هل أصبحت فصائل “الحر” مرتزقة بيد تركيا؟

هل أصبحت فصائل “الحر” مرتزقة بيد تركيا؟

منذ بداية الحراك السوري في ربيع 2011 كانت مطالب الشعب واضحة وراسخة في الأذهان، هذا التحرك العفوي حمل معه من العشوائيّة (التي لا بدّ منها) الكثير على أنّ أسوأ أشكال هذه العشوائيّة تمثلت في رفع السلاح الذي كان بريئاً في مكان ما وخبيثاً في أماكنَ أخرى، فممّا لا شكّ فيه أن مجموعة من الدول التي عدّت نفسها داعمة للحراك الثوري ساهمت في دعم وتشكيل ما يُسمّى بالجيش الحر كالسعودية وقطر اللتين تعيشان حالة ملكية سلطوية مطلقة وتركيا التي تطمع ببعض الأراضي السوريّة، والولايات المتحدة الأمريكية المهووسة بابتلاع العالم والحفاظ على المصالح الإسرائيليّة، في هذا الجو من التكالب وتحت ضغط القبضة الأمنية التي كانت الشرارة الأولى لهذا الانفلات الذي حصل تمّ تكوين كيان عسكري مشوّه، لا قدرة له على مواكبة مطالب الشعب، بل كل ما يستطيعه هو السعي لتنفيذ طلبات الداعم الذي يوجهه بسبابته، وقد تجسّد هذا بوضوح شديد بعد بداية عمليّة غصن الزيتون في عفرين، حيث أنّ الجيش الحر قام بالحشد شمالاً لاقتحام مدينة سوريّة لم تبادره الهجوم لا لشيءٍ إلّا تحقيقاً لمصالح داعميه غير السوريين، فبغضّ النظر عن التجاوزات التي قامت بها قوات حماية الشعب الكردي وارتهانها الواضح للمشروع الأمريكي الذي يسعى لتمزيق الكيان السوري، إلّا أنّ التوقيت كان غريباً ولا يمتّ للمصلحة السوريّة بصلة، فقد تزامن هجوم هذه الفصائل على عفرين مع اقتحام قوات النظام لجنوب إدلب وضغطها عسكريّاً على مناطق سيطرة المعارضة، وهنا يتبادر لنا السؤال التالي:

لماذا ينشغل هؤلاء بفتح جبهة جديدة بينما جبهتهم مشتعلة وممزقة لا بل ومهزومة؟

الإجابة بسيطة جدّاً: لأنّهم أساساً موجودون بمعيّة داعمهم لتنفيذ أوامره التي تفضي لتحقيق غاياته ومآربه على الأرض السوريّة، وهذا ما يفسّر توقفهم عن القتال حين يكون النصر حليفهم بشكل مفاجئ، وفتحهم لجبهات غريبة في أوقات عصيبة، هذا كلّه يتضح حينما نقوم بمراقبة ظروف الداعم ومواقفه السياسيّة، كما أنّ المشكلة الكبرى في هذه التشكيلات العسكريّة أنّها غير مندمجة عضويّاً بالنسيج السوري، فالنسيج السوري بالرغم من توجهه الديني المحافظ إلّا أنّه معتدل وهذه الفصائل بمعظمها تميل للفكر السلفي التكفيري الجهادي فمع استبعادنا لجبهة فتح الشام (جفش) أو فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام لتكون الصورة أوضح والتي لا تخفي فصائل الجيش الحر تحالفها معها وارتباطها العضوي معها إلّا أنّ باقي الفصائل هي وجه آخر لها بأسماء أخرى كجيش الإسلام وفيلق الرحمن وأحرار الشام وأنصار الإسلام ولواء التوحيد وغيرهم ممن لا يتبنّون فكرة الدولة المدنية الديموقراطية بل يحلمون بإقامة حكم إسلامي تتحكم فيه الأحكام الشرعية وترسمه حدود التفسير الضيّق للدين، والمشكلة الأشد خطورة التي تحكم هذه الفصائل عدم امتلاكها للمرجعيّة ففي معظم الثورات التي نجحت ثمّة بنيان سياسي يوجّه الأوامر لعناصر مقاتلة تحقق غايات وطنية، أمّا في حالة الجيش الحر فلا يوجد توجه ولا مرجعيّة ولا يوجد جيش بمعنى الجيش أساساً فهم فصائل يربو عددها على ال150 فصيل تحارب الجيش السوري وتحارب بعضها، هذه الفصائل في عز هجوم النظام العنيف عليها كانت تقوم بمعارك تصل إلى مستوى حمام الدم فيما بينها فمن ينسى معارك جند الأقصى مع أحرار الشام يوم كان الجيش السوري يدخل حلب، ثم معارك هيئة تحرير الشام مع أحرار الشام إبّان تحرك النظام باتجاه إدلب، ومعارك فيلق الرحمن مع جيش الإسلام بالرغم من التقدم الواضح لقوات النظام على جبهات الغوطة، هذا بغض النظر عن بعض التصرفات التي وصلت إلى أن تقوم كتيبة عائلة ما بالهجوم على كتيبة عائلة أخرى لإحياء ثأر قديم، فتعالوا نتخيل معاً سقوط النظام الذي كان إلى حدّ ما يوحد توجه السلاح، ماذا سيحصل في سوريا وهل سيعرف العالم من يتقاتل مع من ولماذا؟

وهل ستسمح هذه الفصائل بإقامة أي شكل من أشكال الدولة بينما يحكم كل فصيل منطقته التي يمنع الفصائل الأخرى من دخولها؟

والمشكلة الأكبر أنّ الجيش الحر لم يقم بإجماع آراء السوريين إلّا أنّه بعد فرضه لوجوده بدأ يعمل على إقصاء وتخوين وإيذاء كل من يرفض وجوده وكأن مسألة القتال واحدة من الثوابت الوطنية التي لا يمكن النقاش فيها.

وبالعودة على بدء حين نتحدث عما يحدث في عملية غصن الزيتون، نجد أنّ الجيش الحر تحول لقوات مرتزقة تقاتل بالوكالة المعلنة عن دولة تريد احتلال أرض سوريّة، وهذه الدولة ذاتها (تركيا) تقوم بتحالف معلن مع الروس الذين يشبعون الجيش الحر قصفاً في الغوطة والإيرانيين الذين يقتحمون مناطقه، وكأنّ أحدهم يقول لك: قاتل معي هنا من لا مصلحة لك في قتالهم وأنا سأصافح قاتليك هناك، ولا تناقش ولا تسأل لماذا ولو سألك أحدهم اتهمه بخيانة الثوابت الثورية وتخلص منه، وهنا يسأل السائلون حين نسمي هذه الفصائل العشوائيّة التي لا مرجعيّة لها جيشاً حرّاً، أين وجه الحريّة عندها؟

هل لديها الحرية في اتخاذ قرارها؟
هل تدعو للحريّة والعدالة أم المزيد من تقييد الحريّات؟
هل لديها تمويل ذاتي؟
هل هي قادرة على فرض مشروعها؟
هل لديها مشروع واحد؟

دعونا نتنازل أكثر؟ هل لديها داعم واحد نفهم وجهة نظره لنفهم وجهة نظر تحركاتها أم أنّها ببساطة مليشيات من هنا و هناك تسعى خلف داعمين من هنا و هنا و هناك، والسؤال الذي يراود أيّ سوري أنّ أي فصيل من هذه الفصائل حين يتولّى قيادته رجل غير سوري (بغض النظر عن الداعمين) هل يبقى فصيلاً سوريّاً أم أنّه يتحول لما هو غير ذلك؟

وحين تقوم هذه الفصائل باستهداف المدنيين في المناطق التي لا تسيطر عليها كاستهداف دمشق بالصواريخ والقذائف فهل يبقى على سكان دمشق حجة لو صبوا دعمهم لكلّ قوة تخلصهم من نار القذائف والموت المجّاني وحين يتم استهداف المناطق على اعتبارات طائفيّة ويكون مقاتلو هذه الفصائل من لون واحد هل يبقى على أبناء الطوائف الأخرى عتب فيما لو انفضّوا عن هذه التشكيلات ودعموا كل ما يمكن له إيقافها وإبعادها عنهم، وهنا أستطيع أن أقول إنّ الجيش الحر لم يخسر عسكريّا فقط حربه في سوريا، بل خسر أخلاقيّا مما أدّى لخوف الشعب السوري من إعادة إنتاج أي حراك قد يحسن حال البلاد خوفاً من إنتاج هذا الحراك لمكونات غير حرّة (كالجيش الحر) مثلاً.

الجيش السوري الحر لم يكن موجوداً أبداً

الجيش السوري الحر لم يكن موجوداً أبداً

بالمعنى التقني للعبارة، لم يكن “الجيش السوري الحر” موجوداً يوماً، أي منذ التفكير بتجميع الضباط والعسكريين المنشقين عن “الجيش العربي السوري” التابع للنظام السوري الحاكم في دمشق بداية من صيف 2011.

وبالمعنى السياسي للعبارة، الجيوش تتبع عادة لقيادة عسكرية مرهوبة، وتنفذ هذه القيادة أهدافاً محددة تصدر عن مستوى سياسي، وإلا كانت مجرد ميليشيا، أو ميليشيات. وبهذا المعنى، أيضاً، لا وجود لـ”الجيش السوري الحر”.

والحال أن الفصائل المحسوبة على “الجيش السوري الحر” تأتمر بأوامر الممولين الإقليميين والدوليين، ابتداء من اختيار أسماء هذه الميليشيات من أسماء السلف الصالح، أو الخلف الطالح، أو باتخاذ شعارات إسلامية لكل كتيبة، أو لواء، أو فرقة، وحتى فيلق، أو جيش، وصولاً إلى تنفيذ أجندات دول إقليمية، ومخابرات دول، لا علاقة لها بالسوريين، أو بالثورة التي فجرها جزء كبير من السوريين وصلت تقديرات نسبتهم عام 2011 حتى 21 في المئة. وهؤلاء هم من شاركوا على الأرض فعلياً في إطلاق صيحة “الشعب يريد إسقاط النظام”، في مقابل نسب متفاوتة ومكملة أيدت استقرار الاستبداد، أو فئة صمتت وقتها، أو لا تزال صامتة.

وتفسير موقف هذه التشكيلات العسكرية غير الفاعلة في تحقيق هدف الثورة لا يأتي من التشكيك في نوايا قادة هذه التشكيلات العسكرية، أو عناصرها، في محاولة لنفي فكرة “الارتزاق” المطلق، بل في البحث عن التفسير في إحدى النقاط التالية، أو فيها جميعاً:

أولاً، كانت فكرة تجميع هؤلاء المنشقين، وتوحيدهم، ودعمهم، وتسليحهم، مرفوضة من أقرب الدول جغرافياً إلى سوريا، أي تركيا والأردن. وبالتالي كانت هذه الكتائب، بقادتها وعناصرها، مضطرة للعمل فرادى، وفي ظنها أن ذلك سيمكنها من إسقاط النظام.

ثانياً، وبناء على ما سبق، لا أحد يستطيع التأكيد على وجود قيادة لهذا الجيش، أو هيئة أركان بالمعنى الدقيق للكلمة، حتى لو كانت موجودة شكلياً في أكثر من محطة خلال السنوات الماضية، خاصة بعد شهور من بروز المقدم حسين هرموش، الذي شكل بشخصيته، وريادته لموجة الانشقاق عن الجيش النظامي، ظاهرة جاذبة بالنسبة لعموم السوريين، دون أن يكون كذلك بالنسبة لزملائه العسكريين، خاصة الأعلى رتبة. لاحقاً، استطاعت مخابرات النظام السوري خطف المقدم هرموش، وفي غالب الظن أن النظام أعدمه بعد فترة قصيرة من اعتقاله.

ثالثاً، أفراد هذا “الجيش” من عناصر وضباط كانوا من المهمشين في قيادات “الجيش العربي السوري”، ومن المبالغة القول إنهم كانوا يمتلكون خبرات قتالية حقيقية، كون ذلك الجيش لم يخض معركة منذ أربعين سنة، والمناورات والتدريبات التي يجريها هذا الجيش كانت من الفقر والتخلف بحيث يذكرها ربما كل من أدى الخدمة الإلزامية في سوريا.

والنقطة الأهم من بين الثلاث هي الأولى، أي رفض قيام جيش معارض موحد باسم “الجيش السوري الحر”، من الضباط والعسكريين الذين رفضوا قتل المتظاهرين، وانحازوا إلى الثورة. بالطبع، وبعد كل تلك السنوات، اتضح أن هذا الرفض مدروس، خاصة لأن الأموال تدفقت على كتائب ذات منهج إسلاموي، وسلفي تحديداً، بما في ذلك “الدولة الإسلامية، داعش”، و”جبهة النصرة لأهل الشام” بأسمائها المختلفة، إضافة إلى “جيش الإسلام”، و”حركة أحرار الشام”، و”فيلق الرحمن”، وغيرها من الكتائب التي وصل عددها في عام 2014 إلى أكثر من ألف تشكيل عسكري تم تمويلها من دول كبرى، ودول الإقليم العربية. وحتى بعد أن انخفض هذا العدد إلى أكثر من مئة تشكيل بقليل، بالاندماج مع كتائب أخرى، أو حل تشكيلات أخرى نتيجة انقطاع التمويل، لا يزال عدد هذه الميليشيات ضخماً، ومنها من كان يدخل تحت اسم “الجيش السوري الحر” لفترة، ثم يخرج بإعلان براءته من هذا الجيش عندما يجد تمويلاً مستقلاً، ومنها من عاد بعض عناصره إلى “الجيش العربي السوري” للقتال معه مرة أخرى بعد العفو عنهم ومنحهم “رخصة” للارتزاق والتشبيح والتعفيش. وهنالك عناصر من داعش نفسه عادوا إلى صفوف جيش النظام بعد صفقة عرسال بين داعش و”حزب الله”.

استدراكاً، في نهايات 2011، وضعت تركيا الضباط والعسكريين المنشقين في مخيمات جنوب تركيا، فارضة عليهم إقامة شبه جبرية، ومن أحد تلك المخيمات تم اختطاف الهرموش ووضعه في السجن، ومن ثم قتله (بعد سنوات من اعتقاله تم تسريب صور لجثة تشبه المقدم حسين هرموش وعليها آثار تعذيب).

معنى ذلك كله، أن فكرة وجود “الجيش السوري الحر” كانت رغبة فقط لدى جمهور المعارضة، لكنها لم تتحول إلى حقيقة، مثلما كانت رغبة هذا الجمهور وجود معارضة مسلحة متفوقة أخلاقياً بالمطلق على ممارسات النظام. صحيح أن المعارضة متفوقة نسبياً في هذا الجانب على النظام الذي مثل في كل مراحل حكمه منذ 1970 معادلاً للشر المطلق في حكمه السياسي، وممارساته المخابراتية، لكن بعض الممارسات “الفردية” لطخت صفحة “الجيش الحر”، أو صفحة فصائل محسوبة عليه، بطريقة تدعم فكرة أن هذا الجيش لم يكن يوماً مؤسسة تكافئ وتحاسب وتقاضي المخالف، وإلا ما معنى تصرف “أبو صقار”، وما معنى تحطيم تمثال “أبو العلاء المعري”، ثم تحطيم تمثال “كاوا الحداد” قبل أيام في عفرين، ولماذا لم يُحاسب أي من هؤلاء؟

بالعودة إلى سؤال “صالون سوريا” عن مشاركة فصائل من “الجيش الوطني السوري الحر” في عملية “غصن الزيتون” التركية على عفرين، نجد أولاً تسمية جديدة أضافت وصف “الوطني” على هذه الفصائل، ربما لمحو آثار الممارسات السابقة لفصائل من “الجيش السوري الحر”، من انتهاكات في حق المدنيين، واقتتال فصائل منه في ما بينها، أو لتمييز التشكيل الجديد عن ذلك “الجيش”، لكن الأرجح أن هذه التسمية جاءت من داخل تركيا. وهذا الجيش تم دعوة فصائل محددة لتشكيله من قبل رئاسة الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة. والفصائل المدعوة هي (الجبهة الشامية – حركة أحرار الشام – فيلق المجد – لواء أنصار السنة – فيلق الشام – كتلة النصر التابعة للجيش الحر (؟) – حركة نور الدين الزنكي – الفرقة الوسطى – لواء شهداء الإسلام – جيش أسود الشرقية – قوات الشهيد أحمد العبدو – لواء السلطان مراد – جيش إدلب الحر – لواء المعتصم). لكن الفصائل التي لبت الدعوة، أو شاركت الجيش التركي في عملية “غصن الزيتون”، حتى لو لم تكن مدعوة للاندماج في هذا الجيش، هي (لواء السلطان مراد – فرقة الحمزة – فيلق الشام – حركة نورالدين الزنكي – حركة أحرار الشام – لواء صقور الجبل – الجبهة الشامية – جيش النصر). ومشاركة هذه الفصائل في العملية ظلت باسم كل فصيل، وإن كانت كل الفصائل تنفذ التكتيك الذي وضعه لها الأتراك بالمشاركة مع الجيش التركي.

إذاً، لا وجود عملياً لشيء موحد اسمه “الجيش السوري الحر”، أو “الجيش الوطني السوري الحر”، فالفصائل المذكورة شاركت في “غصن الزيتون” باسمها الحركي، وليس تحت لواء سوري موحد، بل تحت قيادة غرفة عمليات تركية.

وحتى لا ننجر إلى تسمية هذه الفصائل بـ”المرتزقة”، حسب الوصف الذي استعمله أكراد سوريون على مواقع التواصل الاجتماعي، نُذكِّر أن أمريكا قطعت كل أشكال الدعم عن الفصائل المحسوبة على “الجيش الحر” منذ نهاية العام الماضي، وبالتالي أصبح مصدر دعم هذه الفصائل تركياً فقط، وربما تركياً قطرياً. أما المرجعية الفكرية لمعظم عناصر هذه الكتائب فهي إسلامية، أو إسلاموية، في محاولة لتمييزها عن السلفية التي ينتمي إليها تنظيما داعش والنصرة.

ويمكن أن نعيد سبب انضمام هذه الفصائل إلى الجيش التركي في عملية “غصن الزيتون” إلى فكرة الانتقام بدلاً من فكرة الارتزاق، كون هذه الفصائل سبق وهزمت على يد “وحدات حماية الشعب” الكردية التابعة لـ”حزب الاتحاد الديموقراطي” الكردي، أو “حزب العمال الكردستاني”، وعلى يد جيش النظام ، وأمام “جبهة النصرة”، وأمام “داعش”، فوجدت في الدعم التركي فرصة متأخرة لإعادة الهيبة لوجودها، دون أدنى محاكمة لفكرة أنها ستقاتل تحت الراية التركية في أرض سورية.

من الجانب الآخر، ظهر تجييش كردي لمشاعر عنصرية تجاه العرب من خلال الانتقاد لهذا “الجيش الحر”، ليس له أي مبرر منطقي سوى في فكرة التضامن مع المدنيين، وهذا واجب إنساني يشاركهم فيه كثير من السوريين، مع التذكير بفقدان ما يماثل هذا الإجماع الكردي في حالات كانت تتعرض فيها مدن عربية لهجمات الأكراد الذين قاتلوا عملياً تحت الراية الأمريكية، وفي مناطق ليس لأي كردي ادعاءات “قومية” فيها، مثل الرقة التي تم تدمير الجزء الأعظم منها بالطائرات الأمريكية التي كانت تتزود بالإحداثيات من خلال عناصر ميليشيا “قوات سوريا الديموقراطية”، وقادتها الأكراد.

صحيح أن المدنيين في عفرين، من كرد وعرب، تضرروا كثيراً، لكن عدد المدنيين في الرقة الذين قتلتهم مخلفات داعش من الألغام يفوق عدد المدنيين الذين قتلوا في معارك منطقة عفرين كلها. وهذا الموت المجاني سببه إهمال القوات الكردية المختبئة تحت عباءة “قوات سوريا الديموقراطية” لملف الألغام، بل تواطؤ “قسد” ضد المدنيين، وارتزاق عناصرها بتفكيك الألغام لمن يطلب، وبثمن لا يقل عن مئة دولار (حوالي 50 ألف ليرة سورية). ثم إن هنالك إشاعة (؟) تتحدث عن ألغام لا علاقة لداعش بها، في تلميح إلى تحالف لصوص مع عناصر فاسدة من قوة الأمر الواقع وضعت الألغام كفزاعات كي تبعد المدنيين، أو لتؤخر عودتهم إلى بيوتهم حتى تمتلك الوقت الكافي لتعفيش ممتلكاتهم.

وهنا لا ننسى التذكير بصفقة “قسد” لإخراج أكثر من أربعة آلاف داعشي من الرقة آمنين بعد تدمير المدينة، مع ما تثيره هذه الواقعة من تساؤلات خطيرة عن التحالف الأمريكي مع الأكراد. وهذه يمكن ربطها بفكرة الانتقام المحركة لمشاعر المهزومين من الفصائل المشاركة في السيطرة على عفرين.

وفي عفرين، نسجل نقطة إيجابية في حق ميليشيا “وحدات حماية الشعب”، وإن أتت متأخرة قليلاً، بخروجها المبكر من مدينة عفرين، وعدم خوض حرب خاسرة كانت ستدمر المدينة لو خاضتها، كون تركيا كانت عازمة على تحقيق هدف إخراج آخر عنصر من تلك الوحدات بعد اتفاقها مع روسيا، وتفهم أمريكا لذلك، ورضوخ النظام الأسدي للأمر الواقع مكتفياً ببيانات إعلامية.

والواقع يقول أن لا فرق جوهرياً بين الفصائل المعارضة التي شاركت تركيا في عملية “غصن الزيتون”، وبين الوحدات الكردية التي حاربت تحت الراية الأمريكية، حتى من حيث ارتكاب الطرفين انتهاكات في حق المدنيين، ومن بينهم الأكراد أنفسهم على يد “وحدات حماية الشعب”. ففي جولات سابقة، تبادلت الفصائل المعارضة و”الوحدات” لعب دور الجلاد للمدنيين، بالقتل، والإهانات، والسرقة، والتهجير، والتمييز العنصري، في رأس العين، وفي تل أبيض، وفي منبج، وتل رفعت، والرقة. وكلما دانت السيطرة لطرف مارس النزعة الانتقامية ضد الآخر. وبالأمس، دانت السيطرة على عفرين لما يسمى “الجيش الوطني السوري الحر” فمارس بعض عناصره انتهاكات في حق كرامات المدنيين وحياتهم وأموالهم، انتقاماً لجولات سابقة مارس فيها أكراد انتهاكات مشابهة.

أما عن السؤال: إلى أي درجة ترى أن “الجيش الحر” لا يعكس مركّباً وطنياً؟ فالإجابة عليه تفترض أن تعبير “مركباً وطنياً” ذو مضمون إيجابي. والواقع يقول، أو دعنا نقل من واقع خبرتي بالتعامل مع شرائح من السوريين في تركيا ولبنان والسعودية في السنوات السبع الماضية، لا دليل على أننا في سوريا كنا نشكل مجتمعاً واحداً، أو حتى مجتمعات، وبالتالي لا مضمون لتعبير “وطني” بالمعنى العميق للكلمة. فجيش النظام نفسه، وهو المفترض أنه يمثل “الجيش الوطني” بادر إلى قتل المتظاهرين المدنيين مع أول صرخة مطلبية لم تصل في منتصف آذار 2011 إلى درجة “الشعب يريد إسقاط النظام”.

ووصف “وطني” فضفاض أيضاً حتى في ما يتعلق بنا كأفراد سوريين، إلا إذا اقتصر المعنى على حبنا لبلادنا. ففي النتيجة، نحن السوريين أفراد فقط، بفعل غياب القانون، وابتلاع الحزب الحاكم لفكرة الدستور، ولهيبة القانون، وبفعل استقرار الفساد كممارسة منهجية عممها حكم الأسدين الأب والابن على المجتمعات السورية والأفراد السوريين.

وإذا كان هذا حال “الجيش العقائدي والوطني”، فحال “الجيش الحر” من ذاك. فلا جيش النظام مثَّل حالة وطنية، ولا “الجيش الحر”، في حال وجوده، كان في إمكانه تمثيل حالة وطنية.

وهذه الحالة كانت منظورة مبكراً في عامي 2012 و2013، حين سيطرت الفصائل المسلحة المعارضة على أكثر من 70 في المئة من مساحة سوريا، ونشأ سجال وقتها بين فصائل معارضة كبيرة وبين أعضاء في الائتلاف، حين كان الائتلاف يمتلك نوعاً من الإجماع على أنه يمثل الثورة السورية. دار السجال وقتها حول مسألة الديمقراطية في حكم “سوريا الجديدة”. ويذكر بعضنا “السفاهة” التي تكلم بها بعض قادة هذه الفصائل من مثل “ديموقراطيتكم تحت قدمي”، أو بما معناه “الديمقراطية شرك”،… إلخ. وكانت حال هؤلاء تقول “نحن من قاتل، ومن استُشهد، ونريد حكماً على نهج النبوة.”

“الجيش الحر” و “غصن الزيتون”

“الجيش الحر” و “غصن الزيتون”

طاولة مستديرة من إعداد هيئة التحرير في صالون سوريا

شكّل الهجوم التركي على عفرين ومشاركة بعض الفصائل الإسلامية والجيش الحربعملية غصن الزيتونثم قرار المشاركة المفاجئة في مؤتمر سوتشي، صدمةً جديدة لسوريين ومعارضين عقدوا أملاً في مرحلة من المراحل على الجيش الحروعلى إمكانية استقلاليته.

برأيك/ي:

هل حدثت خلافات أو مناقشات داخل الجيش الحروالفصائل المعنية، لتحديد مدى الاستقلالية عن المصالح التركية؟ وهل سُجلت أي معارضة لتنفيذ الأوامر التركية؟

هل توجد مسافة على الصعيد الإيديولوجي بين الجيش الحروالفصائل الإسلامية؟

برأيك/ي خلال السنوات الست الماضية متى كان الجيش الحر” “جيشاًأو حراً؟  بمعنىً آخر هل يشكل الجيش الحرمعارضة تمتلك خطاباً واضحاً واستقلالية معينة؟ وهل كان ممثلاً للسوريين أم أنه محكوم بقرار داعميه؟ وهل يمتلك رؤية سياسية لبناء دولة مدنية ديمقراطية؟

في ضوء هذا الحدث ذي الدلالة المهمة، في أي سياق يمكن وضع الجيش الحر؟ وهل هو  مخلص لتسميته؟  وإلى أي درجة ترى أن الجيش الحرلا يعكس مركّباً وطنياً؟

يدعو صالون سوريا الكتاب والمثقفين والمعنيين بالشأن السوري إلى مناقشة هذا الموضوع من منظور محايد ومستقل، قائم على تحليل نقدي وقراءة للواقع.

الجيش السوري الحر لم يكن موجوداً أبداً
علي العائد

-هل أصبحت فصائل “الحر” مرتزقة بيد تركيا؟
فريد حسن ياغي

عسكرة الثورة السورية والأخطاء القاتلة
أنور بدر

“الجيش الحر” من المظلة الجامعة إلى الفصائلية المائعة
طارق عزيزة

-من قال إن هذه الجيوش حرّة؟
عمر الشيخ شاعر

الأحلام لا تصنع جيشاً حراً
عمّار ديّوب

الجيش الحر والتبعية الإقليمية والدولية
بسام عيسى

الهوية السوريّة الضائعة

الهوية السوريّة الضائعة

سوريا هي تلك البقعة الجغرافيّة التي تقع عند نقطة التقاء قارات العالم الثلاث حيث يلتقي العرب بالكرد والتركمان بالأرمن والسريان بالشركس والآشوريون بالغجر، وحيث يزيد عدد الأديان والطوائف فيها على عددها في كل الاتحاد الأوروبي مجتمعة. لربما يقول قائلٌ إنّ هذا التلوّن، أو كما يقول التعبير الذي أصبح ممجوجاً، (اللوحة الفسيفسائيّة) أجمل ما في سوريا، كاد هذا أن يكون صحيحاً قبل أن تتحول البلاد لساحة صراع مفتوح تنفتح فيها جميع الاحتمالات على جميع الأصعدة ويستغل كل طرف أحد ألوان الطيف ليحقق مآربه على أكتافه، وقبل أن يصبح القتل على الهويّة، وقبل أن تتوه الأكثريّة في لعبة الجذور، وقبل أن يجيب الكردي السوري المغترب إذا سئل من أين أنت قائلاً أنا من كردستان، ثمّ ينتسب الإيزيدي لدينه لا لقوميته ولا لجنسيته حين يقول أنا إيزيدي، هنا يسأل سائل لا يعرف شيئاً عن سوريا:

من هم السوريون… السوريون فقط؟ وما هو لون العلم السوري، ومن يجب أن يجلس على كرسي مجلس الأمن ليتحدث عن سوريا، وما هي اللغة الرسمية في سوريا؟

تخيلوا أنّ هذه الإجابات أصعب من أن تتم الإجابة عليها في جلسة واحدة، فالدولة السورية اليوم هذا بعد وضع كلمة الدولة بين قوسين أصبحت تعيش أزمة هوية حقيقية، فعلى الأرض مثلاً ثمة من يطالب بسوريا علمانية و ثمة من يطالب بها إسلاميّة وثمّة من ذهب إلى أبعد من ذلك ليجعلها ولاية تابعة لدولة إسلامية تمتد حدودها من الصين شرقاً حتّى الأندلس غرباً، وثمّة من يريد أن يجعل منها مملكة شمولية يرثها الابن عن الأب ويورّثها للحفيد.

برج إيفل هو رمز فرنسا أو ما يتبادر للأذهان عند ذكر كلمة فرنسا، فما هو رمز سوريا، حذاء عسكري؟ أم حزام ناسف؟ أين هي العاصمة السورية؟ موسكو؟ طهران؟ إسطنبول؟ أم لعلها الرياض؟ هذه المعضلات التي فتحها الصراع السوري وشكل الهويّة الضائعة والكائن السوري الممزق الذي لم يعد يعرف على أيّ جانبيه يميلُ.

مما لا شكّ فيه أن 75% من شعب سوريا يريد سوريا حرة ديمقراطية تعددية مبنية على أسس حديثة وحضاريّة، ولكن حين أراد هذه العالم كله نهش قطعة من الكتف السوري استغلالاً لمطالب الشعب التي بدأت عفويّة وانتهت بما يسمّى المأساة السورية أصبح من الواضح أنّ الخيارات أصبحت أضيق مما يمكن أن نتخيل فإما الرضوخ لحكم شمولي سلطوي لم يعد كما كان في سنة 2010 بل أصبح أكثر طائفيّة وتبعيّة لمشاريع خارجية لا تمت لواقع البلاد بصلة، وإما اختيار نمط حكم إسلامي تتبع كل حارة فيه لفصيل وكل شارع لجهة ولا يعلم الله ماذا سيحدث بين تلك الفصائل فيما لو انتهى عدوهم المشترك المتمثل بالنظام وبدأ الصراع… يومها حقاً لن يعرف السوري من يقتل من ومن يريد أن يسيطر على من، وبين مشروع غربي يريد تمزيق البلاد إلى فتات بما يتوافق مع مصالحه ومصالح العدو الأكبر لسورية (إسرائيل)، وهنا سنجد أن الهوية السورية ستكون على تفصيل السيناريوهات التالية:

فيما لو انتصر النظام: وهذا ما ترجحه التوقعات فإن هذا لا يعني أن تعيش البلاد كما عاشت منذ عام 1963 على الإطلاق فإن هذا النظام لم يعد لوحده حاكماً للبلاد، هذا يعني أن سوريا بلد واقع تحت احتلال روسيّ إيراني مباشر وعلى الهوية السورية أن تكون خاضعة لمقاس هذا الجسد الجديد، والهويّة الاجتماعيّة أصبحت بين منتصر سيتفنن في تجبّره ومهزوم لا بدّ له من الهتاف من أجل الحصول على بعض الماء كما حدث بعد دخول الجيش السوري إلى الغوطة.

أمّا السيناريو الثاني وهو المشروع الأمريكي والذي يقع في المرتبة الثانية من حيث القوّة ما لم يرجحه قرار مفاجئ لرئيس أمريكي إشكالي وارتجالي في قراراته كدونالد ترامب فإنّه سيجعل الهويّة السوريّة أكثر تشتّتاً تعيش التبعية لعدّة دول وتتفرق لعدة بطاقات متوزعة هنا وهناك فمن مناطق ينطبق عليها الخيار الأوّل لمناطق تهتف (لبطل الأمّة الجديد) كما يروج له رجب طيّب أردوغان، لمناطق تعيش تحت الذراع الأمريكيّة ويتم تغيير أسمائها وفقاً لمشيئة الأكراد الذين يمثلون المشيئة الأمريكية في سوريا كما حدث في (منبج) التي أرادوا إطلاق اسم مابوك عليها.

أما السيناريو الأخير الذي انحسر كثيراً وبدأ يتلاشى فهو قيام سوريا كدولة إسلاميّة تقوم بإقصاء كل أشكال الانتماء الأخرى، وتفرض عليهم الجزية باسم الدين، والطاعة باسم الكتاب والسنّة وهنا تصبح الهوية السورية منصهرة في هوية تاريخية متجذرة في الجغرافيا لا تعطي بالاً لأي انتماء آخر ولا تحترم الألوان المختلفة، حيث تدخل في حرب فصائل مفتوحة كما يحدث في الصومال وأفغانستان، وهذا ما بدا أو ما يبدو أن سوريا نجت منه بشكل جزئي

وهذا كلّه يعني أنّ الحرب نجحت بشكل شبه كامل بتدمير الهوية السورية وتحويلها إلى ركام ضائع بين أقدام الداعمين والمستغلين وأصحاب المشاريع من غير السوريين، فهنا نجد سوريّاً يرفع العلم التركي في عفرين وسوريّاً يرفع أعلام فصائل طائفية في البوكمال وسوريّاً يرفع علم حزب الله اللبناني في بعض مناطق دمشق وجنديّاً روسيّاً يمنع من يعتبر رئيساً للجمهورية العربية السورية من التقدم والمشي بمحاذاة الرئيس بوتين وسوريّاً يرفع علم الولايات المتحدة الأمريكيّة فوق محطة لتوليد الطاقة في المنطقة الشرقية في سوريا، وكل فصيل استقدم معه كل حثالات الأرض من غير السوريين ليقاتلوا معه فمن استقدم الكتائب شيعية الانتماء الطائفي من أفغانستان ولبنان والعراق لتقاتل معه ومن استقدم رجالاً من الطائفة السنية بتوجه سلفي من أفغانستان والشيشان والمغرب وتونس وليبيا ليجعلهم أمراء حاكمين بين الناس، ومن جعل من رجال حزب العمال الكردستاني التركي حاكمين على مقدرات سوريا وبترولها، كل هذا وأكثر منه يعني ألا شكل محتمل لدولة حقيقية يلوح في الأفق السوري ولا شكل محتمل لهوية حقيقية ستجمع السوريين بعد أن تفرق جلّهم بين من يقوم بقهرهم بشكل يومي على اختلاف انتمائه وأجنداته في الداخل السوري، وبين انشغالهم بتأمين حاجات العيش في المهجر التي سلبهم كثيراً من انتمائهم القومي والوطني والاجتماعي.

!قومية زائدة… هوية ناقصة

!قومية زائدة… هوية ناقصة

امـتاز الـمجتمـع السّـوري علـى امــتداد الـقرون الطّـويلة المــــــاضية بأنّـــه جمع في تركـيبته، بين عدد غير قليل من الأقليّات القومية، التي أقامت و تفاعلت مع هذا المجتمع، و حصلت على كل مكتسبات المواطن السوري، و احتفظت أيضاً إلى حدّ بعيد  بمعـظم مُميّــزات شخصيّـتها الـثّـقافيّة، رغــــم محاولات الظّهور بمظهر الثّـقافات المنصهرة و المتفاعلة بشكل كامل و منسجم مع الهويّة العربيّة الغالبة والمسيطرة على المنطقة ككلّ، و التي نحن بصدد الحديث عنها بشكل عام كونها عـاملاً مكوّناً حاضراً وأساسياً في تشكيل الهويّة السّوريّة، مـوضوع حديثنا الـيوم عـلى وجـه الخصوص .

في بداية الأمر، لا بد لنا من المرور بشـكل أوليٍّ وسريع على بعض الاصطلاحات الـمفتاحيّة، والتي سنأتي على ذكرها تكرارا فيما بعـد استذكاراً لها وصيانةً، عن أيّ لـغط أو لَـبس في المعنى قد يذهب بـنا إلى مـفهوم خاطئ، لما في ذلك من أهمّــية قُصوى في تبـيـين الهدف المراد من العبارة.

ولا أظــنّ أنّـنا نخـتلف على أنّ اصطلاح الهويّـة المُـميزة لأُمّــة دون غيرها، ينطوي على عدّة عوامل ومكوّنات مُؤسِّسة لها: كالنّسب، والدّم، والجغرافيا، واللغة، والعرق، والثّـقافة. والــمُراد بالثَّـقـافــة هنا، معنى مُغاير تماماً لما درج عليه استعـمالها. حيث أن الغالـبـيــة يُـطـلقونها اصطــلاحاً للدّلالة عـلى مــستوىً تعلــيميٍّ عالٍ، أو بحثي علميّ. بينمـا نشير إليها بصفتها مجموعة من الأعراف والـتّــقالـيـد، والأنماط السّلوكيّة، والدّلالات اللغويّة، والخبرات التراكميّة المتوارثة لمجموعة بعينها من الــتّجمعات الــبشريّة، تُــفضي إلى رسم مـلامح شخصيّة هذه الجماعة، المُميزة لها. ولا نُغفل هنا، تداخل وتقاطـع مفهوم الثقافة مع مفاهيم أخرى، كالانتماء والمواطنة الذين يمكن أن يكونا أصـيلين في الفرد أو في الأقـليّة، أو يمكن أن يكونا مُـكتسبَــين بحكم إقــامة واستقـرار الـفرد أو الأقـليّة بين الجمــاعة الأصليّـــــة، لتُـشكِّل هـذه الإصطحلات جــميعها – إضـافة إلى ما ذكرناه سابقا – مفهوم الهويّة. مع ملاحظة نقاط التّـقاطع ونقاط الافتراق فيما بينها.

وأعتقد أنّنا لا نفشي سرَّاً، إذا أشرنا إلى أزمة هوية حقيقيّـة تُــعاني منها منظومة الدّول العربيّة. فـبينما لم تنقطع أبداً الأصـوات التي تـتـغـنّى بـفرعونيّة مصر، وأمـازيغيّة بلاد المغرب، وفيـنيقيّة بلاد الشّام، نجد أن دول هذه المنظومة تقبع تحت مفهوم مسيطر يُــزاوج بين الدّين واللغة، كمكونين وحيدين للهويّة، منذ قرون طويلة.

قال د. نصر حامد أبو زيد في كتابه (النص. السلطة. الحقيقة):

لقد تحول التّراث – الذي تم اختزاله في الإسلام – إلى هويّة.

وهذا هو تماماً، مـا أود الـولوج منه إلى موضوعنا، لأعود فأنتهي إليه كـسبب هـامٍّ وأساسيّ في ضبابيّـة هويّة وانتماء شعــوب هذه المنطقة.

دعونا نتّفق أولاً، أنّه لو استقام لنا اعتماد الدّين كعامل وحيد لتحديد هويّـة شعــب ما، لـوجب عـلينا تقسيم العالم إلى عدد من الدول لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بحسب الدّيانات الكبرى في العالم. ولـتوجّب عـلينا رفــع القبّـعة للكيان الصهيــونيّ، لأنّه كان سبّاقــــا في عنصريّته بسعيه لإقامة دولته على أساسٍ ديني!

ولو اخترنا عامل اللغة دون غيره، وجدنا أنفسنا محكومين باعتبار الدّول النّاطقة بالفرنسية في افريقيا: فرنسيّة، والـنّاطقة بالإنكليزيّة في آسيا: بريطانيّة. ولكانت الولايات المتّحدة الأمريكية مستعمرة بريطانيّة بامتياز، لاجتماع العاملين السابقين!

الإشكاليّة إذا، تكمن في ترتيب أولويّات الهويّة، وتراتب الانتماءات في الـوعي الــجمعيّ لـــدى عامّـة شعوب هذه المنطقة من العالم وخاصتها.  

فقد كـرّس الخطـاب الـدينيّ المُــتواتر لــدى هذه الـــمجتمعات رؤية مُـشوشّة غـلّبت العامل الدينيّ على كل العوامل الأخرى التي تساهم في تشكيل هويّتهم، وجعلها تفاصيل ثانويّة، تضمر أو تبرز بحسب حاجة العامل الرئيس وضروراته.

وهكذا أنتجت هذه الثّقافة صورة ناقصة عن الإنتماء، تجعل المسلم السُّنيّ أينما حلّ في العالم أقرب إلى أصحاب مذهبه، من مواطنيهم التاريخيّـين من غير المسلمين، أو حـتى المسلمين الـذين يـخالفونهم في المذهب. ولا أتكلم هـنا عن السُّـنة دون غيرهم، فقد فعلت كـل الفرق الإسلاميّة الكبرى ذلك أيضا. وصار من الطبيعيّ أن نـرى أفواج الشّـباب المسلم مُهاجراً للـجهاد والـموت على أرض غريبة لاهيَ تـعـرفـه، ولا نضاله على أراضيها سيعود بالخير عــلى وطنه ومواطنيه!

وليس ما سُّـمي بالـ (الأفغان العرب) إلا نتاجاً طبيعيّاً لـمثل هذا النمط من الفكر الدينيّ، رغم أن انتماءات هؤلاء المحليّة تعود إلى مجتمعات أحوج ما تكون إلى أبسط قواعد الديموقـراطية وحقوق الإنســان، وبالـتّالي فـإنّ دولـهم أَوْلـى بـنضالهم لـتحقيق الــعدالة الاجتماعيّة المَرجوّة.

وفي المُقام الثّـاني مباشرة، تمّ الـتّركيز على عامل اللغة، بصفتها الدّينيّة الـرّفيعة كلغةٍ للـقرآن الكــريم، والـتي تـكلّم بـها الــــسّلف الصّالح.  قد اكـتست هـذه اللـغة بثـوبٍ مـن الـقداسة والـتـنــزيه

حتى في عـلومها الـوضعيّـة، نظراً لعودة واضعيها للقياس عـلى الـقرآن الكريم باعـتباره المرجع الأول مـن مراجعها، كـما وأنها لغة أهل الجنّة في النّهاية. ولـسنا هنـا بصدد مـناقشة أحقّـيّـة هذه

اللغة وآدابها وجمالياتها، لكننا نتسـاءل عـن كـفايتها مـع عــامل الـدين في الـجّمع بين كلّ هـذه الشّعوب في أمّــة واحدة؟ وعلى الرّغم من أنّ بعض الـقبائل الـعربية قـد وصلت قـبل الإسلام إلى الجزيرة السّورية واستوطنتها، إلا أنّـنا نـجزم أن سـكّان المنطقة الأصليّين كانت لـديهم لغتهم الخاصة، ودَوّنوا تاريخهم وآدابهم بلغتهم، أو لغاتهم التي كانوا ينطقون بها.

وكان من الطّـبيعيّ بعــد ذلك كلّـه، انـتـقال المواطنة والانتمـاء إلى صفوف متأخرة فـي وعـي هـذه الــفئة الـتي تُـشكّل الشّـريحة العُـظمى من مــواطني هــذه الدول. واستـقرتا مـع غـيرهما من عوامل تأسيس الهوية – الدم والنسب والتاريخ – خلف العامِلَيْن الرئيسين في ثقافة عموم هذه الشعوب.

وفي سـوريا عـلى وجه الخصوص، تـبلورت كل أوجـه هــــذه الإشكاليّة الــوطنيّة وعلى كافة مستوياتها، في ظـلِّ واحـدة من أطـول الـحروب الـبشعة التي شهدتها الإنسانية على الإطلاق. فـظهرت واضحـة للعيان، هشاشة فـكرة القومية العربية عندما ارتفعت الأصوات مطالبة بالإنسلاخ عن المجموعة العربية، والاستعاضة عنها بتحالفات إقليمية بعد تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وثبوت ضلـوع بعض الأنـظمة الـعربية مباشرة فيما يدور على الأرض السورية. وفي الجانب الآخر برزت النزعات التقسيمية إما على أساس ديني سلفي، يتمثل في اقتطاع مساحات من الجغرافيا السورية لإقامة دولة على أسـاس ديني، أو على أساس إقليمي قومي، كـما فـعلت بـعض الـــفئات الانفصالية الكــردية. أو بتوظيف مـباشر مــن قـــوى دولـــية وإقليمية، إنما تسعى لتحقيق مكاسب ومصالح استراتيجية لها في المنطقة. وما كان كل ذلك ليحدث، لو لم يسبقه كل هذا الإبهام والالتباس في مسألة الهوية والمواطنة والانتماء. جذر المشكلة إذا موجود وكامن لدى السوريين، وكل ما فعلته هذه الحرب أنها حرضته ودفعته إلى السطح بوضوح.

وما من دليل يشهد بصحة ما أسلفنا، أوضح من اتخاذ المساجد كنقطة لانطلاق هذه الأزمة منذ سنين خلت. مما ألبسها ثوباً دينياً، جهادياً، وصبغها بصبغة طائفية ضمن الدين الواحد، وجعلها بفضل الإعلام الداعم لها، تبدو وكأنها اقتتال بين أقلية حاكمة ظالمة، وأكثرية محكومة مظلومة! مما استقدم أصحاب هذا الفكر من كل أصقاع الأرض للدفاع عن حقوق إخوتهم في الدين (مواطنيهم الدينيين).

وخبت بسرعة، كل الأصوات التي كانت تمتلك خطاباً مدنياً علمانياً، التي كانت تغرد خارج سرب السلطة، وتراجعت لصالح الخطابات الدينية الأقوى والأغنى.

وإذا كنا لا نناقش هنا مسائل دينية أو سياسية، إلا أننا نتوخى الوضوح في تداخل هذا الفكر مع الهوية وغلبته عليها.

سوف تنتهي هذه الحرب الدائرة على الأراضي السورية بالمعنى العسكري، طال أمدها أو قصر، ولكن هل سيتمكن السوريون فيما بعد، أن يتخلصوا من آثارها على المستوى الاجتماعي والنفسي؟ هذا مرهون بسعيهم نحو إعادة ترتيب أوراقهم بشكل منطقي، لتتبلور في أذهانهم مفاهيم المواطنة والانتماء والهوية بصورة أوضح.

الهوية السورية على المحك

الهوية السورية على المحك

في ظل الأوضاع السياسية الراهنة وما أنتجته ومازالت تنتجه الحرب السورية القائمة منذ سبع سنوات، ظهر وبشكل جلي الانقسام الكائن ضمن المجتمع السوري والذي بقي خفيا لسنين عدة ما قبل الثورة السورية حتى اتضح للعيان وبشكل ظاهر ما بعدها. للأسف فإن المجتمع السوري أو ما يسمى بالفسيفساء السورية المتجانسة (شكليا) كانت قد بدأت تتآكل وتتباعد لتنتج جيلا منقسما، تائها ومتناثرا ما بين قوميات وطوائف وأديان عدة غير قادرة على التقارب أو الالتقاء بأي شكل من الأشكال ضمن أي إطار واضح التشكيل منذ أربعين عاما وحتى الآن. وبهذا، فإن شكل أو هوية الإنسان السوري كانت وماتزال في خطر الضياع والتناثر قبل وبعد الحرب ولكن وبشكل خاص فإن الأمر قد اشتد ما بعد موجات اللجوء التي قصدت العالم الغربي منذ عامين فأكثر. فهل للإنسان السوري حقا هوية أو مسمى؟ أم أننا تائهون منذ زمن بعيد!                                                

 يرى السوري نفسه الآن بلا وطن ولا تشكيل، ما بين من فقد بلاده وبين من فقد أسرته ومن كان قد فقد الإثنين معا، ليغدو تائها غير مستوعب لما يحدث. كما أن الغالبية العظمى من الشعب كانت قد بدأت بالبحث عن وطن بديل منذ بداية اندلاع الأزمة حتى الآن غير مدركة لعواقب هذا الاتجاه الكارثية وغير عارفة بالخلل الحقيقي الذي أصاب الإنسان السوري بالمجمل. يرى السوريون أنفسهم في الوقت الحالي كشعب منفصل وأناني غير قادر على التواصل أو التوصل لأي تفاهم حقيقي ضمن طوائفه ومذاهبه وأعراقه المتعددة.

كما يعرف السوريون أنفسهم كشعب بائس قد تآمر عليه العالم وقد رقص على جثته حيا ليغدو شعبا خارج نطاق الحياة الطبيعية المستمرة من حوله. فعلى المستوى السياسي لا يوجد من يتحدث باسم هذا الشعب كما أنه وعلى المستوى الاجتماعي لا يوجد من هو قادر على تسوية الخلافات أو من هو قادر على الوصول إلى الحلول الوسطى ما بين طرفي نقيض من معارضة سياسية إسلامية إلى نظام حكم عسكري قمعي بحت. فإذا كان الطرفان المتنازعان واللذان من المفترض أن يمثلا الشعب السوري بهذا الإهمال، فهل يلام الإنسان السوري على ما حدث ومازال يحدث؟

هل يلام الإنسان السوري على فشله في استحداث نظام سياسي واجتماعي قادر على رعايته وتمثيله؟ لقد طمح السوريون منذ بداية الصراع إلى بناء مجتمع متعاون ومتكامل وديمقراطي قادر على حماية وخدمة حقوق الأكثريات والأقليات على حد سواء، إلا أنه ومن خلال ما أنتجه الواقع على الأرض، فإن السوريين فضلوا التقوقع على أنفسهم منذ البداية مشكلين كينونات بديلة تمثل كل طرف على حدة: فقد فضل الأكراد الاستفراد بمناطقهم الشمالية الشرقية على الاندماج ضمن الغالبية السنية العظمى والتي يمثلها العرب بشكل عام. كما اختار العرب أو السنة منهم الانكفاء والانطواء ضمن جماعات إسلامية ذات توجهات بعيدة عن تطلعات الفئة الشبابية التي قامت بالثورة. بالإضافة لذلك فضلت الغالبية العظمى من الأقليات الانطواء تحت جناح النظام متعذرة بالخوف من السطوة الدينية للغالبية السنية العظمى. فضلا عن ذلك وقعت خلافات عدة بين أفراد التوجه الواحد معلنة عن ضياع الهدف الحقيقي للثورة بحد ذاتها.

من ناحية أخرى، أدت حملات الهجرة واللجوء إلى ضياع الهوية الحقيقية للإنسان السوري وذلك ابتداءً بالصدمة الحضارية التي تلقاها المهاجر أو اللاجئ في بلاد الاغتراب وانتهاءً بالإحساس الكامن بالدونية وانعدام الهدف أو الهوية ضمن مجتمعات إما قامت بالتقليل من شأن هذا الإنسان أو أنها وضعت له العصى في الدواليب بحجة الاندماج والاندراج ضمن مجتمع يختلف عنه بالثقافة والهوية. من هذا المنظور، فإن جوهر المعضلة أو الخلاف ليس سببه القمع الشديد للثورة فقط ولا سوء التمثيل الذي قامت به المعارضة الإسلامية، لا بل إن الخلاف الحقيقي والجوهري ضمن المجتمع السوري هو عدم وجود تصور مشترك لشكل الدولة ضمن الفئات الاجتماعية السورية بالإضافة لعدم وجود الوعي الكافي بمفهوم العمل السياسي أو العمل المجتمعي ضمن جميع الفئات السورية، المثقفة وغير المثقفة.

انطلاقا من هذا الواقع أيضا فإن الدولة السورية القادمة مهددة بالتشرذم والضياع لفترة من الزمن قد لا تقل عن المئة عام، كما أن شكل الخريطة السورية مهدد بالتغيير والتقسيم لصالح قوى عظمى تدعي التدخل بهدف حماية حقوق الأقليات إنما الأطماع الحقيقية من وراء ذلك اقتصادية للأسف. وبهذا فإن شكل أو إطار الدولة السورية القادمة لن يكون بنفس مكانته السابقة كما أن هيبة وأهمية ومركزية الدولة السورية لن يعود لشكله السابق لكون الدولة قد وقعت تحت السيطرة الاقتصادية والسياسية لعدة دول من ضمنها روسيا والولايات المتحدة وتركيا. أما بالنسبة للهوية السورية فإن الإيجابية الوحيدة التي كشفت عنها الثورة السورية هي حقيقة كون المجتمع السوري مجتمعاً منقسماً وطائفياً غير مدرك لنقاط القوة الكامنة ضمن اختلافاته الدينية والعرقية، كما أنها كشفت عمق التصدع الاجتماعي والعرقي والديني ضمن أفراد الفئة الواحدة والمجتمع الواحد كما والعائلة الواحدة على أبسط نحو.

لكن الأمر المؤسف هو عدم إدراك الشعب السوري لحجم هذا الصدع للأسف لا وبل إصراره في بعض دول الاغتراب أو في الداخل السوري على التمسك بهذه الأوهام البالية والأفكار المهترئة والتي أدت بالمجتمع لهذا التصدع لا بل ولوم جميع الأطراف ماعدا النفس على ما حدث وما سيحدث مستقبلا.

نعم إن الهوية السورية على المحك لا بل وأسوأ من ذلك، ولا يمكن حل هذه المعضلة إلا بتشكيل نواة اجتماعية أو جاليات تعبر عن الإنسان السوري في المهجر والإنسان السوري القابع بالداخل لتديره وتقوم بإعادة توعيته وتوجيهه كي يستطيع التفاعل ضمن مجتمعه الجديد ويستعيد القدرة على تحديد هويته المندثرة منذ أربعين عاما ضمن نظام بالي متحجر أساء للهوية السورية باختلافاتها. على السوريين دحر نعراتهم الطائفية والدينية والعرقية خارج الدولة وداخلها للتوصل لتفاهمات ترضي جميع الأطراف وذلك لبناء شكل موحد لدولتهم المستقبلية وإلا فإنهم معرضون للتشرذم أكثر مما هم عليه الآن.