في عالمٍ باتَ مليئاً بالنجوم، نجوم السوشيال ميديا أو ما يسمّونهم صنّاع المحتوى، الخاضعين لخوارزميات و سياسات مواقعِ التواصل الاجتماعي، و آخرون يصنعُهم رعاةٌ مخلصون يروّضونَ تطور العقل البشري بحيثُ يظلّ القطيعُ بخير، نجوم تُبهر و تغيّر، و أخرى تعمي العيون، قد يكون رحيلُ أحد المُبدعين مناسبةً كي نبدأ بالحديث عن أعماله أو أقواله بموضوعيةٍ أو بعين النقدِ الحقيقية، بحثاً عن نجمٍ حقيقيٍّ احترق كي يضيء.
ميساء محمد فنانة تشكيلية سورية، من مواليد مدينة جبلة 1964، فُجِعَ مُحبّوها بخبرِ مرضِها في مكان إقامتِها في دبي أولاً، ثمّ غيابِها المُبكّر مؤخراً، كان مجتمعُ الفنانين التشكليين يتابعُ تجربتَها باهتمام، فقد قدّمت في مراحلِها الأخيرة سلسلةً من اللوحاتِ المتحفيّة كانت ثمرة تراكم خبرةٍ طويلةٍ في الرسم، و موهبة استثنائية في التعبيرِ عن مكنوناتِ النفسِ الإنسانيةِ عن طريقِ الخطّ و اللون. اللافت في تجربةِ ميساء هو تطوّرها الواضح باتجاه الواقعية التعبيرية، المبنيّة على امتلاكٍ حقيقيّ للرسم كأداةٍ مرنةٍ بينَ يدَيها، تشكّل من خلالِها وجوهاً ذاتَ طابعٍ سحريّ، و مناخاًغرائبيّاً، كأنّها تنقلُنا إلى عالمٍ موازٍ، شخوصُهُ تُشبهُنا، لكنّها تحملُ قدراً من الجمالِ و التصالحِ مع الذاتِ، يجعلُنا نقفُ أمامَها مشدوهين.
من الملفت أنّ ميساء لم تدخل تجربة الرسم بجديّةٍ إلا مع بداية الحرب السورية، ربما هرباً من أشباحِ الموتِ و الدمار التي سكنت البلاد، أو نتيجة شعور خَفيّ بنهايةٍ قد تكونُ وشيكة، ما جعلها تستخرجُ تلكَ الجوهرة التي طالما أهملتها في أعماقِها، و تعمل على صقلِها، “البحث عن الصمت، ملك الأطراف، حجر الدم، مقام الصبا، هناكَ أمل” هي عناوين لمجموعتها التشكيلية أو معارضِها التي أقامتها في كل من دمشق، دبي، زيورخ، و فينيسيا.
إنّها رسامة مشت بكلّ ثقةٍ صوبَ ذاتِها، فحفرت طريقَها حيثُ اتّجهت بوصلةُ قلبِها دونَ أن تتمكن منها مقولاتُ غيرها، ربما هذا سرّ تفرّدِها و أصالتِها، فهي لم تذهب إلى الخارج لتستورد مفردات، أو تعيدَ إنتاجَ تجربةٍ بعَينها، بل حفرت في روحِها و رسمت ما تُحب. و لأنّها أسّست أسلوبَها على ما يهوى قلبَها و يؤرقُ عقلها، كانت الشامُ حاضرةً في أعمالِها، هي التي شغلَها موضوعُ الهوية، حاولت أن تتمسّك بهويتها السورية التي شعرت أن الحربَ ستأتي عليها، فرسمتها، ” في لوحاتي لم أتعمّد العودة إلى الماضي، و لكن طبيعة الهوية هي التي تقودُني إلى ذلك، حاولت قدرَ الإمكان أن أكونَ وفيّةً لفكرةِ الجمال والرومانسيةِ العالية، التي اعتبرتها بمنزلةِ أدواتٍ لمواجهةِ عدو الثقافة و الهوية العربية التي مكّننا الفن التشكيلي من اكتشافِ كاملِ تفاصيلِها”. شخوصُها التي تطلُّ علينا من عالمٍ مُختلف، طفولي أحياناً و أسطوري أحياناً أخرى، ترتدي غالباً أزياء دمشق التراثية، التي يُقالُ إنّها تعودُ إلى تصاميم أزياء الملوك القدامى الذين عاشوا في دمشق أو تدمر،أفاميا، ايبلا، و أوغاريت، يذهبُ الشاعر و الناقد فاروق يوسف إلى ربطِ تجربتها بالفنان السوري نذير نبعة، فيما يخصّ طريقة معالجتِها للوجوه، والأجواء الشامية التراثية الباذخة، فالنساءُ بجمالهنّ الأسطوري، كأنّهنّ حفيداتُ الليليت وعشتار وإينانا والمجدلية و زنوبيا، يغنينَ مشهدها البصري و يمنحنَهُ بصمةً سوريّة خاصة.
و كما تستخدم ميساء الواقعية السحرية كي تأسرَ عين المشاهد، تستخدم كذلك الرمزية، فالحُلي والورود والغربان و السفن الورقيّة والزخارف الشرقيّة، كلّها أدوات تنقل مكنونات الفنانة وأفكارها، أمّا أداة التعبيرالأهم، التي تمنحُ لوحاتَها قوة تعبيريّة استثنائية فهي العيون، فإذا كنّا نريدُ أن نلجَ عالم ميساء محمّد، علينا أن نفهم ما تقولهُ عيونُ شخوصِها، فهي تتّسع كي تحيطَ بالواقع من كلّ الجهات، أحياناً تقفُ أمام العالمِ مذهولةً وأحياناً أخرى خائفة، لكأنّ هولَ المشهدِ جعلَها بكماء، وحدهُ بريقُ عيونِها يُفصحُ عما يدورُ في روحها، قد يكونُ بريق الوعي، أو حزن دفين يأبى أن يتدفّق ما يمنحُها سحرها الخاص، إنّ عيون ميساء محمد هي بحدّ ذاتِها موقف من العالم و وجهة نظر، تُعاتبُ و تُحبّ، تتأمّل، تحزن، وتفرح في نظرةٍ واحدةٍ، كأنّها لم تستطع أن تصرخَ في وجهِ الحربِ فحدّقت بها، وحين رحلت تركت لنا تلكَ النظرة الخالدة، لتجعلنا نتساءل و نتساءل، دون أن نتمكّن من سبرِ غورِ إحساسِها.
إنّها امرأةٌ من فصيلةِ النساء الساحراتِ، اللواتي منحتهُنّ الطبيعةُ مواهبَ استثنائية ليحاربنَ بها طغيانَ المجتمع، السحرُ هنا ليس بمعناهُ الشرير، إنّما هو السحرُ الذي يسخّر القوى الكامنة في الطبيعة من سبيل الخير، و إذا كانت ظاهرة ملاحقة الساحرات و السحرة قديمة قدمَ التاريخ، فإنّ أغلب النساء اللواتي اتُّهمنَ بممارسة السحر في العصور الوسطى في اوروبا، كنّ من المثقّفات والعالمات وصاحبات الفكر المتنوّر، ربما الفيلسوفة و عالمة الرياضيات هيباتيا التي قُتلت على يدِ حشدٍ من المتعصّبين في الاسكندرية عام 413م هي أول ساحرة معروفة تعاقبها السلطة الدينية.
تجلّى سحرُ ميساء فيما تجلّى في اللون، فقد استحضرتهُ في أعمالِها بكامل بريقه، ليساهمَ في تشكيلِ مشهدِها البصري الخاص، و منحِهِ بعداً غامضاً و شاعريةً مُختلفةً، فكان أن أظهرتهُ على العجينةِ اللونية للوجوه، فاقعاً، فاضِحاً شغفَها بالجسدِ الإنساني و مكنوناتِهِ، لقد حذت هنا حذوَ الانطباعيين في الابتعاد أحياناً عن المزج و إظهارِ تدرجات اللون على سطح اللوحة، كما اتكأت على المبالغة اللونية كطريقة في التعبير، اهتمّت ميساء بنضارةِ وصفاءِ ألوانها، كما استخدمت تلكَ المتكاملة والمنسجمة، لتمنحَ لوحاتها ضوءاً مختلفاً وبعداً سريّاً، لكأنّها هنا متأثرة بالفن الكنسي وكبار فنانّي عصر النهضة ، كما لجأت أحياناً إلى المبالغة في رسمِ أطرافِ نسائها، فتطاولت الأصابع و رقّت، ربما كي تحاكي رقّة الفنانة و سمو روحِها.
تنتمي ميساء إلى فئةٍ من التشكيلين السوريين الذين تمسّكوا بالرسم كقاعدةٍ لانطلاقهم في عالم الفن التشكيلي، فبحثوا عن أصالةٍ تشبهُهم دون الانخراطِ في تجربةِ النسجِ على منوالِ المدارس الغربية، فعلى الرغمِ من مقولات الحداثةِ و ما بعدها التي هيمنت على المشهد، صنعت ميساء حداثتَها الخاصة غير مكترثةٍ سوى بمقولاتِ روحِها، فعبّرت بطريقتِها عن فكر ومشاعر رسّامة أنثى، عايشت حقبةً من الحربِ و الهمجيّةِ ربما أودت بها في النهايةِ إلى مرضٍ و موتٍ مبكّر.
في وسطِ إحدى لوحاتِها المعجونةِ بتدرّجاتٍ رماديّةٍ، مساحة حمراء على شكلِ مستطيلٍ انفتحَت أطرافُهُ السفلى كأنّها دماءٌ تسيلُ، على هذه الخلفية جلست أنثى بثوبٍ أبيضٍ و بعينين هَلعتين، بطلة اللوحة تحضنُ إطاراً أحمراً مربوطاً في إحدى زواياهُ بشريطٍ أسود، أما داخل الإطار فتفاجئنا ميساء برسم بورتريه للأنثى الهلعة ذاتها المتربّعة في الوسط ، كأنّ البطلة تقفُ شاهدةً على موتِها، كأنّها تنعي نفسَها، هل تنبّأت ميساء هنا بنهايتها الوشيكة؟ هل كانت تعي ما ينتظرها من مصيرٍ سيحرمُها من ممارسة سحرها الخاص”الرسم”؟ لا نعلمُ حتى الآن مدى صدق نبوءة الشعراء و الرسامين، لكن و إذا كانت ميساءُ نجماً مرّ بسرعةٍ في عالمِنا فيبدو أنّها تركت أثراً سيدوم، يُقالُ إن بعض النجومِ التي لا يزال ضوءها ينيرُ ظلمتَنا هي في الحقيقة ميّتة، أن تكون نجماً حقيقياً يعني أن تتركَ وهجاً يدوم.
استطاعت رجاء عالم في روايتها با هبل والتي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر العربية هذا العام، أن تأخذنا بقوة إلى الفضاء المكاني الذي تحلق فيه وهو مكة المكرمة حيث لم تكن تدافع فقط عن روح المكان التي نالت منها الحداثة فاقتطعت وقلبت بغرض توسيع الحرم لاستيعاب خدمة الوظيفة الدينية بل وأيضاً عن أصوات أناس عاشوا وماتوا هناك في عتمة الواقع وعن ماض اجتماعي كانت فيه المرأة جزءاً من نظام العبودية المقنعة رغم انتمائها لأسرة حرة. وليس لأن الماضي يشغلها بل لأن ظلاله تمتد إلى الحاضر.
ترصد الكاتبة هذا الواقع عبر حياة أسرة السردار منذ عام 1945 وحتى 2009 والتي كانت تقطن بجوار الحرم الشريف في مجتمع ذكوري يجد مجرد التفوه باسم البنت عيبا ً وتنكر العائلة وجود فتاة في المنزل لتعتني بأهلها آخر العمر، ويتحكم الأب بحياة ابنته حتى بعد الزواج وقد يطلّقها دون استشارتها. تقول العمة سكرية: “تظن أن الحنوط سر فرعوني؟ بيوتنا المكاوية شغلتها تحنيط البنات أمثالي ” وحيث حتى الأحلام تقمع ويجب عدم التصريح بها حتى لا تتحقق. أما زيارة الطبيب فغير ممكنة دون موافقة الأب مصطفى السردار المتحكم والذي رفض نقل زوجة ابنه للمشفى بعد تعثر ولادتها قائلاً إن موتها أفضل من ذلك.
تاريخ عائلي بطريركي بامتياز
تبدأ الرواية بمشهد انتحار البطل عباس السردار، فحين يعود إلى البيت وتصدمه وحدته الكبيرة، يقوم بتفقد المنزل مروراً بحائط المقارع الذي جمع عليه مقارع البيوت المكية المزالة بالهدم، ويغادر باتجاه بيت عمته نورية المهجور حيث عاش أجمل أيامه وجمع فيه التحف واللوحات والموسيقا وأشرطة أفلامه التسجيلية لينتحر هناك بالشماخ الذي ربطه بالثريا.
تعيدنا الكاتبة بعد مشهد الانتحار في استرجاع سردي لحياة عباس وتاريخ أسرته في محيط الحرم وعماته اللواتي كان ابناً لكل منهن فهو الابن المدلل في العائلة والمولود بعناء الأم ولخطأ في قص الحبل السري يعاني من فتاق لا يختفي إلا بعد القضاء على حركة جهيمان الذي سيطر على الكعبة لمدة عشرة أيام انتهت بدخول الجيش للحرم الشريف واستخدام الأسلحة والرصاص فيه، في إشارة لا بد من التوقف عندها، وهو توءم لجنين شرد بعد ولادته حسب ما قالته القابلة لتعيش الفكرة في العائلة وفي داخل عباس إذ يشعر بوجود قرين له في داخله يسميه نوري ويحمله المسؤولية عن كل فعل خارج عن السيطرة ويتمتع بجنون الفن والخيال.
تأخذنا الكاتبة إلى تفاصيل حياة العائلة وحياة عماته اللواتي تصفهن بالمحجوبات وعلاقتهن في الدائرة الضيقة؛ المجتمع العائلي المغلق والمجتمع الكبير الذي لا يحتكين به إلا عبر سلطة الأب الساهر على حراسة العادات الموروثة.
شكلت العمات أمهات لعباس ونوري لا فرق فكل منهن تعاملت مع إحدى شخصياته كما تحب ويحب، حتى صار عدة أولاد في جسد واحد وهو الذي كان يقول إن له قرائن كثراً في بقاع العالم، لكن هذا لم يمنحه القدرة على الخروج عن سلطة العرف فحين تختاره شركة جنرال موتورز مصمما لهياكل سياراتها يعد والده ذلك فضيحة (الرسم) ويحبسه في المنزل إلى أن يغير رأيه.
كان قرين عباس (نوري) الذات المقموعة له وينسب له كل فعل صدامي مع المحيط وهو فطرة الفن وجنونه في داخله وتحت هذا الغطاء جمع عباس التماثيل وأسطوانات أم كلثوم وقام بتأليف فهرس لأغانيها إذ كان يحلم ببناء متحف يضم كل منجزات البشرية على شكل حلزوني يصل إلى السماء وفي قمته تتصاعد أصوات المغنيين الخرافيين من تراتيل سومر وحتى آخر المغنيين كأنه يقيم آذاناً كونياً.
ولعل الحوار الذي يدور بين عباس ونوري أقرب إلى المكاشفة الذاتية وما بحثه عن قرائنه إلا رغبة بالانتماء للحلم الذي يريده وبقدر ما يحمل ذلك من عذاب البحث بقدر ما يحمل من غربته عن عالم يعيش فيه. وإذ يكاشف نوري يكشف لنا ما في داخله من عالم المتناقضات المتجاورة والأنواع دون أن ينفي أحدها الآخر الطفل والشيخ، المهبل والقضيب، الماضي والحاضر، والضعف والجرأة.
فيلم تسجيلي طويل
وبتأثير نوري يقوم عباس بتصوير عماته في فيلم تسجيلي تروي فيه كل واحدة قصتها فتقول له سكرية: الحياة نزهة عشها والظل الذي ترتاح له اسكنه وطالما تستطيع الاحتراق افعل”. أما نورية فتناديه بنور عينيها.
وبقيت حورية بجانبه حتى رؤيته لأحداث غير مفهومة وفي لحظة خاطفة يكتشف أنه يحتضر وإذ يخترق معها تلك الستائر الندية التي تفصل عالم الأموات عن الأحياء. يعرف أنه يغادر الحياة ويتذكر أنها ميتة مثله منذ زمن بعيد برصاصة في الرأس في حادثة جهيمان وهو ما عاشه طفلاً دون أن يراه وأن هذا الفيلم التسجيلي الذي صوره ليشارك به في مهرجان البندقية ليس سوى شريط ذكرياته مع عماته والعائلة والذي يستحضره في احتضاره الطويل إنه الشريط الذي يمر في ذهن المحتضر قبل مغادرة العالم.
ليس عباس وحده من يصدمه الاكتشاف بل القارئ أيضاً فالرواية لم تكن سوى هذا الشريط الذي يستعيده في لحظات الاحتضار مثقلاً باحتدام المشاعر والأشخاص وأحلامها في لعبة فنية مشوقة تبرع فيها رجاء عالم إذ تأخذ القارئ بتلك الواقعية السحرية الفاتنة منذ أخبرتنا أن نورية قدحت شرارة الرواية في ذهنها إذ وقعت تحت سطوة التوصيف السريالي لعباس حين أخبرها انه أراد رمي جثة عمته نورية في البحر فلطالما كانت تتمنى أن يكون الموت سفراً في بطن حوت. وكيف ألحت عليها نورية في الحلم لتدفع روايتها للنشر فصوتها ضمن الأصوات المكتومة في الرواية- الحياة.
ومنذ مشهد محاولة الجارية في البداية حرق ابنتها على السطح لأن السردار لم يعترف بأبوته لها إلى وصف عباس الطفل لما حدث في الحرم الشريف في حركة جهيمان وحيث ماتت عمته حورية لكنها ستواصل وجودها بينهم ولا تنتهي تلك الغرائبية في المشهد إذ سنكتشف أن هذا كله ليس إلا استرجاع عباس ذكرياته قبل الموت.
وتستمر الكاتبة بتلك الغرائبية السحرية محلقة في جمالية السرد وحيث يختلط الواقع بالخيال ويسير جنباً إلى جنب معه حتى النهاية ولا تترك للقارئ أن يمتلك مهارة تحديد أين ينتهي الأول ليبدأ الثاني. وحيث يتداخل عالم الأموات مع عالم الأحياء تفصل بينهما الستائر الندية والشفافة والتي لا يخترقها إلا من ينتقل من عالم لآخر في مشهد تخييلي سريالي بديع كما كان عباس يتحرك بين الماضي والحاضر بخفة بفضل وجود القرين المتخيل.
خصوصية المكان والبيئة
حرصت رجاء عالم على الاقتراب من الواقع فاعتمدت اللهجة المكية وطعمت السرد بالأمثال الشعبية المتداولة وأوضحت المفاهيم الروحانية لبعض العادات وهي من الجمال بمكان كعادة رش الكافور على الميت؛ وذلك حرصاً على إطفاء خصوبة الموت، أما المسك فيخلط بالكافور لتخفيف الحزن.
وعرجت على تقاليد العرس والجهاز الذي يخص العروس كالسيسم وغيرها.
كما تأخذنا لوصف المكان كسوق المدعى التراثي والذي عمره أكثر من قرن ويمتد وسط مكة وكيف هدم بالكامل مع البيوت المجاورة لتوسيع الحرم. وما جرّته تغيرات المكان من تغير انعكاسه في الذات الإنسانية فحين صارت بئر زمزم تضخ بالمضخات فقد الماء طاقته الروحية وصار العطش مقيماً لا يمكن ريه.
كما تشير بشكل غير مباشر إلى التغيرات التي رافقت اكتشاف النفط وتدفق الأموال، يقول عباس نحن أولاد آدم البترولي، في إشارة إلى أن التغيرات في المجتمع بعد اكتشاف النفط كانت شبيهة بولادة جديدة لكن من رحم الأموال النفطية، إذ صار الهم هو جمع الأموال ومراكمتها واستهلاك مظاهر الحضارة والرفاهية الغربية التي وصلت من الغرب فجأة فأحدثت صدمة حضارية هزت القيم وصار الإنسان يعيش فصاماً حقيقياً في علاقته بالآخر. وهذا ما حدث مع عباس الذي كان يعيش اغترابه عن الواقع حتى أنه انتحر!
توهج السرد واللغة والوصف في مشهد اكتشاف عباس لموته في حواره مع عمته حورية لتخبره بكل رقتها عن موته الواقع في سردية مؤثرة وبليغة وتنقلت في الرواية بين الاسترجاع والمونولوج والميتا سرد والواقعية السحرية والمونولوج الداخلي الذي ينبش الخوف الإنساني من الحتمية بما يلامس داخل القارئ.
لكن يبقى السؤال لماذا اختار البطل الانتحار في بيت عمته نورية وليس في أي مكان آخر في عهدة القارئ.
نافست رواية رجاء عالم على البوكر بجدارة وهي التي فازت بالجائزة عام 2011 عن روايتها طوق الحمام والتي تدور في ذات الفضاء المكاني.
شق العود السوري طريقه نحو لائحة التراث الثقافي غير المادي الذي أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” عام 2022، وذلك لعذوبة صوته وصناعته اليدوية المتقنة الممتدة لعقود طويلة، ليلتحق بصناعة نفخ الزجاج كعنصر تراثي جديد. إلا أن تحديات صعبة تواجه حالياً صناع العود، بدءاً من تكاليفه وصولاً إلى تراجع حركة السياحة التي انعكست سلباً على ازدهار هذه الصناعة، بعد أن كانت تعتمد بجزء يسير منها على السياح ما قبل اندلاع الحرب السورية. التحديات والعراقيل بمساحة لا تتجاوز المترين تتسع لشخصين فقط، اضطر صانع العود أنطون طويل الانتقال مرغماً إلى محله الضيق بعد أن كان يشغل مساحة كبيرة في سوق التكية السليمانية، الذي احتضن أكثر من 60 حرفياً من حرفيي العود والزجاج المنفوخ والسيف الدمشقي والخط والحلي والأزياء الفلكورية لمدة 52 عاماً بمساحة تصل إلى 11 ألف متر مربع منذ عام 1972. حالة أنطون طويل ناجمة عن صدور قرار إزالة التكية عام 2022 التي كانت محلاتها بصيغة عقود إيجار لتتحول فيما بعد إلى عقود استثمار سياحية. يقول طويل عن تجربته: “ورثتُ صناعة العود عن أبي منذ قرابة ثلاثين عاماً حين كان موجوداً في التكية السليمانية التي كانت مجمعاً لحرفيي المهن اليدوية وملتقى لأقدم الملحنين السوريين.”
تسببت إزالة التكية السليمانية وترحيل الحرفيين منها بعد أن كانوا يشغلونها لأكثر من خمسين عاما، بأضرار معنوية كبيرة، لاسيما كونها تُعد نقطة استقطاب جذابة للسياح العرب والأجانب ولعموم السوريين الذين كانوا يقصدونها من مختلف المحافظات السورية. يضيف أنطون طويل: “أصبت بالإحباط والاكتئاب لمدة أربعة شهور، الانتقال من مكان كان يغص بالحرفيين ويعد معلماً سياحياً ضخماً في البلاد كنت قد اعتدت عليه لسنوات طويلة إلى مكان ضيق ليس بالأمر السهل على الإطلاق، شعرت بالخذلان، كان محلي يضم قرابة 300 عود، بينما هنا بالكاد يتسع لعشرة أعواد”.
بخسارة التكية السليمانية، خسر الحرفيون معها بوصلتهم السياحية الأولى ومصدر رزقهم الحيوي وشريانها النابض، إذ أحدثت عملية الانتقال الإجباري ضرراً مادياَ جسيماً، ليتحول من مكان له مريدون وعشاق لا يهدأ من الزحام ويشهد غلياناً واندفاعاً إلى الشراء، إلى مكان يعاني من أزمة شراء وضعف في منسوب الإنتاج. يشرح صانع العود الوضع أكثر: “تراجعت كثيراً وتيرة الإنتاج، وبالتالي حركة الشراء، هناك حيث الأعواد والمعدات تتسع في المحل، بينما هنا اضطررت إلى إيداعها عند أصدقائي في ورشات عملهم، ويصعب عليّ تشغيلها لغلاء الوقود بسبب استخدام المولدات في ظل انقطاع الكهرباء الدائم.” ويضيف: “كنا معروفين من قبل الأوربيين، حيث كنا نصدر لهم عشرات الأعواد شهرياً، لكن الأمر تغير بعد إزالة التكية، تم القضاء على الذاكرة التراثية”. إلى جانب ذلك، يجد صانع العود أنطون نفسه أمام عائق جديد وهو أجور النقل عبر شركات الشحن الدولية في حال فكر بالتسويق عبر الإنترنت، ما انعكس سلباً على حركة البيع للخليج وأوروبا. ويوضح صعوبة هذا العائق: يكلف شحن ظرف صغير إلى ألمانيا حوالي 150 ألف ليرة سورية، ما بالك بالعود الذي يأخذ وزناً وحجماً، أحاول التركيز على الزبائن الذين يأتون إلى هنا في زيارة خاطفة، المشكلة الحقيقية تكمن في أجور الشحن”. تعد ارتفاع أسعار المواد الأولية الداخلة في صناعة العود السوري سبباً مباشراً في تضاعف ثمنه الذي وصل قرابة 700 ألف حسب مواصفاته، بينما كان يتراوح سعره قبل عام 2011 حوالي 5 آلاف ليرة سورية فقط. هذا الغلاء انعكس سلباً على كمية الإنتاج، ويشرح صانع العود أنطون طويل أكثر مصدر ارتفاع الأسعار: “غلاء مادة الخشب وهي أساسية في صناعة العود بالرغم من كونها محلية، إلى جانب الأوتار التي تعد من الأكسسوارات نستوردها من الصين التي تكون أيضاً مكلفة”. ويُعتقد أن جذور صناعة العود تعود إلى فترة حكم الأكاديين في العراق. وتمر عملية تصنيع العود السوري بمراحل عديدة تصل إلى 41 مرحلة كي يخرج بهذه الصورة الجمالية المتقنة وشكله الشبيه بفاكهة الكمثرى. وعن هذه المراحل، يشرح طويل: “يتكون العود من صندوق خشبي، يِصنع من أنواع مختلفة من الخشب، أهمها شجر الجوز الذي يتميز بعمره الطويل ويمنح الصوت عذوبة خارقة، فسجل عام 1879 أول عود مصنوع من الجوز في سوريا، بعد شراء كميات كبيرة من الحطاب، نقطع الخشب ونقوم بتجسيمه وفق مقاسات متنوعة تصل إلى 15 قطعة لنجمعها سوية وتصبح على هيئة صندوق خشبي مفرغ، كما تم إدخال خشب الأرز على الوجه السطحي للعود، ليتم شد خمسة أوتار في مشط الآلة الذي كان قديماً يصنع من أحشاء الحيوانات وتحولت إلى مزيج من النحاس والنايلون.”
يستغرق أنطون زمناً يتراوح بين العشرة أيام لغاية الشهرين في صنع العود، وذلك حسب التفاصيل المراد الاشتغال عليها من حفر وتنزيل الصدف وتلبيس الموزاييك وإغراقه بالزينة، ويوضح ذلك: “لكل عود خصوصية، حسب طلب الزبون، هناك من يفضل البدء بالعود التركي الذي يختلف عن العربي فهو أصغر بالحجم وأخف وزناً ويسهل حمله، بينما هناك من يفضل العربي ويتفنن بالزخرفة عليه.” إقبال على آلة العود لدى فئة الشباب لاتزال آلة العود الموسيقية التراثية تلقى إقبالاً لدى فئة الشباب السوري رغم تطور الآلات الموسيقية الغربية ورواجها مؤخراً. تقول ألين (19 عاماً) وهي تحاول أن تفاصل والدتها على سعر العود: “انتظرت انتهاء امتحانات الجامعة للبدء بدورة تعليمية على آلة العود التي أطرب لسماع صوتها، اشتريت الآن عوداً جديداً بالرغم من ثمنه الباهظ، سحرت بصوته عندما سمعته للمرة الأولى أثناء حفلة سهر لوالدي وأصدقائه”. لجأ عبد (30 عاماً) إلى أنطون لإصلاح الأوتار وشدها جيداً بعد أن أخذت بالارتخاء قليلاً، وقال لنا: أواظب على آلة العود التراثية منذ خمس سنوات تقريباً. اكتشفت صوت هذه الآلة مصادفة عند تدشين مطعم بدمشق القديمة وكان شقيق صديقي ضمن العازفين خلال الافتتاح.” ويُتابع حديثه: “العود متنفس جميل لي في ظل الضغوط الاجتماعية التي نعيشها، صوت الآلة جميل وعذب ينتشلك من الحاضر إلى بوابة الماضي وكأنك بزمن فريد الأطرش وعبد الحليم.”
إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في إبداع الموشح الحلبي المعاصر ذي الهوية السورية والعربية الأصيلة، وجَعَله يرتقي إلى مرتبة الموشح الأندلسي ويكون امتداداً له، ليُشكل بذلك مدرسة فنية متفردة ومتكاملة في فنون الموشحات ورقص السماح المرافق لغنائها. مدرسةٌ أغنت مكتبة الموسيقى العربية ونشرت إرثها الفني المتنوع في مختلف بلدان الوطن العربي.
ولد البطش في حي الكلاسة/ حلب عام 1885، درس القراءة والكتابة في الكتاتيب، إلى جانب علم الحساب والتجويد، وقد ظهر ميله إلى الفن منذ طفولته، حيث تمكن من حفظ عشرات الموشحات القديمة، وكان يرافق والده وخاله لحضور حلقات الأذكار وسهرات البيوت، التي تُنشد فيها الموشحات والأغاني الصوفية والطربية، ويتردد على الزوايا والتكايا الصوفية ليستمع لعمالقة الطرب وكبار المنشدين، الذين تتلمذ على يدهم، ومن بينهم: الشيخ بكري القصير وأحمد عقيل وصالح الجذبة وأحمد الشعار، وقد تعلم منهم فنون الموشحات وطرق غنائها وعلوم المقامات والإيقاعات والأوزان، بالإضافة لفن رقص السماح.
في عام 1905 التحق البطش في الخدمة العسكرية ضمن الجيش العثماني، ولأنه كان يمتلك موهبة وخبرة موسيقية مميزة ضَمَّه الوالي العثماني إلى الفرقة الموسيقية العسكرية، كعازف ترومبيت وآلات إيقاعية، وقد تعلم خلال ذلك قراءة النوتة الموسيقية ليصبح، في تلك المرحلة، واحداً من الموسيقيين القلائل الذين يجيدون تدوين مؤلفاتهم. وبعد إنهائه للخدمة العسكرية عمل البطش كعازف إيقاع مع الكثير من الفرق الموسيقية والإنشادية في عدد من مسارح حلب وزواياها، ثم بدأ أولى مراحل التلحين ليبرز كواحدٍ من أهم المراجع الموسيقية في حلب، إذ كان يحفظ مئات الموشحات القديمة، ويلمّ بأغلب المقامات والإيقاعات والأوزان الموسيقية الخاصة بالموشحات.
في عام 1910 إنضم البطش لفرقة الشيخ الحلبي الشهير علي الدرويش كمنشد وعازف إيقاع، ثم سافر بصحبته في عام 1912 إلى العراق في رحلة موسيقية استمرت لعامين، أسسا خلالها بعض الفرق الموسيقية واطلعا على الإرث الموسيقي في المنطقة ونشرا جانباً من التراث الحلبي هناك. وبعد عودته إلى حلب تابع عمله الفني كمنشد وعازف إيقاع مع العديد من الفرق الموسيقية وفرق الإنشاد، إلى جانب عمله في التلحين وفي توثيق التراث الموسيقي الغنائي، حيث ساهم في حفظ وإحياء الكثير من كنوز التراث الحلبي.
وبالإضافة لتلحين الموشحات كرس البطش حياته في تدريس فنون الموشحات ورقص السماح، سواء في منزله أو في معاهد حلب ومن ثم دمشق، وقد تتلمذ على يده كبار مطربي ومنشدي حلب، الذين أصبحوا من أعلام الفن وعمالقة الطرب، ومن بينهم: صباح فخري وصبري مدلل ومحمد خيري وزهير منيني وبهجت حسان وحسن بصال وغيرهم. وإلى جانب ذلك، تأثَّر العديد من الملحنين والوشاحين العرب بمدرسة البطش ونهلوا من فنونها الكثير من أساليب وطرق تلحين الموشحات واستخدام أوزانها وإيقاعاتها، وخاصة فنون الموشح الحلبي، ومن بينهم فنان الشعب سيد درويش، الذي يعد من كبار الوشاحين المصريين، كما ساهم البطش أيضاً في تطوير وإغناء عددٍ من موشحات درويش، وذلك من خلال تلحين خانات إضافية لها لتنويع لحنها الأساسي وفق قالب الموشح الحلبي الحديث، فعلى سبيل المثال أضاف البطش لموشح يا شادي الألحان الخانة التي تقول: “هات يا فتان أسمعنا.. نغمة الكردان”، وإلى موشح يا بهجة الروح أضاف خانة: “هات كاس الراح وأسقيني الأقداح”، وإلى موشح العذارى المائسات أضاف خانة: “من ثغورٍ لاعسات ذاق طعم العسل”.
في منتصف الأربعينيات ومع افتتاح معهد الموسيقى الشرقية في دمشق، على يد الزعيم الوطني فخري البارودي، الذي كان وراء النهضة الموسيقية الكبيرة التي شهدتها دمشق في الأربعينيات والخمسينيات، انتقل البطش إلى العاصمة، بدعوة من البارودي، ليدرِّس في المعهد فنون الموشحات والمقامات والأوزان ورقص السماح، كما قام بتأسيس فرقة موسيقية وغنائية وفرقة راقصة خاصة برقص السماح، وقد تتلمذ على يده مجموعة من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من أبرز ملحني الموشحات ومدربي رقص السماح في سورية، ومنهم: صباح فخري، عدنان منيني، سعيد فرحات، بهجت حسان، عبد القادر حجار، وعمر العقاد.
مع افتتاح إذاعة حلب عام 1949، استعان القائمون عليها بالشيخ البطش ليقوم بتدريب الفرقة الغنائية التابعة للإذاعة على غناء الموشحات والأدوار وغيرها، وقد ضمت الفرقة، التي سجلت العديد من أعمال البطش، كبار المنشدين والمطربين الحلبيين، مثل: صبري مدلل ومحمد خيري وصباح فخري وعبد القادر حجار ومصطفى ماهر وحسن بصّال.
انتهج البطش بموهبته المتفردة والمبدعة أسلوباً جديداً ومبتكراً في تلحين الموشحات، وذلك عبر الخروج من وحدة الإيقاع ورتابة اللحن، اللتين كانتا تُثقلا القوالب الموسيقية الغنائية التقليدية، فأغنى قالب الموشح بالكثير من الإضافات والتنويعات الفنية على بنيته اللحنية والشعرية، ليعمل على تطويره وعصرنته كي يتلاءم مع ذائقة العصر الحديث، وليدخل بيوت جميع الناس، وتعشقه أذن المستمع العادي وأذن الموسيقي المحترف على حدٍ سواء. وإلى جانب ذلك ساهم البطش في إحياء الكثير من الموشحات القديمة والتي كانت مهددة بالاندثار، وعمل على تطويرها ومنحها روحاً جديدة بإضافة خانات لحنية عليها، لتغيير مسار ورتابة اللحن الواحد الذي كان يقتصر فقط على الدور.
تميز البطش بكونه مرجعاً هاماً في علم المقامات الموسيقية وفي التعريف بالمقامات النادرة منها، والتي تتطلب مسارات لحنية خاصة لكي تبرز شخصيتها الموسيقية، لذا كان يلجأ لتلحين موشحاتٍ على تلك المقامات لتكون بمثابة وسيلة شرح وإيضاح لها. ومن إحدى الطرائف الشهيرة التي تروى عن البطش عندما التقى بالموسيقار محمد عبد الوهاب الذي زار مدينة حلب في الثلاثينيات، أن عبد الوهاب أراد أن يمتحن البطش بطلبه سماع موشحات على مقام السيكاه الصافي، وهو مقام يناسب الألحان الشعبية، لذا لم يكن مستخدماً في تلحين الموشحات. أخبر البطش عبد الوهاب أنه سيسمعه ما يريد في سهرة اليوم التالي، ولأنه لم يكن يتوفر أي موشح على ذلك المقام، أمضى البطش ليلته في التلحين، فلحن ثلاثة موشحات على مقام السيكاه، وقام في اليوم التالي بتدريب فرقة تخت شرقي وعدد من المغنيين على عزفها وغنائها ليسمعها للموسيقار عبد الوهاب في الموعد المحدد، على أنها موشحات قديمة، وبذلك فتح البطش الباب أمام الملحنين لتلحين موشحات على ذلك المقام.
كبير الوشاحين العرب
لحَّن البطش خلال مسيرته الفنية نحو 135 موشحاً من عيون الموشحات العربية، تضمنت مختلف أنواع المقامات الموسيقية والإيقاعات والأوزان المركبة، وقد سجل أغلبها لصالح إذاعة حلب بعد افتتاحها، وغناها كبار المطربين والمنشدين السوريين والعرب مثل: محمد خيري، صباح فخري، ومصطفى طاهر، صبري مدلل، حسن الحفار وغيرهم، إلى جانب العديد من الفرق الموسقية السورية والعربية. ومازال المطربون والمغنون يتغنون بموشحاته جيلاً بعد جيل، كونها تضفي قيمة فنية كبيرة لمسيرتهم الفنية، إذ كانت ومازلت تشكل مرجعاً موسيقياً للباحثين في علوم المقامات والإيقاعات، وتُدرَّس في كثير من المعاهد الموسيقية كوسائل إيضاح للتعريف بأنواع المقامات والإيقاعات والأوزان المركبة.
ومن أشهر موشحات البطش: موشح يمر عجباً وهو على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع المخمس التركي، في الروض أنا شفت الجميل على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع الثريا، هذي المنازل على مقام الراست وإيقاع المخمس المصري، قم يا نديم على مقام النوا أثر وإيقاع الدارج/ يورك، مُنيتي من رُمتُ قربه على مقام الراست وإيقاع العويص، داعي الهوى على مقام العجم عشيران وإيقاع الشنبر الحلبي، وموشح يا مالكاً مني فؤادي على مقام العجم عشيران وإيقاع السماعي الثقيل والرقصان.
وإلى جانب ذلك لحن البطش عدداً من الموشحات الدينية والصوفية، ومن أبرزها: موشح يا مادحاً خير الأنام على مقام العجم عشيران، موشح لُذ في حمى خير الأنام على مقام النهاوند. موشح هام قلبي على مقام البيات. وموشح يا خير خلق الله على مقام الهزام. والموشحات الأربعة على إيقاع الوحدة الكبيرة.
تطوير رقص السماح
بحسب كثير من المؤرخين والباحثين تعود أصول رقص السماح إلى مدينة منبج في حلب وتحديداً إلى الشيخ عقيل المنبجي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، وهو من أبرز شيوخ الطريقة الصوفية. ويُعرف رقص السماح بشكله التقليدي بأنه فن يقوم على تجاوب حركة القدمين مع إيقاع الموشح، وتمايل حركة الأيدي والجسد مع اللحن والكلمات، ويمكن أن يرافقه العزف على الدفوف. وقد بقي هذا الفن محصوراً بمدينة حلب حتى نقله الشيخ عمر البطش منها إلى دمشق، لينتقل بعد ذلك إلى عدد من الدول المجاورة. ويعود الفضل للشيخ البطش في تطوير رقص السماح وتقديمه بالصورة المعاصرة التي استمرت حتى يومنا هذا، حيث قام بتطبيق حركات الأيدي والأرجل على إيقاعات الموشحات، وجعل كل إيقاع من الموشح يختص بحركات للأيدي أو للأرجل أو لكليهما معا، ليتكامل التعبير الفني بين السمع والبصر، وليتجلى التجسيد الحركي للإيقاع ونبضاته بأبهى صوره، ولتبرز العلاقة المتناغمة والعميقة بين أداء المغني وحركة جسد الراقص الذي يمثل الحس الحركي للإيقاع في كافة تنويعاته. وبغرض إغناء وتلوين رقص السماح وإبراز جمالياته بأفضل شكل تعبيري ممكن قام البطش بتطوير آلية تلحين الموشحات، التي تُغنى مع الرقص، بإدخاله التنويعات الإيقاعية واللحنية المقامية على الموشح ومنح المغني مساحاتٍ للارتجال والتفريد بصوته. ومثالنا على ذلك موشح قلت لما غاب عني ، الذي يتضمن ثلاثة إيقاعات. يبدأ بإيقاع النواخت، وهو سُباعي بطيء، ثم ينتقل إلى إيقاع السربند، وهو إيقاع ثلاثي معتدل السرعة، ومن ثم ينتقل إلى إيقاع الدور الهندي، وهو سُباعي سريع، ليعود بعد ذلك إلى الإيقاع الأول.
أدخل عمر البطش الكثير من التغييرات والتنويعات على رقص السماح، الذي كان في الأصل رقصاً صوفياً، بغرض إخراجه من قالب “السماح الديني”، الذي كان يؤدى في الزوايا والتكايا الصوفية، إلى “ السماح المسرحي” الذي يؤدى على المسارح من قبل الفرق الفنية. ويعود له الفضل في إشراك النساء في رقص السماح، الذي كان في الأصل حكراً على الرجال، وفي جعله أكثر تعبيرية ومواكبة للعصر، وذلك من خلال تحديث الفضاء العام للعرض الراقص وتحديث أزياء وألبسة الراقصين، بإدخال بعض التطاريز والزخارف عليها لكي تعطي طابعاً أندلسياً.
في نهاية الأربعنييات وبرغبة من الزعيم الوطني فخري البارودي قام الشيخ عمر البطش، الذي كان يُدرِّس فنون الموشحات وعلوم المقامات ورقص السماح في المعهد، بإدخال رقص السماح إلى مناهج التدريس بعد أن طوَّره بشكل منهجي، كما قام أيضاً بتعليمه لطالبات مدرسة دوحة الأدب للبنات، وقد قدمت طالبات المدرسة عرض رقص السماح لأول مرة على مسرح مدرج جامعة دمشق، في الحفل السنوي للمدرسة، لتصبح عروض رقص السماح بعد ذلك جزءاً أساسياً من عروض حفلها السنوي على مدى سنوات.
وقد استمر تقديم عروض رقص السماح، من قبل العديد من الفرق السورية والعربية الراقصة، حتى يومنا هذا، وذلك استناداً إلى الأسلوب المُطور الذي ابتدعه البطش، ومن بينها فرقة أمية للفنون الشعبية، التي قدمت عشرات العروض ضمن أداء استعراضي مشترك بين الراقصين والراقصات، وتحت إشراف أبرز تلامذة البطش: الأستاذان عمر العقاد وبهجت حسان.
في أواخر حياته مرض البطش وضعف بصره حتى كاد أن يفقده، ثم تدهورت حالته الصحية وأصيب بالشلل قبل أن يفارق الحياة في نهاية العام 1950 عن عمر ناهز الخامسة والستين عاماً، أمضاه حارساً للتراث ومخلصاً لرسالة الفن والإبداع، ليُخلد كواحدٍ من عظماء الفن في القرن العشرين، ويُمنح العديد من الألقاب، ومن أبرزها: كبير الوشاحين العرب، عميد الوشاحين، شيخ الكار، عبقري الموشح، سيد درويش سوريا، مؤسس الموشح الحديث، ورائد الموشح في سوريا والعالم العربي.
دعونا من البديهية القانونية والإنسانية والأخلاقية في حق الشعوب في مكافحة المحتلين، وبالتالي دعونا من المبررات القانونية والسياسية والعسكرية والأخلاقية لطوفان الأقصى. ولنسلِّم جدلاً بالرواية الصهيوأمريكية بأن طوفان الأقصى كان البداية وأن الفلسطينيين هم الذين باشروا في الإثم والعدوان. وإن من حق الدولة السامية البريئة والمسالمة، أن تدافع عن نفسها، وأن تعاقب المعتدين، وتسترد الأسرى الإسرائيليين، ولأن الفلسطينيين هم المعتدون – حسب هذه الرواية – فإن البادئ أظلم، والصاع يجب ان يرد لهم صاعين. لكن ما حدث يفوق أي منطق حسابي، لأن الصاع يُرد هنا ألف صاع، بلا وازع من قانون أو ضمير.
وطالما أن الأمر متعلق بالعم سام، ورأس ماله الذي يُغرِق الغرب ويتحكم بقراراته، فلا راد لأمره، ولا اعتراض على حكمه، ولا على جرائمه، لذا رأينا مواقف معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، على قلب رجل واحد في دعمها المُخجل للمحتل.
أعلنت إسرائيل منذ البدء أهداف الحرب، وهي القضاء نهائياً على حماس وعلى كل من شارك بالقتال ضدها، وحينما أعطى الغرب لها الحرية التامة والحق التام في الدفاع عن النفس، عبَّرت الدوائر الإسرائيلية بأن أهداف الحرب مسح غزة عن الخريطة، وقتل الغزيين عن بكرة أبيهم، أو ترحيلهم إلى سيناء، أو رميهم في البحر. كل هذا عمل أخلاقي غايته النبيلة هي الدفاع عن النفس، ليس ضد بشر عاديين، بل ضد وحوش بشرية، مأساة الهنود الحمر بالقارة الأمريكية تتكرر هنا في غزة، ليس فقط على مرأى العالم الحر والديمقراطي والإنساني، بل بدعم مباشر من هذا العالم عبر إرسال آلاف الأطنان من أحدث الأسلحة الفتَّاكة، وفي دعم لوجستي ومخابراتي وعملياتي من قِبَل أعظم دول العالم.
والمضحك المبكي أن أمريكا التي تتسيَّد العالم الحر والديمقراطي، لم يكن أمامها لكي تستمر بمسرحية الديمقراطية والإنسانية، إلا أن تعتمد تكتيكاً مفاده: تقديم كل أنواع الأسلحة والدعم العسكري لإسرائيل، مقابل تقديم كيس من الطحين أو خيمة ورغيف خبز للفلسطينيين، يا لها من نزاهة وحيادية، السلاح مقابل الخبز، إنه المكيال الواحد للولايات المتحدة الأمريكية، المكيال الواحد الذي تحدث عنه وزير خارجيتها، هكذا من دون أن يشعر بأي حرج أو خجل، ولا أقول عذاب ضمير، ففاقد الشيء لا يعطيه. أمريكا لا تكيل بمكيالين، هذه حقيقة، لكن هذا المكيال يكيل بالقمح للصهاينة، وبالعلقم للفلسطينيين.
والمضحك المبكي أيضاً، أنه يتم التسويق لجيش الاحتلال المغوار بأنه جيش أخلاقي، وأن حربه في غزة هي حرب نبيلة ومقدسة، فمن جهة مقدسة فهي كذلك لأن دولة الاحتلال برمتها، قامت وتقوم على مغالطات تلمودية، وتحريفات وتأويلات توراتية، قائمة ابتداءً على أساس ديني عنصري. ولا تتجلى حربهم النبيلة إلا في مسح غزة عن وجه الأرض، وفي عدد شهداء تجاوزوا ثمانية وثلاثين ألفاً، وجرحى زادوا عن ثمانين ألفاً، إضافة إلى تدمير المستشفات، كما لم يحدث في التاريخ، وأخيراً قصف و حرق الخيام وقتل وجرج العشرات النازحين. الأمر الذي يدل دلالة رفيعة المستوى على درجة النبل والشرف المفقودين أساساً، وإنما البيِّنة على من ادعى بدون خجل أو وجل.
والملفت أن شيئاً من الأهداف المعلنة من الحرب، من قِبل حكومة الاحتلال لم يتحقق، فلم يستطع جيش الاحتلال أن يحرر أسيراً واحداً بالقوة، وما تم تحريره بالمفاوضات كان يمكن تحريره حتى بدون حرب، وقد أعلن الفلسطينيون استعدادهم لذلك قبل بدء الحرب، لكن حتى لو أطلق الفلسطينيون الأسرى قبل الحرب، كانت إسرائيل ستشن حربها، لأن طوفان الأقصى أفقد دولة الاحتلال هيبتها، فكان لا بد من استعادة هذه الهيبة، وهذا يستلزم – حسب الاعتبارات الاسرائيلية – نصراً يقضي على حماس وربما على كل الغزيين أو الفلسطينيين، وأهمية تحرير الأسرى كانت تأتي لاحقاً، وربما أخيراً، وإن كان يتم الإعلان خلافاً لذلك. وما يؤكد ذلك هو عدم جدية إسرائيل في المفاوضات من أجل تحرير الأسرى. ولعمري أن حكومة نتنياهو ونتنياهو شخصياً يتمنى لو مات جميع الأسرى لكي يخسر الفلسطينيون ورقة ضغط في المفاوضات.
الدعم اللامحدود الذي تلقاه الصهاينة من الغرب، دفعهم للغطرسة والتمسك بخيار عدم إيقاف الحرب، لكن هذه الغطرسة لم تكن بلا ثمن، وثمن ذلك هو فقدان وخسارة أعداد تفوق عدد الأسرى المراد تحريرهم، وفشلهم في تحقيق أي هدف، فلم يحقق الاحتلال في غزة هدفاً إلا قتل الشعب الأعزل، وكل انتصاراته إنما هي أوهام يسطرها الإعلام المضلل. منذ الأيام الأولى للحرب أعلن الاحتلال تحرير شمال غزة ثم وسطها، ومع ذلك كل يوم نسمع عن عمليات بطولية لأبطال غزة في الشمال والوسط، ثم وبعد عجز نتنياهو عن تحقيق أي نصر حقيقي، أراد أن يصنع نصراً وهمياً، فراح يعلن أن حربه ستتكلل بالنصر المطلق في رفح، في غباء منطقي وعسكري، حيث أراد إيهام العالم بأنه انتصر بغزة ولم يتبقَ إلا رفح، في حين أن جيشه المغوار لم يتمكن من حسم المعركة في شبر واحد من قطاع غزة.
أما بخصوص المواقف الدولية، فقد تغيَّرت نسبياً من الحرب، وصورة إسرائيل حمامة السلام التي تدافع عن نفسها، لم تعد تنطلي على أكثر دول العالم، باستثناء الموقف الأمريكي المتماهي أساساً مع دولة الاحتلال، ومسرحية الخلافات الأمريكية الإسرائيلية لم تعد تنطلي على أحد. الموقف الأمريكي لم تغيّره عشرات الآلاف من القتلى والجرحى الفلسطينيين، ولم تغيره قرارات الجنائية الدولية، التي ورغم أهميتها فقد ساوت بين الضحية والجلاد، كما لم يتغيَّر تحت وطأة المواقف العربية الضاغطة، لأنها بالأساس مواقف هزيلة لم ترتقِ لمستوى الفاجعة الحقيقية، لا شعبياً ولا رسمياً. وما يؤكد ذلك هو مواقف بعض الدول غير العربية، ابتداءً بالمبادرة الرائعة من جنوب أفريقيا في الجنائية الدولية، مروراً بالمظاهرات الطلابية، وصولاً إلى اعتراف بعض الدول الأوربية بالدولة الفلسطينية.
لكن ثمة سؤالاً يكشف عن سخرية الواقع العربي شعبياً وسياسياً، فعلى المستوى السياسي لماذا لم تتقدم الدول العربية، أو دولة واحدة منها، إلى الجنائية الدولية بدلاً من جنوب أفريقيا أو معها ؟ هل جنوب أفريقياً أقرب إلى الفلسطينيين من العرب ؟ أم أن استقلال القرار السياسي لساسة جنوب أفريقيا، قد كشف العجز والتبعية لدى أنظمتنا العربية. لماذا لم تجرؤ دولة عربية واحدة، على الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، كما فعلت إسبانيا والنروج وأيرلندا ؟ واكتفى البعض من العرب بالشكر والتقدير والإعجاب بما فعلته تلك الدول الأوربية. كإشارة إلى الموافقة الضمنية من قِبل الأنظمة العربية، على قيام الدولة الفلسطينية. الحق ينبغي أن نشكر الدول العربية على هذه النية الطيبة، وعلى هذه الشجاعة في الدعم الضمني للقضية الفلسطينية !!، حيث لم ولن نتوقع منهم أكثر من ذلك. ونرجو أن يكونوا قد تعلموا الدرس من أبطال غزة الذين أذلوا كبرياء الكيان الذي لا يقهر.
أما على الصعيد الشعبي، فإن الجماهير العربية، تحديداً الطلابية منها، خذلت هي أيضاً الفلسطينيين، فلماذا تشهد جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مظاهرات مستمرة واعتصامات داعمة للفلسطينيين، في حين يكتفي طلابنا وجماهيرنا بدعم الفلسطينيين على الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وبتجمعات خجولة يوم الجمعة نتيجة احتشادهم التلقائي للصلاة.
وعلى كل حال فإن ما تلقاه الفلسطينيون وما سيتلقونه من دعم لم يكن ليحدث لولا البطولة الأسطورية للشعب الفلسطيني، فبعد ثمانية أشهر، ما يزال أبطال غزة يسطرون ملاحم بطولة أسطورية، كل شيء هالك إلا شجاعة وبطولة قوم كنا منذ عهد قريب، نظن أنهم خاملون يائسون، لكنهم كانوا كنار تحت رماد، ما لبثت أن شبت فألهبت وأبهرت عقولنا وقلوبنا، وأشعلت حدائق الغازين وجناتهم الموعودة كذباً وزوراً، وقد أقامها هؤلاء العابرون، القادمون إلينا من شتات المعمورة، راسمين صورة للقدر الجائر.
المشهد الفلسطيني رغم كل سوداويته، وكل الخسائر والنكبات، يمكن أن نقرأه إيجابياً على أكثر من صعيد، فطوفان الأقصى يمثِّل أقسى انتكاسة عسكرية تتعرض لها دولة الاحتلال باعترافات قادتها ومسؤوليها، ما فعله أبطال غزة في أيام، لم تفعله جيوش كاملة على مدار عقود، كل يوم وحصاد طوفان الأقصى يزيد، ونحن على موعد مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولعمري لو لم يحصد الفلسطينيون غير قيام دولتهم، تحت أي شرط أو رهان، لكفاهم ذلك عوضاً عن التغريبة الفلسطينية.
يكتبُ الروائيّ السوريّ مازن عرفة (1955) نصّه بحرارةٍ تُشعلها الذاكرةُ ويطاردها الخوفُ وتُشتّتها السورياليّة المُطلقة. هذا ما نتلمّسه في أعمالٍ سابقةٍ له مثل “الغرانيق” و “سريرٌ على الجبهة” وصولاً إلى أعماله الجديدة “الغابةُ السّوداءُ” و “داريّا الحكاية”؛ يُمعن “عرفة” في تقديم مشاهداته السوريّة من بوّابة تجربته الذاتيّة ومحاكاته لواقع عايشه بالتفاصيل، ومرَّ عبرهُ بقسوة، ربّما احترق فيه ولم يُعد حتى الآن، لذلك لازال إنتاجه الأدبيّ عن سوريا دون تردد.
ثمّة فروق نقديّة توقّفنا عندها مع جديده اليوم، مثلاً حجم النصّ في كلّ رواية وأسلوبها ومعمارها الفنيّ. هناك تجريبٌ سرديٌّ لا ينتهي، ربّما مُشتّت، وآخرُ سبق وأن اختبرهُ قبل أعوام في أعمال سابقة. يتميّز صوته الروائيّ بزخمٍ مضطربٍ من الصور واختلاط الواقع بالحلم حتى حدود غير معقولة من الخيال والألم.
صدر للكاتب مؤخراً رواية “الغابة السوداء” (منشورات رامينا – لندن 2023)، ورواية “داريا الحكاية” (منشورات ميسلون – باريس 2023) واللتان كانتا “رواية واحدة، وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”، حسب ما قال “عرفة”، وللمزيد حول ذلك أجرينا معه الحوار التالي:
عمر الشيخ :هناك تداخلٌ ما بين وقائع شخصيتك الحقيقية، والشخصية التي تعيش صراعات “الغابة السوداء”، مثلا تذكر دراستك في بولونيا وبعض التفاصيل التي يمكن الوصول إليها ببحث بسيط عن سيرة حياتك الحقيقية، كأنك تحاول اقتراح حياة تبحث عنها أو عشت شيئاً منها، ألا ترى ذلك ضُعفاً في التجربة يستنزف قصص “الأنا” حتى الرمق الأخير؟
مازن عرفة: أستخدم في جميع رواياتي “الأنا ـ الراوي”، وهي مفضّلة لي بدلاً من “الراوي. العالم”، لأنّها أكثر قدرة على التعبير عن المشاعر والعواطف والتجارب الشخصيّة، وهي ترتبط عميقاً برؤيتي للحياة، وطريقة التعبير عنها. الحياة هي بالنسبة لي رواية (أو بالأحرى مزيج من الرواية/ الفيلم)، وأنا أعيشها كما لو أنّني في قلب شكل من “المُحاكاة الإلكترونيّة”، يُختزل فيها دور “الإرادة” إلى أشكال من “الاستيهامات” و”أحلام اليقظة”ـ سواء على المستوى الفرديّ أو الجمعيّ.، مقابل نوع من “الحتميّة الخفيّة” المتحكمة بنا (“العولمة”، خاصة بشكلها “الاستهلاكيّ الاقتصاديّ. الثقافيّ”، و”شبكات التواصل الاجتماعيّة الإلكترونيّة”، و”احتكارات الأسلحة والمخدّرات والجنس” العابرة للحدود بكافة أشكالها، وليس آخرها “الماورائيّات الدينيّة”).
أحاول دائماً عبر هذه “الأناـ الراوي” تسجيل تفاصيل الحياة اليوميّة، لكنّي أتركُ الفانتازيا تلعب بالوقائع، باستخدام مزيج من “الواقعيّة السحريّة”، و”السورياليّة”، و”الكوميديا السوداء”، الأقدر على التعبير عن “استيهاماتنا”، و”أحلام يقظتنا”. لذلك، يُسيطر الشكل “الأوتوبيوغرافي. الفانتازيّ” على ما أكتبه، وهو ما يتوسع دائماً بآفاق تجربتي الإنسانيّة، في تنوعات الزمان. المكان.
إضافة إلى ذلك، لا أجد في “الأناـ الرواي” أيَّ ضعف أو استنزاف لديّ، فهي تمثيل لـ”الأنا الجمعيّة” بغناها، التي تتمزّق وتتبعثر باستمرار في مجتمعاتنا العربيّة إلى عشرات الشخصيات. تعود هذه “الانفصاميّة التعدديّة”ـ مثلاً في المجتمعات السوريّة، والعربيّة الشبيهةـ إلى أن الفرد هو نتاج مجموعة من البُنى المتشابكة؛ سياسيّةـ اجتماعيّةـ تاريخيّة. وتتمثل بـ”الاستبداد الشرقيّ البطريركيّ”، “والعسكرة الأمنيةـ الستالينيّة، و”الذهنية الدينية الدمويّة المتوحشةـ الجّهاد”. هذه البُنى تجعل من الفرد الواحد ممزقاً بالكامل إلى عدّة شخصيات، تحدّد هويتهُ المُتقلبة بينها؛ الظروف المتغيّرة، فيلعب في الوقت نفسه أدوار الازدواجيّة لثنائية “الديكتاتورـ البطل الثوريّ”، أو “الجلادـ الضحية”، أو “الطائفيّ. العلمانيّ”، على سبيل المثال، مع القدرة على تلّبس أيّة شخصية منها، واقعياً، حسب الظروف التي يعيش بها.
عمر الشيخ :إلى أيّةِ درجةٍ تعتقدُ أنّ النجاة-الآن، ومأساة-الماضي، هي فرص حياتيّة تُتيح مساحة آمنة للحكاية التي تريد تتويجها كتاريخ ربّما أو كـ توثيق فنيّ للألم السوريّ على طريقتك الأدبيّة؟
مازن عرفة: تنتظم جميع رواياتي في إطار “الحكاية السوريّة”، بمعناها الواسع، أينما يعيش السوريّ، بما فيه عالم المنافي. في العادة، تبدو العودة إلى الماضي نوعاً من “النوستالجيا المرضيّة” ـ بالنسبة لي، ما بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث عشتُ طفولتي وشبابي، قبل انتشار الشكلين المتوحشين لـ”العسكرة” و”المدّ الدينيّ، الوهابيّ خاصة”ـ، إذ ينبغي للمرء أن ينظر للمستقبل بآمالٍ متجددةٍ. لكن عندما أنظر للمذبحة السوريّة الحالية، بآلام الحاضر وسوداويّة المستقبل المجهول أمامنا، أضطر للعودة إلى ماضي حياتنا ببساطتها، سواء الريفيّة أو المدينيّة. لا يكتفي كلٌّ من “البوط العسكريّ” والسيف الإسلاميّ” بتشويه سرديّة حكاياتنا؛ بل ويسعيان إلى خلق ترهات جديدة تلغي بساطتها وجمالياتها الإنسانيّة. لذلك، فالتوثيق الروائيّ لـ”الحكاية السوريّة”، على طريقتي بالفانتازيا، تجعلها عابرة لـ”الزمان ـ المكان”، كنوعٍ من مقاومة “الذاكرة الجمعيّة” ضدّ العبثيّة المتوحشة التي نعيشها!
عمر الشيخ :ما بين فصلي “الصور” و”المتاهة” حتّى النهاية؛ يُلاحظ في روايتك “الغابة السوداء” أن هناك انفلاتاً مفاجئاً من تجميع خطوط الحكاية عبر الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية التي تحكي بضمير المتكلم (أنا)، وتقذف بالقارئ إلى هلوسات لا تنتهي بين الماضي السوريّ والحاضر الألمانيّ، ألا تخشى على شكل معمار روايتك من التشتّت؟
مازن عرفة: بالعكس، التشتّت ليس في بنية الرواية، وإنّما في حياة “المهجر السوريّ”، وهذا ما أحاول أن أعكسه بكتاباتي. لا تنس أن هناك ما لا يقلُّ عن ثلاثة عشر مليون مهجر خارج سورية، وعدداَ آخر كبيراَ داخلها. وبالأصل كلّ منّا يعيش “المنفى” في داخله، سواء كان فيها أو خارجها. لكنّ الأزمات النفسيّة تتراكب لدى كلّ منا كمُهجرين، خاصة إلى أوروبا، تلاحقنا “كوابيس المذبحة السورية” ليلاً، لنستيقظ على كابوس نهاريّ آخر، مرتبط بضياع ذواتنا في مجتمعات نفتقد فيها الحميميّة الشرقيّة. نحن نعيش الحنين إلى “الحكاية السوريّة”، لكنّه تمّ تدمير أُسسها الماديّة! وإذا عدنا، لن نجد بيوتنا ومراتع ذكريات طفولتنا وشبابنا. وفي الوقت نفسه نحن نعيش في أوروبا دون “حكاية”، في حين أن أطفالنا سيبنون حكاية شخصية لهم؛ ألمانيّة، فرنسيّة، سويديّة…إلخ، أي حكاية سيقتلعون فيها بالكامل من جذورنا.
“ظلمة الغابة السوداء” تعيش في ذواتنا، على طريقة “جوزيف كونراد” في روايته “قلب الظلام”، التي نُشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وأعادها فرانسيس كوبولا فيلماً “القيامة الآن”، في نهاية القرن العشرين. ومع أنني أستقي فكرة الظلمة من هنا، إلا أن “الغابة السوداء” لدي تصبح “الغابة المُنيرة”، عندما نتخفف من آلامنا بروايتها حكاية. والحكاية تعني الذاكرة والجذور، وبالتالي التماسك قدر المستطاع في وجه التشتّت والتمزق.
عمر الشيخ :هناك مسرحةٌ سورياليةٌ في الجانب الخاص بهلوسات بطلك في رواية “الغابة السوداء” وكأنّنا نتلمس نوعاً من “أدب الشواش” هنا. برأيك إلى أي حدّ يمكن للكاتب إعادة تدوير “ثيمة” الأحداث بما أنك تناولت حالة “الشواش” في روايتك السابقة “الغرانيق” بشكل كبير أيضاً؟!
مازن عرفة: في “الغرانيق” كانت شخصية “الأناـ الرواي” أكثر من مشوشة، كانت متقلبة بانفصاميّة متشظيّة، بسبب عدم القدرة على اتخاذ موقف. كان هو “الشاب الثوريّ العنيف”، الذي سيتحول بظروف القمع إلى “إسلاميّ متشدد”، وفي الوقت نفسه هو “الزعيم الجنرال الديكتاتور”، و”المثقف الانتهازيّ المتقلّب”؛ جميعها وجوه لفرد واحد، حسب الظروف التي يعيشها. تطورات “الثورة السوريّة”، والعنف الدمويّ والتهجير الديموغرافيّ الذي سيرافقها… كلّ هذا جعل من الصعب اتخاذ مواقف حاسمة فيها، ناهيك عن لعبة “الضحيةـ الجلاد” المتبادلة لدى الفرد نفسه. المهجر السوريّ في “الغابة السوداء” يعيش واقعاً جديداً، فبالإضافة إلى تمزقاته التي يحملها في داخله من البلاد، ستنمحي شخصيته بالكامل (وبالتالي هويته)، في “اللا بلاد”؛ في مجتمعات مريعة، تفتقد الحميميّة والدفء الإنسانيّ والتكافل الاجتماعيّ في بنيتها، بعكس ما اعتاد عليه كشرقيّ. ويتحول بعد اقتلاعه من جذوره إلى أكثر من مُهمش، إلى مسحوق بالوحدة المُريعة، دون أن يستطيع الاندماج بما حوله، وتتحول حياته إلى عالم من الهلوسات مرتبطة بتمزقاته، وكأنّه يعيش في “محاكاة” مرعبة. نحن نعيش الشّواش والتمزق والضياع و”المنفى” في داخلنا أصلاً، لكنّها تزداد حدة في مجتمعات الغربة. ربما تلملم “حكايتنا” بعضاً من ذواتنا، وتعزز “الذاكرة الجمعية” كهوية، تصمد في وجه غربة نفوسنا، سواء كنا في البلاد أو خارجها.
عمر الشيخ :تبدو رواية “الغابة السوداء” تجربة أكثر اختزالاً عن رواياتك السابقة، من حيث الحجم وأسلوب البناء الأدبي وتكثيف الصور والجمل القصيرة، ووحدة الموضوع، وهي تعكس واقعيّة سحريّة من النوع المأساويّ، ولفتتنا جملة تقول “ماذا يعنني الاسم والهوية إذا لم ألتقِ أحداً كي أعرف عن نفسي؟” هل تعتبر تلك النظرة تبشيراً بالعدميّة الممتدة من سوريا إلى السوريين في لجوئهم؟
مازن عرفة: أعتمد في روايتي دائماً على عنصري “الغرابة” و”إثارة الدهشة”، في إطار عوالم مجنونة. في البداية، كنت أستفيض في الوصف رغبة في إيصال تفاصيل حياة يوميّة مُحددة. لكن في روايتيّ الأخيرتين؛ “الغابة السوداء”، و”داريا الحكاية”، وبسبب كثافة “الهلوسات” و”الكوابيس” و”اللّامعقوليّة”، التي تميزهما، وجدتُ أنّي بحاجة إلى تكثيف “المعنى” في كلمات جمل قصيرة، إنّما بطريقة شاعرية، تسمح بانفتاح المعاني على “استيهامات” مُتعددة. وقد تَطلّب هذا تطوير طرق التعبير الأدبيّ المكثف لدي، بحيث تقترب بعض النصوص فيهما من شاعريّة كثيفة، وأدى هذا إلى اختزال النص. لكن هذا لم يحدث عفوياً، ففي الأصل كانت كلتا الروايتين الأخيرتين رواية واحدة! وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”. واضطررت إلى فصلهما بسبب إشكاليات النشر. رغم أن أوروبا تحترم “تعدّد الثقافات”، ضمن مفاهيم “حقوق الإنسان”، إلاّ أنّه في نهاية الأمر يبدو أن مفهوم “اندماج المهجر” يتطلب عملياً التحول إلى “برغي في ماكينة العمل الضخمة” لديها، والانغماس في “رتابة الحياة وإيقاعاتها السريعة”، ضمن تعقيدات مجتمعات عولمية متقدمة. وبالضبط من أجل هذا تستقبلنا أوروبا، وهي تفكر باحتياجاتها الاقتصادية. وإذا كان جيلنا يعاني تمزق “الهوية” في مجتمعات غريبة بالكامل، بعيداً عن حميميتنا الشرقية، فماذا سيحصل مع أجيالنا التالية، التي لن تتذكر سورية التي نعرفها، خاصة في ظل احتلالات يبدو أنها طويلة الأمد؟ ربما يحاول كلّ منها فرض قيمه الخاصة، بالارتباط مع تغيير “البنية الديموغرافية” فيها. هل ذلك عدمية، أو واقع…؟
عمر الشيخ :لاحظنا وجود صراع أخلاقيّ لدى البطل في تبرير سلوكيات أصدقائه في مجتمع منفتح مثل ألمانيا، وشيئاً من الإضاءة على “ازدواجيّة المعايير”، “العنصرية”، “التطرّف”، “فوبيا الدين”.. وتفكيك مفرداتهم وقصصهم وظهوره كضحية إلا قليلاً! أضف إلى أنّه على نحو ما يبدو رومنسياً بشكل غير معقول، هل تريد الإشارة إلى مدى السذاجة التي تعاني منها الشخصية السورية في المنفى؟
مازن عرفة: شخصياً أعد نفسي مواطناً أقرب إلى “الكوزموبوليتانية” بثقافات متعددة؛ “عربية”، و”فرنسية” و”بولونية” (عشت في بولونيا ما يقارب ستة أعوام)، والآن “ألمانية”، فلا أجد أي مشكلة لي في مجتمع غريب. لكن أفكر بجيل المهجرين السّوريين، خاصة الذين تجاوزت أعمارهم الأربعين، الذين قدم معظمهم إلى بلد أوروبي لأول مرة، يحملون في لاوعيهم “ما ورائياتهم الدينية”، و”نرجسياتهم وخيلائهم الشرقيّ” المرتبطة ببنى “ما قبل الحداثة”؛ “الطائفة” و”العشيرة” و”العائلة”، والأهم “اعتيادهم على الانفلات من القانون” في مجتمعات “الفساد العربيّة”. مثل هؤلاء سيصطدمون بشكل مريع بقيم مخالفة لهم ومستفزة؛ “سيادة القانون”، “المجتمعات اللادينية”، “ممارسة الجنس فيما قبل الخامسة عشر”، “مجتمع (الميم) بعوالم المثليين والمتحولين جنسيّاً”، “شرعنة تدخين الحشيشة”، “منع الأهل من ضرب الأطفال”، “حرية اتخاذ الأولاد قراراتهم، والانفصال عن أهلهم بحماية القانون”… هم لا يستطيعون منع جيل أطفالهم من الاندماج في هذه الحياة، ولا يسعهم سوى أن يتمزقوا، ولا يبدو الموقف عندئذ “موقف أخلاقيّ” أم لا. أنت أمام مجتمعات استقبلتك بكل احترام كـ”مهجر حرب” وقدمت لك المأوى والأمان وفرصة العمل الكريم، وهو ما افتقدته في بلدك، فماذا تفعل أمام قيمها الاجتماعيّة المغايرة.
عمر الشيخ :“داريا الحكاية” كانت تتسلسل ببداية ممتعة عن تفاصيل سورية عريقة في تاريخ المجتمع وعاداته وتقاليده، ما لبثت الرواية إلى أن تحولت إلى ساحة حرب، هل تحاول أن تظهر لنا بساط الحياة التي كانت وانقلابها مع وجود العسكر في السلطة؟
مازن عرفة: ليس فقط وجود العسكر في السلطة، وإنّما أيضاً انتشار المدّ الإسلاميّ، برمزيتهما معاً “البوط العسكريّ”، و”السيف الإسلاميّ”؛ وجها القمع للعملة نفسها، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي. في جميع رواياتي، أحاول إعادة إحياء “الحكاية السورية” بجذورها، ليس كـ “نوستالجيا”، وإنّما في مواجهة “التشويه” الذي نالها من هذين الطرفين. في بداية “داريا الحكاية” استخدمت شكلاً من “الواقعية الشعريّة” لوصف حياة الناس البسيطة، قبل “عسكرة البلاد” بشكل شمولي. لكن، بالوصول إلى حاضرنا مع “الربيع العربيّ” وتداعياته المأساويّة، لجأتُ إلى نوع من “سوريالية اللّامعقول”، وهو ما لا يمكن وصف ما حدث فعلاً في الواقع إلا بها. يُضاف أنّه بواسطتها يمكن الذهاب من الخاص إلى العام، لتشمل ليس فقط المناطق السورية الأخرى، وإنّما أي مكان أو زمان تنتهك فيه كرامة الإنسان بوحشية الحروب ومجازرها.
عمر الشيخ :شعرنا في “داريا الحكاية” بالكثير من الاضطراب بسبب كمية الكره نحو شريحة اجتماعية تنتمي لها سلطة النظام في سورية، ألا يخيفك هذا الانحياز بوضع كلّ من ينتمون لتلك الشريحة بأنهم متهمون أيضاً، حتى لو لم يوافقوا على إرهاب تلك السلطة وأفعالها؟
مازن عرفة: ليس اضطراباً، وإنّما مواجهة واقع حدث فعلياً، حتّى نفهم كيف تطورت الأمور لاحقاً، بهذا العدد الهائل من القتلى والمعوقين والمهجرين المشردين، بما فيه مشروع “التغيير الديمغرافيّ” في سورية، وهو ما يتم الحديث عنه بالملايين بلغة الأرقام. استغلت السلطة الديكتاتوريّة العسكريّة التجييش الطائفيّ في قمع سلمية “الربيع العربي”، وهو ما أدى إلى ظهور “الأسلمة” بوجهها الوحشيّ ضمن ظروف إقليمية ودولية معقدة. وبالتأكيد، لا ينبغي تعميم رموز القمع من أي طرف على أي مجموعات أثنيّة أو دينيّة أو طائفيّة، إذ إن كثيراً من أفراد من هذه المجموعات لهم تاريخ نضاليّ طويل من أجل الحريّة ضد السلطة الديكتاتورية نفسها، قضى قسما كبيراً من حياته في المعتقلات، قبل في “الربيع العربي”، وشارك في بداياته السلمية. وهم أصدقاء شخصيون يعيشون الآن المنافي مثلنا. يستند مشروعي الروائيّ كلّه عن “الحكاية السورية” على مواجهة سوريالية ما حدث، بالسوريالية نفسها، كأحد أشكال الفانتازيا.
عمر الشيخ :هناك نوع من الموافقة الضمنيّة على استخدام “أدبيات إعلامية” ليست دقيقة، كانت قد أنتجتها فئة من “المعارضة السورية” ألا تعد ذلك شحاً بالمخيلة لإعادة انتاج مفردات رمزية تبعد العمل عن خانة التصنيف الفوريّ بأنه مراجعات أدبية عن تقارير واقعية لأحداث وثقها الإعلام؟
مازن عرفة: الرواية هي رؤية أدبيّة ـ فانتازية، تحاول أن تنتقل من خصوصيّة منطقة، للتعميم على جميع المناطق السوريّة. لكنّها تنهض في الوقت نفسه على وثائقيّات محدّدة؛ الأول منهاـ وهو الأهمّ. ما شهدته أنا نفسي شخصياً، وقد عشتُ هذه الفترة في بلدتي بريف دمشق الغربيّ، المُلاصقة لداريا، بكلّ أجواء جنون المجازر الوحشيّة السائد وقتها، وربّما نجوت بحياتي منها بالصدفة. وثانياً شهادات أصدقاء من أهالي داريا أنفسهم، الذين نجوا من المجازر فيها بأعجوبة. لكن إلى جانب ذلك، كانت هناك مفاتيح مهمة، هي تلك الوقائع الموثّقة بالفيديوهات، ومن قبل منظمات دولية. الكثير منها هي من وثائقيات النظام الديكتاتوري نفسه، التي يفتخر بها. لا توجد عائلة في سورية إلا ولها قتلى في “المُعتقلات السوريّة”، وتحت “البراميل المتفجرة”، ومهجرين مشردين لكني في روايتي كنت موضوعيّاً، فالفصل الرابع، وهو من أهم الفصول التوثيقيّة، الغارق بالكامل بـ”سوريالية الجنون اللّامعقول”، يستند على واقعة قامت فيها “داعش” بسحق أحد الجنود تحت جنازير دبابة، مقابل وقائع شبيهة قام بها الجنود المتعصبون وميليشياتهم في الطرف المقابل. الضحية في كلّ الأحوال هي “الإنسان السوريّ”.
عمر الشيخ :انتقدت في ختام روايتك “لغة الدّم” ألاّ ترى أنك أيضاً استخدمت ذات اللّغة في تجسيد الوجع السوريّ في هذا العمل، ألا يمكن للأدب أن ينجو من الدم؟ وإذا كان الجلاّد شريراً هل يجب أن نكون أكثر شراً منه لنرفع صوتنا؟ ألا ترى ذلك تجريداً من الإنسانيّة يجرنا نحو وحشية مطلقة؟
مازن عرفة: الراوي في “داريا الحكاية” يحمل جُثث المجازر في داخله، ترافقه في الذاكرة دائماً، هي “حكاية السوريّ” أينما تنقل. الجُثث برمزيتها ضاجة لا تهدأ، إلا إذا تم رواية حكاياتها للزمن. حدث هذا أيضاً في “الغابة السوداء”، حيث ستتحول في داخلنا إلى “الغابة المُنيرة”، بمجرّد أن نروي حكاية مآسينا، ونتخّف بذلك من آلامها. الهدف من رواية “الحكاية السوريّة” في “مشروعي الروائيّ” هو تحدي رموز القمع بكافة أشكاله، وتوثيق مجازره، وإنّ عن طريق الفانتازيا، حتّى لا ننسى. وسيأتي الزمن المناسب، ويحاسب التاريخ رموز القمع هذه بكافة أشكاله. ليست وظيفة الأدب التغيير السياسيّ المباشر، وإنّما هو نشر الوعي بقيم الحياة الإنسانيّة واحترام حقوق الإنسان وكرامته.