بواسطة سحر حويجة | يوليو 23, 2019 | Roundtables, غير مصنف
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
تشكلت التيارات والأحزاب السياسية في سوريا في سياق النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وقادت النضال والعملية السياسية قوى تمثل البرجوازية والتجار وأصحاب الأملاك. أول الأحزاب الأيديولوجية التي تشكلت، كان الحزب الشيوعي السوري في عام 1924، والحزب القومي السوري في1932، والإخوان المسلمين في 1932 وحزب البعث في 1940 والحزب الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني في 1940. اندمج الأخير مع حزب البعث وشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1952. لم يبرز دور الأحزاب الأيديولوجية إلا بعد الاستقلال، مع اتساع الفئات الوسطى، ممثلة بالجيش والمعلمين والمحامين والمثقفين وقادة الحركة الطلابية والنقابات وغيرهم، من خلال الاستفادة من الحريات المكتسبة حينها.
في الخمسينات كان الحزب الشيوعي السوري يمثل اليسار، ويحظى بشعبية حقيقية خاصة بين الأقليات والأكراد. تعاون مع الوطنيين في النضال ضد الاستعمار وربط بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الإقطاع والبرجوازية، وقاده الجمود العقائدي إلى الاعتقاد أن الطبقة العاملة قادرة ومستعدة لإسقاط البرجوازية، واعتبر القضية القومية من قضايا البرجوازية وتقود إلى التعصب. وتشكلت منذ 1948 رابطة النساء السوريات واتحاد الشباب الديمقراطي، وهي منظمات رديفة للحزب مستقلة تنظيمياً عنه، وهي جزء من فروع اتحادات دولية.
بدأت الانقلابات العسكرية المتتالية، منذ عام 1949 وتحولت سوريا مسرحاً للصراع بين العسكر والحكم المدني، حيث كانت القوى التقليدية ممثلة بحزب الشعب والكتلة الوطنية تُعارض دخول العسكر في السياسة، بينما وجدت أحزاب البرجوازية الصغيرة ضالتها في الجيش بسبب عجزها عن الحصول على النفوذ الجماهيري، خاصة بين الفلاحين، وفي مرحلة الخمسينات ساد مناخ شعبوي وسيطر المد القومي وبدت المسألة الديمقراطية بوصفها إطاراً للمسألة القومية، حتى أن خالد بكداش غير موقفه من المسألة القومية في عام 1957.
تُوج المد القومي بموافقة الحكومة والقوى السياسية الممثلة بالبرلمان على الوحدة مع مصر في عام 1958، غير أن حل الأحزاب السياسية وقمع الحريات، والتدهور الاقتصادي قادوا إلى الانفصال، وتركوا وراءهم نفوذ الاشتراكية الناصرية في الجيش والسياسة. وقد كان حزب البعث من المدافعين عن الحياة البرلمانية لكن جاء انقلاب الجيش بغطاء سياسي من حزب البعث، تحت مسمى ثورة ضد الرجعية؛ فتم حل البرلمان وأممت الصناعة وأعلنت الأحكام العرفية وأصبحت القيادة بيد مجلس اسمه مجلس قيادة الثورة يتم تعيينه. وبعد انقلاب 1963 حصلت صراعات وتصفيات بين الأجنحة العسكرية مختلفة الولاءات السياسية وبين الجناح العسكري والسياسي في حزب البعث والتي انتهت بانقلاب 1970 مما منح القوة للعسكر على حساب السياسيين، ويمين حزب البعث على حساب يساره، وتحول السياسيون إلى واجهة للعسكر لا أكثر.
دخلت البلاد في مرحلة جديدة واستطاع النظام من خلال تشكيله الجبهة الوطنية التقدمية، الهيمنة وإلحاق الأحزاب السياسية المكونة لها بسياسته. ومع تشكيل هذه الجبهة انشطرت الأحزاب المكونة لها إلى قسمين قسم مؤيد وآخر معارض. وتشكل اليسار المعارض من الرافضين للدخول في جبهة النظام، إضافة الى الانشقاقات المتلاحقة في صفوف الحزب الشيوعي. وأدى عدم شرعية وجود أحزاب خارج الجبهة، إلى جعل أي انشقاق في صفوف القوى الرسمية، يُوصف كمعارضة.
تميزت هذه المرحلة بأزمة اليسار السوري على أكثر من مستوى؛ فعلى الصعيد التنظيمي أشارت طبيعة الانشقاقات من القمة إلى القاعدة إلى غياب الديمقراطية في الحياة التنظيمية لهذه القوى. وعلى صعيد برامج وشعارات وأهداف المعارضة اليسارية فقد تقاطعت مع جبهة النظام في قضايا رئيسية كمناهضة الإمبريالية وتحرير الأراضي المحتلة والاشتراكية، وهذا أدى إلى أن القاعدة الجماهيرية التي سعت المعارضة اليسارية لاكتساب دعمها، كانت نفس القاعدة التي يعتمد عليها النظام.
دفعت عدة أسباب كـ(التطورات الداخلية، وتزايد أعداد المغادرين صفوف أحزاب اليسار بسبب أزمته السياسية والنظرية والتنظيمية، والتطورات التي طرأت على الحركة الشيوعية العالمية) باتجاه تشكيل الحلقات الماركسية على أساس من السجال السياسي والنظري بين أعضائها. هذه السمة ميزت مرحلة الحلقات الماركسية ورابطة العمل الشيوعي، وضعفت مع تشكيل الحزب في عام 1981 بسبب الاعتقالات المستمرة أو انسحاب كوادر التنظيم، الذي تشكلت قواعده الأساسية من الشباب، خاصة الطلاب وأغلبهم يفتقر الى تجربة سياسية، ويتميزون بالحماس والاستعداد النضالي العالي. وفي حقيقة الأمر لم يخرج الحزب في فهمه الديمقراطي عن الأصولية الماركسية، ودعا لتشكيل الجبهة الشعبية التي تضم القوى المعبرة عن الطبقات الشعبية من أجل الوصول إلى السلطة.
في عام 1979 شهدت الساحة السورية تطورات هامة فتحت آفاقاً جديدة، قوامها مواقف وسجال وحراك سياسي، على خلفية الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين نذكر منها تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي من الأحزاب المنشقة عن جبهة النظام. ونشير إلى الإضراب العام الذي عم معظم المدن السورية عدا دمشق خلال النصف الثاني من شباط والنصف الأول من آذار عام 1980. هدف التجمع الوطني الديمقراطي حينها إلى تطوير الإضراب حتى يصل إلى عصيان مدني عام، يتم من خلاله فرض التحول الديمقراطي. غير أن الإخوان المسلمين استطاعوا تحويله الى حركة وتمرد وأحداث شغب، وانتهى الإضراب بزج كبار المحامين والقضاة والنقابيين في السجن، وعلى إثره كانت آخر مظاهر الاستقلالية للحركة النقابية في سوريا قبل تحويلها الى أبواق للسلطة.
وبدأ العنف المتبادل بين السلطة والإخوان. وبعد القضاء على الإخوان قامت السلطة بملاحقة الأحزاب اليسارية بهدف تجميدها، أو تصفيتها.
توجهت المعارضة اليسارية مجبرة بسبب القمع السافر إلى العمل السري، الذي شكل طوقاً خانقاً حجمّ من دورها، وفرض قيداً شديداً على التنظيمات السياسية وحدّد آليات عملها قسرياً، على حساب المبادئ التي يدعو التنظيم إليها، سواء في حياته التنظيمية الداخلية، أم في علاقته بالآخرين، حيث تتقدم العلاقات الشخصية المبنية على الثقة على حساب العلاقات التنظيمية، ويسيطر هاجس الرقابة الأمنية، والمخاوف المستمرة من الخروق الأمنية، التي يلعب النظام على وترها.
وانعكس تأثير النزيف المستمر للكوادر والقيادات نتيجة الاعتقالات على صعوبة تجديد البنى التنظيمية وصعوبة عقد الاجتماعات والمؤتمرات. وفي ظروف الملاحقة أو حملات الاعتقالات، تحولت العلاقات التنظيمية إلى علاقات خيطية، لنقل آخر الأخبار. وفي حال الملاحقة أو التعرض للمراقبة، كان أمام الأعضاء خيارين إما التخفي أو تجميد العضوية.
وهذا أدى إلى اقتصار النشاط السياسي في ظروف العمل السري على دائرة ضيقة من العلاقات الوثيقة مع أشخاص مقربين، لذا فقد اتخذ النشاط طابعاً عائلياً يعزز العلاقات الشخصية، وأثر هذا التغيير على بنية الأحزاب وأدائها السياسي. فتح العمل السري المجال للتشكيك، وإلقاء التهم والتخوين لأتفه الأسباب، مما وتّر العلاقات بين هذه القوى وبين الأفراد في التنظيم الواحد.
شكل السجن مكاناً ملائماً بين المعتقلين للحوار والتواصل، سواء بين أعضاء الحزب الواحد أو بين الأحزاب المختلفة. وعانى المعتقلون من غياب الدعم المعنوي نتيجة حالة الانحسار الجماهيري، ولم يطالب أحد بهم، سواء من الناس أو المنظمات أو الأحزاب. وكان الدعم المادي يقتصر على دعم الأهل، والكثير من الحالات فقدت دعم أهلها لأسباب مختلفة منها: عدم القدرة المادية أو لاعتراض الأسر على مواقف أبنائها السياسية. هذه الأسباب إضافة لظروف السجن القاسية، والاعتقال لمدة طويلة، وتراجع دور الأحزاب ونشاطها خارج السجن، دفعت مجموعات من المعتقلين، للتململ والمساومة مع النظام.
وكان لانهيار الاتحاد السوفيتي دور مؤثر على صمود الكثير من المعتقلين اليساريين وعلى تحولهم الفكري من موقع لآخر. وبدأ النظام بإصدار أحكام قاسية بحق المعتقلين بعد سنين ليبرر اعتقالهم، ومن سخرية القدر أن تتم محاكمتهم بتهمة مناهضة النظام الاشتراكي .
شكل عقد التسعينات، مرحلة مخاض صعبة لمرحلة ما بعد السجن، حيث بدأت الأحكام تنتهي، وعلى التوالي خرج المعتقلون من السجن بعد سنوات طويلة، وكانت واضحة المتاهة التي آلت اليها الأمور، حالة الفوضى في الأفكار والرؤى، ظاهرة الندم على سنين ذهبت سدى، والعمل بأقصى ما يمكن و بكل المتاح لتعويض ما فات من خسارات في العمل والدراسة والحياة الخاصة. لمس الكثير من الأشخاص عدم التقدير والاحترام لتجربتهم، وعانى الكثير من الضغط الاجتماعي والحصار الأمني بعد خروجهم من السجن من دون أن يتلقوا أي حماية، وكانت مرحلة أشبه بالكمون السياسي. كما برزت حالات من الشللية للثرثرة بعيداً عن السياسة والهم العام، وكان من الواضح التوجه والنكوص الى التكوينات الأولى الطائفية والعائلية، وانتشرت المهاترات والإساءات الشخصية، إضافة إلى التشكيك والإقصاء وغيره من العوامل الضاغطة.
أما الموقف من المرأة فقد سيطر عليه عقل ذكوري، بإقصاء النساء قصداً عند بعض القوى اليسارية، بذريعة الخوف عليهن وحماية لهن من الاعتقال، ولتكون مهمتهن تربية الأطفال ودعم الزوج في حال اعتقاله. اختلف الوضع عند حزب العمل حيث شكلت النساء ثقلاً في عداده منذ الحلقات الماركسية، وزادت في فترة تشكيل الحزب. وكان لتوجه الحزب للشباب وخاصة الطلاب دور في اكتساب النساء كما أنه تميز بخطاب ثوري ضد العادات والتقاليد والدفاع عن المساواة بين المرأة والرجل، وكنا نلحظ الاحترام والتقدير من قبل الذكور للنساء المناضلات في صفوفه سواء المتخفيات أو المعتقلات، مما شجع على التحاق النساء بالحزب، إضافة الى نشاط النساء في صفوف الحزب، لكن أعتقد أن الدور الكبير لموقف حزب العمل المختلف من النساء يُعزى لبنية الحزب المكونة من الشباب\الطلاب التي تميزها عن الأحزاب الأخرى. لكن آثار النظرة الذكورية التقليدية للنساء عادت للظهور بعد خروج كثير من المعتقلين\ات الذين كانوا من جيل الشباب من السجن. أسمح لنفسي بالقول إن تلك كانت المرحلة الأسوأ في تاريخ اليسار الثوري العاجز عن نقد ذاته وتجربته، والذي اتبع سياسة الهروب إلى الأمام.
جاء ربيع دمشق الذي حرك الساكن وأعاد الروح بعد موت وقام الناس من جديد، وكان اليسار جزءاً هاماً من المشهد. وكان من سمات هذه المرحلة الانتقال إلى العلنية، مع الاستعداد لتحمل كلفة ذلك، وبروز دور الأشخاص وليس الأحزاب، وساد خطاب تم التركيز فيه على الحوار مع النظام من أجل الانتقال الديمقراطي. وكانت دعوات الحوار تتجه إلى جهاز الأمن وليس لطرف سياسي من النظام، وإلى جانب المنتديات نشطت حركة معارضة في الكتابة والإعلام. وصارت الديمقراطية هي البند الوحيد الذي تدعو له المعارضة بكافة أطيافها، كما ظهرت للوجود هيئات ومنظمات حقوقية تدافع عن قضايا المرأة وحقوق الإنسان والمعتقلين لمؤسسيها جذور أو انتماءات يسارية.
كان ربيع دمشق حركة نخبوية ضمت رموزاً وأصحاب تجارب سياسية أو اعتقالية سابقة، وكان اهتمام الشباب بها ضعيفاً، لكن كان هناك مشاركة واسعة لليسار الثوري المعارض. ونظراً لغياب رؤية واضحة فقد وقع اليسار ورموزه في فخ التحالفات والمشاركة في إعلان دمشق عام 2005، الذي غاب عنه مشروع مجتمعي وتم التركيز فيه على الديمقراطية في الوقت الذي انتشرت فيه مقولة انتهاء عهد الأيديولوجيات، حيث تحولت الديمقراطية إلى إيديولوجيا تغيب عنها التحديات التاريخية الموضوعية وتغيب عنها الرؤية المستقبلية للقضية الاجتماعية.
واعتبرت القضايا الأخرى ثانوية، ومنها، الصراع الاجتماعي، والحداثة وقضية الحريات، هذه القضايا في واقع الأمر تتقدم وتتراجع معاً، ضمن الفهم الجدلي لحركة التاريخ.
جاءت انتفاضة الشعب السوري في غفلة عن الأحزاب السياسية، ومثلت هيئة التنسيق بمكوناتها اليسار، لكن لم يبرز دور أحزابها كأحزاب قادرة على تصويب الشارع أو قيادته ولم تتميز بشعارات خاصة، باستثناء شعاراتها ضد العسكرة وضد التدخل الخارجي بعد فوات الأوان، ولم تستطع أن تعبئ الشارع ضمن أطرها التنظيمية، بل انقسمت على ذاتها أكثر من مرة، لكنها اكتسبت شرعية ما دولياً.
وفي نفس الوقت تشكلت منظمات مجتمع مدني على هامش الهيئة أو بمبادرة من أعضائها، لكن كانت بمعظمها لا تمثل في الواقع نضال المجتمع المدني، بل استخدمت من أجل اكتساب مواقع أو تعزيز أدوار شخصية.
نحن بحاجة ليسار عقلاني يحتل مكانة مرموقة لا أن يكون على هامش المجتمع، وأن يكون دوره الكشف والقبض على المشكلات الأساسية في المجتمع، حيث إن ضعف اليسار لا يعود إلى شدة نفوذ قوة الإيديولوجيا التقليدية فحسب، بل بسبب عجزه التاريخي عن وضع الديمقراطية في العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة الوطنية. وجاء إخفاق المشروعين اليساري والقومي بسبب النخبوية وعدم كشف الروابط بين الديمقراطية والمجتمع المدني، من أجل وضع الديمقراطية في سياق المشروع النهضوي.
يمكن القول إن الكثير من المقولات الماركسية التي أنتجها واقع وعالم مغاير لواقع وعالم اليوم أصبحت شائخة يجب استبدالها بما يلائم واقع اليوم، ولكن يبقى المنهج الماركسي (القائم على الجدل والتفاعل بين الظواهر والقوى) حياً وقابلاً للاستفادة منه في حل التناقضات القائمة في المجتمع الإنساني سعياً لغد أفضل.
بواسطة Hassiba Abdel Rahman | يونيو 25, 2019 | Roundtables, غير مصنف
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
تحول اليسار إلى مصطلح فضفاض ضبابي، دون محددات نظرية وسياسية ومنظومات فكرية أو ومرتكزات اجتماعية، وعليه أصبح من الصعب تحديد اليسار بمروحته الواسعة. ولأن المصطلح يحمل لغزاً سحرياً غامضاً مازال يجذب إليه بعض الفئات الشابة المتنورة رغم أن مساحة حضوره تضاءلت، فأضحت كواحة فاتتها الأمطار زمناً، ولم يبق منها إلا شجر خريفي باهت. وكان سقوط الاتحاد السوفيتي كسهم أصاب اليسار، وأضعفه في العالم ككل، وفي سوريا، بغض النظر عن إيمانك بالتجربة السوفيتية أو كفرك بها، قربك وبعدك عنها، فرمزية الخزان الاشتراكي تشظت، وكأن التاريخ يخرج لسانه لنا كما فعل الله على مسرح البولشوي (تفاحة آدم)، فانقلب اليسار على رأسه ماشيا، ليصل المنقلبون إلى من هزمهم، ويعلنوا التوبة وطلب الرحمة سواء في الخارج أو الداخل، قبل أن يستظلوا بظل رايات المنتصر” الحضارية” و”الإنسانية” و“الديمقراطية “. أما من بقي مغرداً خارج هذا السرب، فلا تزال خطواته متعثرة، وهو ماض في طريق متعرج مليء بالأفخاخ والحفر، ليصل إلى كوة مشكاة ضوء خافت، لا يعلم إن كانت حقيقة أم سراباً، محاولاً شق طريق غامض من جديد.
وشكل سقوط الاتحاد السوفيتي المفصل والمنعطف الرئيس فى مسار نكوص اليسار العالمي (1990)، فالكثير من الظواهر والمواقف والتوهان والتفكك ترتب على هذا التاريخ، رغم أن بعض الظواهر والانشقاقات سبقت هذا التاريخ وشقت طريقها نحو مقاربات نظرية وسياسية جديدة، بما فيها اليسار السوري بشقيه الكلاسيكي، أو ما عرف باليسار الجديد (آنذاك) رابطة العمل الشيوعي. فأصبحنا أمام عودة ضالة إلى التنوير، ومرحلة الدعاوة مشفوعة بتجربة الشعوب النضالية في العالم ككل، من نجاحات وإخفاقات بعد الهزائم المتكررة له بفعل موضوعي وذاتي.
ولكن من بقي يسارياً؟ ووفق أي تعريف ومنظومات تتحدد هويته؟ هل هو انتماؤه الفكري؟ أم نهجه السياسي ؟ برنامجه ؟ لمن يتوجه وما هي استهدافاته الطبقية ؟ ولذا أضحى من الصعب تحديد تعريف اليساري الجديد“، هل هو الاشتراكي؟ الماركسي؟ الشيوعي؟ القومي؟ ورغم ذلك فالأسئلة المطروحة تدور في الفلك الفلسفي الماركسي وتعبيراته السياسية الواسعة، وهي تعبر عن أزمة اليسار ككل، والأدق غيابه عن الفعل النظري والسياسي، وتحديدا في منطقتنا العربية، ونخص سوريا. إذ شكل اليسار السوري طوال عقود خلت واحة غناء للجدل الفكري والسياسي والثقافي ووسمها بمفرداته ورؤاه، نتيجة حضوره ووزنه، حيث استطاع نقل قوى وأفراد من ضفة لأخرى خلال “مرحلة الصعود” نتيجة الانتصارات الكبرى للفكر الاشتراكي، إثر هزيمة السوفييت لألمانية النازية وحرب كوريا، ومن ثم حركات التحرر ضد الاستعمار أواسط الخمسينات وستينات القرن الماضي، مروراً بظاهرة تشي غيفارا للعمل الثوري المسلح، والحركات الطلابية (1968) في فرنسا وأوربا وأمريكا وتشيكوسلوفاكيا (ربيع براغ)، وانتهاء بانتصار الفيتناميين (1975) وتمدد اليسار الجديد الذي عبر عن أزمة في الفكر الاشتراكي السوفييتي والمركز الأممي.
و تراجع اليسار العالمي بدءاً من مرحلة السبعينات وبشكل خاص في الدول العربية، رغم ظهور قوى سياسية وفكرية جديدة بعد هزيمة حزيران (1967) كرد عليها، إلا أن قوى اجتماعية واسعة من الطبقة الوسطى والفقيرة عادت إلى ملاذات تقليدية (كما تظن) آمنة وأبرزها الدين. وذلك استكمالا لهزيمة القوميين (الناصريون والبعثيون) التي توّجت بمجيء السادات والأسد وسياستهما ضد القوى اليسارية من قمع واضطهاد، وفتح الرتاجات لنشاط الإسلاميين وبناء الجوامع وغير ذلك كجزء متتم للسياسات الغربية للانقضاض على المد الاشتراكي بأموال الخليج العربي، مما أعاد الروح ثانية للقوى الإسلامية التي أفاقت من غفوة طويلة، كي تكبر وتتجبر وتتوعد، وكان لنجاحها الكبير في هزيمة السوفييت بأفغانستان، صدى تردد في البلدان الإسلامية ككل، فانتعشت هذه القوى واشرأبت برؤوسها.
و تزامن ذلك مع انتفاضة إيران وسقوط الشاه وصعود الإسلام السياسي “الثوري” واليمين المحافظ والمعولم في بريطانيا (تاتشر) وأمريكا (ريغان)، ليتراجع اليسار بعد مرحلة ازدهار، ويأفل نجمه مع تداعي الاتحاد السوفييتي، ويغادر جزء من قواه مواقعه إلى الضفة الأخرى التي حاربوها زمنا، وفي طليعتها الضفة النيو–ليبرالية والدفاع والانتصار لكل سياسات الغرب الاقتصادية والسياسية والنيو–كولونيالية والعولمة المتوحشة، بحجة مسميات حقوق الإنسان ومجتمع مدني (الشعارات التي سوقها للعالم من أجل مصالحه).
و بهذا فقد اليسار بوصلته ومعاييره التي نشأ عليها، وأهمها مناهضة الغرب الاستعماري ومركزه الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية، وباقي الحواضر الغربية، والدفاع عن الفقراء والمهمشين والاستقلال الوطني في حالة تغريبية عجيبة ، وأصبح حلم معظم هذه القوى –وحتى الأفراد– العمل كوكلاء مؤجرين وأحيانا بالمجان عن مصالح تلك البلدان بوجه شعوبهم المقهورة والمسحوقة، والجزء الثاني التحق بالإسلام سواء السياسي أو الدعوي، ولم يبق خارج الاتجاهين سوى تجمعات وأفراد يتعثرون في قناعاتهم.
كل هذا يعني أن اليسار فقد برنامجه الثوري التغييري، ولم يعد أداة تمثل مصالح الطبقات الفقيرة، وما كان ينشده ويعمل لأجله من تعليم مجاني وصحة ومساواة قد تغير إلى الفكر الليبرالي واقتصاد السوق، وكيف يمكن الإثراء أجيراً ووكيلاً لدى الليبرالية والنيوليبرالية؟ حاملا ومدافعا عن برنامجها، في ارتكاسة على منجزات اليسار، إذ لم يعد لديه سوى كلمات محددة، كالديمقراطية، متناسيا أنها مرتبطة بالمحتوى الاجتماعي، في استنساخ ممسوخ لشعارات عدوه الطبقي والسياسي – إلى وقت قريب– متعاطيا مع الديمقراطية كحل سحري لكافة المشاكل والأزمات، كما كان يسوق للاشتراكية من قبل دون قراءة للواقع ومعطياته .
وإذا أردنا القيام بمراجعة لأهم مواقف اليسار السوري وتحديدا مع بداية الانتفاضة السورية نجد:
الحزب الشيوعي السوري الرسمي وهو حليف النظام السوري إلى الآن، وقد تعرض لانشقاقات متعددة عبر تاريخه، كما غادر تلك الأحزاب معظم الكوادر والأعضاء متجهين إلى المجتمع المدني وسواه كـ“رابطة النساء السوريات“، وانسلخوا عن الفكر الشيوعي، و أمسوا سياسيا عند الائتلاف السوري بعصبه الإيديولوجي الإخواني (إثر انتفاضة 2011) ومن تبقى منهم في الأحزاب الرسمية، لا يزال لديهم مصالح مع البرجوازية البيروقراطية في دمشق، ويدافعون عن النظام.
أما حزب الشعب أو المكتب السياسي (سابقاً) وهو انشقاق الحزب الشيوعي السوري (1972)، فقد انخرط بالحراك السلمي ودافع عن التسليح والتطييف، و جاء موقفه متسقاً مع التطورات العالمية والمحلية. ويسجل للحزب كحزب شيوعي (حتى ذلك الحين) أنه أول من دعا للتحالف مع القوى الإسلامية الجهادية المتشددة الصاعدة عام (1980) في مرحلة الصراع المسلح مابين هذه القوى و النظام السوري، وكان رد الإسلاميين واضحاً، إذ صدر عنهم بيان وزع في مدينة حلب بعنوان “عودوا إلى أوكاركم أيها الشيوعيون“، وقد تعرض الحزب آنذاك لحملة اعتقالات واسعة. وفي ذات التاريخ صدر موقف شهير للتجمع الوطني الديمقراطي، وهو تجمع المعارضة اليسارية القومية والماركسية، وصف ما يجري من صراع في سوريا بالانتفاضة الشعبية والليبرالية، وقد خرج عن هذا النسق رابطة العمل الشيوعي، التي اختطت لنفسها طريقاً ثالثاً بعيدا عن القوى الإسلامية الظلامية وعن النظام القمعي الديكتاتوري الشمولي.
وبالتالي لا عجب من تحالف حزب الشعب مع الإسلام السياسي والمتطرف إثر الانفجار السوري الكبير (2011) وبعد مغادرة التنظيم التجمع الوطني الديمقراطي، والالتحاق بالمجلس الوطني والائتلاف الوطني (مركز الثقل فيه للإخوان المسلمين والباقي يدور في فلكهم) لأسباب سياسية، براغماتية، قائمة على الحقد على النظام، إضافة لتوجهات إقليمية ودولية، وبالنتيجة هو تحالف ما يدعى ببعض قوى اليسار مع الإسلام السياسي وحتى الراديكالي. وقد سبق ذلك، التنسيق بينهم وبين الإخوان المسلمين فيما يعرف بإعلان دمشق ، وتبادل رسائل الإعجاب بالتوجهات المدنية للإخوان. فحزب الشعب غير رؤيته لطبيعة الثورة وقواها وبرنامجها، وأصبحت القوى المضادة للثورة ثورية وحليفة، لأنها تريد إسقاط النظام بكل الوسائل والأدوات، ورغم ذلك لم يستطع الحزب توسيع قاعدته الجماهيرية وإعادة إنتاج ذاته كحزب قوي وفعال.
هناك أيضاً تنظيم حزب العمل الشيوعي (رابطة العمل) الذي سبق وشكل المعارضة اليسارية الأساسية في سوريا منذ تأسيس الرابطة (1976) وإلى حين تصفية التنظيم (1992) إثر حملات الاعتقال المتتالية، والذي أعاد نشاطه ثانية عام 2005، فقد انخرط بالانتفاضة السورية عندما كانت سلمية، ورفض السلاح والتطييف كباقي أحزاب هيئة التنسيق باعتباره مكونا أساسيا بها، والتنظيم يتأرجح بين ماضيه الشيوعي(بما يتضمن من برنامج لصالح الفقراء والديمقراطية) وبين وجوده في الهيئة العليا للتفاوض، حيث القوى المضادة للثورة من إسلاميين ومسلحين ومرتزقة، ودول مناهضة لحرية واستقلال الشعوب. واستطاع التنظيم في بداية الانتفاضة استقطاب كتلة شبابية، لكن متغيرات الشرط السوري من حرب وقمع وتهجير هجرت معظمهم ، كما أدت الحرب المجنونة إلى انكفائهم، كما حصل للشعب السوري ككل، وبقي القليل منهم في التنظيم، وبهذا فشل الحزب في التحول إلى حزب جماهيري رغم رمزيته النضالية. وفي سياق ذكر حزب العمل الشيوعي ونتيجة حيويته الفكرية والسياسية، لابد من التطرق إلى توجهات بعض أعضائه السابقين ممن لهم السبق في مغادرة الشيوعية والمراجعة النظرية داخل معتقلات النظام، والتي بدأت مع حركة (ليش فاليسا) واستكملت بناءها النظري بحروب أمريكا في المنطقة، فأصبح بعضهم منظر الاحتلال “التقدمي” الإنساني لقتل مئات آلاف البشر للتخلص من ديكتاتور و المجيء بواجهات حضارية من أحزاب وقوى طائفية تدمر ما تبقى من بلدان وأوطان، وتكاثر المريدون لهذا التوجه من ماركسيين وقوميين، وأصبح حزبا كبيرا دون تنظيم ببرنامج واضح، وهو انتظار الغزو القادم من الغرب، ليهللوا له، وشكل البعض منهم تجمعي“مواطنة” و حركة “معاً” وكلاهما يصب في الطاحونة الغربية.
بقيت القوى القومية (المهزومة أيضاً) وبالأحرى الاتحاد الاشتراكي الذي انخرط ا بالانتفاضة الشعبية، وشكل العصب الرئيسي لهيئة التنسيق، ولكن بعض أعضائه لم يشذ عن السياقات العامة، فترك التنظيم و التحق بالائتلاف وبالقوى الإسلامية الجهادية، واعتنق أيديولوجيتهم . وبعد أن استطاع الإسلام السياسي استثمار طرق اليسار في الاستقطاب الجماهيري بتقديم الخدمات وبناء شبكات أمان اجتماعي، وباستخدام العنف (عنف القوى المضادة للثورة) الجهادي الذي أخذ حرب العصابات ووظفها لتحقيق أهدافه المتساوقة مع الغرب بمعظم الحالات . أما اليسار فوجوده بقي رمزيا بلا حضور ولا برنامج ، لأنه لم ينهض من كبوته بعد، ولم يعد إنتاج نفسه وفق برنامج وآليات عمل جديدة ، ولذا فشل في الاستثمار بالانتفاضة السورية وتوسيع قاعدته الشعبية، خصوصا وهو مكشوف الظهر، بل عار، في حين يفتح الإعلام، و تتدفق الأموال إلى القوى الإسلامية المسلحة للاستثمار فيها من الخليج العربي وتركيا بدعم أمريكي غربي، ليغير موقع سوريا التحالفي من الشرق إلى الغرب، وهذا كله طبعاً ليس من أجل حرية الشعب السوري الذي قتل الكثير منه بنيران السلاح السوري الروسي “الغبي” والسلاح الأمريكي “الذكي“؟
بواسطة Gassan Nasir | مارس 6, 2019 | Roundtables, غير مصنف
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
تبدو قوى اليسار السوري المتعددة، ضعيفة تتسم بالتشرذم والتيه الفكري، رغم أن حدثًا تاريخيًا -وهو انتفاضة السوريين بعد عدّة عقود من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة والمتفاقمة، وغياب الحريات العامة وتكميم الأفواه- كان ملائمًا لتطور هذه القوى اليسارية وتبوئها موقع الصدارة في تاريخ سوريا الحديث، غير أن ذلك لم يحدث! ما دفعنا لسؤال عدد من الشخصيات الوطنية والسياسية والإعلامية السورية من مختلف المشارب، عما تبقى الآن من “يسارية” اليسار السوري، وعن حضوره في المشهد السياسي السوري منذ نصف قرن، والقمع الذي تعرض لهبعد انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وهل كان فاعلًا في أوساط السوريين بمختلف أعمارهم وشرائحهم في العقد الأخير، وماذا عن موقفه من الأزمة السورية المشتعلة منذ نيف وسبع سنوات؟
شعبو: قوى اليسار السوري ضعيفة ومعزولة
يقول الطبيب والكاتب راتب شعبو والذي قضى 16 سنة متّصلة في سجون النظام السوري: “حين رفع السوريون صوتهم في المظاهرات تكلموا لغة وطنية ويسارية، تكلموا عن شعب سوري واحد وعن ديموقراطية وحرية وكرامة وعدل، غير أن القوى اليسارية مع ذلك لم تستطع قيادة الحراك، ولا حتى أن تكون جزءًا مؤثرًا في قيادته. تصدرت الحراك قوى تكفر بالديموقراطية وبالحرية وبوحدة الشعب السوري، وهذا يقول إن الحاجة الفعلية والعميقة للشعب السوري (يسارية)، وإن القوى الفاعلة تشد الدفة إلى اليمين ثم اليمين المتطرف. لكن لماذا يفشل اليسار في أن يكون قوة فاعلة في ثورة (يسارية) في العمق؟”.
يضيف صاحب رواية «ماذا وراء هذه الجدران»: “لا يكفي “سوء اليسار السوري لتعليل هذه المفارقة، وإنما يجب توسيع دائرة البحث، فمن الملاحظ أن اليسار السوري بكامل طيفه قد فشل، من كان منه مبدئيًا ومن كان براغماتيًا، من كان واقعيًا ومن كان نصوصيًا، من تحالف مع الاتحاد السوفييتي ومن مال إلى الشيوعية الأوروبية ومن استهدى بأصولية ماركسية، من عارض السلطات القائمة وطالب بإسقاطها، ومن هادن السلطات القائمة وتحالف معها، من قبل العمل مع المعارضين الإسلاميين ومن رفض العمل معهم.. إلخ. كما لو أن تربتنا غير صالحة لنبتة اليسار”.
وبهذا يرى شعبو أن مشكلة اليسار السوري “ليست في صواب أو خطأ خياراته، المشكلة في أن خياراته لا تجد- بفعل القمع المستمر- فرصة كافية لتموت، أو لتختبر قابليتها للحياة. هذا الواقع لم يؤد فقط إلى تهميش مزمن للقوى اليسارية المعارضة، بل أدى إلى حرمان هذه القوى من تطوير ذاتها، فبقيت ضعيفة ومعزولة، ولم تراكم أية خبرة يعول عليها، فلم تكن في ثورة 2011 أفضل حالًا منها في سنوات الصراع العنيف على السلطة الذي شهدته سوريا بين 1979 و1982، الاصطفافات نفسها، والتنافر نفسه، والفشل نفسه”.
الأتاسي: جردة حساب لمسيرة انحدارية
من جهته، يقول المهندس نشوان الأتاسي: “شكّل مصطلح اليسار في سوريا – على غرار مصطلح الاشتراكية- عباءة فضفاضة انضوت تحت غلالها فرق وجماعات وأشباه أحزاب، كما شخصيات، متنافرة ومتناقضة؛ من يسار البعث (بأجنحته المتعددة والمتصارعة)، إلى اليسار الناصري الهيولي، إلى اليسار القومي العربي المتمركس، وأخيراً وليس آخراً، اليسار الماركسي المتفتت الذي تشظى إلى فرق شتى”.
ويردف صاحب كتاب «تطور المجتمع السوري 1831 – 2011» مضيفاً “المشترك الوحيد بين كل تلك الأجسام كان رفع ذات اللافتة/الشاخصة، بيد أنها اختلفت وتباينت وتصارعت في كل ما عدا ذلك، بل إنها عمدت إلى تصفيات بينية، كلما سنحت لها فرصة ذلك، بطرق أشد عنفًا وهمجية من تلك التي مارستها مع من يفترض بهم أن يكونوا أعداءها (الطبقيين)، وقد تمظهر ذلك في أشد صوره وضوحًا إثر اندلاع ثورة السوريين عام 2011، الحدث الذي ساهم في استكمال تشظي هذا اليسار وانقسامه عموديًا ما بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام على أسس، أبعد ما تكون عن الفكر والثقافة أو النهج السياسي، إن لم نقل على نقيضهما!”.
ويتابع الأتاسي: “بناء على هذا وفي التحليل النهائي، يتعذر القول بوجود (أيديولوجية) أو فكر محدد كان يحكم مسارات تلك الأجسام وأساليب عملها السياسية، الأمر الذي لم يكن خافيًا على معظم (الجماهير) التي ادعت تلك الأجسام تمثيلها، ولهذا لم يكن لها من تأثير يذكر عليها، لا من الناحية الفكرية والأيديولوجية، ولا من الناحية التنظيمية. لقد كان اليسار السوري في المحصلة محاولة مبتسرة ومشوهة لتقليد روح عصر ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، لهذا لم يتمكن من الصمود أمام تحديات الداخل والخارج، ولا أمام الضحالة الفكرية والسياسية للذين حملوا لواءه والأهم، أمام المغريات التي قدمتها السلطة لمن تمكنوا من الاستيلاء عليها لاحقًا باسمه، فانقلبوا عليه إثر استيلائهم عليها…. بل على مجمل الشعب”.
ويختم الأتاسي بقوله: “قد يجد البعض في شبه التطابق الزمني بين اضمحلال اليسار السوري والأزمة التي يعاني منها اليسار العالمي، نوعًا من الإغراء الذهني في تجنب تحميل الذات مسؤولية ما حصل، لكن ما يدحض هذا التطابق هو أن يسارنا لم يكن يوماً جزءاً عضوياً من اليسار العالمي ولا امتداداً له” مستدركاً “ما سبق ليس تحميلًا للمسؤولية لأحد ولا جلداً للذات، إنما هي مجرد (جردة حساب) لمسيرة انحدارية امتدت على مساحة زمنية قاربت نصف القرن”.
سعدو: تمزيق التابوات اليسارية (البكداشية)
بدوره قال الصحافي والمحلل السياسي أحمد مظهر سعدو: “إن اليسار السوري يشبه في واقعه وحركته إلى حد كبير اليسار العربي عموماً، بما عاشه وتعرض له من قمع وعسف، ويلتقي معه أيضاً في مسألة تقبل الشارع لطروحاته، وقيمه وأيديولوجيته التي حملها، لكن (اليسار السوري) إن صحت التسمية، جاء بالأساس كإيديولوجيا بعيدة عن موروث المجتمع، ومنفرة في بعض الأحيان، للكثير مما يحمل الناس من قيم لاهوتية يصعب تجاوزها، خاصة وأن منظري اليسار الأُوَل لم يستطيعوا هم أنفسهم الخروج من هذه الإشكالية، فكانوا في حالة تصادم واضح المعالم مع قيم وعادات ومنتجات الأديان في الشارع السوري كما العربي”.
ويتابعسعدو قائلًا: “كل ذلك لم يحل دون ولوجهم (الثوري) إلى غير منعطف من منعطفات الواقع المتحرك في سورية، ودون تمظهر العديد من نخبهم ذات التوجه الوطني الديمقراطي التي استوعبت المرحلة، وفكت ارتباطها أمميًا، مدركة أنه ليس بالضرورة إذا ما غيمت في موسكو أن تنزل مطرًا في سورية. فعرفت بعض النخب ومن اصطف إلى جانبها كيف تتعامل مع الواقع عبر رؤيا حداثية، ممزقة التابوات اليسارية (البكداشية) وخارجة كلية من اليسار التقليدي، بل وخرجت عليه، أمثال الياس مرقص وياسين الحافظ ورياض الترك وعبد الله هوشة وآخرين، ممن أنتجوا حالة جديدة ومتجددة، ساهمت في كشف المسارات (البكداشية) الانتهازية، الوصولية، التي لم تعد تعنيها ديكتاتورية البروليتاريا، بقدر ما يعنيها الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وبأي طريق، فأصبح اليسار السوري إبان ذلك يسارين، يساراً مدجناً كلاسيكياً وموالياً للاستبداد، ويساراً ثورياً وطنياً ديمقراطياً، بأفكار جديدة متنورة، إلا أنه مقموع مسحوق، تعج به أقبية النظام السوري القامع لكل الأفواه المعارضة، وهو من ألغى السياسة من المجتمع أصلًا، مع ظهور حراك الأخوان المسلمين أواخر السبعينات من القرن الفائت، حيث زج معظم قادة اليسار الثوري في السجون، كما جرت تصفيات للكثير منهم، ومن ثم اتهامهم بالانحياز إلى جانب الإخوان المسلمين زوراً “.
قرقوط:تشظي اليسار السوري من داخله
الكاتب والسيناريست حافظ قرقوط يقول: “لم تستفد قيادات الأحزاب الشيوعية من التجارب وكرست الديكتاتورية حتى في قيادة أحزابها، وللأسف بشكل عام، الأحزاب الشيوعية المختلفة رأت في الإنسان الفرد مجرد أداة لأجل المنظومة السياسية الأممية، وليس هدفًا للتنمية والعمل على نيله حقوقه كونها لب الموضوع في سبيل نيل المجتمع حقوقه، وبالتالي بنية الدولة والإدارات”. ويتابع قرقوط: “تشظى اليسار السوري من داخله بسبب تركيبته الصماء، ولم يبق من عمله السياسي الطويل سوى ذكريات، يعتقد ورثته بأنها ذات قيمة نضالية في مسيرته، بينما هي جزء من منظومة فكرية ساهمت ككل الأيديولوجيات بتهميش الإنسان كقيمة فاعلة، ولهذا لم ينل شعبية كافية تحميه من بطش السلطات، التي عاملت عدداً من أفراده بقسوة شديدة في المعتقلات”.
ويضيف الكاتب: “الكثير من الشخصيات التي عبأت جعبتها الثقافية بالفكر اليساري رأت في نفسها أنها نخبة، وتعاملت مع المجتمع بفوقية المثقف لا بعقلية السياسي الذي عليه أن يكون لسان حال مجتمعه، وبعضهم أصبح بوقاً للاتحاد السوفييتي السابق، ولهذا لم يتجاوز الفعل السياسي بأحسن حالاته لتلك الأحزاب العشرات من الشباب الحالمين بعالم أفضل بين ركام الشعارات التي جعلته منفصلاً عن الواقع، وغريبًا عن الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين ممن ادعى نضاله لأجلهم”.
ويختم قرقوط بالقول: “أظن أن الأحداث التي رافقت الثورة السورية أثبتت أن اليسار العربي كان على صراع مع الأنظمة للوصول إلى السلطة، وليس نضالًا لأجل مجتمع مسحوق، ولهذا كان اليسار بعيداً عن فهم قيمة الثورة السورية وشعبيتها، وانحاز لصف النظام بدلاً من المظلومين، وهذا يعيدنا إلى بدايات تشكيله وغربته عن الواقع الذي كان عليه أن يترسخ به، وأظن أن موقفه هذا سيؤثر كثيراً على سقف نموه السياسي في المستقبل، كون كلمة يسار أصبحت مرادفة لكلمة ديكتاتورية، في حال لم يعدل من رؤيته الفكرية والسياسية”.
سفر: اليسار في مرحلة جديدة
أماالصحافي والكاتب بسام سفر، وهو معتقل سابق، فيقول:”تاريخياً في سوريا، أحزاب اليسار بعضها داعم للنظام السوري عبر الجبهة الوطنية التقدمية، والآخر منها ضد سياسة النظام في القمع والديكتاتورية والحريات السياسية والإعلامية وحقوق الإنسان، وعدم الاهتمام بمصالح الفئات الفقيرة والمهمشة من السوريين”.
ويتابع سفر، عضو المكتب السياسي في “حزب العمل الشيوعي” وعضو المكتب التنفيذي في “هيئة التنسيق الوطنية”، حديثه قائلًا:“لعب القمع والسجن الطويل لأحزاب اليسار السوري منها (حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي، حزب البعث العربي الديمقراطي (23 شباط/فبراير).. إلخ)، دوراً كبيراً أضعف وأنهك هذه الأحزاب، حيث قُدم أفرادها إلى محاكم استثنائية حكمتهم لسنوات طويلة، وأبعدوا عن الفعالية السياسية والاجتماعية والتأثير بالناس، وجعل القمع منهم هياكل تنظيمية غير قادرة على إقناع الأجيال الجديدة في دخول معترك الحياة السياسية، خصيصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهزيمة الاشتراكية المحققة فيه. فيما بعد، صار حضور هذا اليسار أكثر واقعية عبر خطاب سياسي واقعي بعيدًا عن الخطاب واللغة الخشبية”. ويستدرك سفر ” لكن فعاليته الجماهيرية ضعيفة بين الناس نتيجة اللغة السياسية العالية التي يستخدمها هذا اليسار، وجاءت محاولات تجديد لغته وخطابه السياسي مع الثورة السورية في العام 2011، وما بعده حيث جدد هياكله التنظيمية ليصبح ملائمًا للمرحلة الجديدة، ولم يوفق بذلك حتى الآن، رغم حضوره السياسي في الهيئات السياسية السورية من هيئة المفاوضات العليا، وهيئة المفاوضات الحالية الممثلة للمعارضة السياسية التي تفاوض النظام وذلك عبر القرارات الأممية التي اتخذها مجلس الأمن الدولي، لتكون الأساس للحل السياسي عبر مسار جنيف التفاوضي”.
بواسطة Anwar Badr | فبراير 27, 2019 | Roundtables, غير مصنف
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
حين استسلم الحزب “الشيوعي السوري” لامتيازات “الجبهة الوطنية التقدمية” التي أنشأها الرئيس حافظ أسد في 7 مارس/ آذار 1972، بقيادة حزب البعث وتشجيع من القيادة السوفيتية آنذاك، كان رياض الترك يعدّ للانشقاق الأول في تاريخ الحزب، ليقوده بعد شهر من ذلك رافضاً التحالف مع النظام.
وبهذا أعلن الترك خروجاً عن طاعة الكرملين، تنظيمياً وبرنامجياً، مؤكداً على التيمة الرئيسية لموضوعات الخلاف التي أثيرت في المؤتمر الثالث للحزب 1969، والقائمة على متلازمة الديمقراطية والمسألة القومية وخفض سقف التبعية للكرملين، وهي القضايا التي سبق سماع أصدائها في بعض أروقة الأحزاب الشيوعية الأوربية، بُعيد ربيع براغ.
لم يتأخر رياض الترك بعقد المؤتمر الرابع للحزب في كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، حيث حافظ فيه على اسم الحزب الشيوعي مع إضافة لاحقة “المكتب السياسي”، تعبيراً عن شرعية تمثيله أغلبية أعضاء المكتب السياسي بهذا الانشقاق، إضافة لشرعية انتخابه أميناً عاما للحزب القديم/ الجديد.
وقد شكلت هذه التجربة، حالة نضالية فارقة في مسيرة اليسار السوري عموماً،تميزت بالراديكالية والكفاحية العالية في مواجهة النظام، وبشكل خاص بعد التدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن هذه الراديكالية لم تحمِ الحزب الشيوعي- المكتب السياسي من الهزات القادمة، بل ربما بسببها، خرجت مجموعة يوسف نمر وصبحي أنطون من المكتب السياسي للحزب قبيل المؤتمر الخامس عام 1978، ليشكلوا منظمة باسم “اتحاد الشيوعيين”.
بالتوازي مع ذلك، كان الترك يطور هوية الحزب الفكرية والأيديولوجية مبتعداً عن الماركسية اللينينية، باتجاه تكريس خطاب شعبوي عروبي وإسلامي، انعكس بالضرورة على خطه السياسي، وعلى تحالفاته في تلك الفترة. وبدأت تتضح ملامح هذا الخط السياسية تدريجياً، منذ أن اكتفى الحزب بإدانة النظام في تعليقه على مجزرة مدرسة المدفعية في حلب حزيران/ يونيو 1979، باعتبار أن “رد فعل الإخوان العنيف، إنما هو بسبب قمع واستبداد النظام”، رافضاً بذلك توجيه أية إدانة لجماعة الإخوان، في سياق العنف المتبادل بينها وبين النظام على أساس الانقسامات العمودية والطائفية في المجتمع، وصولاً إلى مطالبة اللجنة المركزية لحزبه، في رسالة داخلية بتاريخ حزيران/ يونيو 1980، بتشكيل “تحالف ديمقراطي – إسلامي – شعبي”.
مقابل هذا الإصرار على التحالف مع الإسلاميين، أبدى الترك تشنجاً ورفضاً قاطعاً للتحالف أو التنسيق مع رابطة العمل الشيوعي في تلك الفترة، رغم أنها الأقرب إليه بالمعنى الراديكالي والنضالي والاستعداد للتضحية، وبالمعنى السياسي أيضاً في موقفهما الرافض للتدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية. حدا هذا الموقف بالرابطة لتقديم تقريظ عالي للمكتب السياسي ضمن كراس “جدل بناء الحزب الشيوعي الثوري في الساحة السورية” 1977، اعتبرت فيه أن المكتب السياسي هو الفصيل الأقرب إليها سياسياً وبرنامجياً، مشيرة إلى حديث عن مبادرة للانضمام كأفراد فقط إلى “المكتب السياسي”، لكن قيادة “المكتب” رفضت المبادرة، وأوقفت الحوار دون أي تعليل، مكتفية ببث اتهامات سيئة في كواليس العمل السياسي، لا تتعلق بالتحليل المادي والتاريخي للواقع والسياسة.
رغم هذا، سحب المكتب السياسي الفيتو على أي تعاون أو تنسيق مع رابطة العمل، إلى مطبخ المعارضة السورية، والتي كانت بصدد تأسيس “التجمع الوطني الديمقراطي” عام 1979، حيث أصرّ رياض الترك على إقصاء الرابطة من التجمع، وفرض رأيه بقوة التعنت الديمقراطي على فرقاء التجمع الآخرين، كما أكدت عدّة حوارات لاحقة في “سجن صيدنايا العسكري”، مع أشخاص قياديين ساهموا مباشرة في تلك النقاشات التي أفضت إلى تأسيس التجمع.
انتظر المكتب السياسي طويلاً خروج كوادره، ومن ثم الأمين العام من السجن في أيار/ مايو 1998، ليبدأ التحضير لانعقاد المؤتمر السادس للحزب في نيسان/ إبريل 2005، وفجر هذا المؤتمر مفاجأة في أوساط اليسار السوري تحديداً، حيث تخلى الحزب عن تسميته الشيوعية ليصبح “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، وتخلى رياض الترك عن الأمانة العامة للحزب لينتخب عبد الله هوشي أميناً عاماً له، تزامن هذا مع خروج مجموعة جديدة من صفوفه بقيادة محمد سيد رصاص وجون نسطه، حافظت بدورها على مسمى “الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي”.
جاءت مع ذلك ولادة “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، والذي لقي ترحيباً من أغلبية قوى المعارضة السورية والشخصيات الوطنية، كما رحبت به قيادة الأخوان المسلمين.
إلا أن رياض الترك، وبعكس نتائج المؤتمر، بدأ يعمل على تعطيل دور القيادة الجديدة وأغلب المؤسسات، من خلال الهيمنة على اللجنة المركزية للحزب، مما دفع الأمين الأول المنتخب عبد الله هوشة لتقديم استقالته بعد أشهر على انتخابه، وهو الذي سبق له قيادة العمل السري للحزب و”التجمع الوطني الديمقراطي” لعشرين سنة حين غيبت السجون رفاقه، كما كان لهوشة دور مهم في الإعداد للمؤتمر السادس للحزب الذي صنع التحول باتجاه “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، لكنه”لم يستطع التكيف مع بقايا العقلية الستالينية في الحزب، فاستقال من الأمانة ومن اللجنة المركزية” على حدّ تعبير رفيقه في التجربة عبد الله تركماني، في نعوته للرفيق عبد الله هوشه، الذي وافته المنية في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2018.
أعتقد أن سنوات الاعتقال المديد لرياض الترك ولفيف من رفاقه، حولته إلى إحدى أهم أيقونات المعارضة السورية، التي كان يمكن أن تبني خطاً يسارياً وطنياً للحراك الثوري الذي اندلع في آذار 2011، لكنه فشل في الاستجابة لحراك السوريين العفوي في تلك اللحظة، وخاض حرب إشاعات ضد “لجان التنسيق المحلية”،وكان قد تخلى عن “التجمع الوطني الديمقراطي” ليتركه في هشاشة “هيئة التنسيق الوطني”، ذاهباً بإعلان دمشق إلى خياره الأول للتحالف مع الإسلاميين، عبر تشكيل “المجلس الوطني السوري” في اسطنبول صيف 2011.
وبهذا قاد معه “إعلان دمشق” إلى ذات الفشل الكارثي، مما اضطر كوادر “الحزب” وقيادات “إعلان دمشق” لتدارس مأزق عجزها التاريخي عن بلورة آليات عمل ديمقراطية، وطبيعة تحالفاتها الكارثية، وهو ما بدأ يظهر للعلن مع تشكيل “قيادة مؤقتة” منذ عام 2014، طالبت بإسقاط الشرعية عن قيادة أو هيمنة رياض الترك، وحملته كامل المسؤولية عن سنوات الثورة العجاف.
لكن القائد -الذي لا يقبل النقد- سارع إلى معاقبة “الخراف الضالة في حزبه”، بأوامر التنبيه والإنذار، وتعليق العضوية وإسقاطها عن بعضهم، متهماً إياهم بالتآمر و”التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية”، ولم ينس الترك أن يستعير من النظام -الذي أمضى حياته في مقارعته- الإشارة إلى تورط أطراف خارجية تدّعي تمثيلها للثورة.
إثر ذلك ذهبت “القيادة المؤقتة” إلى “لجنة التحكيم الوطنية” للاعتراض على قرارات القيادة بحقّهم، باعتبارها صاحبة الاختصاص للفصل في المنازعات الحزبية، وفقاً للنظام الداخلي، وأعلنوا قبولهم المسبق بما تصدره اللجنة من أحكام أياً كان مضمونها.
لكن القيادة التاريخية استعارت ثانية من نظام البعث مبرراً لكل تجاوزاتها للنظام الداخلي/ الدستور، بحالة الطوارئ، وفق المادة 59 من النظام الداخلي، حتى أنها فرضت إجراءاتٍ عقابية بحق “لجنة التحكيم الوطنية” نفسها، المنتخبة من قبل المؤتمر.
يكاد الحزب الآن أن يتشظى، فيما لازال يُصر رياض الترك على شرعيته البائدة، منكراً كل ما يوجه له من اتهامات، وفي أول حوار له مع صحيفة “القدس العربي:3/9/2018″ بعيد وصوله إلى فرنسا، يتنصل الترك من العسكرة والأسلمة التي حصلت في الثورة السورية بقوله:”نحن من جهتنا في الحزب وفي إعلان دمشق لم ننخرط في أي عمل مسلح، ولم نرتبط بأي جهة أجنبية، لكن غيرنا انخرط منذ البداية في العمل المسلح، وكانت له امتدادات إقليمية ودولية”!
هل نسي رياض الترك أن جورج صبرا هو الذي ردّد في لحظة انتخابه “رئيسا للمجلس الوطني السوري” مساء 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012: “نريد سلاحاً نريد سلاحاً نريد سلاحاً”! وأنه في لحظة انسحاب “لجان التنسيق المحلية” من المجلس الوطني رفضاً لسيطرة الإخوان المسلمين، كان صبرا يُصرح بأن المجلس يضم أهم مكونات المعارضة السورية للنظام؟
بالتأكيد لم يكن جورج صبرا في يوم ما قاذف آر بي جي في “جبهة النصرة”، لكنه هو الذي دافع عن “جبهة النصرة” وعن سلاح النصرة، باعتباره “جهداً عسكرياً كبيراً في دعم مسيرة الثورة لإسقاط النظام والدفاع عن السوريين”.
وهل نسي رياض الترك أن صبرا مُنح الجنسية التركية لعلمانيته؟ وهل سمع بأن صبرا ما زال يراهن باسم “حزب الشعب” و”إعلان دمشق” على “المجلس الإسلامي السوري” لمهمّة إعادة إحياء “الوطنية السورية”، وأن يكونوا “المظلة التي تُنبت القيادة السورية الجديدة”؟
أليس هذا الصوت رجع الصدى لما حاكه رياض الترك سنيناً طويلة؟
أليس مفاجئاً أن يتابع الترك حملته على “لجان التنسيق المحلية” وأيقونتها رزان زيتونة، بمغالطات كالحديث عن حضور مؤتمر “أنطاليا”؟ فيما كان هو يشرف على دور ممثليه من “إعلان دمشق” في هذا المؤتمر، أنس العبدة وعبد الرزاق عيد؟
يبدو أن علينا الاعتراف ولو متأخرين، بأن الكفاحية العالية والنضالية التي تميزت بها بعض تجارب اليسار، كانت عقيمة بكل أسف، لأنها لم تقترن بالديمقراطية في مستوى التعامل مع أعضائها كأفراد ومنظمات أيضاً، أو فيما بينها كقوى سياسية، مما يفسر جزءاً من أسباب تصدعات هذه التجارب وانقساماتها المتكررة، وعجزها عن مواكبة زخم الحراك الثوري الذي اجتاح سوريا.
بواسطة Amal Naser | فبراير 20, 2019 | Roundtables
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
زاوجت تجربتي الخاصة بين نشاطي مع رابطة النساء السوريات منذ التسعينات (لكل فصائل الأحزاب الشيوعية المتحالفة مع الجبهة الوطنية التقدمية)، وانخراطي سياسياً – سرياً ثم علنياً- في حزب العمل الشيوعي المناهض لدكتاتورية النظام تاريخياً.
كيف يمكن أن نَنظّر الى انخراط يساري حقيق ومبدئي في زمن تغلغلت فيه كل الأجندات الإقليمية والدولية والتمويل والدين السياسي، فكان انعكاسه المباشر تجريد اليسار من ثوريته النضالية والتخلي عن برنامجه واستراتيجيته؟ وما الذي يعنيه لنا تحديداً ارتباط ما يحدث في سورية بهذا اليسار التاريخي؟ الذي ينقسم بين أحزاب متحالفة مع النظام منضوية في الجبهة الوطنية التقدمية من جهة، ومن جهة أخرى لأحزاب وتيارات يسارية معارضة منقسمة بين ثورية يسارية معارضة جذرية، وثورية يسارية معارضة متحالفة مع اليمين الإسلامي، وثورية يسارية قومية (عربية وكردية) وقعت في أزمة ما بين هويتها اليسارية الوطنية الجامعة والهوية القومية الضيقة.
اذاً ما الذي يميز حقيقة في كل ذلك اليسار التحرري الماركسي عن الاشتراكي البعثي ، الذي تمثلت به أحزاب اليسار المتحالفة مع النظام ، في دفاعها عنه ، في حين توجهت بخطابات تنتقد فيها الدكتاتوريات العربية، وعنفها الممارس ضد مطالب شعوبها مساندة بذلك ثورات الربيع العربي وثورية الأحزاب اليسارية المعارضة ( خطابات الاحزاب الشيوعية السورية المتحالفة مع بعثية ودكتاتورية النظام السوري ، ضد نظام السودان وممارساته ، مساندة بذلك ثورية الحزب الشيوعي السوداني المعارض ، ومخالفة بهذا المطلب والحق الأحزاب اليسارية السورية المعارضة في مطالبها ضد النظام السوري ).
ما هي علاقة اليسار بالحرية التي انتفضت لأجلها السوريات والسوريون؟
إذا أردنا رسم خارطة واقعية لمواقف اليسار المعارض التقليدي تجاه مطالب السوريين بالحرية سنجد أنفسنا أمام تناقضات جوهرية يمر بها اليسار السوري عموماً. فمنذ سبعينيات القرن الماضي،وقعت التيارات اليسارية السورية المعارضة ما بين مطرقة قمع النظام وسندان اليسار المتخاذل المتحالف معهتحت مظلة “الجبهة الوطنية التقدمية”التي هيمن عليها حزب البعث الحاكم وصادر هويتها وثوريتها. مما أضعف هذا من قدرة “اليسار السوري على تطوير استراتيجيتة الفكرية والتنظيمية، ولم يعد بإمكانه أن يكون لاعباً فاعلاً في الساحة السورية، وبالطبع كان من المتوقع أن تساهم الأحزاب والتيارات اليسارية المزودة بالأدوات النظرية والفلسفة الماركسية ، بلعب دورٍ نهضويٍ وتحرري في سورية، لولا الطابع السوفيتي (الستاليني) الذي بلورته الأحزاب اليسارية المتحالفة مع النظام منذ نشوئها، والخلافات التي أصابت التيارات والأحزاب اليسارية المعارضة، حول تطبيق مفهوم النظرية الثورية، وترويج شعاراتها المناهضة للنظام، والتي تم قمعها بوحشية في أواخر السبعينات والثمانينيات.
النساء واليسار السوري سياسياً وقيادياً
يحتاج الوقوف على قضايا برامج اليسار السوري والتحليل المرحلي لاحتياجاتها إلى إعادة النظر بمسار اليسار الإيديولوجي لنضالها الطبقي والتحرري، الذي بنى عليه رؤيته الثورية لبناء وعي اجتماعي نخبوي، كما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية والمنعطفات التي غيرت من هوية بعض الأحزاب اليسارية وآليات عملها وتحالفاتها. فقد أثرت القضية الفلسطينية على علاقة بعض الأحزاب اليسارية بمسألة الهوية القومية، فيما ابتعدت بعض الأحزاب عن نضالها الطبقي ، وبُعدها عن الانخراط بين العمال والفلاحين بسبب سرية عملها، واهتمامها باختراق الجيش من أجل إسقاط ديكتاتورية النظام كما حصل في أواخر السبعينات، في ذات الحين رفضت هذه الأحزاب “التقدمية” مفهوم النضال التحرري النسوي، وجعله قضية مستقلة منفصلة عن مهامها المجتمعية التحررية ككل.
وهنا نجد مفارقة كبيرة بين مسار الأحزاب اليسارية التقليدية المتحالفة مع النظام السوري والتي اتسمت بنشاطها العلني ، حيث تبنت نضالا جاداً وانخراطاً حقيقياً في دعم حركات تحرر النساء والدفاع عنها، وأصدرت العديد من الأدبيات الحزبية الخاصة بمتطلباتها المرحلية بشكلها المستقل، من خلال إنشاء منظمات خاصة للنساء والشباب (رابطة النساء السوريات، واتحاد الشباب الديمقراطي، الذي حملوا نفس الاسم للحزب الأساسي وتياراته المنشقة عنه). في حين أنّ الأحزاب اليسارية المعارضة، التي تبنت العمل السري، نأت بنفسها عن تبني قضايا النساء والشباب في معاركهن/م المجتمعية بشكلها المستقل، رغم أنّ هذه الأحزاب والمنتمين/ات إليها لم يتراجعوا عن مبدئيتهم اليسارية وسعيهم الجاد لخرق العادات والتقاليد، ومحاربة الجهل، وتهديم البنى الاجتماعية القائمة على عدم المساواة بين النساء والرجال. ورغم أنّ المعتقلات السوريات اليساريات سُجنَّ مالا يقل عن ثلاث سنوات في سجون النظام السوري، إلا أنّ وجودهن في صفوف كافة قيادات الأحزاب اليسارية المعارضة في تلك المرحلة بقي ضعيفاً (أو شبه معدوم). وبالإضافة الى ضعف التمثيل على مستوى التنظيم السياسي، نجد فقراً واضحاً في الأدبيات الحزبية والفكرية الخاصة بالمرأة وانخراطها السياسي والقيادي في المجتمع، باستثناء ما صدر من قبل بعض المثقفين اليساريين كالمناضل والكاتب اليساري الراحل (بو علي ياسين 1942-2000) الذي قدّم أدبيات هامة على مستوى النظرية والواقع لتحرر المرأة العربية عموماً والسورية خصوصاً، نشرها في خمسة كتب.
وحتى بعد الانتفاضة وانخراط العديد من اليساريات بقوة في الحراك، لم تتغير مفاهيم الأحزاب اليسارية حول أهمية تفعيل انخراط النساء في قيادة الأحزاب، وتدعيم دورهن في تفعيل الحل السياسي الغائب حتى الآن، ويكاد إشراك النساء يقتصر على ما فرضته الأمم المتحدة بإلزامها تمثيل النساء ضمن هيئة المفاوضات. وبالطبع يشبه وضع النساء اليساريات المنخرطات في التحالفات الحالية للمعارضة وضع الرجال اليساريين ممن قبلوا بالأجندات (السعودية أو القطرية أو التركية أو الروسية)، وتبدو مشاركتها خجولة وليست على قدر الطموح والتمثيل.
في نهاية عام 2012 وأثناء لقاءٍ جمع بعض النساء العربيات (السياسيات والناشطات مدنياً) في الأردن على خلفية نشاط نسوي عن الديمقراطية ودور النساء فيها قيادياً، طرحت بعض اليساريات السودانيات على اليساريات العربيات آنذاك مشروعاً لبناء تحالف نسوي يساريضمن الربيع العربي، لتكون قوة ضاغطة على الشارع المنتفض لحريته، إلا أنّ هذه الفكرة لم تلق استحساناً أو قبولاً من الأحزاب اليسارية المعارضة متذرعين أننا في مرحلة نضالية متكاملة لا يمكن أن تطرح فيها السياسيات اليساريات نضالاً مستقلاً . ويبدو أن سبب هذا الرفض هو ضعف رؤيتهم لضرورة بلورة هيكلية قيادية نسوية نخبوية، لأنّ هذه الأحزاب لم تصل الى مرحلة تكون فيها بديلاً حقيقياً وممثلاً لمطالب الشعب، ولأنّ بعض قيادات تلك الأحزاب لا ترى في المرأة عموماً -سواءٌ كانت يسارية أو لم تكن- بأنها جديرة وصاحبة كفاءة لتولي مناصب قيادية، وهذا ما تجلى تاريخياً وحالياً بتمثيل الأحزاب اليسارية في قيادة تحالفاتها لرجالٍ فقط.
الهوية اليسارية بعد 2011
بقي اليسار خارج الساحة السورية بعد وصول الأسد الابن الى السلطة عام 2000، وحتى عندما دخلت سورية ربيعها المنتفض عام 2011، عادت الانقسامات التاريخية مجدداً بين اليسار السوري التقليدي المتحالف مع النظام وأحزاب اليسار المعارض بكل أحزابه وتياراته. ورغم أن التيارات اليسارية المعارضة حافظت على تاريخها الجذري المعارض للنظام، إلا أنّ تطورات الأحداث والصراع العسكري تمخض عنه مؤخراً ولادة هيئة التفاوض، التي جمعت جميع المتناقضات من اليسار المعارض واليميني المتطرف إيديولوجياً وعسكرياً، في طبخة اقليمية ودولية تحت عباءة السعودية ودعم ومساندة تركية في سابقة تاريخية قلٌ مثيلها في تاريخ اليسار الجذري. هناك أيضاً تيارات وتشكيلات يسارية متعددة ارتأت لنفسها تحالفات أخرى مثل تيار “اليسار الثوري” الذي انضم الى مجلس سورية الديمقراطي مع بعض اليساريين المستقلين.
تعود أسباب هذه التحالفات المتخبطة للتيارات اليسارية السورية إلى اضطراب اليسار، وعجزه عن بلورة برنامج سياسي ذا استراتيجية طويلة المدى لنضاله السلمي منذ أواخر سبعينيات العقد الماضي، حيث دفعت سياسات النظام القمعية ببعض الأحزاب اليسارية للتطرف والتعاطف مع قوى رجعية أصولية مثل الاخوان المسلمين في صراعهم المسلح ضد النظام ، حيث اعتبرت هذا الصراع بمثابة ثورة شعبية ضد السلطة، في ذات الفترة وعلى النقيض منها جمدت رابطة العمل الشيوعي شعار اسقاط النظام، مستبدلة إياه بشعار دحر الدكتاتورية العسكرية والظفر بالحريات السياسية بشكل مواز في مواجهة الفاشية الرجعية المتمثلة بالإخوان المسلمين. وباعتقادي لا يمكننا الحديث الآن عن هوية بنيوية جذرية يسارية للأحزاب والتيارات الموجودة على الساحة السورية. إلا فيما ندر سواء داخل سورية أو خارجها، إذ يكاد يقتصر حضورها على مجموعات صغيرة أو أفراد انسلخواعن أحزابهم اليسارية ولا زالوا متمسكين بمبادئهم وهويتهم اليسارية، فوجدوا أنفسهم في مفترق طرق مع تلك الأحزاب اليسارية التي تراكضت لاقتسام التمثيل السياسي الوهمي عبر المحاصصة الطائفية بين أطراف المعارضة المتوافق عليها اقليمياً ودولياً.
هل كان الوعي السياسي لليسار بحجم ما يحدث في الشارع السوري؟
يجعلنا هذا السؤال نقف أمام أزمة هوية متصدعة بنيوياً، تتكشف عن حقيقة ما تمارسه هذه الأحزاب من سلوكيات معاكسة لبرامجها ورؤاها اليسارية الثورية التي انطلقت منها في بناء تنظيماتها، وما بين النظرية والواقع يكمن غياب هذه القوى والأحزاب في تقديم رؤية حل سياسي، وبرنامج عمل قابل للتطبيق يستقطب الشارع المنتفض دون الانخراط في تحالفات مع التيارات اليمينية المتطرفة المناقضة لها.
إذاً انقسم موقف اليساريين ما بين داعم ومعارض للانتفاضة التي تعسكرت ثم تحولت إلى صراع مسلح، وبالإضافة إلى مسؤولية النظام عن تفريغ الساحة السياسية المعارضة له بالارهاب والترهيب والاعتقال على مدى عقود ، يتحمل اليسار المعارض بكافة أحزابه و تياراته التي تخلت عن أخذ دورها الريادي في توحيد صفوفه وتنظيم قوى الحراك الشعبي المنتفض ، لتأخذ دورها التاريخي في قيادة الحراك الذي استحوذت عليه القوى الاسلامية والجهادية.
فكيف يمكن ليساريتنا الثورية المبدئية أن تساهم وتبني من جديد مواقعها ومنابرها لطرح برامجها؟ سؤال من الصعوبة الرد عليه ولكنه ليس بالمستحيل، وقد يكون الملف الذي طرحه صالون سورية بمثابة فرصة لمواجهة مثل هذه الأسئلة والتفكير بالمستقبل.
بواسطة Jamal Saeed | فبراير 12, 2019 | Roundtables, غير مصنف
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
تشكلت حركات اليسار الجديد ومن بينها رابطة العمل الشيوعي، في سياق -أعتقد- أن من بين أهم ملامحه العربية هزيمة حزيران/يونيو 1967 المدوية، التي تركت أثراً موجعاً للغاية في المجتمعات العربية، وعلى نحو خاص في مصر وبلدان المشرق العربي، حيث أوقدت وعود الإعلام القومي (الناصري والبعثي) حماس وآمال وإيمان الجماهير بالتحرير.
بعد الهزيمة، أعادت النخب التي لم يشلها اليأس، طرح العديد من الأسئلة المتعلقة بتحرير الأراضي العربية المحتلة، وإقامة نظام يضمن العدالة الاجتماعية، وطرحت مشكلات المجتمعات العربية التي تفتقر إلى الديمقراطية والحداثة والعقلانية، محاولة الإجابة عن أسئلة ترتبط بكيفية الالتحاق بركب الحضارة العالمية لتتحرر المجتمعات العربية من الفقر والجهل والتخلف، وكيفية إقامة نظام يضمن حرية التعبير وتشكيل الأحزاب وإشراك الشعوب فعلياً في اجتراح الحلول لتجاوز أزمات تلك المجتمعات.
ازداد عدد الفصائل اليسارية في منظمة التحرير الفلسطينية، ومثلت تلك الفصائل أحد الأطر المهمة للنضال والحوار ولملمة الأحلام الوطنية والقومية ضمن لبوس ماركسي هذه المرة، كما شهدت حقبة نهاية الستينيات أحداثاً ألهبت العواطف وخصوصاً لدى الشباب: من بينها مقتل غيفارا وتحوله إلى أيقونة عالمية، وثورة 1968 في فرنسا، ومواقف النخب الأوربية منها، وفي الوقت نفسه برزت تيارات مختلفة ومتباينة في الحركة الشيوعية العالمية، وبدأ الخروج على النهج الستاليني، والسوفييتي عموماً، يعبر عن نفسه في أطروحات بعض الأحزاب الشيوعية في أماكن متعددة من العالم. العديد من الدلالات تشير لتعدد وصراع المفاهيم ضمن الميدان النظري والسياسي للحركة الشيوعية العالمية، من بينها أن الكثيرين كانوا يرون في الشيوعية (بصفتها نظرية ثورية) منطلقاً للخلاص العالمي، وأن كل تيار كان يرى أنه هو الممثل الأصيل للفكر الشيوعي، ومن بينها أيضاً أن الشيوعية تحولت في مواطن كثيرة من أداة نظرية إلى ضرب من ضروب الإيمان والتدين.
في هذا السياق ولدت ظاهرة اليسار الجديد العالمية، والعربية. وقد تباينت قوى اليسار في العديد من المواقف، ومن بينها “صناعة الثورات الاشتراكية”، ففي حين استلهمت بعض القوى حرب العصابات وقدست “العنف الثوري” مثل “الألوية الحمراء” في إيطاليا، و”التوبوماروس” في الأورغواي، و”بادر ماينهوف” أو جماعة “الجيش الأحمر” في ألمانيا الغربية آنذاك الساحة الفلسطينية شهدت تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقادها جورج حبش الذي اعتبر ضمير الثورة الفلسطينية أو/و رمز النقاء الثوري فيها، وعرف عنها اختطاف الطائرات، وبرزت فيها أسماء تم تطويبها كأبطال مثل وديع حداد وليلى خالد. وفي سورية حاول أعضاء المنظمة الشيوعية العربية البدء بحرب عصابات لضرب المصالح الأميركية، إلا أن المنظمة طوقت في مهدها إثر إعدام خمسة من قادتها، والحكم على أعضائها الآخرين بالسجن المؤبد.
كانت ظاهرة الحلقات الماركسية جزءاً من موجة اليسار الجديد، وقد تحدر أغلب أعضائها من أحزاب التيار القومي، الذين صبوا بعض لومهم على الأدوات المعرفية القديمة، وتابعوا بحثهم الجاد عن أخرى جديدة، ورأوا في الماركسية ضالتهم، فعكفوا على قراءة التراث الماركسي، وعلى استخدامه بصفته أداة أحياناً وبصفته عقيدة وإيماناً في أحيان كثيرة، بهدف تقديم “تحليل ملموس لواقع الملموس” للوصول إلى كيفيات وسبل التحريروالتغيير. تطورت ظاهرة الحلقات الماركسية وتزامن تطورها مع انقسام الحزب الشيوعي السوري، لحزبين يدعي كل لنفسه الشرعية التنظيمية والسياسية، وعُرف كل منهما باسم أمينه العام (جماعة بكداش وجماعة الترك).
وكانت الحلقات الماركسية في سورية تفكر بالحوار مع الشيوعيين الآخرين، ولكن قيادات الحزبين رغبت في أن ينضم أعضاء الظاهرة الجديدة إلى الحزب (سواء الترك أو بكداش) فرادى، وادعت قيادة كل من الحزبين أن حزبها هو الإطار “الحقيقي” -بحسب وصفها- للنضال الشيوعي في سورية، وحصل بكداش على صك الشرعية السوفييتي، واعتبر الترك أنه يمثل الشرعية الثورية.
في مطلع عام 1976 دخل الجيش السوري إلى لبنان بطلب من بيير الجميل وحلفائه، وموافقة جامعة الدول العربية، مع معارضة الفلسطينيين وقوى اليسار اللبناني أو ما يعرف باسم “الحركة الوطنية اللبنانية” التي كان يتزعمها كمال جنبلاط، وترك ما ارتكبه الجيش في تل الزعتر وجسر الباشا بحق المقاتلين الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين، تأثيراً كبيراً في تسريع تشكيل رابطة العمل الشيوعي في سورية، وهي المنظمة التي انبثقت عن اللقاء الثالث الموسع للحلقات الماركسية الذي انعقد في 28 آب 1976 في مدينة حلب.
تبنت الرابطة أغلب الموضوعات الاستراتيجية التي انبثقت عن الحلقات الماركسية، وتمت العناية بإصدارها لاحقاً في كراسات طُبعت في لبنان ليتم تهريبها إلى سوريا لاحقاً. وتدل عناوين تلك الكراسات على الموضوعات التي اهتمت بها الحلقات وهي: ملامح الصراع الطبقي العالمي، الأممية والحركة الشیوعیة العالمیة، العنف الثوري وأشكال الانتقال إلى الاشتراكیة، الثورة العربیة والحزب الشیوعي العربي، القضیة القومیة، القضیة الفلسطینیة، البرجوازیة الصغیرة والسلطة السوریة، الجبھة والتحالفات، الطبقة العاملة السوریة، الحركة الشیوعیة المحلیة، كما ألحق بهذه المجموعة كراس بعنوان: الجولان، عشر سنوات على الاحتلال.
وقد نوقشت في إطار الحلقات وفي إطار الرابطة (وهذه هي التسمية المختصرة الشائعة) موضوعات عدة من بينها: البيروقراطية في الأحزاب الشيوعية، الفرق بين التنظيم اللينيني والتنظيم الماركسي، نمط الإنتاج الآسيوي أو أنماط الإنتاج في الشرق، بالإضافة إلى تحرر المرأة وطبيعة الأسرة البطريركية إلخ ..إلخ.
لم تخل الأعوام التي امتدت منذ آذار/مارس عام 1977 حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2005 من وجود معتقلين لرابطة-حزب العمل الشيوعي في السجن، فالقمع كان سبباً جوهرياً لشل فاعلية التنظيم، ولعل حملة اعتقالات شباط/آذار فبراير/مارس 1992 التي اعتقل فيها القياديان الطبيبان: عبد العزيز الخير وبهجت شعبو وآخرين، قد شلت التنظيم، إلى أن تم إحياؤه من جديد على يد مجموعة ممن خرجوا من السجن أو عادوا من المنافي. ويفتقر التنظيم بطبيعة الحال إلى الروح الشابة النشطة التي لعبت دوراً مشهوداً في الحياة السياسية في الفترة بين 1976 و1992، وعلى نحو خاص في فترة الثمانينيات.
يطول الحديث عن علاقة الرابطة بباقي الأحزاب القومية اليسارية مثل حزب العمال الثوري وحزب البعث الديمقراطي “23 شباط” وتيار جمال الأتاسي، والاشتراكيين العرب (التيار المعارض الذي قاده عبد الغني عياش)، والتي لم تسفر عن اتفاقات قيّمة طوال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد. ولذا سيقتصر تناول المقال لعلاقة الرابطة بالشيوعيين السوريين الآخرين.
في بداية تشكل الرابطة اتخذ الحزبان الشيوعان السوريان (بكداش والترك) موقفاً سلبياً من التنظيم الجديد الذي كرس إلغاء منصب الأمين العام، وكان لكل من الحزبين أسبابه. فبكداش متحالف مع النظام تحالفاً يباركه الرفاق السوفييت، ويرى في من يعارض النظام خادماً للإمبريالية العالمية، ومن جهة أخرى كانت النسخة البكداشية من الحزب تعاني حالاً من الترهل النضالي، لا يقبل بموجبه الروح الكفاحية العالية لشيوعيين آخرين إلا بصفتها مرضاً يسارياً طفولياً يخدم العدو الإمبريالي في المحصلة. أما العلاقة بين الرابطة والمكتب السياسي (الاسم الذي يميز جماعة رياض الترك) فكانت تناحراً وتنافساً، وأعتقد أن التنظيمين ادعيا الشرعية الثورية. ومع ذلك رفض الترك عرضاً للرابطة بالاندماج مع حزبه شريطة أن يقدم الحزب لأعضائه منبراً داخلياً يمكنّهم من طرح وجهات نظرهم السياسية والتنظيمية.
و نشأ التنظيمان بطريقتين مختلفتين فالمكتب السياسي (حزب الشعب لاحقاً) تربى سياسياً وتنظيمياً في المدرسة الشيوعية الرسمية، وخرج عليها حاملاً بعض سماتها، في حين كان من بين أسباب نشوء الرابطة- (حزب العمل لاحقاً) التصدي للبيروقراطية وعبادة الفرد والانغلاق الأيديولوجي الحاد، وهي من الأمور التي أدت إلى فشل الحركة الشيوعية الرسمية من وجهة نظر الرابطة. جرى حوار مع تيار مراد يوسف الذي انشق عن بكداش، وحمل اسم منظمات القاعدة، ومع تيار حنين نمر الذي غادر المكتب السياسي (الترك) ومع تيار بدر الدين السباعي الذي يسعى لوحدة الحزب الشيوعي السوري المبدئية، ومع كل التيارات التي انشقت عن الحزب الشيوعي لاحقاً، إلا أنها لم تسفر عن أية اتفاقات لها قيمة في الحقل السياسي، وكان أغلب الذين حاورتهم الرابطة يرون “أنها تحمل السلم بالعرض” وأنها أكثر راديكالية مما يحتمل الواقع.
في ثمانينيات القرن الماضي، وبعد تطور الصراع بين النظام والحركة الدينية (الطليعة المقاتلة والأخوان المسلمون)، كان الخلاف قد أخذ بعداً سياسياً أعمق بين الرابطة والمكتب السياسي، ففي حين رأى المكتب فيما يجري “حركة شعبية”، رأت الرابطة أن الأخوان “جزء من حلف رجعي أسود يحارب دكتاتورية عسكرية تمثل البرجوازية بيروقراطية”، ورأت أن الشعب السوري أضحى بين مطرقة النظام وسندان الأخوان، داعيةً إلى تكوين قطب شعبي ثالث، بعيداً عن الدكتاتورية العسكرية ممثلة بالنظام والحركة الفاشية ممثلة بالأخوان. رغم هذا، فإن نقطة تقاطع مهمة بقيت بين شعارات الحزبين، ففي حين كان يدعو المكتب لـ”التغيير الديمقراطي” كانت الرابطة تدعو إلى “دحر الدكتاتورية والظفر بالحريات السياسية” إلا أن الخلاف حول الصراع الذي يجري على الأرض، كان أقوى من الاتفاق النظري هنا أو هناك.
وتميز أعضاء الرابطة بروح كفاحية عالية، وخاض أغلبهم تجربة سجن مريرة أو تجربة تخفي مديدة، وتوفي بعضهم تحت التعذيب، ويعد محمد عبود الذي توفي في أواخر عام 1980 أول شهداء رابطة العمل الشيوعي، كما تميزت الرابطة بمشاركة ملحوظة من مناضلات سوريات، خضن تجربة الاعتقال المديد بدورهن. وتمتع التنظيم منذ تشكله بروح تطهرية، إذ تقرر عدم قبول أية مساعدات مادية من أي جهة، حتى من اليسار الفلسطيني، لكي لا يخضع لأحد، وكانت قيادة الرابطة تفتقر إلى عمق التجربة السياسية، حيث كانت تحل في أوقات كثيرة المطالب الاستراتيجية محل الخطوات التكتيكية. وأرى أن هناك وجه حق في وصف أغلب أعضاء الرابطة بأنهم حالمون وفرسان وشعراء أكثر مما هم سياسيون، فقد كان التنظيم عموماً أبعد القوى السياسية عن البراغماتية.
واستطاع التنظيم أن ينتشر في كل المحافظات السورية وفي أغلب البلدات والمدن، ولكن القمع الشديد والمديد شل فعاليته، كما شل فعالية باقي القوى والتنظيمات اليسارية وغيرها.
وكان يمكن للرابطة أن تطور الرؤية اليسارية المختلفة عن الرؤية اليسارية الرسمية، فقد اجتهد أعضاؤها وطرحوا أسئلة خارجة على الترسيمة السوفييتية، وعاشت الرابطة وضعاً تنظيمياً مختلفاً عن الحال الذي عرفته أحزاب اليسار، بإحلال القيادة الجماعية محل الأمين العام والقبول بتيارات مختلفة ومتباينة داخل التنظيم، على أن يضبط الفعل السياسي بالخضوع للأغلبية من جهة، وعلى أن يتاح لتيارات الأقلية وأهمها التيار التروتسكي، منبراً داخليا (جريدة داخلية) تعبر فيها عن رأيها، وتسعى لاستقطاب أعضاء الحزب والتحول إلى أكثرية إن استطاعت.
أما الآن، فيبدو أن الناشطين في الحقل السياسي من الشخصيات التي لعبت دوراً في تأسيس الرابطة، أصبحوا يمثلون تيارات وتوجهات متناقضة فكرياً وسياسياً: فالبعض غادر الماركسية إلى غير رجعة، لاجئاً إلى الفكر الليبرالي، في حين يرى آخرون أن الماركسية لم تنهر بانهيار جدار برلين بل البيروقراطيات الاشتراكية هي التي انهارت. وفي السياسة يصبح التمايز أشد وأقسى ، حيث تتناقض المواقف من مسائل عديدة : الموقف من التدخل الغربي في سورية، الموقف من الحوار مع النظام، الموقف من الحوار مع فصائل المعارضة الفاعلة وخصوصاً المسلحة منها. والحقيقة هي أن الذين حاوروا النظام أو اقتربوا من المعارضة المسلحة أو طالبوا بالتدخل الغربي (الأميركي خصوصاً) لا يمثلون ولا يدعون تمثيل حزب العمل الشيوعي، حيث أسس بعضهم أو انضم إلى منظمات جديدة مثل فاتح جاموس الذي تم فصله من الحزب وأسس (أو انضم إلى) طريق التغيير السلمي. وآخرون ممن يخالفون الحزب -الذي لا يزال له كيان رسمي في موقفه الرافض للتدخل الخارجي ولتسلح الثورة وتطييف الصراع- ويمكن معرفة مواقف حزب العمل الشيوعي (الرابطة سابقاً) من افتتاحيات النشرة التي يصدرها تحت عنوان “الآن” عبر صفحة الحزب على ” فيسبوك “.
تركت الرابطة ومن ثم حزب العمل الشيوعي بصمة مهمة في سياق الصراع السياسي في سورية، فهي مثال على تجمع ضم مناضلين من مختلف الطوائف والأقوام في سورية ممن توافقوا على رؤية سياسية، وفي الوقت الراهن يعد عبد العزيز الخير من أبرز معتقلي الحزب، وكان قبل اعتقاله من أبرز ناشطيه.
أرى حالياً أن حزب العمل، شأنه شأن كل القوى السورية التي تمثل العقلانية والحداثة والديمقراطية في سورية، غير قادر على لعب دور فاعل في المدى المنظور، ولا أعتقد أن هذه القوى مجتمعة، قادرة على لعب دور سياسي فاعل في ظل القمع والعنف والتطييف وتدويل الصراع الذي تشهده سورية، مع أن خلاص سورية مرتبط برأيي بالعقلانية والحداثة والديمقراطية التي تفضي إلى دولة القانون المدنية، والتي تحتاج إلى إعادة تفعيل تلك القوى.