يقول الكرد في أمثالهم، أو حكمتهم التي ترافق مناسبات العزاء، عن المعزين: ” كلٌّ يبكي على موتاه.. أو كلٌ يبكي على نفسه.”
كان الوقتُ ليلاً، قبل منتصفه، سمعتُ بنبأ رحيل الصديق الروائي خالد خليفة في دمشق، بدايةً شعرت بوخزةٍ في صدري، ربما كانت مما وخزه قبل ساعات ورماه طريحاً الى الأبد.
بداية لم أفعل شيئا، أغمضتُ عيني ورحت أتذكر: كنا معاً في حلب.. كنا معاً في دمشق، كنا معاً في ديار بكر.. وآخر اتصال بيننا حدث وهو في سويسرا حين حل عليها ضيفاً ككاتبٍ. يومها تحدثنا عن زيوريخ التي أعرفها جيداً، وتحدثنا عن الفن و الأدب السويسريين من إلياس كانيتي مروراً بجاكوميتي ودورينمات وماكس فريش وبول كلى وغيرهم… وصولاً الى مانو خليل، وقممٍ كماترهورن ويونغ فراو وبيلاتوس.
ثم عاد خالد الى الشام التي يحبها، الشام التي عرفها خالد كما عرف قبلها حلب وعفرين التي ولد فيها أو حولها. في حلب، في أواخر الثمانينيات، كنا مجموعةً من الأصدقاء، كتاب وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحيين وروائيين، نجلس في مقهى القصر، أو نسهر ليلاً في بيت صديقنا الشاعر لقمان ديركي، حيث كان أهله قد خصصوا له منزلاً كاملاً، فحوّل لقمان البيت الى مأوى لكل الأصدقاء المقطوعين من “أهلهم ومدنهم” في تلك المدينة الساحرة: خالد خليفة، محمد فؤاد، صالح دياب، عبداللطيف خطاب الذي سبقنا جميعاً في الرحيل، ثم عنايت عطار، رشيد صوفي، مروان علي، أحمد عمر، خطيب بدلة، محمد عفيف الحسيني، وآخرون كثر لم تعد تسعفني الذاكرة في استحضارهم.
كان خالد وقتها يكتب الشعر، وقد كثر الشعراء، ويبدو أنّ هذا لم يرق لصديقنا خالد فاتجه صوب الرواية، لينشر أولى رواياته “حارس الخديعة” والتي لم ترق لنا وقتها، وانتقدناه كثيراً حول أسلوبه الذي مزج بين الشعر والنثر، فضاعت خيوط الرواية منه ومن القارئ، وبالطبع كان معلمنا في ذلك الحين الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات الذي كنا نقلده جميعاً.
ثم تفرقنا، من كان يؤدي الخدمة العسكرية عاد الى بلدته، ومن كان يدرس في جامعة حلب تخرج منها وغاب، ومن كان يعمل في السياسة تم اعتقاله أو فرّ الى مكانٍ آمن. وبعد سنوات اجتمعنا من جديد ولكن هذه المرة في دمشق، ودمشق لم تكن كحلب، فليس لدينا صديق كلقمان يفتح لنا باب بيته لنسكن ونأكل فيه، فبدأنا بالبحث عن غرف للإيجار في دمشق الشام، وأغلبنا سكن باب توما لأسبابٍ كثيرةٍ، فهو الحي الأكثر انفتاحاً، والأكثر تقبلاً لمزاج مجموعات من الفنانين والكتاب والشعراء، يعملون في النهار، وفي الليل يصرفون ما لديهم في باراتها، ويخرجون آخر الليل يصرخون ويغنون في أزقتها الضيقة.
وصارت جلساتنا ولقاءاتنا تتم في مقهى الروضة نهاراً، وليلاً في نادي الصحفيين او في بيت الشاعر الراحل بندر عبدالحميد، وهنا تعرفنا على أصدقاء جددٍ كنا نقرأ لهم، أو نراهم يمثلون على الشاشات، وعلى كتاب وشعراء وفنانين، صحيحٌ أننا لم نكن كلنا منسجمين فكرياً، إلا أنّ أغلبنا يحمل هم الإبداع وحب دمشق. تعرفنا على العشرات من الكتاب والشعراء العراقيين المنفيين في دمشق، وكذلك على أصدقاء شعراء وكتاب لبنانيين يأتون بين الحين والآخر الى الشام.
في هذه الأثناء اتجه خالد خليفة إلى كتابة سيناريوهات تلفزيونية، وتميزت مسلسلاته بنكهة حلبية صافية، فيها من عبق التاريخ وكذلك ” المسكوت عنه ” الكثير، ولعل هذا الاتجاه جعله يتجه تماماً الى الرواية، فكان لرواياته صدى طيب، لا سيما وانه استفاد كثيراً من تجربته المرئية، ومن هنا أيضاً تشعبت علاقات خالد بأوساط عديدة، ممثلين وممثلات، منتجين ومخرجين وشباب وشابات يبحثون عن إنجازٍ ما، وكان خالد ودوداً ومحباً للجميع.
لم يكن خالد ممن يتحزبون إلى هذا أو تلك، كان صديقاً للجميع، ودوماً يدهشني بنقائه، وعدم اغتيابه لأحد، حتى لو كان هذا “الأحد” يناصبه الحسد أو الحقد، ومن هنا كان أشبه بنسيمٍ ضاحكٍ في كل مكانٍ يصل إليه، يخلق أجواءً مرحةً وحميميةً، يرقصُ في البيت والبارات ويدلق النشوة على الساهرين. أذكر مرةً كنا في اسطنبول، وقد دعانا صديقٌ قديم من أصدقائنا الفارين من حملة الاعتقالات في منتصف الثمانينات، إلى مطعمٍ وبارٍ مليءٍ بالشباب اليساريين وهناك بدا أنّ لصديقنا صاحب الدعوة حظوةً لدى مدير المطعم إذ خصص لنا طاولة في مكانٍ مرتفعٍ، مخصصٍ للضيوف المميزين. وما أن جلسنا حتى التفت إلينا الجميع، إذ سمعونا نتكلم بلغةٍ غير لغتهم، فتحلقوا حولنا، وبدأ خالد يتفاهم معهم ليس بلغتهم ولا بإنكليزيته الركيكة. يومها التقطنا أنا وخالد من المحيطين بنا كلمة: كارداش، أي الأخ، وصارت الكلمة مفتاح لقاءاتنا وأحاديثنا، “كيفك كارداش”، “أين أنت كارداش؟” ومنذ سهرة اسطنبول تلك وحتى اليوم، لم نعد ننادي بعضنا بأسمائنا، وبالعودة الى تلك السهرة اكتشفنا أنّ لصديقنا الفار العديد من الأسماء. فكان فرج بيرقدار، الذي كان معنا في السهرة، يناديه باسم بيشمركه، حيث كانا معاً في حزب العمل الشيوعي المحظور. أما لقمان ديركي فكان يناديه بـ”سمير”، وأنا كنت أناديه باسم “فرات”، في حين رحب به صاحب المطعم، ورحبت به المغنية التركية باسم ” باقي”. ضحكنا جميعاً ولم نعد نعرف بأي اسم نخاطب صديقنا، وحده خالد قال ليلتها:” الأفضل أن نرقص ونحن في ضيافة العثمانيين، ورفع كأس العرق، وضعه على جبينه وراح يرقص متمايلاً واندهشنا من عدم فقدانه للتوازن، كان يرفع الكأس يشرب منه، ويعيده لفوق جبينه و يرقص الرقصة الحلبية المسماة ” قبا ” أو (السبعة ابه)، و تتألف من سبع دقات كما يقول الحلبيون، وأربع حركات بطيئة، أو حسب المزاج، كانت هذه الإضافة من شرح خالد. أثناء تلك الرقصة نهضنا جميعاً لنشاركه، والتم علينا رواد المطعم جميعاً، والتفوا حول خالد يصفقون له، حتى أن المطربة أثناء الاستراحة جاءت لتجلس بجانبه، أو في حضنه، وقد حسدناه جميعاً. لم نكن ندري أن خالداً ومن يومها كان يحاول أن يشبع من هذه الحياة “القصيرة جداً”، ولهذا أيضاً، كان هاجس الموت يلازمه، ووجده “عملاً شاقاٌ”، فتناساه، حتى جاء إليه على غفلة منه ومنا جميعاً، لنهتف لبعضنا- نحن أصدقاءه ونستفسر هل مات خالد حقاً؟ كيف ولماذا ومتى؟ وكلنا حاول أو حلم بأن يكذب الخبر أحدٌ ما في تلك الليلة، لكن هيهات.
والآن مات خالد خليفة، وبكى عليه كل من عرفه او قرأ رواياته، وهنا أود الإشارة الى أنّ السوريين وبعد دزينة من سنوات القهر والبؤس والتنكيل، وخيبتهم تجاه العالم، كل العالم، كانوا بحاجة الى شخص مثل خالد خليفة، يُحول ليل دمشق الى متنفسٍ للحلم، وبارقة أمل بأن القادم سيكون أفضل، وأن دمشق لم يغب عنها كل عشاقها، وأن سوريا ورغم كل الدمار والكره والحقد والحرب والرعب، والزنازين سيظل فيها شخص أو أكثر يقول للصامتين: ” لن نترك البلد جميعاً.” كما لو أن السوريين كانوا بانتظار من يترجم لهم قصيدة رياض صالح الحسين:
” يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأةٍ في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنيةٍ في صحراء.
كان خالد صدىً لهذه القصيدة، في كل روايةٍ، وكل حوارٍ، و كل سهرةٍ، وفي كل بارٍ، كان يلتم حوله الشباب والصبايا، ليرقص خالد، رافعاً كأسه، مترجماً مفردات هذه القصيدة الى رقصة “القبا” الحلبية، مؤكداً أنّ السوريين ورغم قلة الحيلة، ورغم الصمت القاتل، ورغم الرعب، يهمسون لبعضهم : لن نتركك تضيعين يا سوريا.
إن الخيبة التي عاشها ويعيشها السوريون منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، مدت رأسها في موت خالد ورحيله، شعروا أنهم تيتموا من جديد، فبكوا على حالهم. صحيحٌ أن الأصدقاء وغيرهم ساروا في جنازته والدموع تنهمر من عيونهم المرعوبة عليه، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يبكون على أنفسهم وعلى سوريا التي تضيع كلما رحل عنها شخص مثل خالد. رحل قبله أحبةُ لنا وبكينا عليهم وعلى أنفسنا، لقد رحل بندر عبدالحميد، ورحل عادل محمود، وحاتم علي، وعمر أميرلاي وآخرون كثر، لكن رحيل خالد وضع السوريين أمام مرآة وجعهم الشاسع، وحيرتهم الطاغية. فقد كان وجوده في دمشق ما يشبه حارساً لها من خديعة عالمٍ أجرم بحق السوريين جميعاً، وكان الكل يريده في دمشق ليشهد لها وعنها ومنها، ليقول لهم ما لا يجرؤون عليه، لهذا بكوا على أنفسهم فيه، لأنهم أيقنوا أن الجميلين والأنقياء تتفجر طحالهم من القهر كالغزلان، و تتيبس شرايين قلوبهم قبل الأوان. وإذ بكينا على خالد فإنما نبكي على أنفسنا، وعلى قتلانا الكثر طيلة هذه السنوات الدامية.
ها هو البردُ يقترب في سوريا، ويشعر الناس مع اقترابه برعب كيانيّ، إذ سينتقلون من أعلى ذروات الحرارة في الصيف إلى أخفضها في الشتاء دون المرور بخريف حقيقيّ بسبب ما يجري من تغيُّرات مُناخيّة، وإذا لم يحضِّروا أنفسهم لمواجهة عواصف الثلج والزمهرير والصقيع، فستكون النتائج كارثيّة، وليس في وسع سكان المدن فعل شيء سوى انتظار حصصهم الشحيحة من مادة المازوت التي لن تكفي أكثر من أيام معدودات، فمن كان منهم مالكاً للمال يمكن أن يشتري المزيد من هذه المادة من السوق السوداء بأسعار مرتفعة جداً؛ أما من لا يملك المال فيجب عليه أن يتدرّب مع عائلته على ارتداء الملابس السميكة ولفِّ الجسم بالأغطية إلى أن ينقضي الشتاء، مُعَرِّضاً نفسه وأطفاله لأمراض من أنواعٍ مختلفة يزيدها هولاً ضعف المناعة بسبب سوء التغذية، علاوة على ما قد تتعرّض له العائلات من اضطرابات نفسيّة، تحديداً النساء والأطفال، بفعل الضائقة الشديدة التي تمر بها البلاد.
لكن نجد اختلافاً في الموقف من هذه المعاناة بين سكان المدن وسكان الأرياف في سوريا، إذ إنَّ بعض سكان الأرياف أشدّ مراساً في مواجهة صعوبات الحياة في الشتاء من سكان المدن، ويبدو أنَّ بينهم رجالاً احتفظوا بجينات وراثيّة يمكن أن تحوّلهم إلى شخصيات مختلفة في أوقات المحن ليستعيدوا قدرة أسلافهم على مواجهة قسوة الحياة، إذ يخرج الكثير منهم في هذه الأيام إلى الغابات من أجل جمع الحطب، أو قطع الأشجار للحصول على مورد للتدفئة في هذه الظروف العصيبة، وتأمين مخزون يكفيهم الشتاء كلّه، وكأنهم يتحدون الطبيعة من أجل البقاء كما فعل أسلافهم من مئات السنين.
ويمكن تحليل هذا الوضع من أوجه مختلفة: إذ إنَّ قطع أشجار الغابات من دون أيّ شك يتسبب في الاحتباس الحراريّ وهو ظاهرة مُناخيّة خطيرة تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وإطلاق غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما بكميات أكثر من المعتاد على نحو يفضي إلى نضوب المياه، كما يؤدي قطع الأشجار وإزالة الحِراج إلى نفوق الحيوانات البريّة، واتّساع رقعة التصحّر، علاوة على اتّجاه السكان على نحو حتميّ إلى الهجرة في المستقبل من مناطقهم بسبب تغيرات سلبية قاسية في العوامل المُناخيّة. ولا بدّ في هذا السياق من التمييز بين الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال تبعاً لغاياتهم. ذلك أنَّ هناك أشخاصاً امتهنوا مهنة قطع الأشجار وإزالة الحِراج، لاستخدام أخشابها في البناء، او لبيعها كوقود (=فحم أو أخشاب مُقَطَّعة)، كما يمكن أن تتم إزالة الغابات أو البساتين من أجل الحصول على أراض صالحة للبناء من أجل السكن أو إنشاء المصانع أو المشاريع المختلفة، وهذا يجب مواجهته بكلّ الطرق المتاحة من أجل منع البلاد من الاتّجاه نحو الخراب الحقيقيّ.
بيد أنّه ماذا يمكن نفعل أو نقول لقرويين فقراء يعيشون في أصعب الظروف وأقساها في تاريخ البشريّة، إذا قاموا بقطع الأشجار لتدفئة أطفالهم وشيوخهم ومرضاهم، فهل يمكن لنا أن نقنعهم بنظرياتنا عن الإيكولولوجيا والهيدرولوجيا وعلم الحفظ الحيويّ؟
لا شك في أنَّ نظرات هؤلاء إلينا ستتحوّل إلى نظرات ازدراء، لأنهم سيتأكدون حينها من أننا سطحيون جدّاً لنقبل فناء الإنسان وبقاء الطبيعة، فما قيمة الطبيعة الخلّابة إذا كانت قبراً كونيّاً لأسمى الكائنات فيها؟
لقد كان شعار الرواقيين كما كرّسه زعيم مذهبهم زينون الفينيقيّ-السوريّ هو “العيش في وفاق مع الطبيعة”، وهذا يعني أن يقبل الإنسان عن طيب خاطر كلّ ضربات القدَر بالمعنى الواسع؛ لكن شريطة أن يؤدي واجبه كاملاً في مواجهتها حتى لا تفتك به وتزيله من الوجود. وهذا ما يفعله أبناء سوريا في الوقت الراهن، فهم يواجهون القدر بمختلف معانيه، ويجب أن نعرف أنَّ القدَر بالمعنى الرواقيّ مختلف عن القدَر بالمعنى اللاهوتيّ أو الدينيّ. إنّه يعني كلّ ما يصيب الإنسان من مصائب مهما كانت أسبابها، لكن شريطة تقبُّلها ومواجهتها في آن واحد!
وإذا مزجنا تجربة السوريين الحاليين بتجربة أسلافهم الفينيقيين الذين كان زينون نفسه واحداً منهم، لاكتشفنا أنَّ أشجار غابات فينيقيا لم تُقطع قديماً إلا لصناعة سفن مخرت عباب البحار لإنشاء مستوطنات على مختلف سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولنقل أدوات التطور الحضاري وفي مقدمتها الأبجدية الألفبائيّة الصوتيّة إلى اليونان وروما ومنهما إلى سائر أنحاء أوروبا وأجزاء كثيرة من العالم.
لقد كانت جبال الساحل السوري التي كانت تشمل تاريخيّاً جبال لبنان مغطاة بأعظم الغابات الغنية بالحياة البرية بمختلف أشكالها؛ لكنها الآن مع مجيء عصر العولمة تتحوّل إلى جبال جرداء مقفرة، أو إلى صُقعٍ بَلْقَعٍ على حدّ تعبير العرب القدماء حينما يصفون أرضاً خاوية من كلّ شيء.
غير أنّه يجب فهم معاناة القرويين في هذه الجبال والتعمُّق في معاناتهم إلى أبعد حدّ ممكن، فقد تعاقبت أجيال عديدة منهم طوال قرون من أجل جعل هذه الجبال صالحةً للحياة الإنسانيّة، ولا يمكن إلا أن يشعر كلّ واحد منهم بألم كبير حينما لا يجد أمامه أي إمكانيّة للمحافظة على حياته وحياة عائلته إلا باللجوء لقطع أشجار لها رمزيّة كبيرة في عقولهم ونفوسهم، وكـأنّي بواحدهم حينما يضطر لقطع إحدى الأشجار يشعر بأنّه يجتثُّ ذاته من جذورها؛ ولكنه لا يفعل ذلك إلا مرغماً، وقد وصل الأمر بأشخاصٍ إلى حدّ قطع أشجار جوز أو مشمش أو زيتون محيطة بمنازلهم ويستفيدون من ثمارها، لأنهم يخشون من هول البرد القادم إليهم، على نحو لا تمكن مقاومته، فيُقدمون على قطع هذه الأشجار بعد إحجام، لكنهم يفعلون ذلك لاعتقادهم أنَّ بقاء أطفالهم أكثر أولويّة من بقاء الأشجار، ولا بدّ أن يأتي يوم في رأي هؤلاء يمكن فيه غرس الأشجار من جديد، أعني غرسها في تربة صالحة، غير هذه التربة الحالية التي أصبحت مَوْحِلاً للفساد الداخليّ والتآمر الخارجيّ بمختلف أشكالهما.
وينطبق هذا الأمر على مختلف مناطق الغابات في سوريا، سهولاً وهضاباً وجبالاً وسواحل، وأعتقد أنَّ التنوّع الأنثروبولوجي الرائع في الشعب السوري تبعاً لتوزّع السكان في التضاريس المختلفة يحمل غنى إنسانيّاً لا مثيل له في التاريخ، فحتى التنوّع السكانيّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة هو في العمق تنوّع مصطنع قائم على اجتماع أو جمع شعوب من مختلف أصقاع الأرض لتكوين أُمّة عالميّة؛ أما في سوريا فالأمر مختلف، فنجد طبيعة مخصوصة حتى على مستوى الشكل والهيئة والملامح واللهجة على نحوٍ يدلّ على غنى إنسانيّ عظيم؛ لكن أين من المشتاق عنقاء مُغْرب؟
لقد دنَّست هذا التنوّع السوري العظيم العرقيّة والطائفيّة والحزبيّة، لكن رغم كلّ شيء يبقى كلّ سوريّ مشدوداً نحو ما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ببراعة كبيرة “نداء الأصول”. نعم إنَّ صوت النداء يتردّد في سمع كل سوريّ من أجل إعادة خلق سوريا من جديد. ولقد أبدعَ أنطون سعادة حين تحدّث عن أصل القوميّة، فأكّد أنَّ ما يحدّد الانتماء القومي هو “البريَّة”، ويقصد أنَّ البريّة أو أرض الغابات التي شاهدها المرء لأول مرّة في حياته هي التي توحّده مع أشخاص شاهدوا المنظر نفسه، ولا يجب أن يوحّده مع الآخرين، قوميّاً، أي عامل آخر، سواء أكان عرقيّاً، أم دينياً، أم لغويّاً.
ها هي الآن تُقطع أشجار هذه البريّة السوريّة بعد أن اقتُطعت أجمل أراضيها سابقاً من المحتلين والمستعمرين، بسبب زوبعة مدمِّرة هائلة سحقت بعواصفها الرعديّة ورياحها الثلجيّة وأمطارها الغامرة كلّ شيء؛ لكن أفلاطون قال مرَّةً وبحقّ: “إنَّ كلَّ ما هو عظيم يكمن في الزوبعة”. وأراد من ذلك أنّه لن يبقى بعد الزوبعة إلا الأصيل والجوهري وسيتلاشى كلّ ما هو عرضي وعابر، لذلك مهما حدث ستبقى ماهيّة الشعب السوريّ خالدة، ولم يكن الفينيقيون السوريون القدماء إلا معلّمين لأفلاطون نفسه حينما تحدّثوا عن طائر الفينيق الذي سينبعث من رماده، ولن يتجدد طائر الفينيق وحدَه، بل ستتجدّد معه هذه الغابات ليحلّق فوقها مُطلقاً صيحة الرجوع.
على مدار السنوات الماضية، فقدنا الكثير من الأحباب، الأصدقاء والغرباء أيضاً. حتى اللحظة لم أشعر بغياب أيّ منهم، فهم يأتونني في مناماتي المشربكة جداً، ينسجون وإياي سيناريوهات متقنة لأحداثٍ يلعبون دور البطولة فيها. أستيقظ من النوم ورائحة كل منهم تخز أنفي وتبقى عالقة في مسامات جسدي. في أحد مناماتي، أرسلت إلى صديقي المقرب جداً أخبره بأنني رأيته اليوم ينقذني من رصاصة كانت عالقة في رقبتي، فأخبرته: “تخيل بأنني لم أمت، كنت ُ في إحدى المظاهرات فهاجمنا الرصاص من كل حدب وصوب لتستقر طلقة في رقبتي”. الغريب في الموضوع أنني لم أرَ دمي في المنام، هذا فأل سيء، “الدم يفسد المنام” هكذا كانت والدتي تطمئنني عندما أستيقظ هلعة. إلا أنني في منامي هذا كدت أختنق حتى الموت، وعندما استيقظت شعرت بانحلال في الاعصاب، وخدر في اللسان.. اكتمل يومي وأنا لا أشعر بجسدي، وحتى هذه اللحظة أحس بخدر الموت والطلقة المستقرة في رقبتي ما زالت تخنقني. بحتُ لصديقي بأنه كان المطمئن هذه المرة في المنام وليست أمي! منذ تلك اللحظة التي سمعت فيها رشقات الرصاص تصمُّ أذني وأنا خائفة من خبر يفزعني، فصوت الرصاص في المنام يترجمه الواقع بخبر وفاة، وهذا أيضاً ما باحت به والدتي وهي تضع يدها على فمها لإسكاتي: “يا قلبي لا تخبري أحداً عن أحلامكِ السيئة، فعند رويها على مسامع الآخرين فأنتِ تثبتينها في عالم الحقيقة”.
هكذا إذا يا خالد، أنت من كنت المخصوص بالحلم، وتلبستك ترجمته!
نادمة على سردي لذلك الحلم اللعين، والذي حتى اللحظة لم أستفق منه..
في نفس اليوم الذي رحلت فيه يا خالد كنا نراسل بعضنا البعض في تمام الساعة 1.11، أخبرتني كم أنك مشتاق لنا وأصبحت بالشام، وبعد فترة سوف تذهب إلى دبي لتحصل على الإقامة “التنكية” حسب اصطلاحك، عندها يمكنك القدوم إلى بيروت والبقاء مطولا دون شروط الأمن العام القذرة وتحديدهم لزمن وجودك معنا. تخيل أننا في بلاد لا تعرف قيمة الإنسان ولا تحفظ كرامة الكتاب والعمال والباحثين والهاربين من الموت، في كل يوم يخرجون إلينا بقرار يجعلنا نعود إلى ذاكرة الأفرع الأمنية التي لم نخرج منها أصلاً. أستعيد ذكرى أحد الايام التي أعادوك فيها من مطار رفيق الحريري لأسباب تافهة جداً، عدت مخذولاً ولم تساومهم أو تحاول معهم لأنك على علم بأنهم سيعقدون الأمر أكثر.
تعارفنا لم يكن منذ زمن بعيد، تعرفت عليك في محاضرة مهمة بعنوان “التحولات المعمارية لمدينة دمشق” في حركة البناء الوطني، على الرغم من أننا في وقت سابق لهذه المحاضرة كنا نلتقي كثيرا لحضور العرض السينمائي في المكان نفسه، إلا أنني كنت أخاف أجواء الفن والمثقفين، جئت إلينا، كنت أنا وأحد أصدقائنا، سلمت بيديك المدببتين وكانت تلتصق برقبتك كتلة دهنية، شرعت بفتح حديث سريع ونظرت إلي وسألتني: “أشعر بأنك لا تحبينني”، حينها كدت أموت خجلاً، فأجبتك: “لا الموضوع ليس على هذه الشاكلة ولكنني لا أرتاح لأجوائكم”، وسألته عن الكتلة التي على رقبته فغير الموضوع وفتح آخر..
منذ تلك اللحظة نشأت بيننا صداقة عميقة اختصرت سنيناً طويلة، وبدأت مرحلة جديدة في حياتي التي كانت حينها متجمدة بعد استقالتي من المديرية العامة للآثار والمتاحف. طوال تلك السنين تحمّلت جرمانا التي ضمت أغلى الأرواح على قلبي، ونادي السينما أعباء الوحدة والمنفى داخل البلاد التي نحب
أكثر ما يميز خالد هو ذكاؤه بفتح الأحاديث والمواضيع التي تعني من يجلس معه، ففي بداية صداقتنا جلس يحدثني عن عفرين، وقتها سألني: هل أنتِ من هناك قرأت لك مقال عن آثارها، أجبته بـ”لا، ولكنني من عشاق تلك الجغرافيا”. جرى نقاشٌ مطوّل عن مشاريع مؤجلة توثق تاريخ ذلك المكان وتصف بقاعه وروعة أهله. أتى من أحدثه عن الفطور من تحت سواعد العم أبو إسماعيل وهو يجلب لنا الزيتون المعشق بالزعتر البري والزيت العفريني، وأنا أرتشف مشروبي أخبرته: “من لم يتذوق الزيت والزيتون العفريني خسران كتير”.
برقت عيناه وأخبرني عن فيلم وثائقي كان قد أعده للتلفزيون السوري يتحدث عن تأريخ جغرافي لتلك المنطقة ومقابلات مع سكانها ليتحدثوا هم بأنفسهم عن ضيعهم وجمال الطبيعة المعكوس في طيبة أرواح أهلها.
يميز خالد الكثير من الأشياء، إلا أن أهم خصاله تبسيط الحدث أو القصة ورويها بأسلوبٍ مشوّق وبأرق الكلمات وأبسطها، يجذب من حوله بسوالف لا تنتهي، كنت أعود من جلساتنا المسائية في “القصبجي” مفعمة بالطاقة، المكان الذي يحب والذي تفاجأ جداً بأنني لم أسمع به مسبقاً، أنبني وقال: “أنتِ آثارية ما بصير ما تعرفي مقاهي البلد الأصيلة”. صحيح جداً تأنيبه هذا، فدائما ما تشدقت بأن المقاهي هي ذاكرة البلاد ووثيقتها الأساسية، إلا أنني اكتشفت حينها بأنني أجهل الكثير عن المباني المعمارية الرمزية التي تعد الركن الأهم في الذاكرة الشعبية.. التأنيب الآخر الذي حظيت به من خالد، عندما شاركت بأمسية “حكايا الصور” -الفعالية الأهم على الإطلاق عندما انتهيت من حكايتي، جاء دور خالد في الحديث: “هذه ليست بالقواعد الصحيحة للحكاية أو القصة عليكِ أن تتجردي من التورط بتعريف المحيط بتاريخ البلاد وأهميتها، شطحتي جدا في وصف الآثار والتاريخ، فورطي من حولك ببذل مجهود كبير في التركيز في عتبات الحكاية”.
هذا أيضاً أكثر ما يميز خالد وجوده في كل الأوساط، يشعر بأنه ملزم ومسؤول أمام هذه الفعاليات التي يغيب عنها عادة الروائيون والمثقفون، بينما هو كان يقحم نفسه فيها فنجده دوما بقربنا يقدم النصح والنقد اللاذع دون سماحه لأواصر الصداقة بأن تسرق جزءا من ملاحظاته.
في كل يوم أحد، نأتي إلى النادي السينمائي المكان الذي استقطب إليه جيلاً جديداً، استيقظ على عتبات الحرب وفقدان معاني الحياة الطبيعية، القذائف تشتعل خارجاً ونحن في قبوٍ يعرض موسيقا أفلام الحروب، ولكن بنبرة مخففة لما يجري خارجاً. استطاع النادي السينما أن يركز على عرض الأفلام التي تعرض ويلات الحرب، ولكن بأسلوب خال من الدماء والوحشية، التركيز على ملامح البشر، المعاناة الحقيقة للخارجين منها، كان الجو يلتهب تارة ويشتعل طوراً بمشاهد وحشية وإنسانية تفرزها المجزرة وغريزة البقاء المشبعة بما نعيشه.
رافقنا خالد طوال يوميات السينما، ورافقناه نحن في المشوار المسائي بعد نشاط السينما، حيث تبدأ رحلة الهزل والضحكات العالية التي تنزع صمت المدينة من كبوته، يخلع في مكاننا-في شارع بغداد سابقاً، والقصاع لاحقاً جديته ليرتدي ثوبا مزركشاً بالرقص وإلقاء الخطب على الجمهور.
عندما قرأت رواية “لم يصلِ عليهم أحد” أرسلت له ملف word يحوي رأيي بالرواية، احتوى الملف الكثير من الأشياء التي احببتها والقليل القليل من التفاصيل التي لم أستسغها، فأخبرني حينها “ختومة بدك حطها على صفحتي أو تنشريها بشي مكان”، أخبرته بأنني أفضل أن يبقى الأمر بيننا، فأنا لا أعرف التحدث على العام بشأن من أحب.
عند انتقالي إلى بيروت لم ينقطع تواصلنا مطلقاً، يفتح أسبوعيا تقريباً فيديو للسهرات ويخبرني بأنهم يفتقدونني ويدير الموبايل على المجموعة التي أحب.. لا أقوى على كل هذا الحب..
محظوظون بأن خالد كان قبل كل رحلة إلى الخارج يأتي إلينا، ويبقى ليلة أو ليلتين، كنا نشعر بالامتنان كوننا محطته التي تجعلنا نراه ولو قليلاً، يأتي محمّلاً بأخبار من نحب ورائحتهم التي تزكي بيتنا، فنبقى أياماً وليالي نستحضر أحاديثه ونضحك من قلبنا، فخالد لا يعرف سرد المأساة بحذافيرها، بل يضفي عليها خلطته الساخرة وضحكاته التي تخفي شرح عينيه المشعتين حتى وهما مغلقتان. وكان لنا نفس الجمعات عندما يحين موعد عودته من الخارج يأتي وفي جعبته العديد من السرديات والحكايات المضحكة والمضحكة حتى التخمة. استمرت إحدى حكاياته تدور في الأرجاء وتنتشر زمناً كاملاً، والتي تروي تفاصيل مترجمته التي صدم عندما اكتشف بأنها السيدة الأولى، ليخبرها ماذا تفعل سيدتنا الأولى في بلدنا.
تاريخ كامل سيطوى بالنسبة لي برحيل خالد، فقط لأنه يعرف كيف يحب، لقد أتقن فعل الحب بشكله العميق والمباشر، احتفى بأصدقائه جل الاحتفاء، في إحدى زياراتنا مع أحباب قلبي إلى شاليه خالد، أخبرني بأنه يريد أن يجعل من غرفة الأصدقاء أجمل من غرفته.. “هم أغلى ما يوجد لدي”، لن أنسى مقدار الدلال الذي حظينا به ثلاثتنا في شاليه “الندم” حسب تسميته.
مرت سنوات الحرب وكان مرورها قاسياً جداً، أنعش الأصدقاء الأغلى من الروح يومياتها وصعوباتها التي كانت تأتينا بحلة مختلفة عن السابقة لنا، تعرقل أنفاسنا فنعجز عن مجابهتها فنهرب إلى باحة القلوب المتعبة إلا أنها الأجدر بالمواساة وامتصاص فعل الغصة والحرقة. خسرنا الكثير من الأحبة وكنا نتجاوز الفاجعة بسهراتنا وجمعاتنا الغالية. لم أنعِ رحيلهم يوماً باستثناء رحيل واحد منهم، شكّل رحيله نقطة انعطاف في حياتي. بتّ على يقين بأن من يرحل يأخذ جزءا من قلوبنا، لا يتركها وحيدة يسكن بقاعا داكنة، فيأتي إلينا في أحلامنا ليخبرنا بأنه معشش في منزله الملون بذكرياتنا معاً
حرقة كبيرة هذا الفقد.. إلا أنه فقدٌ غريبٌ من نوعه، فمنذ خبر الوفاة وأنا لا أتقن إلا فتح ملفات الصور والبحث عن يومياتنا وضحكاتنا، فأعيد فعل الضحك كما لو أنني أعيش المشهد ذاته، وهذا ما يتميز به خالد أيضاً يجبرنا على الضحك حتى في أقسى اللحظات.
لم أتوانَ يوماً عن الإفصاح عن مشاعري تجاه أصدقائي، فهم أغلى الموجودات في هذه الحياة البائسة، وجودهم أضفى جمالاً لا يحظى به أي إنسان، ولطالما أخبرت من حولي بأن الحياة جبرت بخاطري بأنها كللتني بأصدقاء هم ليسوا بالأصدقاء هم الحياة بكل تفاصيلها، والروح ترخص لهم. وهذا ما كنت أبوح به لخالد دوماً، أخبره كم أحبه وكم وجوده جميل في هذه الحياة، كان يخجل ويرد بابتسامة تلتصق بخدين محمرين، فأقول مستهجنة: “لااا آخر ما أتوقعه بأنك تملك حس الخجل، غريب هذا الفعل عنك”.
نهايةً لا أعلم إن كان لزاماً علي أن أذكر بأن هناك أمانة تثقل كاهلي “مخطوط روايتك” المقبل الذي كنا سنفرد اتصالاً طويلاً لأجله، لقد تركت لدي هذا الأثر الذي لازال ينبض وفي طور الخلق، ماذا سأفعل به الآن!
مات خالد خليفة، الروائي الذي تمكن من تحويل قرائه وربما كل من عرفه أو تعرف عليه من البقّال وعامل محطة البنزين وحتى أعتى نقاده إلى أصدقاء. خذله قلبه المطرز بعدة شبكات طبية لتحمي قلبه من التوقف، اعتاد بجرأة وتوق كبير للعيش على إجراء القسطرة القلبية واعتبرها إجراءً روتينياً لا يستحق حتى التوجس منه، قالها ضاحكا وهازئا من الخوف من توقف القلب، إنها نصف ساعة تحت المراقبة، أخرج بعدها معافى ومطمئناً كأي زيارة روتينية لطبيب القلبية. صارت شبكات الحماية ضيفة ودودة كقلبه، تستقر جيداً كي يعتمر قلب خالد بالحب وبمزيد من الحياة والأصدقاء. درّب خالد قلبه على الاستزادة اليومية من الأصدقاء عدداً وحضوراً، كي يحمي قلبه وقلوبهم بفرط المودة باذلاً دوماً كل جهوده الدافئة لمزيد من الكسب، وربما لم يحتج يوماً لتدريب هذا القلب الجميل، لأن الحب فطرة لدية والمودة سلوك يومي.
والكسب عند خالد خليفة موهبة مرتبطة بالسخاء المفرط، يقف خالد لساعات طويلة ليدرب أفراداً راغبين بتعلم الكتابة، من فرط سخائه لم يشكك يوماً بموهبة أحد، اعتمد نظرية الجلوس إلى الطاولة وعممها على كل متدربيه. ترك لهم فرصة الكتابة وكأنها مهنة يومية تليق بحيواتهم مهما كانوا مغمورين أو غير موهوبين، بل وترك لهم قرار الاستمرار بالكتابة من عدمه. علّمهم كيف يقرأون نصوصهم وكيف يحفزون آذانهم لالتقاط الجمال أولاً والضعف ثانياً، كان التشجيع ديدنه، لا تخافوا من الكتابة، مزقوا كل ما لا يقنعكم أو يعجبكم، لا تخافوا الموهبة ولادة وتستجر نفسها بخفة ورشاقة. لطالما استخدم الروائي خالد خليفة وصف الرشاقة والخفة في تدريباته ليمنح المتدربين آلية ذكية لاختبار منتجهم، كان يمنحهم بسخاء بالغ تلك الفرصة للتعرف إلى الفرق بين الخفة المحببة والمنتجة للدهشة في النص وما بين الخفة التي تضعف النص وتفقده كل مكونات التداول أو القبول.
كلنا نعرف بيته في مساكن برزة والمطل على دمشق لدرجة أن حارات دمشق القديمة والجامع الأموي تحت مرمى نظر جميع من دخل أو سكن هذا البيت، إنه عين على دمشق التي عشقها خالد. عاد إلى بيته من اللاذقية حيث يملك شاليهاً خاصاً يعرفه غالبية الأصدقاء، كلهم لهم ذكريات هناك، كلهم يعتبرون أنفسهم أصحاب البيت والشاليه، مفاتيح بيته والشاليه موزعة على أشخاص في كافة أصقاع الأرض، وحين يدعو خالد أحدهم يرفق الدعوة بمفتاح ويردد: افتح وادخل! إنها تعويذة الحب السخي أو السخاء في الحب! عاد ليموت في دمشق وعيناه على دمشق، بيته الذي كلما غادر سوريا أحبه وتعلق فيه أكثر، وكلما عاد إليه سعى لتحسين شروط الحياة فيه كي يبقى في دمشق أكثر وأكثر. بعد عودته الأخيرة من سويسرا، غيّر ثلاجته لتتسع للمزيد من المؤن ولتحفظ الطعام بصورة أفضل، لجأ إلى تركيب شبكة كبيرة للطاقة الشمسية، خالد يبذل حبه عبر دعوات الأصدقاء إلى الطعام، اشترى الكثير من البرغل وجفف البندورة، لأن البقاء هنا يستدعي الكثير من الدعوات والكثير من المؤن. عاد مشتاقاً بشدة، عاد ليجدد عهد الحياة مع الحياة ومع دمشق، لكنه مات وأكياس الباذنجان والفليفلة معلقة فوق رأسه المسجى على أرضية مطبخه، فقد كان يوم وفاته موعده مع تحضير مونة المكدوس.
في مقالاته الأخيرة لـ(المجلة) كتب خالد خليفة عن الفريكة والبرغل، عن عادات أهله في التموين، استحضر التاريخ الماضي والروائح وطرائق التحضير وصور أمه وشقيقاته ونساء العائلة وهن يطهين البرغل أو يحضرن الفريكة من قمح أراضيهم، كان وهو يكتب مفعماً بحضورهن، لدرجة أنه استعاد حرفياً رائحة التراب وحفيف القدور الكبيرة ونكهة السمن العربي.
خالد خليفة هو الشخص الوحيد الذي صرّح للجميع أنه قد اختار أن يصبح كاتباً، قال هذا لأهله وهو في السادسة عشرة من عمره، قالها وفعلها رغم أنه في البداية لم يكن يعرف أو يتخيل الطريق ليصبح روائياً عظيماً وكاتباً ناضجاً، مشاكساً لكنه حازم، نبيل لكنه نزق وشتّام ذكي وشرس وإن عبر الكتابة، وربما عبر نقض الصورة وهدم جدران اللغة الصماء.
درس وحاز على شهادة الحقوق كرمى لعيني أمه، قصة نجاحه في الثانوية تحولت لعتبة من الإنجاز ويتم تداولها وكأنها قرار يسهل تحققه فقط لأن خالد أصرّ على الهدية وأصرّ على تكريم والدته بشهادة جامعية، وانصرف بعدها ليعيش قراره، ليدون أو يرسم أو يصوغ بعناية فائقة ما بدا باهتاً أو عادياً جداً، لكنه تحول بين يديه لمنجز ينتمي لخالد الروائي وينتمي لنا كلنا، وربما نحن من ينتمي للرواية كفعل حياة أو كفعل تدرب على العيش وتبادل المودة مع خالد الروائي ومع خالد الإنسان ومع الشخصيات والوقائع والصور كلها.
في سهرتنا الأخيرة قبل أسبوعين، رقص خالد كما لم يرقص من قبل، فرحنا به وكأننا نشاركه الرقص، شاكس وتلاعب بإعجابنا لدرجة أننا كنا نطلب منه المزيد، استفرد وحيداً في الساحة الضيقة لمطعم بسيط مازال يجمع أصدقاء وكتاباً وشعراء وفنانين، لكننا كنا جميعاً معه في تلك المساحة الضيقة نرقص ونحن جالسون، ونهلل ونضحك لليل دمشقي أصرّ رواده على البقاء في دمشق مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لكن هل لي بأن أعلمكم بأن ذاك المطعم الصغير قد أغلق أبوابه قبل يومين من وفاة خالد، في دمشق تكثر المواعيد مع الرحيل دون أن نعترف بأن المدينة تضيق وتضيق، نحن لا نريد الاعتراف بذلك تماما مثل خالد، رحل خالد وعينه على دمشق، وكان القرار بأن يدفن في دمشق تكريماً له ولها، دفقة فائضة أو لازمة من الحب من قلب لم تسعفه الشبكات الطبية الكثيرة بالبقاء ليحرس المزيد من ليالي دمشق وأهلها وحكاياتهم ورواياته المخطط لها لكنها لم تكتب بعد. ها هو الآن، خالد خليفة الروائي والسيناريست والفنان الذي أهدانا جميعا لوحات رسمها بمتعة وفرح، يرقد في عليائه وفي علياء دمشق في مقبرة التغالبة في حي المهاجرين، يحرس ليل دمشق وأسرار أهلها، سيكتب من هناك رسائل لها، تفوح منها رائحة البرغل والفريكة، أناشيد الأمهات والشقيقات والعمات والخالات والأصدقاء والصديقات وكل الحالمين أو العابرين لانكسارات الأحلام وأسماء الأماكن العصية على الوصول إليها كقريته الغالية والبعيدة عنه كما هو بعيد عنها وعنا.
لا عزاء في كل هذا الرحيل الموجع، لا الكتابة تنهض دون فرسانها ولا الروايات قادرة على كتابة نفسها دونما رواة قرروا الكتابة كفعل من أجل البقاء أو لإحياء المدن والبلدان.
لمن تركت الرواية يا خالد؟ لمن تركت دمشق وضيقها وليلها ونهارها، وأصدقاءك وقراءك وكل السعداء بأنهم عرفوك ولو لمرة، مرة واحدة لكنها كانت كافية ليقولوا: نعم نحن نعرفه! إنه صديقنا ونحبه. مات صديق الجميع، يا لهول هذا الفقد، مات وزرع في قلوبنا قبراً جديداً.
شيعناه اليوم، قالوا إنها جنازة كبيرة، تساءل الجميع عن هويته، صفقنا له ما استطعنا وكأننا ندعوه للنهوض علّه يستجيب، تركناه هناك يشرف على دمشق، لم يلّوح لنا وداعاً، لكننا لوحنا له كي يرى أننا كنا هنا من أجله، كلنا بكاه وناداه، لم يجب، يبدو أنه يحضر لرواية جديدة يرد فيها على كل نداءاتنا الملتاعة، نحن ننتظر يا خالد، من الصعب جدا أن نسلّم بهذه الخسارة التي أبكت حجر دمشق وقلبها كما أبكتنا.
على الطاولات وعلى الحوائط والأرضيات تتوزع البسط التقليدية الملوّنة بأشكال مختلفة، متسيّدة أثاث المكان وزينته، في ورشة “فجّة خُرق”، الواقعة في محافظة السويداء جنوب سوريا، تُطلق نساء سوريات العنان لأيديهن وخيالهن عبر حياكة بسط تراثية تكاد صناعتها تندثر في عصر السرعة، بدأت فكرة المشروع مع ازدياد حركة الوافدين والوافدات إلى المحافظة، ومع ظهور الحاجة لخلق فرص عمل جديدة تتماشى مع حركة النزوح.
في مبنى الورشة المشيد من الحجر الأسود القديم الذي يميز بيوت السويداء، تجلس صاحبة المشروع السيدة خلود هنيدي بأناقة سيدة سورية واثقة، تتدلى النظارة الطبيّة على قماش فستانها الأبيض، وتزين جيدها وأذنيها بحليّ من الأحجار الطبيعية الملونة، تلخص هنيدي التي عملت سابقاً كأخصائية نفسية ماهيّة المشروع وتقول في تصريحات خاصة لموقع صالون سوريا، “فجة الخرق تعني البساط المصنوع من بقايا الأقمشة، جمعت الورشة سيدات من مختلف المدن السورية بالإضافة إلى نساء من المجتمع المحلي، فكانت أشبه بسوريا مصغّرة”.
تعتبر فجج الخرق إحدى الصناعات شبه المنقرضة، تشرح هنيدي “رغم أنها ليست الحرفة الوحيدة المهددة بالانقراض إلا أنها تكتسب أهمية خاصة لسهولة الحصول على المادة الأولية وتوافرها في كل منزل، كما أنها تحقق بإنتاجها كلا الجانبين: الخدمي والجمالي ويمكن تطويرها بما يخدم احتياجات البيوت المتنوعة، ويقوم أساس الحرفة على استخدام بقايا الأقمشة لتصنيع العديد من القطع الجديدة مثل البُسط، وأغطية الأرضيات، ولوحات تزيين الجدران”.
قديماً كان أفراد الأسرة يحوّلون كل ما لديهم من أقمشة لشرائح ويأخذونها الى النوّال ليعيدها إليهم بساطاً، تضيف هنيدي “بحسب معلوماتي يعود تاريخ صناعة البساط اليدوي في بلاد الشام والعراق والجزيرة إلى القرن الثامن عشر، وأعتقد أن بداية صناعة فجّة الخرق تعود إلى الفترة ذاتها”.
وجود نساء من خلفيات جغرافية وثقافية متنوعة، وسياقات اجتماعية مختلفة ساهم في إغناء التجربة وإخراجها من حدود العمل اليدوي فقط. تشير هنيدي، “لعب هذا دوراً في بناء علاقات حقيقية اتسمت بالفضول والرغبة بالمعرفة، حيث لا تعرف معظم السيدات الوافدات عن مدينة السويداء أكثر من موقعها على الخريطة ربما، وفي الوقت نفسه استطاعت نساء المحافظة من مجتمع السويداء في أقصى الجنوب السوري أن يتعرفن على ظروف الحياة في المدن السورية الأخرى وهذا ما خلق ألفة كدنا نضيعها في ظروف الحرب وتداعياتها”.
بات مشروع “فجة خرق” الذي أبصر النور عام 2017، يوفر مساحة آمنة للنساء للتعبير عن أفكارهن ومخاوفهن ومشاكلهن، لاسيما أن هنيدي بالأساس أخصائية نفسية، وفي ذلك تقول ” وفّر المكان الأليف للورشة والجو المبني على المحبة فرصة للبوح ومشاركة المتاعب اليومية بين السيدات. وهذا ما جعلنا نتجاوز حدود العمل اليدوي وأن نُوجد هامشاً مشتركاً لتبادل المشاعر والأفكار، من خلال جلسات الدعم النفسي التي ترتكز على واقع الحياة اليومية، ومشكلات التهجير والأوضاع المادية والتعامل مع الأطفال، وتطورت الفكرة فيما بعد لتصبح نهجاً دائماً ما زال مستمراً حتى اليوم”.
يحقق المشروع عدة أهداف معاً، فهو مكان لتمكين النساء مهنياً من جهة، ومشروع صديق للبيئة من جهة أخرى، تضيف هنيدي “إعادة التدوير هي إحدى طرق حماية البيئة من التلوث بالإضافة لما تحققه من ترشيد، عبر إعادة إنتاج قطع للاستخدام المنزلي بأسعار معقولة وبمستوى فني جيد وبمواد آمنة، مشروع فجج الخرق غير مكلف مادي لذلك يمكن اعتباره بديلاً مناسباً”، وتختم هنيدي “يعّبر المشروع عن التماسك المجتمعي المفقود في سوريا اليوم، حيث استطاعت الجلسات النسائية الناعمة تجاوز أشكال الخلافات اللي فرضتها النزاعات”.
إن تاريخ الأمة ومجد الوطن يصنعه أبناؤه الأوفياء من النساء والرجال ويفنون أعمارهم من أجل حرية ونهضة وطنهم، بعضهم يكتب صفحاتٍ في ميادين البطولة والنضال وبعضهم يهدي الأمة إلى سُبل العلم والمعرفة. فبهذه الطريقة قد أعطت الأمم دليلاً على تقدمها وشاهداً على تاريخها الحضاري. وأحد أولئك القامات، السيدة العربية السورية عادلة بيهم الجزائري. وصفتها ابنتها بأنها امرأةٌ شديدة البأس، ماضيةٌ كالسيف، شجاعة الفؤاد، ولقد كانت أحد أهم روّاد النهضة السياسية النِسوية في سوريا. وولدت في زمنٍ كان فيه الطغيان العثماني على أشده، لا يتوانى عن أي طريقةٍ يضطهد بها الشعب ويسحق شعوره القومي. فعاشت عمرها تناضل من أجل تحرير وطنها العربي وتحرير المرأة. كان والدها عبدالرحيم بيهم جزائري الأصل، ولقد ولدت في بيروت عام 1900، ثم انتقلت للعيش في سوريا. درست في معهد (Diaconese) الألماني في بيروت، وتتلمذت في اللغة العربية على يد العلامة عبد لله البستاني، صاحب معجم البستان. بعمرٍ مبكر، في سن السادسة عشرة، بدأت نشاطها الفكري للدفاع عن الهوية العربية، فكتبت مقالات في الصحف الوطنية، كصحيفتي الفتى العربي والمفيد البيروتية، متخذةً اسماً يدل على تمردها وكرهها للمحتل (الفتاة العربية نزيلة الأستانة). وبعد أن ساءت الأوضاع في الحرب العالمية الأولى اجتمعت عادلة بيهم مع عددٍ من رفيقاتها للقيام بعملٍ منظم حاولن من خلاله تحقيق مساعيهن في إيقاظ الوعي القومي العربي لدى النساء وتعليم الفتيات اللواتي لم تتح لهن الفرصة في التعلم. نتج عن هذه الجهود جمعية تمت تسميتها (جمعية يقظة الفتاة العربية). كان لهذه الجمعية رأيها الواضح الصارم في بعثة الاستفتاء التي زارت دمشق برئاسة(Crane) فطالبت بالاستقلال التام للبلاد العربية ورفض الحماية والوصاية والانتداب. أيضاً شاركت الجمعية في تنظيم مظاهراتٍ برئاسة السيدة عادلة بيهم في المقاومة ضد الانتداب الفرنسي. كما نظمت الجمعية لجنةً تشرف على دارٍ للصناعة، والتي ضمت مئة وثمانين عاملة للحرف اليدوية. بعد ذلك أسست الجمعية برئاستها مدرسة دوحة الأدب للبنات عام1928.
مدرسة دوحة الأدب: تعد هذه المدرسة أحد أهم وأشهر إنجازات عادلة بيهم التي لاتزال ناشطةً حتى الآن. هدفت هذه المدرسة إلى تعليم الفتيات في الأسر غير الميسورة واللواتي حُرمن من التعليم بسبب الظروف القاهرة. ولم يقتصر نشاط هذه المدرسة وأثرها على القطر بل تجاوزاه إلى الأقطار العربية حيث تلاقت الجهود والمساعي الإصلاحية لدعم دور المرأة في المجتمع، ونتج عن هذا التلاقي تعاون بين جمعية العلماء في الجزائر وجمعية دوحة الأدب في سوريا. ففي عام 1938، وكما تخبرنا الوثائق التاريخية، جرت مراسلات مكتوبة بخط اليد بين الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية “العلماء المسلمين الجزائريين” والسيدة عادل بيهم رئيسة جمعية “دوحة الآداب”، وسعى الشيخ ابن باديس من خلال تلك المحادثات للحد من الضرر العلمي الذي ٍخلفه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، معتقداً أن القضاء على الجهل يكون بتعليم المرأة فهو العماد الأول الذي يجب تأسيسه للبدء في الترميم وعلاج الأضرارٍ، طالباً من السيدة عادلة أن تبين له الشروط المطلوبة للسماح للفتيات الجزائريات إتمام دراستهن في الشام. أما نص الرسالة فهو التالي: “الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وآله، قسنطينة 9 جمادى الثانية 1357ه،حضرة السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الآداب المحترمة، السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، وبعد: اسمحي لي سيدتي أن أتقدم إلى حضرتكم بهذا الكتاب عن غير تشرف سابق ٍبمعرفتكم، غير ما تربطنا به الروابط العديدة المتينة التي تجمع بين القطرين الشقيقين الشام والجزائر. يَسرُّك سيدتي أن تعرفي أن في الجزائر نهضة أدبية تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي. ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم بقسنطينة. ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عن مجلة “الرابطة العربية “رغبت أن ترسل بعض البنات ليتعلمن من مدرسة الجمعية. فهي ترغب من حضرتكم أن تعرفوها بالسبيل إلى ذلك. تفضلي سيدتي بقبول تحيات الجمعية وإخلاصها والسلام. من رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس“. لم ترد السيدة عادلة أن تكون أنشطة الجمعية مقتصرة على مستوى التعليم فقط، بل أرادت توسيع الأنشطة لتشمل الأنشطة الفنية أيضاً. ولهذا الغرض سافرت إلى حلب للقاء “الشيخ عمر البطش” الذي يعد حافظ للموشحات وأكبر مرجع في الأغنية التراثية. ونتيجة لهذا التعاون شهدت مدينة دمشق عام 1947 حدثاً هو الأول من نوعه، كما ذُكِر في كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا“ للباحث السوري الراحل حسان عباس، الذي نشره مكتب اليونيسكو في بيروت. حيث أخذت عادلة بيهم من الزعيم فخري البارودي الموافقة على تدريب الفتيات على الغناء ورقص السماح وإحياء حفلة، فكانت هذه المرة الأولى التي ظهرت فيها الفتيات الدمشقيات وهن يؤدين حفلاً غنائياً راقصاً أمام العامة على خشبة مسرح قصر العظم بحضور رئيس الحكومة آنذاك خالد العظم. ورقص السماح هو أحد أنواع الرقص التقليدي الذي ارتبط بفنون الموشحات، وانتشر هذا النوع من الرقص في حلب قبل أن يأتي ويتم نشرهُ في دمشق. لكن كما كان لهذا الحفل أصوات مرحبة به ومشيدة بنجاحه، كان يوجد العكس. إذ إن الحفل لم يلقَ رضى قاضي دمشق الشيخ علي الطنطاوي، فشرع بالهجوم في المنابر والصحف على عادلة بيهم والحفل الذي أقامته المدرسة “فوصف مدرسة دوحة الأدب على أنها دوحة الغضب، قائلاً إنهم ينظرون إلى الغرب بعين الرضى ويغمضون أعينهم عن تلك العيوب والمفاسد. كما وصف لباس الفتيات بأنه يشبه لباس الجواري قديماً، فتاريخ دمشق الإسلامي مصدر افتخارها، فكيف يرضى مسلمٌ عربي أبي لابنته أن ترقص أمام الرجال الأجانب؟ وكيف يرضى بأن تتلوى وتخلع وهي تغني أغانٍ كلها في الغرام والهيام؟“.
الاتحاد النسائي العام:
لم تكتفِ السيدة عادلة بيهم بجمعية تشمل أنشطتها دمشق فقط، بل أرادت أن تشمل هذه الخدمات القطر بكامله، وبالفعل تم الأمر بعد اجتماع أربع عشرة جمعية اتفقت على تأسيس “الاتحاد النسائي العام السوري” لتكمل هذه المسيرة في السعي لتحرير المرأة ودعمها في تأدية واجباتها وإعانتها على أخذ حقوقها، وانتُخِبت السيدة عادلة لتكون رئيسةً للاتحاد. عُني الاتحاد أولاً بتوعية المرأة السورية بحقوقها وواجباتها، فأقام دورات متواصلة لمحو الأمية في صفوف النساء. كما اهتم بتقديم الدعم للمرأة العاملة، إما من طريق السعي لتحسين دخلها أو تقديم برامج ودورات تقوية في مجال العمل، ولم تُغفل هذه البرامج المرأة الريفية، فقد عمِل الاتحاد على التمكين الاقتصادي وتقديم فرص العمل على المشاريع الزراعية والصناعات. علاوة على ذلك عُني بالجانب الصحي عن طريق تقديم الخدمات الصحية اللازمة والمرفقة بجلسات التوعية.
كان للاتحاد إسهاماته المؤثرة أيضاً في مواجهة الاحتلال وداعماً للنضال العربي والتي ينبغي ذكرها: ١- في حرب فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي: تكاتفت الجهود في تقديم المساعدات للمرأة الفلسطينية القادمة إلى سوريا وقُدمت بالتعاون مع السيدة “بهيرة الدالاتي” مساعدات صحية ومالية لرعاية العائلات اللاجئة وفُتحت المدارس لاستقبال أولادهم. كما جُندت مئات المتطوعات في الاتحاد النسائي للمساعدة في خياطة ثلاثة آلاف بذلة عسكرية للجنود السوريين المتطوعين في جيش الإنقاذ. ٢- قدم الاتحاد دعماً كبيراً خلال العدوان الثلاثي على مصر: حيث قادت عادلة بيهم النساء السوريات وتدربت على حمل السلاح في معسكرات أُقيمت في ريف دمشق، تحت عمليات عُرفت باسم “غرف المقاومة الشعبية“. ٣- في حرب تشرين: ظلت السيدة عادلة ناشطة في الدعم الإنساني، ورغم تقدمها في السن لم تتغيب عن حملات إسعاف الجرحى خلال الحرب. ٤- موقف الاتحاد من الجمهورية العربية المتحدة: أيد الاتحاد برئاستها الوحدة السورية المصرية عند قيامها عام 1958. وكانت أحد المستقبلين للرئيس جمال عبد الناصر، فقد كانت السيدة عادلة تكن الكثير من الاحترام للرئيس عبد الناصر الذي أعطى المرأة المصرية حق الانتخاب، فكانت تلتقي به كلما أتى إلى سورية وتتحدث معه عن احتياجات ومطالب الاتحاد النسائي. ونظراً لما قدمه الاتحاد من إسهامات، فقد تم دعوة السيدة عادلة بيهم بصفتها رئيسة الاتحاد، لمختلف الاجتماعات والمؤتمرات داخل الوطن العربي وخارجه. حضرت الكثير من المؤتمرات وشارك الاتحاد بوفدٍ مؤلف من ثلاثين عضواً للمشاركة بالمؤتمر النسائي الفلسطيني الذي عُقد في القاهرة وتم انتخاب عادلة بيهم نائبةً لرئيسة المؤتمر السيدة هدى شعراوي والذي تأسس في عام1944. شارك الاتحاد النسائي السوري برئاستها في المؤتمر العربي العام أيضاً، وكذلك في المؤتمر النسائي الأول المُقام في بيروت. وفي عام1960تم انتخابها رئيسة للجنة التحضيرية للمؤتمر الآسيوي الإفريقي. تلقت أيضاً دعوة من الاتحاد النسائي الصيني لزيارة جمهورية الصين وحضور العيد الوطني، كما أنها حضرت مع وفد الاتحاد المؤتمر الآسيوي. دُعيت في عام 1969 لحضور حفل اليوبيل الذهبي لاشتراك المرأة العربية في ثورة 1919، كما أنها تلقت دعوة للحضور والمشاركة في اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد النسائي المصري في القاهرة.
الجمعيات التي ضمها الاتحاد ضم الاتحاد النادي النسائي الأدبي، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمين، دوحة الأدب، الندوة الثقافية النسائية، الإسعاف النسائي العام، الجمعية الثقافية الاجتماعية، المبرة النسائية، جمعية نقطة الحليب.ولم تكن الطريق ممهدة أمام هذه الجمعية فقد واجهت العديد من العوائق، وعلى الرغم من أن هذه الجمعية وغيرها كان غرضها المساعدة الجادة للقيام بنهضة وتحسين أحوال المرأة، إلا أنه كان دائماً هناك من يرفض هذا التغيير ويراه سلبياً وأحياناً مضللاً. ففي أحد اجتماعات الاتحاد النسائي تمت الدعوة لإقامة بحفل خيري في دمشق هدفَ إلى جمع التبرعات لصالح جمعية نقطة الحليب. لكن الجمعيات الدينية اعترضت على الحفل بحجة أن النساء الحاضرات في الحفل سافرات. وخرجت المظاهرات في دمشق مطالبةً بإلغاء الحفل وعدم السماح للسيدات بحضور الاحتفالات إلا أن الرئيس سعد الله الجابري رفض الاستجابة لمطالب المتظاهرين وأرسل عناصر الشرطة لتفريقهم، ثم طلب من السيدة عادلة الحضور في مكتبه وتم الاتفاق على أن يقوم الاتحاد النسائي بحجب المعونات التي كان يقدمها للناس، لبضع ساعات لا أكثر وأن يتم الرد عليهم: “اذهبوا إلى المشايخ وخذوا خبزكم منهم“. بالفعل قبلت السيدة رئيسة الاتحاد مطلب رئيس الحكومة، وتم الاعتذار من كل من جاء إلى مراكز التوزيع التابعة للاتحاد والطلب منهم أن يذهبوا إلى الجمعيات الدينية. لكن لم يستطع رجال الدين تلبية المطالب والحاجات، فسكت المعارضون وتابعت الجمعية أعمالها. واصلت السيدة عادلة بيهم العطاء إلى أن وافتها المنية عام 1975. وفي اليوم العالمي للمرأة، منح الرئيس السوري حافظ الأسد عادلة بيهم الجزائري “وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة“ لكنها لم تتمكن من استلامه فاستلمته نيابة عنها ابنتها ورفيقتها في الكفاح أمل الجزائري.