من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه الكلمة. ولعله كان شبيهاً بحكماء الهند أو الصين الذين عاشوا أفكارهم والتزموها في حياتهم.

ولد تيزيني في حمص السورية في (10/ 8/ 1934) وتلقى تعليمه الثانوي فيها ثم انتقل إلى ألمانيا، ليتابع دراسته الجامعية، فحصل على اللسانس ثم الدكتوراه في الفلسفة سنة 1973. ليعود بعدها إلى سورية، ويعمل في جامعة دمشق كأستاذ في قسم الفلسفة.

كانت أطروحته في الدكتوراه حول الفلسفة العربية في العصر الوسيط، وقد عمل على هذا المحور بعد ذلك، فقدَّم رؤية جديدة لهذا الفكر، عبر مشروع فكري يتألف من قسمين اثنين الأول خاص بقراءة التراث العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى وقتنا هذا. وقد اتسمت هذه القراءة بالطابع المادي الماركسي، معتمداً في تفسيره للحياة الاجتماعية والسياسية على عوامل مادية اقتصادية بالدرجة الأولى. وبرغم ذلك فقد تجاوز تيزيني فكرة الصراع الطبقي التي تمثِّل – في الفلسفة الماركسية – عماد أي تغيير اجتماعي، تجاوزها ليقر بإمكانية توافق الطبقات ضمن ما يسمى بالطيف المجتمعي الواسع.  

أما القسم الثاني من تلك القراءة، فقد انصب على تركيزه على عوامل النهضة وشروطها وأركانها، فشرع في كتابة مؤلفه “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي” وكتابه “من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني”، وانخرط بشكل فعلي في التنظير لقضايا الإصلاح النهضوي العربي ابتداءً من سورية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ثمة انعطافاً آخرَ أو نقلة نوعية في فكر تيزيني خاصة بمسألة النهضة العربية، وهي مرتبطة بانفتاحه على العامل الديني، وتمثل ذلك في إشراكه بعملية الاصلاح والنهضة، وهذا التجاوز تم في المراحل الأخيرة من تجربة تيزيني الفكرية والسياسية.            

ويعبِّر كتاب تيزيني “من التراث إلى الثورة” عن قناعات تيزيني الأولى حول مسألة الانتقال الحضاري للمجتمعات، وكان العنوان ترجماناً لتلك القناعات، وبتعبير تيزيني نفسه فقد كان يؤمن بأن مسألة الانتقال من التراث إلى المعاصرة أو الحداثة ما كان له أن يتم إلا عبر فعل ثوري، يكشف عنه الصراع الطبقي، تماشياً كما قلنا مع الوعي الماركسي في حتمية الصراع القائم على تناقض الطبقات وصراعها.

 لكن ونتيجة لتطورات عظمى حدثت في العالم، كسقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أحادي مسيطر على العالم، ونتيجة لموجات ما يسمى بالربيع العربي، وأخيراً نتيجة لفشل المشاريع القومية، كان لا بد من مراجعة جوهرية في المنظومة الفكرية لدى تيزيني، والتي كانت تقيم نوعاً من التعارض بين العوامل المادية التاريخية، وبين العوامل الذاتية، وتقوم على نوع من الإقصاء للعامل الديني ولحوامله الاجتماعية، لذلك كان لا بد من إعادة النظر في هذين العاملين.

ومن هنا كان تيزيني ينتقد كل القراءات الثقافية للتراث العربي والإسلامي لأنها جميعها لم تكن إلا قراءات أحادية، تركز على عامل واحد غالباً ما يكون ذاتياً لا تاريخياً. من هنا جاءت قراءة تيزيني كرؤية تاريخية وذاتية للفكر والتراث العربي الإسلامي. وخلال ذلك انصب نقده للمركزية الأوربية، لأن الفكر العربي ـ من منظور تلك المركزية الأوربية – عاجز عن إتيان الفلسفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فحسب تلك المركزية وعلى لسان رينان (1823- 1892م) وهو أحد أهم ممثليها “لم تكن الفلسفة لدى الساميين غير استعارة خارجية صرفة خالية من كبير خصب، غير اقتداء بالفلسفة اليونانية” ( تيزيني، 2002، من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة، ص 11).  وقد انصبت جهود التيزيني في نقض هذه المركزية من منظار تاريخي، مثبتاً أن الفكر الإنساني جهد متصل بحلقات متصلة من أوله إلى آخره، بما في ذلك الفكر العربي منذ ما قبل الإسلام وما بعده. بما ينسجم تماماً مع الفكر التاريخي الجدلي.

  وأذكر أنني كنت على موعد مع مناظرة أو مناظرات، جرت أو كانت ستجري بين تيزيني وبين محمد سعيد رمضان البوطي (1920- 2013)، وكان تيزيني وقتها يناقش قضايا التراث وبالذات النص القرآني من خارج النص، لكنه سرعان من اتخذ تكتيكاً جديداً وهو إجراء مناقشاته اللاحقة من داخل النص الديني، ولذا عمد إلى تأليف كتابه الهام جداً النص القرآني أمام إشكالية البنية و القراءة “كتعبير عن هذا التحول في الوعي التاريخي لدى تيزيني، فهو قد قرأ النص قراءة جدلية مركبة، وإن شئت فقل قراءة تاريخية. ومن شأن هذه القراءة “الإمعان في الروائز (العلاقات) التالية… بين الواقع والفكر، وبين الدال والمدلول، وبين الخفي والمعلن، وبين البنية والسياق…” (تيزيني، 1997، النص القرآني، ص 43).    

فمن جهة تم الانعطاف من الثورة إلى النهضة، لأن الوعي الثوري القائم على أساس الصراع الطبقي، لم يعد منتجاً؛ بسبب أن العلاقة  بين الطبقات في مجتمعاتنا العربية، ليست علاقة تصارع على نحو يقتضي الثورة والانقلاب، ومن جهة أخرى وبالنظر إلى الطبقة الوسطى وهي الطبقة الأوسع والأكثر انتشاراً، نجد أنها هي طبقة المؤمنين، فيكف يمكن تجاوز فعل وتأثير هذه الطبقة في أي فعل نهضوي ؟ يقول تيزيني: لا يمكن تجاوز هذا التأثير، وبالتالي فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار العامل الديني بأي مشروع نهضوي، وبنفس الوقت دون إغفال أهمية العامل المادي والتاريخي. ومن هنا فلا بد من تجاوز مسألة الثورة إلى مسألة النهضة، الأمر الذي يقتضي هذا التغيير الجوهري في المشروع النهضوي لدى تيزيني.

إذاً لم تعد الثورة القائمة على أساس الصراع الطبقي هي المبتغى، بل حلت النهضة محلها، وهذا لا يعني أن تيزيني لم يعد مفكراً ثورياً، لا أبداً، بل أصبحت الثورة لا تعني لديه فعلاً انقلابياً يحدث في ليلة وضحاها، بل هي لديه لقاء بين الجميع، وحوار بين الجميع من دون استثناء، من أقصى اليمين القومي والديني المتشدد، إلى أقصى اليسار الاشتراكي والليبرالي المتشدد هو الآخر. لقاء يجمع الكل من أجل إحداث تغيير نهضوي شامل.      

لم يكن تيزيني مفكراً تنظيرياً وحسب، بل كانت حياته تمثيلاً لأفكاره، فكان ينتمي للطبقة المتوسطة، وحسبي أنه عاش فقيراً، لم يكن يجد دوماً ما يلبي احتياجاته اليومية، كم كان شبيهاً بسقراط (469- 399 ق.م) وديوجين (412- 323 ق.م)، اللذين عاشا على هامش الحياة الفارهة. ومن جانب آخر نجده قد انخرط بالعمل السياسي تنظيراً وتنظيماً، وقد برز دوره السياسي في أوجه بعد بدء الاحتجاجات في سورية منذ 2011. فلم يتمترس خلف هذا الفريق أو ذاك، لكنه لم يكن محايداً حياداً سلبياً، ولا معارضاً معارضة تقليدية، ولا موالياً لنظام سياسي أو لحزب سياسي، بل كان ولاؤه وطنياً بامتياز، فاشتغل على مسألة معارضة استخدام العنف والعنف المضاد، ومارس تحريماً إنسانياً مقدساً، وهو تحريم الدم السوري، ورفض مغادرة البلاد، ورفض كل الإغراءات التي قُدمت له في الداخل والخارج؛ ليقدِّم تنازلاً في مواقفه لصالح هذا الفريق أو ذاك، واشترك في المؤتمر الوطني للحوار، كان بمقدوره بكلمة منه أن يركب السيارات الفارهة وينزل بأفخم الفنادق، ويملك القصور والوكالات كما فعل كثيرون غيره،  لكنه لم يفعل، وكان همه ينصب على إيقاف سيل الدماء، ووحدة الصف الوطني، وإعلاء شأن الإنسان وكرامته دونما أي تمييز أو عنصرية، لكن مرضه منعه من متابعة نشاطه الفلسفي والسياسي المنوط به، فانتهى به الأمر إلى أن فارقت روحه جسده في مسقط رأسه بحمص في (18/5/ 2019).

لقد مثَّل تيزيني فعلاً انعطافاً في المشهد السوري، من حيث الفكر ومن حيث الواقع، ففلسفياً استطاع أن يكشف عن الآليات التي تحكم الفكر والمجتمعات منطلقاً في تشخيصه من الوضعيات الاجتماعية المشخصة، ضمن ضوابط جدلية، تجمع بين المادي والمثالي، وبين الإيماني والإلحادي، بين التاريخي والذاتي، وبين الداخلي والخارجي… أما من حيث الواقع فقد كان فيلسوفاً واقعياً وعملياً بدأ بتشخيص الواقع تشخيصاً علمياً، وعمل على معالجة مشاكله أو الإسهام في ذلك، دون أن يتمترس خلف نظريات دوغمائية، أو أحزاب سياسية تليدة، تعوق الفكر وتقف حجر عثرة في طريق الثورة والنهضة.        

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

اصطياد المعنى وتقطيره في المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان

اصطياد المعنى وتقطيره في المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان

باعتبار أن القصة خيال محض فلا مجال للتمييز أو التدقيق بين ما هو حقيقي وما هو مزيف؛ بين ما هو واقعي وبين المغرق بالخيال، بين الأصيل والدخيل، ففي المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان الصادرة عن دار ميسلون لعام 2023 تتسع مساحة الخيال ويحتشد عالمه بكم متشابك وغريب من حواريات الجمادات والحيوانات والكائنات البشرية. المجموعة القصصية مليئة بأسئلة الكاتب الوجودية المستلهمة من ذاكرة تنبض بصور ومواقف مخيلة ثرية الحضور يحفر فيها بقاع اللاشعور لتوظيف خبرة جمالية لصالح المعنى المراد تقديمه.

يستهل الكاتب مجموعته القصصية بمقاربة عالم كافكا ومناداته “هل أنت هنا” بإيحاء مضمر بأنه يسحبنا إلى عوالمه دون إفصاح مباشر، عبر نصوصه التي ينسجها من انعكاسات الواقع أحياناً وتنويعاً على مخزونه الثقافي بأحيان أخرى، فنراه قريباً من عالم الحشرات الكافكاوية. وفي جانب آخر نجده يطل على عالم كليلة ودمنة بتشاركية الحيوانات الناطقة بالحكمة. ومرة ثالثة نراه يتقاطع مع جورج أورويل في روايته مزرعة الحيوان. 

هناك صداقات أنيسة بين كائنات مختلفة لا يدرك كنهها عالم الكبار، فهذا الطفل  المتوحد الذي تآلف مع حشرة صغيرة شاركها طعامه في قصة “الذبابة” تأتي يد قاصمة تفقده حميمية هذه العلاقة معها، الحشرة التي تكون هنا أقرب وجدانيًا لعالم ذلك الطفل الذي يجيد الصمت، بتصوير حالة الاغتراب وفقدان التواصل التي يعيشها رغم كل العناية الظاهرة من أمه، فبرغم الصمت الذي يكتنف عالمه لكنه هنا يوحي بفكرة تشابه الاندماج مع المحيط مثل التصفيق الذي يجبروننا عليه كل صباح. وهذا تلميح للواقع الشمولي العام المهيمن على صعيد الأسرة من ناحية وعلى صعيد المجتمع من ناحية أخرى ومقاومة تلك الهيمنة  للنزوع الشخصي والحر لعالم الأفراد، في لحظ السارد تقاطع ما بين الإحساس التلقائي والشعور المتخيل متحركاً بين القول الظاهري والفكرة المضمرة مما يعني الاشتغال على طبقات في توجيه الخطاب السردي حسب مستويات الفهم للمتلقي. 

 يشتغل باسم سليمان على مناوأة وضع عام أي مخالفة ما هو متعارف عليه من صفات للكائنات أو إعطاء معنى مخالف لما قرأناه بشكل سابق، ففي “القمقم” يعتمد تنقية وتقطير المعاني المتعارف عليها بقلب بديهياتها مثل عبارة “المارد لا يلدغ من الأمنيات إلا ثلاثا”، في تكثيف مذهل لرفض المارد لفقدان حريته أزماناً شاسعة وعبوديته لكائنات حقيرة الشأن مقابل أمنياتهم التافهة على غرار أمنيات الطائر البغاث بأن يحتل مكانة أعدائه وأن ينقل للنسر الرعب الذي أذاقه إياه، ولكن تبادل الأدوار لا يجدي نفعاً فعملية بلبلة الصفات الخارجية لا تغير من جوهر الكائن الذي يحتفظ بقلب عصفور ضئيل ولا يبدل الخوف الذي نشأ عليه.

القدرة الفائقة لدي صاحب “جريمة في مسرح القباني” في سحب انتباه القارئ وإدهاشه عبر أسلوب تأمله للحدث أو الفكرة المراد عرضها عبر التركيز على المتعة الجمالية بسلاسة العرض والتشويق. ونرى في “البيضة والحجر” تفسير تلك النبوءة التي جعلت الدجاج غير قادر على الطيران كسائر الطيور والتي جاءت من الهيمنة والسيطرة للديك، والحجة الخوف من الزلزال ورغبة بامتلاك الأرض والسماء، فقسم من الطيور قد هرب وهاجر ومنهم من خاف وصمت وهذا الأخير قلم له الديك أجنحته وقد شارك الدجاج الديك في الصراع أملًا في السماح له بالطيران، ولكن هيهات فقد جعلهم حراساً على من قصت أجنحته كي لا تنمو له أجنحة جديدة والعضو الذي لا يستخدم يضمر وليكونوا عبرة لهم قصت أجنحتهم كذلك ومن رفض مصيره الموت، ألا يوحي ذلك بقدر قريب جداً، فهناك سلطة فوق الديك وهو الثعلب، فالطغاة دائماً يجذبون الغزاة وهكذا الطيور تتعارك مع الدجاج والثعلب يتفرج يدعم ذاك ويقوي آخر وهذا باختصار واقع الشعوب.

تمتلئ المجموعة بسخرية والمفارقة ومخالفة توقعات القارئ أو ما تتركه القصة من حيرة والتباس فهم الأمر الذي يجبر القارئ للدخول في عملية التفسير والتفكير لاستدراج المعنى ووضع احتمالاته. وكمثال على هذا في قصة “رصاصة الحسد” تتحدث الجمادات إذ تقود قذيفة الهاون مجموعة من الرصاصات المتدربات في مدرسة المقذوفات النارية برعاية اليونيسيف حيث السخرية المضمرة من المنظمات الدولية، والسؤال المفارق بماذا تحلم الرصاصة؟ الرصاصة التي يعود نسبها إلى جبان اخترع البارود الذي ساوى بين الشجاع والجبان، كل منها لها حلمها الخاص فرصاصة صغيرة أخرى تحلم بأن تكون قذيفة صاروخية؛ ورصاصة بندقية ضغط الهواء تريد أن تكون قنبلة فراغية وقد بصقت الأمنية كحجر حطه السيل من عل في تناص مع القصيدة المعروفة.

أما في قصة “الذئب النباتي” فيكاد الكاتب أن يقنعنا بتحول الذئب إلى حيوان نباتي لا يقرب اللحوم بكل ما فيها من اعتداء على تقاليد القص المتعارف عليه بالدور التاريخي الشرير له، لكن المعنى المبطن المخفي يتسلل تحت الكلام الموارب لندرك بروز شخصية الغول التي يتخفى خلفها الذئب آكل الحشائش وفق ما أشاعه بإيماءة حول تبدل الأساليب والوجوه، وهو الغول ذلك الخطر الوهمي الذي ترتكب الجرائم تحت اسمه.

وفي قصة “قائمة الطعام” يتبع باسم سليمان تقنية القصة داخل قصة عندما تكون قصة قائمة الطعام هي قصة منشورة للولد الصغير في إحدى المجلات وتتحدث عن حوارية الحمل والمرياع قائد الخراف حول علاقتهم بالذئب والإنسان؛ بين من ينقض بهمجية على فريسته وبين من يأكلها وهو ويذرف الدموع عليها، لينتهي الحمل بحقيقة أن ذلك لا يغير من حقيقة الفعل شيئاً فالذبح واحد.

تتشابك المصطلحات الموحية بالقصة القصيرة بين الخرافة والأسطورة والحكاية والطرفة والنادرة والأمثال ونستطيع القول إنها تتغذى عليها ولكن إنريكي أندرسون امبرت كثف تعريفه للقصة القصيرة بقوله: “القصة القصيرة عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص فرد برغم ما قد يعتمد عليه الخيال من أرض الواقع فالحدث الذي يقوم به الإنسان والحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانيه أو الجمادات يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة حيث نرى التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ للوصول لنتيجة مرضية من الناحية الجمالية.”

هذا التعريف يتناغم مع نصوص مجموعة “الفراشات البيضاء” إلى حد ما، فهناك أنفاق وجسور في عالم السرد قد تكبر قصة قصيرة لتشكل رواية، وقد تجمع رواية قصص قصيرة في أسلوب سبكها وتداخله،ا وقد تتحول مجموعة أخرى إلى متوالية قصصية ذات مناخ وأبطال يتشاركون في المكان ولولا بعض القصص التي أنطقها سليمان بألسنة البشر لاعتبرت المجموعة متوالية قصصية بامتياز كونها تشترك بمناخ نفسي وسردي واحد وعلى حكم الحيوانات وألسنة الحشرات بمعانيها المرمزة ذات الدلالة العالية.

نشعر بمتعة كبيرة في ملاحقة نصوص المجموعة وقدرتها الفائقة على الاختزال في الكلمات والتكثيف في المعنى، ففي قصة “الأسماء” لكل من اسمه نصيب وفق المثل المعروف وهكذا تشوه الحقائق بحيازة صفة لمن لا تسمح مواهبه بها في استبدال اسم الحصان للحمار لكن الذي يحصل أنه يصدق ذلك الأمر والآخرون يصدقون الحمار الذي أصبح حصانًا وتوج في ميادين السباق رغم أنف الحكائين.  

أيضًا تأتي الفراشات البيضاء التي استعار منها عنوان المجموعة بشكل مقتضب في قصة ” الفراشات البيضاء” في التباس تحديد الحيوانات لجنس الكنغر (الذي يأكل الفراشات البيضاء كحلوى على لسانه) بينه وبين الإنسان كونه يقف على قائمتيه الخلفيتين لتأتي مقولة القصة بأن الإنسان لا يقتل الحيوانات فقط، ولكنه يسجن أخاه الكنغر أيضًا وهذه مشاهدة ورأي حيوانات الغابة التي جعل الحكمة على أفواهها.

تلعب الطبيعة دورها في خدمة التوازن والتناغم والانسجام في قصتي “رمادي” و”ألا ليت شعري“، حيث عبرت الأخيرة عن حوارية الإنسان والطبيعة التي تتكلم وتفصح عن مكنوناتها ما يذكرنا برواية “عالم العناكب” لكولن ويلسون عندما يتساوق أي فعل مع إيقاع الطبيعة تنسجم معه ويمشي في ركابها وعندما يخالفها تسحقه ويكون من أعدائها.

يعمل صاحب “الغراب سيد الغابة” على تطويع الاقتصاد في المفردات ليختزل فكرة شاملة وعميقة فهنالك ما يسمى قصة قصيرة جدًا تتراوح بين السطر والثلاثة أسطر، وكل أقصوصة عدد محدود من الكلمات لكنها تمتد عميقًا في معانيها مثل “نهاية، موسيقى، شوك الصبار، نمل الحب، الإزميل، صائد العصافير” يجمع فيها التركيز والتكثيف على معنى محدد عبر تناوب التوتر والاسترخاء وخاصة في القصة التي لا تتجاوز أسطر ففيها إبداع في فن الاختزال والتكثيف عبر الكلمات المشحونة بطاقة تعبيرية عالية. 

ربما تحاكي القصة القصيرة نبض الحياة المتسارع للوصول إلى المعنى بأقل ما يمكن من الزمن وحشد أكبر ما يمكن من المعاني لالتقاط حدث غير عادي بحركة مركزة ينتقل فيها بشكل متسارع إلى المحصلة عبر ثلاثين قصة يقدمها لنا باسم سليمان عبر منطق الحكاية في تمثل مجازي للواقع عبر مشهدية الرمز والإيجاز. تجلت في هذه المجموعة المقدرة على إحداث أثر لدى القارئ خلال فترة زمنية بسيطة لا مجال فيها للاستطراد والحشو كون النص يسير إلى هدفه منذ العبارة الأولى نظرًا لقصر المسافة بين البداية والنهاية.

 بعضهم شبه الرواية بالضوء والقصة القصيرة بحزمة ضوئية، ولكن في أحيان كثيرة تكون القصة القصيرة أشد سطوعًا حسب كثافة طاقتها التعبيرية المشحونة، وأعتقد أن “الفراشات البيضاء” تنتمي لهذا السطوع.

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة الصوت بشكلٍ يبرز جماليته وبريقه وقدراته التعبيرية، فهو الذي لحن مختلف الأنواع والقوالب الغنائية كالموشح والقصيدة الكلاسيكية والطقطوقة، إلى جانب الأغنية الشعبية المعاصرة أو المستوحاة من الفلكلور، مساهماً، بموهبته واسعة الأفق، في تطوير وعصرنة القوالب الغنائية التقليدية، دون أن يتأثر بحالة التغريب التي تأثر بها كثير من الملحينين العرب، الذين أدخلوا الأنماط والإيقاعات الغربية إلى الموسيقى العربية، فطوال مسيرته الفنية حافظت ألحانه على طابعها الأصيل الذي يحمل صبغة طربية وروحانية متفردة، تنهل من كنوز المقامات والإيقاعات العربية، كما تميزت ألحانه برشاقتها وبلغتها التعبيرية الرصينة، وجُملها اللحنية المكثفة والمبتكرة، والتي منحتها قدرة فريدة على التأثير في نفوس المستمعين مهما تعاقبت عليها السنين.

ولد المُلحن محمد محسن (اسمه الحقيقي: محمد الناشف) في حي قصر حجاج في دمشق عام  1922. درس الابتدائية في مدرسة صلاح الدين الأيوبي، والإعدادية في مدرسة التجهيز الثانية. بدأ عشقه وشغفه بالموسيقى منذ طفولته، فكان يحفظ الكثير من الأغاني التي ساهمت في تطوير موهبته في الغناء. وخلال دراسته الإعدادية بدأ تعلم الموسيقى وعزف العود على يد الفنان صبحي سعيد الذي كان يمتلك مكتباً لتعليم الموسيقى في سوق الخجا القديم. ولأن عائلته كانت ترفض أن يمتهن أبناؤها العمل الفني، اضطر لترك بيته عدة مراتٍ والإقامة في الفنادق والعمل في أعمالٍ مختلفة ليتمكن من تأمين مصروفه الشخصي ودفع أجور دروس الموسيقى، وللسبب ذاته غيّر اسمه من محمد الناشف إلى محمد محسن عندما بدأ الغناء في الإذاعة كي لا تتعرف عائلته عليه.

بدأ مسيرته الفنية كمغني، حيث لحن له أستاذه صبحي سعيد أولى أغنياته وهي : “أحلى يوم” ، ومع افتتاح إذاعة دمشق بداية الأربعينيات إنضم  إليها ليعمل فيها، بدايةً، كمغني ضمن كورس الإذاعة، ثم كمطرب يقدم الغناء الإفرادي في حفلاتٍ إذاعية تُبثُّ على الهواء مباشرة، حيث غنى حينها الكثير من الأغاني الطربية القديمة، وعدداً من الأغاني التي لحَّنها له الملحن مصطفى هلال ومن بينها: أغنية “لقاء” و “أين كأسي” . وقد لحَّن محسن لنفسه في تلك المرحلة عدداً من الأغاني ومنها : “يم العيون كحيلة”، ” الليلة سهرتنا حلوة الليلة”، والتي غناها من بعده بعض المطربين مثل نجاح سلام. 

في عام 1945 سافر محسن إلى القدس وعمل في إذاعتها مطرباً وملحناً، وقد خصصت له الإذاعة أربع حفلاتٍ غنائية شهرياً. وخلال إقامته في القدس، التي استمرت لثلاث سنوات، تعرف على الموسيقي الفلسطيني الكبير حنا الخل وتعلم منه بعض دروس العلوم الموسيقية والتدوين الموسيقي، التي أَغنت قدراته وثقافته في مجال التلحين، وقد لحَّن في تلك الفترة للمطرب الأردني سعيد العاص ولعدد من المطربين الفلسطينيين مثل: ماري عكاوي، محمد غازي وفهد نجار. وفي عام 1948، ومع وقوع نكبة فلسطين وتوقف إذاعة القدس عن البث، عاد محسن إلى دمشق ليعمل في إذاعتها مجدداً ويبدأ مرحلة جديدة في مسيرته الفنية، حيث لحَّن حينها لعدد كبير من المطربين، مثل: ماري جبران، سعاد محمد، وناديا وغيرهم. انتقل بعد ذلك في بداية الخمسينيات إلى إذاعة الشرق الأدنى في قبرص وعمل فيها لمدة عامين، مراقباً للموسيقى والأغاني، إلى جانب تلحين الكثير من الأعمال لعدد من المغنيين والمطربين العرب، ثم تنقل بعدها بين لبنان ومصر وسوريا وعدد من بلدان الوطن العربي، ليتعامل مع كبار المغنين وعمالقة الطرب. 

غنى محمد محسن من ألحانه أكثر من عشرين أغنية، قبل أن يترك الغناء في بداية الخمسينيات ليتفرغ للتلحين بشكل كامل، حيث لحَّن لأهم وأشهر المطربين السوريين خلال مراحل مختلفة ليساهم في صناعة شهرتهم، من جهة، وفي تطوير الأغنية السورية، من جهة أخرى، ومن أبرز ما لحَّنه: قصيدة بالله يا دار، عيون المها بين الرصافة والجسر و ألا أيها البيت الذي لا أزوره للمطربة الحلبية الكبيرة مها الجابري، وموشح قد بارك الكون أسباب الهوى، وقصيدة في خاطري في القلب في خلدي  للفنان صباح فخري. و اسكتش الوفاء / هيا يا ربعي هيا (بالتعاون مع إذاعة الرياض) وأغنية سرى الليل يا ساري  و إنتي وبس  للمطرب فهد بلان، وأغنية هيفا يا هيفا و  هن.. هن للمطرب موفق بهجت، هذا إلى جانب ما لحَّنه للمطربة الكبيرة فايزة أحمد وماري جبران والمطرب رفيق شكري وياسين محمود وفتى دمشق.

بصمة فنية عربية  

يُعد المُلحنان محمد محسن ومحمد عبد الوهاب، الوحيدان اللذان لحنا للسيدة فيروز من خارج لبنان. ففي مطلع السبعينيات التقى محسن بالأخوين رحباني فعرضا عليه تلحين قصيدة سيد الهوى قمري  من كلمات الشاعر الأخطل الصغير، وقد لحَّنها محسن وفق قالب الموشح وبطريقة طربية ساحرة وشاعرية، جعلتها من روائع أغاني فيروز الخالدة. وفي نهاية التسعينيات أرادت فيروز أن تجدد تعاونها مع محسن فاتصلت به ليسافر إليها من دمشق إلى بيروت، وقد أثمر اللقاء عن تلحين  أربع قصائد  من روائع الشعر العربي، صدرت ضمن ألبوم “مش كاين هيك تكون” ، وهي: جاءت معذبتي للشاعر لسان الدين بن الخطيب، لو تعلمين بما أجن من الهوى للشاعر جميل بثينة،   أُحب من الأسماء  للشاعر قيس بن الملوَّح، وقصيدة ولي فؤادٌ إذا طال العذاب به للشاعر البحتري. وقد شكلت تلك الألحان نمطاً غنائياً طربياً ذو طابعٍ حداثوي، يختلف عن الأُطر التقليدية في تلحين القصيدة الكلاسيكية، مع حفاظه على روح المقامات والإيقاعات الشرقية.  

وإلى جانب السيدة فيروز لَحَّن محسن للمطربة اللبنانية الكبيرة نور الهدى عدداً من الأعمال الغنائية المميزة ومنها : موشح  أطرَب على نغمة المثاني وقصيدة  يا من لديك الجمال ، أنحلتني بالهجر ما أظلمك ، حبيبي في الهوى ، وأغنية حليوة حليوة . كما لَحَّن للفنان وديع الصافي: أغنية النجمات صاروا يسألوا ،  أنت القلب ،  ما أطولك يا ليل ، إنت الحبيب ، عندي جارة يا لطيف ، قطيعة يا رفيقنا، عيونها الكحلى  وغيرها.  ومن أبرز ما لحَّنه  للفنان نصري شمس الدين: أغنية ما أصعبك عالقلب يا يوم السفر ، وللفنانة  صباح : أغنية  سلم سلم ع الحبايب، رجَّال أحلى من المال، ما حبيتك لا لا ، طق ودوب ،  يما في شب بهالحي ، وأغنية لله يا عاشقين من فيلم شارع الضباب.

ومن بين ما لَحَّنه لبعض المطربين اللبنانيين أيضاً: أغنية الليلة سهرتنا حلوة الليلة و قصيدة هذه دنانير للفنانة نجاح سلام. أغنية يا حلو تحت التوتة  و ولو يا أسمر ولو للمطربة نازك. أغنية حل عنا حل  للمطربة شيراز، وأغنية شوي شوي للمطربة نورهان، هذا إلى جانب الألحان التي قدمها للمطربة سميرة توفيق وطروب و فدوى عبيد والمطرب عبدو ياغي وغيرهم.

وخلال زياراته المتكررة لمصر في مرحلة  الستينيات والسبعينيات، تعاون محسن مع إذاعة القاهرة ، وقدم عشرات  الألحان لكثير من المطربين المصريين، مثل: نجاة الصغيرة، شادية، عفاف راضي، محمد عبد المطلب، محمد قنديل، محرم فؤاد، محمد رشدي، شريفة فاضل، عبد الغني السيد، إسماعيل شبانه وغيرهم. ومن أشهر تلك الألحان: أغنية أبحث عن سمراء للمطرب محرم فؤاد، التي حققت له شهرة واسعة في الوطن العربي، وأغنية يا ماشي على درب الحلوين للثلاثي المرح.

ويعتبر محسن من الملحنين العرب القلائل الذين لحنوا اللون الخليجي من خارج منطقة الخليج، حيث لحَّن الكثير من الأعمال الغنائية لصالح إذاعة الرياض خلال زياراته المتكررة للملكة العربية السعودية نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وتعاون مع أهم وأشهر مطربي المملكة. ومن أبرز ما لحَّنه للفنان محمد عبدو في  بداياته الفنية  : الأغنية الشهيرة والمميزة خاصمت عيني من سنين  التي حققت له شهرة واسعة وشكلت منعطفاً فنياً هاماً في مسيرته الفنية، وأغنية حبيبي مرني بجدة التي تعتبر أيضاً واحدة من أجمل وأشهر أغانيه. وما زال عبدو يشدو بتلك الأغنيتين في حفلاته حتى يومنا هذا.  كما لحَّن له أيضاً قصيدة أعطني قلبي  وأغنية وضحى الحزينة . وإلى جانب محمد عبدو لحَّن محسن للفنان طلال مداح أغنيتين من ألبوم “يا مسافر”، وأغنية بيني وبينكم إيه من فيلم شارع الضباب.

مكتشف المواهب وصانع النجوم

لم ينحصر دور محمد محسن في التلحين لكبار الفنانين العرب، بل ساهم في اكتشاف موهبة بعضهم وتقديمهم للجمهور وصناعة شهرتهم التي جعلتهم نجوماً فيما بعد، ومن بينهم المطربة فايزة أحمد ووردة الجزائرية وسعاد محمد.

في نهاية الأربعينيات التقى محسن بالمطربة سعاد محمد في بداياتها الفنية، فكانت أولى ألحانه لها: أغنية دمعة على خد الزمن ، ثم تبعها عدد من الأغاني، ومنها:  وين يا زمان الوفا ، غريبة والزمن قاسي ، يلي كلامك زي السكر ، يسعد صباحك يا روحي ، والقصيدة الوطنية الشهيرة جلونا الفاتحين  التي قدمتها خلال احتفال رسمي بمناسبة عيد الجلاء، وهي من شعر بدوي الجبل. وتُعد بداية الشهرة الحقيقية للفنانة سعاد محمد بعد غنائها للأغنية الخالدة  مظلومة يا ناس مظلومة  التي لحَّنها محسن بعبقرية فنية فريدة وبتنوع مقامي غني وساحر، عَبَّرَ بشكلٍ تصويريٍ بليغ عن كلمات الأغنية الوجدانية، التي كانت لسان حال الكثير من النساء العربيات، وأظهر جماليات وسحر صوت الفنانة محمد، لتحقق لها  تلك الأغنية نقلة فنية نوعية ونقطة تحول بارزة في مسيرتها الفنية، حيث بيعت الملايين من أسطواناتها وكَتب عنها الكثير من الباحثين الموسيقيين والنقاد والمهتميين بالشأن الموسيقي، وأصبحت حينها تذاع في معظم الإذاعات العربية.

وفي بداية الخمسينيات وعندما قدمت المطربة فايزة أحمد من حلب للغناء في دمشق كان محسن من أوائل الملحنين الذين التقوا بها، وعندما استمع إليها وهي تغني لأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد، أُعجب بجمال وعذوبة صوتها، ولحَّن لها عدداً من الأغاني، التي أظهرت قدراتها الصوتية وأبرزت شخصيتها الغنائية الخاصة وقدمتها للجمهور بطريقة فنية مميزة، ومنها: أغنية درب الهوى، ليش دخلك ما إجا منك خبر ، ما في حدا يا ليل ، يا بيت الأحباب  والأغنية الدينية يا رب صلي على النبي ، وقد ساهمت تلك الأغاني في صناعة شهرة الفنانة أحمد وكانت بمثابة بوابة عبورها إلى القاهرة التي أصبحت مقر إقامتها شبه الدائمة، لتصبح من عمالقة الفن والغناء العربي فيما بعد. وبعد انتقالها إلى مصر لَحَّن لها محسن الأغنية الشهيرة شفتك حبيتك يا سمارة .

وقبل أن يُلحن لها الموسيقار بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من عمالقة الفن، التقت المطربة وردة الجزائرية عند قدومها من باريس إلى بيروت منتصف الخمسينيات بالملحن محمد محسن الذي اكتشف موهبتها الغنائية الفريدة وكان أول من لحَّن لها أولى أغنياتها الخاصة، وهي أغنية دق الحبيب دقة ، ثم لحَّن لها عدداً من الأغاني التي وضعتها في بداية طريق الشهرة، ومنها: أغنية  يا أغلى الحبايب ، على بعدك فاتت ليلة ، وفر مراسيلك ، على باب الهوى ،  قالولي ظالم، تلتها الأغنية الوطنية الشهيرة أنا من الجزائر أنا عربية  التي غنتها خلال ثورة الجزائر عام 1960، والتي شكلت الإنطلاقة الأبرز والأهم في مشوارها الفني في تلك المرحلة وأكسبتها مزيداً من الشهرة والنجاح، بعد أن بثتها معظم الإذاعات العربية ليصل صوتها إلى شريحة واسعة من الجمهور العربي. وكان آخر ما لحنه محسن لوردة في السبعينيات : أغنية ولو .. لا طلة ولا زيارة  ، مش قادرة على قلبي ، والأغنية الأكثر شهرة  روَّح يا هوى.

في الدراما والسينما

يُعد محمد محسن من أوائل الموسيقيين السوريين الذين عملوا في مجال الدراما والسينما من خلال تأليف الموسيقى التصويرية وتلحين الأغاني لكثير من المسلسلات والأفلام، ومن أشهر ما قدمه :

– تلحين عدد من أغاني مسلسل الحلاق والكنز ، عام 1973 ، والتي غنتها المطربة اللبنانية طروب، بطلة المسلسل، ومن بينها : أغنية  يا فرحة لاقينا ، طبيب الهوى نصحني ، على شط الهوى يا حبيبي ، هدية حلوة كتير

– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسسل فارس ونجود  عام 1974 وتلحين أغنياته، التي كتبها الشاعر موفق شيخ الأرض وغنتها المطربة سميرة توفيق، بطلة الفيلم، ونذكر منها : أغنية  يما أنا ما أدري ، ما أحلا صباح البادية ، ولد العم يا ولد العم ، شاردة أنا وقلبي ، لولا الأمل و يا عين خبي الدمع .

– في العام 1974 لحَّن محسن (إلى جانب الموسيقار بليغ حمدي وعدنان أبو الشامات وعزيز غنام وغيرهم) عدداً من قصائد وموشحات مسلسل الوادي الكبير، ومن بين ما لحَّنه : خيالكِ في الفؤاد وفي العيون ، كم مُغرمٍ ، أليس من البلية أن أراني ، جلَّ الرحمن وما صَوَّر ، أٌقلِّبُ طَرّفي في السماء ، في خاطري في القلب في خلدي ، تُساؤل  ، طاف الهوى بعباد الله . وقد غناها المطرب صباح فخري. هذا إلى جانب موشح هلموا خلف شادينا ، وقصيدة حيي الوجوه الملاح وهما من غناء المطرب اللبناني عبدو ياغي.

– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل سمرا عام 1977وتلحين معظم أغاني المسلسل ( بعض الأغاني كانت من تلحين الملحن إلياس الرحباني ورفيق حبيقة) التي كتب كلماتها الشاعر حسين حمزة  وغنتها المطربة سميرة توفيق التي لعبت دور البطولة في المسلسل، ومن بين الأغاني  التي لحَّنها محسن : أغنية  ديرة هلي ، أداري والزمن داري ،  توبة يا ليل ، يا هوى العشاق ، سهرانة  و غربة وغربوني

– تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل عليا وعصام وتلحين أغاني المسلسل التي غنتها الممثلة فدوى عبيد.

– تلحين الكثير من أغاني الأفلام مثل: أغنية عيد الميلاد من فيلم فندق السعادة، وقد غنتها الفنانة شمس البارودي، وعدد من أغاني فيلم حبيبة الكل ،  شارع الضباب ، أين حبي ، وفيلم عتاب، وغيرها من الأفلام.  

توفي محمد محسن في عام 2007 عن عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً، تاركاً لنا مئات الألحان الخالدة التي أَثرَت وأغنت مكتبة الموسيقى العربية، ونقشت اسمه بحروفٍ من ذهب إلى جانب عمالقة الفن في سجل الخالدين. تلك الألحان كانت، طوال فترة إعداد هذه المادة، تشاركني معظم تفاصيلي اليومية، أسمعها طوال الوقت، وأبحث عنها بلهفة وشغف، ومع كل اكتشافٍ للحنٍ جديد كنت أشعر وكأنني عثرت على كنز فأتوقف عن البحث والكتابة لأسمعه مرة ومرتين أو أكثر، وأنا في حالة من المتعة والسعادة البالغة، المصحوبة بالكثير من الشكر والامتنان للملحن العظيم محمد محسن الذي كان وسيبقى يُذكرنا بالوجه الجميل والمبدع لسوريا.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

حلب، روحاً وتاريخاً في رواية “خاتم سليمى” للروائية ريما بالي

حلب، روحاً وتاريخاً في رواية “خاتم سليمى” للروائية ريما بالي

“إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعّة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبّة والنفوس المُتضامنة بالتفاهم”. نعم الأرواح أثيرية لا تنتهي بالقبر ولا تبدأ بالرحم، تستلهم ريما بالي هذا المعنى من جبران خليل جبران في روايتها “خاتم سليمىالصادرة عن تنمية لعام 2022، والتي دخلت بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2024 لتوحي لنا منذ البداية أنها تأخذنا إلى عالم الروحانيات الصوفي، أجواء وظفتها لوصف عبق المدينة وإرثها الحي وكل ما تذخر به ذاكرتها عن مدينة حلب ورائحة التوابل والغار وحبة البركة والزنجبيل، إلى آثارها؛ قلعة حلب؛ الخانات وأزقتها وحاراتها، إلى صناعاتها التقليدية كالسجاد اليدوي والصابون، كما تعرج على عاداتها وتقاليدها وموسيقاها، عادات الأكل والملبس وما تتميز به من تنوع ثقافي وعرقي واجتماعي، فحلب تجمع  فسيفساء بشرياً متناغماً مع أصولها العريقة كأقدم مدينة مأهولة في التاريخ ، دون أن تغفل عن الواقع الذي انقلب، كيف خربت الحرب المجنونة كل هذا الجمال، الحرب التي دارت رحاها في السنوات الأخيرة وتسببت بكل ذلك الخراب والموت والتهجير لناسها وأبنائها وما خلفته من شرخ عميق في البنيان المجتمعي الذي كان تعدده أحد أهم ميزاته وخصاله البارزة.  

تعلن بالي في منجزها حضور المكان بكل تفاصيله وجماليته إذ يبرز بطلًا أساسيًا في لعبتها السردية، وهو يختزن عبق التاريخ وبخوره وروائحه التي تشي بملامح حلب الثقافية وطقوسها حيث الموسيقا؛ السياحة التراثية؛ تقاليد حلب في الإفطار والسحور أيام رمضان، وأصناف الطعام الشهيرة ذات النكهة المميزة لحلب من الكبة للفتوش للمحمرة إضافة لإضاءتها على واقع الصناعات الشعبية التراثية مثل السجاد والتحف والأنتيكات لتعرج بعدها على الحرب والدمار الذي لحق بمناطقها الأثيرة ذات التاريخ والحضارة، فكل حرب خاسرة مهما كبرت أوهام النصر لدى أي طرف كان، كانت حلب المدينة التي تنزف وتحترق وكل ما عداها تفاصيل قد نتفق حولها وقد نختلف.

هذا الإسهاب في الوصف كان عميقًا وحميميًا لتبيان ذلك التناقض الحاد بين الثنائيات المتعارضة بين ما كان وما صار، بين الجمال وبين القبح، بين أيام الحرب وأيام الدعة والسلام.

من عنوان العمل يتضح أنها توظف حكاية خاتم سليمان بالقص التوراتي “خاتم سليمان منحه الرب لنبيه سليمان، خاتم ذو قدرات خارقة أهمها التحكم في الجن والتحدث مع الحيوانات إلى أن حدثت واقعة سرقة كبير الشياطين للخاتم وتشكله بصورة الملك سليمان وجلوسه مكانه على العرش”. تسقط الكاتبة الحكاية على قصة الحب التي تعيشها البطلة سلمى بين المستشرق شمس الدين الذي استوطن حلب وعشقها ولوكاس الإسباني من جذور يهودية والخاتم الذي يتحرك بينهما، مع تخوم ضائعة الدلالة لرمزية كل منها لتنهي العمل بذلك الالتباس الذي يصيب القارئ بالحيرة والتساؤل وبذلك تكون أدخلته في شرك لوثة الخاتم أهو مع شمس الدين أم مع لوكاس، من فيهما القديس ومن هو الشيطان، من هو الحي ومن هو الميت، من منهما الأثير إلى النفس ومن منهما الخيار الأفضل.

تتركنا الكاتبة في فضاء التخمين والتخيل في تقصي لعبتها التي تفضي أخيرًا لضياع الخاتم، الخاتم الذي ينتظر القرين المناسب في رمزية الحبيب والمنقذ للحبيبة والمدينة.

 ريما بالي الذي حفل رصيدها السردي بأربع روايات هي “غدي الأزرق” و”ميلاجرو” (المعجزة بالإسبانية) و “ناي في التخت الغربي”كانت “خاتم سليمى” قبل الأخيرة منها لم تلتزم فيها بالترتيب المتسلسل للأحداث فكل حكاية ترصدها في زمن سابق أو لاحق ليكون على القارئ عبء لملمة الحكاية وترتيب أحداثها وفق تصوره وخياله مشركة إياه في تساؤلات عدة نلحظها من خلال حوارات أبطالها كشمس الدين العارف الذي يعرف كل شيء ولوكاس الذي لا يعرف، وكيف يعرف المرء نفسه، وماذا يريد وهل تعرف سلمى نفسها وهل المعرفة نهائية يا ترى، إذ نعرف أن الذات نفسها متغيرة نتيجة تفاعلها مع الظروف المحيطة وحسب تبدلات الزمان والمكان، وقد تتطور وتتقدم إلى الأمام وقد يحصل العكس، وتساؤل آخر عن ماهية الحب وهل هو وهم أم حقيقة، ليأتي الجواب الصادم من قبل شمس الدين بأنه كيميا، يأتي نتيجة تفاعلات بين عناصر معينة، هذه الإجابة التي جاءت بعيدة عن منطقه الصوفي فعلى الرغم من أن الصوفية توهان في ماورائيات وتجليات لاستنارة روحانية جاء تفسيره أقرب للعلم والمنطق وربما لنفسر عدم تجاوبه مع مشاعرها وجعلها قيد انتظار الزمن بالنزعة النرجسية له فلأننا نحب أنفسنا نحب استمرار عشق الآخرين لنا ومن ناحية أخرى قد نفسر الأمر بخوفه من تكرار تجربة أمه بهروبها مع شخص آخر بعد انتهاء أحاسيسها تجاه أبيه،  ما جعله يبعد الصبية عنه بشكل جزئي.

من اللافت للنظر إصرار بالي على طرح نماذج لشخصيات لأمهات لا تحكمها العاطفة مثل (لولا –أم لولا –أم شمس الدين-جدتها القاسية التي لم تلتقها إلا عندما فقدت ذاكرتها) في فكرة التخلي عن الأبناء لصالح عشق أو قناعة ما، وهذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي: ماذا عن الآخر الأب وماذا عن مسؤوليته كذلك وما دوره وهل نفهم أنها نزعة ذكورية لدى الكاتبة؟

قضايا اجتماعية متعددة تثيرها ابنة حلب أهمها الزواج المختلط لتعطي فكرة عن الأنساق الثقافية السائدة وجانب آخر للتنوع المجتمعي غير المتصالح مع بعضه والذي يرفض اقتران طائفة من طائفة أخرى بقضية النسب والمصاهرة، وهو شرخ تم استخدامه للتفريق بين أطياف المجتمع لاختراقه بالحرب الكارثية التي اشتعلت بالبلد حيث الروايات خزان التاريخ الذي لم يدون بعد ولكننا نلتقطه في ثنايا الحكاية.

تجري الكاتبة  تناصاً مع موروث الحكايا الشعبية وتوظفها لصالح العمل في نوع من المحاكاة لقصة السندباد وبساطه الطائر في متخيلها عن سجاجيدها اليدوية وفضاءات العالم الذي نسجته المتأرجح بين الواقع والخيال،  فما أن يستلقي الشخص  على سجادة منها يرافقه اشتعال شمعة إلى نهايتها، حتى يبحر في عالم لازوردي تهويمي من الأحلام والآمال، ما يكاد أشبه بنبوءة أو نوع من الإشارة لما سيحدث؛ أو نوع من الاستخارة لمشكلة أو موضوع أو رأي، هذه السجادة التي يطير فيها المستلقي على أعنة الحلم والخيال كنوع من المشابهة بين  بساط سندباد الطائر الذي يطير به وينقذه من خطر محدق أو يسارع به بالوصول لإنقاذ أحد ما، ليكون بوابة التحليق في الخيال لصالح نبوءة أو رأي ويأتي حلًا لأمر مؤرق.

تحمل خيوط السرد بالتناوب على لساني لوكاس وسلمى، وتأتي قفلة العمل إبداعاً آخر مبلبلاً لانتباه القارئ ومشتتًا لقناعته في لملمة أطراف الحكاية المسرودة، عندما تخاتله في الفهم الملتبس بين الحياة والموت، بين لوكاس وشمس الدين، من الذي بقي ومن الذي مات لتبقى النهاية مجهولة وليبقى الاحتمال معلقًا ومفتوحًا وفق رؤى تبقي الحوار قائمًا حول الفكرة والقضية ولا تنتهي بانتهاء العمل.

*ملاحظة: تم حديثاً اختيار رواية “خاتم سُليم” ضمن القائمة القصيرة لـ “الجائزة العالمية للرواية العربية” (بوكر العربية) في دورتها الـ17، وسيُعلن عن الرواية الفائزة في أبو ظبي، بتاريخ الـ28 من نيسان|إبريل 2024.

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ”ألواح أوغاريت”، يرمز إلى “بلاد كنعان” أو “فينيقيا” تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من خراب لا بدّ من أن تُعيد خلق نفسها من جديد، وكأنَّ صيرورتها لن تكتمل إلا إذا انبثقت من ظلام العدم لتتجلّى في ضوء الوجود، إذ ليس مُستبعداً أن تظهر حضارة وتتدهور، ولا أن يظهر إنسان للوجود ثُمَّ يَفنى؛ لكن المُستبَعدَ أو على الأقلّ غيرَ المرجَّح أن ترجعَ حضارةٌ عظيمةٌ بائدةٌ أو أن يعود إنسانٌ إلى الحياة بعد زواله؛ لكنَّ هذا الرجوعَ أو العَوْدَ قارٌّ في أعماق الذّهنيّة الكنعانيّةِ أو الفينيقيّة القديمة. ولقد عبّرَ زينون الرواقيّ (335-264 ق.م)-المعروف عند اليونانيين في عصره بالفينيقيّ نسبةً إلى بلاده الأصليّة فينيقيا-عن دورة البَعْل تعبيراً فلسفيّاً صادماً حينما تكلّم على ما أسماه “السَّنة الكُبرى للصيرورة” حين تقوم النَّار المركزيّة التي هي علّة العالم بالحكم على موجوداته وتدميرها بعد أن تكون هذه الموجودات قد استغرقت أزمنتها؛ لكنّ هذه النّار سَرْعان ما تُعيد تكوين العالم من جديد، وتستمرُّ هذه الجدليّةُ الوجوديّةُ العظمى من التدميرِ والتَّكوين إلى ما لا نهاية له!

  وها هو أنطون سعادة حينما واجه بصدره العاري أول رصاصةٍ من رشقات بنادق قاتليه كانَ دَمُهُ يكتبُ “تحيا سوريا” مثلما كانَ دمُ الحلّاج النَّازف–وهو معلّقٌ على صليبه يرتسِمُ ليكتُبَ كلمة: “الله”. ولئن كان الفرق بين دم الحلّاج ودم سعادة أنَّ دمَ الأوَّلِ يصَّاعدُ نحو السَّماء ودمَ الثاني يغورُ في الأرض، فإنَّ الدّمَ من أجل السَّماء ينزعُ من الإنسانِ الجسدَ-الأرضَ، أمّا الدّم من أجل الأرض فهو بذرة لإعادة بعثِ مجدها الضَّائع-التَّلِيد.

لقد كانَ دمُ سعادة هذه البذرة نفسَها، وتكاد تكون من عجائب اللغات أنَّ كلمة “دَمٍ” العربيّة موجودة في اللغة الكنعانيّة-الفينيقيّة، وتُنطق وفق رسمها بالإنكليزيّة DM؛ لكنها لا تعني-كما هو الحال في العربيّة- السَّائل الأحمر الذي يجري في العُروق والشرايين، بل تعني في الفينيقيّة الموجود الإنسانيّ HUMAN BEING؛ وليس هذا فحسب بل تعني كلمة “دمت DMT ” الفينيقية المشتقة من كلمة دم DM نفسِها الأرض LAND [1].

لقد نزف سعادة دمه ليستحيل إلى إنسانٍ وأرض، أو بالأحرى ليُصبح إنساناً يحيا في أرضه التي تحيا به؛ لكنَّ هذا الإنسان الذي هو بالكنعانيّة-الفينيقيّة “دم DM” سرقه العبرانيون وحوّلوه إلى آدَم אדם =Adam، وسلبوا هذه الأرض “دمت DMT” وحوّلوها إلى “أَدَمَا אדמה =Adamah. هذا، ونجد في اللغة العربيّة كلمة آدم بمعنى الإنسان والأدَمة بمعنى الأرض، لكنَّ الفرق بين العبريّة والعربيّة هنا أنَّ الأولى قامت على انتحال اللغة الكنعانيّة –الفينيقيّة وسرقتها، أما الثانية فهي التطور الطبيعيّ-التاريخيّ لها.

جاء موقف سعادة حاسماً ونهائيّاً، فهو حينما نادى بإحياء سوريا الطبيعيّة أراد إحياء حضارة عظيمة مغمورة أو بالأحرى مطموسة تآمر عليها أعداؤها، وهذه الحضارة وفقاً لرأيه لا بدّ أن تكونُ نواتها بلاد كنعان، وهو يُعنى بمن يُسمِّيهم “السوريين الكنعانيين” الذين هم–في رأيه-أول أُناس في العالم اعتنقوا “ديناً اجتماعيّاً خصوصيّاً” أفضى إلى تحقيق “الوجدان القوميّ” الذي يقف تاريخيّاً وراء “الرابطة القوميّة المؤسَّسة على فكرة الوطن”.

قال: “إنَّ الكنعانيين من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشّى على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقاً للوجدان القوميّ، للشُّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير(…)[2]

والحقيقة أنه يجب الانتباه في هذا المقام إلى قضيّة جوهريّة لا بدّ من إيضاحها على نحو دقيق وهي أنَّ سعادة لم يكن مفكِّراً محدود الآفاق ليُحيي الكنعانيين من أجل أن ينكص بالتعويلِ عليهم إلى نزعة عرقيّة مغلقة تتسبب في عزل سوريا الطبيعيّة عن امتداها في العالم العربيّ؛ بل على العكس من ذلك تماماً.

قال: “إنَّ المحافظة على الرباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيين ظلَّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريّات التي أنشأوها (…) ومع أنَّ الفينيقيين (الكنعانيين) أنشأوا الإمبراطوريّة البحريّة، فإنَّ انتشارهم كان انتشاراً قوميّاً بإنشاء جاليات استعمارية تظلّ مرتبطة بالأرض الأم وتتضامن معها في السَّراء والضَّراء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنَّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالروابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظَّاهرة القوميّة الأولى في العالم التي إليها يعودُ الفضل في نشر المدنيّة في البحر السوريّ والتي خبَتْ نارُها من قبل أن تكتمل بما هَبَّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان.[3]

يحتاج كلام سعادة هنا إلى استقصاء معمّق لإزالة أيّ التباس في الفهم، ويمكن لنا هنا أن نؤكّد من دون مواربة أنَّ الكنعانيين عرب أقحاح وهذا أمر غير قابل للمساومة ولا المزاودة؛ لأنَّ محكّ أصل الشعوب تكشفه اللغة، والعلاقة بين أبجديّة أوغاريت واللغة العربيّة أظهر وأشهر من إقامة الدليل عليها، دعْ أنَّ تحدّر العربيّة من الأوغاريتيّة معروف ومشهور لعلماء اللغة ولا يحتاج إلى زيادة بيان. أضفْ إلى ذلك أنَّ انتشار الكنعانيين كان ابتِدَاؤه من المملكة-الأم أوغاريت التي توجد أطلالها الآن في كلّ من رأس شمرا ورأس ابن هاني في منطقٍة على ساحل البحر شمال مدينة اللاذقية تبعد عنها 12 كم. وتؤكد الدراسات الأركيولوجيّة أنَّ الإنسان السوريّ استوطن منطقة أوغاريت منذ الألف السابع قبل الميلاد واستمرت هذه المدينة بصفتها حاضرة زاهرة إلى أن دمرتها شعوب البحر نحو عام 1177 ق.م. لكن لم ينته الوجود الكنعانيّ-الفينيقيّ بل بقي موجوداً وممتداً جغرافيّاً من منطقة لواء إسكندرون في الشمال إلى غزَّة في الجنوب. زدْ على ذلك انتشار الكنعانيين في قبرص والخليج العربيّ وسواحل المغرب العربي وصولاً إلى قرطاج وقادش في إسبانيا وغير ذلك كثير. وهذا الكلام تؤيده الأدلة الآثاريّة على نحو لا يترك مجالاً للشك، فإذا كانت لغة الكنعانيين وجغرافيتهم تتساوقان مع لغة العرب وجغرافيتهم، فألا يُعدُّ هذا الأمر دليلاً قاطعاً على أنَّ إحياء سعادة لسوريا الطبيعيّة يقصد به عُمقيّاً إحياء حضارة عربيّة قديمة مطموسة. ولا يقصد به أيّ نزعة عرقيّة فينيقيّة مغلقة تقتطع أجزاءً من ساحل سوريا الطبيعيّة بدعوى أنّه فينيقيّ وتفصله عن امتداده الطبيعيّ. لم يكن سعادة من دعاة نزعة فينيقيّة مغلقة ولم يكن يفكِّر بها على الإطلاق، وهذا كلام يجب أن يُقال للإنصاف التأريخيّ. غير أنَّ الإنصاف أيضاً يقتضي القول: إنَّ سعادة كان في أعماقه عاشقاً لسوريا بالدرجة الأولى لأنه يجد فيها المخرج من أزمة سياسيّة كبرى كانت تعصف بالأمة العربيّة فهو يعطي الأولويّة للقوميّة السوريّة دون أن ينكر أبعادها الحضاريّة؛ لكن الشعور القوميّ–في رأيه-يتصل بحنين عميق إلى الأرض التي نشأ فيها الإنسان، فمهما كان المرء ذا رغبة عارمة في تكوين قوميّة مترامية الأطراف، فإنه بوصفه كائناً عاطفيّاً مكوّناً من لحم وعظم لن يشعر بالحنين إلى أي مكان أكثر من المكان الذي ولد وعاش به ودُفِن فيه أسلافه وسيظهر عليه أبناؤه.

قال: “إنَّ الوطنَ وبرّيته، حيثُ فتحَ المرءُ عينيه للنّور وورث مِزَاجَ الطبيعةِ وتعلّقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظَّاهرة النفسيّة الاجتماعيّة التي هي القوميّة.[4]”   

    لكنَّ هذه البريّة الكنعانيّة التي سُلبت من أهلها الأصليين خرجَ منها “صوتُ صارخٍ في البريّة”؛ لكنَّ هذا الصوت لم يصدح لهداية “الخراف الضَّالة من بني إسرائيل”؛ بل لطردهم من برّيّة بلاد كنعان.

قال: “اليهود قبائل متعدِّدة هاجمت سورية الجنوبية، واحتلت بعضها بعد حروب طويلة مع سكانها الكنعانيين، وقد بقي اليهود لانكماشهم على ذاتهم، خارج التفاعل الاجتماعي المولِّد للأمة السورية، شأنهم في كل مجتمع نزلوه، وقد قهرهم السوريون وطردوهم من البلاد فلذلك لا يمكن اعتبارهم أحد أصول الأمة السورية.[5]

  غير أنّه لا بدّ من الذهاب إلى أبعد في تحليل حقيقة الوجود اليهودي في بلاد كنعان، فهذا الوجود هو في حقيقته وجود روائيّ، أي وجود قائم على روايات تاريخيّة اختلقها اليهود أنفسهم، فهم شعب من دون جذور وحتى أسفار التوراة التي يُعوِّلون عليها في إثبات وجودهم التاريخي أدّى اكتشاف ألواح أوغاريت إلى إلغائها بصفتها وثيقة تاريخيّة، ولم يعد الباحثون الغربيون الموضوعيون في الدراسات الكتابيّة يُعوِّلون عليها، فكأنَّ أرض كنعان أخرجت من أعماقها ما يَكْلِمُ الكينونة اليهوديّة لينجلي زيفُها.

لقد بدأ الباحثون الغربيون يتّجهون الآن اتّجاهاً عظيماً قد يؤدي إلى تقويض أساطير اليهود على نحوٍ نهائيّ، فها هو–المأسوف على شبابه-مايكل س. هيرز Michael S. Heiser (1963-2023 م) وكان في بداياته باحثاً أمريكيّاً في العهد القديم ومؤلِّفاً مسيحيّاً خبيراً في التاريخ القديم واللغات السامية والكتاب المقدس العبري من جامعة بنسلفانيا وجامعة ويسكونسن ماديسون، قبل أن يتّجه نحو الدراسات الأوغاريتيّة التي غيّرت مسار حياته، يؤكد أنَّ اكتشاف ألواح أوغاريت كشف خفايا ديانة اليهود، ويُنبِّه إلى أنَّ اللغة العبريّة مأخوذة من اللغة الأوغاريتيّة، ويشير إلى أنَّ عبادة البعل عند بني إسرائيل-في مرحلة من مراحل تاريخهم-تعني الكثير من الدلالات، ويرفض هيزر أن يكون مصدر عقائد اليهود هو بلاد ما بين النهرين؛ بل مصدرها هو أوغاريت نفسها، ويذهب في التحليل إلى حدّ توكيده أنَّ معاهدة يهوه مع شعبه المختار–كما هي واردة في التوراة-مأخوذة من أدبيات المعاهدات الأوغاريتيّة الجارية في الحياة العاديّة! ويورد على نحو مثير للدهشة مقارنة بين نصوص معيّنة من ألواح أوغاريت ونصوص محدّدة من أسفار التوراة على النحو الآتي:

    “سِفْر دانيال 7: قديم الأيام، إله إسرائيل جالس على العرش الناري ذي العجلات [مثل إيل الأوغاريتي، فهو ذو شعر أبيض وكبير في السِنّ (“قديم”)]

 ألواح أوغاريت/دورة البعل: إيل، الإله العَليِّ المُسِنّ، هو صاحب السيادة المطلق في المجلس.

سِفْر دانيال 7: يهوه (=في ألواح أوغاريت: إيل)، القديم الأيام، يمنح المُلك لابن الإنسان الذي يركب السحاب بعد تدمير الوحش من البحر (في ألواح أوغاريت الوحش هو: يمّ).

ألواح أوغاريت/دورة البعل: يمنح إيل الملكية للإله بعل، راكب السحاب، بعد أن هزم بعل الإله يمّ في المعركة.

سِفْر دانيال 7: يعطي ابنَ الإنسان السُّلطانَ الأبديَّ على الأمم. وهو يحكم عن يمين يهوه.

ألواح أوغاريت/دورة البعل: بعل هو ملك الآلهة ووزير إيل، وحُكْمُهُ أبديّ.[6]

تكشف هذه المقارنة المدهشة التي أجراها هيرز بين التوراة وألواح أوغاريت أنَّ البعل الأوغاريتيّ قام من موته وهو حامل بيده زوبعته ليضرب بها يهوه؛ ولقد استشرف سعادة لقيام البعل وعرفَ أنَّ البعل لن يقوم إلا من سوريا؛ لذلك تلقّف سعادة هذه الزوبعة، فلم يقدر على حملها وحيداً، وواجهته وحوش واقعه التاريخيّ فكتب للسوريين من أبناء جلدته بدمه النَّازف: “إنّكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبرٍ في التَّاريخ.[7]

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

    الحواشي


[1] -PHOENICIAN-PUNIC DICTIONARY BY CHARLES R. KRAHMALKOV, UITGEVERIJ

PEETERS en DEPARTEMENT OOSTERSE STUDIES LEU VEN 2000, P.P, 33-34.

[2] أنطون سعادة، نشوء الأمم، دمشق، ط2، 1951، ص:179.

[3] -المصدر نفسه، ص: 180.

[4] -المصدر نفسه، ص: 181.

[5] -أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، دار سعادة للنشر، ص: 177.

[6] – Michael S. Heiser, What’s Ugaritic Got to Do with Anything? https://www-logos-com.translate.goog/ugaritic?ssi=0&_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=sc

[7] -صدى النهضة، بيروت، العدد 132، 2/9/1946.

قراءة في فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى

قراءة في فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى

“تم التصوير في تونس، وذلك لأني لا أستطيع التصوير في سوريا لأسباب سياسية، مرتبطة بـ”ثورات الربيع العربي”. من المفترض أن الحدث يقع في إحدى بلدان اللجوء للسوريين، وقد اخترت أن يوحي الأمر وكأن مخيم اللاجئين موجود في الأردن، وكذلك قرية الزوج “زيدان”، الذي أدى دوره الممثل الفلسطيني محمد بكري، ولهجته قريبة من اللهجة الأردنية. جميع الممثلين والممثلات من تونس (باستثناء السوري الوحيد في طاقم التمثيل الممثل عيسى العيسى، الذي لعب دور الأخ)، وعلمناهم اللهجات المطلوبة، فكانت لهجة “أم ليلي” و”المحقق” سوريّة، أما البقية المفترض أنهم من قرية الزوج، فقد علمناهم اللهجة الأردنية، في حين كانت البطلة الرئيسية التونسية “ليلى” صامتة طوال الفيلم”.
                                                                           المخرج السوري ثائر موسى

بطاقة الفيلم

فيلم روائي طويل مدته 100 دقيقة

سيناريو وإخراج: ثائر موسى

إنتاج: شركة ميتافورا- شركة سينيتلفيلم

بطولة: محمد بكري – نور حجري

مدير التصوير: حاتم الناشي (تونسي)

مونتاج: أنس السعدي (تونسي)

موسيقى: حمزة بوشناق (تونسي)”.

تسنت لي مشاهدة فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى، الصديق الشخصي والروحي، بفضل لفتة لطيفة منه بإرساله إلي. يتحدث الفيلم عن مقايضة بين عجوز (متزوج وله بنات ثلاث)، من أحد بلدان اللجوء السوري، وبين والدة وابنتها الصغيرة (المراهقة)، اللتين تقيمان في أحد مخيماته، هرباً من قمع “النظام الديكتاتوري السوري” إثر انفجار “ثورة الربيع العربي” فيه. وتستند المقايضة على تزويج الفتاة الصغيرة من العجوز مقابل وعد منه بإنقاذ أخيها من “المعتقل السوري”، عن طريق معارف له في سورية. الوعد، الذي كان فخاً للإيقاع بالفتاة ليلى، لم يتحقق بالطبع، التي لم تجد وسيلة لمقاومة الظلم سوى بالامتناع عن الاستسلام للعجوز وبـ”الصمت”.

أصبح “التهجير السوري” بحد ذاته تراجيديا أسطورية، بكل المآسي التي يحملها، تتجاوز فيه المشابهة مع “الأوديسة” الإغريقية إلى مشهد تراجيدي مفتوح على الأمكنة والأزمنة كلها في عالمنا الشرقي ـ العربي. هل هذا ما يرده الفيلم، أم هي انطباعاتي الشخصية عنه؟

لم يطلب ثائر أن أكتب شيئاً عن الفيلم، فأنا روائي ولست ناقداً، وبالأخص سينمائياً. لكني أمام قصيدة شاعرية بصرية مذهلة بلا حدود إلى درجة الدهشة، لم أستطع كتم التعبير عن انفعالاتي الإنسانية، وقررت أن أكتب انطباعاتي الشخصية:     

الدمعة تزور العين، عندما تشاهد اللقطة الأخيرة من فيلم “مزار الصمت”، كما زارت عين الأخ “أحمد”؛ الدمعة تختزن بكثافة أحزان القلوب في بلادنا، وكل القهر الذي نعانيه فيها منذ غابر الأزمان، ومازال حاضراً باستمرار. الحزن والقهر يلاحقنا في ذواتنا، وأحلامنا، وذكرياتنا، بحيث أصبحا متأصلين فينا جمعياً. والرجل العربي لا يذرف الدمعة إلا لقهر شديد ناله، بما يساوي قسوة موت أحباء، هو عاجز عن إنقاذهم، فيستسلم أخيراً لدمعته. تسقط الدمعة، وصدى عبارة “يللي حبسوك (يا أحمد) هم الذين قتلوها”، “نحن كلنا قتلناها” تلاحقنا بصدى قاتل بعد انتهاء الفيلم. نحن جميعاً قتلنا “ليلى”، وهذه العبارة بهذه الكثافة من القهر تختصر كامل الفيلم.

القصيدة البصرية تبدأ منذ اللقطات الأولى للفيلم، عندما تهفهف النسائم بستارة شفافة بيضاء، ووراءها يتساقط شعر فتاة، يغتسل بشلال مياه، كما المطر (هل تعرفون موسيقى المطر في بلادنا، كم هي جميلة، وكم تثير من الحزن المبهم والحنين في ذواتنا). والفتاة تسرح شعرها المبلول، كم هي جميلة في هذا؛ هي الحبيبة، الأخت، الأبنة، الأم. منذ هذه اللحظة، نعرف أننا دخلنا قصيدة بصرية شفافة، طافحة بشاعرية متفجرة، دون كلمات، وإنما بصور؛ رحلة في أسطورة تراجيدية، في حكاية صوفية، رحلة إلى الذات، أم إلى جموع ذوات، يحاصرها القهر والألم، وكلهم أنا، وكلهم نحن.

عند هذه اللحظات الأولى، أمسك قلم خيالي، وأبدأ معك كتابة قصيدة الصور، ثائر الجميل، وأرافقك مشاركاً رسم الأسطورة ـ الحكاية، بعد أن أبثها أحلامي، وذكرياتي، وحنيني، فتهمس لنا كلمات، توشوشنا، كي نتناقلها بتخاطر الأرواح، جيلاً بعد جيل. ألست أنت ثائر، الذي كسر بالصور الأزمنة والأمكنة، خارج التقاليد المجترة، فلا ندري، وقد خرجنا منها، في أي بلاد، وفي أي أزمنة، نحلق نحن. آه، نحن البلاد جميعها، التي نكتب حكايتها معاً، ونحن الأزمنة جميعها، المتراكمة في أرواحنا حنيناً مغمساً بالقهر، نتوارثه عبر الأجيال. والحكاية صور، نغوص فيها عميقاً، فنجتاز بالحنين الأمكنة والأزمنة فيها.

يلاحقنا البطلان الرئيسيان طوال الأسطورة ـ الحكاية إلى حد الاختناق شغفاً، يخترقان الكيان، ويسريان في الدماء، ويتغلغلان في الذاكرة. يوجعاننا بكاء، يتفجر في سفر الحنين إلى شيء، يكاد يكون مبهماً غامضاً في لاوعينا. وسرعان ما ينتزعاننا، هذان البطلان، من اختناقاتنا المكبوتة، لنكتشف كم كنا محرومين من معنى حياتنا. والمعنى في داخلنا، ينتظر شرارة صغيرة تفجره. هذان البطلان الرئيسيان، اللذان يسحراننا شغفاً، فنصبح ممسوسين بهما، هما “الموسيقى” و”المكان”، وبهما تنتظم الحكاية.

مع سير الحكاية، نكتشف شيئاً لاوعياً يرافقنا طوال الوقت، هو “الموسيقى” الخفية، القادمة من ذاكرة أسطورية مختزنة في ذاكرتنا الجمعية، موسيقى شبه بدائية تنبع من دواخلنا، من معابد أسطورية قديمة، كنا نعيش فيها روحانيتنا المفقودة، ونحن نشم رائحة البخور في الظلال. وها هي تشتعل، فتتلون بها صور المكان والأشخاص والأحداث، وتجعلها أنشودة تسمو بنا. الموسيقى هي التي تشعل فينا هذا الحنين الغامض، بحيث تطغى على الكلمات، وكلمات الأشخاص تبقى مجرد إيقاع خفيف خفي لصدى وجودهم الشبحي. تغدو الموسيقى تراتيل صوفية، ترفع الحدث الواقعي اليومي إلى مستوى أسطورة تراجيدية، تتجاوز إغريقيتها، نحو أصول شرقية غارقة أكثر في أزمان غابرة. شخصياً، انتهيت من مشاهدة الفيلم، دون أن استطيع انتزاع الموسيقى من روحي، أصبحت نبضاً أتنفسه. أجلس أكتب نصي هذا في الصمت حولي، ما عداها، ترافقني، وتسافر بي إلى حلم جميل، يراودني حنيناً إلى “المكان”.

نعم إلى “المكان”… والمفترض أن الشرارة التي أشعلت المكان هي “المعتقل السوري”، و”مخيم اللاجئين”، ولهما دلالتهما الرمزية المهمة، رغم عدم الرجوع إليهما طوال الحكاية، فيبدوان عابرين للوهلة الأولى. إلا أنهما يطغيان حقيقة على الأحداث كلها تالياً، يرميان بظلالها عليها طول الوقت، وبهما يتوطن مكان الأسطورة ـ الحكاية، وبهما تنفتح دلالتها. ومن هذين المكانين المحددين، ننطلق إلى عالم سحري (نهار/ ليل)، يفضي إلى أسطورية، تتجاوز تراجيديات بلاد الإغريق، لتحلق في عالم صوفي شرقي، يقودنا إلى “الحقيقة المطلقة”، العصية الفهم إلا على المسافرين إليها بأرواحهم. وهذه الحقيقة هنا ليست هنا إله الصوفيين، وإنما حقيقة سحر حكاية الفيلم، الذي تمضي أحداثه صوفياً، ولن نستطيع كمشاهد إلا السير بها روحياً، وإلا لن تتكتشف لك أسراره.

“نهار المكان” هو حكائي، أقرب إلى الأسطوري، بغض النظر عن وجود “المعتقل السوري” و”مخيم المهجرين السوريين” كواقع معاصر في بداية الفيلم. ما هما إلا مكانين عابرين، رغم ملاحقة رمزيتهما لنا طوال الحكاية، كمصباح خافت بعيد ينير ببصيصه دربنا الذي نشقه فيها. هذا “النهار” هو عالم يخترق اللامكان واللازمان إلى كل الأزمنة والأمكنة المتخيلة في شرقنا القديم المقهور، وما السيارة، في لقطة عابرة، إلا أداة انتقال من “العالم الواقعي” إلى “عالم الأسطورة الصوفية”.

في السيارة تتكشف أكثر حبكة الحكاية باتصال هاتفي مخادع من العجوز الذي يستولي على فتاة صغيرة من مخيم للمهجرين، مازالت تعابير وجهها توحي ببراءة الطفولة، بعقد زواج صوري، مقابل وعد بإنقاذ أخيها من جحيم “المعتقل السوري”. البنت قبلت أن تفدي نفسها لدى عجوز متزوج، مقابل “وعد” بإنقاذ أخيها من “المعتقل”. ومع النزول من السيارة، يختفي كل ما يدل على الواقع الحقيقي، الذي يغدو بعيداً؛ “المعتقل”، و”المخيم”، و”السيارة” و”الهاتف المحمول بالوعد الكاذب” (ماعدا الضحية ـ الغنيمة). يختفي الواقع نهائياً، ويصبح الزمان ـ المكان أسطورياً بالكامل، ليس فيه أي بصمة حضارية معاصرة ترتبط بعالمنا، يصبحان زمناً ومكاناً مطلقين، يمسنا نحن السوريين بالذات (وربما جميع أبناء منطقتنا، الذين عاشوا ومازالوا يعيشون نفس قهرنا وآلامنا).

“نهار شرقي”، يغمر المَشاهد جميعها بضياء الشمس. أراض مشمسة تهفو إليها أحلام الأوروبيين الرومانسية، لكنها جرداء لنا، إنما متغلغلة في أرواحنا. ورغم جفافها، فنحن نعرف جمالياتها السرية، وهو ما ستكشف سحره الكاميرة المبدعة “جماليات للمكان”، الذي يبقى طفلاً في أرواحنا، رغم تقدمنا في العمر.

نباتات الصبار الشوكية هي أول ما تطالعنا (هل أرواحنا جافة مثلها؟). وفي لقطة ذكية جمالية معبرة برمزيتها، نكتشف من ورائها بلدة قديمة بمنازلها، مترامية على تلة جرداء، حيث يسكن العجوز. الصبار هو نبات المناطق الجرداء، المحرومة من المطر إلا نادراً، وهو يزين مشاهد المكان النهاري باستمرار. ثم تتابع مشاهد البيوت الطينية القديمة، بباحاتها البسيطة وبواباتها العتيقة، الأدراج الحجرية (دروب إلى معابد قديمة ما مندثرة، مختفية في المكان)، الحارات والأزقة المتربة، والملتوية صعوداً. لا أشجار، لا نباتات مزروعة، لا ورود، لا أخضر، لا ألوان سوى البني المترب، الذي كنست الرياح الغبار عنه، فأصبح أكثر جفافاً. فقط امتداد المكان الأجرد شبه الصحراوي، في أزمنة قديمة، يختفي فيه أي مظهر من مظاهر الحياة الحديثة. مكان هو امتداد للنفوس المتعبة، التي يختفي منها الفرح والأمل، مجرد أشباح تتحرك، بوجوه شاحبة، تبدو النساء فيه شبه عاقرات.

يترافق مع هذه الأجواء المكانية الكئيبة الجرداء استقبال عائلة العجوز للعروس الشابة بشكل عدائي؛ الوجوه عدائية بصمتها، الأجساد عدائية بلامبالاتها. لكن الزوجة العجوز المغدورة، التي يعيرها زوجها بأنها لا تنجب له إلا البنات، ويتعلل أمامها بأنه مضطر للزواج من فتاة صغيرة من أجل صبي، تنفجر في وجهه. بينما تبقى الابنتان الشابتان، وإحداهن متزوجة، صامتتين، كتمثالي حجر. هكذا، تصل العروس الفتية، فلا تجد استقبالاً، لا حفل فرح، لا جيراناً، تنتظرها فقط غرفة عتيقة كقبر، وحياة راكدة، فهي غنيمة، سبي، تم شراؤها من سوق المُهجرات لمتعة عجوز.

لكن المشاهد المتربة، الكامدة، الكئيبة، في نهار المكان وفي أرواح ساكنيه، تخبئ حياة كامنة سرية صامتة، تريد أن تنفجر بقدوم ليلى؛ البيت الريفي، بغرفه وأثاثه البسيط، وباحته الجرداء، وأبوابه العتيقة، يبدو مثل قبر. مع مجيئها، تداعب النسيمات المشاهد من وراء الستائر الشفافة، ومعها الغسيل المنشور على الحبال، كما في حلم، يؤطر ماكينة الخياطة (النول الأبدي الذي ينقذ المرأة من وحدتها، ولا يتقن الرجل العمل به). يريد هذا المكان النهاري أن يمتلئ بانفجار الحياة بقدوم ليلى، بضجيج شبق صاخب، لكنه يبقى خامداً بصمتها العميق، الذي تتخذه “ملاذاً”. الصمت يسود المكان بغياب صوتها، يلفه، يخنقه، الصمت الذي ينال من جبروت العجوز ـ المستبد الشرقي البطريركي. الصمت يتحدى صلابة الرجال والحجارة، يطحنهما معاً.

لكن صمت “المكان النهاري”، المترب الكئيب، ينقلب ليلاً إلى صمت سحري مذهل، وشاعرية صوفية أخاذة، بكاميرة ذكية. تتلاعب في لقطاتها وتراقص شعلات الشموع، وأضواء الفوانيس والقناديل، مع ظلال عتمة شفافة، قادمة من صفاء روحي عميق، من سفر أحلام. القناديل تنتشر في كوى الغرف الطينية، والفوانيس هي دليل السائرين في عتمة الحارات الليلية، أما الشموع، فتتكثف بطريقة سحرية في مرقد الولي، الذي يتم عبره الولوج إلى قلب عالم صوفي. ليل حلم كأنه ينبثق من هدأة الروح وشفافيتها، لا علاقة له بنهارات مشمسة بحيادية ساطعة، دون أي ظلال حالمة، أو حتى أي ظلال.

في هذا الليل الأسطوري ـ الصوفي الحالم تعود بنا ليلى، الزوجة الصبية الفتية، إلى عالم “الأوديسة” الإغريقي. يذكرنا رفضها لنوم العجوز معها بامتناع الملكة بينلوبي في “الأوديسة” عن طلب الخُطاب لزواجها طمعاً بالمُلك. تنتظر زوجها أوديسيوس الغائب، التائه في البحار، بعد انتهاء مشاركته في “حرب طروادة”؛ تنتظر عودته، كي ينتقم لها منهم. تتعلل أمام الخطاب بأنها تريد إنهاء حياكة بساط على نولها، وبعد ذلك ستتخذ قرارها باختيار أحدهم زوجاً ـ ملكاً. لكن بينلوبي تحل ليلاً خيوط ما تحيكه نهاراً، كي تمرر الوقت، واثقة من عودة زوجها لينقذها.

تتمنع ليلى أيضاً ـ مثل بينلوبي ـ على زوجها العجوز، فتمضي ليلها في حياكة ثوب أبيض على ماكينة خياطة قديمة، بانتظار عودة أخيها أحمد لينقذها، فيما العجوز ينتظر وينتظر في الفراش دون جدوى. الثوب يطول ويطول، ويمتد منفرشاً على الأرض، ولا ينتهي. وأحمد غائب، مثل أوديسيوس، يتأخر في الحضور. يلاقي تعذيباً وحشياً في غياهب “المعتقلات السورية”، بعد أن اختار درب الحرية، بما يعادل الأهوال التي لاقاها أوديسيوس في حرب طروادة. وكان على الإثنين أن يعودا؛ أوديسيوس لإنقاذ زوجته بينلوبي التي تتمنع على الخاطبين، بعد غياب طويل في الحرب امتد سنيناً طويلة، وأحمد لإنقاذ أخته ليلى، التي تتمنع على العجوز، وغاب في المعتقل ثلاث سنوات طويلة، بدت دون نهاية. لكن أوديسيوس تاه في البحار عشر سنوات، وتاه أحمد في صحرائه، وهو يحاول اجتياز الحدود (على الأغلب السورية ـ الأردنية، أو اللبنانية أو التركية، لا يهم)، مخاطراً بحياته للوصول إلى “مخيم المهجرين”، حيث والدته وأخته المفترض وجودها هناك، ليكتشف فجأة تضحيتها العبثية لأجله.

تهرب ليلى من المنزل كل ليلة إلى مرقد ولي البلدة المقدس، فعبثية خياطة الثوب لم تعد تكفي لمماطلة زوجها، الذي ينتظرها في الفراش. وفي هروبها اليومي ينير دربها نور الفانوس، الذي يقودها إلى حقيقة روحية (في المرقد أم في داخلها؟). تبدع الكاميرة بتصوير الصمت السحري في المرقد، بشاعرية الإضاءة الشفافة، التي تنشرها شمعات تتراقص ألسنة لهبها فتنشر فيه دفئاً روحياً عميقاً. هنا، تكتسب ليلى قوى روحية من قداسة المكان؛ قداسة مختزنة منذ أزمنة قديمة، عمق الحكاية المزروعة فيه. وبالأحرى، سيفجر فيها المكان طاقاتها الروحية الحبيسة، طاقة “الإلهة الأم” من عصر الأمومة، التي تمنح الفرح والخصب والحياة لكل ما حولها. تتحدى بهما سلطة “الإله التوحيدي” القمعي، الذي يتحدث باسمه كل مستبد بطريركي؛ بدءاً من الديكتاتور الذي سجن أخاها في “المعتقل”، مع آلاف من أمثاله الساعين إلى “الحرية”، وصولاً إلى تفريخاته بصورة العجوز، الذي اشتراها سبية. وأداة تحديها المستمر هو صمت الأنثى المرعب، الذي يهزم الرجل البطريركي.

القوى الروحية المتفجرة فيها تجعلها قادرة على تسكين الأطفال الرضع، فيهدؤون، ويتوقفون عن الصراخ، والنسوة العاقرات يتباركن بها، فيحملن بعد طول انتظار. تمنح الجميع البركة وشعاع ابتسامة يشع من وجهها. أليست هي “الإلهة ـ الأم”، التي تمنح الحياة؟

في لحظة حمل زوجة طال انتظاره، يقوم الزوج بممارسة طقوس شكر باسمها ليلى “الإلهة ـ الأم”، وليس باسم الإله التوحيدي. في لحظة تلقيه الخبر، يرتل اسمها أنشودة صلاة، وهو يحتفل راقصاً في الهواء الطلق بإطلاق النار في الهواء، مقدماً لها أضحية خيالية دون دماء، بعكس ما يعشقه الإله التوحيدي الذكر وأتباعه الدمويون.

 تصبح ليلى مدعوة إلى كل المناسبات الاجتماعية في البلدة، لأن وجودها يمنح الخير والبركة، وتضج الحياة بوجودها، وهي تمنح ابتسامتها للناس البسطاء، لكن ليس لزوجها العجوز. الابتسامة له تعادل منح جسدها، وهي لن تمنحه إياه أبداً. ولأول مرة نشاهد عرساً باحتفالية فرح، الناس يرقصون ويبتسمون، وليلى بينهم مبتسمة، وجودها أشعل الحياة في البلدة. وعندما يحضر شيخ البلدة التقي إلى العرس، تتراكض الفتيات لتقبيل يده تبركاً به، وليلى بينهم، فيمنعها عن ذلك. ثم يلثمها بأبوية في جبينها اعترافاً بقداستها، وهي القبلة الوحيدة التي لم يمنحها لأي امرأة في حياته من قبل.

“الراوي” في التراجيديا الإغريقية هو من ينشد الحكاية بطريقة خطابية، أثناء عرض المسرحية، كي يتطهر المشاهدون من آلامهم وأحزانهم، وهو ما يتناسب مع عقلانية الإغريق. لكن في مجتمع شرقي لا مكان لراوٍ مسرحي عقلاني، وإنما راو ينبع من حميمية المكان وأصالته الشاعرية، من الحزن المختزن فيه. يغدو الراوي هنا عازف الربابة، يروي الحكاية بعزفه المستمر كل ليلة، ونلمحه فقط خيالاً شاعرياً مثل حلم، من وراء ستارة نافذة مضاءة، وكلماته هي موسيقى ربابته. لا نسمع صوت آلته الموسيقية، وإنما صوت موسيقى الفيلم، وبها ينظم إيقاع الحكاية. بل هو أشبه براو شهرزادي ليليّ، يروي حكاية ليلى كل ليلة، وهو موجود فقط لأجلها. يرويها لأهل البلدة، كي تتطهر أرواحهم بها، وللزمن، كي توثقها ذاكرة الأمسيات للأجيال القادمة؛ صرخة حرية عالية بـ”الصمت المتحدي”؛ “الملاذ”. وليلى هي التي تحضر له العشاء اليومي، تضعه أمام باب بيته، كي يستمر بموسيقاه التي تنظم بها الحكاية.  

وليلى لا تستسلم للعجوز، لا باللين، ولا بالعنف. تتقوى بصمتها، الذي يلازمها طوال الفيلم. هو التحدي، تقاوم به الجلاد، الذي اعتقل أخاها، والعجوز البطريركي المخادع الكاذب. صمتها شبيه بصمت بينلوبي، وهي تحيك بساطها، تطيلان أمد الحكاية بانتظار عودة الغائب. وعندما يقرر العجوز المستبد السيطرة على ليلى بالعنف (كما حاول الديكتاتور مع المنادين بالحرية)، فيرمي من يديها عشاء الراوي ـ المغني، ويمنعها من الخروج من المنزل، كي تتوقف حكايتها الشهرزادية، بالخضوع له، والمضي إلى فراشه البطريركي، نفهم عندئذٍ أن المواجهة قد وصلت إلى الذروة.

لن تستسلم ليلى، رغم قدوم والدتها من المخيم لزيارتها، التي تنقل لها تهديدات العجوز بلطف ولين… العاصفة الغبارية بغضبها الشديد في البلدة تأخذ رمزيتها أيضاً داخل ليلى. الطبيعة تعلن غضبها، كما ليلى. خرج المارد من قمقمه، ولن يعود إليه، فتُصَّعد ليلى المواجهة، ليس بالصمت الذي لم يعد يُجدي، وإنما بتقديم نفسها، في لحظة قدسية، أضحية عشتارية في وجه كل الظالمين؛ أضحية كي تنقذ أخاها أحمد من غياهب “المعتقل”، كما تنقذ الإلهة عشتار حبيبها الإله تموز من ظلمات العالم السفلي. يتحرر الإله تموز من ظلماته في العالم السفلي، حيث كان محتجزاً، فيمارس طقوس الخصب  مع عشتار من جديد، ليظهر الخير مع ربيع الحياة (كما مع ثورات الربيع العربي، التي كان من المفترض أن تجابه استبداد الخريف العربي).

هكذا، تقدم ليلى نفسها أضحية على مذبح حرية أخيها، لقمع جلاده، وجلادها العجوز. تمضي إلى موتها راضية تحت شجرة الزيتون، رمز التجذر في الأرض والذاكرة والحكاية، وتهطل الأمطار غزيرة مدرارة على البلدة، كما لم تهطل من زمن بعيد. تغتسل الأرض الجرداء الكئيبة العطشى من أحزانها وقهرها بالمطر، كي تتجدد زيتوناً واخصراراً. ويخرج أحمد من “المعتقل”، يجتاز صحراء الحدود الخطرة، التي يترصد فيها له الموت في كل خطوة، كما كان يترصد لأوديسيوس في بحار عودته، وينجوان. تنجح تضحية ليلى بنفسها ورمزيتها على مستوى الوطن بإنقاذ أخيها أحمد. “الحرية” تحتاج إلى التضحية، كي نتحرر من الظلم. ومع تضحية ليلى، “موتها”، يختفي الراوي وربابته. انتهت أسطورة ليلى التراجيدية.

لكن الأسطورة تحتاج إلى نهاية، عندما يفرج الجلاد عن أحمد من “المعتقل الدموي”، كي تبقى حكاية محفورة في جدار الذاكرة، تتحدى الزمن. يعود باحثاً عن أخته، وعن أحلام الطفولة الشفافة المفتقدة، في زمن كانا يعيشان فيه بحرية. وعندما أراد الانتقام من العجوز الجلاد، يعرف أن “من حبسوك هم الذين قتلوها”، و”نحن جميعاً قتلناها”. يقرر أن ينتقم على طريقته، بأن يرسم الحكاية على جدار الزمن للذاكرة والتاريخ، حكاية طفولته مع أخته، حكاية جيل، وأجيال ناضلت طويلاً من أجل الحرية ولازالت.

ينتهي الفيلم، وتلاحقنا الموسيقى والمكان، قصيدة بصرية مذهلة. وستذرف دمعة مع أحمد، إذا شاهدته بشفافية روحك.

كل منا يكتب “الحكاية السورية” بأصالتها وتوقها للحرية بطريقته، بعيداً عن سلطة “البوط العسكري” و”السيف الإسلامي”. نحن نهزمهم بحكايتنا التي ستوثق نضالات سلمية طويلة من أجل الحرية. أحمد يكتبها بذكريات حريته رسوماً على جدار الزمن، وثائر موسى المبدع يكتبها بفيلمه “مزار الصمت” (وأنا أحاول أن أكتبها بمشروعي الروائي).

الحكاية السورية هي حكاية “ربيع عربي” يتوق إلى “الحرية”، وثائر موسى أبدعها قصيدة بصرية خالدة، للذاكرة وللمستقبل، قصيدة أعادت المعنى لإنسانيتنا المهدورة، قصيدة أعادت للسينما السورية ألقاً شاعرياً، اختفى تحت سطوة “الديكتاتور” و”شبيحته” الذين يتزيون بالثقافة شهادة تزوير للتاريخ.

كم من الإسقاطات السياسية للفيلم على “الربيع السوري” و”الربيع العربي”، وعلى كل “ربيع قادم”. والأهم كم من الإسقاطات الإنسانية عن كرامتنا المهدورة. هو حكاية الإنسان الثائر الباحث عن الحرية ضد “الديكتاتور ومعتقله”، وضد كل “الاستبداد الشرقي” الذي مازال متشبعاً في ذواتنا المتعجرفة. الفيلم هو حكاية “المرأة الرمز عشتار”، التي ضحت بنفسها في “المعتقلات”، وفي “مخيمات التهجير”، وفي “المنافي”، كي تعيش فكرة الحرية.  

ثائر شاعر متألق بقصيدته البصرية “مزار الصمت”. وهذا الفيلم لن تستطيع مشاهدته إلا بروح شفافة، وترغب بالعودة إليه مراراً وتكراراً… ثائر هو ثائر، صدى التوق في ذواتنا إلى حكايتنا، إلى حريتنا.