التشكيلية السوريّة يارا عيسى تستلهم الألم السوري

التشكيلية السوريّة يارا عيسى تستلهم الألم السوري

تعملُ التشكيلية السوريّة يارا عيسى (1989) من وحي الألم السوريّ، إنّها تُعيد إنتاج ذاكرة الحياة الضاربة بالحرب واللجوء، تُعيدها بصيغة إنسانيّة، كان لها أثر كبير على حياتها الشخصيّة، كما شعرنا من خلال حديثنا معها. فهي المُتخرجة من كلية الفنون الجميلة عام (2016) جامعة دمشق، والتي عاشت الأحداث السّورية بشكل جوهريّ عبر بوابة العمل الإغاثيّ الإنسانيّ، حتى أواخر العام 2018. واليوم في باريس ضجّت ذاكرتها بآلاف الصور عن سوريا وعن السّوريين وعن الأحداث الرهيبة التي عاشوها، والتي كانت هي جزءاً منها، لم يكن ثمّة طريقة لفهمها ومواجهتها على ما يبدو سوى بالفن.

بالنسبة لـيارا التي تجمّع تلك المرايا المكسورة في داخلها، هناك اقتراحات جديدة تقدمها للعالم، وهذا الحوار فيه محاولة مشتركة بيننا وبينها لقراءة أعمالها ومواكبة تجربتها التي تحضّر فيها حالياً لإطلاق أعمال فنية ضمن معرض مقبل في فرنسا:

هل تلخّصين لنا ما هي هذه التجربة؟ متى سوف تكتمل؟ ومتى من المحتمل أن تظهر للضوء؟ هل سيكون لها امتدادات على مستوى الأسلوب ومعالجة الفكرة؟

يارا: اسم التجربة التي أعمل عليها حالياً هي “الأزرق لم يعد آمناً بعد الآن” (The Blue is not save any more). من المحتمل أن تكتمل خلال هذا العام وأن تظهر قريباً للضوء. بعد البدء ها هنا، أشعر أنّني أكتشف عوالمَ وتقنيات أخرى، وبالتالي أعتقد أنّ هذه التجربة بالنسبة لي ماتزال غنية بالمساحات المليئة بالحرية على مستوى الفكرة.

شعرت أنّ الجسد في معظم أعمالك هنا يعيش في ضجيج مشّوش من التفاصيل، هناك مجموعة من الأجساد؛ هي لأشخاص بأعمار متفاوتة، على وجه التحديد: في أحد أعمالك يبدو بأنهم قد سجوا على بحر أو سماء أو أزرق ما تتركينه أمامنا لاحتمالات إنسانية تجعلنا نرى الأجساد كأنها ذكرى، ترى من هؤلاء؟ ولماذا يجتمعون بهذا الحزن؟ 

يارا: السّماء والبحر هما فسحتان مليئتان بالتناقضات؛ الأمل والموت، الحبّ والحرب، القُرب والبُعد، المنفى والوطن، الأمان والخوف، الوجود والعدم. كلّها تناقضات جمعتها تلك المساحات الزرقاء والتي منذ أن بدأت الحرب في سوريا عام (2011)، تحوّلت تلك المساحة إلى فضاءات غير آمنة للسوريين. اكتظت السّماء بالدخان، والبحر قام بابتلاع المئات. وصرنا نستطيع استشعار الخطر في أيّة جملة تتضمن كلمات كالبحر والسّماء، على الرغم من أن تلك المساحات الزرقاء كانت مدعاةً للسلام. أمّا فيما يتعلق بأعمار الشخوص التي تقدمها أغلب الأعمال، فقد حاولت أن أنقل جميع الفئات العمريّة من الأمان إلى العدم، فالحرب في مساحاتها لم ترحم حتّى الأطفال أو الرضّع.

إذاً، نحن أمام مواجهة فنيّة لأمكنةٍ غيّرت إلى حدٍّ ما دلالاتها بسبب الحرب في سوريا، هل نعتبر أنّك تقترحين المواجهة مع الذاكرة من أجل التحرّر من الألم الجمعيّ أم ماذا؟

يارا: يمكنك أن تعتبر هذه الأعمال توثيقاً للذاكرةِ العاطفيّةِ ضمن تشكيلاتٍ لونيّة وسياق عمل فنيّ مُتصل يسمح لنا بالتخيل والمشاهدة العاطفية عن بعد. وكأنّنا ننظر من السّماء إلى البحر، أو من البحر إلى السماء لنجد أنفسنا نخوض تلك التجربة العاطفيّة مع أبطال هذه الأعمال الذين لم يمتلكوا كثيراً من الخيارات؛ فإمّا الموت بفعل القنابل تحت السّماء أو الغرق في البحر طمعاً بالنجاة. إنّ هذه الشخوص والإيحاءات التعبيريّة؛ سواء في ملامح الوجوه أو في تعبيراتِ الجسد، ما هي إلا محاولة لإيصال التناقضات العاطفيّة والتي كوّنت بدورها هذا المزيج بين الحزن، والفرح، والأمل، والخيبة! سوف نرى هذه الحالات العاطفيّة تتوارى وتظهر لنا على اللوحة من خلال تداخل الألوان والخطوط، وانتهاكها في بعض الأحيان خصوصية الأزرق لتعطيه طاقة انفعاليّة وردَّ فعل قاسياً وعاطفياً، وانعكاسُ ردّ الفعل على الجمهور كما المرايا المكسورة المُعاد تشكيلها إذاً هو توثيق وانعكاس لعواطفنا نحن من عانينا من الحرب.

لاحظنا تقارباً في تكون بعض الأعمال لجهة التشكيل الأول لهويتها، والذي ما يلبث أن يقدم ذلك التشكيل انزياحاً لولادات غريبة في ذات العمل، إلى أيّة درجة نستطيع القول إنك تعودين لأعمالك تبعاً لظروف ما، من أجل وضع لمسة أخرى عليها.. ومتى تشعرين أن العمل قد تشكل تماماً؟

يارا: التقارب هو بسبب وحدة الحالة العاطفيّة التي تجمع هذه الأعمال، إنّها حالات عاطفية مستوحاة من معاناتنا كأناس من الحرب، ومستوحاة من تجربتي الشخصيّة على اعتبار أنّني بقيت في سوريا حتى منتصف عام (2019)، وقد كُنت على تماس مباشر مع الأحداث والنزاعات على الأرض، أضف إلى أن ذلك ينبع -أيضاً من كوني سورية في الدرجة الأولى وعملتُ مع المنظمات الحقوقيّة والإنسانيّة هناك. بالنسبة لنضوج العمل الفني، أعتقد أنّه يتطلب وقتاً وممارسة طويلة الأمد، وتلك الممارسة توحّد بين الحالة العاطفية من جهة، وحالة العمل من جهة أخرى، وفي كلّ مرة؛ دائماً أجد بأن هناك نتائج أفضل.

ما المقصود “بأنك تجدين أن هناك دائماً نتائج أفضل في كل مرة”! هل تعنين مثلاً التعديلات التي تشعرين أنها لازمة لتكون النتيجة أفضل في لوحة جديدة لنفس الموضوعة، أم القصد هو أنه في كلّ عمل جديد تشعرين بأنّ نتيجة الفكر، ككل، أفضل، بما أنّ الموضوع مشترك في أفكار اللوحات حسب ما رأينا؟ 

يارا: الفن بالنسبة لي عمل تراكميّ، لا يوجد هناك نتيجة مُثلى، لأن العمل الفنيّ يسعى دائماً للكمال، والفنان يفني حياته في محاولة إنتاج عمل فنيّ أفضل أو أنضج.. إلخ، ليرتقي إلى الكمال، وهذه العملية هي من تُعطي الفنّ قيمته الخلّاقة، والإبداع الذي يرافق هذه المحاولات هو من يمنح هذه الأعمال رونقها الخاص، لأنّ هذه العملية تمنح الفنان خصوصيته وبصمته التي استمدها من هذه التجربة. أسعى مع كلّ عمل جديد إلى الارتقاء بالعمل والحصول على نتيجة أفضل لذلك أبذل في كلّ مرة جهداً مضاعفاً. وكلّ مرّة أشعر بأن العمل الفنيّ يأخذني إلى أماكن أعمق، لذلك أشعر دائماً أن هناك نتيجة أفضل. أتوقف عندما يجب أن أتوقف وأنهي العمل ليس لأنّه وصل لأفضل شكل، بل لأن هذه الخطوة انتهت.

لاحظنا أن هناك كائنات غريبة تشبه الأسماك أو لها أجساد حيوانات تمشي على أربع قوائم، وهي متداخلة بطريقة سوريالية مع بعضها في أحد أعمالك، هل يمكن أن يشرح الفنان فكرته إلى جانب عمله بجملة أو جملتين؟ هل هي ضرورة برأيك ولماذا؟ 

يارا: بالطبع، أعتقدأنّها ليست ضرورة، ولكن، هذا يعود إلى خصوصيّة العمل الفنيّة والهدف منه، لنبدأ من توقيع الفنان على اللّوحة، ووضعه لتاريخ العمل، وهذا يفيد في تحديد الحقبة الزمنيّة التي أتمّ بها الفنان هذا العمل. أو قد نرى أحياناً العديد من الأعمال التي تحمل عناوين تدلّ على الأحداث التي ترافقها، مثل تلك الأعمال الملحميّة للمعارك عبر التاريخ، أو تلك الأعمال التي تهدف إلى تسليط الضوء على قضايا إنسانية… إلخ، فخصوصية العمل الفني تختلف وأهدافه قد تكون مختلفة. برأيي الشخصي لا أفضّل الأعمال التي توضع بجانبها ملاحظات، أحبّ التأمل وأن أعيش تجربتي الشخصية مع العمل، دون أن ألجأ إلى الملاحظات المنوطة بجانبه، مع الأخذ بعين الاعتبار تجربة الفنان والخلاصة التي يطرحها أمامنا.

إذاً أنت تراهنين على المتلقي وعلى ثقافته في فهم الأعمال الفنية والتواصل معها وتتركين له حرية فهم العمل، ترى كيف تفكرين بهذا الجانب عندما ما تختارين موضوعاً راهناً لازال يتغير مثل الحدث السوريّ؛ خصوصاً وأنّك تتوجهين لمجتمع متنوع مثل المجتمع الفرنسي؟

يارا: ضمن هذه التجربة تحديداً أعتمد بصورة عامة على ذاكرة المتلقي، على وجه الخصوص المتلقي الذي لديه ذاكرة لجوء أو حرب، أو على أشخاص تهتم إنسانيتهم بهذه القضايا، أو لربما من يستطيع أن يشعر بهذه الانفعالات اللونية على اللوحة. أما فيما يتعلق بالأعمال الفنية القادمة؛ لربما سوف أتجه إلى مفاهيم أكثر شمولية كالخوف والدهشة والألم كي أستطيع أن أصل إلى العالم في كل مكان. لقد عانينا فعلياً من الحرب، ولكن الكوارث والحروب والنزاعات بكلّ أنواعها موجودة في كلّ مكان، لربما المفاهيم الأكثر شمولية هي الأقوى والأبقى والأكثر تأثيراً ولها شعور جمعيّ؛ تخاطب أكبر شريحة ممكنة من الناس، في المحصلة يرغب الفنان أن يعبّر عن ذاته!

*الصور المرفقة بعدسة المصور: أنس علي

سأختار المضحك فقط

سأختار المضحك فقط

لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي تلي الحرب، لا بد لمواقف مشابهة من أن تحدث، أو بمعنى أدق، من أن تتوالد. وهل ثمة ما هو أحق من جراحنا الشخصية كي نضحك عليه!

بعد مضي نحو ثلاثة عشر عامًا على الحرب السورية، بكل ما جرّته على شعبها من تشرد وفقر واغتراب، لا تزال تتجلى إلى اليوم، مخلّفات تلك الأزمة بأشكالٍ عدّة. سأختار منها المضحك فقط، تخفيفًا عن الجميع، تاركةً لغيري الحديث عن القهر والأسى. علمًا أن ما سيُذكر مبكي في جوهره، على غرار ما قاله المتنبي: ” لا تحسبنّ رقصي بينكم طربًا، فالطير يرقص مذبوحًا من شدة الألمِ”.

دَعَوات مبتكرة

لا غريب أن المنتَج الأساس في الحروب كلها، مشردون يجوبون الطرقات ويفترشونها. إما ضاقت بهم السبل، أو استسهالًا، لا فرق، إلا أنهم يلجؤون إلى التسول طريقةً يكسبون بها لقمة العيش، ما جعل التمييز بين المحتاج وغيره أمرًا صعبًا. وفي غياب وجود إحصائيات رسمية لأعداد المتسولين في سورية، نعتمد على “حسّنا العالي” في تقدير العدد الآخذ في ازدياد، وفي كشف المتسول المحق من المتسول الكذّاب. ما أثار اهتمامي أكثر من العدد المهول، هو الأسلوب المبتكر للفت الانتباه. بات المتسول على علمٍ بدواخلك وأمنياتك، فهو في النهاية من الشعب، وإلى الشعب يعود. فإذ به يلعب على هذا الجانب، يدغدغ فيك رغباتك الدفينة وأسرارك الخفية التي لا تبوح بها حتى لنفسك.

منذ أيام، اقترب مني أحد أفراد هذه الجماعة، وأصرُّ على تسميتهم جماعة، لأني أكاد أجزم بوجود تنظيم سري لهم، يجتمعون ويتباحثون في شؤون المواطن ونقاط ضعفه والكلمات المفتاحية التي تحرك مشاعره. اقترب وقال: “الله يسفّرك”! نظرت إليه بذهول، كيف تحولت تلك الدعوات من “الله يخليلك أهلك” وما إلى ذلك، إلى “الله يسفّرك”!

مرة أخرى قالت لي إحداهن: “الله يبعتلك نصيبك عَ ألمانيا أو عَ دبي” ما كان مني سوى أن أضحك أمام هذه الابتزازات العاطفية. وللصدفة كان صديقي المغترب معي، وحين جاء دوره في الدعوات، لم تفلح معه دعوة “الله يسفّرك” التي سبق وتحققت. واعترف لها، لسوء حظه، أنه في زيارة. طمعت الأخت بمال المغترب الذي كان، لكنها لم تحصّل في النهاية سوى خمسة آلاف ليرة سورية، متأففة أن ما نالته أقل من نصف دولار!

زواج بيرفع الراس

من تداعيات الحروب أيضا، كثرة الزيجات. ولكن هل كل الزيجات زيجات! اختلفت معايير الزوج المثالي مع تفاقم الأزمة. لدرجة أصبحت فيها المزية الأساسية للزوج، اغترابه. وكلما كانت سنوات اغترابه أكثر، كلما كان أفضل، إذ إنه سيحمل جنسية البلد الحاضن، أي على مبدأ النبيذ المعتق.

الاسم لا يهم، وكذلك العمر والحالة الاجتماعية والمهنة، هذه أمور ثانوية نسأل عنها لاحقًا، لدرجة بتنا نقول: “زوّجنا البنت ع ألمانيا” أو “الشب كتير أكابر، ما عاد نذكر من أي عيلة، بس عَ كندا”.

ليت الأمور توقفت عند هذا الحد. صار معيار تقييم نجاح الأنثى في العلاقات، المسافة التي تقطعها كي تلتقي بالزوج. وكأننا في ماراثون، الفائزة ليست الأسرع، إذ ليس من خط نهاية نصل إليه ونقطع الشريط، بل من تبتعد أكثر. وبذلك، توفَّر للفتيات أسلوب مفاخرة جديد، إذ قالت لي إحداهن: “والله إجاني عريس ع هولندا، حركيلنا حالك، مانك شاطرة”.

ومنذ ذلك الوقت، وأنا أبحث عن الحركات التي فعلتها تلك المحظوظات المسافرات القاطعات مسافات، دون جدوى. انتسبت مؤخرًا إلى نادي رياضي، علّني أزيد من لياقتي وأدخل السباق. لكنّي أخاف أن أتحمس كعادتي، فأستمر في الركض وأصل إلى القطب الجنوبي. لا أعتقد أن ثمة مغتربين هناك!

الألمانية هي اللغة الأم

سألت صديقي عن زميلٍ لنا إن كان يتعلّم الألمانية حقًا! أجابني: “شو الغريب؟ أبو حسن الخضرجي عنا بالحارة عم يتعلم ألماني”. أينما تحركت وكيفما التفتت، في المقهى والشارع والسينما وحتى في أثناء نومك، هناك من يتعلم الألمانية. باتت لغة العصر. قد يبدو الأمر مبهجًا ومدعاة فخر. لغة جديدة تعني ثقافة جديدة. لكن الأمر ليس كذلك أبدًا.

حين كنت في معهد اللغة الألمانية منذ سنتين، اقتصر تعلّم بعضهن اللغة على الأساسيات، بحجة أن “لَمْ الشمل” لا يتطلّب أعلى من المستوى الأدنى! تفاجأت بجرأة بعضهن. اللغة صعبة وليست أمرًا يؤخذ استسهالًا. ستقولون لي: تعلمتِ اللغة إذًا!

وهنا موضوع آخر، أصبح تعلُّم اللغة محط شك، وخصوصا بالنسبة للفتاة. إذ يوحي بوجود عريس محتمَل، أما الدراسة سعيًا خلف فرصةٍ ما، لهو أمر مستبعد! يبدو أنه مستبعد حقًا. دليل أنني في سوريا الآن أكتب ما أكتبه وبلغتي الأم التي أحب.

اقتصاد ملون جديد

مع انهيار العملة السورية، انهار الشعب والبلد. بينما ازدهر المغترب وأبو المغترب وأم المغترب وأخوات المغترب! غدت حياة كل هؤلاء معلّقة إلى سعر الأحمر والأخضر. يأملون أن ترتفع قيمته دون اكتراث لقيمة الليرة، إضافة إلى أن هبوطه لن يسهم في خفض أسعار السلع التي تعرف طريقًا واحدًا فقط، لا تسلك سواه، صعودًا وبسرعة قياسية.

أُضيف إلى طابور البنزين والخبز، وصفد البيض في المؤسسة الاستهلاكية، طابورٌ آخر، هو طابور الحوالات المالية، عدا عن تلك الطوابير الخامسة المخفية في الأزقة وعتمة الطرقات.

ولدت كذلك شيفرة جديدة بين أبناء الشعب، إذ نقول: “بدك تبيع أو تشتري، بندورة ولا خيار؟” في إشارة إلى العملات الصعبة. حتى انقلب الأمر الذي بدأ مزحة، أزمة وجودية. فالخيار والبندورة في الواقع، يحتاجان إلى قرض كي تبتاعهما!

تحويل الأزمات إلى نكات

يقال إنه متى كَثُر الكلام المضحك وقت الكوارث فإنها كارثة أكبر. لكن ما الذي نملكه أمام هذه الكوميديا البشرية سوى أن نضحك! هل تنفع الشكوى! إذًا لا بد من تحويل أزماتنا إلى نكات، والأكثر من ذلك توثيقها. فهي إرثنا المتجدد والمتحوّل بتحولنا. قد تكون هذه المواقف المضحكة المبكية، في جزءٍ منها، من يوميات المواطن السوري عامةً، ويومياتي أنا، ابنة اللاذقية خاصةً، أو لنقل ابنة “الحفرة السعيدة” كما يسميها أحد مثقفي اللاذقية. حتى مثقفونا باتوا يضحَكون ويُضحِكون. “الحفرة السعيدة”! يبدو أننا في حفرة فعلًا، ضحكنا أم بكينا، سيرتد الصدى ويصم آذاننا عن سماع أصوات العالم، ويحجب ضوضاءنا عنه.

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته – كما يروي هو – بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل من الخطيئة محور حياتنا. والثانية اقتناعه أن القضية الأساسية في التغيير الحقيقي، هي تغيير العقليات لا الأنظمة والسياسات، والثالثة تتعلق بالموقف من المرأة؛ لأن الموقف منها يتعلق بالموقف من العالم بأسره، والرابعة متعلقة بتعرُّفه على فرويد والتحليل النفسي، والخامسة اكتشافه تزييفات الجابري حيال موقفه من إخوان الصفا، والسادسة متعلقة بموقفه من الحرب في سورية ومن صمته حيالها، فهو لم يصمت ولكنه أصيب بخيبة أمل بأن الربيع العربي الذي استبشر به خيراً في البداية، كان بمثابة ردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة، والغرق في مستنقع القرون الوسطى.( طرابيشي، المحطات الست في حياة جورج طرابيشي، موقع الجمهورية نت).   

طرابيشي من مواليد حلب (١٩١٦-١٩٩٣). ويحمل الإجازة باللغة العربية، وماجستير في التربية، وقد عمل مديراً لإذاعة دمشق، بُعيد فض الوحدة بين سورية ومصر، وكذلك عمل رئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية في بيروت، لكنه اضطر لترك لبنان بسبب الحرب الأهلية هناك، وانتقل إلى فرنسا وعمل في مجلة الوحدة، وتفرَّغ بالكلية للعمل الفكري مؤلفاً ومترجماً لعشرات الكتب الفلسفية والأدبية والتراثية.

تبنى طرابيشي في كتابه ” مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ” فكرة احتضان الحضارة العربية للفلسفة، حيث ازدهرت الفلسفة في ظل هذه الحضارة، عكس ما أشاعه بعض الفكرين العرب – أمثال: أحمد أمين وعبد الرحمن بدوي والجابري- من أن هذا الاحتضان للفلسفة كان محصوراً بالغرب، وأن الشرق العربي كان محروماً من نفحات الفلسفة وإبداعاتها. (طرابيشي، مصائر الفلسفة، 1998، ص7 وما بعدها) فقلب معادلة التقدم والتأخر، وأعاد الأمور، بل الحقائق إلى نصابها، دون تحريفات الإيديولوجيا وتزييفات روَّادها من الغرب والشرق. ومع ذلك فقد أنكر وجود فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، وهي إن وجت فهي ” فلسفة مترجمة، أو مولّدة بوساطة الترجمة. يصدق ذلك على توماوية يوسف كرم، ووجودية عبد الرحمن بدوي، وجوانية عثمان أمين…( طرابيشي، 206، هرطقات1، ص59).

لقد عمل طرابيشي على ترجمة أهم مؤلفات ماركس ولينين وفرويد وهيجل وسارتر وجارودي وسيمون دي بوفوار، ورغم أن تلك الترجمات لم تكن عن لغتها الأم، إلا أنه كان لها دور مهم في نشر الثقافة والفلسفة الأوربية في الأوساط العربية، وقد انعكست تلك الترجمات على أعمال طرابيشي، وتأثر بمدرسة التحليل النفسي، حيث طبق منهج التحليل النفسي على الرواية العربية، ويعود له الفضل في تناول الرواية العربية وتحليلها تحليلاً نفسياً، وإثرائها بالبعد الفلسفي الذي انعكس على كل كتاباته. ولا نتحدث هنا عن الترجمات، بل عن أعماله الخالصة ككتابه شرق وغرب، وعقدة أوديب، ولعبة الحلم والواقع، والأدب من الداخل…الخ.

أما فيما يتعلق بالمسألة القومية، فقد تناولها طرابيشي بتأثير من الفلسفة الماركسية، وكان يغلب عليه في بداياته الفكرية الطابع الثوري والماركسي، قبل أن يتحول إلى الاتجاه الليبرالي الديمقراطي، وقد ألَف في هذا الشأن: الماركسية والمسألة القومية، والماركسية والأيديولوجيا، والاستراتيجية الطبقية للثورة، وغير ذلك من المؤلفات التي يغلب عليها اتجاهه اليساري الماركسي. وكان موقفه وقتئذٍ من التراث العربي سلبياً، قبل أن يتحول لدراسته دراسة ناجعة ومثمرة.

ولعل أهم ما أنتجه الطرابيشي متعلق بمسألة نقد الفكر العربي، وقد بدأ مشروعه هذا بنقد نقد الفكر العربي لمحمد عابد الجابري، واستغرق ذلك من وقته ما يقارب العشرين عاماً. ورغم أنه بدأ رحلته مع الجابري، بإعجاب لافت بكتابه ” تكوين العقل العربي”، إلا أن طرابيشي سرعان ما انتبه إلى ملاحظات نقدية على هذا الكتاب أولاً ثم على المشروع النقدي للجابري ككل.

خصص طرابيشي لهذا النقد أربعة أعمال، كانت تتجه بشكل مباشر لنقد الجابري، وهي: نظرية العقل العربي، وإشكاليات العقل العربي، ووحدة العقل العربي، وأخيراً العقل المستقيل. لكن طرابيشي لم يبقَ حبيس آراء الجابري، ولا حبيس تزييفاته الأيديولوجية المقصودة أو غير المقصودة. حيث إن الجابري – حسب طرابيشي – عمل على تقسيمات شرقية وغربية، وخص الشرق بالبيان والعرفان، أما البرهان فهو من نصيب الغرب أو المغرب حيث ينتمي الجابري. وقدَّم طرابيشي عشرات الأدلة على تزييفات الجابري للتراث، بل للإرث العربي والإسلامي عموماً والمشرقي خصوصاً. وانتهى طرابيشي إلى ” أن دوائر العقل العربي الإسلامي متحدة المركز، سواء أكانت بيانية أم برهانية أم عرفانية، وهذا معناه أن النظام الابستمي لهذا العقل واحد، وبالتالي ما كان لهذا العقل أن يشهد أية قطيعة ابستمولوجية مهما تمايزت عبقريات الأشخاص وعبقريات الأماكن.” ( طرابيشي، 2002، وحدة العقل العربي الإسلامي، ص 405). 

والذي يقرأ كتاب طرابيشي ” وحدة العقل العربي ” يدرك في آن معاً موسوعيته وعمقه في قراءة التراث الفلسفي والفكري العربي، حيث نراه من جهة يمسح على نحو أفقي أعلام الثقافة العربية من الفلسفة إلى اللاهوت إلى التصوف، يبدأ بابن سينا وينتهي بابن طفيل وابن رشد، يحلل الغزالي ويعرج على ابن حزم، ليصل إلى الشاطبي، ثم نراه يغوص في تحليل عمودي ليقف على أدق التفاصيل وأكثرها عمقاً.   

فطرابيشي لم يبقَ حبيس الملاحظات النقدية على الجابري، بل تجاوز ذلك لفهم التراث العربي بكل ما فيه، ولم يقتصر على قراءة الفلسفة اليونانية وامتداداتها الوسيطة والحديثة والمعاصرة، الغربية منها والشرقية، بل نراه قد قرأ التراث من نصوصه الأصلية، فكتب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، ولم يكتفِ بذلك بل تطرق للفقه والتصوف واللاهوت المسيحي والإسلامي، وتناول كل ذلك بعقلية نقدية منقطعة النظير. والنقد لديه لم يكن نقضاً أو هدماً، بل كان نقده بناءً، غايته تصويب ما اعوج من منظور تنويري، فقد كان ينقد ليصوِّب، يَهدم ليبني، ويجرح ليبنّه الغافلين.  

لم يكن طرابيشي كغيره من المفكرين، الذين اتجهوا لنقد التراث، فبقوا حبيسين في أقفاص ذلك التراث، بل إن طرابيشي كان يمسح التاريخ الفكري والفلسفي والديني، يسبر أغواره متسلحاً بالنقد أو التفكيك، بكل ما تعنيه هذه الكلمة أو هذا المنهج النقدي الخطير. فكتب كتابه الهام “هرطقات “، بجزئين الأول خصصه لهرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة، كشف فيه عن زيف بعض التصورات والمفاهيم والممارسات المتعلقة بهذه المفاهيم، كاشفاً عما يعتري الثقافة العربية المعاصرة من زيف وأضاليل تُسِيء للتراث والتاريخ العربي، الذي يراه طرابيشي بأنه حافل بقيم الديمقراطية والعلمانية، عكس ما ينشره متفلسفو العرب المعاصرون، الذين لم يروا في التراث غير أوراق صفراء لا تسمن ولا تغني من جوع، ولهذا نراه يخصص الجزء الثاني من كتابه ” الهرطقات ” لإشكالية العلمانية، كاشفاً ومبرهناً عن مظانها في تراثنا العربي.   

أما بخصوص الديمقراطية فقد كتب يصف حاله يوم صار ديمقراطياً، فقال: ” ويوم انتهيت إلى أن أصير ديمقراطياً لم أرَ في الديمقراطية ايديولوجيا خلاصية، نظير ما فُعل بعقيدتي الوحدة العربية والاشتراكية، ولم أضع أي رهان من طبيعة عجائبية على تحول ديمقراطي يأتي عن طريق صندوق الاقتراع، إذ لم يقترن بتحول عقلي في صندوق جمجمة الرأس: رأس النخب كما رأس الجماهير.” ( طرابيشي، 2008 ،  هرطقات 2، ص7). 

استطاع طرابيشي وبحق أن يغوص لعمق القضايا التراثية بعقلية علمانية مستنيرة، وبأدوات ومناهج فلسفية وعلمية راهنة، فكك كل إشكاليات الفكر العربي، وعلى رأسها إشكالية البنية الشعورية للعقل العربي ذاته، وإشكالية وجدلية اللغة والعقل، منذ المرحلة الشفوية للثقافة، وصولاً إلى عصر التدوين (طرابيشي، 1998، إشكاليات العقل العربي، ص 9 وما بعدها) فلم ترهبه مقدسات اللاهوتيين، ولا أوثان الفلاسفة ولا أفكارهم ولا حدودهم الصفراء، وقدَّم لوائح امتياز لما للتراث العربي وما عليه. فنراه هنا يقيِّم مشروع حسن حنفي في موسوعته ” التراث والتجديد ” فهو يرى أن ” أجمل الصفحات، وأعمق الصفحات، وأكثر الصفحات أصالة، هي تلك التي خطها يراع حسن حنفي وهو يمارس تجاه التراث والذات الوظيفة النقدية، وبالمقابل فإن تلك الصفحات التي دبجها في تعظيم التراث والذات هي من أكثرها ضحالة، وابتذالاً…” ( طرابيشي، 1991، المثقفون العرب والتراث، ص 274).

 وأخيراً قدَّم طرابيشي للأدب والنقد الأدبي والروائي ربما أول تجربة في التحليل النفسي والفلسفي الوجودي والماركسي والتفكيكي. وعشرات الترجمات لنفائس نادرة في الثقافة الفلسفية والأدبية والإنسانية. فكان بحق فيلسوفاً وأديباً في زمن خلا أو يكاد.      

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد.

يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف إدلب: “يزداد استهلاك الخروف للأعلاف كلما كبر، وبالتالي تكاليف تربيته الممتدة إلى 4 سنوات حتى يصبح كبشاً (فحل الضأن) أو نعجة”. ويضيف: “نُسّخر الأراضي للرعي في أوقات الحصاد، ومن لا يملك قطعة أرض هنا، يستأجر واحدة حسب الحاجة”.

تشكل الأعلاف عبئاً ثقيلاً على صغار المربين ممن يملكون بين 10 و15 رأساً؛ لذا يستعين بعضهم بالشعير أو بالخبز اليابس. ويصل سعر طن أعلاف النخالة أو خليط من عدة أنواع بين 4 و5 مليون ليرة سورية في الأسواق، بحسب ما يشتريه المربون.

ولا تتوقف مصاعب التربية على توفر الغذاء؛ بل يشكو مربو الأغنام في المنطقة قلة اللقاحات الأولية، وارتفاع ثمن الأدوية البيطرية الأجنبية حسب كل نوع وصعوبة تأمينها.

فصل الربيع

يمد الغطاء الأخضر النباتي في فصل الربيع الخراف بالغذاء، في حين يُقدم لها في الأيام العادية شعير وخبز وتبن في حال عدم توفر الأعلاف؛ بينما يزداد استهلاك العلف في فصل الشتاء لقلة الرعي، كما يتحدث الرعاة في ريف إدلب.

ويتشابه الأمر في ريف دمشق من حيث استثمار هذا الفصل في الرعي، وينوه المربي أحمد (معضمية الشام) إلى أن الرعي في المناطق الزراعية يعد حلاً في فصل الربيع على وجه الخصوص، حيث ينتشر الغطاء الأخضر، ويفضل بعض المربين استئجار أراض لكن بنسبة قليلة، لأن الراعي يرعى الأغنام في مناطق متعددة.

مصاعب متعددة

يربي أحمد أغنام “العواس”، وأخرى مستوردة من العراق. يعاني المربي من زيادة تكاليف التربية سنوياً بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف، إلى جانب تصاعد تكاليف الدواء بالتزامن مع انتشار بعض الأمراض في هذه الفترة من العام. يقول المربي: “يحتاج الخروف حتى يزداد وزنه، ويصبح بعمر سنة إلى أكثر من 200 ألف ليرة شهرياً بشكل وسطي”.

وتعد “العواس” من أهم عروق الأغنام في الشرق الأوسط، ويتحمل الظروف البيئية القاسية، ويمكن أن يحقق معدلات إنتاجية جيدة عند تحسن الظروف البيئية من تغذية ورعاية في مناطق التربية التقليدية، بحسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية السورية.

ويعتمد أحمد على أنواع مختلفة من الأعلاف وبدائلها، مثل مادة التبن التي يبلغ سعر الكيلو الواحد منها ألف ليرة سورية، وهناك الشعير وقشور الفول والبازلاء اليابسة، ويصل ثمن الكيلو منها إلى 2500 ليرة، ومن الأنواع الأخرى خلاطات العلف التي قد تحوي نشاء وطحيناً ومادة النخالة بسعر سبعة آلاف للكيلو الواحد.

يقول أحمد: “أجلب هذه الأعلاف من القطاع الخاص، لأن مؤسسة الأعلاف الحكومية في مدينتنا توقفت عن العمل منذ عام 2011”. ومن جهة ثانية، يلجأ الراعي إلى بقايا الطعام والخضار.

يلخص أحمد مصاعب التربية بالحاجة إلى مكان أولاً، حيث تنتشر هذه الأماكن ضمن المناطق السكنية. من جهة أخرى، يصعب الذهاب نحو الأراضي الزراعية البعيدة نتيجة الخوف من السرقة، ومن المشكلات صعوبة توفير الأعلاف وارتفاع أسعارها، وأخيراً تعرض الأغنام إلى أمراض كثيرة، وعدم توفر الدواء اللازم لذلك بشكل دائم، أو توفره بسعر مرتفع.

ثروة في مهب الأزمة

بلغ العدد الكلي للأغنام في عام 2007 نحو 23 مليون رأس، ثم انحدر في 2017 إلى أقل من 14 مليون رأس، ليرتفع مجدداً إلى ما يقارب 17 مليوناً (تقديرات) في عام 2021، بحسب إحصائيات وزارة الزراعة.

وفي آذار الماضي، قدر مدير الإنتاج الحيواني في وزارة الزراعة محمد خير اللحام نسبة انخفاض الثروة الحيوانية بـ 30% من قطيع الأغنام، وفقاً لصحيفة (تشرين) المحلية. ويذكر اللحام أن الإنتاج الحيواني يسهم بنسبة 36٪ من إجمالي الناتج الزراعي الذي يسهم بدوره بنسبة 39٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

وتعرّضت سورية إلى موجات جفاف متتالية، وفي 2022، أشارت المهندسة رويدة النهار مدير السلامة البيئية في وزارة الإدارة المحلية والبيئة إلى أن البلاد تعاني من آثار تغير المناخ، حيث تواجه أسوأ موجة جفاف منذ سبعين عاماً نتيجة انحباس الأمطار في معظم المناطق، بحسب صحيفة (البعث) المحلية.

 وسمح مجلس الوزراء على مدار السنوات السابقة بتصدير ذكور أغنام العواس والماعز الجبلي ضمن مدد محددة، وذلك وفق الشروط الصحية والفنية المحددة من قبل وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي.

رحلة في عوالم الدهشة

رحلة في عوالم الدهشة

في أسلوب جديد ومختلف عما عهدناه يأتينا طارق إمام بدهشة متصاعدة في عمله الأخير “أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” الصادر عن دار الشروق 2023، منذ العتبات النصية التي بدأها بإهداء العمل لوالده “أنت فوق التراب وأنا تحته” في سرد يحفل بالثنائيات الضدية الفوق والتحت؛ الولادة والموت؛ الطفولة والشيخوخة، في تبادلية الأدوار وتواترها في نسبية الحياة والموت، الموت الذي يراه كاستيقاظ مستمر في قلب واقعية المفاهيم في مفهوم الموت المقلوب “عندما مات استيقظ ولم ينم”.

فالغرائبية التي يكسر بها نمطية الأشياء والواقع تقودنا إلى المعنى المضمر في بواطن السرد، فالمعنى أشبه بمؤامرة خاصة يحيكها إمام لاستجلاء معنى غير واضح يتطلب جهدًا من القارئ في التحليل والتنقيب عن مراميه.  

ضمت المجموعة الأولى التي حملت العنوان “لأننا “نولد عجائز” حوالي تسعاً وعشرين أقصوصة تتوالى فيها المفارقة والدهشة ففي قصة “الحياة” يستغرب من ملاقاته لنفس الجار الذي يلتقيه عندما يقطن أي منزل جديد بتاريخ وأسرة وعلاقات مختلفة لكنه يكون هو نفسه في أحبولة التشابه والاختلاف، وربما هم الناس العاديون يتكررون أو أن نظرتنا عنهم واحدة أو هم متشابهون بالأصل.

وفي قصة “كلانا ضيف الآخر” نرى المشهد المقلوب في انتقال كرة يلعب بها أطفال الحي لتكون مجسم كرة أرضية على طاولته ذاتها، الكرة التي تلف الكون وسط الجثث في رمزية لما يحفل به العالم من الموت.

 يقوم طارق إمام بخلط المفاهيم ما بين الموت والحياة؛ بين العمى والإبصار؛ بين اليقظة والنوم، ويشتط في فانتازيا الأحلام في “نائم يحلم بنائم”، عندما يحلم برجل يحلم في حلمه متسائلاً عن حلم ذاك الذي في الحلم.

يستفيد الكاتب من اشتغالات فن القصة القصيرة في الإيجاز والتكثيف لدرجة لا تتجاوز أحيانًا كل قصة الصفحة أو نصف الصفحة ولكنها تحتشد بمعان وأفكار ولعب على المفاهيم بطريقة غير معهودة.

ففي قصة “وجهك كالقمر” رغم بديهية التعبير العادي المتداول في أكثر من بيئة  فإنه يرجعه الى  معناه الجغرافي الحقيقي بكون القمر جرماً سماوياً حجرياً ليشير الى جفاف الحب وإلى امتهان المرأة أيضاً عندما يمرر رجل الفضاء بحذائه على وجه القمر وليخالف التعبير الدارج بأن التشبه به تشبه بالجمال، في توظيف عبارة عادية لأكثر من فهم وتفسير بقصة لا تتجاوز خمسة أسطر، ليعود مع القمر بحكاية أخرى عندما يصر صاعد للفضاء أن يذهب إليه بدرًا وبما إن القمر متغير فما أن يقترب منه حتى يصبح هلالًا يتعلق فيه كأرجوحة، وعندما يصبح في المحاق يسقط عنه إلى اللانهاية، في رمزية بديعة لرؤية الزمن المتحول في حياتنا، وقد نفسر أو نرى تأويلاً مخالفًا لما يقصده الكاتب أو يفكر به وهذه ميزة إضافية ذات صفة تشاركية مع القارئ فكل ما اتسعت مساحة التأويل أضافت غنى وثراء للعمل.

في الحوار بينه وبين الفيلم الذي اعتبر أن السارد وجه إهانة له لخروجه من منتصف العرض، بطرح العلاقة بين الفيلم والمشاهد كصديقين أو زميلين يتعاتبان ليستمر صاحب “ماكيت القاهرة” في قلب المفاهيم واستفزاز عقل القارئ بالعبارات الغرائبية على غرار كاميرا تتدلى من حزام رقبة وبين رقبة تتدلى من حزام كاميرا، فهو لا يبتعد عن الموت في الصورة وأداة التقاطها، وكذلك الناس الذي تراهم مقلوبين. هل يجب أن نمشي على رأسنا كي نستطيع التعامل معهم في إيماءة لعالم كل شيء فيه مقلوب، ويرد هذا في مكان آخر عندما انقلب البشر ليمشوا على السماء وتكون الارض أفقًا لهم ويتضرعوا الى الله في الأرض السابعة، في تهكم ضمني يطرق فيه أبواب ما بعد الحداثة في تهشيم الثوابت وكسر المقدسات ومساءلتها إذ يشرع في قصة” الدليل” بالسؤال المباشر هل الله موجود؟ وإذا لم يوجد لن توجد ذنوب ومقابر ليؤكد أنه وجد عندما وطئت رجل بشرية اليابسة، وكذلك بين الطريق وقاطع الطريق وكيف يتحول أحدهما إلى الآخر في أنسنة الأشياء مرة وتشيئ الكائنات مرة أخرى.

في المجموعة الثانية “هايكو المدينة” نعرف من هذا العنوان أن طارق إمام يهجس بالمدينة كما في رواية “ماكيت القاهرة” وهو يغامر بتداخل أجناسي بين مفاهيم تتبع القصيدة النثرية الخاطفة والقصة الومضة في نوع من الفن التجريبي لتمازج الأجناس بحس مغامرة عالي الجرأة عبر إحدى وخمسين أقصوصة تراوحت كل منها بين سطر وثلاثة أسطر تقريبًا.

 لعبة التصغير والتكبير والشبيه والأصل لا تغادر منظومة المعاني التي يدور بها وحولها صاحب “الحوائط اللانهائية” بقدرة هائلة على تكثيف المعنى باقتصاد كبير بالمفردات عندما يصور موت المدينة بالشريط المائل على حائط العالم أو المدينة التي لم تترك مقابر لساكنيها؛ مقابر لمن لم يموتوا بعد؛ إذ لا يتمتع أبناؤها برفاهية القبر.

نلاحظ أيضاً التناص  مع أحد المقاطع لأدونيس إذ يقول إمام:

” مات مالك دار العزاء

قدم المعزون الواجب واقفين

المقاعد ذهبت خلف النعش”

بينما يقول أدونيس:

“أيها الميت فوق الخشبة

يا صديقي

 رسمت وجهك أزهار الطريق

 ومشت خلف خطاك العتبة.”

كذلك في المجموعة الثالثة “لأننا نموت أطفالا” دائمًا يخالف توقعات القارئ الذي يحاول أن يتابع ويفهم لأن القصص التجريبية تبتعد عن التركيبة المنطقية فالقصة القصيرة تروي نفسها بنفسها من خلال دمج مجموعة من الحوارات الداخلية لشخصيات متعددة تتداخل فيما بينها ودائمًا يعود إليه هاجس المصغرات كالحصان الحي في حجم الإصبع حصان يوضع على باطن الكف لصغره ويعيش سائر نشاطاته الحيوية من الصهيل إلى البراز في نسبية الكائنات لبعضها وتناوب صفاتها، وفي “التلويحة” يذهب جزء منا مع من غادروا وكأن الوداع لا يكتمل إلا عندما يقتلع المغادر جزءًا من كينونة الآخر.

وأيضًا يلعب على تجريد المعاني من ارتباطاتها في “الاسم ” اسم بلا مسمى، إذ يتحدث الاسم عن نفسه ككينونة بلا هوية، لم يجد لبوسًا يلبسه ليكتمل وجوده بأن يعّرف بالآخر لذا بقي نكرة، وأيضًا انعدام الأمل في أفق ما يجسده بالقزامة التي ترافق المولودين وكأنهم منذورون للموت لذا لا يكبرون وفي “حصة التشريح” كان البؤس للجثامين فقدانهم لنعمة لموت وتوريطهم بالحياة.

شيفرات عدة تلوح في كل قصة مختزلة بمفردات ذات شحنة دلالية على غرار اليد المفتوحة كرجاء المضمومة كقبضة، فهذا التسول وهذه الحاجة ينذران بأنها ستتحول إلى قبضة أي إلى عنف، إيحاء بمقدمات ستفضي إلى نتائج.

أما جبروت الرجل ضمن الملصق فهو يحيي ويميت ويحول كل شيء لسلعة لكنه بكل سطوته لعبة لطفل يفتش عما في داخله، وإذ تحدث باشلار عن المكان باعتباره كينونة الوجود والبيت رمز الحميمية أو وعاء الكينونة فإن إمام يدفع للفهم المعاكس في المدن التي تقذف أبناءها خارجها، في حالة افتقاد الأمان والحلم وتجسيد حالة الغربة والوحشة التي يعيشها إنسان المنطقة في قصة “المدينة” لتتفرع الفانتازيا لديه في “نهر الدموع” حيث تتحول الدموع نهرًا يجلس الزوار على ضفافه في كوميديا الحزن الغارق بالدمع.

ثمة مسألة أعترض عليها وهي توشيح بعض النصوص باللهجة العامية المصرية لأنها وإن بدت واقعية وقريبة من تلقي القارئ لكنها قد تصعب على الناطقين بلهجات أخرى. 

أعتقد أن كل قصة من قصصه رغم قصرها وتناولها لمشهد أو لقطة من عمر أصحابها كما اصطلح في العنوان تحتاج لوقفة خاصة لتناول احتمالات التأويل والفهم فيها الأمر الذي يقودنا للسؤال وماذا بعد؟ وماذا يريد من كل هذا التحليق في فضاء المغامرة؟  نعم هي مغامرة اجتراح آفاق غير مطروقة في احتمال تقبل الآخرين لها أم رفضهم، وجرأة كبيرة في فتح بوابات مجهولة لكن الأكيد أن طارق إمام وصل ببراعة لإبهار القارئ بغرائبية ما يقرأ ويتخيل.

أسفار تدمير غزَّة

أسفار تدمير غزَّة

ألا يحقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذه الوحشّيّة الرهيبة التي تتصف بها الحرب التي يشنّها الصهاينة على غزَّة غير مبالين بقتل عشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ؟

ويدفعنا إلى هذا التساؤل وضوح أنَّ ردّة الفعل الصُّهيونيّة الفظيعة الحاصلة لا تتناسب كمّاً ولا كيفاً، مع العمليّة العسكريّة التي قام بها الجناح العسكريّ في حركة حماس حتى يهتاج الساسة الصهاينة بهذه الطريقة الجنونيّة، ويأمروا الجيش الصهيونيّ بإبادة شعب بأكمله، لذلك لا يمكن فهم ما يحدث الآن في غزَّة على أنّه عمليّة عسكريّة ذات هدف محدّد هو توجيه ضربة عسكريّة انتقاميّة لحركة حماس، لأنَّ ما يجري يدلّ على أنَّ المقصود منه هو اجتثاث غزَّة من الوجود، أرضاً وشعباً.

ولن يكون في وسعنا فهم هذه الأسباب الغامضة أنفسها ما لم نعرف أنَّ العقل الصهيونيّ عقل مكوَّن على أساس نزعة دينيّة-عرقيّة، أدت إلى تكوين ذاتيات بشريّة متعاليّة على الآخرين بالمعنى اللاهوتيّ تولّدت عنها نزعة عنصريّة تدميريّة، وتجسّدت واقعاً في ما يُسمّى الآن “دولة إسرائيل”؛ لكنَّ هذه العنصريّة نفسها والأشدّ خطراً حتى من العنصريّة النازيّة غير مكشوفة، ويرجع ذلك أولاً إلى التسويغ اللاهوتيّ المقبول عالميّاً لحقّ يهود الشتات في إحياء مملكة داود وسليمان على أرض فلسطين، وهي مملكة زُعِم أنّها ترجع إلى نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، لكن لا يوجد أي دليل على وجودها سوى الرواية التوراتيّة التي تلهث لمطابقة جغرافيا فلسطين معها أجيال من علماء الآثار من مختلف الجنسيات منذ مطلع القرن التاسع عشر ممن يعملون في حقل معرفي زائف هو علم الآثار التوراتيّ؛ ويرجع ثانياً إلى أنَّ الغرب الأوروبي-الأمريكيّ يُصدِّر “دولة إسرائيل” إعلاميّاً بصفتها الدولة العلمانيّة والديموقراطيّة الوحيدة في المنطقة ويزوِّدها بمختلف عوامل القوّة والديمومة والتفوّق العلميّ والتكنولوجيّ والعسكريّ، ويقف وراء هذا التوجُّه الغربي نفوذ اليهود العلمانيين وغير الملتزمين وحتى الملحدين داخل العالم الغربي وداخل دولة إسرائيل المزعومة نفسها.

إذن، تُظَهَّرُ “دولة إسرائيل” بأنّها تمثِّل المظلوميّة الدينيّة المعترف بها عالميّاً وحتّى عربيّاً من حيث الانخداع التّام بتصديق الرواية التوراتيّة عن أرض الميعاد المزعومة بجغرافيتها وأزمنتها وأشخاصها، هذا من جهة؛ وتُظَهَّر من جهة أُخرى بأنّها النموذج الحضاريّ الوحيد المناظر للنموذج الغربيّ في منطقة الشرق الأوسط، لذلك لا بدّ من حمايتها والدّفاع عنها والمحافظة على استمرار وجودها.

لكن من مفارقات الأقدار وعجائب الزمان أن تُقبل صورة بهذا التناقض والتهافت عن دولة من الدّول، فأن تظهر دولة بأصول دينيّة وعرقيّة وعنصريّة على أرض سُلبت من أصحابها وُيسوّق لها ويُدافع عنها وتُبرَّر جرائمها بهذه الطريقة، فهذا أمر يقع خارج معايير العقل،-ليس هذا فحسب! بل المأساة الكبرى أنَّ هذه الأصول أنفسها مُخْتَلَقَةٌ تماماً، لأنَّ اليهود المقيمين في فلسطين لو فُحِصوا جينيّاً لتبيّن أنّهم خليط أنثروبولوجي من مختلف شعوب الأرض، لكن الرواية التوراتيّة حوّلتهم إلى شعب الله المُختار صاحب الحقّ في أرض ميعاده، وصدَّق العالم كلّه هذه الرواية، تحديداً العالم الغربيّ، بعد أن رمى العلماء الغربيون مناهج النقد التاريخيّ وأدوات البحث الأركيولوجيّ وعلم المخطوطات عند أقدام تيودور هرتزل (1860-1904 م).

اقتنع هرتزل بإمكانية تأسيس وطن لليهود في فلسطين في مؤتمر بازل عام 1897 بعد أن عاين موقفاً حاسماً باختيار فلسطين كوطن قومي من قِبَل الصهاينة الحاضرين للمؤتمر وكانوا من أوروبا الوسطى والشرقية وروسيا بالإضافة إلى عدد قليل من أوروبا الغربية وحتى الولايات المتحدة، وتوافق هؤلاء الحاضرون بعد المداولات على برنامج بازل الذي مفاده أن الصهيونيّة تتطلّع إلى إنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين. وكانت نظريتهم أنَّ الصهيونيّة حركة تعتمد على اليهود، ولا قيمة لليهود كقوميّة إذا لم يتم ربطهم بأرض إسرائيل المزعومة، ولن ينجح هذا الربط إلا بتوظيف النصّ التوراتيّ-وهو نصّ مقبول عالميّاً-من أجل إرجاع اليهود إلى أرض ميعادهم، فاكتملت المؤامرة.

وعليه، يجب أن نعلم أنَّ الصهاينة يؤمنون في أعماقهم، تحديداً بعد تأسيس دولة إسرائيل المزعومة عام 1948 م أنّ وجودهم حاصل بإرادة إلهيّة-توراتيّة، ولا يُفسِّرون أيّ مقاومة لهم إلا بصفتها تعدّياً عليهم من أعداء الله من الشعوب الكافرة؛ ولذلك ما قامت به حركة حماس ليس في عقل اليهود المُتصهينين إلا اعتداءً على شعب الله المُختار. ولا شك في أنَّ نظرة اليهود المتصهينين-وهم المُسيطرون في فلسطين المحتلة عن أتباع الديانات الأخرى هي نظرة معروفة لا تحتاج إلى زيادة بيان فَهُم لا يعترفون حتى بالدِّين المسيحيّ ولا الإسلاميّ وإن كان المسيحيون والمسلمون يعترفون بالدِّين اليهوديّ، وهذه قضيّة استغلها الصهاينة أحسن استغلال لإقناع الناس بمزاعمهم التوراتيّة عن حقهم في أرض فلسطين، فعدم تصديق الكلام الوارد في التوراة قد يعني بالنسبة للمسيحيّ والمسلم ضرباً من التجديف أو المروق من الدين، سواء أكان هذا الدِّين إسلاميّاً أم مسيحيّاً. ويرجع ذلك إلى أنَّ اليهود استطاعوا عِبْرَ تاريخهم أن يُكَرِّسوا في أذهان النّاس في مختلف أنحاء العالم، تحديداً في عالمنا العربي فكرة أصبحت من المسلّمات غير القابلة للنقاش، وهي أنَّ أسفار التوراة يجب الأخذ بها لكونها من تأليف أنبياء يحظون بمكانة دينية كبيرة عند المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء،-فأسفار موسى الخمسة، تمثيلاً لا حصراً، يجب أن تُقبل بما تحتويه من معلومات تاريخيّة لأنّها من تأليف النبيّ موسى، وهكذا دواليك بالنسبة إلى بقيّة الأسفار؛ لذلك يصبح التشكيك في صحة الحوادث التاريخيّة المذكورة في الكتاب المقدّس (العهد العتيق) طعناً في نبوّة أنبياء لهم قيمة كبيرة في الضمير الدِّينيّ العامّ! علماً أنَّ هناك دراسات نقديّة رصينة تؤكّد وجود وَضْعٍ وتلفيقٍ واختلاقٍ في نصوص التوراة إلى حدّ بعيد، تحديداً في ما يتعلّق بإمكانية وجود ممالك يهوديّة في فلسطين.

لكن للأسف أصبح يُنظر الآن، عالميّاً، إلى الصهاينة بصفتهم أصحاب الأرض، وإلى فلسطينيي غزَّة بصفتهم المعتدين والدخلاء، وهذه نظرة كرّستها التوراة في عقول اليهود ويكرّسها الصهاينة الآن في عقول النّاس في مختلف أنحاء العالم.

وقد يُصدم المرء حينما يعرف أن ذِكر غزة في التوراة يشير إلى مدى شرِّ شعبها وقادتها، ومدى كراهيتهم لإسرائيل والشعب اليهودي، ولذلك أقدم جيش سِبط يهوذا على احتلالها. “وَأَخَذَ يَهُوذَا غَزَّةَ وَتُخُومَهَا، وَأَشْقَلُونَ وَتُخُومَهَا، وَعَقْرُونَ وَتُخُومَهَا.” (سِفْر القضاة: 1: 18)

  ويَرِد: “هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِ غَزَّةَ الثَّلاَثَةِ وَالأَرْبَعَةِ لاَ أَرْجعُ عَنْهُ، لأَنَّهُمْ سَبَوْا سَبْيًا كَامِلًا لِكَيْ يُسَلِّمُوهُ إِلَى أَدُومَ. فَأُرْسِلُ نَارًا عَلَى سُورِ غَزَّةَ فَتَأْكُلُ قُصُورَهَا.” (سِفْر عاموس: 1: 6)

ونقرأ أيضاً “تَرَى أَشْقَلُونُ فَتَخَافُ، وَغَزَّةُ فَتَتَوَجَّعُ جِدًّا، وَعَقْرُونُ. لأَنَّهُ يُخْزِيهَا انْتِظَارُهَا، وَالْمَلِكُ يَبِيدُ مِنْ غَزَّةَ، وَأَشْقَلُونُ لاَ تُسْكَنُ. وَيَسْكُنُ فِي أَشْدُودَ زَنِيمٌ، وَأَقْطَعُ كِبْرِيَاءَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. (سِفْر زكريا: 9: 5-6)

ولا شك في أنَّ أيّ صهيونيّ تكوَّن عقله عبر قراءة هذه النصوص وغيرها كثير سيعمل على تنفيذ أوامر إلهه من أجل تدمير غزَّة، وهذا ما يقوم به الجيش الصهيونيّ الآن فعلاً، لكن نحن العرب نحيّد أنفسنا عن هذا كلّه وكأنّه لا علاقة لنا بما يحدث؛ غير أنَّ معرفة الحقيقة ستزيد من قوّة الصدمة التي تنتظرنا، فالآن يحدّد اللاهوتيون الصهاينةُ أعداءَ دولة إسرائيل الحاليين استناداً إلى النصّ التوراتيّ. ويكشف لنا مقطع خطير كيف يُحدِّد العقل الصهيونيّ أعداءه الآن وفق الآتي:

“اَلَّلهُمَّ، لاَ تَصْمُتْ. لاَ تَسْكُتْ وَلاَ تَهْدَأْ يَا اَللهُ. فَهُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَعِجُّونَ، وَمُبْغِضُوكَ قَدْ رَفَعُوا الرَّأْسَ. عَلَى شَعْبِكَ مَكَرُوا مُؤَامَرَةً، وَتَشَاوَرُوا عَلَى أَحْمِيَائِكَ. قَالُوا: هَلُمَّ نُبِدْهُمْ مِنْ بَيْنِ الشُّعُوبِ، وَلاَ يُذْكَرُ اسْمُ إِسْرَائِيلَ بَعْدُ. لأَنَّهُمْ تَآمَرُوا بِالْقَلْبِ مَعًا. عَلَيْكَ تَعَاهَدُوا عَهْدًا. خِيَامُ أَدُومَ وَالإِسْمَاعِيلِيِّينَ، مُوآبُ وَالْهَاجَرِيُّونَ. جِبَالُ وَعَمُّونُ وَعَمَالِيقُ، فَلَسْطِينُ مَعَ سُكَّانِ صُورٍ. أَشُّورُ أَيْضًا اتَّفَقَ مَعَهُمْ. صَارُوا ذِرَاعًا لِبَنِي لُوطٍ. (…) هكَذَا اطْرُدْهُمْ بِعَاصِفَتِكَ، وَبِزَوْبَعَتِكَ رَوِّعْهُمِ. امْلأْ وُجُوهَهُمْ خِزْيًا، فَيَطْلُبُوا اسْمَكَ يَا رَبُّ. لِيَخْزَوْا وَيَرْتَاعُوا إِلَى الأَبَدِ، وَلْيَخْجَلُوا وَيَبِيدُوا، وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ اسْمُكَ يَهْوَهُ وَحْدَكَ، الْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ.” (المزمور 83: 1-18)

قام جويل سي. روزنبرغ Joel C. Rosenberg وهو رئيس تحرير مجلة ALL ISRAEL NEWS وALL ARAB NEWS  والرئيس والمدير التنفيذي لشركة Near East Media ومؤلِّف من أكثر الكتب مبيعاً في نيويورك تايمز، ومحلل لشؤون الشرق الأوسط، وزعيم إنجيلي، يعيش في القدس، أقول: قام بتفسير الأسماء الواردة في النص التوراتي السابق ليحذِّر الصهاينة من أعدائهم فأكّد أنَّ خيام أدوم والإسماعيليين هي جنوب الأردن والجزيرة العربية. وموآب والهاجريون للدلالة على وسط وشمال الأردن. وجبال وعمُّون وعماليق تشير إلى لبنان وسوريا وشبه جزيرة سيناء. أما فلسطين فتدل هنا على قطاع غزة. وصور تدل على لبنان. و”اتفاق أشور” يعني قيام تحالف ضدّ الصهاينة بين سوريا ولبنان والعراق. وبذا تكون قد تحدّدت خارطة أعداء إسرائيل، ليشنَّ عليهم يهوه مع شعبه المختار حرب إبادة كالتي تحصل الآن في غزَّة، ومن يستبعد حصول مثل هذه الحرب في المستقبل يكون غير عارف بحقيقة الفكر الصهيونيّ-التوراتيّ.

 إنَّ وجود الصهاينة في فلسطين خطر داهم يهدِّد ليس العرب وحدهم؛ بل الإنسانيّة كلِّها، وإذا كنّا لا نكترث بخطورة النصوص التوراتيّة، فيكفي أن نعرف أنها هي علّة احتلال فلسطين، وستكون علّة لخراب شامل يطال المنطقة كلّها إذا لم نواجهها على الأقل ثقافيّاً بشجاعة تقترب ولو قليلاً من الشجاعة البطوليّة النادرة لأبناء غزَّة.