عند الساعة 8 مساء من يوم الخميس الماضي بـ 20 الشهر الحالي، تمكنت خلية موالية لتنظيم “داعش” مؤلفة من 100 عنصر من اقتحام سجن الصناعة بحي الغويران جنوبي مدينة الحسكة. يوم الاثنين، تم استسلام ٣٠٠ سجين، فيما تحصن اخرون بـ “أشبال الخلافة” في احد مهاجع السجن. وبين هذين اليومين، حصلت اشتباكات وغارات… ولاتزال قصة “تمرد داعش” غير مكتملة.
ساعة الصفر بدأ الهجوم بانفجار صهريج كبير بالقرب من مدخل بوابة السجن الشمالية، تلاه انفجار سيارة مفخخة ثانية على بعد أمتار قريبة ثم انفجرت في نفس الوقت سيارة ثالثة في محطة محروقات “سادكوب” لتوزيع المواد البترولية الواقعة بالجهة المقابلة للسجن، لتنفجر بعدها العديد من خزانات الوقود والسيارات المركونة في المحطة وتصاعدت سحب الدخان والسنة النار وغطت سماء المنطقة، ولم تتمكن طائرات التحالف الحربي من رصد الإحداثيات أو التدخل جوياً.مس
هذه الانفجارات الثلاثة كانت ساعة الصفر لعناصر التنظيم المحتجزين في سجن الصناعة الذي يضم 5 ألاف محارب قاتلوا في صفوف التنظيم سابقاً، لتنفيذ تمرد مسلح وعصيان يعد الأكبر والأعنف من نوعه منذ سجن هؤلاء ربيع 2019، وأظهرت كاميرات المراقبة من برج الحراسة التابعة للسجن كيف خرج المئات من المحتجزين من داخل المهاجع، وأضرموا النيران بالقرب من البوابة الرئيسية وهاجموا عناصر الحراسة وقوى الأمن، وقاموا بحرق الأغطية والعلب البلاستيكية لإحداث الفوضى، وسيطروا على أجزاء من السجن وتمكنوا من اقتحام قسم الحراسة وسرقوا جميع الأسلحة والذخيرة، وقاموا بتصفية بعض المقاتلين كان من بينهم مدير السجن ويدعى جمال كوباني، وأسر الآخرين ويقدر عددهم بنحو 20 مقاتلاً. في ذات الليلة، دارت اشتباكات عنيفة وتوسعت رقعة العمليات المسلحة وسرعان ما سيطر عناصر التنظيم المتمردين داخل السجن على أقسام من السجن، فيما تمكنت “خلايا نائمة” من دخول السجن وقدمت يد العون لتهريب العشرات ثم سيطروا على بعض المواقع في أحياء الغويران والزهور، الى جانب معهد المراقبين الفنيين ومبنى كلية الاقتصاد وصوامع الحبوب الملاصقة للسجن، بينما ردت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وقوى الأمن الداخلي على الهجوم وفرضت طوقاً أمنياً محكماً بدعم واسناد جوي من طيران التحالف، بمشاركة قوة عسكرية من الجيش الأمريكي التي انتشرت في المدخل الرئيسي الشمالي لحي الغويران عند جسر البروتي.
قبضة ونزوح في اليوم التالي من يوم الجمعة، أحكمت “قسد” حصاراً على الأقسام التي سقطت في قبضة الجهاديين داخل السجن، وعزلت المواقع التي سيطرت عليها الخلايا النائمة في الأحياء المجاورة وحاصرتها من جهاتها الأربعة، وبذلك عزلت تلك المناطق بفرض حصار شامل حتى لا يتمكن المسلحين من فتح خط أمدادات خارجية للمساعدة والسيطرة على الطريق الذي يربط العويران ببلدة الشدادي المجاورة ومنها نحو صحراء بادية الجزيرة التي تمتد حتى الحدود العراقية شرقاً. وشهد حيا الغويران والزهور قرب السجن، حركة نزوح كبيرة للأهالي قصدوا الأحياء المجاورة ومركز المدينة، وعلى مدار الأيام التالية دارت اشتباكات عنيفة وشديدة مع دخول طيران التحالف وطائرات الاباتشي الأمريكية وF16 على خطوط المواجهة، وقامت بتغطية المعارك وقصف المواقع والامكان التي يشتبه بتحصن المتطرفين، وتدور العمليات العسكرية في الجهة الشمالية والجنوبية المتواصلة منذ مساء الخميس الماضي، وقال القيادي فرهاد شامي مدير المركز الإعلامي للقوات إن 13 من عناصر التنظيم قتلوا خلال حملات دقيقة نفذها مقاتلو «قسد» صباح يوم الأحد، ليرتفع عدد قتلى التنظيم منذ بدء الهجوم إلى 35 مسلحاً وسط تقارير ومصادر ترجح بأن العدد أكثر من ذلك بكثير ووصل الى حدود 80 قتيلاً. وأكد شامي بأن القوات ضيقت الطوق الأمني حول سور السجن الشمالي وتمكنوا من إلقاء القبض على المزيد من العناصر لترتفع الحصيلة الأولية للأسرى والعناصر الذين تمكنوا من الهروب وتم القاء القبض عليهم أو استسلموا الى 140 عنصراً، بينما أعلنت قوات «قسد» بأن عدد المقاتلين الذين سقطوا في عملية سجن الغويران ارتفع الى 27 خلال الأيام الثلاثة الماضية، في حين أكدت اخطاف عدد محدود دون الإفصاح عن المزيد من التفاصيل والأرقام.
حشود حشدت قوات «قسد» تعزيزات عسكرية لتكثيف وجودها العسكري في محيط السجن وداخله ونشرت فرقاً للمهام الخاصة والتدخل السريع وأغلقت جميع الطرق الرئيسية والفرعية المؤدية إلى السجن. كما فرضت حظراً شاملاً على مدينة الحسكة لمدن 7 أيام ومنعت بموجبه من دخول وخروج الأهالي والمدنيين حتى إشعار آخر، في وقت شاركت طائرات التحالف بقيادة واشنطن في عمليات التمشيط وألقت قنابل ضوئية لمساندة حراسة السجن فيما قصفت بالرشاشات مواقع متفرقة في محيطه، وكثفت طلعاتها على مواقع وتجمعات عناصر تنظيم «داعش» داخل سجن الصناعة ومحيطه بحي الغويران تمهيداً لاقتحام السجن. واستقرت 6 عربات أمريكية قتالية من طراز برادلي و4 سيارات همر وعشرات الجنود الأمريكيون أمام بوابة السجن المركزية، وقال القيادي العسكري سيامند علي بأن (قسد) قاب قوسين أو أدنى من أحكام السيطرة على السجن وأنهاء التمرد المسلح، ووجهت قوات القوات عبر مكبرات الصوت نداءات الى عناصر التنظيم المحاصرين في أجزاء من سجن الصناعة بضرورة تسليم أنفسهم، وطالبت المسلحين والخلايا النائمة التي تمكنت من دخول مبنى السجن رمي أسلحتهم والتوجه نحو البوابة الرئيسية. وألقت طائرات التحالف منشورات ورقية على الأحياء السكنية بمركز الحسكة، تتضمن أرقام وخطوط هواتف ساخنة للإبلاغ عن أي أنشطة إرهابية أو مشبوهة في ظل استمرار الأحداث التي تشهدها منطقة سجن غويران.
تسجيل وكانت وكالة “أعماق الإخبارية” الذراع الإعلامية لتنظيم (داعش) نشرت ليل السبت الأحد الماضي على صفحات مؤيدين وحسابات أعضاء موالون في التنظيم، تسجيلًا مصورًا يظهر فيه أربعة عناصر من التنظيم ببذاتهم العسكرية من داخل السجن، يظهر أسر حوالي 20 شخصاً وتظهر عليهم آثار التعذيب وطلب أحد المقاتلين الكشف عن أسمائهم ونسبهم العشائري والمناطق التي يتحدرون منها، وكشف ذات المسلح في تسجيله المصور حيث كان ملثماً يقف أمام راية التنظيم وقد علقت على إحدى جدران السجن، أنهم نجحوا بإخراج أكثر من 800 محتجز واسير على دفعات خلال الأيام الماضية من أسرى التنظيم لفي السجن. وقال القائد العام لـقوات (قسد) مظلوم عبدي إن قواته نجحت بدعم ومساعدة من قوات التحالف والطيران الحربي، “بصد الهجوم وتم تطويق محيط السجن بالكامل واعتقال جميع الهاربين”، مضيفاً بأن (داعش) حشد “معظم خلاياه في محاولة لتنظيم هروب من سجن الحسكة، عن طريق انتحاريين والقيام بعصيان داخل السجن من قبل المعتقلين”، ونشر عبدي تغريدة على حسابي الشخصي بموقع «تويتر» قال فيها: “لن تتوقف قواتنا عن قتال (داعش) حتى يتم وضع جميع العناصر الإجرامية خلف القضبان”.
أجانب ومنشأة الصناعة بحي الغويران بالحسكة من بين 7 سجون منتشرة في شمال شرقي سوريا يُحتجز فيها 5 آلاف متطرف كانوا ينتمون إلى «داعش». وهذه المنشأة عبارة عن بناء كبير يضم عشرات المهاجع الضخمة والزنازين وتحيط به أسوار عالية تخضع لحراسة مشددة من قوات «قسد»، بدعم مالي من التحالف الدولي بقيادة واشنطن. ويقع هذا السجن في منطقة عسكرية متشابكة ومعقدة حيث تنتشر إلى جانب قوات «قسد» وقوات التحالف الدولي والجيش الأميركي، قوات حكومية موالية للرئيس السوري بشار الأسد ووحدات من الجيش الروسي. وهذه القوات الأخيرة تحكم السيطرة على جيب حكومي يقع في مركز مدينة الحسكة. وتشير إحصاءات إدارة السجون لدى الإدارة الذاتية شرق الفرات إلى وجود نحو 12 ألف شخص كانوا ينتمون إلى صفوف التنظيم المتشدد، بينهم 800 مسلح ينحدرون من 54 جنسية غربية، وألف مقاتل أجنبي من بلدان عدة، على رأسها تركيا وروسيا ودول آسيوية، بالإضافة إلى 1200 مسلح ينحدرون من دول عربية، غالبيتهم قدموا من تونس والمغرب. كما يبلغ عدد المنحدرين من الجنسية العراقية نحو 4 آلاف، والعدد نفسه ينحدر من الجنسية السورية. واتهم لقمان آحمي، الناطق الرسمي باسم الإدارة الذاتية شرقي الفرات حكومة دمشق بأنها شريكٌ في الهجوم على السجن، وذكر قيام حكومة الرئيس الأسد بـالترويج “للخلايا الإرهابية ووصفها بأنها مجموعات المقاومة الشعبية ودعمتها إعلامياً ولوجيستياً”، وأوضح أن “الطرف الأول ورأس الحربة في الهجوم (على السجن) كان عناصر من داعش يعملون ضمن خلايا نائمة تحاول رفد عناصرها عن طريق إخلاء العناصر المحتجزين في سجن الصناعة”، واعتبر أن الأطراف المستفيدة من أحداث السجن “هي الحكومة التركية وفصائل المعارضة السورية”.
تحت “جسر الرئيس” في العاصمة السورية، دمشق، رصيف طويل يشغل زاوية ضيقة. هذا الرصيف، يضم آلاف الكتب، يتصدره أشخاص بائسون مضى عليهم الدهر. ” هنا تأسست الوحدة العربية، في هذا الشارع تماماً، لا ينفصل أحدنا عن الآخر، لكن لكل منا استقلاليته الخاصة”، بلهجة فراتية يرحب عبد الله حمدان (50 سنة)، صاحب إحدى المكتبات، بجملته السابقة، عندما علم أن هناك صحافة ستبدأ الحديث عن حاله والرصيف الذي يشغله لأكثر من عقدين، يسرد قصصاً عن هذه المكتبات، وما تبقى منها منذ خمسة عقودي. حمدان، خريج كلية الشريعة من مدينة دير الزور، وله أكثر من 14 مؤلفا تنوعت بين تاريخ وأدب، منها “تاريخ المسجمة والمشبهة في هذه الأمة”، تختص بالتكفير، وديوان شعر باللهجة الفراتية “صيحة عتاب”، لكنها غير معروفة لدى الجيل الجديد.
قراء وهجرة يروي حمدان، الملقب بـ “أبي زينب”، لموقع “صالون سوريا”، سر بقاء هذه المكتبات حتى يومنا على الرغم من ضعف رواد هذه الأرصفة الثقافية. يقول: “الفقراء من يقرأون. زباؤننا القراء من الطبقة الفقيرة ما قبل الحرب وبدايتها، إلا أن الحال تغير اليوم. أصبحت هذه الطبقة التي تشبهنا شبه معدومة، تسعى لكسب قوت يومها، كيف لشعب جائع أن يقرأ؟. أما الجيل الجديد، فاستبدل الإنترنت عن الكتاب”. ويضيف: “هجرة الشباب أثرت أيضاً على القراءة، أغلب المثقفين وطلبة العلم غادروا سوريا، أين هم الآن؟، ومن تبقى يستغل الإنترنت للبحث عن المعلومة ويكتفي دون الذهاب إلى مصدرها الأصلي”. “بات الإنترنت عاملاً مهما للتواصل وإيصال المعلومة، لكنه أداة العصر الرئيسية بين الناس وللاطلاع فقط على العلم، دون الاعتماد الكلي عليه، أما طالب العلم فيجب أن يعتمد على الطبعة الأساسية للكتاب لأنها تستقي المعلومة من مصدرها وإذا كان كتاب قديم يكون له تحقيق ويخرج المعلومة على أصولها ولا يمكن أن يؤخذ العلم جملة وتفصيلاً من الإنترنت” بحسب حمدان.
صحافيون على الرصيف بحر من الكتب يأخذك لزوايا عدة. رغم رداءة المكان والروائح الكريهة، هناك فن عشوائي من الكتب الممدودة على طول خط كامل زينت المكان بأكمله. يقف عند زاوية أخرى داخل هذا المربع رجل يضع شالاً بني اللون، يدعى “أبو مؤيد” وهو محمود حسن. كاتب صحفي بالشأن الفلسطيني بين عامي 83 و 95 يملك مكتبة رصيف تحت هذا الجسر، حال به الزمن إلى بيع الكتب هنا. يقول: “بدأت بالكتابة في صحيفة الثورة بقسم أدب الشباب خواطر وقصص قصيرة ثم انتقلت إلى العمل السياسي بالإعلام الفلسطيني الموحد في عدة مجلات وصحف منها “مجلة فتح”، “الهدف”، “السفير”، “النهار”، “الناقد” للراحل رياض الريس منذ 1986 حتى عام 1995″. يستذكر أبو محمود أيام الصحافة الأصيلة بروادها، دخل إلى سرداب ضيق، أخرج كرتونة مليئة بالجرائد وبدأ البحث عن مقالات قديمة، أعادنا بالزمن إلى سنة الــ1986 إلى بدايات انطلاقة الصحافي محمود حسن الذي أصبح الآن بائع كتب رصيف بدمشق، بدءاً من جريدة “الثورة” السورية ومقاله عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى”، إلى جريدة “النعيم” ومجلة “فتح”، وصحف أخرى، كما له أيضاً مؤلفين الأول “كتاب الحولة” دراسة جغرافية اجتماعية تاريخية لقرى سهل الحولة في فلسطين، ورواية “مدارج العشق”. توقف “أبو مؤيد” ابن مدينة صفد عن الكتابة بالإعلام الفلسطيني بعد انتقال مجلة “الهدف” الفلسطينية في العام 1987 إلى رام الله، وباعتباره فلسطيني سوري، مُنع من العودة لأنه يشمله حق العودة القديم وعندها بقي في دمشق واختار العمل في بيع الكتب على الرصيف لكي يبقى قريباً من الكتاب، بحسب ما قاله لصالون سوريا. أما عن تراجع القرّاء، فيرى أبو محمود أن السبب يعود لتراجع المبيعات نتيجة الأوضاع الاقتصادية التي تسببت بنكبة إغلاق المكتبات وغلاء الطباعة ونقص اليد العاملة والأوضاع الاقتصادية، يقول: “نحن الآن غير قادرين على متابعة شراء الكتب يوجد قراء لا شك ولكن ليس باستطاعتهم شراء الكتب وهناك الكثير من القراء هاجروا.
وعود المحافظة خلال الجولة في هذا الركن الضيق تحت الجسر، التقينا برجل يدعى طارق الفاعوري (48 عاما)، من محافظة القنيطرة. خطاط يرتاد إلى هذه الأرصفة منذ عشرين عام، يعيد إحياء الكتب التراثية. يقول: “هذه المكتبات على قلتها في دمشق قياساً للقاهرة وبغداد، تقريباً مثل الماء للحياة، المكان هنا ملتقى لعشاق الكتاب وللفقراء تحديداً، أي من ليس لديه قدرة لشراء كتب جديدة فهذا المكان مناخ مناسب جداً، بأسعار رخيصة وكتب نادرة”. ويتابع “الإنترنت ضرورة حياتية للمعاصرين لكن النهضة العربية نهضت بدون إنترنت، بيمنا من جيل الإنترنت منذ عشرين عام حتى الآن لم يظهر لدينا اسم واحد مهم ولا اسم حرك شيء بالشارع العربي الثقافي، حتى على صعيد الصحافة لم يستطيعوا أيضاً، زمن أعلام الصحافة العربية كان الورق يتحدث ولكنه في طريقه للأفول”. قصة انتشار هذه المكتبات تعود لوزيرة الثقافة نجاح العطار (نائب الرئيس حاليا) التي كانت بمنصبها عام 1976 –2000 هي من أعطت الأمان لبائعي الكتب “مكتبات الرصيف”، بنظرها هؤلاء يجب أن يكونوا بأمان دون أي مضايقات، لأنهم يبيعون ثقافة الشارع”، بحسب ما قاله الفاعوري، مضيفاً: “بعد أن تركت منصبها من وزارة الثقافة تغولت المحافظة، واستطاعت حصرهم بهذه الدائرة، ومن يخرج منها فهو مطارد”. على الرصيف ذاته، تفصل عدة كتب بين أبو مؤيد عن “بسطة” جاره “أبو عبد الرحمن”. يحددها الجاران كجدا فصل، يعمل الأخير هذا المكان منذ 25 سنة خريج معهد أثار وشارك في عمل لوحات فنية مع العديد من الباحثين الأجانب في سوريا قبل الحرب. يقول: “للأسف لا يوجد قراء ما عم نستفتح بفرنك. رغم أننا نبيع بسعر أرخص، ولكن نحن شعب لا يقرأ، الفقراء لم يعد يرتادون هذه المكتبات رغم رخصها، ويتابع: “انظر إلى هذا المكان تأتيني أيام أبكي فيها على هذه الكتب المرمية هنا، وكل يوم وعود من المحافظة بإنشاء أكشاك ولكن فقط وعود، في كل العالم هناك مكتبات رصيف ونحن نطالب بأكثر تنظيم ونظافة. لو نحن لم نجلس بهذا المكان لكان خراباً”.
مكتبات عريقة غادرت قرب مقهى الهافانا بدمشق تغير مكان “مكتبة اليقظة العربية”، واستبدلت بمحل “اليمامة للأحذية”، بعد إقفالها عام 2014، وإعلان أصحابها انتهاء رحلة ثقافية دامت 83 عاما، داخل المكتبة سابقاً، فبدلاً من بيع العناوين والكتب التي أصدرتها المكتبة حل مكانها أحذية تواكب الموضة. يكشف سامي حمدان أحد أبناء مؤسسي المكتبة وبات الآن باع أحذية بدلاً من الكتب، سبب إغلاق المكتبة وتحويلها إلى محل أحذية. يقول لـ “صالون سوريا”: “المكتبة أغلقت عام 2014 بسبب قلة البيع والأزمة الاقتصادية الخانقة، وتحول الناس إلى الهواتف المحمولة والإنترنت، هذا التحول أنهى ظاهرة المكتبات والكتاب، المكتبة أسست عام 1939 طبعت حوالي 300 عنوان في سوريا”. في زاوية أخرى يجلس بالقرب من سامي ابن عمته سعدي البزرة”الذي اشترى المكتبة من آل حمدان وحولها إلى محل بيع أحذية عام 2014، يرى البزرة أن المحل التجاري يجب أن يحقق مبيعات كي يحقق المرابح. يقول: “المكتبة لا تعيننا على العيش، كل أخر سنة، علينا دفع ضرائب باهظة للمالية، وفواتير الكهرباء، الضرائب هي عامل أساسي كبير للإغلاق”. ويضيف: “في يومنا هذا الشعب لا يبحث عن الثقافة والقراءة بل عن لقمة العيش في ظل الوضع الاقتصادي، ومنها أيضاً هجرة العقول”، مؤكداً أن الغلاء ليس عاملاً أساسياً في إغلاق المكتبة لأنه شمل الجميع وليس الكتب فقط ولا حتى التكلفة الباهظة للطباعة هذا سبب ضعيف وعديم التأثير. في الوقت ذاته، نفى أن تكون الحرب هي السبب الرئيس في قفول هذه المكتبات، قائلاً: “الحرب لا تؤخر ولا تقدم، اليابان أكبر مثال وشعبها عاد بالقراءة، والثقافة وليس الشهادات المزورة، وأصبح أرقى شعوب العالم، والحكومة يجب أن تؤمن لقمة العيش والأساسيات كي يقرأ الشعب، هذه مهمتها وليست مهمتنا”.
مكتبة “نوبل” الدمشقية ودعت قراءها العام الماضي، إذ كانت منذ سبعينات القرن الماضي، معلماً ثقافياً في دمشق. ملايين الناس اقتنوا منها كتباً ثمينة، قرار الإغلاق كان مؤلماً لأصحاب المكتبة ولفئة قليلة بل نادرة من القراء. تواصلنا عبر الهاتف مع السيد إدمون نذر شقيق جميل، كشف لـ “صالون سوريا” بأن سبب الإغلاق ليس الغلاء وعدم قدرة الطباعة. يضيف: “شقيقي جميل من قرر إغلاق المكتبة وسافر إلى كندا وليس خلاف ورثة كما يقال، زوجته مريضة في كندا وهو مقيم منذ 10 سنوات هناك وأنا فقط كنت أساعده في المكتبة، ففكر بإغلاق المكتبة والعودة إلى كندا، الأمور جيدة ولدينا قراءنا وهم موجودون”. مكتفياً بهذا الكلام. العديد من المكتبات السورية أغلقت أبوابها خلال الأزمة وليست فقط “نوبل” و “اليقظة”، سبقها مكتبة “ميسلون” التي تحولت إلى مركز صرافة، ومكتبة “الذهبي” في الشعلان التي تحولت إلى محل بيع فلافل.
حذر الاتحاد الاوروبي في وثيقة رسمية، من “تغيير ديموغرافي” اذا استمر النزوح والهجرة في سوريا. وقال ان عدد السوريين الذين هم بحاجة إلى مساعدات إنسانية ارتفع من 11 مليون في عام 2020 إلى 14 مليونا حالياً. واذ لفت الى وجود 5.6 مليون لاجئ سوري و6.7 مليون نازح داخل البلاد، حذر الاتحاد الأوروبي “من أي عمليات نزوح أخرى في أي جزء من سوريا، وكذلك الاستغلال المحتمل لمثل هذه النزوح لأغراض تغيير التركيبة الاجتماعية والديموغرافية للبلاد”. واضاف انه “لا يزال يتعين الوفاء بشروط العودة الآمنة والطوعية والكريمة للاجئين والمشردين إلى مواطنهم الأصلية، بما يتماشى مع المعايير التي حددتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ووفقاً للقانون الدولي، وسيقوم الاتحاد الأوروبي بدعم هذه العودة بمجرد استيفاء الشروط”.
تتسع مساحة العتمة. يصير للكلمات لون الأسى، لون اسود داكن وموجع. النهارات معتمة كالليل، والليل المتسلح بقمره كئيب وموحش، لم يعد يعني القمر شيئا لأحد، يذكر بالعتمة الجاثمة في البيوت وفي القلوب وفي محركات الآلات الضرورية لاستمرار الحياة اليومية. يبدو سؤال الفرح ترفا بلا معنى، ويبدو الاحتياج للتوازن مشروطا بالتصديق، أجل إلى أي درجة يمكن تصديق كل هذا التراجع اليومي المستمر والمتصاعد ليكرس الفقدان التام، فقدان أساسيات العيش، وكأن الحياة باتت قاب ومضة كهرباء او أدنى؟
مصالحة كهربائية اتصال هاتفي من صديقة طال غياب التواصل معها بقرار منها، لكنها اليوم تلح في الاتصال. بعد تبادل التحيات الخجولة والأسئلة الساخطة والموحدة والساخرة، تعلن برجاء حاسم، وكأن لا أحد غيري قادرة على تلبية حاجتها الماسة والمستعصية، تقول: “أخي مسافر إلى الشام بسيارة زميله لنقل حمولة تفاح إلى سوق الهال، سأرسل لك معه أمانة وأرجو ألاّ ترديني خائبة”. قبلت فورا، ابتسمت، وتبدل موقفي وفهمي لاتصالها. لا بد أنها رشوة مصالحة طيبة من مأكولات الضيعة، لإعادة العلاقة شبه المقطوعة إلى مجاريها الدافئة، قرص شنكليش! كمشة سليق أو هندباء برية، وكانت المفاجأة! كومة ثياب بيضاء متسخة، مطلوب مني غسلها وإعادتها مع أخيها ولو مازالت مبتلة. أذهلتني تلك المدعوة أمانة! والمرسلة كهدية تفوح منها رائحة الرجاء، لكني فرحت بوجبة الغسيل المتسخ التي أزالت ركام المكارهة القصدية، حتى لو خيبت أمالي المعقودة على نكهة ريفية محببة ومفتقدة. أوقات توفر الكهرباء سمحت لي بتنفيذ المهمة المطلوبة، خاصة أن الأخ الودود أوصل وجبة الغسيل المتسخة قبل موعد الكهرباء بدقائق، كما أن كبريائي احتفل بإعلان الصديقة بأنني قادرة، والأهم أنني راغبة بمساعدتها وتقديم أي خدمات ممكنة رغم قرارها بالجفاء. وأنا اصارع الوقت وحواسي ومشاعري متنقلة ما بين الساعة والغسالة، تمنيت لو يتأخر الأخ بقدر ما يسعفني الوقت لإنجاز المهمة وربما طي الملابس وتوضيبها رطبة في أكياس كبيرة ونظيفة.
ابنة ذكية ليالي الشتاء طويلة وباردة، تثقلها العتمة فتصير وحشية، تحار العائلة الصغيرة المكونة من خمسة أفراد في كيفية تمضية أوقاتها المشحونة بالغضب والعجز، تقول جويل: “تعوا نلعب لعبة الأسماء، يوافق الجميع رغم غياب الحماسة، يوافقون من شدة الملل والانكسار، فلنلعب إذن، كي يمر الوقت لا أكثر”. تصرخ جويل: “حرف ال ب”. تطلب اسم مدينة تبدأ بهذا الحرف، ثم اسم حيوان، وبعده اسم إنسان، ويليه اسم طعام. تضحك العائلة، تشعر جويل بالفخر. لقد حاربت العتمة باللعب، تستمر الألعاب وتتنوع، تتذكر الأم ألعاب الحارة، والنط على الحبل والقفز على الأدراج ولعبة بيت بيوت. تكتشف العائلة أن والدهم كان أمهر أولاد الحارة بلعبة الدحل، يسرد مغامراته ويضحك، يصف مهارة أصابعه بالإصابة المباشرة و شدة التحكم بالدحل ويضحك، والبنات كما أمهن مستمتعات، يعود الأب طفلا، يقول: “بس لو في كهرباء لقمنا بشراء الدحل واللعب به الآن”. يتبدل وقع الليل على أرواحهم وتصير الذاكرة حيوية ومبهجة رغم غرقها بالعتمة.
فقراء يشترون ضحكات على الفرش الإسفنجية الرقيقة يجلس العمال المياومون، أنهوا لتوهم وجبة يومهم، قدر كبير من حساء العدس المسلوق مع وريقات بصل أخضر اقتطعوها من حوش جارهم، يبلغ الضجر أشده، تهاجمهم طلبات عائلاتهم البعيدة، أرسلوا لنا مالا لنأكل، تطوف الحسرات في الفضاء، لدى الجميع رغبة بالصراخ لكن الصمت أبلغ وأكثر سطوة. يصرخ جابر: “مين يقاتل؟”. لا أحد يرد! “خلونا نتقاتل”. ويقبض على ذراع أيمن ويلويها، تدب الحمية في الرجال، يتصارعون ويضحكون، يضربون بعضهم بقسوة لكن بمودة، تتوقف الضحكات، تعلو وتيرة الضربات على الأجساد المتعبة، وكأنما يسددون اللكمات للقدر المر، للعتمة الخانقة، ينتبه محسن إلى أن توفيق يضربه بعنف مبالغ به، يصرخ به قائلا: “أنا محسن يا ول، أنا محسن مو الزلمة يلي أكل عليك تعبك اليوم”. تنطفئ جذوة النشاط العنيف، يصرخ بلال: “فلنوقف القتال، سنجوع من جديد ولا طعام لدينا”. يحل الصمت ويطبق على خناق الجميع، يفردون أغطيتهم الرقيقة والمتهالكة، يديرون ظهورهم لبعضهم وكأنهم هاربون من مواجهة غير معلنة ولا أحد يريدها، يتصنعون نوما يجافيهم من شدة البرد والجوع والعجز.
الاحتيال العاجز يتحايل البشر على الفقدان، يدربون عيونهم على المزيد من العتمة، يشتري سامر مصباحا على البطارية يوضع على الرأس كي يتمكن ابنه من الدراسة، سيتقدم هذا العام للشهادة الثانوية، لا إمكانية للدراسة في غرفة الجلوس حيث تجتمع العائلة حول مصدر الدفء الوحيد والمتبدل حسب توقيت الكهرباء، في غيابها يتم تشغيل مدفأة الغاز أو مدفأة المازوت حسبما يتوفر وللضرورة القصوى، وفي حال ثبات درجات الحرارة ما فوق الخمسة عشرة درجة فلا داعي لأي نوع من التدفئة، يتجول البشر وكأنهم رجال الأسكيمو وقد ارتدوا كامل عتادهم من الألبسة لمواجهة البرد، سترات خاصة وسميكة للبيوت ، تلبس وفاء سترة زوجها لأنها مبطنة بالفرو، دافئة لكنها تعيقها عن الحركة، ويلف رامي وفادي بطنيهما بملاءة صوفية رقيقة، الإبداع مطلوب، ويسخر الإبداع من اسمه هنا، فرط التكيف يعني هروبا من الموت بردا او انفجارا من شدة العتمة والقهر.
ثوب جديد تتلقى سما دعوة كريمة وجميلة من والدتها، تعوا تحمموا، عنا كم ليتر مازوت لمدفأة الحمام. تلبي الدعوة ولسان حالها عاجز عن الشكر، تأخذ معها كمية من الكشك وكيلو ونصف من البطاطا وبرتقال، تقول لأمها سننام عندك الليلة خوفا من المرض بعد الاستحمام، ترحب الأم بذلك، تطهو سما الكشك كوجبة ليلية يعززونها بشقف من الخبز المحمص، يتضاعف الدفء في تلك الليلة، ينام الأطفال مبتسمين، تقول الأم لابنتها: كلما توفر لي مازوت للحمام جيبي ولادك وتعي تحمموا، تشكرها سما بحرارة، لكنها تردف قائلة: مصروف المواصلات مرهق وتأمينها أصعب، أتمنى أن نقدر على تكرار المجيء! تعتذر سما عن تقصيرها تجاه أمها الوحيدة، وتعتذر الأم عن عجزها عن دعم ابنتها المسؤولة عن عائلة كاملة تستنزف كل طاقتها وقدراتها المادية والجسدية والنفسية ليستمروا بالبقاء. في ظل كل هذا الغياب لأساسيات الحياة، يغرق الناس في حالة من الاستنزاف لقواهم وقدرتهم على التواصل والتوازن، باتت الحاجات اليومية كابوسا ضاغطا وقاهرا، ومن المؤلم أن الأطفال يعلنون وبصراحة بالغة: نريد أن نرحل إلى بلاد تتوفر فيها الكهرباء! ويتساءلون ببعض الأمل، هل ستضيف منظمة الهجرة واللاجئين بندا إضافيا لقبول طلبات اللجوء وهو انعدام الكهرباء مما يعني انعدام الحياة، فيفوزون بفرصة للعيش على حدود الإنسانية.
اعتاد مصطفى في صغره على تناول وجبة سمك أسبوعياً. كان الباعة يجلبون أنواع مختلفة طازجة إلى ريف إدلب، حيث قضى طفولته إلى أن أصبح شاباً. يقول: “أبي يحب السمك وأنا أيضاً. لم تكن الأسعار تدعو إلى القلق في تلك الفترة”. يقيم مصطفى في دمشق منذ سنوات، واظب على عادة شراء السمك مرة كل عدة أشهر، لكن مع تضخم الأسعار في السنوات الأخيرة، بالكاد يشتري كيلوغرامين في السنة. يضيف الطالب الجامعي البالغ من العمر أربع وعشرين عاماً لـ”صالون سوريا”: “مرت سنتان دون أن أتذوق طعم السمك، لا أفكر كثيراً بنوع الطعام، المهم أن يكون رخيص الثمن”. ارتفعت أسعار الأسماك المنتجة محلياً بأنواعها في عام 2021. في أسواق محافظة اللاذقية بلغ سعر كيلو سمك (البوري) نحو 15 ألف ل.س (أربعة دولارات أمريكية)، و(لقز حفش) بين 20 إلى 25 ألف ل.س، و(الفريدي) بين 25 و30 ألف ل.س، و(الأجاج بلدي) 30 ألف ل.س (8.5 دولار)، بينما وصل سعر مبيع بعض الأنواع، مثل: (لقز رملي) إلى 110 آلاف ل.س (31 دولاراً) للكيلو الواحد. تضاعف سعر سمك (البلميدا) ثلاث مرات تقريباً مرتفعاً من ثلاثة آلاف ل.س إلى عشرة آلاف ل.س للكيلو الواحد، ويعدّ من الأنواع الشعبية الرائجة بين المواطنين/ات، وبخاصة في محافظات الساحل السوري لانخفاض ثمنه بالمقارنة مع الأسماك الأخرى. وبالنسبة لأسواق دمشق يباع كيلو سمك (أجاج) بـ 34 ألف ل.س، وسمك (لقز) بسعر 27 ألف ل.س (7.7 دولار)؛ أما سمك (سلمون: ترويت) فيباع بسعر 15 ألف ل.س لكل كيلو، وسمك (المشط) بـين 12 و16 ألف ل.س. وسمك (البوري) بـ 15 ألف ل.س. وسمك (زبيدي) بـ 40 ألف ل.س (11 دولاراً أمريكياً). وتختلف الأسعار حسب نوع السمك ومصدره بحرياً أو نهرياً. ويبلغ نصيب الفرد من الأسماك المنتجة محلياً في سورية أقل من كيلوغرام واحد سنوياً، بحسب تصريحات لمسؤولين في “الهيئة العامة للثروة السمكية”، وهي الأدنى عربياً وعالمياً قياساً بالمعدل العالمي (20 كيلو غراماً)، بينما وصل نصيب الفرد في مصر إلى 19 كيلو غراماً تقريباً، بحسب تصريح رئيس “الهيئة العامة للثروة السمكية” المصرية خالد السيد في نيسان/أبريل 2020، طبقاً لموقع الهيئة الإلكتروني. وبحسب بيانات “المكتب المركزي للإحصاء” تراجع الإنتاج الكلي للصيد البحري والنهري في سورية من 18 ألف طن في 2007 إلى أقل من خمسة آلاف طن في 2019 (بيانات أولية). يشتهي حسن (رب أسرة يقيم في منطقة دمر بدمشق) أحياناً شراء أي نوع من السمك، وعلى الرغم من أن سعر بعض الأنواع منخفض، لكنه لا يثق بمصدرها؛ إذ تبدو من ملمسها غير طازجة إطلاقاً، كما أن الأسماك ليست متوفرة بشكل دائم، ولها أماكن بيع محددة في مركز مدينة دمشق، مثل: باب سريجة وشارع الثورة. يقول حسن: “إن سعر ثلاثة كيلو غرامات من الأنواع اللذيذة التي تصلح للشوي يتجاوز 100 ألف ل.س (28.5 دولار). لا يمكنني في الحقيقة تحمل كلفة وجبة تشبع عائلتي ليوم واحد فقط”. وشملت تقلبات الأسعار اللحوم الحمراء والبيضاء معاً، حيث وصل سعر كيلو الفروج في أسواق دمشق إلى ثمانية آلاف ل.س (دولاران أمريكيان)، وسعر كيلو لحم الأغنام إلى 30 ألف ل.س (8.5 دولار)، ولحم العجل إلى 24 ألف ل.س (سبعة دولارات)، ما حرم قسماً كبيراً، وبخاصة الفئات الهشة في المجتمع السوري من البروتين الحيواني. وتعتمد سورية في إنتاج الأسماك على ثلاثة مصادر رئيسة: أولها الصيد البحري، وثانيها الصيد الداخلي في المياه العذبة، والمصدر الثالث هو المزارع السمكية عن طريق الاستزراع السمكي. بحسب كلام مدير عام “الهيئة العامة للثروة السمكية” السابق محمد زين الدين لـصحيفة “الثورة” المحلية في 2012. ويذكر تقرير “حالة الموارد السمكية وتربية الأحياء المائية في العالم 2020” الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو” أن الإنتاج العالمي للأسماك بلغ حوالي 179 مليون طن في عام 2018، واستعمل 156 مليون طن من المجموع الكلي للاستهلاك البشري، ما يساوي معدل إمداد سنوي بحدود 20.5 كلغ للفرد الواحد. وتشير “الفاو” في تقريرها “حالة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في العالم لعام 2018” إلى أن السمك يمثّل نحو 17 في المائة من البروتين الحيواني المستهلك بشرياً، حيث يوفر نحو 20 في المائة من البروتين الحيواني الذي يحتاجه أكثر من ثلاثة مليارات إنسان على وجه الكرة الأرضية، ويمثل السمك مصدراً مغذياً جداً، ويساعد بشكل خاص على مواجهة نقص المغذيات الدقيقة. وتعاني الثروة السمكية في سورية من جملة تحديات أبرزها: الصيد الجائر واستخدام وسائل الصيد غير المشروعة، مثل: الصعق الكهربائي واستعمال السموم والتفجير بالديناميت. كما يواجه الصيادون ارتفاع تكاليف الإنتاج وغياب الدعم بما يمكنهم من تطوير مراكبهم وأدواتهم؛ إلى جانب جفاف المخازن المائية للمسطحات المائية، وعزوف بعض المربين عن تربية الأسماك لارتفاع التكاليف، بحسب تصريحات إعلامية سابقة لمسؤولين في الثروة السمكية وصيادين. ومنحت “وزارة النقل” في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 أول ترخيص لإنشاء مزرعة سمكية عائمة على شاطئ جبلة بريف اللاذقية، ويمتد المشروع على مساحة 18 دونماً برية، و15 دونماً بحرية، بطاقة إنتاجية تصل إلى 400 طن سنوياً.
بالكاد خرجت من فمه عبارة “مسا الخير”، بينما كانت الابتسامة هاربة من وجهه. هكذا كان حال “أحمد” عندما أتى الى لقاء أصدقاء له في مقهى شعبي على أطراف دمشق، رغم أنه معروف بطبعه المرح ونكاته الظريف.
الوجوم الطاغي على وجه الطالب الجامعي، أثار الفضول لدى أصدقائه لمعرفة ما به، وما الذي قلب حاله، إذ بادروا بعد جلوسه على الكرسي مباشرة إلى توجيه الأسئلة إليه لمعرفة ما به ومنها: “شبك يا رجل؟، حدا معكر مزاجك؟، حدا زعجك ؟ رحلك شي؟، حدا من العيلة صرلوا شي؟، بدك شي؟، روّق يا زلمة. انسى، صحتك بالدنيا”.
صمت الشاب وعدم رده على الأسئلة، أثار فضول أصدقائه أكثر لمعرفة ما به، ومع إلحاحهم عليه، رد “أحمد” بالقول، “الحياة صارت كتير زفت. كتير مقرفة. يا جماعة حتى الحمّام (الاستحمام) صار بالزور. صار حلما”، ويضيف: “مي مافي، وإذ جبت مي مافي كهربا ولا مازوت ولا كاز ولا غاز، وشلون الواحد بدو يتحمّم”، ويتابع: “يا جماعة صرّلي تلت (ثلاثة) أسابيع بلا حمّام. ريحتي طلعة وصرت استحي من الناس”.
أحد الجالسين على الطاولة، بادر للتخفيف عنه بالقول، “روّق يا زلمة. كلو متلك. صحتك بالدنيا (…) بدك تنسى الحمّام صار رفاهية ممنوعة علينا. نيالك يلي عم تلحق تشرب مي، نحنا مية الشرب مو لحقانيين، وبمية يا ويلاه عم نعبّي كم قنينة”.
قائمة طويلة
“الاستحمام” الذي يبدو أنه أُضيف إلى قائمة أساسيات كثيرة خرجت من استهلاك وعادات الدمشقيين، ومنها “الإنارة الجيدة، وكأس ماء بارد في لهيب الصيف، والشعور بالدفئ في شتاء برده ينخر العظام، وطبخة محترمة، وملئ بطونهم بالطعام، ومشاهدة حلقة من مسلسل تلفزيوني، وكوي بنطال أو قميص، وركوب تكسي ووو”. وتشير تصريحات الحكومة إلى أنها كانت تحسدهم عليها وتمنّ عليهم بها على اعتبار أنها “رفاهيات”، سبب خروجه الرئيسي هو حصول أزمة حادة في توفير المياه للمنازل عبر الشبكة الحكومية، وزياد طين معاناة الأهالي بلة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي في معظم أحياء المدينة لفترة طويلة تصل ما بين 6 – 10 ساعات (حسب تصنيف الحي وطبيعة سكانه)، ووصله لساعة يتخللها عدة فترات انقطاع، تمتد كل واحدة ما بين 5 – 10 دقائق، وذلك في بلد كانت المياه فيه قبل عام 2011 تصل إلى المنازل على مدار اليوم ، وتلبية الطلب على الكهرباء فيه عند مستوى 97 في المائة، لتنخفض حاليا إلى مستويات غير مسبوقة وتصل إلى نحو 15 في المائة، بحسب خبراء.
الحكومة التي دأبت على تحميل العقوبات الغربية مسؤولية أزمات توفر مقومات العيش الأساسية للمواطن الذي صارت حياته كلها أزمات “خبز، بنزين، مازوت، كهرباء، غاز منزلي، مياه، دواء، مواصلات، متابعة الدراسة، ثلج وووو”، أعلنت منذ فترة بعيدة عن برنامج تقنين للمياه في دمشق وريفها، بحيث تضخها إلى المنازل في أحياء العاصمة بشكل يومي لمدة أربع ساعات تختلف فترتها من حي لأخر، على حين يتحدث سكان من ريف دمشق بأن المياه لا تصل إلى منازلهم إلا يوم واحد أو يومين في الأسبوع ولمدة ساعتين أو ثلاثة، وتحل الطامة الكبرى على الأهالي إن كانت الكهرباء التي لا يرونها إلا ساعة واحدة كل يومين أو ثلاثة مقطوعة في فترة ضخ المياه.
شكوى بحرقة
“أم سمير” ربة منزل ولديها بنت وطفلان، تشكو بحرقة من عدم وصول المياه إلى منزلها في الطابق الثالث من البناء الذي تسكن فيه بأحد أحياء دمشق الجنوبية، وتقول بحسرة لـ”صالون سوريا”: “احيانا بتجي الكهربا نص ساعة لما بيكون دورنا بالمي، و(حينها) الجيران بتتسابق على تشغيل الميتورات (مضخات المياه)، لتعبئة الخزانات ونحنا بنشغل الميتور بس ما بتطلع المي لعنا لأنو ضعيفة، ومنروح نترجى هاد الجار وهادك الجار لنعبي من عندون كم بيدون للشرب والطبخ ودورة المياه”.
“المصيبة أنو مع قلة الحمام صارت الأولاد تهرش بحالها، وتحك برأسها وتنق بدها تتحمم” على حد تعبير ربة المنزل التي تضيف، “ما عندي قدرة أعبي كل يوم من الصهاريج (500 ليتر بـ5 آلاف ليرة)، وكل أسبوع أو أسبوعين ببعت واحد على بيت عمو وواحد على خالتو أسمو ساكنين بالأرضي بتجي المي عندون والكهربا أحسن شوي من عنا، وبتحمموا على الماشي، وأنا بدبر راسي كمان عند خواتي”.
الحال عند “فريدة” وهي أم لأربعة أطفال، وتعيش في حي يقع غرب العاصمة، أفضل نوعا ما، ذلك أنها تقطن في الطابق الأرضي وتتمكن “بطلوع الروح” في فترة ضخ المياه من الشبكة الرئيسية إلى المنازل من تعبئة حوالي نصف الخزان، لكنها تشكو لـ”صالون سوريا” من عدم تمكن أفراد العائلة من الاستحمام في يوم واحد وتقول، “مازوت ما عنا لنحمي الحمّام، وبنص ساعة كهربا ما بتلحق المي تسخن ودوبا تفتر فتور، وبحمّم كل يوم واحد بسطل مي، والله وكيلك طول (فترة) الحمّام الولد يصيح من البرد، وبس بدو يخلّص ويروح يلف حالوا بحرام. يعني الواحد شو بدو يعمل بعين الله”.
اربع خناقات
“أم وليد” لم تجد حرجا في الإفصاح لـ”صالون سوريا” عما يحدث في منزلها بسبب قلة المياه وصعوبة الاستحمام، وتقول “كل يوم عم تصير أكتر من 4 خناقات بالبيت والصياح بيصل للسما على دور الحمّام (الاستحمام)، بين الأولاد وبينهم وبين أبوهم، كلون بدون يتحمّموا بنفس اليوم، وأنا بقول للكل: هيك ما بيمشي الحال لا في مي تكفي ولا في كهربا ولا مازوت ولا غاز نسخن المي”، وتضيف “واحد بتحجج أنو بدو يروح على الجامعة، ووحده بقول بدها تروح لعند رفقاتها البنات، والزلمة بقول خلو شوية مي مشان الوضوء، وبالزور لحتى يهدى الوضع، ويتحمّم صاحب النصيب”.
الوضع السابق لا ينسحب على كافة السوريين، الذين تؤكد منظمات دولية وأبحاث ودراسات أن 94 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، فالنسبة المتبقية تتكون من الأغنياء القدامى و”أمراء الحرب” و”أثرياء الحرب” و”حديثي النعمة” و”المسؤولين الفاسدين”، وهؤلاء من البديهي أنهم يمتلكون مولدات كهربائية ضخمة وبعضها وضع أمام الأبنية في الشوارع لأنه لا مجال لوضعها داخل المنزل بسبب ضخامتها، وهم يمتلكون النفوذ الكافي للحصول على الوقود اللازم لتشغيلها، وبالتالي الحصول على كميات الماء التي يريدونها في ساعات الضخ وتسخين المياه من خلالها والاستحمام ببرميل وليس بسطل ماء، هذا إن لم يذهبوا إلى حمامات السوق التي تصل فيها أجرة الاستحمام للشخص الواحد ما بين 10 – 15 ألف ليرة.