زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي الآمال الضائعة للإيديولوجيات الدّاعية إلى قيام وحدة قوميّة بين العرب، وطُمِسَ بذلك فكر إنسان ممتاز، وأُهملت رؤيته التي تؤلِّف نظرة إبداعيّة عميقة في ماهيّة اللغة، تحديداً اللغة العربيّة، علاوة على ما عاناه في حياته من تجارب وجوديّة عنيفة واضطراب وجدانيّ وفقر وحرمان وعُزلة بسبب مواقفه السياسيّة، فضاعت شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة بين صراع السياسيين البعثيين على السُّلطة، وخضعَ لاستقطاباتهم وتنافراتهم ثم غُيِّبَت على نحوٍ نهائيّ جهود الأرسوزي لمواجهة الاحتلال العثمانيّ-التركيّ والاستعمار الأوروبيّ.

لكنَّ المهمَّ هنا ليس قراءة الأرسوزي قراءة إيديولوجيّة أو سياسيّة مُسْتَهلكة؛ بل الكشف عن العناصر الأصيلة في رؤيته الفلسفيّة للعالم، أو بالأحرى إظهار شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة التي احتجبت وراء غبار لعنة شهوة السيطرة على الحُكم.

لقد انصّبت عناية الأرسوزيّ على كشف ماهيّة اللغة العربيّة، ويمكن تصنيفه بصفته مؤسِّس تيار فلسفة اللغة في الثقافة العربيّة المعاصرة، غير أنَّ حقل الدراسات اللغويّة الذي أسّس له الأرسوزيّ بقي مجهولاً، علماً أنَّ الدراسات التي قدّمها فلاسفة اللغة الغربيّون، أصبحت مركز اهتمام الثقافة الغربيّة، بل العربيّة أيضاً، بدءاً من أواخر القرن الماضي، وصولاً إلى يوم النّاس هذا. إذ نجد حضوراً كبيراً بين أوساط المثقفين، ترجمةً وتأليفاً، لنصوص منقولة أو مستوحاة من جورج إدوارد مور (1873-1958م) أو برتراند رسل (1872-1970 م) أو لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951 م) وغيرهم. علاوة على ظهور دراسات عربيّة كثيرة محكومة بالنزعة البنيويّة التي أسس لها فرديناد دي سوسير (1857-1913)؛ وفي المقابل لا نكاد نجد للأرسوزي ذِكْرَاً بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً عُني عناية حقيقيّة بقضيّة اللغة.

تعمّق الأرسوزي في ماهيّة اللغة العربيّة في “مؤلَّفه العبقريّة العربيّة في لسانها”، ووجد أنَّ اللسان العربيّ مكوَّن على نحوٍ اشتقاقيّ، فالألفاظ التي ينطق بها الإنسان العربيّ ترجع إمَّا إلى ظواهر إدراكيّة حسيّة، تحديداً صوتيّة-بصريّة مُستَمدّة من الطبيعة، أو إلى أُصول شعوريّة مُستَمدّة من النَّفْس الإنسانيّة.

ويوضِّح الأرسوزي حقيقة الألفاظ التي ترجع إلى ظواهر طبيعيّة صوتيّة بصريّة، فتمثيلاً لا حصراً: نجد أنَّ الكلمة “خَشَّ” هي صورة صوتيّة-مرئيّة، ناجمة عن “حركة في عُشب يابس”. وهذه “الصُّورة” أصبحت على المستوى اللغويّ نواةً لتوليد أفعال ومشتقات جديدة مثل: خَشُنَ، خشَبَ (=جَفَّ)، خَشَعَ، إلخ؛ ومِنْ خَشَّ بتحويل الخاء إلى حاء يمكن اشتقاق حَشَّ والحَشيش؛ وبتحويلها إلى عين نحصل على عشَّ والعِشّ، وإلى ما هنالك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يُبيِّن الأرسوزي أنَّ الإنسان العربيّ لم يقف بالنسبة إلى بناء الألفاظ التي ينطق بها عند حدود الصُّور الطبيعيّة الصَّوتيّة-البصريّة فقط، بل اعتمد على التّصويت الطبيعي عند الإنسان، أي الأصوات التي تُعبِّر عن حالات شعوريّة معيّنة مثل “أَنَّ” التي تدلّ على التوجُّع أو التألُّم، فظهرت أفعال ومُشتقّات وفق الآتي: فبإلحاق الهمزة جاءت “أنا”، وبإلحاق التّاء “أنتَ”، أنتما، وبقيّة الضمائر. ومن “أَنَّ” اشتُقَ الفعل أَنَّبَ (=عنَّفَ)، والاسم الأنين، وإلى ما هنالك.

وركّز الأرسوزيّ على أنَّ الذهن العربيّ لم يقتصر -في عمليّة تكوين اللسان العربيّ-على الصُّور الصوتيّة المرئيّة أو الأصوات المُعبِّرة عن حالات نفسانيّة، بل نهج نهجاً اصطلاحيّاً أيضاً، يقوم على إظهار الحروف عن طريق التداعي، فالحروف الأسهل من حيث تسلسل الظهور تتوالد لتكوِّن صورة تصبح موضوعاً للفكر، ومدلولاً عليها في الوقت نفسه بألفاظ، فمثلاً من حرف الباء (ب) صنع التداعي أسماء من قبيل الـ:”أَبّ”، و”الأُبّهة”، وأفعال من قبيل أَبِهَ، أَبى….

وعُني الأرسوزيّ بكشف مناهج تكوين الألفاظ في اللسان العربيّ، فاكتشف أنَّ هناك صوراً صوتيّة ذوات أصول فيزيولوجيّة، فمثلاً هناك صور صوتيّة ترافق حركة عضلات الفمّ من قبيل: عَضَّ، وهنا يشتق الذهن مع المحافظة على الإيقاع بإضافة حرف أو بتحويل آخر، فبالإضافة نحصل على عَضَبَ (=قطَعَ)، وبالتحويل، أي بتحويل العين إلى قاف، نحصل على “قَضَّ (=ثَقَبَ)”. هذا، وبالطريقة نفسها اشتُقَ فعل “قَدَّ (=قَطَعَ)” ثم “قَدَرَ(=قَسَمَ) ومنها: القَدَر؛ وقَدَسَ (قَطَعَ)، ومنها: “القُدْس (=الحجر المقطوع)” وتوالت المشتقات مثل القُدُّوس، والمُقَدَّس، والقداسة، والتّقديس، وحُمِّلت بمعان مختلفة، إلخ.

ولقد فهم الأرسوزيّ اللغة فهماً يدلّ على عمق نظرته، فهو يُرجعها إلى غريزة متأصِّلة في الإنسان أسماها “غريزة الكلام”، ووجد أنَّ غريزة الكلام موجودة على نحوٍ متفوِّق عند العرب، منذ فجر التّاريخ، بدلالة أنَّ علم اللغات المقارن يكشف وجود قواعد مشتركة بين اللسان العربيّ واللغات الهندو-أوروبيّة من ناحية، إضافةً إلى كشفه وجود اشتراك في المفردات وأساسيات النحو بين اللسان العربيّ واللغات الساميّة من ناحية أخرى، وهذا يثبت أنَّ الإنسان العربيّ خاض تجربة كونيّة نادرة في تكوين لغته، كان لها تأثير عالميّ لا يمكن نكرانه. والحقيقة أنّنا إذا أرجعنا اللغة العربيّة إلى أُصولها الكنعانيّة (=الفينيقيّة)، لوجدنا كلام الأرسوزي صحيحاً، إذ قام اليونانيون بتعديل الأبجديّة الكنعانيّة (الأوغاريتيّة)، بما يتناسب مع لسانهم الهندو-أوروبيّ. ولا شك في أنَّ استخدام اليونانيين للأبجديّة الألفبائية-الصوّتيّة الكنعانيّة أسهم في تطوير طُرق التّفكير النّظريّ عند اليونانيين لما في اللغة الكنعانيّة من إمكانيّة تؤهِّل الناطقين بها للقيام بعمليات التّفكير المجرّد. هذا، وحينما وصل التجار والمستعمرون اليونانيون إلى أتروريا (=منطقة وسط إيطاليا الحالية)، ونشروا الثقافة الهيلينية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. أدخلوا الحروف اليونانية-الكنعانيّة لتشكيل الأبجدية الإتروسكانية (=الإيطاليّة القديمة). التي عُدِّلت من قبل الرومان، وأصبحت أبجدية أساسيّة لأوروبا الغربيّة.

لقد امتاز الأرسوزي من بين مختلف المُنَظِّرين القوميين العرب بأنّه دخلَ إلى السياسة من بوابة الفلسفة، وهذا ما جعل طريقة تفكيره أكثر عُمقاً وأبعد غوراً؛ إلا أنَّ لهذه الطريقة في التفكير مخاطرها، فقد جعلته مُفكِّراً يوتوبيّاً، إذ بنى آماله على حُلم ضائع بتكوين دولة مثاليّة تكتنف أبناء أمّة عربيّة واحدة أسماها “الجمهوريّة المُثلى”، ويقدّم الأرسوزي في كتاب له يحمل الاسم نفسه (=الجمهوريّة المثلى) تحليلات لمعنى هذا الاسم عينه، مستخدماً بصيرته اللغويّة الفذّة في تفسير معنى كلمة جمهوريّة، فيوضِّح أنّها منحوتة مِن “جم” وتدلّ على (الجمّ الغفير)و(جهر) وتعني إفصاح كلّ فرد من النّاس عن رأيه في ما يتعلّق بتنظيم الشؤون العامة. وحدّد الأرسوزي معنى كلمة “المُثلى” على أساس أنّها مأخوذة من “المَثَل الأعلى”، أي من الكمال، تبعاً لتكوين كلمة الكمال نفسها. وشرحَ تكوين كلمة كمال شرحاً لغويّاً رائعاً: كمُلَ من كُم الزَّهرة، وحرف “ل” المُلحق بـ”كم” يُفيد هنا معنى النموّ، فالكمال-وفق قوله-مُستوحى من برعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة.

 وينفر الأرسوزيّ نفوراً كبيراً من واقعه العربيّ الذي كشف فيه خطر تحوّل الإنسان العربيّ إلى عبد، ويُفْهم معنى العبوديّة، وفق منظار الأرسوزيّ، على أساس أنَّ الإنسان العبد هو الذي يكون آلة أو أداة بيد نفسه أو بيد غيره من النّاس: يكون عبداً لنفسه إذا حوّلَ طاقاته الخلّاقة إلى أداة للحصول على شهواته، ويكون عبداً لغيره إذا استهلك مواهبه في خدمة الأقوى. ويطالب الأرسوزي باستبدال الإنسان الحرّ-النبيل بالإنسان العبد-الأداة. وهنا يفجِرّ الأرسوزي بعبقرّيته اللغويّة السَّاحرة ينابيع مأساة الإنسان العربيّ، فكلمة “حريّة” في رأيه اشتُقت من كلمة “حرب”، ونبيل اشتُقت من “النِبَال”، أي السِّهام التي يُرمى بها الأعداء؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يحتفظ بإنسانيته أو بالأحرى بحرّيته إلا إذا كان مُحارباً رامياً لأعداء إنسانيته بالويلات!

جمع الأرسوزي في شخصيته بين عالم اللسانيات والمفكر السياسيّ؛ فعاش حياةً تنوس بين الهدوء والاضطراب، ولا نجد شبيهاً للأرسوزي الآن أقرب من المفكِّر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي جمع في شخصيته هو أيضاً بين عالم اللسانيات والمفكّر السياسيّ؛ إلا أنَّ الفرق بين الأرسوزي وتشومسكيّ فرق كبير جدّاً، فالأرسوزيّ عاش حياة قهر مستمر وفي أعمق لحظات معاناته كان هدفه بناء أمجاد أمّة عظيمة فقدت القدرة على النّهوض؛ بينما تشومسكي عاش حياة حافلة بالأمجاد في على أرض جمعت شعوباً من مختلف أنحاء العالم، وكوّنت أمّة عالميّة. لقد نجحت أُمّة تشومسكي الطارفة ولم تنجح بعد أُمّة الأرسوزيّ التليدة.

المراجع:

زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة، دمشق، 1972.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

قُسْطنطين زريق وحلمه باتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية

قُسْطنطين زريق وحلمه باتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية

أعتقد أنَّ أزقة حي القيمرية في دمشق ما تزال تردّد وقع خطوات قسطنطين زريق (1909-2000) إلى يوم النّاس هذا، وهو يسير في هذا الحيّ الذي ولد فيه؛ لكنَّ ضِيْقَ هذه الأزقة لم يمنعه من التفكير أو التنظير لحضارة عربيّة شامخة يُجَلِّيها شعور قوميّ عميق يسري في دخيلة كلّ واحدٍ من أبنائها. إذ كان هاجسه الوحيد هو تكوين دولة عربية مترامية الأطراف تتلاشى فيها الحدود المصطنعة، لتسري فيها روح شعب واحد توحِّده عوامل مشتركة أكثر أولويّة مما يزرع الفرقة والتناحر والبغضاء من عرقيّة وطائفيّة وقبليّة.

  امتاز قسطنطين زريق بفهمه العميق لدور المسيحيين الجوهريّ في تكوين الدولة العربيّة المنشودة؛ وهو بصفته مسيحيّاً اكتشف أنَّ مهمة تشييد صرح الحضارة العربيّة في المرحلة المعاصرة لن تكون ممكنة على الإطلاق ما لم يشارك المسيحيون فيها مشاركةً أصيلةً، فهو يريد كشف حقيقة باقية، حقيقة أنَّه يجب على المسيحيين العرب ألا يدخلوا في متاهة الذوبان في الدول الأجنبية، شرقاً أو غرباً، لاعتقادهم أنَّ العامل الدينيّ يوحّدهم مع الآخر الأجنبيّ-المسيحيّ، ويفصلهم في الوقت نفسه عن أبناء جلدتهم من المسلمين العرب. ويقتضي هذا الوعي أنَّ مشروع الوحدة القوميّة العربيّة فاشل مسبقاً من دون إسهام كياني للمسيحيين العرب فيه، ولن يرتد هذا الفشل على المسلمين وحدَهم؛ بل سيكون ارتداده أكثر خطراً على المسيحيين أنفسهم؛ لأنَّ مفهوم العروبة هو مفهوم كينونيّ لا يقبل أيّ مجال للمساومة، والتخلّي عنه يعني التخلّي عن الهُويّة الوجوديّة الأعمق للإنسان.

ولقد برع قسطنطين زريق في فهم الواقع العربيّ، وكان سبّاقاً من بين المفكرين العرب كافةً إلى التفكير، استناداً إلى استشراف علوم المستقبل، لرسم رؤى لمصير الشعب العربيّ.

رجَّحَ أنَّ هناك احتمالاً مستقبليّاً لاستمرار قوى الطغيان والرجعيّة والتخلف في الأنظمة الديكتاتوريّة-الاستبداديّة ليس في الوطن العربي وحده، بل في العالم كلّه، وسيكون ذلك على حساب قوى التحرّر والتقدّم، وستزداد القوى الأولى شراسة ووحشيّة لما تمتلكه من أدوات قمع على نحو يؤدي إلى القضاء على الحريات رغم الكثرة الكاثرة من الشعارات التي تطلقها هذه الأنظمة باسم حرية الشعوب. ولن يكون هناك أيّ مجال لديمومة قوى التحرر والتقدّم، وستتجه نحو الزوال، وحينها سيفقد الإنسان الشعور بمعنى وجوده، ونبَّهَ إلى أنَّ الأنظمة الديكتاتوريّة ستتحالف على نحوٍ حتميّ مع دول أجنبيّة تبعاً لمصالحها، وهنا ستخضع الشعوب لتمزيق مزدوج: داخليّاً بسبب سلب الحريّات الذي يقوم به الطُّغاة، وخارجيّاً بسبب الهيمنة السياسيّة الغربيّة. وهنا سيتجه مصير الحضارة العربيّة نحو السقوط في هاوية سحيقة لا قرار لها.

ويضع قسطنطين حلاً احتماليّاً لاجتناب هذا السقوط الحضاريّ العربيّ، ولن يكون هذا الحلّ ممكناً إلا بتعاون المتحرّرين العرب من مسيحيين ومسلمين، وإن لم يحصل هذا التعاون فلا يوجد أمامنا إلا الخراب، لذلك لا بدّ من نضال عربي مسيحيّ-إسلاميّ مشترك.

 يقول: “إنَّ هذا يعني المزيد من التلاقي بين المتحرّرين في الجبهتين الإسلاميّة والمسيحيّة ومن التفاعل الخيّر في سبيل تخليص المجتمع من رواسب الماضي، والانفتاح على القوى التقدّميّة في العالم، والتعاون وإياها في شق طرق المستقبل.”[1]

وحذّر من إمكانيّة ظهور قوى تقدّمية وتحرريّة، لكن قد تنمو مؤسساتيّاً على نحو يؤول بها إلى أن تتحوّل إلى شكل جديد للديكتاتوريّة، فالنمو أو التطور حتى للقوى الثوريّة الأصيلة يكتنف مخاطر قد تنعطف بهذه القوى أنفسها كي تتحوّل إلى قوى قامعة للناس بذريعة المحافظة على الثورة أو حماية الثورة.

والحقيقة أنَّ تركيز قسطنطين على أنَّ إمكانية النهوض الحقيقيّ بالأمة العربية مشروطة بالتعاون الثوري المسيحيّ-الإسلاميّ، لا يعني أنّه يصدر في تفكيره عن مطالبة بنوع من الوحدة الساذجة بين أتباع دينين رئيسين في العالم العربيّ، من أجل بلوغ ضرب من علاقة تركيبيّة مفتعلة أثبت استقراء وقائع التاريخ أنّها لم تتحقّق على نحو مثاليّ.

إنَّ دعوته للتعاون المسيحيّ-الإسلاميّ يجب أن تُفهم في أفق فلسفته لمعنى الحضارة الإنسانيّة، لأنّه يؤكد أنّه لا يمكن على الإطلاق فهم أيّ حضارة من الحضارات ما لم يتم فهم الأديان المنتشرة فيها. وهنا يجب الانتباه إلى أنَّ قسطنطين امتلك رؤية عميقة جداً بخصوص معنى الدين ففي رأيه أنَّ فهم حضارة من الحضارات لا يعني فقط فهم الأديان السماوية أو التوحيدية الموجودة فيها؛ بل لا بدّ من معاملة مختلف أنواع الدّيانات حتى الوثنيّة منها بطريقة الفهم نفسها، وإلا سيكون فهم الحضارة منقوصاً، فكلّ شكل من أشكال الدّين يجب التعمّق فيه حتى لو كان مرفوضاً من قبل الأكثريّة، فروح الحضارة تتجلّى في الأديان المنبوذة والمرفوضة كما تتجلّى في أكثر الأديان أتباعاً؛ بل يذهب قسطنطين إلى أبعد من ذلك، إذ يعتقد أنّه حتى في الحضارات التي تغلب على ثقافاتها التيارات الإلحادية في مختلف أشكالها يمكن أن نكتشف في مجتمعات هذه الحضارات نفسه نوعاً من التديّن. إذ يقول: “…إنَّ لهذه المجتمعات، وإن ضعف اهتمامها بالدين بهذا المعنى الذي نتحدث به أو أنكرته وحاربته-إنَّ لها أديانها الخاصة بها بمعنى أعم لهذه الكلمة، فالماركسية مثلاً بهذا المعنى دين، مهما اشتدّ استبعاد أبنائها لهذا الوصف ورفضهم إياه. إنّها عقيدة لها أنبياؤها وأتباعها، وأركان إيمانها وقواعد سلوكها، ونظمها وطقوسها وأوصاف أخرى كثيرة شبيهة بأوصاف الأديان المعروفة…وكذلك قد تتخذ القوميّة-كما اتخذت في الفاشية والنازية-صفة الدِّين وتقوم مقامه. وهكذا إنَّ كلَّ دين –بمعنى ما يدين به المجتمع وما يعتقد أنه الحقيقة هو عنوان بارز لحضارة ذلك المجتمع ودليل من أوفى الأدلة عليها.”[2]

ويمكن أن نستنبط من أفكاره في هذا المقام انّه أراد تحقيق وحدة دينيّة أعلى بين المسلمين والمسيحيين، من أجل بلوغ ما يمكن أن نسمّيه مجازاً دين الحضارة القوميّة العربيّة، ولا شك في أنَّ هذا الإخلاص الكبير من قِبَلِه لمعنى الوحدة الحضاريّة العربيّة يعني أنّه في أعماقه كان شغوفاً إلى أقصى حدّ للارتقاء بالعرب على مستوى يجعل منهم قوّة حضاريّة عظمى على المستوى العالميّ.

لكن يبدو أنَّ التنظير مهما كان عميقاً لا يمكن أن يكون قادراً على تغيير الواقع، وهذه إشكاليّة كبرى في تاريخ الثقافة البشريّة، فالفكر شيء والواقع شيء مختلف تماماً، ولئن حاول الفكر تقديم طُرق لإنقاذ العالم –وهذا حقّ متاح للمفكِّرين-إلا أنَّ الوضع مرتهن في هذه الحالة بعبقريّة المفكِّر وقدرته على استقراء المشكلات والحلول، وليس هذا ممكناً للجميع، لأنّنا نجد كثرة كاثِرة من الحلول الفكريّة الساذجة التي لا تدلّ على أيّ قراءة موضوعيّة للواقع، ولا تعدو أن تكون أضغاث أحلام أو أوهام.

والحقيقة أنَّ آمال قسطنطين زريق بتكوين حضارة عربيّة عظيمة كانت مبنيّة على فهمه الموضوعي لإمكانيات النجاح والإخفاق في هذا العمليّة، لكن يظهر أنَّ قراءة الفيلسوف الألماني هيغل لمسار تطور الحضارات البشريّة تبقى القراءة الأكثر ألماً بالنسبة لنا نحن العرب، ففي رأي هيغل أنَّ الحضارات الشرقيّة على وجه التحديد ومنها الحضارة العربيّة لن تتجه على الإطلاق نحو التطور. ذلك لسبب رئيس وهو أنَّ الشرقيين لم يعرفوا على الإطلاق معنى الحريّة الذاتيّة، وإن عرفوا أيّ معنى لحرية الإنسان، فستكون هذه المعرفة متصلة بحرية شخص واحد هو الإمبراطور أو الملك أو الديكتاتور، فهو وحدَه الحرّ!

  يقول هيغل: “لم يحرزْ الشرقيون أي معرفة بأنَّ الرُّوحَ-الإنسانَ، بما هو عليه، حرّ؛ وبسبب أنّهم لا يعرفون ذلك، فهم أنفسهم ليسوا أحراراً. إنّهم يعرفون أنَّ هناك شخصاً واحداً يمكن أن يكون حُرّاً؛ لكن انطلاقاً من هذا الحسبان بالذَّات، فإنَّ حريّة هذا الشخص الواحد ليست سوى نزوة (…) كانت الشعوب الألمانيّة German nations تحت تأثير المسيحيّة أوّل مَنْ بلغ وعي، أنَّ الإنسان، بوصفه إنساناً، حُرٌّ، أي إنَّ حريّة الرّوح هي التي تكوِّن ماهيته the freedom of Spirit which constitutes its essence”.[3]

لكن هل تستطيع الشعوب العربية تحت تأثير اتحاد قوى التحرر والتقدم المسيحية-الإسلامية فيها أن تعرف معنى الحريّة –كما أراد قسطنطين زريق؟

ننتظر الجواب الواقعيّ أو العينيّ عن هذا السؤال، ونأمل أن تبطل نظريّة هيغل في فلسفة الحضارة لتحلّ محلّها نظرية هذا السوريّ الكبير.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

الحواشي:


[1] -قسطنطين زريق، المسيحيون العرب والمستقبل، في: المسيحيون العرب: دراسات ومناقشات، المحرر: الياس خوري، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981، بيروت، ص: 119.

[2]-قسطنطين زريق، في معركة الحضارة: دراسة في ماهيّة الحضارة وأحوالها وفي الواقع الإنساني، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1981، ص: 96.

[3] – HEGEL, G. W. F., LECTURES ON THE PHILOSOPHY OF HISTORY. TRANSLATED FROM THE THIRD GERMAN EDITION BY J. SIBREE, M. A., LONDON: GEORGE BELL & SONS, YORK ST., COVENT GARDEN, AND NEW YORK. 1894. P.19.

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

لُقِّبَ برائد الحداثة التشكيلية في سوريا، شاعر اللون، رسام الأرض، سفير الفن التشكيلي السوري إلى العالمية، وأيقونة الفن السوري المعاصر. هو الفنان التشكيلي فاتح المُدرس، أحد أبرز الفنانين التشكيليين العرب في القرن العشرين، والذي حقق شهرة عالمية، وأسهم في تطوير أدوات الفن التشكيلي السوري، عَبر نقله من الواقعية التقليدية والحالة التسجيلية المباشرة إلى فضاءات الحداثة وتياراتها المتمثلة في التعبيرية والانطباعية والرمزية، كما تميز بكونه كان الأكثر جرأة بين الفنانين العرب في طرح المفاهيم الفنية الجديدة والمؤثرة، والأكثر فهماً واستيعاباً لمعطيات ثقافات وفنون العصر.

وُلِّد المُدرس في قرية حريتان/ حلب عام 1922 وتعلم في مدارس المدينة. برزت موهبته في الرسم في سنٍ مبكرة، فلفت انتباه مدرّسي الرسم منذ مرحلة الدراسة الابتدائية. وفي بداية الأربعينيات سافر إلى لبنان ليدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأمريكية، وعاد بعد ذلك إلى حلب ليعمل مدرساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في بعض المدارس. أقام معرضه الأول عام 1950 في نادي اللواء في حلب، وأثبت من خلال لوحاته، التي سرقت الأضواء ولفتت انتباه الجمهور، أنه فنان واعد يمتلك ذهنية متفردة تبحث عن كل جديد. ثم جاء عام 1952 ليكرسه كفنانٍ مبدع صاحب قدراتٍ فنية مدهشة ومؤثرة، وذلك بعد مشاركته في معرض المتحف الوطني في دمشق، إلى جانب أبرز الفنانين التشكيليين السوريين، حيث نال الجائزة الأولى عن لوحته “كفر جنة” التي اقتناها المتحف الوطني، وشكلت الملامح الأولى لرؤية المُدرس الحداثوية، ولاتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، وقد اعتبرها النقاد من أبرز الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر آنذاك. وفي عام 1957 أُرسل إلى روما في بعثة دراسية، ونال في العام 1960 إجازة في فن الرسم من أكاديمية الفنون الجميلة العليا، وبعد عشرة أعوام سافر إلى فرنسا ليدرس في المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة في باريس، حيث نال شهادة الدكتوراه عام 1972.

وبينما اقتصرت أعمال معظم فناني الخمسينيات والستينيات في سوريا على رسم الزخارف وتصوير الطبيعة الصامتة وبعض مناظر العمارة التراثية، تفردت أعمال المدرس بعبقريتها وحداثتها وتنوع أساليبها، التي جمعت بين مختلف المدارس الفنية (الواقعية، التعبيرية، الرمزية، السريالية والتجريدية) لتنير عقول كثير من الفنانين التشكيليين العرب، وتفتح أمامهم آفاق الخيال ليخرجوا من قيود الفن النمطي، كما تركت بصماتٍ واضحة على تجارب من تأثروا بمدرسته ونهلوا من أفكاره الفنية الخلَّاقة، فقد شكل المُدرس من خلال أعماله مرجعية أسلوبية، كونه أول من أدخل المدرسة التجريدية والسريالية إلى الفن السوري عبر لوحاته، وكونه مزج في أعماله بين الواقعية والرمزية والأسطورية، ليبتكر بذلك كله رؤية ونهجاً جديداً في مسيرة الفن التشكيلي السوري والعربي، هذا إلى جانب امتلاكه فلسفة خاصة في فهم علم الجمال، تمثلت  بعبقريته وذكائه في استخدام الألوان والخطوط والمؤثرات البصرية، حيث أبدع خيالاً فنياً يشحَن روح المتلقي بطاقة كبيرة من الألوان والضوء والصور والمعاني. إذ كانت الألوان بالنسبة له مثل شخوصٍ، يفهم لغتها، يحاورها ويصغي إليها ويتفاعل معها. وقد منحته تلك العلاقة معها قدرات تعبيرية خاصة، جعلت الخطوط في لوحاته تظهر بشكل رشيق متناغم وكأنها تتحاور في ما بينها، فيما تتكاثف الأفكار لتشكل فضاءات واسعة من الأطياف والمَشاهد والتكوينات، التي تقدم دراما انفعالية حسَّية، تفيض بعشرات الانطباعات والمشاعر الجمالية، إذ يمكن لأي لوحة من لوحاته أن تقدم عَرضاً فنياً متكاملاً، فهي عالم غني، يتداخل فيه التاريخ مع الجغرافيا والميثيولوجيا والأحلام الإنسانية والتأملات والحكايات، وتمتزج فيه الوجوه مع الطبيعة في هندسةٍ لونيةٍ شاعرية، شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التشكيلية السائدة.

ونستشهد هنا بما قاله المُدرس عن الحالة التي يعيشها خلال عملية الرسم : “عندما أرسم أشعر بأن هناك ظلمة شديدة أطبقت على كل شيء، وأنني أخرج من نفقٍ، وأنني أرى نوراً في داخل رأسي، وكأن ريحاً باردة تَهبُّ على وجهي، فابتسم وأعرف أنني وصلت إلى قمة الانفعال في اللوحة، وأعرف أنها انتهت. هذا هو الإحساس في كل عملٍ أقوم به، وكل لوحةٍ لا أمرُّ بها في هذه الحالة أعتبرها عملاً كاذباً وغير ناضج”.

ابتكر المدرس، بذكائه التعبيري المدهش، أسلوباً فنياً غنياً بالرموز والأشكال المستوحاة من التراث السوري الغني بقصصه الشعبية، ومن البيئة المحلية الريفية التي أوغل في أعماقها، ومن تاريخ الحضارة السورية ومدلولاتها وأساطيرها الفريدة، وقد قدم ذلك كله بلغة تصويرية، سريالية أو تجريدية أو تعبيرية أو رمزية، مزاوجاً بين روحانية الشرق ومادية الغرب بتقنياته الفنية المتنوعة، فيما استلهم ألوانه من حقول الشمال والبراري السورية، ليشكل بذلك كله هوية تشكيلية سورية متفردة وأصيلة، ظهرت  جلياً في العديد من لوحاته ومنها : “صلاة البادية السورية”، “قصص الجبال الشامخة”، “زفاف في جبال القلمون”، “نساء من بقين”، ” بدوية من الجزيرة”، “التدمريون”، “مرتفعات بلودان”. وهو الذي يقول في هذا الشأن: ” قد خلصت من تجاربي كلها أن على الرسام المُحب لوطنه أن يعمل على بلورة الفن في بلاده، في طابع أصيل يمت للتاريخ والتقاليد، فليس هنالك فنٌ بلا واقع أو تقاليد عميقة الجذور، وكل هذا يجب أن يتماشى مع أحدث المفاهيم العالمية”.

المُدرس الذي كان يؤنسن جميع الأشكال والعناصر، عَبَّر من خلال لوحاته عن معاناة الإنسان وهمومه وصراعه الوجودي مع الحياة، وحضرت المرأة بقوة في معظم أعماله التي تناولت أيضاً أهم القضايا العربية الوطنية والسياسية، فظهرت القضية الفلسطينية في العديد من لوحاته، كلوحة “المسيح يعود إلى الناصرة” التي كان يحاكي من خلالها عودة الفلسطيني إلى وطنه المسلوب. وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان رسم المدرس بعض الأعمال  التي تناولت  عمليات النزوح ومعاناة الشعب اللبناني وبطولات المقاومة التي تصدت للاجتياح الإسرائيلي، ومن أبرز تلك الأعمال: لوحة “لبنان المقاومة”، “بيروت في ليل الحرب الأهلية”، و”أطفال حرب لبنان”، وغيرها.   

الرسم من خلال الكلمات

المدرس الذي لقُّب بشاعر اللون، كان يُعلق على جدران مرسمه، إلى جانب لوحاته، قصاصات من الورق، كَتب عليها بعض تجلياته وومضاته الشعرية، التي عكست عالمه الفلسفي الفني، وكشفت عن موهبةٍ شعريةٍ فريدة، إذ كانت الكتابة بالنسبة له نوعاً من الرسم، فمن خلال الحروف كان يرسم صوراً إلى جانب بعضها البعض، ليُخرج لوحةً من الكلمات.

كَتب المدرس القصيدة السريالية متأثراً بصديقه الشاعر الحلبي  أورخان ميسر، رائد الشعر السريالي في سوريا، وشكل شعره خروجاً عن التيارات الشعرية السائدة، في تلك الفترة، وقَدم خيالاً بصرياً حسياً، كَثَّفَ الصورة الشعرية ومنحها بعداً جمالياً وبلاغياً مختلفاً. وقد ساعدته موهبته الشعرية على الدمج بين الشعر والرسم، فأسس بذلك لمدرسة اللوحة التي تتضمن شعراً، وقد اعتمدها من بعده بعض الفنانين الكبار مثل عمر حمدي ويوسف عبدلكي.  

نشر المدرس عام 1962 أول قصيدة له بعنوان “الأميرة” في مجلة القيثارة، الصادرة عن مدينة اللاذقية. وفي العام ذاته نشر ديوانه الشعري الأول: “القمر الشرقي على شاطئ الغرب”، بمشاركة الشاعر شريف خزندار. ثم نشر في العام 1985 ديواناً آخراً بعنوان “الزمن الشيء” بمشاركة حسين راجي.

ونقتبس هنا بعضاً من شذراته الشعرية :

“إن آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون”.

“الليلة كتبتُ اسمك على أرض غرفتي، ومضيت أتسلق الجدار ماشياً، كما لو أنَّ هذا الكوكب بلا أحذية”.

” بلا حبٍ تنام أشجاري.. انظروا :  أورقت مساميرَ وحروفاً”.

” صوت العاصفة المدمِّرة، أجمل أنواع الموسيقى”.

” هذا المغني قاطع طريق.. يرسم الجبال بصوته”.

” يقف العقل بعدالته الجميلة حزيناً أمام صندوق الرشاوى في الذاكرة”.

” اصنع شمساً .. جميل أن تكون لك شمسك، تتمتع بها مع من تحب دون أن يراها الآخرون”.

” إننا نعاني من فيروس الغضب الجماعي الصامت، الذي لا يسمح بتحريك عضلة واحدة من هذا الوجه الذي بحجم التابوت الإنساني الضخم”.

” في وسخ الأرض أكتشف مغزى ارتفاع السماء”.

 ” الضياء خيوط نسيجٍ، منديل من الشمس سقط على الأخضر.. أرفعُ المنديل، أنظرُ :  زهرة”.

وإلى جانب إبداعه في الشعر برز المُدرس كواحدٍ من أهم كتاب القصة في سورية، وقد نشر عام 1981 مجموعة قصصية بعنوان “عود النعنع” ، فيما أنتجت السينما السورية عام 1974 ثلاث قصصٍ من أعماله ضمن فيلم روائي بعنوان “العار”  تناول معاناة أبناء الريف في زمن الإقطاع، وهو من إخراج بلال صابوني، بشير صافية، ووديع يوسف. وبحسب كثير من المثقفين والنقاد شكلت أعمال المدرس القصصية نمطاً جديداً في مسيرة القصة السورية، حيث دمجت بين التصويري والقصصي، وأضاءت على عوالم وفضاءات حكائية وجغرافية رحبة وغنية، وقُدمت بلغةٍ مشهديةٍ تعبيرية، تحمل طابعاً سينمائياً، كرسته كواحدٍ من الرواد المجددين في عالم القصة السورية. ونستشهد هنا ببعض ما كتبه الأديب سعيد حورانية  في المقدمة التي وضعها لمجموعة “عود النعنع” : “قصص فاتح كأفضل لوحاته، وبعضها من أفضل ما كتبه أدباء اللغة العربية على الاطلاق.. تلعبُ الصورة بوجهٍ عام والصورة الطبيعية بوجهٍ خاص دوراً مهماً في فن فاتح القصصي، فالفنان التشكيلي الكبير لا تخطئه العين في قصصه أيضاً، ولكن الصور هنا ليست إطاراً تزينياً أو استطراداً شكلياً، بل هي كالنهر المُهدد تماماً، تدخل في نسيج الحدث فاعلة ومنفعلة.. ولغة فاتح لغة طازجة ندية متقشفة، فوراء هذه العفوية والبراءة الظاهرية تكمن معلميّة وصنعة في اختيار الكلمة المناسبة، وأحياناً الغريبة، وأحيانا المخترعة. المهم أن تلعب الكلمات دور الألوان في اللوحة، من حيث التوازن والشفافية والإيحاء، فلا تستوقفك ولا تشعر بانفرادها وإنما باندغامها المدهش في مجموع العمل”.

وفي مقالٍ له بعنوان”فاتح المدرس: الفنان السوري الذي حارب من أجل العدالة” يقول الروائي عبد الرحمن منيف عن تجربة المدرس القصصية: “فاتح المُدرس في القصة القصيرة، كما في الفن التشكيلي، أحد الرواد والمعلمين.. كيف تتحول القصة القصيرة إلى ملحمة، إلى نشيد؟ وكيف تستطيع، باقتصادها المتناهي، أن تتحول إلى عالمٍ بهذا الاتساع؟. هذا هو جوهر الفن، وهذا ما يقوله فاتح المدرس بأكثر من شكلٍ وبأكثر من وسيلة”.  

مساهمات وإنجازات

عمل المُدرس أستاذاً في كلية الفنون الجميلة منذ تأسيسها عام 1961، وكان له الأثر الكبير على طلابه، الذين فتح أعينهم وخيالهم على فضاءات جديدة في الفن، وحرر أذهانهم من المفاهيم الفنية التقليدية، وقد تتلمذ على يده أفضل الفنانين التشكيليين السوريين، الذين أصبحوا فيما بعد من رواد الفن التشكيلي الحديث في سوريا، ومنهم: زهير حسيب، عصام درويش، ادوار شهدا، نذير نبعة، وغيرهم. وبين عامي 1981و1991 شَغًل المدرس منصب رئيس نقابة الفنون الجميلة التي كان من أبرز أعضائها المؤسسين، كما كان من الأعضاء البارزين المؤسسين لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وانتخب عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية.

ولم يكتفِ المُدرس بما قدمه من أعمالٍ فنية وأدبية، بل كانت له إسهامات ثقافية أغنت مكتبة الفن التشكيلي في سوريا، حيث نشر عام 1954 مؤلفاً من ثلاثة أجزاء: “موجز تاريخ الفنون الجميلة”، أصبح مرجعاً لأساتذة الفن التشكيلي في المدارس والجامعات. كما شارك المدرس عام 1962 مع محمود دعدوش وعبد العزيز علوان بنشر أول بيان فني عن الفلسفة الجمالية للفن العربي، هذا إلى جانب نشره لبعض الدراسات في النقد الفني المعاصر، ونشر دراسة عن تاريخ الفنون في اليمن قبل الميلاد، ومجموعة محاضرات عن فلسفة الفن ونظرياته منذ عام600 قبل الميلاد، بالإضافة لدراسة عن الكلمة/ الصورة، بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس.

ورغم أن مرسم المدرس كان قبواً رطباً، ضعيف الإنارة ويعاني من مشاكل في التمديدات الصحية إلا أنه كان أشبه بملتقى ثقافي ومحطة إلهام لكثير من الفنانين التشكيلين والموسيقيين والمثقفين، الذين كانوا يقصدونه  ليخوضوا نقاشات بنَّاءة وعميقة عن الفن والأدب والمسرح والسينما، ولينهلوا من تجارب المُدرس وفضاءاته الفنية الواسعة التي تحفزهم على تنشيط طاقاتهم الفنية والابداعية.

وخلال مسيرته الفنية عَرَض المدرس لوحاته إلى جانب  أشهر فناني العالم من أمثال بيكاسو، وكان من الفنانين العرب القلائل الذين بيعت لوحاتهم في مزادات الفن العالمية، كما حصد الكثير من الجوائز والأوسمة، ومنها: جائزة معرض المتحف الوطني في دمشق 1952، جائزة استحقاق من المعرض الدولي في جامعة كليفلاند/ فلوريدا في أمريكا 1952، الجائزة الأولى لأكاديمية الفنون الجميلة في روما 1960، الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي 1962، جائزة شرف بينالي سان باولو/ البرازيل 1963، الشراع الذهبي للفنانين العرب في الكويت 1977، جائزة الدولة للفنون الجميلة في دمشق 1986، جائزة الدولة للفنون الجميلة في الأردن 1992، ووسام الاستحقاق السوري عام 2005. 

 خُلدت أعمال المدرس في معظم متاحف الفن الحديث وفي أبرز المؤسسات الثقافية العربية والعالمية، ومن بينها: المتحف البريطاني، معهد العالم العربي في باريس، المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة، المتحف الوطني في دمشق، ومتحف دمر. وقد اقتُنيَت أعماله من قبل أبرز الشخصيات السياسية والثقافية العالمية، مثل: رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية فالتر شيل، والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي كان صديقاً مقرباً للمدرس، وترجم له بعض قصائده من الإيطالية إلى الفرنسية.

 ويُعد المدرس من أكثر الفنانين العرب إقامة للمعارض عربياً وعالمياً. ونذكر هنا أبرز معارضه ، وفق تسلسلها الزمني :

– عام 1950 أقام المعرض الأول لأعماله الأولى في نادي اللوء بحلب.

– عام 1952 شارك في معرض مركز الصداقة في نيويورك، وأقام معرضاً لأعماله في مركز “لوند” في السويد.

– عام 1955 أقام معرض شخصي في نيويورك.

– عام 1957 شارك في معرض الفنانين العرب في روما.

– عام 1959 أقام معرضاً شخصياً في غاليري “شيكي” في روما (اقتنى الفيلسوف سارتر ثلاثة أعمال للمدرس)

– عام 1960 أقام معرضاً في صالة هسلر في ميونخ/ ألمانيا ، ومثَّل القطر العربي السوري مع الفنان لؤي كيالي في بينالي البندقية.

– عام 1961 شارك في معرض البندقية، ضمن جناح الجمهورية العربية المتحدة (خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر) وأقام معرضاً في صالة الفن العالمي الحديث في دمشق.

– عام 1962 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت.

– عام 1963 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت، وشارك في بينالي سان باولو في البرازيل، وفي المعرض المتجول لفناني الدول العربية في أمريكا اللاتينية. إلى جانب مشاركته في معرض شتوتغارت في ألمانيا الاتحادية.

– عام 1964 شارك في الجناح السوري في معرض نيويورك.

– عام 1965 شارك في المعرض السوري في بيروت (سوق سرقس)، وفي المعرض العربي السوري في موسكو وواشطن.

– عام 1967 شارك في المعرض العربي السوري في لندن، والمعرض العربي السوري في تونس، وأقام معرضاً في غاليري “كونتاكت” في بيروت.

– عام 1968 شارك في بينالي الإسكندرية لفناني دول البحر المتوسط.

– عام 1970 أقام معرضاً في دمشق بعنوان : تحية إلى مالزو (أديب فرنسي)

– عام 1973 أقام معرضاً شخصياً في مونتريال/ كندا

-عام 1976 أقام معرضاً مشتركاً في حلب مع زميله الفنان لؤي كيالي.

– عام 1977 شارك في معرض الفن التشكيلي العربي السوري في عمان، الكويت، المغرب. وأقام معرضاً خاصاً في باريس.

– عام 1978 أقام معرضاً شخصياً في بون/ ألمانيا.  

– عام 1980 شارك في معرض الدول العربية في بون وفرانكفوت. وفي معرضٍ عن الفن السوري في القصر الكبير في باريس.

– عام 1982 شارك في المعرض العربي السوري في صوفيا، والمعرض العربي السوري في تونس والجزائر.

– عام 1983 شارك في معرض الفن التشكيلي السوري في باريس و برلين الشرقية، وفي معرض “كان سورمير” في فرنسا.

– عام 1984 أقام معرضاً خاصاً في المركز الثقافي البلغاري في دمشق، وشارك في المعرض المتجول في دول أمريكيا اللاتينية.

– بين عامي 1986 و1991 شارك في أغلب المعارض الرسمية السورية.  

– عام 1993 أقام معرضاً شخصياً لأعماله في واشنطن.

– عام 1994 أقام معرضاً شخصياً في واشنطن، ومعرضاً استعادياً لأعماله في معهد العالم العربي في باريس.

– عام 1996 أقام معرضاً استعادياً في بيروت.

– عام 1997 أقام معرضاً استعادياً في دبي.

-عام 1998 أقام معرضاً شخصياً في صالة عشتار في دمشق.

توفي المدرس في حزيران/ يونيو عام 1999، بعد معاناة مع مرض السكري والسرطان، وقد تحولت لوحاته، بعد وفاته، إلى تحفٍ وأيقوناتٍ فنية، أشبه باللقى الأثرية النادرة، لتتسابق صالات العرض والمتاحف والمؤسسات الثقافية ودور المزادات الفنية العربية والعالمية على الفوز باقتنائها أو تسويقها، ويُعد المدرس من الفنانين القلائل الذين لم تتوقف عمليات تزوير لوحاتهم حتى بعد وفاتهم، كونها من أغلى اللوحات العالمية وأكثرها مبيعاً.   

المراجع

– جمر تحت الرماد / فاتح المدرس رحلة الحياة والفن، للمؤلف محمد جمعة حمادة. منشورات دار بعل / دمشق 2008 .

– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.

 – “فاتح وأدونيس” ، كتاب صارد عام 2009 بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المدرس. الناشر: غاليري أتاسي. يتضمن الكتاب مجموعة حوارات ونقاشات جرت بين المدرس و الشاعرأدونيس عام 1998.

عود النعنع/ قصص قصيرة لفاتح المدرس. المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ الطبعة الثانية 1986

– فيلم “فاتح المدرس” وثائقي من إخراج عمر أميرلاي، أسامة محمد ومحمد ملص.

– موقع أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية  العربية.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

عادلة بيهم الجزائري بين تحرير الوطن وتحرير المرأة

عادلة بيهم الجزائري بين تحرير الوطن وتحرير المرأة

إن تاريخ الأمة ومجد الوطن يصنعه أبناؤه الأوفياء من النساء والرجال ويفنون أعمارهم من أجل حرية ونهضة وطنهم، بعضهم يكتب صفحاتٍ في ميادين البطولة والنضال وبعضهم يهدي الأمة إلى سُبل العلم والمعرفة. فبهذه الطريقة قد أعطت الأمم دليلاً على تقدمها وشاهداً على تاريخها الحضاري. وأحد أولئك القامات، السيدة العربية السورية عادلة بيهم الجزائري.
وصفتها ابنتها بأنها امرأةٌ شديدة البأس، ماضيةٌ كالسيف، شجاعة الفؤاد، ولقد كانت أحد أهم روّاد النهضة السياسية النِسوية في سوريا. وولدت في زمنٍ كان فيه الطغيان العثماني على أشده، لا يتوانى عن أي طريقةٍ يضطهد بها الشعب ويسحق شعوره القومي. فعاشت عمرها تناضل من أجل تحرير وطنها العربي وتحرير المرأة.
كان والدها عبدالرحيم بيهم جزائري الأصل، ولقد ولدت في بيروت عام 1900، ثم انتقلت للعيش في سوريا. درست في معهد (Diaconese) الألماني في بيروت، وتتلمذت في اللغة العربية على يد العلامة عبد لله البستاني، صاحب معجم البستان.
بعمرٍ مبكر، في سن السادسة عشرة، بدأت نشاطها الفكري للدفاع عن الهوية العربية، فكتبت مقالات في الصحف الوطنية، كصحيفتي الفتى العربي والمفيد البيروتية، متخذةً اسماً يدل على تمردها وكرهها للمحتل (الفتاة العربية نزيلة الأستانة). وبعد أن ساءت الأوضاع في الحرب العالمية الأولى اجتمعت عادلة بيهم مع عددٍ من رفيقاتها للقيام بعملٍ منظم حاولن من خلاله تحقيق مساعيهن في إيقاظ الوعي القومي العربي لدى النساء وتعليم الفتيات اللواتي لم تتح لهن الفرصة في التعلم. نتج عن هذه الجهود جمعية تمت تسميتها (جمعية يقظة الفتاة العربية).
 كان لهذه الجمعية رأيها الواضح الصارم في بعثة الاستفتاء التي زارت دمشق برئاسة(Crane) فطالبت بالاستقلال التام للبلاد العربية ورفض الحماية والوصاية والانتداب. أيضاً شاركت الجمعية في تنظيم مظاهراتٍ برئاسة السيدة عادلة بيهم في المقاومة ضد الانتداب الفرنسي. كما نظمت الجمعية لجنةً تشرف على دارٍ للصناعة، والتي ضمت مئة وثمانين عاملة للحرف اليدوية. بعد ذلك أسست الجمعية برئاستها مدرسة دوحة الأدب للبنات عام1928.


مدرسة دوحة الأدب:
 تعد هذه المدرسة أحد أهم وأشهر إنجازات عادلة بيهم التي لاتزال ناشطةً حتى الآن. هدفت هذه المدرسة إلى تعليم الفتيات في الأسر غير الميسورة واللواتي حُرمن من التعليم بسبب الظروف القاهرة. ولم يقتصر نشاط هذه المدرسة وأثرها على  القطر بل تجاوزاه إلى الأقطار العربية حيث تلاقت الجهود والمساعي الإصلاحية لدعم دور المرأة في المجتمع، ونتج عن هذا التلاقي تعاون بين جمعية العلماء في الجزائر وجمعية دوحة الأدب في سوريا. ففي عام 1938، وكما تخبرنا الوثائق التاريخية، جرت مراسلات مكتوبة بخط اليد بين الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية “العلماء المسلمين الجزائريين” والسيدة عادل بيهم رئيسة جمعية “دوحة الآداب”، وسعى الشيخ ابن باديس من خلال تلك المحادثات للحد من الضرر العلمي الذي ٍخلفه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، معتقداً أن القضاء على الجهل يكون بتعليم المرأة فهو العماد الأول الذي يجب تأسيسه للبدء في الترميم وعلاج الأضرارٍ، طالباً من السيدة عادلة أن تبين له الشروط المطلوبة للسماح للفتيات الجزائريات إتمام دراستهن في الشام. أما نص الرسالة فهو التالي: “الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وآله، قسنطينة 9 جمادى الثانية 1357ه،حضرة السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الآداب المحترمة، السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، وبعد:
اسمحي لي سيدتي أن أتقدم إلى حضرتكم بهذا الكتاب عن غير تشرف سابق ٍبمعرفتكم، غير ما تربطنا به الروابط العديدة المتينة التي تجمع بين القطرين الشقيقين الشام والجزائر. يَسرُّك سيدتي أن تعرفي أن في الجزائر نهضة أدبية تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي. ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم بقسنطينة. ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عن مجلة “الرابطة العربية “رغبت أن ترسل بعض البنات ليتعلمن من مدرسة الجمعية. فهي ترغب من حضرتكم أن تعرفوها بالسبيل إلى ذلك. تفضلي سيدتي بقبول تحيات الجمعية وإخلاصها والسلام. من رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس“.
لم ترد السيدة عادلة أن تكون أنشطة الجمعية مقتصرة على مستوى التعليم فقط، بل أرادت توسيع الأنشطة لتشمل الأنشطة الفنية أيضاً. ولهذا الغرض سافرت إلى حلب للقاء “الشيخ عمر البطش” الذي يعد حافظ للموشحات وأكبر مرجع في الأغنية التراثية. ونتيجة لهذا التعاون شهدت مدينة دمشق عام 1947 حدثاً هو الأول من نوعه، كما ذُكِر في كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا“ للباحث السوري الراحل حسان عباس، الذي نشره مكتب اليونيسكو في بيروت. حيث أخذت عادلة بيهم من الزعيم فخري البارودي الموافقة على تدريب الفتيات على الغناء ورقص السماح وإحياء حفلة، فكانت هذه المرة الأولى التي ظهرت فيها الفتيات الدمشقيات وهن يؤدين حفلاً غنائياً راقصاً أمام العامة على خشبة مسرح قصر العظم بحضور رئيس الحكومة آنذاك خالد العظم. ورقص السماح هو أحد أنواع الرقص التقليدي الذي ارتبط بفنون الموشحات، وانتشر هذا النوع من الرقص في حلب قبل أن يأتي ويتم نشرهُ في دمشق. لكن كما كان لهذا الحفل أصوات مرحبة به ومشيدة بنجاحه، كان يوجد العكس. إذ إن الحفل لم يلقَ رضى قاضي دمشق الشيخ علي الطنطاوي، فشرع بالهجوم في المنابر والصحف على عادلة بيهم والحفل الذي أقامته المدرسة “فوصف مدرسة دوحة الأدب على أنها دوحة الغضب، قائلاً إنهم ينظرون إلى الغرب بعين الرضى ويغمضون أعينهم عن تلك العيوب والمفاسد. كما وصف لباس الفتيات بأنه يشبه لباس الجواري قديماً، فتاريخ دمشق الإسلامي مصدر افتخارها، فكيف يرضى مسلمٌ عربي أبي لابنته أن ترقص أمام الرجال الأجانب؟ وكيف يرضى بأن تتلوى وتخلع وهي تغني أغانٍ كلها في الغرام والهيام؟“.


الاتحاد النسائي العام:

لم تكتفِ السيدة عادلة بيهم بجمعية تشمل أنشطتها دمشق فقط، بل أرادت أن تشمل هذه الخدمات القطر بكامله، وبالفعل تم الأمر بعد اجتماع أربع عشرة جمعية اتفقت على تأسيس “الاتحاد النسائي العام السوري” لتكمل هذه المسيرة في السعي لتحرير المرأة ودعمها في تأدية واجباتها وإعانتها على أخذ حقوقها، وانتُخِبت السيدة عادلة لتكون رئيسةً للاتحاد. عُني الاتحاد أولاً بتوعية المرأة السورية بحقوقها وواجباتها، فأقام دورات متواصلة لمحو الأمية في صفوف النساء. كما اهتم بتقديم الدعم للمرأة العاملة، إما من طريق السعي لتحسين دخلها أو تقديم برامج ودورات تقوية في مجال العمل، ولم تُغفل هذه البرامج المرأة الريفية، فقد عمِل الاتحاد على التمكين الاقتصادي وتقديم فرص العمل على المشاريع الزراعية والصناعات. علاوة على ذلك عُني بالجانب الصحي عن طريق تقديم الخدمات الصحية اللازمة والمرفقة بجلسات التوعية.

كان للاتحاد إسهاماته المؤثرة أيضاً في مواجهة الاحتلال وداعماً للنضال العربي والتي ينبغي ذكرها:
 ١- في حرب فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي: تكاتفت الجهود في تقديم المساعدات للمرأة الفلسطينية القادمة إلى سوريا وقُدمت بالتعاون مع السيدة “بهيرة الدالاتي” مساعدات صحية ومالية لرعاية العائلات اللاجئة وفُتحت المدارس لاستقبال أولادهم. كما جُندت مئات المتطوعات في الاتحاد النسائي للمساعدة في خياطة ثلاثة آلاف بذلة عسكرية للجنود السوريين المتطوعين في جيش الإنقاذ.
٢- قدم الاتحاد دعماً كبيراً خلال العدوان الثلاثي على مصر: حيث قادت عادلة بيهم النساء السوريات وتدربت على حمل السلاح في معسكرات أُقيمت في ريف دمشق، تحت عمليات عُرفت باسم “غرف المقاومة الشعبية“.
٣- في حرب تشرين: ظلت السيدة عادلة ناشطة في الدعم الإنساني، ورغم تقدمها في السن لم تتغيب عن حملات إسعاف الجرحى خلال الحرب.
٤- موقف الاتحاد من الجمهورية العربية المتحدة: أيد الاتحاد برئاستها الوحدة السورية المصرية عند قيامها عام 1958. وكانت أحد المستقبلين للرئيس جمال عبد الناصر، فقد كانت السيدة عادلة تكن الكثير من الاحترام للرئيس عبد الناصر الذي أعطى المرأة المصرية حق الانتخاب، فكانت تلتقي به كلما أتى إلى سورية وتتحدث معه عن احتياجات ومطالب الاتحاد النسائي.
ونظراً لما قدمه الاتحاد من إسهامات، فقد تم دعوة السيدة عادلة بيهم بصفتها رئيسة الاتحاد، لمختلف الاجتماعات والمؤتمرات داخل الوطن العربي وخارجه.
حضرت الكثير من المؤتمرات وشارك الاتحاد بوفدٍ مؤلف من ثلاثين عضواً للمشاركة بالمؤتمر النسائي الفلسطيني الذي عُقد في القاهرة وتم انتخاب عادلة بيهم نائبةً لرئيسة المؤتمر السيدة هدى شعراوي والذي تأسس في عام1944. شارك الاتحاد النسائي السوري برئاستها في المؤتمر العربي العام أيضاً، وكذلك في المؤتمر النسائي الأول المُقام في بيروت. وفي عام1960تم انتخابها رئيسة للجنة التحضيرية للمؤتمر الآسيوي الإفريقي. تلقت أيضاً دعوة من الاتحاد النسائي الصيني لزيارة جمهورية الصين وحضور العيد الوطني، كما أنها حضرت مع وفد الاتحاد المؤتمر الآسيوي. دُعيت في عام 1969 لحضور حفل اليوبيل الذهبي لاشتراك المرأة العربية في ثورة 1919، كما أنها تلقت دعوة للحضور والمشاركة في اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد النسائي المصري في القاهرة.

الجمعيات التي ضمها الاتحاد
ضم الاتحاد النادي النسائي الأدبي، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمين، دوحة الأدب، الندوة الثقافية النسائية، الإسعاف النسائي العام، الجمعية الثقافية الاجتماعية، المبرة النسائية، جمعية نقطة الحليب.ولم تكن الطريق ممهدة أمام هذه الجمعية فقد واجهت العديد من العوائق، وعلى الرغم من أن هذه الجمعية وغيرها كان غرضها المساعدة الجادة للقيام بنهضة وتحسين أحوال المرأة، إلا أنه كان دائماً هناك من يرفض هذا التغيير ويراه سلبياً وأحياناً مضللاً. ففي أحد اجتماعات الاتحاد النسائي تمت الدعوة لإقامة بحفل خيري في دمشق هدفَ إلى جمع التبرعات لصالح جمعية نقطة الحليب. لكن الجمعيات الدينية اعترضت على الحفل بحجة أن النساء الحاضرات في الحفل سافرات. وخرجت المظاهرات في دمشق مطالبةً بإلغاء الحفل وعدم السماح للسيدات بحضور الاحتفالات إلا أن الرئيس سعد الله الجابري رفض الاستجابة لمطالب المتظاهرين وأرسل عناصر الشرطة لتفريقهم، ثم طلب من السيدة عادلة الحضور في مكتبه وتم الاتفاق على أن يقوم الاتحاد النسائي بحجب المعونات التي كان يقدمها للناس، لبضع ساعات لا أكثر وأن يتم الرد عليهم: “اذهبوا إلى المشايخ وخذوا خبزكم منهم“. بالفعل قبلت السيدة رئيسة الاتحاد مطلب رئيس الحكومة، وتم الاعتذار من كل من جاء إلى مراكز التوزيع التابعة للاتحاد والطلب منهم أن يذهبوا إلى الجمعيات الدينية. لكن لم يستطع رجال الدين تلبية المطالب والحاجات، فسكت المعارضون وتابعت الجمعية أعمالها.
واصلت السيدة عادلة بيهم العطاء إلى أن وافتها المنية عام 1975. وفي اليوم العالمي للمرأة، منح الرئيس السوري حافظ الأسد عادلة بيهم الجزائري “وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة“ لكنها لم تتمكن من استلامه فاستلمته نيابة عنها ابنتها ورفيقتها في الكفاح أمل الجزائري.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مريانا مراش: أيقونة سوريــــّة في الصحافة العربيّة

مريانا مراش: أيقونة سوريــــّة في الصحافة العربيّة

تُجِمع الدراسات التي تناولت حياة مريانا مراش على أهميتها في الصحافة العربية المعاصرة، وريادتها التي تمثلت في تأثيرها على بنات جيلها والجيل الذي يليه.

 جاء ذلك من انشغالها بهموم المرأة ودعوتها لتحريرها عبر التعليم وربطها الوعي والاستنارة بالتحرر الخلاق من القيود. هذه الأفكار أدت لاحقاً لبلورة مشاريع فكرية قامت بها النساء في سوريا ومصر والوطن العربي.

تكشف سيرة حياتها بين ميلادها في حلب 1848 ورحيلها 1919 عن نبوغ بحيث تفتحت مداركها في بيت يهتم بالأدب والفكر والثقافة، وتتلمذت في مكتبة والدها فتح الله مراش، وعلى يد شقيقها الأديب فرنسيس مراش أحد أركان النهضة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر. وتنقلت بين مدارس حلب والمدرسة المارونية والإنجيلية في بيروت، ومدرسة راهبات مار يوسف حيث أتقنت العربية والفرنسية والموسيقى فكانت من أبرع العازفات على البيانو، وفي الثانية والعشرين وما إن اكتملت ثقافتها حتى أخذت تنشر مقالاتها في الصحف والمجلات وأهمها مجلة “الجنان” ومجلة “لسان الحال”.
إن أهمية تجربتها تدفع قارئها لتفحص تمثلات هذه الريادة وتأثيرها وأهميتها بالنسبة لمعاصريها وللأجيال اللاحقة؛ فهي وقياساً لظروف عصرها وجدت في مرحلة صعبة زمنياً وهي فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وثقافياً فرغم أن المرأة في تلك الحقبة قد نالت في الدساتير والقوانين الحقوق التي جاءت في النصوص القانونية لكن الوضع الاجتماعي للمرأة كان أسيراً لدونية النظر إليها، والتقاليد الاجتماعية التي تحرمها حرية التحقق و التفكير في بيئة تسودها قناعة بأنه لا يجب تعليم الفتيات، وقد وصفت مارلين بوث تلك الفترة بأن الوضع وصل إلى حد أنه “لا ينبغي على الفتاة أن تجلس في غرفة استقبال الضيوف” الرجال”.

المسألة الأكثر جوهرية: تفرّد تجربتها ويرى د. محمد علي اسماعيل” أن ريادتها تتأتى من كونها صاحبة الموضوع الأول المشتمل على الأفكار الأولى؛ التي أثرت في الآخرين، فتأثر بها الآخرون وساروا على منوالها، أو استفادوا منها”

وكانت مقالتها اللافتة والأبرز والتي نشرها بطرس البستاني في مجلة الجنان البيروتية في شهر يوليو من عام 1870 بعنوان: شامة الجنان دعت فيها الكتاب لتطوير موضوعاتهم وتحسين مناقشاتهم ولغتهم، كما حثت النساء على الثقافة والعلم ومما جاء عنها أن “مقالاتها في “لسان الحال” “تناولت مجتمعها وعاداته وتقاليده وعمّا حولها من آثار التخلف، وكانت تستحثه على النهوض والابتعاد عن الجمود، وتدعو بنات عصرها إلى الاستنارة والتحرر من القيود مشجعة البنات على الكتابة، داعية المجتمع إلى تحرير المرأة والتمدن والاقتباس من الحضارات، فجاءت دعواتها واقعية جريئة على المجتمع المستكين، وتنثر بين الفتيات روح التمدن والأخلاق والجرأة والشجاعة الأدبية. كما بينت أسباب الانحطاط في المجتمع، مُقارِنة بين المرأة الأوروبية والعربية وقد جاءت مقالاتها احترافية مشبعة بلغة جديدة متخلصة من التقليد السائد”

 ما جعل البعض يرى أن أثر أفكارها لم يتوقف عند حدود مقالاتها، بل كان “بداية ولادة حركة نسوية سورية   فقد تم عام 1880 تأسيس جمعية علمية أدبية نسائية من قبل سيدات سوريات رائدات أطلقن عليها اسم (باكورة سوريا) وكانت أهدافها مستوحاة من أفكار مريانا مراش وآرائها بتفتيح عقول النساء وتطوير وضعهن الاجتماعي”

ولن تتوقف مراش عند حدود الدعوة لمشاركة المرأة والتحرر الاقتصادي بل ستترك جدلاً وأثراً على أقلام النساء اللواتي تأثرن بهذه الدعوة ” إذ تلقفت السيدة وستين مسرَّة دعوة الآنسة مراش، فنشرت في عام 1871 في مجلة “الجنان” أيضاً مقالة بعنوان “التربية”، أيدت فيها دعوة مرَّاش لطرد “الخوف والوجل”، داعية النساء لأن يرمحن في ميادين الأدب بالقول والعمل”.

هذا الأثر امتد لتساؤلها حول الكتابة فانتقدت أساليب الكتّاب المقعرة في ذلك العصر وكانت تدعو الى تطوير طرق الكتابة والإنشاء وتنويع الموضوعات.

وقد وصل أثر دعوتها إلى مصر “فتبنتها السيدة فريدة شكور، معلمة ثم مديرة مدرسة البنات الأميركية في القاهرة، إذ كتبت في مجلة “الجنان” أيضاً عام 1874 مقالة بعنوان “في النساء” أعادت فيها صياغة أفكار مريانا مراش؛ لتعالج موضوعها عن تربية البنات من أجل إعداد الأسرة المتمدنة مستقبلاً”.

إن جوهر تجربة مريانا مراش، هو أنها استطاعت كامرأة وسط مجتمع يعاني تبعات الفقر والجهل من أن تكتب مقالاتها باسمها الصريح وتحث على شجاعة العقل فقراءة نتاجها يدل بوضوح على كونها امرأة سابقة لعصرها وقيمة تفكيرها كانت في عقلها التحليلي ورؤيتها المستقبلية وقدرتها على الإقناع.

كما أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “بنت فكر” وكتاباً عن تاريخ سوريا أواخر العهد العثمانيّ، بعنوان “تاريخ سوريا الحديث” ولكن مأثرتها الكبرى التي تذكر لها أنها أسست في منزلها أول صالون أدبي وقال عنها الأديب سامي الكيالي في مجلة الحديث التي تصدر في حلب: “عاشت مريانا صبابتها في جوّ من النعم والألم مع الأدباء والشعراء ورجال الفكر، وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيون والعرب فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث”.

التقاطعات والمصائر المشتركة.

اللاّفت أن أغلب الدراسات التي تناولت سيرة حياتها، تنتهي بعبارة هزمها مرض عصبي أواخر حياتها، وقد وصفها قسطاكي الحمصي “وكانت مليحة القد، عذبة المنطق، طيبة العشرة، تميل إلى المزاح، حسنة الجملة، عصبية المزاج، وقد تمكن منها الداء العصبي في أواخر سني حياتها، حتى كانت تتمنى الموت في كل ساعة”.

وهذا يجعلنا نتأمل ويستدعي إلى الذهن مصير رائدات التنوير عربياً وغربياً، فقد لقيت الأديبة مي زيادة والكاتبة فرجينيا وولف المصير ذاته، بل أن الرائدة الإنكليزية ماري كرافت 1793 أول داعية للحرية النسوية أصيب بمرض عصبي؛ ومما لا شك فيه أن ظروف النساء تلك الفترة لم تكن هينة، وربما هذا المآل الذي تنتهي له حياة المفكرات والرائدات شرقاً وغرباً يحتاج إلى مقال آخر ووقفة أخرى!

فالهدف من هذا المقال، هو فتح باب للنقاش واستعادة للتأثير المهم لرائدة من رواد الصحافة، وقد حلل د. محمد علي اسماعيل تأثيرها النابع من قوة فكرها الماثلة في “اتباعها أساليب التحليل الاحترافي والقراءة الذكية لواقعها وتقديم أفكارها عبر التمثيل والمقارنة والتعليل وأساليب المحاكمة الرفيعة”. 

إن تحدي الآراء السلبية، ومعارضة قناعات المجتمع بأسلوب تحليلي عقلي هو الذي جعل مقالاتها ودعواتها ـتنتشر بين النساء في أنحاء الوطن العربي، لقد غامرت بالكتابة ورفعت صوتها وهي تعرف مسبقاً أن هذه المغامرة لها عواقبها. وأخذت على عاتقها تصحيح الصورة الخاطئة، التي رُسِمت لها في الثقافة والحياة وفي مخيال المجتمع الذكوري في بيئة مقيدة بالأحكام والمنع والنبذ.   تكتب هيلين سيكسوس “إن الكتابة الأنثوية المنشودة، ككتابة، تتجاوز السلطة الذكورية في مغامرة البحث عن الذات، وككتابة، تستكشف قدرات المرأة المسكونة بالرعب، وترسم نساء في حالة طيران، وليس في حالة سير على الأقدام”(1)  

كانت مريانا رائدة، تعرف بعقلها المتفتح أن هوية المرأة وكينونتها الأصيلة هي في تعليمها واستقلالها الفكري، وأدركت أن الثمن الذي تدفعه مغامرة الكتابة أهون بكثير من الثمن الذي يدفعه من يترك للآخر أن يحدد له هويته؛ وهي تنتمي إلى جيل من الرائدات اللواتي فتحن الآفاق لصحافة تكتب فيها المرأة إلى جانب شريكها الرجل وأدركن بحدسهن المستقبلي أن تحرر المرأة لا يعني حرباً مفتوحة؛ لذلك سيكون صالونها ملتقى لكلا الجنسين ومنبعاً للحوار والنقاش والموسيقى، وسيبقى اسمها مرتبطًا بكونها أول امرأة عربية حققت ريادتها عبر تأثيرها الواقعي وفتحت في الصحافة كوّة لتغيير الواقع.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

هوامش:

-أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر، قسطاكي الحمصي، المطبعة المارونية، حلب، 1925.

-مريانا مراش…. رائدة الشعر النسائي السوري وأول صالون أدبي، سنان ساتيك، مقال منشور في موقع الجزيرة نت، 2019.

-سيد علي اسماعيل، مريانا مراش ريادة تاريخية أم فكرية؟ – مجلة (تراث) الإماراتية -عدد 144 و145 -2011.

-حين تشارك المرأة في كتابة التاريخ. مريانا مراش، مقال ومبادرة “الباحثون السوريون”.

-الموسوعة الصحفية العربية، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة الثقافة
-تاريخ الصحافة العربية، فيليب دي طرازي، 1913، الجزء الثاني، تموز 2021 

-نبيل سليمان: نظرية الأدب النسوي، مغامرة البحث عن الذات-ضفة ثالثة 11-أكتوبر -2016.

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

     كان عبد الرحمن الكواكبيّ (1855-1902 م) شخصيّة استثنائيّة نادرة في عصرٍ مُظلم، ولقد امتازَ بشعورٍ فريدٍ بحرّيته بين أُناسٍ سُلِبت منهم القدرة على المبادرة والفعل والتعبير عن الرأي، فاكتشف أنَّ كثيراً من أبناء جِلدته مِنَ العرب يغرقون في مَوْحِلِ الجُبن والضَّعف والاستسلام لواقعٍ قاسٍ فرضته عليهم قُوى حاكمة، تمثّلت آنذاك في السَّلطنة العثمانيّة، وأدرك بعمق بصيرته أنَّ سبب الانهيار الرَّهيب في القيم والمبادئ والأخلاق ناجم عن الطَّاعة العمياء للحاكمين أو ولاة الأمر. ولقد أُصيبَ الكواكبيّ بخيبة أمل كبرى من تماهي النّاس مع سَحْقِهم وظُلمهم وتهميشهم، أي إنَّ الإنسانَ أصبح مجبولاً بعبوديته، إلى حدّ أنَّ الحريّة أصبحت ظاهرة غريبة وغير مقبولة بين النّاس؛ لأنَّها يمكن أن تسوقهم إلى نهاياتهم. من هنا وجد الكواكبيّ بعمقه البالغ أنَّ النّاس أنفسهم هم أساس قوّة الحاكمين الظَّالمين. ويرجع خنوع النَّاس في رأيه إلى أنّهم-في مرحلة السَّلطنة العثمانيّة-لم يعودوا قادرين على التمييز بين السُّلطة الدينيّة والسُّلطة السياسيّة؛ لأنَّ شخصيّة الحاكم لَبَست لَبوس القداسة، فالتبست على عقول العوام الأمور، فظنّوا أنَّ معارضة الحاكم هي معارضة ولي الأمر الذي يمثِّل المطلق أو الألوهيّة. ويمكن إرجاع هذه الطَّريقة من التّفكير عند الكواكبيّ إلى هدفٍ رئيس وهو تقويض تمثيل السلاطين العثمانيين للخلافة الإسلاميّة، لنزع فكرة حصانتهم الدّينيّة من عقول النّاس، وتحفيز العرب على استرجاع حقّهم بالسُّلطة؛ لكن الخنوع لرهبة السلطة الدينيّة العثمانيّة كان أكبر من طموح الكواكبيّ بإحداث تغيير جذريّ. واستنبطَ الكواكبيّ من ذلك حدوث امتزاج بين الاستبداد الدِّينيّ والاستبداد السياسيّ، فأصبح مضمون الطغيان باسم الدِّين مسكوباً في دَنِّ الطُّغيان السياسيّ، أو بالأحرى وُظِّفت أدوات الاستبداد الدِّينيّ على نحوٍ غير ظاهر لصالح الاستبداد السياسيّ؛ لذلك يتبنّى في كتابه “طبائع الاستبداد” رأياً عن الحكّام الذين هم وفق ما ذكرَ: “يسترهبون النَّاس بالتعالي الشخصيّ والتشامخ الحسيّ، ويذلونهم بالقهر والقوَّة وسلب الأموال حتى يجعلونهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتّعون بهم كأنّهم نوع من الأَنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.”[1]

      ويدهشُ المرء من هذه الشجاعة المنقطعة النّظير التي تحلّى بها الكواكبيّ في عصر كان يمكن إسكاته فيه بأبسط الطُّرق، إلا أنّه آثر المسير في مشروعه الفكريّ ذي الخصوصيّة الغريبة عن الأجواء الثقافيّة السَّائدة في عصره. وكانت الموضوعة الرئيسة الشَّاغلة له هي قبول الإنسان بذله ومهانته واستعباده، فحاول أن يبحث عن الأسباب التي تقف وراء اقتناع الإنسان بسلبه من شخصيته الإنسانيّة الحرَّة.

      ويثير الكواكبيّ إشكاليّة تدلّ على عُمق في التّفكير لا نظير له، فهو يبحث في موقف الطُّغاة من العلوم، ويُحدِّد ببراعة فائقة أنواع العلوم التي يسمح المستبدّون للنّاس بتعلُّمها؛ لأنّها لا تؤدي إلى تطوير تفكير المتعلّمين على نحو يهدِّد عروش هؤلاء الطُّغاة.

      يقول الكواكبيّ: “المُستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان (…) وكذلك لا يخاف المُستبد من العلوم الدينيّة المتعلّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربّه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنّما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاعَ فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذَ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شرّ السّكران إذا خمر (…) وكذلك لا يخاف من العلوم الصِّناعية (…)، لأنَّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين لأنَّ أكثرهم مبتلون بإيثار النَّفْس، ولا من الرِّياضيين لأنَّ غالبهم قصار النّظر.”[2]

     يكشف الكواكبيّ هنا أنّه لا يمكن تأسيس وعي حقيقيّ داخل المجتمعات الخاضعة للاستبداد، لأنَّ الإيديولوجيا التعليميّة للمستبدين، بوجهٍ عامٍّ، تقوم على نشر علوم لا تؤدي إلى تكوين ثقافة حقيقيّة لدى الإنسان، فعلوم اللغة، لا تساعد على امتلاك رؤية حقيقيّة للواقع، وتقتصر على تنمية قدرات هي في حدّ ذاتها لا تعدو أن تكون وسائل لتحصيل علوم من نوع أعلى. كما أنَّ العلوم الدينيّة التي تركِّز على العالم الآخر، ونشر روح الزُّهد والتخلّي والحياد، تسهم في تمكين الحكم للمستبدين، لأنها تدفع الإنسان المتديِّن بهذه الطَّريقة إلى ترك الواقع، كما هو، من دون أن يُعنى بتغييره، ويغلق أبواب نفسه عليه، غارقاً في عوالم موهومة مجذوذة الصِّلة بالحياة الإنسانيّة في أبعادها المختلفة. هذا، إلى أنَّ الكواكبي نبّه إلى أنَّ العلوم الصِّناعيّة لا تدفع المستبدين إلى القلق من انتشارها بين النَّاس، لأنَّ المعارف التي تتأسّس عليها والنتائج المحصّلة فيها تقتصر على أمور تقنيّة نافعة للحياة، والذين يمتلكون العلوم التي تبتكر المنتجات الصّناعيّة-في رأي الكواكبيّ-لا يفكّرون إلا بالأرباح، ولن يفكِّروا بتغيير الواقع ومواجهة المستبدين، لأنهم راضون بما هو كائن، واستمالتهم تُعَدُّ أمراً سهلاً بالنسبة إلى الحكّام الطغّاة. ويبني الكواكبي في سياق كلامه استنتاجاً يستحق التأمُّل وهو أنَّ المستبد لا يخاف من الماديين، ويقصد من ذلك أنَّ المعارف التي تُنمِّي الفهم الماديّ للعالم تولِّد شخصيات غارقة في نزعة ذّاتيّة-حسيّة إلى أقصى حدّ، وغير مكترثة بمشكلات وآلام الآخرين. دعْ أنَّ الكواكبيّ يتّخذ موقفاً سلبيّاً من الرِّياضيين، ويعني بهم علماء الرِّياضيات، ويبدو أنَّه لم يكن من المُعجبين بعلم الرياضيات، لأنَّ المعرفة الناتجة عن هذا العلم تبقى في حيِّز تجريديّ، ولا تقدّم رؤية حقيقيّة عن معاناة الإنسان في العالم.

     يمكن هنا أن نكتشف في شخصيّة الكواكبيّ ناقداً إبستمولوجيّاً للعلم من الطراز الرّفيع، ويتصف نقده بخصوصيّة نادرة، فهو يحدّد قيمة أي نوع من أنواع العلوم من جهة دوره في مساعدة الإنسان على مواجهة الطغيان والاستبداد والظُّلم. والحقيقة أنَّ هذا الضَّرب من النَّقد لا يجب أن يُعَدّ غير منصف في مجتمعات تحتاج إلى تحفيز أفرادها لاستعادة وعيهم بضرورة حرّيتهم.

    ويتابع الكواكبي كلامه بشأن علاقة ماهيّة العلم بمواجهة الاستبداد قائلاً: “ترتعد فرائص المُستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النّظريّة، والفلسفة العقليّة، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنيّة، والتّاريخ المفصَّل، والخطابة الأدبيّة، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النّفوس، وتوسِّع العقول، وتُعَرِّف الإنسان ما حقوقه، وكم هو مغبون، وكيف الطلب، وكيفَ النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة…”[3]

      يقصد الكواكبي بعلوم الحياة –كما هو ظاهر من كلامه-الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ولم تكن دلالة العلوم الإنسانيّة واضحة في عصر الكواكبيّ، إلا أنه كان واعياً مما ذكره بمدى تنوّع العلوم الإنسانيّة، فذكر “علم السياسة المدنيّة” “وعلم حقوق الأمم (=القانون الدولي لحقوق الإنسان) –وهما علمان معياريّان-، وعلم الاجتماع–وهو علم تعميميّ-، وعلم الخطابة –وهو علم فنّي-، كما ذكر التّاريخ المفصّل ويدخل في إطار العلوم الإنسانيّة. إذن، نحن هنا بإزاء مفكِّر سوريّ مضى على موته نحو مئة وواحدٍ وعشرين عاماً كان واعياً في أكثر العصور ظلاميّةً بأهميّة العلوم الإنسانيّة لإنقاذ الإنسان العربيّ من الاستلاب الذي يعانيه في مختلف جوانب حياته.

       ولقد ركّز الكواكبيّ على خوف المستبدين من الخطابة والكتابة، وتُعَدَّ الخطابة سبباً رئيساً لنشر الوعي بين النّاس، فالخطيب المفوّه قادر على تغيير سيكولوجيا النّاس، تحديداً إن كان يقول الحقيقة، فإنّه يستنفر غضبهم على الظَّالمين، ويدفعهم إلى إعادة النّظر في قناعاتهم، وتوجيه جهودهم نحو مواجهة المستبد، لذلك كان رأي الكواكبيّ في مكانه، فكلّ مَنْ يُعبِّر عن رأيه بشجاعة، خطابةً أو كتابةً، يُعَدّ خطراً داهماً على العرش، ولذلك لا بدّ من إسكاته، فاتّبع المُستبد سياسة تكميم الأفواه، وأصبح أي إنسان عُرْضة لأفظع أنواع العقوبات إذا امتلك الجرأة على الكلام الذي يضرّ بمصلحة المُستبد.

    ويتحوَّل الكواكبيّ إلى مُحلِّل نفسيّ لشخصيّة المُستبد، فيذهب في تحليله إلى أبعد الأعماق، كاشفاً خبايا نفسه، على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب الشديد من براعة وصفه:

    “المستبد في لحظة جلوسهِ على عرشه، ووضعِ تاجه الموروث على رأسه، يرى نفسَه أنّه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يرجعُ النّظر فيرى نفْسَه في الأمر نفْسِهِ أعجز من كلِّ عاجز، وأنّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التّاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الرّيش في رأسك طاووساً وأنت غراب؟ (…) والله ما مكّنك في هذا المقام وسلّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظرْ أيُّها الصَّغيرُ المُكَبَّر، الحقيرُ الموقَّر، كيف تعيش معنا؟!”[4]

     لقد كان الكواكبيّ شجاعاً –وهذا أمر يجب التأكيد عليه دائماً-بل كان بطلاً فكريّاً قلَّ نظيره، وكانت شخصيته مجبولةً بحبِّ الخطر، وقد اختار مواجهة الظَّالمين، وأكسبته أسفاره الكثيرة خبرات كبيرة، فقد كان جوَّاب آفاق: سافر إلى الهند والصين ووصل إلى سواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا إلى أن ألقى عصا التّرحال في مصر، ولكن في مصر-كما يُجمِع المؤرِّخون- ترّصده أتباع السلطان العثماني عبد الحميد، ودسّوا له السُّم في فنجان قهوة في حينما كان جالساً مع أصدقائه في أحد مقاهي حي الأزبكيّة في القاهرة، فمات أحد أكثر المفكِّرين جرأة في التّاريخ العربيّ الحديث، واختفى مع موته كتابان هما “صحائف قريش” و”العظمة لله”، وقيل: إنَّ أعواناً للسلطان عبد الحميد سرقوا هذين الكتابين من منزل الكواكبيّ، ولم يبق من كتبه سوى “طبائع الاستبداد” و”أُمّ القُرى”.

    ولكن ها هو صدى صرخته المدويّة التي تُعبِّر عن اليأس الكبير الذي كان يسري في نفسه، ما زال يتردّد وقعها في أسماعنا:

      “يا قوم ينازعني والله الشُّعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حَيٍّ فأحييه بالسَّلام، أم أنا أخاطبُ أهل القبور فأحييهم بالرَّحمة؟! يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مُستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يُسمّى التنبّت، ويصح تشبيهه بالنّوم! يا ربّاه: إنّي أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة، وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون.”[5]

الحواشي


[1] -عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2009، ص: 30.

[2] -المصدر نفسه، ص: 45.

[3] -المصدر نفسه، ص: 44-45.

[4] -المصدر نفسه، ص: 59.

[5][5] -المصدر نفسه، ص: 108.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”