه على الفاجعة، لكن النبل الإنساني يتجلى في أوقات الكوارث لدى من يعرف أن الضحايا أينما سقطوا على الخريطة، وكيفما كان شكل قتلهم، هم أعضاء بُترت من جسده، وصورهم تسكن في قلبه وتظل حية فيه.
-٥-
لي أصدقاء في أنطاكيا، وفي كل المدن المنكوبة، منهم من عاش ومنهم من لا أخبار عنه.
قال لي صديق من أنطاكيا على الهاتف: لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده.
-٦-
مات صديق لي في جبلة تحت الركام هو وزوجته، حين رُفعت أنقاض البناء الذي كان بيتهما فيه وجدهما رجال الإنقاذ متعانقين. هذا العناق، هذا الحب وسط الكارثة، زرع روحاً جديدة في حياتنا تهزم الموت، وهذا ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا.
-٧-
العنصريون ينمون كالفطر في العالم، وثمة كثيرون يمارسون العنصرية حتى دون أن يعوا ذلك في طريقة استخدامهم للغة. هناك عرب يعيشون في أمريكا أعرفهم شخصياً يطلقون على السود اسم العبيد دون خجل. وثمة في تركيا من يحتقر الناطقين بالعربية، ووصل الأمر إلى جرائم قتل ضد السوريين، وتجاهلهم تحت الأنقاض.
في أوقات الكوارث لا تخبو نار العنصرية، ويصبح إنقاذ الآخرين من الموت معتمداً على مرتبتهم القومية. إن هذا النوع من العنصرية الذي ينتشر بيننا وبين شعوب كثيرة مجاورة دليل على أن الحجر قد يكون أفضل من الإنسان أحياناً، كما قال أبو العلاء المعري:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذبُ.
-٨-
إلى طفلة عُثر عليها حية تحت الأنقاض:
كان وجهكِ عينين فقط، رأيتُ بهما كيف اتخذ الموت شكل الأنقاض.
كان الموت أيضاً أجسادنا التي تقف بعيداً وتتفرج
غير قادرة على فعل أي شيء.
-٩-
بعد الموت عصّة قبر، قال كثير من السوريين.
بعد الموت يعضّك القبر،
يسحق صدرك، يفتتك، يخلطك بالتراب.
إلى حياة محاصرة،
إلى حياة من الفقر والضيق والنزيف
في خريطة أدمتها الحرب والتهمت قطعاً منها
سكانها على حافة الهلاك
أتى الزلزال ليوقّع لوحة تحمل اسم:
الموت لا يأتي بالتقسيط.
-١٠-
الذين نسُيوا تحت الأنقاض،
جرح لن يندمل في الذاكرة،
سينزف كلما تذكرنا ما حدث.
-١١-
رائحة الموت تفوح بين الأنقاض.
جندريس،
على أطلالك لا تعرف العين أين هي
أو إن كانت عمياء أم مبصرة،
والشاشة التي تعبر فوقك ليست صهوة.
جندريس،
فوقك كان الفراغ يجهش بصوت الريح
والسماء تبكي وتذرف قطرات المطر.
-١٢-
حلب،
عمارات كثيرة مضعضعة.
الشقوق في الجسد الإسمنتي
جراح في الأجساد
طعن في الأرواح.
المدينة مثخنة بجراح وكدمات غيرت ملامح وجهها.
لكن لها جذوراً في القلوب لا تتوقف عن النمو.
حلب،
زائر آخر في مطلع الفجر
يُركع المدينة
ويكسر عظماً آخر في ظهرها.
-١٣-
جبلة\اللاذقية
كان المطر غزيراً،
الظلمةُ تسيل داخلة من النوافذ المحطمة،
والبَشَرة تتجلد.
كان البحر خريطة مطفأة
والجبال تندب أشجارها.
فوق أنقاض بيوت هدمها الزلزال،
كانت الريح تخمد الأصوات
وهي تحملها بعيداً.
-١٤-
إن قدرة الدول سواء الكبرى أو الصغرى على تدمير الحياة أعلى بكثير من قدرتها على الحفاظ عليها وحمايتها.
تمارس الدول الكبرى فحولتها باستعراض عضلاتها العسكرية من خلال صواريخها الفرط صوتية وطياراتها الشبح أو المسيرة ورجالها الآليين وقنابلها وقاذفاتها الاستراتيجية. بضغطة واحدة على الزر تتغير مصائر وتولد مراحل جديدة، وفي هذا السياق تتحول الثقافة المكتوبة والمنطوقة إلى تعليق على السياسات القاتلة التي هي توأم للزلازل.
الطبيعة تقتل من دون عقل، فيما العقلُ البشري يوظّف نفسه في خدمة القتلة. إن نظرة فتاة مأسورة بين الأنقاض تخترقنا وتصل إلى تلك النقطة من تحللنا الإنساني ككائنات للتنوير، زعمت مرة أنهم امتداد لله.
إننا الآن صفر ممتلئ بنفسه حتى التخمة وملغم في كل أطرافه وعلى وشك الانفجار وتفجير الكوكب.
-١٥-
ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون لاعبون في فريق الخداع نفسه، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.
-١٦-
مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.
-١٧-
لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.
-١٨-
ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟
-١٩-
نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.
-٢٠-
سكنتُ في غرف وشقق في دمشق كانت كلها على القائمة السوداء للزلازل. هزة خفيفة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فتخيلوا الأمر إذا حدثت هزة قوية. لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لامرئية في ريح الدمار. نعيش حياتنا دوما على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء.
-٢١-
لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وبالجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهتها وسياسيون يؤمنون بأن هدف السياسة هو خدمة الإنسان، وبأن توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم هي البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية.
لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.
أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”
وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.
جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.
لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.
جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.
بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.
الناس لبعضها
ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.
ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.
ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.
حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.
إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.
وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”
أين المساعدات؟
اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.
وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.
ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”.
وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.
تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.
قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.
وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.
ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.
وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.
وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.
تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.
بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.
ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.
وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.
وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس.
وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.
في الأسباب
قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.
وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.
يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.
أحد عشر عاماً من الحرب، إنها حقبة زمنية، كفيلة بأن تفرض سلوكاً وأخلاقاً وثقافة جديدة على الكائنات التي تعيش على تماس مباشر مع الحرب وما يتمخض عنها، أي الإنسان داخل سورية بشكل خاص. مع التأكيد على أن جيلاً من شباب اليوم قد شبَّ مع الحرب، هؤلاء يطلقون عليهم شعبياً صفة: “أولاد الحرب” لهؤلاء سلوك خاص ونمط حياة يختلف عن المألوف.
بعد كلِّ هذه السنوات من الدمار المادي والنفسي، والهجرة الخارجية والداخلية، تشكلت في المدن الكبرى تجمعات من المهاجرين الذين جعلتهم القرابة واللهجة والزي والثقافة البيئية يكونون شكلاً من أشكال )الغيتو (المغلق أو المندمج نسبياً في أحياء فقيرة في المدن و حول المدن.
في السنوات الأخيرة، أي منذ قرابة الثلاث سنوات تراجع الحديث عن جبهات القتال ونقاط التماس حتى صار قسم كبير من الناس يكاد لا يبالي بها، ولا بما يجري من معارك أحياناً في شمال سوريا أو مناوشات في الجنوب السوري. ربما اعتاد الناس هذا الإيقاع الإخباري الممل الذي لا يحمل أي جديد، إنها المراوحة في المكان التي لم تعد تستحق عندهم حتى أن يلتفتوا إليها، وكأن الحرب قد استقرت على ما هي عليه، وما حدث قد حدث، ومن المفارقات أن النتائج الكارثية التي ترتبت عن الحرب، تمَّ القبول بها على انها أمر اعتدنا عليه، فانقطاع الكهرباء الطويل، قال لي أحد سكان دمشق عنه: لو أنهم ينظمون الانقطاع حتى نعرف أن نتكيف مع هذا الانقطاع. حتى غلاء الأسعار والفساد الإداري يريد قسم كبير من الناس أن تتدخل المؤسسات الحكومية لوضع ضوابط له، أو بالأحرى يريدون أن يشعروا أن الدولة تحسُّ بهم حتى ولو لم تفعل لهم شيئاً نافعاً، حتى بات يُخشى أن يكون كل هذا الخراب، والسلوك الغريزي المنفلت أصبح أمرا مألوفاً يمكن المساكنة معه وقبول مساوئه!
لقد كشفت سنوات الحرب عيوباً كثيرة وأوهاماً كثيرة أيضاً، وتبين أن أنشودة التناغم والانسجام الوطني لم تكن حقيقية، وسرعان ما انكشف رأس جبل الثلج وانفك عقد هذا الانسجام، ليتبين أننا داخل هذا الوطن الصغير مجموعات متنافرة متهادنة؛ طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية وكل شيء يذهب إلى التفتيت! ولكن لحسن الحظ أن قسماً كبيراً من السوريين، مثلهم مثل كل الشعوب، لا يحبون الحروب، ولا يحبون حمل السلاح، ولا يتأثرون كثيراً بالميديا، ولا يحبون أن يهاجروا أو يغامروا قاطعينً البحار في قوارب الموت، هؤلاء كثيرون وهم الباقون الآن في الداخل السوري تحت إدارة الحكومة، يعانون من آثار الحرب التي فتكت بأولادهم ودمرت مساكنهم وممتلكاتهم، ويعانون اليوم من الحصار الدولي الجائر واللاأخلاقي والمحكم جدا والمفروض عليهم! ويعانون من مافيات الفساد المحلية الأخطبوطية التي لا تقل فتكاً وشراسة من أطراف الحرب، ويعتقد قسم كبير من الناس أن هذه المافيات ليست فقط أنانية وجشعة تبحث عن مصالحها، بل هي مجرمة وخائنة. وهذا ما يقوله الناس العاديون في المقاهي أو حتى في أماكن عملهم وفي منازلهم.
لقد فرضت الحرب حالة استقطاب حادة جداً بين السوريين؛ مؤيد ومعارض، سوريين في الداخل وسوريين في الخارج، وسوريون تحت سيطرة الحكومة الرسمية، وسوريين تحت سيطرة المعارضين، تحت رايتين وسلطتين، وكل طرف أو فصيل من المعارضين له حلفاؤه وممولوه الإقليميون والدوليون، كما للحكومة حلفاؤها الإقليميون والدوليون! وهذا )الستاتيكو (القائم منذ سنوات، قد يستمر لسنوات! لكن ما لبث الناس في الداخل والذين يعيشون آثار الحرب والمعاناة مع الفساد ومع الحصار أن انقسموا عمودياً من الناحية الاقتصادية بين من يملكون ومن لا يملكون قوت يومهم، وتشكلت شريحة من أثرياء الحرب البطرين، والذين لا يعانون من أي حصار ولا ينقصهم شيء بل يعيشون في خيلاء، ويستهلكون أحدث وسائل الترفيه التي لا تتوفر حتى لأثرياء العالم الرأسمالي!
وهناك شريحة أخرى من المواطنين الذين يتلقون التحويلات الخارجية التي تصلهم من أولادهم أو أقاربهم، هؤلاء يترفهون وينعمون بنمط من الاستهلاك والوفرة التي تزداد نهماً كنوع من غريزة الحياة في مواجهة غريزة الموت. ولكن القسم الأعظم من السوريين، لا يصلهم تحويلات من الخارج ولا من الداخل، ولا يملكون شيئاً ويعيشون في أقصى حالات البؤس والحرمان والقهر، ويبدو أن الدولة التي يلوذون بها وكانت تشكل لهم أملاً وحماية لم تعد قادرة على القيام بواجبها حيالهم وتبدو وكأنها تتخلى عنهم، وهي بالكاد توفر لبعض العاملين والمتقاعدين الحد الأدنى من المعاش الذي لا يصمد البتة أمام انهيار العملة الوطنية والفساد وغلاء الأسعار اليومي الذي يشمل كل المواد وارتفاع ضرائب الخدمات الضئيلة!
الدولار، أو “مارس” إله الحرب الجديد والمتجدد! هو أكثر ما يحسّ به السوريون اليوم، هذا الوثن الجديد الذي منعت الحكومة الحديث فيه والتداول العلني به، إلا أنه أقوى من كلِّ منع. إنه أكثر حضوراً من أي شيء، يتحدث به الناس اليوم بالجد وبالهزل، من التاجر الكبير إلى أصغر حانوتي في أبعد قرية! لقد دخلت هذه اللفظة في لغة الحرب بقوة، وأصبحت المفردة تحمل دلالات رمزية وواقعية، وتهكماً على المنع الفاشل بالتحدث ولو لفظياً بهذه المفردة، اخترع الناس أسلوبهم المتهكم الذي راح يطلق على الدولار لغة مقنعة وبارعة، كأن يقول أحدهم، وهو يغمز بعينه:”اللي ما بيتسمى” أو “اللي شو كان اسمو” أو “هداك اللي بالك منو” و”الأخضر”…
بين من يملك الدولار ومن لا يملك أي دولار توجد هوة شاسعة ولا تزال تتسع، وكأن لسان حال الفساد يقول إن الذين يستطيعون الشراء والاستهلاك هؤلاء هم المحترمون، والذين لا يستطيعون الشراء دعهم يموتون.
إن الزائر لمدينة دمشق من الخارج سيدهش وهو يرى المطاعم الفخمة تكتظ بالرواد وبالزبائن والسيدات اللواتي يدخن المعسل ويرتدين أجمل الثياب، وسيقول في نفسه مندهشا: هل حقاً هذه البلد عاشت قرابة 12 سنة حرباً؟! وهو الذي كان يعتقد أنه لن يرى سوى الخرائب والدمار. لكن حقيقة الأمر هذه صورة خادعة ومزيفة، وإن ملايين السوريين حياتهم مختلفة وعلى العكس من ذلك، فهم يعانون من الحرمان ويعانون من انعدام الموارد، ومن الأمراض وعدم المقدرة على العلاج أو شراء الدواء، يعانون من الانقطاع الجائر للكهرباء والماء ووسائل العيش والتدفئة والغاز والمواد الضرورية التي قلما تتوفر لهم، بينما لا ينقص أخوتهم من الحي الآخر الذين يعيشون في كنف الإله مارس أي شيء من مستلزمات الحياة.
في ظل هذه الظروف القاسية، تعيش المرأة العاملة أصعب ظروف العيش، تقول واحدة من المعلمات التي فرضت عليها القوانين أن تُعلّم بعيداً عن سكن أهلها إن معاشها الشهري مئة وعشرون ألف ليرة سورية، وهي تستأجر غرفة في الأحياء البائسة بمئتي ألف ليرة!
إن حياة الفقراء أشبه بالجحيم الأرضي، إنهم أكثر ضحايا الحرب والحصار والفساد تعرضا للدمار النفسي والأخلاقي. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة ارتفاع نسبة الجريمة الأسرية وغير الأسرية، وارتفاع عدد المنتحرين بشكل غير مسبوق!
ومع ذلك، وعلى الرغم من قتامة المشهد، وتناقضات الصورة والواقع إلا أن نوعاً من التهكم الذكي والمرح لا يزال موجوداً تعبيراً عن حيوية الناس وشكلاً من أشكال المقاومة للكآبة، ولكن جنباً إلى جنب مع البذاءة اللفظية والكذب والخداع، والبذاءة التي عدّها تروتسكي يوماً بنية فوقية، مصدرها النخب الحاكمة وتنعكس على الطبقات الشعبية التي تتلقفها تنفيساً للكبت والقهر، هذه البذاءة تنتشر على كافة المستويات والشرائح الاجتماعية، وفي كل الأجناس والأعمار وبشكل علني وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الحفلات الخاصة والعامة.
إن الحرب ضربت كل أشكال التحفظ، وضربت البنى التقليدية، وحطمت كثيراً من الأوهام، وكشفت أنبل ما في الناس وأسوأ ما فيهم!
أما بالنسبة للأطفال، فتتحدث التقارير عن التسرب من المدارس وعن عمالة الأطفال والتشرد والتعرض للعنف والاعتداء… هذا عدا عن سوء التغذية التي تصيب الأسر الفقيرة. إن آثار الحرب السلبية تسري في المجتمع كالطاعون، ومن المحال ومن الكذب أن نغفل تأثيرات هذه الحقبة من الزمن التي انصبت على رأس السوريين ودمرت حياتهم وأمنهم، وجعلت حالهم المأساوي يتحدث عنه العالم كنوع من الكوارث التي يتوجب تجنبها وعدم الوقوع فيها.