تسنت لي مشاهدة فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى، الصديق الشخصي والروحي، بفضل لفتة لطيفة منه بإرساله إلي. يتحدث الفيلم عن مقايضة بين عجوز (متزوج وله بنات ثلاث)، من أحد بلدان اللجوء السوري، وبين والدة وابنتها الصغيرة (المراهقة)، اللتين تقيمان في أحد مخيماته، هرباً من قمع “النظام الديكتاتوري السوري” إثر انفجار “ثورة الربيع العربي” فيه. وتستند المقايضة على تزويج الفتاة الصغيرة من العجوز مقابل وعد منه بإنقاذ أخيها من “المعتقل السوري”، عن طريق معارف له في سورية. الوعد، الذي كان فخاً للإيقاع بالفتاة ليلى، لم يتحقق بالطبع، التي لم تجد وسيلة لمقاومة الظلم سوى بالامتناع عن الاستسلام للعجوز وبـ”الصمت”.
أصبح “التهجير السوري” بحد ذاته تراجيديا أسطورية، بكل المآسي التي يحملها، تتجاوز فيه المشابهة مع “الأوديسة” الإغريقية إلى مشهد تراجيدي مفتوح على الأمكنة والأزمنة كلها في عالمنا الشرقي ـ العربي. هل هذا ما يرده الفيلم، أم هي انطباعاتي الشخصية عنه؟
لم يطلب ثائر أن أكتب شيئاً عن الفيلم، فأنا روائي ولست ناقداً، وبالأخص سينمائياً. لكني أمام قصيدة شاعرية بصرية مذهلة بلا حدود إلى درجة الدهشة، لم أستطع كتم التعبير عن انفعالاتي الإنسانية، وقررت أن أكتب انطباعاتي الشخصية:
الدمعة تزور العين، عندما تشاهد اللقطة الأخيرة من فيلم “مزار الصمت”، كما زارت عين الأخ “أحمد”؛ الدمعة تختزن بكثافة أحزان القلوب في بلادنا، وكل القهر الذي نعانيه فيها منذ غابر الأزمان، ومازال حاضراً باستمرار. الحزن والقهر يلاحقنا في ذواتنا، وأحلامنا، وذكرياتنا، بحيث أصبحا متأصلين فينا جمعياً. والرجل العربي لا يذرف الدمعة إلا لقهر شديد ناله، بما يساوي قسوة موت أحباء، هو عاجز عن إنقاذهم، فيستسلم أخيراً لدمعته. تسقط الدمعة، وصدى عبارة “يللي حبسوك (يا أحمد) هم الذين قتلوها”، “نحن كلنا قتلناها” تلاحقنا بصدى قاتل بعد انتهاء الفيلم. نحن جميعاً قتلنا “ليلى”، وهذه العبارة بهذه الكثافة من القهر تختصر كامل الفيلم.
القصيدة البصرية تبدأ منذ اللقطات الأولى للفيلم، عندما تهفهف النسائم بستارة شفافة بيضاء، ووراءها يتساقط شعر فتاة، يغتسل بشلال مياه، كما المطر (هل تعرفون موسيقى المطر في بلادنا، كم هي جميلة، وكم تثير من الحزن المبهم والحنين في ذواتنا). والفتاة تسرح شعرها المبلول، كم هي جميلة في هذا؛ هي الحبيبة، الأخت، الأبنة، الأم. منذ هذه اللحظة، نعرف أننا دخلنا قصيدة بصرية شفافة، طافحة بشاعرية متفجرة، دون كلمات، وإنما بصور؛ رحلة في أسطورة تراجيدية، في حكاية صوفية، رحلة إلى الذات، أم إلى جموع ذوات، يحاصرها القهر والألم، وكلهم أنا، وكلهم نحن.
عند هذه اللحظات الأولى، أمسك قلم خيالي، وأبدأ معك كتابة قصيدة الصور، ثائر الجميل، وأرافقك مشاركاً رسم الأسطورة ـ الحكاية، بعد أن أبثها أحلامي، وذكرياتي، وحنيني، فتهمس لنا كلمات، توشوشنا، كي نتناقلها بتخاطر الأرواح، جيلاً بعد جيل. ألست أنت ثائر، الذي كسر بالصور الأزمنة والأمكنة، خارج التقاليد المجترة، فلا ندري، وقد خرجنا منها، في أي بلاد، وفي أي أزمنة، نحلق نحن. آه، نحن البلاد جميعها، التي نكتب حكايتها معاً، ونحن الأزمنة جميعها، المتراكمة في أرواحنا حنيناً مغمساً بالقهر، نتوارثه عبر الأجيال. والحكاية صور، نغوص فيها عميقاً، فنجتاز بالحنين الأمكنة والأزمنة فيها.
يلاحقنا البطلان الرئيسيان طوال الأسطورة ـ الحكاية إلى حد الاختناق شغفاً، يخترقان الكيان، ويسريان في الدماء، ويتغلغلان في الذاكرة. يوجعاننا بكاء، يتفجر في سفر الحنين إلى شيء، يكاد يكون مبهماً غامضاً في لاوعينا. وسرعان ما ينتزعاننا، هذان البطلان، من اختناقاتنا المكبوتة، لنكتشف كم كنا محرومين من معنى حياتنا. والمعنى في داخلنا، ينتظر شرارة صغيرة تفجره. هذان البطلان الرئيسيان، اللذان يسحراننا شغفاً، فنصبح ممسوسين بهما، هما “الموسيقى” و”المكان”، وبهما تنتظم الحكاية.
مع سير الحكاية، نكتشف شيئاً لاوعياً يرافقنا طوال الوقت، هو “الموسيقى” الخفية، القادمة من ذاكرة أسطورية مختزنة في ذاكرتنا الجمعية، موسيقى شبه بدائية تنبع من دواخلنا، من معابد أسطورية قديمة، كنا نعيش فيها روحانيتنا المفقودة، ونحن نشم رائحة البخور في الظلال. وها هي تشتعل، فتتلون بها صور المكان والأشخاص والأحداث، وتجعلها أنشودة تسمو بنا. الموسيقى هي التي تشعل فينا هذا الحنين الغامض، بحيث تطغى على الكلمات، وكلمات الأشخاص تبقى مجرد إيقاع خفيف خفي لصدى وجودهم الشبحي. تغدو الموسيقى تراتيل صوفية، ترفع الحدث الواقعي اليومي إلى مستوى أسطورة تراجيدية، تتجاوز إغريقيتها، نحو أصول شرقية غارقة أكثر في أزمان غابرة. شخصياً، انتهيت من مشاهدة الفيلم، دون أن استطيع انتزاع الموسيقى من روحي، أصبحت نبضاً أتنفسه. أجلس أكتب نصي هذا في الصمت حولي، ما عداها، ترافقني، وتسافر بي إلى حلم جميل، يراودني حنيناً إلى “المكان”.
نعم إلى “المكان”… والمفترض أن الشرارة التي أشعلت المكان هي “المعتقل السوري”، و”مخيم اللاجئين”، ولهما دلالتهما الرمزية المهمة، رغم عدم الرجوع إليهما طوال الحكاية، فيبدوان عابرين للوهلة الأولى. إلا أنهما يطغيان حقيقة على الأحداث كلها تالياً، يرميان بظلالها عليها طول الوقت، وبهما يتوطن مكان الأسطورة ـ الحكاية، وبهما تنفتح دلالتها. ومن هذين المكانين المحددين، ننطلق إلى عالم سحري (نهار/ ليل)، يفضي إلى أسطورية، تتجاوز تراجيديات بلاد الإغريق، لتحلق في عالم صوفي شرقي، يقودنا إلى “الحقيقة المطلقة”، العصية الفهم إلا على المسافرين إليها بأرواحهم. وهذه الحقيقة هنا ليست هنا إله الصوفيين، وإنما حقيقة سحر حكاية الفيلم، الذي تمضي أحداثه صوفياً، ولن نستطيع كمشاهد إلا السير بها روحياً، وإلا لن تتكتشف لك أسراره.
“نهار المكان” هو حكائي، أقرب إلى الأسطوري، بغض النظر عن وجود “المعتقل السوري” و”مخيم المهجرين السوريين” كواقع معاصر في بداية الفيلم. ما هما إلا مكانين عابرين، رغم ملاحقة رمزيتهما لنا طوال الحكاية، كمصباح خافت بعيد ينير ببصيصه دربنا الذي نشقه فيها. هذا “النهار” هو عالم يخترق اللامكان واللازمان إلى كل الأزمنة والأمكنة المتخيلة في شرقنا القديم المقهور، وما السيارة، في لقطة عابرة، إلا أداة انتقال من “العالم الواقعي” إلى “عالم الأسطورة الصوفية”.
في السيارة تتكشف أكثر حبكة الحكاية باتصال هاتفي مخادع من العجوز الذي يستولي على فتاة صغيرة من مخيم للمهجرين، مازالت تعابير وجهها توحي ببراءة الطفولة، بعقد زواج صوري، مقابل وعد بإنقاذ أخيها من جحيم “المعتقل السوري”. البنت قبلت أن تفدي نفسها لدى عجوز متزوج، مقابل “وعد” بإنقاذ أخيها من “المعتقل”. ومع النزول من السيارة، يختفي كل ما يدل على الواقع الحقيقي، الذي يغدو بعيداً؛ “المعتقل”، و”المخيم”، و”السيارة” و”الهاتف المحمول بالوعد الكاذب” (ماعدا الضحية ـ الغنيمة). يختفي الواقع نهائياً، ويصبح الزمان ـ المكان أسطورياً بالكامل، ليس فيه أي بصمة حضارية معاصرة ترتبط بعالمنا، يصبحان زمناً ومكاناً مطلقين، يمسنا نحن السوريين بالذات (وربما جميع أبناء منطقتنا، الذين عاشوا ومازالوا يعيشون نفس قهرنا وآلامنا).
“نهار شرقي”، يغمر المَشاهد جميعها بضياء الشمس. أراض مشمسة تهفو إليها أحلام الأوروبيين الرومانسية، لكنها جرداء لنا، إنما متغلغلة في أرواحنا. ورغم جفافها، فنحن نعرف جمالياتها السرية، وهو ما ستكشف سحره الكاميرة المبدعة “جماليات للمكان”، الذي يبقى طفلاً في أرواحنا، رغم تقدمنا في العمر.
نباتات الصبار الشوكية هي أول ما تطالعنا (هل أرواحنا جافة مثلها؟). وفي لقطة ذكية جمالية معبرة برمزيتها، نكتشف من ورائها بلدة قديمة بمنازلها، مترامية على تلة جرداء، حيث يسكن العجوز. الصبار هو نبات المناطق الجرداء، المحرومة من المطر إلا نادراً، وهو يزين مشاهد المكان النهاري باستمرار. ثم تتابع مشاهد البيوت الطينية القديمة، بباحاتها البسيطة وبواباتها العتيقة، الأدراج الحجرية (دروب إلى معابد قديمة ما مندثرة، مختفية في المكان)، الحارات والأزقة المتربة، والملتوية صعوداً. لا أشجار، لا نباتات مزروعة، لا ورود، لا أخضر، لا ألوان سوى البني المترب، الذي كنست الرياح الغبار عنه، فأصبح أكثر جفافاً. فقط امتداد المكان الأجرد شبه الصحراوي، في أزمنة قديمة، يختفي فيه أي مظهر من مظاهر الحياة الحديثة. مكان هو امتداد للنفوس المتعبة، التي يختفي منها الفرح والأمل، مجرد أشباح تتحرك، بوجوه شاحبة، تبدو النساء فيه شبه عاقرات.
يترافق مع هذه الأجواء المكانية الكئيبة الجرداء استقبال عائلة العجوز للعروس الشابة بشكل عدائي؛ الوجوه عدائية بصمتها، الأجساد عدائية بلامبالاتها. لكن الزوجة العجوز المغدورة، التي يعيرها زوجها بأنها لا تنجب له إلا البنات، ويتعلل أمامها بأنه مضطر للزواج من فتاة صغيرة من أجل صبي، تنفجر في وجهه. بينما تبقى الابنتان الشابتان، وإحداهن متزوجة، صامتتين، كتمثالي حجر. هكذا، تصل العروس الفتية، فلا تجد استقبالاً، لا حفل فرح، لا جيراناً، تنتظرها فقط غرفة عتيقة كقبر، وحياة راكدة، فهي غنيمة، سبي، تم شراؤها من سوق المُهجرات لمتعة عجوز.
لكن المشاهد المتربة، الكامدة، الكئيبة، في نهار المكان وفي أرواح ساكنيه، تخبئ حياة كامنة سرية صامتة، تريد أن تنفجر بقدوم ليلى؛ البيت الريفي، بغرفه وأثاثه البسيط، وباحته الجرداء، وأبوابه العتيقة، يبدو مثل قبر. مع مجيئها، تداعب النسيمات المشاهد من وراء الستائر الشفافة، ومعها الغسيل المنشور على الحبال، كما في حلم، يؤطر ماكينة الخياطة (النول الأبدي الذي ينقذ المرأة من وحدتها، ولا يتقن الرجل العمل به). يريد هذا المكان النهاري أن يمتلئ بانفجار الحياة بقدوم ليلى، بضجيج شبق صاخب، لكنه يبقى خامداً بصمتها العميق، الذي تتخذه “ملاذاً”. الصمت يسود المكان بغياب صوتها، يلفه، يخنقه، الصمت الذي ينال من جبروت العجوز ـ المستبد الشرقي البطريركي. الصمت يتحدى صلابة الرجال والحجارة، يطحنهما معاً.
لكن صمت “المكان النهاري”، المترب الكئيب، ينقلب ليلاً إلى صمت سحري مذهل، وشاعرية صوفية أخاذة، بكاميرة ذكية. تتلاعب في لقطاتها وتراقص شعلات الشموع، وأضواء الفوانيس والقناديل، مع ظلال عتمة شفافة، قادمة من صفاء روحي عميق، من سفر أحلام. القناديل تنتشر في كوى الغرف الطينية، والفوانيس هي دليل السائرين في عتمة الحارات الليلية، أما الشموع، فتتكثف بطريقة سحرية في مرقد الولي، الذي يتم عبره الولوج إلى قلب عالم صوفي. ليل حلم كأنه ينبثق من هدأة الروح وشفافيتها، لا علاقة له بنهارات مشمسة بحيادية ساطعة، دون أي ظلال حالمة، أو حتى أي ظلال.
في هذا الليل الأسطوري ـ الصوفي الحالم تعود بنا ليلى، الزوجة الصبية الفتية، إلى عالم “الأوديسة” الإغريقي. يذكرنا رفضها لنوم العجوز معها بامتناع الملكة بينلوبي في “الأوديسة” عن طلب الخُطاب لزواجها طمعاً بالمُلك. تنتظر زوجها أوديسيوس الغائب، التائه في البحار، بعد انتهاء مشاركته في “حرب طروادة”؛ تنتظر عودته، كي ينتقم لها منهم. تتعلل أمام الخطاب بأنها تريد إنهاء حياكة بساط على نولها، وبعد ذلك ستتخذ قرارها باختيار أحدهم زوجاً ـ ملكاً. لكن بينلوبي تحل ليلاً خيوط ما تحيكه نهاراً، كي تمرر الوقت، واثقة من عودة زوجها لينقذها.
تتمنع ليلى أيضاً ـ مثل بينلوبي ـ على زوجها العجوز، فتمضي ليلها في حياكة ثوب أبيض على ماكينة خياطة قديمة، بانتظار عودة أخيها أحمد لينقذها، فيما العجوز ينتظر وينتظر في الفراش دون جدوى. الثوب يطول ويطول، ويمتد منفرشاً على الأرض، ولا ينتهي. وأحمد غائب، مثل أوديسيوس، يتأخر في الحضور. يلاقي تعذيباً وحشياً في غياهب “المعتقلات السورية”، بعد أن اختار درب الحرية، بما يعادل الأهوال التي لاقاها أوديسيوس في حرب طروادة. وكان على الإثنين أن يعودا؛ أوديسيوس لإنقاذ زوجته بينلوبي التي تتمنع على الخاطبين، بعد غياب طويل في الحرب امتد سنيناً طويلة، وأحمد لإنقاذ أخته ليلى، التي تتمنع على العجوز، وغاب في المعتقل ثلاث سنوات طويلة، بدت دون نهاية. لكن أوديسيوس تاه في البحار عشر سنوات، وتاه أحمد في صحرائه، وهو يحاول اجتياز الحدود (على الأغلب السورية ـ الأردنية، أو اللبنانية أو التركية، لا يهم)، مخاطراً بحياته للوصول إلى “مخيم المهجرين”، حيث والدته وأخته المفترض وجودها هناك، ليكتشف فجأة تضحيتها العبثية لأجله.
تهرب ليلى من المنزل كل ليلة إلى مرقد ولي البلدة المقدس، فعبثية خياطة الثوب لم تعد تكفي لمماطلة زوجها، الذي ينتظرها في الفراش. وفي هروبها اليومي ينير دربها نور الفانوس، الذي يقودها إلى حقيقة روحية (في المرقد أم في داخلها؟). تبدع الكاميرة بتصوير الصمت السحري في المرقد، بشاعرية الإضاءة الشفافة، التي تنشرها شمعات تتراقص ألسنة لهبها فتنشر فيه دفئاً روحياً عميقاً. هنا، تكتسب ليلى قوى روحية من قداسة المكان؛ قداسة مختزنة منذ أزمنة قديمة، عمق الحكاية المزروعة فيه. وبالأحرى، سيفجر فيها المكان طاقاتها الروحية الحبيسة، طاقة “الإلهة الأم” من عصر الأمومة، التي تمنح الفرح والخصب والحياة لكل ما حولها. تتحدى بهما سلطة “الإله التوحيدي” القمعي، الذي يتحدث باسمه كل مستبد بطريركي؛ بدءاً من الديكتاتور الذي سجن أخاها في “المعتقل”، مع آلاف من أمثاله الساعين إلى “الحرية”، وصولاً إلى تفريخاته بصورة العجوز، الذي اشتراها سبية. وأداة تحديها المستمر هو صمت الأنثى المرعب، الذي يهزم الرجل البطريركي.
القوى الروحية المتفجرة فيها تجعلها قادرة على تسكين الأطفال الرضع، فيهدؤون، ويتوقفون عن الصراخ، والنسوة العاقرات يتباركن بها، فيحملن بعد طول انتظار. تمنح الجميع البركة وشعاع ابتسامة يشع من وجهها. أليست هي “الإلهة ـ الأم”، التي تمنح الحياة؟
في لحظة حمل زوجة طال انتظاره، يقوم الزوج بممارسة طقوس شكر باسمها ليلى “الإلهة ـ الأم”، وليس باسم الإله التوحيدي. في لحظة تلقيه الخبر، يرتل اسمها أنشودة صلاة، وهو يحتفل راقصاً في الهواء الطلق بإطلاق النار في الهواء، مقدماً لها أضحية خيالية دون دماء، بعكس ما يعشقه الإله التوحيدي الذكر وأتباعه الدمويون.
تصبح ليلى مدعوة إلى كل المناسبات الاجتماعية في البلدة، لأن وجودها يمنح الخير والبركة، وتضج الحياة بوجودها، وهي تمنح ابتسامتها للناس البسطاء، لكن ليس لزوجها العجوز. الابتسامة له تعادل منح جسدها، وهي لن تمنحه إياه أبداً. ولأول مرة نشاهد عرساً باحتفالية فرح، الناس يرقصون ويبتسمون، وليلى بينهم مبتسمة، وجودها أشعل الحياة في البلدة. وعندما يحضر شيخ البلدة التقي إلى العرس، تتراكض الفتيات لتقبيل يده تبركاً به، وليلى بينهم، فيمنعها عن ذلك. ثم يلثمها بأبوية في جبينها اعترافاً بقداستها، وهي القبلة الوحيدة التي لم يمنحها لأي امرأة في حياته من قبل.
“الراوي” في التراجيديا الإغريقية هو من ينشد الحكاية بطريقة خطابية، أثناء عرض المسرحية، كي يتطهر المشاهدون من آلامهم وأحزانهم، وهو ما يتناسب مع عقلانية الإغريق. لكن في مجتمع شرقي لا مكان لراوٍ مسرحي عقلاني، وإنما راو ينبع من حميمية المكان وأصالته الشاعرية، من الحزن المختزن فيه. يغدو الراوي هنا عازف الربابة، يروي الحكاية بعزفه المستمر كل ليلة، ونلمحه فقط خيالاً شاعرياً مثل حلم، من وراء ستارة نافذة مضاءة، وكلماته هي موسيقى ربابته. لا نسمع صوت آلته الموسيقية، وإنما صوت موسيقى الفيلم، وبها ينظم إيقاع الحكاية. بل هو أشبه براو شهرزادي ليليّ، يروي حكاية ليلى كل ليلة، وهو موجود فقط لأجلها. يرويها لأهل البلدة، كي تتطهر أرواحهم بها، وللزمن، كي توثقها ذاكرة الأمسيات للأجيال القادمة؛ صرخة حرية عالية بـ”الصمت المتحدي”؛ “الملاذ”. وليلى هي التي تحضر له العشاء اليومي، تضعه أمام باب بيته، كي يستمر بموسيقاه التي تنظم بها الحكاية.
وليلى لا تستسلم للعجوز، لا باللين، ولا بالعنف. تتقوى بصمتها، الذي يلازمها طوال الفيلم. هو التحدي، تقاوم به الجلاد، الذي اعتقل أخاها، والعجوز البطريركي المخادع الكاذب. صمتها شبيه بصمت بينلوبي، وهي تحيك بساطها، تطيلان أمد الحكاية بانتظار عودة الغائب. وعندما يقرر العجوز المستبد السيطرة على ليلى بالعنف (كما حاول الديكتاتور مع المنادين بالحرية)، فيرمي من يديها عشاء الراوي ـ المغني، ويمنعها من الخروج من المنزل، كي تتوقف حكايتها الشهرزادية، بالخضوع له، والمضي إلى فراشه البطريركي، نفهم عندئذٍ أن المواجهة قد وصلت إلى الذروة.
لن تستسلم ليلى، رغم قدوم والدتها من المخيم لزيارتها، التي تنقل لها تهديدات العجوز بلطف ولين… العاصفة الغبارية بغضبها الشديد في البلدة تأخذ رمزيتها أيضاً داخل ليلى. الطبيعة تعلن غضبها، كما ليلى. خرج المارد من قمقمه، ولن يعود إليه، فتُصَّعد ليلى المواجهة، ليس بالصمت الذي لم يعد يُجدي، وإنما بتقديم نفسها، في لحظة قدسية، أضحية عشتارية في وجه كل الظالمين؛ أضحية كي تنقذ أخاها أحمد من غياهب “المعتقل”، كما تنقذ الإلهة عشتار حبيبها الإله تموز من ظلمات العالم السفلي. يتحرر الإله تموز من ظلماته في العالم السفلي، حيث كان محتجزاً، فيمارس طقوس الخصب مع عشتار من جديد، ليظهر الخير مع ربيع الحياة (كما مع ثورات الربيع العربي، التي كان من المفترض أن تجابه استبداد الخريف العربي).
هكذا، تقدم ليلى نفسها أضحية على مذبح حرية أخيها، لقمع جلاده، وجلادها العجوز. تمضي إلى موتها راضية تحت شجرة الزيتون، رمز التجذر في الأرض والذاكرة والحكاية، وتهطل الأمطار غزيرة مدرارة على البلدة، كما لم تهطل من زمن بعيد. تغتسل الأرض الجرداء الكئيبة العطشى من أحزانها وقهرها بالمطر، كي تتجدد زيتوناً واخصراراً. ويخرج أحمد من “المعتقل”، يجتاز صحراء الحدود الخطرة، التي يترصد فيها له الموت في كل خطوة، كما كان يترصد لأوديسيوس في بحار عودته، وينجوان. تنجح تضحية ليلى بنفسها ورمزيتها على مستوى الوطن بإنقاذ أخيها أحمد. “الحرية” تحتاج إلى التضحية، كي نتحرر من الظلم. ومع تضحية ليلى، “موتها”، يختفي الراوي وربابته. انتهت أسطورة ليلى التراجيدية.
لكن الأسطورة تحتاج إلى نهاية، عندما يفرج الجلاد عن أحمد من “المعتقل الدموي”، كي تبقى حكاية محفورة في جدار الذاكرة، تتحدى الزمن. يعود باحثاً عن أخته، وعن أحلام الطفولة الشفافة المفتقدة، في زمن كانا يعيشان فيه بحرية. وعندما أراد الانتقام من العجوز الجلاد، يعرف أن “من حبسوك هم الذين قتلوها”، و”نحن جميعاً قتلناها”. يقرر أن ينتقم على طريقته، بأن يرسم الحكاية على جدار الزمن للذاكرة والتاريخ، حكاية طفولته مع أخته، حكاية جيل، وأجيال ناضلت طويلاً من أجل الحرية ولازالت.
ينتهي الفيلم، وتلاحقنا الموسيقى والمكان، قصيدة بصرية مذهلة. وستذرف دمعة مع أحمد، إذا شاهدته بشفافية روحك.
كل منا يكتب “الحكاية السورية” بأصالتها وتوقها للحرية بطريقته، بعيداً عن سلطة “البوط العسكري” و”السيف الإسلامي”. نحن نهزمهم بحكايتنا التي ستوثق نضالات سلمية طويلة من أجل الحرية. أحمد يكتبها بذكريات حريته رسوماً على جدار الزمن، وثائر موسى المبدع يكتبها بفيلمه “مزار الصمت” (وأنا أحاول أن أكتبها بمشروعي الروائي).
الحكاية السورية هي حكاية “ربيع عربي” يتوق إلى “الحرية”، وثائر موسى أبدعها قصيدة بصرية خالدة، للذاكرة وللمستقبل، قصيدة أعادت المعنى لإنسانيتنا المهدورة، قصيدة أعادت للسينما السورية ألقاً شاعرياً، اختفى تحت سطوة “الديكتاتور” و”شبيحته” الذين يتزيون بالثقافة شهادة تزوير للتاريخ.
كم من الإسقاطات السياسية للفيلم على “الربيع السوري” و”الربيع العربي”، وعلى كل “ربيع قادم”. والأهم كم من الإسقاطات الإنسانية عن كرامتنا المهدورة. هو حكاية الإنسان الثائر الباحث عن الحرية ضد “الديكتاتور ومعتقله”، وضد كل “الاستبداد الشرقي” الذي مازال متشبعاً في ذواتنا المتعجرفة. الفيلم هو حكاية “المرأة الرمز عشتار”، التي ضحت بنفسها في “المعتقلات”، وفي “مخيمات التهجير”، وفي “المنافي”، كي تعيش فكرة الحرية.
ثائر شاعر متألق بقصيدته البصرية “مزار الصمت”. وهذا الفيلم لن تستطيع مشاهدته إلا بروح شفافة، وترغب بالعودة إليه مراراً وتكراراً… ثائر هو ثائر، صدى التوق في ذواتنا إلى حكايتنا، إلى حريتنا.
شهد الكاتب هرمان هسّه، الحائز على نوبل 1946، الحربين العالميّتين الأولى(1914-1918) والثانية(1939-1945) وناهضهما بشدّة، كمناهضته للحروب عامّة. في مقال بعنوان “الحرب والسلام”، كتبه سنة 1918، يقول:” إنّهم على حقّ وبلا أدنى شكّ أولئك الذين يصفون الحرب بأنّها حالة بدائيّة وطبيعيّة. ولطالما يتصرّف الإنسان مثل الحيوان فإنّه يعيش الصراعات دوماً. والسّلام أمر يصعب تعريفه ونحن لا نعرفه، إنّما بإمكاننا الإحساس به والبحث عنه، هو مثلٌ أعلى إنّما شديد التعقيد، لا استقرار له وجميعنا يعرف القاعدة الجوهريّة:” لا تقتل!”.”لا تقتل” لا تعني ألّا تؤذي غيرك! بل ألّا تحرم نفسك من الآخر كي لا تؤذي نفسك.”لا تقتل” تكاد تعني “لا تتنفّس!” ويرى هسّه أنّ الخوف لا يعلّم البشر، ولطالما يجدون في الحرب متعة فلن يأبهوا بذكريات الخراب والدمار، أو يرتدعوا عن إشعالها باستمرار.
لكنّ هسّه بدا أكثر تفاؤلاً في مقال آخر كتبه 1948، بعنوان “عن رومان رولان”، المفكّر الثوري والأديب الفرنسيّ الحائز على نوبل 1915، بيّن فيه إمكانيّة تحقيق السلام انطلاقاً من إيمانه بالمعرفة؛ معرفة الداخل الإنساني وتلمّس الطاقة النورانيّة الكامنة فيه. وبوجود كثير من المؤمنين الصادقين خارج الكنائس والطوائف يرعبهم انحطاط الروح الإنسانيّة وتغييبها للسلام وزعزعة الثقة في العالم، من بينهم رومان رولان، وليو تولستوي أستاذ هذا الأخير، والمهاتما غاندي الذي خصّه رولان بأحد مؤلّفاته. يقول هسّه:” مات الثلاثة العظام لكنّهم ما يزالون أحياء في قلوب الآلاف، يؤازرونهم لصون إيمانهم ورفع مشاعلهم لتنوير هذا العالم البليد والفاقد للعقل.”
وإذاً، لا أمل في تحقيق سلام مستقرّ إطلاقاً، لتتأبّد صرخة كازينتزاكس التشاؤميّة:” لا جدوى يا يسوع، لا جدوى.” خاتمة روايته شبه الملحميّة “المسيح يصلب من جديد”، وتحكي إلى جانب آلام المسيح خلال صلبه، عن صراع البشر التاريخيّ لخلق حياة إنسانيّة أرقى. إنّما عبثاً! صدرت الرواية سنة نشوب الحرب العالميّة الثانية، وبعد عامين من صدور رواية إيريش ماريّا ريمارك “لا جديد على الجبهة الغربيّة.” وعندها أتوقّف قليلاً لأسباب أدرجها فيما يأتي.
يعدّ النقد “لا جديد على الجبهة الغربيّة” من أفضل الروايات التي تناولت موضوع الحرب، إن لم تكن أفضلها. صدرت عن دار أثر/الدمّام 2020، في نسخة جديدة، وللمرّة الأوّلى في ترجمة مباشرة من الألمانيّة إلى العربيّة، أنجزتها المترجمة ليندا حسين.
تحكي الرواية عن الإنسان وتحديداً عن الجنديّ في خوضه الحرب العالميّة الثانية. سبعة جنود/شخصيّات الرواية الرئيسين، زملاء صفّ مدرسيّ واحد في سنّ الثامنة عشرة. يجدون أنفسهم بغتة بعيداً عن الأهل والديار غرباء على الجبهة الغربيّة؛ مكان هو مسكن للموت المتربّص بهم كوحش جائع، للحمّى، للهذيان والجنون! وفيه سيكتشفون العالم وأنفسهم؛ حقيقة قيمهم وأخلاقهم؛ أفكارهم وقناعاتهم، إزاء خيارين وحسب، أن يكونوا قتلة أو مقتولين في حرب لا تخصّهم بشيء، حرب غير شرعيّة ولا أخلاقيّة هدف قادتها الوحيد توسيع نفوذهم وأطماعهم الاستعماريّة. فإقرار الحروب تتفرّد به الحكومات والسلطات السياسيّة، فلم يحدث في التاريخ أن شنّ شعب حرباً على شعب آخر، والشعوب هم وقود الحرب وضحاياها. تلك حقيقة موجعة واجهها الأصدقاء، ليتعاطف الراوي الجندي بول بويمر مع جنديّ فرنسيّ عدوّ مصاب، ويحاول إنقاذه.
عند استشهاد أوّل الزملاء، يطرح الجندي بويمر السؤال العبثيّ المؤلم: “الآن يرقد هنا، لأجل ماذا؟” سؤال يصعب حدّ الاستحالة أن يطرحه جنود يخوضون حرباً شرعيّة أخلاقيّة وواجبة وطنيّاً تقرّرها الشعوب بنفسها لطرد الاحتلال من أراضيهم. شاسع هو الفرق بين حرب استعماريّة، وبين حرب شعب يقاوم الاستعمار لتحرير بلاده، وصون ذاكرته ولغته وهويّته الموحّدة، كحرب غزّة ضدّ الكيان الصهيونيّ الغاصب.
في رواية ريمارك، تباغت الجنود الزملاء اكتشافاتهم المريرة: نفاق العالم وانحرافه بمؤسّساته المختلفة؛ التربويّة والتعليميّة، العسكريّة والدينيّة! فما الذي تغيّر في العالم حتّى اليوم؟ لا شيء! تكفي حال البلدان العربيّة في حروبها الراهنة شواهد لاستفحال النفاق والفساد والاستبداد وقتل حتّى المشاعر الوطنيّة، إضافة إلى توحّش هذا العالم “الفاقد لعقله” الذي تديره وتقرّر مصيره المصالح الخاصّة لثلّة من دول العالم “المتحضّر” الاستعماريّة أصلاً، تتسيّدها أمريكا! ومن بين فضائل المقاومة الغزّاويّة الفلسطينيّة الباسلة تعريتها للكيان الصهيونيّ الهشّ واللّا أخلاقيّ، وفضحها للعالم الرسميّ وضميره الميت، وللموقف العربيّ الذليل! حقّاً، يستحضر الغزاة حكّاماً عبيداً لهم، طغاة على شعوبهم. فتحالفهم حتميّ لضمان استقرارهم معاً!
في عودة للرواية، قتلت الحرب جسد الراوي بويمر، في حين قتلت روح الروائيّ ريمارك الذي خاضها بدوره. وسيثير كلاهما غضب هتلر والنازيّين، فتُحرق الرواية وكتب أخرى لريمارك، تُسحب منه الجنسية، وبدمغة خائن للوطن يُنفى إلى الخارج! وأدى تصاعد حدة التطرّف النازيّ إلى منعه من العودة إلى وطنه، ليموت في منفاه. ويجنّ جنون النازيّين لعرض أوّل فيلم مأخوذ عن الرواية ذاتها في ألمانيا، لدرجة أنّهم خلال العرض أثاروا الصخب فوق رؤوس المشاهدين، وأطلقوا الفئران بين أقدامهم! هترليّون نازيّون متعطّشون لخوض حرب عالميّة ثانية انتقاماً لهزيمتهم في الحرب الأولى، فيُهزمون مجدّداً؛ دُمّرت ألمانيا وانتحر هتلر!
ألا يذكّر هتلر بجنون عظمته وإجرامه وسعيه لإبادة من ليسوا ألماناً، بالمجرم نتنياهو المؤمن بتشريع الدين الصهيونيّ العنصريّ لاستعباد من ليسوا يهودا/”الغوييم” وإبادتهم؟! ألا يتطابق موقف هتلر المتنصّل من معاهدة فرساي 1919، التي شاركت ألمانيا في انعقادها، وأشعل شرارة الحرب العالميّة الثانية بغية تحقيق النصر انتقاماً لهزيمة بلاده في الحرب الأولى، مع موقف نتنياهو الناكر لاتفاق “أوسلو”-غير العادل أصلاً بحقّ الشعب الفلسطينيّ وخرقه لقوانين الحرب الدوليّة، ليمعن وما يزال في ارتكاب مجازره المروّعة انتقاماً لهزائمه المتلاحقة؟ يعجزه صمود المقاومة المدهش، صاحبة الأرض الشرعيّة، وقد عرّته أمام العالم: فنتنياهو ليس مقاتلاً، إنّما مجرّد قاتل متوحّش! ثمّ ألا يماثل نتنياهو هتلر بمحاولات طمسه لكلّ ما يصدر من نقل للوقائع والحقيقة، سواء صدر عن المقاومة أو عن أبناء جلدته، ولهؤلاء قانون لعقوبتهم؟ وقد بلغ الكذب والتزييف والتزوير لديه مبلغاً عالي الصفاقة، كأسلافه الصهاينة، بدءاً من تزوير التاريخ وليس انتهاء بآخر كمين أوقعت وستوقع فيه المقاومة جنوده! وما يزال يلزمهم من الأكاذيب والتزوير زنة ثلاثة آلاف عام من عمر وجود الشعب الفلسطيني على أرض كنعان العربيّة، الاسم الذي رافقها حتّى سنة 1200ق.م، مع غزو القبائل الكريتيّة لها، فسمّيت فلسطين وبقيت للفلسطينيّين وحدهم.
أليست الصهيونيّة الوجه الآخر للنازيّة؟ وفي الأحوال كلّها، الطاغية هو الطاغية!
ورجوعاً للرواية، وفيها نلقى اختلاف حول مآل معنى الكتابة وجدواها، في حالات الإحباط، فقد باتت تمثّل لبويمر اليائس خلاصاً شخصيّاً وفرديّاً. أمّا لدى ريمارك فإلى جانب أهمّيّتها على الصعيد الشخصيّ، فلها هدفها الأخطر على الصعيد العام، وضمّن روايته صرخته الإنسانيّة لشجب الحروب وإيقافها، وتحقيق حياة إنسانيّة عادلة وكريمة هي حقّ شعوب الأرض قاطبة. صرخة ساهمت في شهرة الرواية الواسعة.
لا شكّ تبقى الكلمة سلاح المثقّف الأوحد لمحاربة الظلم والطغيان، وتجفيف الحبر محال كتجفيف البحر. حتى وإن دفع مثلاً غزو الصهاينة لبيروت وحصارها 1982 بخليل حاوي للانتحار، ولشلل الكتابة لدى محمود درويش لأربع سنوات. لكنّ درويش تجاوز إحباطه، ففي سنة 1985، أجاب على سؤال أحد محاوريه عن دور الشاعر الفلسطينيّ في ظلّ غياب الأمل المطبق، قائلاً:” أن تكون شاعراً فلسطينيّاً، في هذه اللحظة، معناه أن تحوّل تساؤل هاملت إلى حسم، فبدلاً من القول:” أن تكون أو لا تكون عليك أن تقول:” أن تكون أو تكون: هذا هو القرار.”
إذاً، حين تعجز الكلمة وتسكت على السلاح أن ينطق. فلا حياة إنسانيّة حقيقيّة في أرض محتلّة!
ومجدّداً، وبحزم أشدّ اتخذت المقاومة الفلسطينيّة اليوم “القرار”.
في التاسع من يناير، نشرتْ صحيفة “ذا غلوب آند ميل” – التي تُعد من أعرق الصحف الكندية – مقالة لقاضية محكمة كندا العليا السابقة روزَلي أبيلا بعنوان” قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضد إسرائيل انتهاكٌ للنظام القانوني لفترة ما بعد الحرب”تهاجم فيها جنوب أفريقيا لاتهامها إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ورفعها قضية ضدها في محكمة العدل الدولية، أثارت مقالة القاضية أبيلا جدلاً واسعاً في كندا، وفي بعض الدول الغربية، إذ عدّها البعض موقفاً رسمياً للدولة الكندية، بينما بجلّها البعض الآخر ورفعها إلى مقام الوثيقة التي فنّدت ادعاءات أعداء إسرائيل.
تداول داعمو الكيان الصهيوني وشرائح واسعة من اليمين الكندي المقالة، وأعيد نشرها في كثير من المواقع والمدونات. ورغم إشارة بعض الخبراء القانونيين وأساتذة الجامعات بأنّ المقالة لم تتطرق للحجج القانونية المُقدّمة في وثيقة جنوب أفريقيا، لم يعبأ الكثير لآرائهم، وتمت مهاجمة البعض واستدراجهم إلى مناوشات “وماذا عن” (whataboutism)، ووجهت لبعضهم تهمة مساندة الجماعات الإرهابية.
تدّعي القاضية في مقالتها أن هدف حماس الأساسي هو القضاء على اليهود نهائياً. وتقول في مقالتها إنّ “القضاء على اليهود هو إبادة جماعية. ولهذا السبب قامت حماس بقتل واغتصاب وقطع رؤوس واختطاف وتعذيب اليهود في السابع من أكتوبر 2023.”
على الرغم من دحض ادعاءات قطع رؤوس الأطفال وعدم إثبات وقوع حوادث اغتصاب، تقدّمها القاضية كحقائق في بداية مقالتها قالت إن رفع قضية ضد إسرائيل أمرٌ معيبٌ ومخالف لأهداف الاتفاقيات العالمية، وعلى رأسها اتفاقية الإبادة الجماعية، التي صيغت وأقرّت نتيجةُ للهولوكوست والإبادة النازية لليهود.
قدّمت أبيلا نفسها كيهودية وابنة لأحد الناجين من الهولوكوست. وادّعت أنّه من المخزي محاكمة اليهود بجريمة الإبادة الجماعية، وترك مسألة ما يحدث في غزة لحكم التاريخ.
في اليوم التالي، استيقظت كندا على مقالة الصحفي اليساري دافيد ماستراتشي، محرّر صفحة الرأي في صحيفة The Maple وأحد أشهر وأشرس الصحفيين المدافعين عن القضية الفلسطينية في كندا. لم يكتفِ ماستراتشي بدحض ادعاءات القاضية أميلا، بل فضح استخدامها لهويتها اليهودية وكونها ابنة أحد الناجين من المحرقة.
كشف ماستراتشي أن السردية التي تبنى على خصوصية نسل الناجين من الهولوكوست لا تقدّم لنا حججاً معرفية وثقافية بقدر ما تخفي وتغلّف الحقائق وتستخدم لأغراض سياسية، وعلى رأسها دعم إسرائيل وإخفاء جرائمها.
هنا ترجمة مقالة ماستراتشي المنشورة في العاشر من يناير:
بالأمس نشرت صحيفة “ذا غلوب آند ميل” مقالة ً كتبتها قاضية محكمة كندا العليا السابقة روزالي أبيلا تدّعي فيها إن رفع جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية “أمرٌ مخزٍ ومعيب”. في الحقيقة، إ ن شخصاً بإنجازات القاضية أبيلا يجب أن يخجل من وضع اسمه ككاتب للمقالة المنشورة.
بطبيعة الحال، سيتساءل القارئ عما أفعله كصحافي، بالنسبة للأصدقاء، أو “مدوّن” (في أحسن الأحوال) بالنسبة للأعداء، مع عدم وجود أي إشارة لحصولي على شهادة في القانون، عندما أجادل في قضية قانونية مع خبير قانوني وقاضي سابق، مثل أبيلا. سؤالٌ جيد، غير إن الإجابة بسيطة: مقالة أبيلا تتجنب بشكل كامل تقريباً أية مناقشة للقضايا القانونية أو الحقائق المطروحة في الوثيقة التي قدمتها جنوب أفريقيا للمحكمة، وتطرح بدلاً من ذلك حجّة مبنية على مشاعرها وتصوراتها الخاصة وهو أمر أشعر أنني مؤهل لدحضه.
لقد اقتبستُ أجزاء من مقالة أبيلا تشكّل أغلبية حججها بالخط العريض أدناه، وقمت بالرد على كل منها.
“بالنسبة لي، تمثّل هذه القضية انتهاكاً صارخاً ومشيناً للمبادئ التي يقوم عليها النظام القانوني الدولي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية.”
تشرح وثيقة جنوب أفريقيا المؤلفة من 84 صفحة لماذا تعد محكمة العدل الدولية الكيان المناسب لقضيتها (ضد إسرائيل). يشير الطلب المرفوع للمحكمة إلى ما يلي: أولاً، أن جنوب أفريقيا وإسرائيل عضوان في الأمم المتحدة – التي تأسست عام 1945، وطرفان في اتفاقية الإبادة الجماعية – التي أقرّت عام 1948. ثانياً، لم تعرب أي من الدولتين عن تحفظها على المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تدعو إلى عرض النزاعات المتعلقة بمسائل الإبادة الجماعية بين الأطراف على محكمة العدل الدولية. ثالثاً، يجوز لأي طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية رفع قضية ضد طرف آخر؛ وأخيراً، يجب على جنوب أفريقيا كطرف في اتفاقية الإبادة الجماعية الالتزام بمنع وقوع جريمة الإبادة.
كما أوضحت جنوب أفريقيا أنّها تتبع قواعد الهيئات والمؤسسات التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي وافقت عليها وعلى شروطها وأحاكمها، كما وافقت عليها إسرائيل. لا تجادل أبيلا أياً من هذا قانونياً. بدلاً من ذلك، تفترض أبيلا أنه ليس لدى جنوب أفريقيا سبب مشروع لرفع هذه القضية لأنها فشلت قبل تسع سنوات في اعتقال زعيم دولة مطلوب بناءً على طلب من محكمة أخرى. بتعبير آخر، لا يوجد أساس قانوني.
“من السخافة القانونية اقتراح أن الدولة (إسرائيل) التي تدافع عن نفسها من الإبادة الجماعية (من حماس) مذنبة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية”.
قدمت جنوب أفريقيا في طلبها للمحكمة حالة مفصّلة مفادها أن إسرائيل بصدد ارتكاب إبادة جماعية، مستندة ًإلى مجموعة متنوعة من المصادر في وثيقة تحتوي على أكثر من 570 حاشية مصادر. كما تذكر الوثيقة العديد من هيئات الأمم المتحدة وخبرائها الذين أعربوا، منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول، عن قلقهم إزاء قيام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية: أكثر من 30 مقرراً خاصاً للأمم المتحدة؛ أكثر من 28 عضواً في فرق العمل التابعة للأمم المتحدة؛ لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري؛ مدير مكتب نيويورك للمفوضية السامية لحقوق الإنسان؛ والمقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد النساء والفتيات.
تدّعي أبيلا أن حماس ارتكبت جريمة إبادة جماعية بناءً على افتراض قتل حماس لليهود (الإسرائيليين) “لأنهم كانوا يهوداً”. هذا ادعاء كاذب في حد ذاته، لأن حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية تعارض إسرائيل لأنها كيان محتل، لا لأن غالبية مواطنيها يهود. وحتى لو افترضنا صحة هذا الادّعاء، لم تقدّم أبيلا أيّة مثالٍ، أو استدلالٍ لباحثين أو منظمات أو هيئات قانونية خلصت إلى أن ما ارتكبته حماس في 7 أكتوبر كان جريمة إبادة جماعية – (وأعني استدلالا واقعياً) لا مجرد وصفها ما ارتكبته بالجرائم المشينة أو غير القانونية أو حتى جرائم حرب، بل وصفها بالإبادة الجماعية.
ولنذهب أبعد من ذلك، حتى لو كان ذلك صحيحاً، لم تستشهد أبيلا بأي جزء من اتفاقية الإبادة الجماعية ينص على أنه من المسموح لك ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حال اعتقادك أن طرفاً ما يحاول جعلك ضحيةً لها. وكما تنص دعوى جنوب أفريقيا، فإن “الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية أكّدت بوضوح على استعدادها لاعتبار الإبادة الجماعية جريمة بموجب القانون الدولي، ويجب عليهم منعها والمعاقبة عليها بشكل مستقل عن سياق “السلام” أو “الحرب” الذي ارتكبت فيه”.
وبطبيعة الحال، فإن تأكيد أبيلا بأن ما تفعله إسرائيل في غزة يقتصر على مجرّد “الدفاع عن نفسها” قد فُنّد ونقضَ في الجزء الأكبر من تقرير جنوب أفريقيا، الذي يذكر أن إسرائيل ارتكبت ما لا يقل عن سبعة أفعال إبادة، وهذا يتضمن: قتل الفلسطينيين بأعداد كبيرة؛ فرض ظروف معيشية قاسية على الفلسطينيين بهدف إبادتهم كمجموعة بشرية؛ طرد الفلسطينيين من منازلهم وتدمير مناطقهم السكنية؛ حرمان الفلسطينيين من الغذاء الكافي والمياه والرعاية الطبية والمأوى ومرافق النظافة والصرف الصحي؛ وتدمير المجتمع الفلسطيني؛ إضافة إلى منع الولادات الفلسطينية.
“نجد أنفسنا اليوم في وضع معاكس حيث تتمكن منظمة تقوم بالإبادة مثل حماس من الإفلات من العقوبة أو المحاسبة القانونية لارتكابها أفعال إبادة، في حين تُستدعى الدولة المستهدفة بالإبادة إلى محكمة العدل الدولية للدفاع عن نفسها من مزاعم ارتكابها جريمة الإبادة “.
إن فكرة أن حماس ستفلت من العقوبة أو المحاسبة القانونية، أو أنها أفلتت من ذلك سابقاً، لا تتجاوز كونها فكرة سخيفة. فقد بدأت المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق فيما ارتكبته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما أورد طلب جنوب أفريقيا للمحكمة أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ذكر أن احتجاز الرهائن “يمثل انتهاكاً خطيراً لاتفاقيات جنيف”. وبطبيعة الحال، صُنّفت حماس إجمالاً كمنظمة إرهابية من قبل ست دول (بما في ذلك كندا عام 2002) وجميع دول الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن حماس، وكذلك جميع المشتبه في دعمهم لها في الخارج، يواجهون عقوبات قانونية على عكس مؤيدي جرائم الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل.
كما أعتقد أنّ أية حكومة في العالم تفضّل أن تكون محل إسرائيل (في مواجهة تحدي قانوني قد لا يعني الكثير ضدها على المستوى العملي حتى لو نجحت القضية) بدلاً من أن تواجه ما تواجهه حماس (من تدمير لبلدها والفتك بناسها). تواجه حماس عواقبَ أسوأ بكثير من تلك التي تواجهها إسرائيل، وعلى كافة النواحي، بالرغم مما تسببته إسرائيل من الموت والدمار الذي نلتمسه الآن، والذي سيبقى أثره ما دامت حماس موجودة.
“هذه إهانة لما تعنيه الإبادة الجماعية، وإهانة للاعتقاد بقدرة المحاكم الدولية على الاحتفاظ بشرعيتها وتجاوز السياسات العالمية، وإهانة لذاكرة جميع من صيغت اتفاقية الإبادة الجماعية نيابة عنهم.”
لقد تعرضت المؤسسات العالمية مثل محكمة العدل الدولية على مدى سنوات لانتقادات لاذعة بسبب الاستخفاف بدورها واضعافه، على سبيل المثال، من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الذين يفرضون هيمنتهم للإفلات من المحاسبة والعقوبات التي تفرض من جهة أخرى على دول جنوب العالم. وبالنسبة للغالبية، فإن تعامل محكمة العدل الدولية بجدّية مع الملف المرفوع ضد إسرائيل قد يعزّز من دورها وشرعيتها.
ولكن لا علاقة لهذا بموضوع القضية، ولا بتفسير أبيلا.
“سيحكم التاريخ على رد إسرائيل على هجوم حماس الهادف للإبادة في السابع من أكتوبر، ويحدد ما إذا كانت الإجراءات الانتقامية التي اتخذتها إسرائيل لحماية أمنها تتوافق مع القانون. هذه مسألة قانونية ستوازن بالضرورة ما بين الغاية والسبب والنتيجة والسياق. […] ستكون هناك محاسبة بالتأكيد ــ لو أظهر العالم القدر نفسه من الاهتمام بإخضاع الدول الأخرى للمساءلة القانونية.”
إذاً لماذا يوجد نظام قانوني إذا كان بمقدور “التاريخ” الحكم على الناس بشكل جيّد؟ هذا تصريح غريب من شخص قضى معظم حياته في العمل القانوني، بما في ذلك تقليده أعلى منصب قانوني كقاضي في المحكمة العليا في كندا. القضية المرفوعة لمحكمة العدل الدولية قانونية بالأساس، ولا حاجة أبداً لانتظار “التاريخ”.
تطالب جنوب أفريقيا محكمة العدل الدولية بالحكم على إسرائيل بوجوب: وقف الأعمال التي تنتهك التزاماتها القانونية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية؛ ضمان معاقبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات على المستوى المحلي أو الدولي؛ جمع وحفظ أدلة وقوع جريمة الإبادة الجماعية؛ تقديم تعويضات للفلسطينيين؛ وتعهدها للمحكمة والعالم بعدم تكرار فعلتها مرة أخرى. وفي هذه الإثناء، لا يمكن لـ “التاريخ” إصدار أحكام يمكن فرضها على المستوى الدولي على النحو الذي تستطيع محكمة العدل الدولية فعله، من الناحية النظرية على الأقل.
إن تلميح أبيلا إلى أن السبب الحقيقي لمثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية هو معاداة السامية أمرٌ مخز ومعيب، خصوصاً أن هناك قضية مرفوعة ضد روسيا في محكمة العدل الدولية بنفس التهمة، وبدعم دولي أكبر.
” تكمن مأساة الحرب التي لا تطاق في قتل ومعاناة المدنيين الأبرياء، ولا شك أن مقتل ومعاناة آلاف المدنيين في غزة مأساة لا تحتمل. ولهذا السبب طوّر المجتمع الدولي مجموعة من الوسائل والأجهزة القانونية رفيعة المستوى بعد الحرب العالمية الثانية: لمنع الصراعات العالمية، وتقليلها، ومعاقبة المخالفين.”
هذه حجة تدعم موقف جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، وليست ضده.
“بعد خمسة وسبعين عاماً من ولادة اتفاقية الإبادة الجماعية ودولة إسرائيل، وكلاهما نهض من رماد معسكر أوشفيتز النازي، نجد أن الإبادة الجماعية والاغتصاب والتعذيب منتشرة بشكل صارخ في أماكن كثيرة في العالم. ومع ذلك، فإن الدولة التي تجد نفسها كصورة رمزية للإبادة الجماعية هي إسرائيل”.
مرة أخرى، لا علاقة لكل هذا بموضوع القضية. جرائم “الإبادة الجماعية والاغتصاب والتعذيب” التي تحدث بعيداً عن غزة لا تبرر حدوثها في غزة، وأي دولة من الدول الموقّعة على اتفاقية الإبادة الجماعية (بما في ذلك إسرائيل) قادرة على رفع دعوى ضد أية دولة أخرى تجد أنّها مذنبة بارتكاب مثل هذه الجرائم.
ليست إسرائيل الدولة الوحيدة المتهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية. ولكن كما يشير طلب جنوب أفريقيا إلى أهمية تنفيذ التدابير الفورية، إن استمرار الجرائم الإسرائيلية وطبيعتها الوحشية تتطلب تدخّل المؤسسات الدولية العاجل.
ومن الجدير بالذكر أنّ الغرب قدّم بشكل جماعي لضحية أخرى (أوكرانيا) يُزعم أنها تعرضت للإبادة الجماعية أسلحة بمليارات الدولارات وغيرها من الدعم المطلوب للدفاع عن نفسها. ولا حظ لغزة بمثل هذا الدعم!
“كمحاميةً، أجد أنّه أمرٌ مخزٍ؛ كيهودية، أشعر أنّه شيءٌ محزن؛ وباعتباري ابنة أحد الناجين من المحرقة، فأرى أنّه أمرٌ مرفوضٌ قطعاً”.
تقوم شخصية قانونية محترمة ورفيعة بتجاهل القانون لكتابة مقالة مبنية على سياسات الهوية، كما لو أن كونها يهودية أو ابنة أحد الناجين من المحرقة له صلة بموضوع القضية.
ما تكشفه مقالة أبيلا، وما أصبح واضحاً في ظل الدعم الذي تحظى به الإبادة الجماعية لغزة في شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي وأجزاء من المجتمعات اليهودية خارج إسرائيل، هو أن كونك من نسل الناجين من جريمة الإبادة الجماعية لا يضمن لسوء الحظ معارضتك لها عند وقوعها على ضحايا آخرين في المستقبل. وكأنّ عبارة “لن يحدث مرةً أخرى” بالنسبة لعدد من هؤلاء تعني “لن يحدث لنا نحن مرةً أخرى”.
كم أتطلع لرؤية مناقشة جادة لمزايا ملف جنوب أفريقيا القانونية.
يصعب الحديث اليوم عن التوجهات والأفكار العلمانية في سوريا، في ظل الواقع الذي وصلت إليه القوى والتيارات العلمانية، بعد انحسار وجودها وتراجع دورها وتأثيرها على حساب الدور الذي باتت تلعبه المؤسسات والتيارات الدينية أو الاجتماعية، على اختلاف أيديولوجياتها وتوجهاتها. وعند سؤال بعض الشباب عن التوجهات العلمانية في سوريا وعن مفهوم العلمانية بشكلٍ عام، كان واضحاً مدى التباس فهمهم للعلمانية، فبعضهم يراها مجرد فكر مادي يقوم على الإلحاد، أو أنها فكر يتبنى العلم ويسعى لنشر ثقافته، أو أنها نظام اجتماعي مدني يسعى لقوننة الحريات العامة، وهو ما يؤكد غياب أي مرجعياتٍ علمانية يمكنهم أن يحتذوا بها، أو أن يلجؤوا إلى خطابها لقراءة واقع العلمانية في سوريا، أو حتى لفهم أفكارها التي باتت مغيبة وفارغة الجوهر والمضمون.
ولفهم الواقع الذي وصلت إليه التوجهات العلمانية اليوم لابد من العودة إلى ماضي الحركات العلمانية في سوريا وتحديداً إلى نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي. وعن قراءته لتلك المرحلة، التي كان شاهداً عليها، يحدثنا اليساري والشيوعي السابق يوسف (65 عام): “معظم التوجهات العلمانية كانت تفتقد لأي خطابٍ علماني جذري وعميق أو واضح الهوية، وكانت محصورة ضمن القوى والتيارات اليسارية وبعض المنظمات المدنية، التي كان يقتصر وجودها على دمشق وبعض المدن، التي شهدت انفتاحاً وحراكاً ثقافياً، وتتمحور نشاطاتها حول بعض المواضيع والقضايا المجتمعية المستهلكة، كمناصرة تحرر المرأة وحقوق الطفل، وحملات مناهضة الزواج المبكر”. ويضيف: “معظم القوى المحسوبة على العلمانية كانت تحكمها الشللية والعلاقات الشخصية وتعاني من ضعفٍ كبيرٍ، جعلها عاجزة عن تشكيل جسمٍ موحد وهوية واحدة، أو الإجماع على رؤية وطنية أو فكرية مشتركة، لذا ابتعدت خطاباتها وممارساتها عن ملامسة أهم وأبرز القضايا السورية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الملحة، لتتبنى أفكاراً عامة لا تعني الشارع السوري، فيما اكتفى بعض العلمانيين بتأسيس منتدياتٍ وتجمعاتٍ مُصغرة ذات صبغةٍ ثقافية أو مدنية إجتماعية، تضم أعداداً قليلة من أصحاب الثقافات والتوجهات الفكرية المتنوعة، دون أن تتبنى أي فكر علماني حقيقي ومُعلن، أو خطاب سياسي وطني وعملي”.
يتقاطع رأي المدرس المتقاعد كمال (62عاماً / عضو سابق في حزب العمل الشيوعي) مع وجهة النظر السابقة، إذ يرى أن معظم توجهات التيارات العلمانية في تلك المرحلة قد فشلت لأنها “لم ترتقِ إلى مستوى الممارسة المطلوبة، وانحصرت ممارساتها في التنظير والشعارات، فيما كان يغيب عنها أي فهمٍ لطبيعة وخصوصة المجتمع السوري، وأي آلية عملٍ واضحة من شأنها أن تحول الأفكار العلمانية إلى ممارسات تنسجم مع ذهنية المجتمع، وهو ما جعلها عاجزة عن تحقيق قاعدة شعبية أو إحداث أي تغيير سياسي أو اجتماعي نوعي”. بحسب المدرس كمال الذي يضيف: “معظم أفكار وتوجهات تلك التيارات كانت ذات طابع ثقافي ومدني، وتتشابه طبيعة نشاطها مع نشاط الأحزاب المدنية والاجتماعية، كتقديم بعض الندوات والمحاضرات والأنشطة الثقافية والمجتمعية، إذ كان من النادر أن نجد تياراً راديكالياً يمتلك أيديولوجية علمانية واضحة، لها أفكارها وأدبياتها الخاصة، ولا يخلط بين الخطاب العلماني واليساري والمدني والثقافي”.
وخلال تلك المرحلة وبينما كانت معظم التيارات والقوى العلمانية والمدنية مغيبة الصوت ومشلولة الحركة كانت المؤسسات والجمعيات الدينية تزداد انتشاراً وتُشكل لها حضوراً فاعلاً داخل المجتمع السوري، فمقابل تراجع أعداد الأماكن الثقافية (صالات السينما، المسارح، والمنتديات الثقافية وغيرها) في مختلف المحافظات، تم بناء أكثر من عشرين ألف جامع، وافتتاح مئات المعاهد الدينية لتحفيظ القرآن، وتعليم مختلف العلوم الشرعية، هذا بالإضافة لافتتاح جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية، وكلية الداسات الإسلامية وعشرات المدارس الشرعية الحكومية والخاصة. وإلى جانب ذلك ظهرت الكثير من الحركات الدينية التي توغلت في مختلف بيئات المجتمع لتنشر أفكارها الدعوية وتعاليمها الدينية، ومن بينها حركة القبيسيات، التي استتقطبت عشرات آلاف النساء واستطاعت فرض مناهجها التعليمية والدينية الخاصة، والفريق الشبابي الديني الذي حقق نشاطاً بارزاً بين أوساط الشباب وداخل الجامعات.
وبالنظر إلى تلك المفارقات المثيرة للجدل تتساءل المحامية وداد (48 عام)، التي تتبنى الفكر العلماني : “إذا كان القانون السوري يمنع إنشاء أي حزب على أساس ديني أو طائفي، فكيف يسمح القانون ذاته بإنشاء جامعات ومعاهد ومنشآت تعليمية وجمعيات وحركات دعوية ذات طابع ديني، وفي الوقت ذاته يمنع نشاط الأحزاب المدنية والسياسية التي كان يصعب الحصول على التراخيص اللازمة لتأسيسها ؟”. مضيفةً “وبينما يغيب قانون الزواج المدني عن المحاكم السورية، نجد بالمقابل محاكم دينية وطائفية خاصة بالأحوال الشخصية والزواج الديني، كالمحكمة المذهبية للطائفة الدرزية، ومحاكم الطوائف المسيحية وغيرها”.
وترى المحامية أنه من الصعب تطبيق الفكر العلماني في ظل القانون السوري:”حتى اليوم مازالت معظم القوانين، تستمد نصوصها من الشريعة الإسلامية، خاصة قانون الأحوال الشخصية وبعض القوانين المتعلقة بالمرأة وحقوقها وعلاقاتها ضمن الأسرة، والتي تُظهر الكثير من التمييز بينها وبين الرجل، لتضعها في منزلة أقل شأناً منه، ولا توفر لها الحماية اللازمة من الوصاية الذكورية والعنف الممارس ضدها، بل تحرمها من نيل استقلاليتها المنشودة وحرية قرارها المستقل عن تبعية العائلة والزوج الذي يمنحه القانون ميزاتٍ وسلطة كبيرة، تُبقي المرأة في موقع الضعف والخضوع له” بحسب المحامية وداد.
التوجهات العلمانية بعد عام 2011
“خسر معظمها ما تبقى لها من قاعدة شعبية وفقدت أي تأثيرٍ ممكن لها، بعد أن نأت بنفسها عن حراك الشارع السوري، عاجزةً حتى عن تشكيل خطابٍ سياسي وطني واضح وموحد، لتترك الساحة السياسية لقوى الأمر الواقع، ولتحضر بشكلٍ خجول وشبه معدم ضمن التشكيلات السياسية البارزة التي شكلتها المعارضة، كالمجلس الوطني السوري، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة. وقد اقتصر خطاب بعض العلمانيين على التنظير والتحليل السياسي وانتقاد تجمعات المتظاهرين الخارجة من الجوامع، دون أن يقدموا أي وجهة نظر بديلة أو خطابٍ علماني أو مدني يوافق تصوراتهم وأفكارهم، فيما تخلى بعضهم الآخر عن أفكارهم وشعاراتهم ومبادئهم ليلتقوا مع قوى يمينية ورجعية ضمن تحالفات براغماتية، أجبرتهم على تقديم كثير من التنازلات الفكرية والأخلاقية”. هكذا يصف الكاتب الصحفي سامر (43 عام) ذو الميول اليسارية واقع القوى والتيارات العلمانية خلال الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في سوريا عام 2011، والتي كان واضحاً للجميع غياب أي دور أو حضور مؤثر لها، ومقابل ذلك ظهر الكثير من التيارات والقوى الدينية، التي فرضت نفسها بقوة في الساحة السورية، لتحقق وجوداً ميدانياً بارزاً وقاعدة شعبية واسعة، مَكنتها من توجيه الاحتجاجات وفق فكرها وأجنداتها، التي أدت فيما بعد لظهور تشكيلات عسكرية وسياسية ذات طابع ديني عقائدي، مثل: كتيبة أحفاد الرسول، الأنصار، عائشة أم المؤمنين، الصحابة، وكتيبة صقور الإسلام، ومن ثم تشكيل ألويةٍ وجبهاتٍ عسكرية مثل: لواء التوحيد، لواء الحق، لواء الإسلام، الجبهة الإسلامية السورية، الجبهة الإسلامية الموحدة، وجبهة تحرير سورية، هذا إلى جانب حركة الفجر الإسلامية، وحركة الطليعة الإسلامية وغيرها من الحركات. وقد سعت معظم تلك التشكيلات لتطبيق الشريعة الإسلامية ولمحاربة وتكفير القوى والتيارات المدنية والعلمانية، وقد انضوى بعضها، فيما بعد، تحت جناح جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”.
وخلال الحرب كانت معظم المناطق التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة يغيب عنها أي وجود للمؤسسات المدنية أو المحاكم القانونية، وتديرها المؤسسات والمرجعيات الدينية التي كانت صاحبة السلطة المطلقة في شتى المجالات. وفي المناطق الحكومية حصلت المؤسسات الدينية لمختلف الطوائف على امتيازات كبيرة، لم تحصل عليها في السابق، فأصبح لها نفوذ كبير ودور فاعل في المجال العام وضمن المجتمعات المحلية التي تتواجد فيها، وأصبحت تقوم ببعض الأدوار والخدمات المنوطة بعمل البلديات، وتتدخل في تنفيذ بعض المشاريع الخدمية والتعليمية والمجتمعية، إلى جانب جمع التبرعات وتقديم الخدمات الطبية والمساعدات المعاشية وتوفير فرص العمل للشباب.
النشاط الديني يزداد انتشاراً
ويلاحظ اليوم حجم النشاط والحضور الكبير للجمعيات الخيرية والأهلية ذات الطابع الديني، ومن مختلف الطوائف، وذلك على حساب تراجع دور المنظمات المدنية والاجتماعية، حيث “استطاعت أن تستغل تردي الواقع المعاشي لكثيرٍ من الناس لتقدم لهم المساعدات الإغاثية والطبية، خلال سنوات الحرب ومن ثم خلال وباء كورونا وما تبعه من انهيار اقتصادي في عموم البلاد، وهو ما مكنها من الاستمرار بقوة ومن تحقيق الكثير من المآرب الدينية والسياسية، كممارسة بعض الطقوس الدينية في الأماكن العامة، واستقطاب بعض من تلقوا دعمها ومساعداتها لحضور الصلوات والشعائر الدينية وقراءة الكتب، والمشاركة بالاحتفالات والأعياد”. بحسب الناشط المدني طارق (44 عاماً) الذي يضيف: “استطاعت الكثير من الكنائس أن تلعب أدواراً اجتماعية وثقافية بارزة ومؤثرة، جعلتها تنوب عن مؤسسات الدولة في كثير من الأحيان، إذ كانت وما زالت تقدم الدعم النفسي والمادي واللوجستي لكثير من طلاب المداس وطلبة الجامعات، وتفتح لهم أبواب قاعاتها المُخدمة بالكهرباء والإنترنت لكي يقوموا بدراسة موادهم وتنفيذ مشاريعهم الجامعية. هذا إلى جانب دعم المواهب الفنية، الموسيقية والمسرحية وغيرها، لكثير من الشباب واليافعين، وتقديم القاعات المناسبة لهم للتدريب على نشاطاتهم ولتقديم عروضهم الفنية”.
ورغم ميولها اليسارية وتبنيها للفكر العلماني ترى الفنانة التشكيلية حنان (46 عام) أن ما فعله رجال الدين في السنوات الأخيرة قد عجز عنه معظم المثقفين والمفكرين العلمانيين والمرجعيات الإجتماعية: “في السويداء مثلاً استطاعت حركة رجال الكرامة (معظم أفرادها من شيوخ طائفة الموحدين الدروز) أن تحقق قاعدة شعبية ضمن أوساط المجتمع المحلي، نتيجة الدور الإجتماعي والأمني الذي لعبته، خلال سنوات الحرب وما بعدها، وخاصة بعد دعمها لمن امتنعوا عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، وتأمينها الحماية اللازمة لهم، فنالت ولاء الكثير من الشباب واستقطبت بعضهم إلى صفوفها، بمن فيهم أصحاب الفكر المدني وغير الديني”. وتضيف الفنانة حنان: “يؤكد الحراك الشعبي المستمر في المحافظة منذ أكثر من أربعة أشهر، حجم الدور الكبير والمؤثر لبعض رجالات الدين، رغم الطابع المدني العام الذي تتميز به المحافظة، فبمجرد إعلان دعمهم للحراك استطاعوا جذب الكثير من الشباب إلى الساحة، علاوة على المثقفين واليساريين والعلمانيين، الذين حادوا عن توجهاتهم المدنية والفكرية ليسيروا خلف خطاب شيوخ الدين ويأتمرون بتعاليمهم وتوجيهاتهم”.
ومقابل الحضور الكبير للنشاط الديني وقوة تأثيره في الوقت الحالي، نجد أن معظم ما تبقى من التيارات المحسوبة على العلمانية قد أصبحت مجرد تجمعات مصغرة ومتفرقة، تتبنى فكراً هجيناً، وتحكمها الأجندات السياسية والعلاقات الفردية، التي تجعلها مُهمشة الصوت وعاجزة عن إحداث أي تأثير ممكن. أما معظم منظمات المجتمع المدني التي ولدت خلال الحرب، والتي كانت تدعي أنها تتبنى الفكر العلماني، فقد كانت تفتقد للهوية الوطنية على حساب الهويات الدينية والاجتماعية والمناطقية، وتتحكم الأطراف الممولة بطبيعة عملها وتوجهاتها.
تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي الآمال الضائعة للإيديولوجيات الدّاعية إلى قيام وحدة قوميّة بين العرب، وطُمِسَ بذلك فكر إنسان ممتاز، وأُهملت رؤيته التي تؤلِّف نظرة إبداعيّة عميقة في ماهيّة اللغة، تحديداً اللغة العربيّة، علاوة على ما عاناه في حياته من تجارب وجوديّة عنيفة واضطراب وجدانيّ وفقر وحرمان وعُزلة بسبب مواقفه السياسيّة، فضاعت شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة بين صراع السياسيين البعثيين على السُّلطة، وخضعَ لاستقطاباتهم وتنافراتهم ثم غُيِّبَت على نحوٍ نهائيّ جهود الأرسوزي لمواجهة الاحتلال العثمانيّ-التركيّ والاستعمار الأوروبيّ.
لكنَّ المهمَّ هنا ليس قراءة الأرسوزي قراءة إيديولوجيّة أو سياسيّة مُسْتَهلكة؛ بل الكشف عن العناصر الأصيلة في رؤيته الفلسفيّة للعالم، أو بالأحرى إظهار شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة التي احتجبت وراء غبار لعنة شهوة السيطرة على الحُكم.
لقد انصّبت عناية الأرسوزيّ على كشف ماهيّة اللغة العربيّة، ويمكن تصنيفه بصفته مؤسِّس تيار فلسفة اللغة في الثقافة العربيّة المعاصرة، غير أنَّ حقل الدراسات اللغويّة الذي أسّس له الأرسوزيّ بقي مجهولاً، علماً أنَّ الدراسات التي قدّمها فلاسفة اللغة الغربيّون، أصبحت مركز اهتمام الثقافة الغربيّة، بل العربيّة أيضاً، بدءاً من أواخر القرن الماضي، وصولاً إلى يوم النّاس هذا. إذ نجد حضوراً كبيراً بين أوساط المثقفين، ترجمةً وتأليفاً، لنصوص منقولة أو مستوحاة من جورج إدوارد مور (1873-1958م) أو برتراند رسل (1872-1970 م) أو لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951 م) وغيرهم. علاوة على ظهور دراسات عربيّة كثيرة محكومة بالنزعة البنيويّة التي أسس لها فرديناد دي سوسير (1857-1913)؛ وفي المقابل لا نكاد نجد للأرسوزي ذِكْرَاً بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً عُني عناية حقيقيّة بقضيّة اللغة.
تعمّق الأرسوزي في ماهيّة اللغة العربيّة في “مؤلَّفه العبقريّة العربيّة في لسانها”، ووجد أنَّ اللسان العربيّ مكوَّن على نحوٍ اشتقاقيّ، فالألفاظ التي ينطق بها الإنسان العربيّ ترجع إمَّا إلى ظواهر إدراكيّة حسيّة، تحديداً صوتيّة-بصريّة مُستَمدّة من الطبيعة، أو إلى أُصول شعوريّة مُستَمدّة من النَّفْس الإنسانيّة.
ويوضِّح الأرسوزي حقيقة الألفاظ التي ترجع إلى ظواهر طبيعيّة صوتيّة بصريّة، فتمثيلاً لا حصراً: نجد أنَّ الكلمة “خَشَّ” هي صورة صوتيّة-مرئيّة، ناجمة عن “حركة في عُشب يابس”. وهذه “الصُّورة” أصبحت على المستوى اللغويّ نواةً لتوليد أفعال ومشتقات جديدة مثل: خَشُنَ، خشَبَ (=جَفَّ)، خَشَعَ، إلخ؛ ومِنْ خَشَّ بتحويل الخاء إلى حاء يمكن اشتقاق حَشَّ والحَشيش؛ وبتحويلها إلى عين نحصل على عشَّ والعِشّ، وإلى ما هنالك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يُبيِّن الأرسوزي أنَّ الإنسان العربيّ لم يقف بالنسبة إلى بناء الألفاظ التي ينطق بها عند حدود الصُّور الطبيعيّة الصَّوتيّة-البصريّة فقط، بل اعتمد على التّصويت الطبيعي عند الإنسان، أي الأصوات التي تُعبِّر عن حالات شعوريّة معيّنة مثل “أَنَّ” التي تدلّ على التوجُّع أو التألُّم، فظهرت أفعال ومُشتقّات وفق الآتي: فبإلحاق الهمزة جاءت “أنا”، وبإلحاق التّاء “أنتَ”، أنتما، وبقيّة الضمائر. ومن “أَنَّ” اشتُقَ الفعل أَنَّبَ (=عنَّفَ)، والاسم الأنين، وإلى ما هنالك.
وركّز الأرسوزيّ على أنَّ الذهن العربيّ لم يقتصر -في عمليّة تكوين اللسان العربيّ-على الصُّور الصوتيّة المرئيّة أو الأصوات المُعبِّرة عن حالات نفسانيّة، بل نهج نهجاً اصطلاحيّاً أيضاً، يقوم على إظهار الحروف عن طريق التداعي، فالحروف الأسهل من حيث تسلسل الظهور تتوالد لتكوِّن صورة تصبح موضوعاً للفكر، ومدلولاً عليها في الوقت نفسه بألفاظ، فمثلاً من حرف الباء (ب) صنع التداعي أسماء من قبيل الـ:”أَبّ”، و”الأُبّهة”، وأفعال من قبيل أَبِهَ، أَبى….
وعُني الأرسوزيّ بكشف مناهج تكوين الألفاظ في اللسان العربيّ، فاكتشف أنَّ هناك صوراً صوتيّة ذوات أصول فيزيولوجيّة، فمثلاً هناك صور صوتيّة ترافق حركة عضلات الفمّ من قبيل: عَضَّ، وهنا يشتق الذهن مع المحافظة على الإيقاع بإضافة حرف أو بتحويل آخر، فبالإضافة نحصل على عَضَبَ (=قطَعَ)، وبالتحويل، أي بتحويل العين إلى قاف، نحصل على “قَضَّ (=ثَقَبَ)”. هذا، وبالطريقة نفسها اشتُقَ فعل “قَدَّ (=قَطَعَ)” ثم “قَدَرَ(=قَسَمَ) ومنها: القَدَر؛ وقَدَسَ (قَطَعَ)، ومنها: “القُدْس (=الحجر المقطوع)” وتوالت المشتقات مثل القُدُّوس، والمُقَدَّس، والقداسة، والتّقديس، وحُمِّلت بمعان مختلفة، إلخ.
ولقد فهم الأرسوزيّ اللغة فهماً يدلّ على عمق نظرته، فهو يُرجعها إلى غريزة متأصِّلة في الإنسان أسماها “غريزة الكلام”، ووجد أنَّ غريزة الكلام موجودة على نحوٍ متفوِّق عند العرب، منذ فجر التّاريخ، بدلالة أنَّ علم اللغات المقارن يكشف وجود قواعد مشتركة بين اللسان العربيّ واللغات الهندو-أوروبيّة من ناحية، إضافةً إلى كشفه وجود اشتراك في المفردات وأساسيات النحو بين اللسان العربيّ واللغات الساميّة من ناحية أخرى، وهذا يثبت أنَّ الإنسان العربيّ خاض تجربة كونيّة نادرة في تكوين لغته، كان لها تأثير عالميّ لا يمكن نكرانه. والحقيقة أنّنا إذا أرجعنا اللغة العربيّة إلى أُصولها الكنعانيّة (=الفينيقيّة)، لوجدنا كلام الأرسوزي صحيحاً، إذ قام اليونانيون بتعديل الأبجديّة الكنعانيّة (الأوغاريتيّة)، بما يتناسب مع لسانهم الهندو-أوروبيّ. ولا شك في أنَّ استخدام اليونانيين للأبجديّة الألفبائية-الصوّتيّة الكنعانيّة أسهم في تطوير طُرق التّفكير النّظريّ عند اليونانيين لما في اللغة الكنعانيّة من إمكانيّة تؤهِّل الناطقين بها للقيام بعمليات التّفكير المجرّد. هذا، وحينما وصل التجار والمستعمرون اليونانيون إلى أتروريا (=منطقة وسط إيطاليا الحالية)، ونشروا الثقافة الهيلينية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. أدخلوا الحروف اليونانية-الكنعانيّة لتشكيل الأبجدية الإتروسكانية (=الإيطاليّة القديمة). التي عُدِّلت من قبل الرومان، وأصبحت أبجدية أساسيّة لأوروبا الغربيّة.
لقد امتاز الأرسوزي من بين مختلف المُنَظِّرين القوميين العرب بأنّه دخلَ إلى السياسة من بوابة الفلسفة، وهذا ما جعل طريقة تفكيره أكثر عُمقاً وأبعد غوراً؛ إلا أنَّ لهذه الطريقة في التفكير مخاطرها، فقد جعلته مُفكِّراً يوتوبيّاً، إذ بنى آماله على حُلم ضائع بتكوين دولة مثاليّة تكتنف أبناء أمّة عربيّة واحدة أسماها “الجمهوريّة المُثلى”، ويقدّم الأرسوزي في كتاب له يحمل الاسم نفسه (=الجمهوريّة المثلى) تحليلات لمعنى هذا الاسم عينه، مستخدماً بصيرته اللغويّة الفذّة في تفسير معنى كلمة جمهوريّة، فيوضِّح أنّها منحوتة مِن “جم” وتدلّ على (الجمّ الغفير)و(جهر) وتعني إفصاح كلّ فرد من النّاس عن رأيه في ما يتعلّق بتنظيم الشؤون العامة. وحدّد الأرسوزي معنى كلمة “المُثلى” على أساس أنّها مأخوذة من “المَثَل الأعلى”، أي من الكمال، تبعاً لتكوين كلمة الكمال نفسها. وشرحَ تكوين كلمة كمال شرحاً لغويّاً رائعاً: كمُلَ من كُم الزَّهرة، وحرف “ل” المُلحق بـ”كم” يُفيد هنا معنى النموّ، فالكمال-وفق قوله-مُستوحى من برعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة.
وينفر الأرسوزيّ نفوراً كبيراً من واقعه العربيّ الذي كشف فيه خطر تحوّل الإنسان العربيّ إلى عبد، ويُفْهم معنى العبوديّة، وفق منظار الأرسوزيّ، على أساس أنَّ الإنسان العبد هو الذي يكون آلة أو أداة بيد نفسه أو بيد غيره من النّاس: يكون عبداً لنفسه إذا حوّلَ طاقاته الخلّاقة إلى أداة للحصول على شهواته، ويكون عبداً لغيره إذا استهلك مواهبه في خدمة الأقوى. ويطالب الأرسوزي باستبدال الإنسان الحرّ-النبيل بالإنسان العبد-الأداة. وهنا يفجِرّ الأرسوزي بعبقرّيته اللغويّة السَّاحرة ينابيع مأساة الإنسان العربيّ، فكلمة “حريّة” في رأيه اشتُقت من كلمة “حرب”، ونبيل اشتُقت من “النِبَال”، أي السِّهام التي يُرمى بها الأعداء؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يحتفظ بإنسانيته أو بالأحرى بحرّيته إلا إذا كان مُحارباً رامياً لأعداء إنسانيته بالويلات!
جمع الأرسوزي في شخصيته بين عالم اللسانيات والمفكر السياسيّ؛ فعاش حياةً تنوس بين الهدوء والاضطراب، ولا نجد شبيهاً للأرسوزي الآن أقرب من المفكِّر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي جمع في شخصيته هو أيضاً بين عالم اللسانيات والمفكّر السياسيّ؛ إلا أنَّ الفرق بين الأرسوزي وتشومسكيّ فرق كبير جدّاً، فالأرسوزيّ عاش حياة قهر مستمر وفي أعمق لحظات معاناته كان هدفه بناء أمجاد أمّة عظيمة فقدت القدرة على النّهوض؛ بينما تشومسكي عاش حياة حافلة بالأمجاد في على أرض جمعت شعوباً من مختلف أنحاء العالم، وكوّنت أمّة عالميّة. لقد نجحت أُمّة تشومسكي الطارفة ولم تنجح بعد أُمّة الأرسوزيّ التليدة.
حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.
وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).
تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً وبلغة تقترب من الشعر حيناً.
وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.
يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.
يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.
وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.
وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.
مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .
يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.
لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.
يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”
وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.
يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.
لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.
أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.
يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.
تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).
والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.
وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ يغوص في العوالم النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.
(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.