ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

 قبل عام 2011  كان الاقتصاد السوري من أكثر اقتصادات الدول النامية تنوعاً، حيث كانت سوريا تنتج أكثر من 80% من غذائها وأدويتها وتُصدر الفائض منها إلى أكثر من 60 دولة، كما كانت من بين البلدان الخمسة الأولى عالمياً في إنتاج القطن وتربية الأغنام والأبقار، ويترواح إنتاجها من الحبوب بين 3،5 إلى 6 ملايين طن سنوياً، وهو ما يزيد عن حاجة السوق المحلية، فيما يصل إنتاجها من النفط إلى حدود 45 ألف برميل يومياً، هذا إلى جانب أنها كانت قبلة لملايين السياح من حول العالم، إذ وصل عددهم عام 2010 إلى أكثر من 8 ملايين سائح. 

ذلك الاقتصاد، الذي لم تُبق منه الحرب وتبعاتها  أي شيء يُذكر، بات اليوم يحتاج إلى معجزة لكي يتعافى، وذلك في ظل تراجع حجم الإنتاج المحلي في شتى المجالات، خاصة الإنتاج الزراعي والصناعي، وتراجع حجم الصادرات بشكل كبير، وغياب الاستثمارات، هذا إلى جانب توقف مئات المصانع والمعامل عن العمل، وهجرة آلاف الصناعيين -الذين نقلوا أعمالهم إلى الخارج- وأهم الخبرات والكفاءات الاقتصادية ورجال الأعمال والأيدي العاملة الماهرة.

ورغم أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد مستمر منذ سنوات وبشكلٍ متصاعد، أدى لانحسار وجود الطبقة الوسطى وازدياد نسبة طبقة الفقراء، إلا أن ما جرى خلال الشهرين الماضيين كان الأشد قسوة على معيشة الناس، مقارنة بسنوات الحرب وما بعدها، حيث  تصاعد سعر صرف الدولار من 7 آلاف ليرة إلى أكثر من 14 ألفاً، علماً أن سعر الدولار  مقابل الليرة قد تضاعف بنحو 280 ضعفاً بين عامي 2011 و 3023، فيما وصلت معدلات التضخم، وفق بعض المصادر، إلى 16137،32 بالمئة مع بداية العام الحالي. وفي ظل ذلك كله، أصبح اليوم متوسط دخل الموظف الحكومي أقل من تسعة دولارات، وهو يكفي فقط لشراء ثلاثة كيلو لحم فروج، أو 6 كيلو أرز، أو 6 كيلو عدس، أو أربعة ليترات زيت نباتي من أسوأ الأنواع، فيما لا يكفي لشراء كيلو لحم خاروف.

وبحسب بعض الدراسات الحديثة باتت الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج اليوم إلى نحو 6.5 مليون ليرة  لشراء متطلبات المعيشة الأساسية، ووفق بعض التقديرات المتعلقة بمستويات المعيشة الحالية فإنه يجب أن يتجاوز دخل الموظف الحكومي الستة ملايين ليرة شهرياً لكي يقترب من حجم القوة الشرائية لعام 2010.  وبالنظر إلى حجم دخله الحالي سيحتاج الموظف الحكومي اليوم، إذ ما ادخر كامل دخله الشهري، إلى نحو 150 عاماً (قرن ونصف) ليتمكن من شراء بيتٍ في مناطق العشوائيات، فيما سيحتاج إلى أكثر من ست سنوات ليتمكن من شراء برّادٍ منزلي، علماً أن سعر البرّاد (متوسط الجودة) حالياً يعادل سعر ثلاثة شقق سكنية في ريف دمشق عام 2010. 

ورغم أن القدرة الشرائية معدومة أصلاً عند معظم الناس، بعد أن تضاعفت أغلب الأسعار نحو 161 ضعفاً  بين عام 2011 وبداية عام 2023، إلا أن قفزات أسعار السلع الأساسية تتالت خلال الأسابيع الماضية لترتفع إلى أكثر من 70 % وتزيد من مأساة وأوجاع الشعب المهدد بلقمة عيشه.

هذا الواقع جعل عائلة الموظف عدنان (45 عاماً)، التي لجأت لسياسة تقشف مالية قاسية، تتخلى عن معظم عاداتها المعيشية بما فيها طقس شرب الشاي، وعن ذلك يحدثنا عدنان: “منذ سنوات اعتدت وعائلتي شرب الشاي ثلاث مرات يومياً، لكن هذا الطقس بات يكلفنا اليوم كامل دخلي الشهري (115ألف ليرة) من وظيفتي الحكومية، فهو يحتاج شهرياً لأربعة كيلو سكر (حوالي 65 ألف ليرة) ونحو 400 غرام شاي (60ألف ليرة)، لذا تخلينا عنه واستبدلناه بشرب النعناع -الذي نزرعه على الشرفة مرة واحدة يومياً مع إضافة بضع ذراتٍ من السكر في حال توفره”.

وإلى جانب عمله الوظيفي يعمل عدنان في المساء ولنحو ثماني ساعات سائقاً لسيارة أجرة، لكن عمله هذا لا يلبي ربع الحاجات المعيشية لعائلته، حيث تراجع دخل تلك المهنة بشكلٍ كبير، نتيجة شراء الوقود من السوق السوداء وارتفاع تعرفة النقل التي بات معظم الناس يعجزون عن دفعها.

وبالإضافة لمشروب الشاي، أصبحت القهوة، التي تُعد من أهم المشروبات اليومية، تغيب عن بيوت كثير من الناس، الذين باتوا يشربونها بتقشفٍ شديد، ويشترونها بكمياتِ قليلة قد تقل عن 100 غرام، حيث وصل سعر كيلو القهوة الجيدة إلى ما بين 130 و 160 ألف ليرة. وقد انتشرت في الأسواق بعض أنواع القهوة المغشوشة التي يضاف إليها مواد أخرى، مثل نواة التمر والقضامة والخبز اليابس، وذلك في محاولة لتخفيض سعرها (سعر الكيلو أكثر من 80 ألف) الذي بقي مرتفعاً ولا يتماشى مع القدرة الشرائية للفقراء.

سوء التغذية يهدد صحة الناس 

بحسب أحدث تقارير برنامج الأغذية العالمي فإن أكثر من نصف سكان سوريا يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما وضعها في صدارة البلدان التي تواجه أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، ما يعني أن معظم الناس باتوا يعانون من سوء التغذية الحاد، الذي يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض مثل فقر الدم، الكساح، هشاشة العظام، الاكتئاب، تضخم الغدة الدرقية وضعف المناعة، كما يؤثر بشكل كبير على صحة النساء الحوامل والمُرضعات وعلى نمو الجنين، ويهدد الصحة الجسدية والنفسية للأطفال الذين سيكونون عرضة لأمراض الهزال والتقزم، إلى جانب الإعاقات العقلية وصعوبات التعلم.

ولأن 90 % من الناس يعيشون  اليوم تحت خط الفقر، فإن معظمهم باتوا محرومين من تناول أبسط الأطعمة الصحية، التي يحتاجها الجسم السليم، خاصة اللحوم الحمراء (كيلو لحم الخاروف 130 ألف ليرة) ولحم الفروج (الكيلو بين 30 و50 ألف ليرة)، وقد باتت محلات بيع اللحوم تقلل من حجم الكميات المعروضة للبيع خوفاً من تعرضها للتلف، بعد تراجع نسبة الإقبال على شرائها، فيما غاب الفروج المشوي عن معظم المطاعم، لينحسر بيعه في أماكن محددة بعد أن تجاوز سعره السبعين ألف ليرة. وبينما كان بعض الناس يستعيضون عن تناول الأسماك (سعر كيلو السمك البحري بين 70 و200 ألف ليرة) بتناول السردين المعلب، فإن هذا الأمر لم يعد متاحاً اليوم، بعد أن وصل سعر علبة السردين إلى10 آلاف ليرة، وعلبة التونة إلى 20 ألف ليرة.

وإذا كان بعض الفقراء قد استبدلوا اللحوم بالبقوليات والحبوب، التي تمد أجسادهم ببعض القيم الغذائية، فإن الكثير منهم باتوا اليوم عاجزين عن شرائها، حيث وصل سعر كيلو العدس إلى عشرين ألف ليرة، والبرغل إلى أكثر من 12 ألف ليرة، والحمص إلى 15 ألف ليرة، فيما تجاوز سعر كيلو الفاصولياء اليابسة الـ 25 ألف ليرة. وفي المطاعم الشعبية التي كانت قبلة الفقراء، وصل سعر صحن الفول أو الحمص إلى 10 آلاف ليرة، وسعر الكيلو من تلك المادتين (مع إضافة صلصة اللبن أو الليمون والثوم) إلى 20 ألف ليرة.

أما الخضار والفاكهة فقد غادر بعض أنواعها موائد الكثير من الفقراء، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الفاصولياء الخضراء والبامية إلى نحو 15 ألف ليرة، وتخطى سعر الليمون  حاجز العشرة آلاف ليرة، فيما تراوح سعر بعض أنواع الفاكهة، كالخوخ والإجاص والتفاح والعنب، بين 8 و12 ألف ليرة. أما الكرز والتين والموز، التي وصل سعرها إلى 20 ألف ليرة، فقد باتت تتواجد في الأسواق بكميات قليلة وتباع في بعض المحلات التي يرتادها الزبائن الأثرياء.

ويعود ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة غير المبرر، إلى مجموعة عوامل منها: ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وتكاليف النقل بين المحافظات، صعوبة توفير المحروقات وارتفاع أجور العمالة، وانتشار أزمة المياه، التي أجبرت كثيراً من الفلاحين على شراء صهاريج الماء بأسعار كبيرة، هذا إلى جانب فتح أبواب التصدير الذي ساهم بارتفاع الأسعار محلياً، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الثوم بعد تصديره إلى 25 ألف ليرة، وهو ما حرم معظم الناس من شرائه بغرض المؤونة.

بيع الممتلكات لتأمين لقمة العيش

” خلال العام الحالي بعتُ كل ما تملكه زوجتي من مصاغٍ ذهبي، في محاولة لمقاومة الفقر وتأمين لقمة عيشنا، فالبقالية التي أعمل بها منذ سنوات لم تعد تحقق أية أرباح تذكر ولا تعود عليَّ سوى بمزيدٍ من الخسائر، في ظل ارتفاع الأسعار- الذي قلص حجم رأس المال وتراجع القدرة الشرائية. وخلال الشهرين الماضيين، ومع تدهور الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق  وصعوبة إيجاد عملٍ بديل يحقق أبسط متطلبات المعيشة، أُجبرت على بيع خاتم زواجنا الذي لم يُغادر إصبع زوجتي طوال عشر سنوات”. هذا ما يقوله خليل (45 عام/ أب لثلاثة أبناء) عن واقعه المعيشي الذي استهلك جميع مدخراته، مضيفاً بحسرة وألم: ” في الأسبوع الماضي وبعد عجزي عن دفع إيجار البيت (400 ألف ليرة شهرياً) لمدة شهرين، اضطررت لإعطاء صاحب البيت  بعض الأثاث المنزلي (تلفاز، أسطوانة غاز، مروحة، خمسة كراسي بلاستيك) كتعويض عن مبلغ الإيجار”.

  خليل هو واحد من آلاف الناس الذين أجبرهم تردي الواقع المعيشي على بيع مدخراتهم وأثاث بيوتهم. ففي محلات بيع الأثاث المستعمل ستشاهد المفروشات والخزائن وأدوات المطبخ والقطع الكهربائية تتكدس فوق بعضها بشكل يفضح حجم الألم، وكأن ذاكرة الناس تباع في الأسواق. ويحدثنا أبو معتز (54 عام/ صاحب محل لبيع الآثاث المستعمل) عن طبيعة مهنته في ظل الظروف الحالية: “فيما مضى كان الناس يبيعون بعض الأثاث القديم (خزائن، أَسرَّة، كنبايات، برادات وغسالات) بغرض استبداله بأثاثٍ جديد، أما اليوم فقد بات الكثير منهم يبيعون كل ما يمكن بيعه، بما في ذلك الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها. فإلى جانب المفروشات والكراسي وأسطوانات الغاز والأدوات الكهربائية (خلاط، مكنسة ، مروحة ، مكواة.. الخ) يضطرون لبيع البطانيات والطناجر والصحون والفناجين وجميع أدوات المطبخ”. ويضيف “كل يوم يأتينا من يعرض أغراضاً يُمكن بيعها مباشرة أو وضعها برسم البيع، حتى ولو حصل على ثمنها بالتقسيط. وقد استغنى كثير من الناس عن بعض القطع الثمينة (أطباق القيشاني والخزف، النحاسيات، التحف والأنتيكا وغيرها) التي كانوا يفاخرون باقتنائها، كونها تحظى بقيمة فنية أو أثرية، ليبيعونها بأثمان بخسة لا تراعي قيمتها”.

 وإلى جانب بيع المدخرات والأثاث المنزلي يضطر بعض الناس لبيع ثيابهم وأحذيتهم، التي كانوا يوزعونها على الفقراء فيما مضى، إلى محلات البالة وبسطات بيع الألبسة، التي صار بعضها يعتمد على البضائع المحلية المستعملة، بعد ارتفاع تكاليف استيراد الثياب الأوربية وارتفاع أسعار بيعها في الأسواق وعجز كثير من الناس عن شرائها.

هل هناك حلول؟

عند سؤال البعض عن الحلول الاقتصادية الممكنة في سوريا وكيف ينظرون إلى المستقبل، أجاب معظمهم  بكلمات مقتضبة، سوداوية وتشاؤمية، أو تحمل طابع السخرية المفرطة. المهندسة المعمارية نسرين، التي عجزت عن تكوين تصور واضح لأي حلٍ يمكن أن يضع حداً لتردي الواقع المعيشي، اكتفت بتوصيف معاناتها طيلة السنوات الماضية: “حين بدأت الحرب في سوريا كنت في الخامسة والعشرين من عمري، اليوم أصبح عمري  37 عاماً، المرحلة الذهبية من شبابي ضاعت وأنا ألهث باحثةً عن فرصة عملٍ مناسبة وعن تأمين أبسط متطلبات المعيشة ومقومات الحياة البشرية. نفذ صبري في انتظار أمل ما أو حلٍ لا يبدو أنه سيأتي قريباً، حتى صرت أشعر بالكره تجاه هذه البلاد وأحقد عليها”.

من جهته يرى الفنان التشكيلي منيار (34عام) أن تحسن الواقع المعيشي بات مستحيلاً في الأمد القريب، وسيزداد سوءاً مع قادم الأيام، في ظل غياب جميع مقومات الاقتصاد. ويضيف: “يجب على العالم ومنظمات الأمم المتحدة إيجاد حلٍ يوقف مأساة  الشعب السوري، وهذا الأمر يحتاج إلى حل سياسي ينهي وجود القوى الخارجية في سوريا، ويتيح إمكانية البدء في إعادة الإعمار وترميم البنى التحتية و فتح أبواب الاستثمارات”.

منيار الذي حرمه واقعه المعيشي من تحقيق حلمه الفني، ينتظر وعائلته بيع بعض ممتلكاتهم(منزلٍ أو قطعة أرض) لجمع مبلغ مالي يساعدهم على السفر نحو الخارج.

قبل أيامٍ قام جاري ببيع منزله، الذي بناه وأثَّثه بعناية فائقة، بنصف سعره الحقيقي، ليسافر مع عائلته إلى أربيل على أمل مغادرتها فيما بعد نحو أوروبا. ورغم أن جاري يُعد من ميسوري الحال، إلا أنه عجز عن مواصلة العيش في هذه البلاد، التي رفض مغادرتها طوال سنوات الحرب، رغم الخطر والموت، إذ كان يعشق دمشق بشكل جنوني ويشعر بانتماءٍ كبير نحوها، لكنه غادرها اليوم، وهو على أبواب السبعين من عمره، دون أن يشعر بأي حزنٍ أو أسف.

وجوه أخرى للتحرش

وجوه أخرى للتحرش

عبر وسائط النقل وفي داخلها تحدث عمليات تحرش مباشرة وغير مباشرة، ويتم التعامل معها بالصمت غالباً، وكم اضطرت نساء وفتيات لمغادرة وسائط النقل لعجزهن عن لجم أو رد واقعات التحرش ومحاسبة المتحرشين. تخاف النساء من المواجهة غالباً، والأكثر مدعاة للأذى هو تحميل المجتمع والضحايا لأنفسهن المسؤولية الكاملة عن وقوع التحرش.

على أحد مواقف الحافلات تتوقف سيارة خاصة حديثة وبحالة جيدة، يشير السائق لسيدة داعياً إياها لتستقل سيارته، بات المشهد طبيعياً في ظل زحمة المواصلات الخانقة، حتى أنه صار دارجاً ومقبولاً (رغم تحفظ البعض) أن تطلب بعض النساء من أصحاب أو سائقي السيارات العابرة التوقف، وخاصة في بعض المناطق المزدحمة أو المقطوعة والتي تنعدم فيها حركة المواصلات، عدا عن ارتفاع كلفة أسعار سيارات الأجرة بصورة غير قابلة للدفع أو حتى للتقبّل.

 لم تتردد السيدة بالصعود، كانت المرأة الوحيدة على الموقف وقدرت أن صاحب السيارة قد تعاطف مع وقوفها طويلاً في منطقة مزدحمة جداً، كما أن تطابق وجهتيهما شكل دافعاً قوياً ومطمئناً لتشاركه رحلته.

فور صعودها، عرّف الرجل عن نفسه، منح نفسه لقب المهندس وصرّح باستعراض مبالغ به: بأنه صاحب مكتب سياحي للرحلات الداخلية والحجوزات الفندقية. كان التقديم سخياً، يوحي بالاكتفاء وبالنزاهة، لكن المرأة شعرت بأن هذه المقدمة كانت فخاً، هي وبشكل شخصي لا تحب المكاتب السياحية ولا أصحابها، تعرف تماماً أن نشاط بعضها يتجاوز وظيفته الحقيقية، والأهم أنها غير مضطرة للتصديق. عرفت عن نفسها وعن عملها أيضا، لكنه قام فوراً بطلب رقم هاتفها مؤملاً إياها باستعداده لأي خدمة تطلبها خاصة وأنها امرأة وحيدة، أعلنت أنها ليست وحيدة أبداً! باتت كلمة وحيدة مدخلاً للتطفل، لفرض طلبات تبدو للمساعدة أو المساندة، لكنها في الحقيقة فخ ينصب شراكه المتلاعبون.

لم يغيّر جوابها شيئاً، أصّر وبسرعة على طلب رقم الهاتف فاعتذرت، أوقف سيارته على يمين الطريق وقال لها تفضلي! كان يقصد تماماً طردها! سألته بغضب: هل كانت الدعوة لمرافقتك إلى ذات الوجهة من أجل المساعدة أم من أجل رقم الهاتف؟ رد صارخاً وهو يشير لها بالمغادرة: (أنا ما بحب النسوان يلي بتستشرف علي)!

ثمة صورة نمطية يساهم الرجال في تعميمها وهي أحقية الأغنياء بالتحرش، وأحقية الشباب أو الأصحاء بالتحرش، يبدو أن كبار العمر وأصحاب الاحتياجات الخاصة والفقراء لا يحق لهم جميعاً التحرش، فهم وببساطة لا يملكون ما يمنحونه، هكذا يميل الجميع للتعبير مع أن هذا يتعارض قيمياً مع رفض المتحرش مهما كان وضعه المادي أو سنه أو شكله.

على زاوية ساحة شهيرة يتلاعب سائق ميكرو قديم الصنع بالأضواء في عز النهار، كان يقصد سيدة بعينها تقف بانتظار واسطة نقل، سخر رجلان واقفان من هزالة الموقف، قالا لبعضهما: ميكرو مهتري وعم يغمّز كيف لو معه مرسيدس! كان للسيدة رأي مختلف ولكنه مهين أيضاً: “زمّك (يعني قصير ونحيل القامة) وختيار على عيبه”! ابتعد الجميع عن إدانة التحرش المباشر عبر الدعوة غير المبررة من السائق لسيدة لا يعرفها، اتفقوا جميعهم على تقزيم السائق المتحرش وكأنه خارج دائرة من يحق له التحرش، وكأن التحرش فعل قوة لا يملكه إلا الأكفاء على فعله. يبدو أن المجتمع يبارك علناً التحرش لكن لمن يملك حق التحرش، إنها لمصيبة كبرى! كان بودي سؤال السيدة المعترضة على شكل الرجل والرجلين الساخرين من الباص الذي يقوده ذاك المتحرش عن موقفهما من التحرش ومن الرجل ذاته إذا ما تغير شكله أو عمر ونوع الحافلة التي يقودها.

ثمة مصيبة أخرى تحمي المتحرشين، وهي اتهامهم جميعاً بأنهم مرضى نفسيين، أي وبصريح العبارة فهم لا يتحملون نتائج تحرشاتهم ولا اعتدائهم الواقع مباشرة على النساء دون أي تفكير أو رادع. إن تعميم نظرية المرض النفسي هي محاولة فاشلة لحماية المتحرشين وإفلاتهم من العقاب، فلماذا لا تقع آثار أمراضهم النفسية إلا على النساء! وعلنا وفي الأماكن العامة وكأن النساء مستباحات بمجرد وجودهن في الفضاء العام، وكأن الرجال وحدهم من يحق لهم التحكم بالفضاء العام وممارسة كل الانتهاكات القانونية والاجتماعية والأخلاقية فقط بسبب هويتهم الاجتماعية! إن فائض القوة الذي يتربى الذكور متسلحين به يمنحهم قوة ودافعاً للتحرش دونما أي توقع للردع أو للعقاب.

يجلس الرجل على المقعد الجانبي، يضع على ركبتيه كيساً من النايلون الأسود، لا يسمح ضيق الحافلة بالتخلص من احتكاك ركبتيه بركبتي السيدة المجاورة له، لكنها لوهلة شعرت أن ثمة ما هو أبعد من مجرد احتكاك فرضه ضيق المكان، بخفة حاسمة مدت يدها والتقطت يده التي يلامس بها فخذ السيدة متخفياً بكيس النايلون. أمسكت السيدة بيده الآثمة، حاول سحب يده لكنها شدت عليها وصفعت وجهه بيده، ثم صرخت بالسائق ليتوقف فلم يستجب، حاول الرجل اتهام السيدة بالجنون وبأن لها خيالاً مريضاً، قال لها بثقة: “استحي على عمرك.” كان يقصد أنها في سن تجاوزت فيه التحرش بها، وكأن التحرش فضيلة أو وسيلة لتثبت المرأة لنفسها أنها جميلة أو تستحق التحرش! تناقض مرعب تفرضه حزمة من المغالطات، كأن تقول امرأة لرجل يتحرش بها: “عيب عليك أنا في مثل عمر والدتك”، وكأن للتحرش سناً أو عتبة أو مبرراً! غضبت السيدة بشدة، صفعته بيديها الاثنتين وقالت له: “لن أسمح لك بلمسي، حتى لو كنت عجوزاً، من قال لك بأنني أنتظر شهادتك لتثبت بأني امرأة!”

يتحول الازدحام إلى مناسبة سانحة تسهّل التحرش، يستغله البعض لممارسة التحرش الجسدي المباشر خاصة وأن التهرب منه أو نفيه سهل ومبرر ويمكن عزوه إلى الازدحام لا غير. في الباص الكبير يمرر شاب متحرش كف يده على فخذ شابة واقفة أمامه، تشعر بذلك، يتضرج وجهها باللون الأحمر من شدة الخجل، تحاول تغيير وضعية وقوفها لكن الازدحام الشديد لا يسمح لها بذلك والمتحرش لا يتوقف عن التحرش، بل يمنحه ارتباك الصبية ومحاولة الدوران في المكان فرصة للالتصاق بمساحة أوسع من جسدها. تتدخل امرأة جالسة في مواجهة الشاب، لكن كل ما تفعله هو أن تنادي الشابة لتقف بجانبها. تدخّل هش وضعيف، لا يعاقب الشاب ولا يردعه ولا حتى يفضحه، بل يدعوه وبثقة بالغة لينتقل إلى ضحية أخرى بعد نصف متر من مكان واقعة التحرش الأولى، تصرخ الفتاة به، لكنه لا يتأثر أبداً، ولا يظهر أي استجابة وكأنه غير معني بتاتاً بما يفعله من اعتداء صارخ، تغادر الفتاة الباص مرغمة والصمت سيد الموقف.

تتحول وسائط النقل إلى بيئة خصبة للتحرش، تعاني النساء من التحرش ومن الصمت على المتحرشين، تفتقد النساء بشكل عام إلى كل وسائل الحماية والدعم في مواجهة المتحرشين. ويصل التحرش حدوده القصوى عندما يستغل سائقو وسائل النقل حتى العامة وظيفتهم لحجز أماكن محددة لنساء أو فتيات محددات، وربما يطلبون بعدها أرقام هواتفهن الخاصة وقد يعرضون عليهن خدمات خاصة مقابل تنازلات من النساء أيضاً.

وليس مستغرباً أبداً، أن يتدافع الركاب للفوز بمقعد في حافلة عامة بينما يقوم السائق بحجز المقعدين الأماميين لنساء لا يعرفهن من قبل أبداً، لكنه وبسبب الازدحام وصعوبة تأمين مقعد يبرر لنفسه دعوة نساء بعينهن للجلوس في هذه المقاعد دونا عن غيرهن، فقط لأنهن شقراوات مثلاً! و الطامّة الكبرى هي أن يتحول التحرش إلى امتياز، لا تعيه النساء وربما وإن وعينه يعتبرنه غير مكلف أبداً ولا ينتمي للتحرش كفعل اعتداء صريح وواضح لكنه مغلف بالصدفة أو بالرغبة بالمساعدة أو فعل الخير.

من المؤسف والضار جداً هو التعامل مع التحرش في وسائل النقل عامة أو خاصة وكأنه حل أو إجراء تلقائي وبسيط وبريء، وقد يخفف من سوء الأحوال العامة وخاصة أزمة النقل والمواصلات.

للتحرش وجه مباشر وصارخ وله آلاف الوجوه غير المباشرة والمتلاعب فيها وبالنساء من خلالها وخاصة التعامل معهن وكأنهن طرائد وقوعها محتم في حبائل المتحرشين، وجوه أخرى يتضافر فيها الاستخفاف مع ضعف النساء وخاصة في ظل سوء الأحوال العامة وغياب كل آليات الحماية والوقاية.

سعد الله ونوس: مسرحي بحجم وطن

سعد الله ونوس: مسرحي بحجم وطن

“نحن لا نصنع مسرحاً لكي نثبت فقط أننا لاحقون بركب المدنية، إننا نصنع مسرحاً لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعاً.. المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مُركبة، سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها وافتقر إليها”. ربما تلخص تلك الكلمات، وهي للمسرحي سعدالله ونوس، حجم المسؤولية الثقافية الكبيرة التي تحلى بها خلال مسيرته المسرحية، التي أبدعت مسرحاً جديداً، مسرحاً وجودياً فلسفياً يقوم على الجدية والوعي ويختلف عن مسرح الخطابة والتهريج، يؤمن بدور الفعل وتأثير الكلمة، يدافع عن قضايا الناس ويشجع المجتمع أن ينهض ويمتلك وعياً.

 ومنذ مسرحياته الأولى ظهر ونوس، الذي درس الصحافة في القاهرة بداية الستينيات، كأحد أعلام التنوير، كونه من أكثر الكتاب المسرحيين العرب التزاماً بالقضايا الوطنية العربية، بل كان، في كثير من الأحيان، صوت ضمير العديد من المثقفين ولسان حالهم، في زمن الصمت والعجز عن حرية التعبير. حَمَل عنهم عبء المواجهة مع السلطات السياسية والدينية، وعبَّر من خلال كتاباته بشكلٍ واضحٍ عن فكره اليساري دون مواربة، وبرز مسرحه كأداة لنشر التوجهات الفكرية والتنويرية وعكس ظروف العالم العربي وعرَّى واقعه السياسي، فعقب نكسة حزيران كتب ونوس مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، التي جعلته من أبرز أعلام كُتاب المسرح، وتناول من خلالها واقع هزيمة العرب ووجع الشعب المهزوم. وعقب انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987 كتب مسرحية “الاغتصاب” التي صورت الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال رواية فلسطينية وأخرى إسرائيلية، يميز فيهما بين الصهيوني واليهودي ويوضِّح حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال. وقد كان ونوس من أكثر الكُتاب مناصرة للقضية الفلسطينية، وذلك منذ بداية دراسته لفن المسرح في فرنسا أواخر الستينيات، حيث أحيا مع زملائه العديد من النشاطات السياسية والثقافية، التي كانت تهدف للتعريف بقضية الشعب الفلسطيني.

ومنذ بداياته خلق ونوس تقنيات وأساليب مسرحية جديدة، أهمها تقنية كسر الحاجز بين المسرح والجمهور، أو ما يسمى بهدم الجدار الرابع بين الممثل والمتلقي. ومن خلال هذه التقنية كان ونوس يحضُّ المتفرج على المشاركة في بناء الحدث المسرحي ويتوقع منه أن يُعبِّر عن رأيه، ونستند في ذلك إلى كلام ونوس: “المتفرج هو النصف الأساسي لأي عرض مسرحي، هو هدف العرض، وهو مسؤول عنه أيضاً، لذلك عليه أن يمارس حقوقه كاملة، أن يؤدي دوره بشكل تام وإيجابي. عليه أن يملأ حيزه في كل نشاط مسرحي، أن يقبل ويرفض، أن يضغط ويقاطع، أن يقول ما يريد ويصحح ما يُحكى له. باختصار ألا يكون سلبياً يأخذ ما يُقدم له دون اعتراض، ودون تمحيص”.   

في مسرحية “حفلة سمر” تكون الخشبة مضاءة منذ البداية والمسرح دون ستارة، مفتوح أمام الجمهور منذ دخوله إلى الصالة، فيما يجلس بعض الممثلين  بين الجمهور ليؤدون أدوارهم من هناك، وهو ما جعل العرض أشبه بمسرحية داخل المسرحية وفسح المجال أمام الجمهور ليتفاعل مع العرض وليكون جزءاً منه، وأعطى للحدث وللشخصيات بعداً اجتماعياً مميزاً.

التقنية ذاتها استُخدمت في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” التي تدور أحداثها داخل مقهى شعبي، حيث صُممت الخشبة على شكل ذلك المقهى، الذي يضم حكواتياً وعدداً من الزبائن. ومن خلال تفاعل زبائن المقهى وتعليقهم على الحكاية، التي يرويها الحكواتي، وتدخلهم في مجريات الأحداث، عمل ونوس على توريط المتفرج وجعله طرفاً فاعلاً في العرض المسرحي، وفسح له المجال ليتدخل في مجريات الحدث وليتفاعل مع الشخصيات (زبائن المقهى) ويخلق حواراً معهم. 

تسييس المسرح

طرح ونوس مشروع تسييس المسرح ، بدلاً من المسرح السياسي، انطلاقاً من إيمانه بقدرة وأهمية هذا النوع من المسرح، الذي يقوم على فكرٍ نهضوي وتحريضي، في إحداث التغييرات السياسية والاجتماعية في العالم العربي. وهنا نستند إلى قوله: “على المسرح أن يُعلم الجمهور، ويعكس له أوضاعه بعد أن يحللها ويضيء خفاياها، وأن يحفز الناس على العمل، وأن يحثهم على أن يباشروا مهمة تغيير قدرهم الراهن. المسرح العربي الذي نريد هو الذي يدرك مهمته المزدوجة هذه: أن يعلم ويحفز متفرجه. هو المسرح الذي لا يُريح المتفرج أو يُنَفس عن كربته، بل على العكس هو المسرح الذي يُقلق، يزيد المتلقي احتقاناً، وفي المدى البعيد يهيئه لمباشرة تغيير القدر”.  وبهذا المعنى فإن وظيفة المسرح لا أن يُفرغ طاقات الجماهير ويرفه عنها وإنما عليه أن يشحن الجماهير ويحرضها على التغيير ويطور عقليتها ويستنهض طاقاتها، ليتشكل وعيها السياسي وتستفيق من تخديرها، وذلك على عكس المسرح “التنفيسي” الذي كان سائداً في مرحلة السبعينيات وتنحسر وظيفته  في إضحاك الجمهور والتخفيف عنه، وهو المسرح الذي كانت تستخدمه السلطات السياسية كأداة لإيهام الجمهور بأن هناك حرية تعبير عن الرأي. ولأن ونوس كان ناقداً لهذا النوع من المسرح جعل مسرحه أشبه بمنتدى سياسي واجتماعي يناقش أبرز القضايا والأسئلة الراهنة للجمهور،  ويقوم على شراكة وتفاعل بين الممثل والمتلقي ليتعلم كل منهما من الآخر. 

في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” كان ونوس يهدف لتحريض الجمهور على التعبير بحرية عن مواقفه ووجهات نظره حيال ما يجري فوق الخشبة، ويدفعه ليفكر بشكل نقدي تحليلي، ويميّز بين الكذب والحقيقة، ليس فقط أثناء العرض وإنما في الواقع أيضاً، فالعرض ينتقد الحكومات والزعماء السياسيين والمؤسسات الرسمية فيما يتعلق بالنتائج الكارثية المؤلمة لنكسة حزيران وآثارها السلبية على الشعب، الذي تجرع مرارة الهزيمة، والذي سيواجه مختلف أساليب القمع من قبل السلطات السياسية في حال عَبَّر عن استيائه مما جرى أو ناقش أسباب الهزيمة.

وفي مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”  يحاول ونوس أن يحفِّز الشعب على تغيير واقعه، عبر انتقاده لسلبية هذا الشعب وإذعانه المطلق لسلطة الزعيم، وانتقاد خوفه  من الدفاع عن نفسه أو التعبير عن استيائه من الطغيان والظلم، والمطالبة بأبسط حقوقه المسلوبة. وتتحدث المسرحية عن فيل الملك، الفيل الذي عاث خراباً وفساداً في المدينة وأقلق راحة سكانها، ولكن الشعب المستاء من الفيل والمتضرر منه، وعوضاً عن تقديم شكوى للملك، اقترح تزويج الفيل تحت تأثير الخوف من عقاب الملك، وهو ما ساهم في مضاعفة آلامه وعذابه.  

المسرح أداة لنقد السلطات

 يعتبر ونوس من أهم الشخصيات الثقافية العربية التي جمعت بين التنظير والممارسة، عبر خطابه المسرحي الذي  ساهم في نشر قيم الوعي والحرية وكان ناقداً لجميع الأشكال السلطوية في المجتمع. ففي مسرحية” الملك هو الملك” ينتقد السلطة السياسية، وذلك من خلال قصة ملكٍ ظلم شعبه ظلماً لا يطاق، فانتشر الفقر وعم الجهل والتخلف بين الناس وبات الشعب يتضور جوعاً ويحلم برغيف الخبز، وكان من بين هذا الشعب رجل معدم يتمنى أن يصبح ملك البلاد  ليومٍ واحدٍ فقط، لكي ينشر العدل ويقضي على الجوع والفقر ويعيد للناس حقوقها المسلوبة، ولما ذاع خبر الرجل أمر الملك بإلقاء القبض عليه، وبدل أن يعاقبه أمر بتحقيق أمنيته وتنازل له عن العرش لمدة يوم، ولكن الرجل بمجرد أن وضع التاج على رأسه تغيرت أفكاره فجأة، فزاد الظلم ظلماً وفاقم واقع الشعب سوءاً. ما توضحه المسرحية هو أن صفات وممارسات الملوك ثابتة لا تتغير، فالملك هو الملك مهما تغيرت الوجوه والأسماء التي تشغل هذا المنصب.  

وفي مسرحية “طقوس الإشارات والتحولات“، وجه ونوس انتقاداته للسلطة الذكورية والدينية، وأظهر من خلال العرض موقفه الداعم للمرأة، التي تظهر معاناتها كضحية للسلطة الأبوية والزوجية، في مجتمع ذكوري يحرمها من ممارسة أبسط رغباتها في الحب فيما يبيح للرجل جميع أشكال المتع والرغبات الجسدية. المسرحية حملت خطاباً جريئاً ومناهضاً للعادات والتقاليد، يعري دور رجالات الدين ويفضح زيف ادعاءاتهم، وينادي بحرية جسد المرأة في ظل إذعانه للأعراف والقيم الدينية والقمع المجتمعي. كما يبرز العمل النوازع النفسية للشخصيات في علاقتها مع تحولات جسدها، ويقدم قراءة معمقة للجسد البشري وأبعاده العاطفية والروحية ويمنحه سمواً وتمجيداً، ويدعو لتحريره من رغباته في سبيل أن يصل لحريته. ومن خلال العرض كان ونوس يرسل أفكاراً وإشارات إلى الجمهور تحرض مخيلته وتدفعه لكي يتساءل ويعي الواقع الذي تعيشه المرأة.

أما في مسرحية “منمنات تاريخية ” فقد انتقد ونوس السلطات الثقافية والاقتصادية والمجتمعية، من خلال استدعاء الموروث التاريخي لمحاكاة الواقع الحالي بإسقاطات تاريخية، إذ يحكي العرض عن احتلال تيمورلنك لدمشق، ويفضح السلطة الاقتصادية بتحالفاتها المشبوهة مع التجار وأصحاب رؤوس الأموال، الذين خافوا على مصالحهم وتجاراتهم ليتحالفوا بدورهم مع رجالات الدين والمجتمع، الذين استغلوا سلطتهم لتحقيق مآربهم ومصالحهم الخاصة، فتخاذلوا جميعاً وأذعنوا للاحتلال وأسهموا بإسقاط دمشق بيد تيمورلنك.

مساهمات

 قدمت مسرحيات ونوس إسهامات كبيرة في تطوير الحركة المسرحية العربية وفي إنارة الوعي العام بقضايا التحرر وحرية التعبير والتغيير الاجتماعي. كما اشتهرت أعماله عربياً وعالمياَ وتُرجمت إلى عدة لغات ونالت الكثير من الجوائز العربية والعالمية، وأصبحت مرجعية مسرحية يتسابق المخرجون على تقديمها.  وإلى جانب ذلك أسهم ونوس في نهاية السبعينيات في إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية، وعمل مدرساً فيه، كما عمل مديراً للمسرح التجريبي في مسرح القباني وأسس مع صديقه المسرحي الراحل فواز الساجر عام 1977 فرقة خاصة تهدف لتقديم المسرح الوثائقي. وفي العام ذاته أسس مجلة “الحياة المسرحية” وشغل منصب رئاسة تحريرها منذ انطلاقتها وحتى عام 1988. ويعود له الفضل، إلى جانب بعض زملائه المسرحيين، في إقامة مهرجان دمشق المسرحي عام 1969 الذي حقق نجاحاً كبيراً على مستوى الوطن العربي، وقد قدم فيه مسرحيتين من أعماله: “الفيل يا ملك الزمان” إخراج علاء الدين كوكش، و”مأساة بائع الدبس الفقير” إخراج رفيق الصبان.

 وإلى  جانب إسهاماته المسرحية شغل ونوس منصب مدير قسم النقد في مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة عام 1964،  وعُيَّن رئيس تحرير لمجلة “أسامة” الخاصة بالأطفال، بين عامي 1969 و 1975، كما عمل محرراً وكاتباً في الصفحات الثقافية في عددٍ من الصحف العربية، كصحيفة الثورة والآداب، وشغل منصب مسؤول القسم الثقافي في جريدة السفير اللبنانية.

مقاومة المرض بالكتابة

عام 1992 أصيب ونوس بمرض السرطان وتوقع الأطباء أنه لن يعيش سوى  ستة أشهر، لكنه رغم ذلك لم يغب عن المشهد المسرحي، وكان يقاوم مرضه بسلاح الكتابة لنحو خمس سنوات،  كتب فيها أهم أعماله المسرحية. وفي عام 1996 كلفه المعهد الدولي للمسرح، التابع لليونسكو،  بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي، التي ترجمت إلى عدة لغات، وأكد من خلالها عشقه وإخلاصه للمسرح، حيث يقول فيها: “منذ أربع سنوات وأنا أقاوم السرطان. وكانت الكتابة، وللمسرح بالذات، أهم وسائل مقاومتي. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة، التي تربطني بالمسرح، وأن أوضّح له أن التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي”. وفي الرسالة ذاتها كتب ونوس جملته الشهيرة الخالدة، التي أصبحت بمثابة حكمة يرددها الملايين في كل مكان: “نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”. 

 توفي ونوس، ابن مدينة طرطوس، في 15 أيار عام 1997، عن عمر ناهز 56 عاماً، بعد صراع مع مرض السرطان استمر لأكثر من خمس سنوات، تاركاً وراءه نحو أكثر من عشرين عملاً مسرحياً، إلى جانب عشرات المقالات والأبحاث والدراسات المسرحية، وقد نشرت أعماله في ثلاثة مجلدات.

ونذكر هنا أبرز أعماله المسرحية وفق تسلسلها الزمني:  

مسرحية “ميدوزا تحدق في الحياة” 1963 (نشرت في مجلة الآداب)

مسرحية “جثة على الرصيف” 1963 (الموقف العربي- دمشق)

مسرحيتا “فصد الدم” و “مأساة بائع الدبس الفقير” 1964 (مجلة الآداب)

مجموعة من المسرحيات القصيرة بعنوان “حكايا جوقة التماثيل” 1965

مسرحية ” حفلة سمر من أجل 5 حزيران” 1968 (عرضت في سوريا، لبنان، السودان، العراق والجزائر. وترجمت إلى اللغة الفرنسية والإسبانية)  

مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” 1969 (عرضت في جميع الدول العربية. وترجمت إلى الإنكليزية والروسية والبولونية)

مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” 1970 (عرضت في سوريا، لبنان، العراق، مصر، الكويت،الإمارات، الجزائر، فرنسا، ألمانيا. وترجمت إلى الألمانية والروسية. كما تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج محمد شاهين وإنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا عام 1974)

مسرحية “سهرة مع أبي خليل القباني” 1972 (عرضت في سوريا، الكويت وألمانيا. وترجمت إلى الروسية)

مسرحية “الملك هو الملك” 1977 (عرضت في سوريا، تونس، العراق، مصر، الإمارات،البحرين. وترجمت إلى الإنكليزية والروسية)

عرض “يوميات مجنون” للمسرح التجريبي 1977

مسرحية “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقضة” 1978 (عرضت في سوريا، الكويت،لبنان، مصر، المغرب)

مسرحية “الاغتصاب” 1989 (عرضت في سوريا، لبنان، الأردن، مصر. وترجمت إلى الألمانية والإيطالية)

مسرحيتا “منمنات تاريخية” و “يوم من زماننا” 1993

مسرحيتا “طقوس الإشارات والتحولات” و “أحلام شقية” 1994

مسرحية “ملحمة السراب” 1995.

المراجع

١-سعدالله ونوس/ الأعمال الكاملة/ المجلد الأول (دار الأهالي للنشر والتوزيع- دمشق / الطبعة الأولى 1996).

٢- “رسالة يوم المسرح العالمي”، ص 17 من المجلد الأول / الأعمال الكاملة لسعدالله ونوس (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى1996).

٣-سعدالله ونوس / الأعمال الكاملة / المجلد الثاني (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).

٤- سعدالله ونوس/ الأعمال الكاملة/ المجلد الثالث (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).

٥- “بيانات لمسرح عربي جديد” ص 15 من المجلد الثالث/ الأعمال الكاملة لسعدلله ونوس (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

نازك العابد (1887-1959): تأثيرها في الفضاء العمومي السوري في النصف الأول من القرن العشرين

نازك العابد (1887-1959): تأثيرها في الفضاء العمومي السوري في النصف الأول من القرن العشرين

لماذا نتذكر نازك العابد اليوم، ربما لأنها كانت من أكثر الشخصيات تأثيراً في بدايات القرن الماضي، ومن أبرز النساء في الفضاء العمومي السوري وأكثرهن جذرية في مواقفها من قضايا مصيرية في بدايات القرن كموقفها من حقوق المرأة إن كان بمناصرة حقها في التصويت والانتخاب أو بالتعليم واقتحام سوق العمل أو بقضية السفور والحجاب، ومن الحقوق الوطنية كالمطالبة بالاستقلال وبناء الدولة أو موقفها من الانتداب الفرنسي والبريطاني والحركة الصهيونية وقضية فلسطين.

ربما لم تكن نازك العابد استثناءً بين بنات جيلها من طبقة النخبة الأرستقراطية المتعلمة رغم فرادتها المشهود لها، كانت نجمة يشحذُ تألقها عملها الدؤوب الناجم عن هواجسها الإنسانية والوطنية ووعيها بحاجات وطنها في تلك المرحلة التاريخية، وإحساسها العميق بالواجب تجاه بنات جنسها ومجتمعها، وربما أحد وجوه فرادتها أنها جمعت بين الأصالة والحداثة، إذ جمعت في شخصيتها خلاصة خصائص الشخصية العربية الشرقية المتنورة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخصائص الشخصية المنفتحة على الغرب بوعي متحفز، دون انبهار، والمراقبة لكل ما يُنتج به في تلك الفترة من فلسفة وعلوم وتقدم فكري وطب، والمستأنسة بأفكار وقصص كبار الشخصيات الغربية وخاصة النساء، والراصدة المتحفزة للحركة النسائية العالمية و لحركة النساء العاملات في كافة بلدان العالم المتقدم، والمستفيدة مع أبناء جيلها من فترة التنظيمات العثمانية، وهي الفترة التي حدثت فيها الإصلاحات التي مهدت للحداثة في البلدان الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية، ومنها سوريا بحدودها الطبيعية القديمة.

شخصية نازك السياسية 

وعلى الجانب السياسي يلاحظ من يطلع على كتابات نازك أنها كانت في قلب الأحداث التاريخية أولاً بحكم أنها ابنة عائلة سياسية بامتياز فمعظم أفراد عائلتها انخرطوا في العمل السياسي تاريخياً إلى جانب عملهم بالتجارة، وبحكم أن العائلة كانت مقربة من الباب العالي العثماني لفترات زمنية ثم لحق بها الضيم من نفي وتضييق بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني، كتبت نازك العابد مقالاً تصف فيه حفل تأبينه الذي تصادف أثناء وجودها في إسطنبول في فترة نفي العائلة في أزمير. وكانت لاتزال في مقتبل الشباب “تركتُ أزمير مع والدتي وقد كانت منفى عائلتنا برخصة جاء بها علينا طلعت باشا وسرنا إلى الأستانة لقضاء بضعة أسابيع فصادف وصولنا في أيام عبد الحميد الأخيرة فتسنى لي أن أشهد حفلة الدفن التي لم تشهد أهالي الأستانة السابقون والمعاصرون على زعمهم حفلة مثلها فكأن الاتحاديين شاؤا أن يكفروا عن إساءتهم لهذا الرجل فعوضوا عليه وهو ميت بكل الإكرام الذي سلبوه منه وهو حي إذ تقدم المركب البوليس ثم الجند النظامي ….”[1] ثم تصف نازك العرض العسكري الذي رافق جثمان السلطان المخلوع عن عرشه. 

السياسة كانت جزءاً لا يتجزأ من عالمها وعملها ونشاطها التنويري، إن كان في جانبها النسوي حيث كانت من أوائل المطالبين بحق المرأة في التصويت والانتخاب والمدافعة بقلمها وتنظيمها للنساء العاملات، كما كانت من النساء القائدات والقادرات على تجييش الشارع وقيادته في مظاهرات نوعية للإفراج عن المعتقلين، كما حدث عندما اعتقلت سلطة الانتداب الفرنسي الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر ورفاقه، بعد رحيل لجنة كراين 1922 وكانت قد ظهرت العابد سافرة بدون حجاب أمام الدبلوماسي الأمريكي شارل كراين، الذي جاء للوقوف على حال الشعب السوري تحت أولى سنوات الانتداب الفرنسي وكان أن قادت مظاهرة نسائية كبيرة على أبواب قلعة دمشق مع سبعين سيدة على رأسهن السيدة سارة مؤيد العظم زوجة الشهبندر مع أرامل شهداء 6 أيار ترفض فيها الانتداب الفرنسي وتطالب بتحرير المعتقلين[2]. نفيت ثلاث مرات بسبب عملها السياسي مرة من قبل السلطات العثمانية ومرتين من قبل سلطات الانتداب الفرنسي.

وثانياً بحكم اختلاطها ومشاركتها معظم أبناء جيلها من النخبة الفكرية والاجتماعية في زمنها من رجال ونساء تقدميين حالمين بإنشاء دولة سورية مستقلة ذات تشريعات حديثة خاصةً من عاد منهم من الدراسة في الغرب عاقداً العزم على خدمة وطنه. وستقوم نازك بتوظيف كل ما اجتمع لها من مكانة اجتماعية ونفوذ ومعرفة وجرأة في خدمة بلادها وأهدافها، حتى آخر عام في حياتها.

نضالها الفكري 

علِمت نازك باكراً أن كلمتها ذات تأثير فعال في الشأن العام، وكانت ذات شخصية كاريزمية قيادية قامت بإلقاء الخطب في مناسبات عديدة وأعيد نشر بعضها في المجلات والصحف وقتها، إذ اشتهرت بقوة شخصيتها وفصاحتها وقوة تأثيرها، ما جعلهم يلقبونها ببيروت بنازك بك بدل نازك خانم[3]. فكانت الكلمة واللغة إحدى وسائل النضال الفعال الذي خاضته إن كان على الصعيد الاجتماعي الداخلي الإصلاحي أو الوطني “إذن الشيء المهم بالنسبة للغة هو الخطاب التواصلي فما دام فعل الخطاب “يتضمن أيضاً انجاز فعل أو دعوة إليه، إذ ليس هناك كلام من أجل الكلام فاللغة هي نفسها أداة لممارسة أفعال ويصبح الخطاب قابلاً للتحقق، فالبعد اللغوي للنظرية التواصلية يكمن في توضيح الجانب الاجتماعي التواصلي للغة، فهو يرى فيها مجالاً للتواصل الاجتماعي الفعلي بين الأفراد”[4].

كانت نازك تقوم ببناء خطاباتها بشكل مدروس ومؤثر، تعرف كيف تصل بحجتها إلى قلب المتلقي وعقله في آن واحد، لذلك كانت ذات حظوة بين أفراد جيلها وحتى لدى الملك فيصل الأول وزوجته. 

وحتى المسؤولين الأجانب إذ كانت تجيد خمس لغات العربية والتركية والألمانية والإنكليزية والفرنسية. 

موقفها من فلسطين

وربما من أشهر خطاباتها، الخطاب الذي يوضح أنها تحمل فكراً عروبياً حيث يمكننا أن نستنتج ذلك من مقالها المنشور في مجلة العرفان، ويذكر نسيم نصر في مقاله “نازك العابد بيهم” في مجلة الأديب عدد2 ص16/تاريخ 1961 أن هذا الخطاب ألقته نازك عندما وجهت لها الدعوة لحضور المؤتمر النسائي العربي في القاهرة سنة 1938 برئاسة هدى شعراوي، حيث دعيت نازك إليه ممثلة عن بيروت. يتضح في هذا الخطاب وعيها وترقبها للوضع في فلسطين آنذاك وتتبعها لكل المجريات السياسية ومتابعتها لكل التصريحات التي يقوم بها المسؤولون الاسرائيليون والمسؤولون الغربيون من جهة والعرب الفلسطينيون من جهة أخرى، كالمفتي الأكبر الشيخ أمين الحسيني والمطران حجار وما أدلوا به أمام لجنة بيل، واطلاعها على عمل اللجان المهتمة بالوضع في فلسطين ونلاحظ تمييزها بين الصهيونية وبين اليهودية، واطلاعها الملفت على تاريخ اليهود وحوادثهم، وتنبأها بما سيُحدثه زرع دولة إسرائيل في قلب الدول العربية وآثاره المستقبلية على المنطقة وخاصة على مصر، وضررها من الناحية الاقتصادية، لقد كانت سيدة ذات حدس قوي وذكاء استثنائي، نقتطف من خطابها ما يلي وكانت تعلق على حوادث العنف المنظم التي حدثت في فلسطين من قبل العصابات الصهيونية وعلى رد فعل الفلسطينيين عليها: “أجل نتألم وإن كان القتيل صهيونياً، مع علم منا أن الصهيوني يريد إجلاءنا عن ديارنا ويريدها.. له دون غيره، وأن يطلق عليها “أرض إسرائيل” وأن يقيم بها حكومة يهودية لغتها عبرانية وثقافتها إسرائيلية لا نقول هذا جزافاً، بل إن لجنة بيل الملكية لخصت مطالبيهم في تقريرها الذي رفعته بالسنة الفائتة لجلالة الملك فجاء في جملة اقتراحاتهم أن لا تتخذ أية إجراءات لمنع اليهود من أن يصبحوا أكثرية ومتى تم ذلك يجب أن لا تمنع فلسطين من أن تصبح يهودية.” وقد أجمل الدكتور وايزمن هذه المطامع فقال أمام اللجنة “نريد أن تصبح فلسطين يهودية كما أن إنكلترا إنكليزية!” 

“إن هؤلاء الناس إذا تمكنوا من فلسطين، قضوا بما لديهم من دهاء ومال وعلم على العروبة وأمانيها والعروبة لا تزال يانعة والتاريخ ما يزال طافحاً في الأمثلة على دهائهم وإن ينسَ العرب فلا ينسون سياسة التفريق التي انتهبوها في المدينة بين الأوس والخزرج سياسة حكمتهم برقابهم حتى أنقذهم الإسلام.

“سيداتي،

لسنا نناضل عن كل هذا فحسب، بل إننا نكافح في سبيل الحياة والحياة في هذا العصر. حريتها واستقلالها ونعيمها ورخاؤها كل ذلك يتوقف على الثروة. وأي نجاح اقتصادي ننتظر إذا قامت دولة إسرائيل في قلب البلاد العربية. وكأني بمصر، وقد وصلت إلى أعلى ذروة من ذرى الدور الصناعي وأخذت تلج في الدور الزراعي الصناعي، وأوشكت أن تدخل في الدور الثالث وهو الصناعي التجاري كأني بها أشد الأمصار تعرضاً للخطر الصهيوني. أجل فإن مشاريع مصر العظيمة وسياسة طلعت باشا الحميدة توشك هذه كلها أن تصطدم بمشاريع تستند إلى رساميل أعظم وسياسة تتوكأ على دهاء أشد إذا استتب للصهيونيين الأمر بفلسطين قوا على اقتصاديات مصر وأعادوا الدور الذي مثلوه عهد الخديوي إسماعيل. سيداتي إذا استعرضنا كل هذا أدركنا لماذا اختار شباب فلسطين وكهول فلسطين ونساء فلسطين الموت للحياة”[5].

المجلات التي كتبت بها

كتبت نازك العابد معبرة عن أفكارها الريادية، إن كان حول تحرير المرأة وحقوقها أو حول القضايا الوطنية والاجتماعية، في أهم المجلات والجرائد المعروفة في عصرها: ومنها مجلة العروس[6]، ومجلة الحارس[7]، ومجلة العرفان اللبنانية[8]، ومجلة لسان العرب[9]، كتبت أيضاً في مجلة الأديب اللبنانية[10]، بالإضافة إلى مجلتها نور الفيحاء[11]. لم تنصرف نازك للكتابة الإبداعية بل سخّرت كل ملكاتها الفكرية للقضايا الاجتماعية الإصلاحية والسياسية، وكان أسلوبها جزلاً ومباشراً ولغتها سلسة وواضحة. صبت اهتمامها على المقالات والخطابات بالدرجة الأولى. 

مجلة نور الفيحاء

لم تكن نازك الشخص الأول الذي يصدر مجلة أو جريدة من عائلتها فقد سبقها إلى ذلك عمها أحمد عزت ابن هولو باشا، وهو والد الرئيس محمد علي العابد وكان من مشاهير الساسة في عهد انهيار السلطنة العثمانية فقد قام بإصدار جريدة أسبوعية باللغة العربية والتركية سماها جريدة “دمشق” وكان ذلك في عام 1878م، ويقال إنه أول من أدخل الكهرباء إلى دمشق وأمر ببناء السكة الحديدية زمن التنظيمات العثمانية.

 صدرت مجلة نور الفيحاء عن جمعية نور الفيحاء، وهي مجلة نسائية، أخلاقية، أدبية، صدر منها ثمانية أعداد فقط، وقد توقفت عن الصدور بعد دخول الانتداب الفرنسي إلى دمشق بوقت قصير حيث أغلقت بسبب مناهضة نازك العابد وأعضاء جمعيتها لسلطة الانتداب. صدر العدد الأول منها في كانون الثاني 1920، وصدر العدد السادس الذي بين أيدينا سنة 1338 للهجرة في 15 حزيران سنة 1920. وللأسف فُقِدت معظم أعدادها، هذا العدد الوحيد الموجود في دمشق على حد علمنا، بينما عُرِضت ثلاثة أعداد أخرى نادرة في مكتبة جامعة هارفارد[12].

كانت تقدم مقالها الأول بعنوان شهيرات النساء وغالباً تأتي بشخصية نسائية عربية معروفة ومهمة ولها تأثير في المجتمع المحيط بها، في هذا العدد كانت الشخصية المحتفى بها السيدة زينب، ثم تنتقل لشخصية من شهيرات النساء الغربيات، وفي هذا العدد احتفت بملكة روسيا، في المقال الذي يليه تقدم المجلة مقال بعنوان (أنقذوها فهي دليل الحياة) تتحدث فيه عن المرأة ودورها، ثم يليه مقال (ديانا حامية المرأة)، وتتحدث فيه عن الإلهة الرومانية ديانا حامية الفتاة، ثم يأتي مقال بعنوان (شقاء الزوجين) ص،182 ثم مقال بعنوان (رد افتراء) وتتحدث فيه المجلة مدافعة عن المرأة الشرقية، ثم مقال (مصنع إحياء الأشغال اليدوية) ص185، ثم يليه مقال بعنوان (النساء العاملات) 187، وهو مقال يدل إلى أي درجة كانت نازك والناشطات في المجلة مطلعات على ما يدور حولهن في العالم، إذ أوردت المجلة احصائيات محددة حول عدد النساء العاملات في أوروبا و(ألمانيا وفرنسا) وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد النساء العاملات في المصانع والمخازن والسكك الحديدية والبنوك والبيوت. ثم هناك مقال ص188حول الآداب اليابانية، وليس المقصود هنا الأدب بمفهومه المعروف بل سلوك الشخصية اليابانية المتأدب، ثم هناك مقال بعنوان (الغبار! الغبار!) وهو حول الاهتمام بالصحة العمومية وتطالب فيه المجلة من المجالس البلدية تعميم النشرات الطبية وما يجب نبذه من العوائد المضرة ولا سيما في زمن الأوبئة وكان في هذه الأثناء انتشر في سوريا وباآن شديدا الفتك، هما النزلة الاسبانيولية والحصبة. 

ثم هناك مقال حول حفظ صحة المنزل والطب المنزلي، أسباب الأمراض وسير المرض وأدواره للدكتور حكمة المرادي. باختصار عنيت المجلة بكل ما يخص المرأة والعائلة والبلاد والعالم. وكانت تحاول أن تكون جسرا بين ما يدور في العالم من حولها وبين النساء في سوريا في ذلك الزمن، إذ كان من الملفت رصدها لتطورات وضع المرأة في بلدان العالم المتقدم، ومحاولة نقل عادات وتقاليد الشعوب الأخرى عبر صفحات مجلتها المنفتحة على كل ما يدور حولها.

نضالها على صعيد تمكين المرأة 

لعبت نازك بحكم مكانتها الاجتماعية دورا بارزاً بتأسيس العديد من الجمعيات التي ساهمت في خلق مجتمع أهلي متكاتف، ومنها جمعية نور الفيحاء في دمشق وفيها مدرسة لرعاية بنات شهداء الثورة العربية ومعمل أشغال يدوية ساعد في تمكين عدد من النساء من امتلاك مهن يعشن منها ويخترقن سوق العمل الذي كان حكرا على الرجال، وجمعية النجمة الحمراء التي أصبحت الهلال الأحمر السوري، وجمعية يقظة المرأة الشامية سنة 1927 مع عادلة بيهم الجزائري وريما كرد علي[13]، والعديد من الجمعيات في بيروت بعد انتقالها إليها بعد زواجها:

يقول نسيم نصر عن نشاطها في لبنان في مقاله “نازك العابد بيهم”: انتقلت إلى بيروت تقرن جهدها النسوي بجهد رجل من قادة التفكير الاجتماعي والتاريخي، بعد أن جمعهما رباط الزواج الشريف. ورجلها هذا هو المؤرخ الأديب محمد جميل بيهم. 

وفي لبنان سارت نازك مع الطليعة النسوية تسهم بنصيب بارز في مختلف نشاطات المرأة التقدمية، فأنشأت سنة 1933 نقابة المرأة العاملة في بيروت، وهي أول نقابة للعاملات والكاسبات. ومن أقوالها في هذا الشأن: ” ان تطور الحياة العالمية في العصر الحاضر، وتفاقم المزاحمة على أسباب العيش قضيا على المرأة، هذا المخلوق اللطيف أن ينزل إلى الكفاح في ساحة الكسب لمنازلة الرجال منازلة لم يتأهب لها من قبل فكانت صدمة في الناحيتين الصحية والأخلاقية.

ومن دواعي الأسف أننا نحن الشرقيين، ولئن كنا حريصين على الاحتفاظ بالجنس اللطيف من مميزات لا مناص لنا من مجاراة الغرب فيها فإننا نأخذ كل تقاليده وحضارته، لذلك أصبح من الواجب تنسيق أعمال نسائنا العاملات والكاسبات تنسيقاً يفضي إلى دفع كل ضرر عنهن. وهذا ما أرادته نقابة المرأة العاملة، فإنها تحاول أن توفق بين التخلص من الأزمة الاقتصادية وبين عواقب إقبال النساء على العمل”[14].

وكانت قد أسست مع زوجها في لبنان بالإضافة إلى جمعية عصبة المرأة العاملة، جمعية مكافحة البغاء 1933 الذي حاولت سلطات الانتداب تنظيمه ونشره، وجمعية أخوان الثقافة، وجمعية تعنى بالأمهات وكانت أول من يحتفي بهن ويحدد يوم لعيد الأم، وجمعية تعنى باللاجئ الفلسطيني بعد نكبة 1948.

القناعة حوض ماء راكد

نازك المرأة المقاتلة للكسل والخمول والطموحة التي لا تهدأ تقول في مقال بعنوان “القناعة دواء إن زاد أضر” في مجلة العرفان تتحدث فيه عن زيارتها لاحدى المدارس وتصف فيه درساً سمعته من إحدى المدرسات حول موضوع (القناعة كنز لا يفنى) وقد بالغت المدرسة في الإعلاء من قيمة القناعة على حساب الطموح، ما أزعج السيدة نازك وقتها، نقتطع من مقالها ما يلي: 

“روح التمرد المتأصلة في نفسي أنقذتني بعد مغادرة المدرسة من بلاغة المعلمة، لاسيما أني كنت طالما أنكرت القناعة وكنزها، وكتبت مرة انتقدها، فعن لي أن أتصفح ما دونت خلال سن الشباب في هذا الموضوع، فإذا بي أقول: “كثيراً ما أجتهد للوصول إلى نقطة أنشدها وأظن أني بوصولي إليها ألامس السعادة الحقيقية، ولكني لما أدرك هذه النقطة التي كانت نفسي تطمح إليها أشعر بأن أحلامي لم تتحقق، وافتقد القناعة فلا أجدها بل أحبو للحصول على أوفر مما حصلت وأفضل”[15].

يقولون إن السعادة الحقيقية في القناعة، وأنا لا أشاطرهم هذا الاعتقاد بل القناعة عندي هي كحوض ماء راكد إذا لم يتجدد حيناً بعد آخر فسدت عناصر الماء فيه فأصبح كريه الطعم والمنظر والرائحة تمجه النفوس” تميز نازك بوضوح بين القناعة السلبية وما تسميه الارتضاء وتقصد به الرضى عن الذات بعد بذل الجهد. وتبجل من موضوع ارتقاء السلم الاجتماعي عن طريق الكفاح والطموح والعصامية.

نازك المزارعة 

كانت نازك قد “درست الزراعة في كلية روبرت الأمريكية[16]، و تذكر في مقالها “المرأة في الحياة الزراعية” وهو حديث كانت قد ألقته في اجتماع أقامته جمعية “إخوان الثقافة” في بيروت، وتتحدث فيه عن مزاولتها للزراعة لمدة عشرين عاماً بعد أن جعلت والدها يقدم لها قطعة أرض في الغوطة تزرعها وتعتني بها، بعد جدال مع عائلتها التي اعتبرت أن جهودها ستذهب سدى لأن هذه الأرض سبخة وغير قابلة للزراعة لكن نازك المقاتلة العنيدة لم تأبه لكلام العائلة واستخلصت لنفسها قطعة أرض قامت بإصلاحها بنفسها بمساعدة الفلاحين و تتحدث في المقال عن الزراعة وتطلب من النساء تقدير هذه المهنة وعن وجوب تأهيل الفلاح كما في أوروبا ليقدم أفضل النتائج: تقول “أشعر منذ الصغر بميل قوي إلى مزاولة الأعمال المجدية، ولما أتيح لي أن أرفع صوتي في المجتمع كان أول ما يخطر لي إذا وقفت خطيبة أو كتبت مقالاً موضوع العمل وما يجب أن يكون موقف المرأة منه. وما أمعنت التفكير في رقي بلادي إلا وثبت عندي أن السبيل إلى ذاك يكون بتأمين اقتصادياتها وتحرير شؤونها الحيوية ثم ما تدبرت أمر المرأة ومصيرها إلا وتأكد لدي أنها عبثاً تطلب مساواتها وتحررها عبثاً تتوخى بلوغها، مرتبة الشقيق إذا بقيت عالة عليه في حياتها.” وكانت نازك من أوائل من انتبهوا لمشكلة هجرة الشباب من الريف إلى المدينة وما سيخلفه ذلك من مشكلات مستقبلية، وتقول في الخطاب نفسه:” وأما ترك القرية ومغادرتها إلى المدينة للتحري عن العمل فهذا عارض أو علة اجتماعية يشكو الغرب منه ويوجس خفية من مغبته كل من الشرق والغرب. وما دامت المرأة العربية قد بدأت تفكر في العمل المجدي شئنا أم أبينا مراعاة للحياة الاقتصادية ومجاراة لروح العصر فأرى المجال متسعاً أمامي لأن أناديها بلغة الحب والحنان فأدعوها إلى الحقل، إلى الزراعة إلى الأرض”[17]. وكانت تربطها علاقة طيبة بالفلاحين إذ شاركتهم الزراعة واهتمت بفتيات يتيمات في الغوطة وأيضاً قاتلت معهم سلطات الانتداب في الثورة السورية.

نازك ومحاربة الطائفية 

لقد وعيت نازك لخطر الطائفية[18] ولا بد أن إدراكها هذا له علاقة باطلاعها ومعرفتها بالأحداث الطائفية الدموية التي حدثت في دمشق عام 1860، قبل ولادتها بسنوات قليلة وهزت المجتمع الدمشقي بعنف، خاصة أن عائلتها أجارت المسيحيين وقتها “وأثناء حوادث 1860، آجار عمر آغا وولده هولو باشا المسيحيين، وتقديراً لصنيعهما هذا قلدهما القنصل الروسي في دمشق وسام القديس ستانيسلاس”[19] وربما شاركت بالمناقشات الحادة التي حدثت حول حقوق الأقليات في المؤتمر السوري العام الذي عقد في 1919 – 1920 ومناقشات دين الدولة الوليدة التي خرجت من رحم الدولة العثمانية المنهارة والتي تتلمس النور، وبما أن نازك كانت تنحاز (لمدنية) الدولة كعدد لا بأس به من أفراد النخبة السورية المتنورة والعائدة من الغرب كعبد الرحمن الشهبندر الذي عُرِف بعلمانيته، ولمعرفتها أن مدنية الدولة ستسمح للمرأة بنيل حقوقها وبالانخراط في قضايا المجتمع بشكل حقيقي وفعال، إذ أنها كانت تدرك صعوبة هذا الأمر بعد أكثر من خلاف مع رجالات الدين الدمشقيين، لذلك نجد أكثر من إشارة لموقفها من الطائفية إن كان في مجلتها نور الفيحاء، حيث طرحت سؤال للرأي العام، ومن المفيد هنا عرض السؤال والاجابات التي تلقتها المجلة عليه وكان من ضمن من أجاب على السؤال هي ووالدتها السيدة فريدة الجلاد:

ما هي أنجع الوسائط لإماتة الطائفية في بلادنا؟

توحيد برامج المدارس والسير بالتعليم على خطة واحدة، (صبحية تنير)

أحسن الوسائط لإماتة الضغائن الطائفية هو الاعتقاد المتين في الشرائع الدينية لأن كل منها تحرض على احترام جميع الأديان (والدة نازك)

أحسن الوسائط توارد الشبان والشيوخ وكثرة الاجتماعات فيما بينهم وأن يتبادلوا الزيارات والولائم وأن لا تنزوي كل طائفة بمحلة خاصة بها (ع.س)

فصل التقاليد الدينية عن المصالح الدنيوية لأننا نرى أن زيداً يتحامل على عمرو ويحقد عليه بداعي الدين وإذا محضنا سبب الحقد نجده دنيوياً. 

أن نؤلف جمعية من كل الطوائف تبذل جهدها لتقوية دعائم الاتفاق (ث)

الجواب: العلم، العلم (م.ع)

التعارف والتوادد والتحابب والاعتقاد بأن الأديان وجدت لتهذيب العواطف البشرية وتثقيف الأفكار وخدمة الإنسانية التي ترى الضغائن بين الطوائف أنانية مجردة (نازك)”[20]

نلاحظ أيضاً اهتمام نازك بتنوع منابت وخلفيات السيدات اللواتي انضمّمن إلى جمعياتها ويتضح ذلك من خلال إحدى خطاباتها أمام عصبة المرأة العاملة التي أسستها في بيروت عام 1933، نورد ذلك الاقتباس من خطابها من مقال نسيم نصر في مجلة الأديب:

“وهذه النقابة التي تفاخر بأنها تألفت من كل الطوائف، ومن الطبقة الراقية المتعلمة تغتبط لأنها جمعت بين الفئة الممتازة من صاحبات المهن الحرة من طبيبات وصيدليات وقابلات وممرضات وكيماويات وصحفيات فضلاً عن الأستاذات والأديبات، وهي ترى من واجبها إثارة وطنية الأمة لترويج المصنوعات الوطنية”[21].

نسبها 

ولدت نازك العابد عام 1887من أسرة دمشقية عريقة إذ ينحدر آل العابد من عشيرة الموالي المشارفة. وهي قبيلة عربية صرفة تنتسب إلى قبيلة بني إبراهيم من بني مالك من جهينة، وقد استوطن جدهم محمد بن الأمير قانص في حي الميدان بدمشق حوالي 1700. عمل أفراد الأسرة بتجارة الحبوب والمواشي، وأصبح لهم نفوذ واسع في حي الميدان، والدها مصطفى باشا العابد، من أعيان دمشق تولى متصرفية الكرك، وولاية الموصل في أواخر العهد العثماني[22]، ووالدتها السيدة فريدة الجلاد وهي من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي وكانت نازك تقوم بطرح الأسئلة عليها مع مجموعة من الأشخاص المتنورين في مجلتها نور الفيحاء. وتذكر ليندا شيلشر[23]. “يسلم مؤرخ الأسرة في يومنا هذا بما أجمعت عليه المصادر في القرن التاسع عشر من أن آل العابد يتحدرون من عشيرة الموالي. وأن جدهم محمد الذي استوطن الميدان عام 1700/1701، كان ابن قانص العابد أحد أمراء عرب المشارفة (المتفرعين عن الموالي) الذين ينتهون بنسبهم إلى بكر بن وائل. وكان أول من برز في دمشق من رجال هذا البيت عمر آغا العابد، وقد لمع اسمه إبان الحكم المصري. أما ولده هولو آغا (جد نازك) (1824/25-1895/1896) فبدأ عمله الوظيفي الذي اتسم بالنجاح في عهد التنظيمات معيناً قائمقام في سهل البقاع.

تربيتها وتعليمها: 

“درست اللغتين الألمانية والفرنسية على يد مدرسين خصوصيين، قبل أن تلتحق بمدرسة أمريكية خاصة في سوق ساروجا، كانت تملكها وتديرها سيدة أمريكية تُدعى “ميس أثينبرغ”[24]. نُفيت إلى أزمير مع سائر أفراد أسرتها سنة 1915، ودرست الزراعة في كلية ربورت الأميركية، وهي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. كان والدها رجلاً متحرراً في تربية أولاده، وقد أرسل شقيقها هولو إلى جامعة كامبريدج البريطانية، وشقيقتها ثريا إلى مدرسة الراهبات، قبل أن تتزوج الوجيه حمدي أكريبوز. ونظراً لتحرر بنات ثريا العابد في سلوكهنّ ولباسهنّ، صاروا مثالاً للتحرر في المجتمع الدمشقي، وصارت عبارة “بنات أكريبوز” تُطلق على أي مجموعة سيدات يعشن في جو متحرر ورفاهية كبيرة.”، درست نازك أيضاً أصول الإسعاف والتمريض، ومارسته في معالجة الجرحى في معركة ميسلون وفي الثورة السورية.

زواجها من نصير المرأة 

لم تتسرع نازك العابد في موضوع زواجها أبداً بل كانت عواطفها خاضعة لعقلها وإدراكها المتطور عن بنات جيلها، وكانت تتصرف كما تفكر تماماً، إذ طالما طالبت الرجال أن يختاروا شريكات حقيقيات، والنساء أن تطالبن بحقوقهن، في مقالاتها وخطاباتها، لذلك كانت تبحث عن شريك حقيقي في النضال من أجل ما تؤمن به من قيم وقضايا إنسانية ووطنية وعلى رأسها قضية المرأة لذلك تأخرت في موضوع الزواج حتى عام 1929 إذ اختارت العلامة والمؤرخ البيروتي محمد جميل بيهم (1887-1978) ليكون زوجها، وكانت قد تعرفت عليه في جلسة المؤتمر السوري الأول في عام 1920 في دمشق، وهو من أهم المناصرين لحقوق المرأة، نقتطف من مقال “النهضة النسائية في بيروت المحروسة” ما يوضح دوره وأهميته في ذلك “من الأهمية بمكان القول، إن الحركة النسائية في بيروت المحروسة شهدت مؤيدين لها من رواد النهضة الفكرية والسياسية، ويأتي في مقدمتهم العلاّمة المؤرخ محمد جميل بيهم (1887-1978)؛ فمنذ عام 1919 طلبت منه الأميرة نجلاء أبي اللمع – صاحبة مجلة الفجر – الكتابة عن نشاط المرأة، فكتب مقالاً بعنوان «مؤتمر النساء في بيروت». كما كان يومذاك أحد المشاركين في المؤتمر النسائي الذي عقد في الجامعة الأميركية في بيروت تأييداً للمرأة. وفي عام 1922 شارك في حفل تكريم الأديبة مي زيادة، وبات محمد جميل بيهم نصيراً لقضايا المرأة في بيروت المحروسة ولبنان والعالم العربي. لذلك، حرص على نشر آرائه وتأييده لقضايا المرأة من خلال المحاضرات والندوات، ففي عام 1928 ألقى محاضرة مهمة في طرابلس عن تحرير المرأة. وفي عام 1929 اجتمع بمندوبة مؤسسة روكفلر السيدة روس وود سمول باعتباره نصيراً للمرأة، وكان هدفها من هذا الاجتماع الاطلاع على الحالة الاجتماعية للمرأة في المشرق العربي. وفي عام 1929 سافر إلى أوروبا بصحبة زوجته السيدة نازك العابد لنشر الدعاية للنهضة النسائية اللبنانية والعربية، وذلك بالتنسيق مع رائدات العمل النسائي في لبنان وسورية. وحرص محمد جميل بيهم الإسهام في رفع مكانة المرأة أينما كانت، لذلك، أسس عام 1933 «جمعية مكافحة البغاء» منتقداً سلطات الانتداب الفرنسي التي شجعت على آفة البغاء في لبنان بواسطة التشريعات والقوانين التي كانت تصدرها.
وما هي إلا سنوات حتى أصبح محمد جميل بيهم وقضايا المرأة توأمان لا ينفصلان، لهذا، لم يكتفِ بإلقاء المحاضرات والندوات واللقاءات الصحافية، بل أصدر عدة كتب حول المرأة وقضاياها وتاريخها منها:
1- كتاب المرأة في التاريخ والشرائع.
2 – كتاب المرأة في التمدن الحديث.
3 – كتاب فتاة الشرق في حضارة الغرب.
4 – كتاب المرأة في حضارة العرب، والعرب في تاريخ المرأة.
5 – كتاب شاهد عيان يسد فراغاً في التاريخ.
لقد استمر محمد جميل بيهم حتى وفاته عام 1978 يدافع عن المرأة وحقوقها وحقها في التعلم والتعبير والمساواة، ورفض التمييز العنصري والوظيفي، ورفض العنف الأسري، ورفض انتهاك كرامتها، وحقها في الطبابة، وفي السياسة وفي العدالة الاجتماعية”[25].

موتها 

توفيت نازك العابد عام 1959 عن عمر ناهز 72عاماً في لبنان، لكن جثمانها نقل إلى مدافن عائلتها، رغم أن معظم المعلومات على الإنترنت تشير إلى أنها دفنت في مقبرة الآس في الميدان، لكن عندما ذهبت إلى منطقة الميدان وبحثت عنها لم يعرف أحد من أهل الميدان مقبرة الآس، لكن عندما سألتهم عن نازك العابد أخبروني أنها في مقبرة آل العابد عند بوابة الميدان، وعندما وصلت الى هناك وجدت مدافن آل العابد أو مدافن هولو باشا العابد تحتضن ضريح نازك مع عدد من أضرحة عائلتها في مدفن خاص مسور.

نقش على لوح ضريحها ما يلي: ” يا رحيم العباد، هذا ضريح المرحومة نازك خانم بنت المرحوم مصطفى باشا العابد رائدة النهضة النسائية بدمشق، عاشت مكافحة تخدم مجتمعها بإخلاص، مناضلة لرفعة قومها والإنسانية، أسست المدارس والنوادي والجمعيات الخيرية، ونادت باستقلال العرب. ولدت في دمشق سنة 1316هـ وتوفيت في 14 صفر سنة 1379 هـ الموافق 20 آب 1959 م[26].

لم تنجب نازك العابد أطفالاً، لكنها قامت بتبني طفلة يتيمة ربتها ودرّستها في الجامعة الأمريكية في بيروت، لكن لم يُستدل عليها حتى اليوم.

نازك الملهمة

يحمل اسم نازك بأصليه الفارسي والتركي معنيين مختلفين من جهة الرقة والرهافة ومن جهة أخرى الصلابة والحدة، المرأة الرقيقة كحد الرمح، وهما سمتا شخصية نازك العابد المرأة الجميلة والمثقفة والعاملة الصلبة الجادة في مسعاها لتحقيق أهدافها، لقد كانت منارة لبنات جيلها.

كانت نازك العابد ملهمة للكثيرين من أبناء وطنها والعالم، حتى أن بعض الآباء سموا بناتهن تيمناً بها مثل والد الشاعرة العراقية نازك الملائكة رائدة الحداثة الشعرية، أيضاً ألهمت سيرتها وكفاحها الكثيرين ومنهم الكاتبة البريطانية الرحالة المغامرة روزيتا فوربز، في روايتها المعنونة:

“Quest:The Story of Anne” وصدرت بعد عامين من معركة ميسلون[27].

لقبت نازك بعدة ألقاب منها ما لقبتها به الصحافة الغربية جان دارك العرب أو الشرق، وسيف دمشق، والوردة الدمشقية وغيرها، كُرِمت من قبل الملك فيصل ومنحها لقب جنرال فخري لدورها في معركة ميسلون الخالدة وحازت على رتبة نقيب في الجيش السوري، وكانت أول امرأة سورية تتصور بالزي العسكري دون حجاب، حازت على عدة أوسمة، وسام الشفقة من السلطنة العثمانية، ووسام الاستحقاق من الدولة اللبنانية، ولقب جنرال فخري من الملك فيصل، فكانت أول امرأة تدخل الجيش السوري.

هوامش:

[1]: مجلة العروس عنوان المقال “حول مآتم عبد الحميد” للآنسة نازك كريمة مصطفى باشا العابد.

[2]: سامي مروان مبيض “سكة الترامواي، طريق الحداثة مرّ بدمشق” صدر عن دار الريس ط1 أيلول 2022 -ص 79-80-81.

[3]: المصدر نفسه.

[4]: مجلة الحوار الثقافي العدد 2-2021 بحث جرادي سكينة ونورية سوالمية “دور الفضاء العمومي في تشكيل التواصل الاجتماعي”.

[5]: مجلة العرفان العدد 8-9 تاريخ الإصدار 1939 الصفحات 771-772-773-774 عنوان المقال “في سبيل فلسطين” وهو الخطاب الذي ألقته السيدة نازك العابد بيهم. في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة برئاسة هدى شعراوي عام 1938 بحسب نسيم نصر، مجلة الأديب.

[6]: مجلة العروس 1910-1926 لصاحبتها ماري عجمي، وهي مجلة نسائية علمية، أدبية، صحية، فكاهية.

[7]: مجلة الحارس كانت تصدر من حيفا مجلة دينية مسيحية تؤكد على الأبعاد الأخلاقية عبر نشر أعمال أدبية منقولة غالباً عن الإنكليزية، وكانت كنيسة حيفا هي الهيئة التي أصدرت المجلة. ولكن صاحب الامتياز هو سامي أبو حمد وقد شارك رجل الدين الأجنبي ل ويتمان صاحب امتياز مجلة مصباح الحق الصادرة بين السنتين 1938-1940 في هيئة تحرير المجلة.

[8]: مجلة العرفان اللبنانية 1909-1936 مجلة علمية، أدبية، أخلاقية، اجتماعية، أسسها الشيخ أحمد عارف الزين.

[9]: مجلة لسان العرب 1918-1919 صحيفة يومية صدرت من دمشق خلال عهد الملك فيصل الأول وكان رئيس تحريرها خير الدين الزركلي.

[10]: مجلة الأديب صدرت في لبنان 1942-1983 مجلة شهرية كان رئيس تحرير ألبير أديب.

[11]: مجلة الفيحاء هي المجلة التي أصدرتها نازك العابد عن جمعيتها نور الفيحاء، صدر العدد الأول في كانون الثاني عام 1920، صدر منها ثمانية أعداد فقط.

[12]: سامي مبيض مقال في رصيف 22 “بعد 100 عام على غيابها …مجلة نور الفيحاء الدمشقية في جامعة هارفارد 4-2-2022.

[13]: سامي مروان مبيض “سكة الترامواي، طريق الحداثة مرّ بدمشق” صدر عن دار الريس ط1 أيلول 2022.

[14]: مجلة الأديب العدد 2-1961 صفحة 16.

[15]: مجلة العرفان اللبنانية العدد 4-1946 الصفحات 359-360-361.

[16]: كلية روبرت الأمريكية، هي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. سامي مبيض “طريق الحداثة مر من دمشق ” صفحة 73.

[17]: مقال نازك “المرأة في الحياة الزراعية” مجلة الأديب العدد 6 تاريخ الإصدار 1 يونيو 1943.

[18]: ما يقال له فتنة 1860- وما سمي شعبياً “طوشة النصارى” حيث قتل خلال سبعة أيام أكثر من خمسة آلاف مسيحياً في منطقة باب توما وبعض حارات القيمرية، سامي مبيض “نكبة النصارى” دار الريس الطبعة الأولى 2020.

[19]: ليندا شيلشر “دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” ترجمة عمرو ودينا الملاح صفحة 187.

[20]: مجلة نور الفيحاء العدد 6 – 1920.

[21]: مجلة الأديب نسيم نصر العدد 2-1961.

[22]: موقع التاريخ السوري المعاصر.

[23]: ليندا شيلشر “دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع” ص 186-187-188.

[24]: سامي مبيض “طريق الحداثة مر بدمشق” دار الريس 2022 ص73.

[25]: مقال بعنوان “النهضة النسائية في بيروت المحروسة” 2013.

[26]: زيارة خاصة قمت بها لمدافن العائلة في حي الميدان.

[27]: سامي مبيض “طريق الحداثة مر بدمشق”.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

تزامنت موجات الحرارة المتتالية مع انقطاع التيار الكهربائي في عدة محافظات سورية أكثر من 20 ساعة يومياً، ما يحرم المواطنين/المواطنات من تشغيل وسائل التبريد أو التكييف إن توفرت، وما يزيد الطين بلة انقطاع الكهرباء بشكل كامل وعام نتيجة لتعطل إحدى محطات التوليد، مثلما حدث ذلك مرتين في شهر تموز الماضي.

وتتعرض البلاد لموجات حرارة قاسية، إذ سجلت (المديرية العامة للأرصاد الجوية) درجات حرارة مختلفة تجاوزت 40 درجة مئوية في عدة مناطق، ووصلت إلى أكثر من 45 درجة في بعض المحافظات خلال الأسابيع القليلة الماضية، بيد أن الحرارة الملموسة بلغت درجات أعلى بكثير.

ولمواجهة لهيب الصيف، تلجأ بعض الأسر إلى مصادر طاقة بديلة عن الكهرباء الحكومية لتشغيل المراوح؛ مثل “الأمبيرات” بمقابل أجر أسبوعي أو شهري ما يشكل عبئاً مادياً إضافياً، في حين يعتمد آخرون على البطاريات ذات السعات الكبيرة، لكن الفئات الأكثر هشاشة وفقراً قد لا تملك مثل هذه الخيارات عموماً.

ومن ناحية أخرى، يفضل مواطنون الذهاب إلى المسابح هرباً من القيظ، بينما تقصد عائلات سورية الحدائق العامة والمساحات الخضراء بدمشق مساء، ويلجأ أفراد للنوم على الأسطح أو شرفات منازلهم.

ومع فشل الثلاجات المنزلية في أداء وظائفها لانقطاع الكهرباء بشكل متواصل، يزداد الطلب على شراء قوالب المياه المجمدة من الدكاكين أو الباعة الجوالين بهدف تبريد ماء الشرب على الأقل، حيث وصل سعر القالب الواحد إلى 16 ألف ل.س في ريف دمشق.

الصحة

تعاني هناء (72 عاماً- ريف دمشق) من موجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي مثل غيرها من كبار السن، تقول هناء: “استحم بالماء البارد لتخفيف درجة حرارة الجسم، إنه الخيار الأفضل، لا يتوفر لدينا وسائل تبريد باستثناء مروحة صغيرة تعمل على الطاقة البديلة”.

وسجلت عدد من المراكز الصحية في ريف دمشق ودرعا مراجعات بسبب “ضربات الشمس”، وعلى الرغم من برامج التقنين الكهربائي إلا أن أغلب المراكز الصحية والمستشفيات تملك مصادر طاقة بديلة.

وفي زيارة لعدد من العيادات الطبية الخاصة في قلب العاصمة دمشق، يلاحظ أن المرضى يعانون من درجات الحرارة المرتفعة أثناء الانتظار ما إن يغيب التيار الكهربائي، وبشكل خاص في العيادات التي لا تحتوي على منافذ تهوية كافية أو لا تملك طاقة بديلة لتشغيل وسائل التبريد.

وذكرت مصادر طبية وإدارية في دمشق لـ “صالون سوريا” أن منظمات غير حكومية بدأت بتوفير مصادر طاقة بديلة لبعض المراكز الصحية في دمشق وغيرها بهدف استمرار تقديم الخدمات الطبية للمرضى، بينما يقول مواطنون في ريف درعا إن المشكلة لا تكمن بمصادر الطاقة دوماً، وإنما بخروج بعض المراكز عن الخدمة وقلة الكوادر الطبية والأدوية في القرى والبلدات النائية.

ضربة الحرارة!

وعن أضرار موجات الحر الشديد، يوضح الطبيب محمد الشعابين (داخلية- قلبية) في حديث مع “صالون سوريا” أن الحرارة المرتفعة تسبب ضغطاً استقلابياً وما يعرف بالإجهاد الحراري أو ضربة الحرارة، والسبب بذل الجسم جهداً لتخفيض حرارته.

وبحسب الطبيب المختص فإن أعراض ضربة الحرارة هي التعب الشديد، والتعرق المفرط، والدوار، وفقدان الشهية، والصداع، وتؤدي الضربة إلى اضطرابات النطق واختلاجات وتقيؤ وتشنجات عضلية، وقد تؤدي إلى الوفاة في حال لم تعالج بالسوائل الوريدية بشكل سريع.

ويحدد الشعابين الفئات الأكثر تأثراً بموجات الحر، وهم الأطفال والنساء الحوامل والعمال الذين يعملون تحت أشعة الشمس؛ فضلاً عن الرياضيين وكبار السن.

ويقول الطبيب: “يصاب مرضى السكري بالتجفاف ما يؤدي إلى حماضات سكرية ربما تفضي إلى الوفاة، كما أن التجفاف عامل مؤثر على مرضى القلب والكلى أيضاً، بينما يعاني مرضى (الربو) من صعوبة التنفس عموماً، وتسرع ضربات القلب”.

ويخلص أطباء سوريون مختصون في حديث مع “صالون سوريا” إلى أن عدم توفر وسائل تبريد كافية يؤثر على حفظ الأدوية، وقد يحتاج قسم منها للإتلاف سواء في الصيدليات أو في المنازل، وتتعرض الأغذية للتلوث ما يزيد من حالات الإسهال صيفاً، كذلك تسبب درجات الحرارة المرتفعة القلق والأرق ليلاً.

ويدعو الطبيب محمد الشعابين إلى تجنب التعرض لأشعة الشمس بشكل مباشر لمن يستطيعون ذلك، إلى جانب الإكثار من السوائل والأملاح لتعويض شوارد الصوديوم التي تُستنزف عن طريق التعرق كيلا تسبب اضطرابات قلبية أو عصبية، إلى جانب تغطية النوافذ، لكن فعالية هذه الإجراءات تبدو منخفضة في ظل غياب وسائل تبريد جيدة.

من جهتها، تنصح وزارة الصحة السورية عبر صفحة مكتبها الإعلامي على “فيسبوك” بعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس خصوصاً بين الساعة 10 صباحاً و4 عصراً، وتجنب المشروبات التي تحتوي الكافيين أو السكر لأنها تؤدي إلى فقدان السوائل من الجسم؛ علاوة على ارتداء ملابس قطنية خفيفة وفضفاضة، وفتح النوافذ لاسيما ليلاً عندما تنخفض درجة الحرارة، والاستحمام بالماء البارد.

تموز: الأكثر سخونة

وسبق أن حذّرت منظمات مختصة من ظاهرة الاحتباس الحراري. في السياق ذاته، وصلت مستويات الغلاف الجوي لغازات الدفيئة الرئيسية الثلاثة -وهي ثاني أكسيد الكربون، والميثان وأكسيد النيتروز إلى مستويات قياسية في عام 2021، وفقا لتقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO).

وكانت (المنظمة العالمية للأرصاد الجوية) بالاشتراك مع خدمة “كوبرنيكوس” لمراقبة تغير المناخ الممولة من الاتحاد الأوروبي أصدرت تقريراً عن درجات الحرارة المسجلة في شهر تموز. وأظهرت بيانات سجلتها خدمة “كوبرنيكوس” أن تموز في طريقه ليكون الأكثر سخونة على الإطلاق، طبقاً لما نقل موقع (أخبار الأمم المتحدة) الإلكتروني.

الذكاء الاصطناعي وحدوده: حوار مع الخبير والباحث السوري فراس محمد

الذكاء الاصطناعي وحدوده: حوار مع الخبير والباحث السوري فراس محمد

تعود صداقتي مع المهندس والباحث السوري في مجال الذكاء الاصطناعي والمتخصص في التكنولوجيا المبتكرة فراس محمد إلى أيام الطفولة، حيث كانت عائلتي وعائلته تسكنان في بيتين متقابلين في سوريا يفصل بينهما شارع كان مداراً لقصص ومشاكل تلقي ضوءاً على مرحلة مفصلية. جمعتنا الطفولة، ثم فرقتنا الظروف والانشغالات واجتمعنا مرة أخرى بعد مرور سنين كثيرة في كاليفورنيا حين كان فراس مدعواً إلى وادي السيليكون إلى طاولة مستديرة مع ٤ خبراء عالميين لمناقشة وتوصيف مستقبل حلول الذكاء الاصطناعي بالنسبة لصناعة أنصاف النواقل والدارات المتكاملة. أثناء هذه الزيارة حدث لقاء معه بعد انقطاع طويل، وتجددت النقاشات حول الأوضاع السياسية العامة في سوريا، وحول تخصصه واهتمامه نظرياً وتطبيقياً بالذكاء الاصطناعي. وبما أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ يغزو الإعلام وصار حديث الساعة في المدة الأخيرة، ارتأينا أن نجري في ”صالون سوريا“ حواراً مع المهندس والباحث والمُخْترع الذي سُجل له اختراعان في مجال الذكاء الصناعي فراس محمد، لإلقاء الضوء على نشاطه العلمي وعلى المصطلح نفسه وما الذي يجري على الصعيد العلمي في هذا المجال.
فراس محمد رائد سلسلة من المشاريع ويمتلك خبرة تجاوزت خمسة وعشرين عاماً في أشباه الموصلات وأتمتة التصميم الإلكتروني (إي دي إي). فاز في ٢٠٠٥ بالجائزة الوطنية الفرنسية في التقنيات الإبداعية ما دفعه إلى تأسيس شركة إنفينيسكيل إس. إي، وخدم كرئيس ومدير تنفيذي لها إلى أن استحوذت عليها سيلفاكو في ٢٠١٥ وشغل منصب المدير العام لشركة “سيلفاكو فرانس” Silvaco France ونائب الرئيس للبحث والتطوير المتقدم حتى بداية عام ٢٠٢٣.
بدأ عمله المهني في مينتور جرافيكز Mentor Graphics مع فريق محاكاة سبايس، حيث أشرف على بيئة النمذجة والتحسين في عام ٢٠٠٠، وتولى إدارة تطوير تقنية التصميم بمساعدة الحاسوب CAD في شركة ميمسكاب إس إي MEMSCAP SA وهي شركة مقرها فرنسا وتعمل في مجال توفير الحلول القائمة على الأنظمة الكهروميكانيكية الدقيقة.
كان المهندس فراس محمد من بين أوائل من أدخلوا الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلات إلى أتمتمة التصميم الإلكتروني في ١٩٩٣. وكان رئيساً مشاركاً في إس آي تو للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلات Si2 AI/ML، وهي مجموعة مصالح خاصة.
ألف وشارك في تأليف عشرات الأبحاث العلمية، ويحمل براءتي اختراع في تحسين تعلم الآلات من أجل حلول أتمتمة التصميم الإلكتروني. حصل على شهادة مهندس في علوم الحاسوب وعلى الدكتوراه في الإلكترونيات الدقيقة من المعهد العالي الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا في غرونبل، فرنسا. التقيناه في كاليفورنيا، حيث كانت بداية هذا الحوار.

صالون سوريا: من أين جاء مصطلح الذكاء الاصطناعي وكيف بدأ دخوله إلى عالمنا؟

فراس محمد: قبل الحديث عن مصطلح الذكاء الاصطناعي، أحبّ أن أذكّر بالخوارزمي العظيم الذي يُنْسب إليه علم الخوارزميات، ذلك أنه كتب أول خوارزمية بالعربية في ٨٣٠ م. وبالعودة إلى الذكاء الاصطناعي يمكن القول إنه بدأ مع آلان تورينغ وآلته الشهيرة التي اخترعها في ١٩٥٠. وفي ١٩٥٦، أطلق ماكارتي مصطلح الذكاء الاصطناعي وعرفه على أنه علم جعل الآلات ذكية. ثم في ١٩٥٩، أطلق لي صامويل مصطلح تعلم الآلات والذي يُعد جزءاً من الذكاء الاصطناعي.

ص.س: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتجاوز الذكاء البشري؟ متى يمكننا القول إن الذكاء الاصطناعي أعلى من الذكاء البشري؟

ف.م: بالنسبة للسؤال أراه مشروعا جداً، في رأيي إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتجاوز الإنسان في جميع الأعمال التي تتطلب قدرات حسابية عالية. يجب أن يذكرك هذا الأمر باختراع الآلة الحاسبة وتفوقها على البشر في سرعة ودقة العمليات الحسابية. إن الذكاء الاصطناعي خليط من برامج يطورها الإنسان وتجارب يعطيها له كي يجعل هذا البرنامج ذا قدرات استنتاجية. إن الذكاء الاصطناعي يبقى محدوداً ضمن نطاق ما نؤهله له من قدرات رياضية وتجارب. يمكن أن نتخيل أن الذكاء الاصطناعي يقوم بتطوير برامج وإجراء تجارب جديدة وبالتالي يحسن نفسه كالإنسان لكن تبقى هناك أسئلة مهمة: هل وصل إلى مرحلة يضاهي فيها ذكاء الإنسان؟ بالتأكيد لا.  هل وصل لمرحلة الإبداع؟ لا. هل يمكن أن نقارنه بالموهبة؟ لا..

كما قلتُ سابقاً، يعتمد الذكاء الاصطناعي على توابع رياضية ونماذج وبنى محددة وكذلك على المعطيات والتجارب التي تتوفر له. إن أي نقص أو خلل في هذه المكونات سيؤثر بالتأكيد على نجاحه. يخرج ذكاء الإنسان عن هذا النموذج ويتجاوزه بشكل يكون أحيانا غير واضح. إن الكثير من ذكائنا حسي تتخفى فيه الرياضيات ومعادلاتها وتوابعها وبناها ويظهر عوضاً عنها قدرات حسية تستطيع اتخاذ قرارات صائبة في ظروف شديدة التعقيد.

ص.س: كيف بدأ اهتمامك بهذا الموضوع، وما هو تخصصك الأساسي فيه؟

ف.م: في الحقيقة بدأ اهتمامي الفعلي بعد مجيئي إلى فرنسا من أجل تحضير رسالة الدكتوراه. كنت أبحث عن مواضيع جديدة بعيدة عن مواضيع المعلوماتية الكلاسيكية. وفعلا وقعت على موضوع مميز هو استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في فحص وتشخيص الأعطال في الدارات الإلكترونية وكان هذا سنة ١٩٩٣. بعد التخرج تابعت العمل في شركات تكنولوجية وكانت دائما تقنيات الذكاء الاصطناعي أدواتي المعتمدة.

في الحقيقة، كان مساراً طويلاً لإدخال وتطبيق تقنيات الذكاء في تطوير وتحسين تصميم وتصنيع الدارات المتكاملة.

ص.س: كما تعلم إن البلدان العربية تعيش في إطار الاستهلاك في عصر التكنولوجيا والتقدم، وهي طرف فيه له وجود من ناحية الاستهلاك لا من ناحية الإبداع، ورغم ذلك نجد بلداناً كثيرة تهتم بهذا الموضوع، كيف يمكن أن يخدم الذكاء الاصطناعي في بلدان تعتمد آليات السيطرة والإكراه والضبط وتوجيه الذكاء لخدمة السلطة؟ هل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي سيطيل من عمر البنى القمعية في المجتمع العربي؟

ف.م: للأسف، كما كانت أجهزة الأمن سبّاقة إلى اعتماد الأتمتة قبل الجامعات والمدارس والمشافي وكل مؤسسات الدولة الأخرى، ستكون سباقة في استخدام الذكاء الاصطناعي للأهداف نفسها.

بالتأكيد، توفر تقنيات الذكاء قدرة هائلة على تحليل الصور والأصوات والنصوص وبالتالي إمكانية متابعة الأفراد، وتمييز توجهاتهم، وتقييد حرياتهم وقمعهم. ويجب ألا يفوتنا التذكير أن استخدام هذه التقنيات لا يقتصر فقط على الدول الاستبدادية، نحن نشهد تقييداً للحريات في بعض الدول الديموقراطية أيضا وأوضح مثال على ذلك هو انتشار كاميرات المراقبة في الشوارع ومراقبة الأفراد ورصد تحركاتهم عن طريق تقنية التعرف على الوجوه.

أخشى أن يكون جوابي على سؤالك هو بنعم.

ص.س: نسمع الكثير عن الذكاء الاصطناعي، ولكننا نفتقر للرأي العلمي، برأيك إلى أين وصل هذا الذكاء؟ ما المجالات الأساسية التي يمكن أن يُستخدم فيها؟

ف.م: شهد الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية منذ بداية عام ٢٠٠٠ أعادت الثقة به وفتحت مجال الاستثمارات الضخمة والانفتاح على تطبيقاته الهائلة. معالجة الصور، معالجة النصوص، معالجة الأصوات، الترجمة التلقائية للغات هي من أكثر التقنيات المعروفة والناجحة، تطبيقاتها متعددة تشمل التعرف على الوجوه والأشكال وترجمة النصوص بطريقة ذكية والتعرف على الكلام وتنفيذ الأوامر والطلبات ولقد أصبحت هذه التطبيقات كلاسيكية ومستخدمة في حياتنا اليومية.

وأتاح التقدم في هذه التقنيات الإمكانية للتقدم في مجال العربات ذاتية القيادة أرضاً أو جواً والتقدم في درونات (الطائرات المسيرة) وروبوتات الخدمة وغيرها …

هذه التطبيقات تُعد محسوسة وسهلة الإدراك نسبياً. هناك تقنيات متقدمة جداً، ولكن تطبيقاتها أقل إدراكاً وهي نمذجة المعطيات والتي أتاحت النمذجة الرياضية لظواهر طبيعية وبالتالي تحسين الأداء، أو الإنتاجية، أو الفعالية أو الحصول على توقعات دقيقة. مثلا، تحسين أداء شركة أو تنظيم مشفى …. طبعاً، سمعنا جميعاً عن البدء بتطوير أدوية جديدة أو توقع تغييرات في البورصة.

مؤخراً، صار بمقدور شات جي بي تي التي نقلت مولدات البحث إلى مستويات جديدة ذكية فهم النصوص وإعادة تشكيلها. وقد يكون من المهم أن تجرب بنفسك هذه الأدوات وتطلب منها تأليف أشعار أو قصص. يمكنك أن تدربها على بعض من قصائدك وتطلب منها أن تؤلف شعراً على نمطها، وإنتاج فيديوهات، وابتكار ألعاب.

ص.س: ما هي المجالات الأساسية التي يمكن أن يفيدنا فيها الذكاء الاصطناعي كعرب إذا توفرت بيئة علمية حقيقية له على الصعد كافة؟ 

ف.م: إذا لم ينتبه الأفراد والمؤسسات والمنظمات أو الحكومات إلى المستوى الذي وصل إليه الذكاء الاصطناعي والفائدة التي يمكن أن تُجنى منه في كافة المجالات فسيجدون أنفسهم متأخرين جداً عن اللحاق بركب الآخرين. بدأ أثر الذكاء الاصطناعي يظهر في جميع المجالات الصناعية، والتكنولوجية والإدارية والثقافية والتعليمية، والخدمية والترفيهية وغيرها. 

بالنسبة للدول العربية ومثيلاتها يمكن أن تكون الفائدة أكبر وتساعد في تسريع تطورها (وهو ما أسميه ركوب الموجة) وذلك بسبب الهوة التكنولوجية العميقة التي تفصلها عن الدول المتقدمة.

ص.س: ثمة معلومات توجه الذكاء الاصطناعي بطريقة أو بأخرى؟ في بلدان تتسم بالثقافة الأصولية الغيبية وبالسياسة الاستبدادية وبحجب المعلومات، والتعتيم على الحقائق، هل تلعب طبيعة ”الزاد المعلوماتي” ، إذا صحت التسمية، دوراً في توجيه الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي قد يكون بطريقة ما أصولياً؟ ألا يحتاج إلى بيئة حرة وتتسم بدقة المعلومات ومواكبة العصر؟

ف.م: سؤال مهم جداً. إن الذكاء الاصطناعي كالذكاء الطبيعي يعتمد على المعطيات التي نوفرها له. فكما هو الحال بالنسبة للتلاعب بالمعلومات من أجل التحكم بقرار الإنسان أو توجهاته فكذلك هو الأمر بالنسبة للذكاء الاصطناعي. إن تحريف المعطيات أو التلاعب بها سيجعل ببساطة من إمكانات هذا الذكاء محدودة أو خاطئة. 

أعتقد أن الفكرة واضحة، إن دقة المعلومات وشموليتها، أقصد قدرتها على تغطية الفضاء المطلوب دراسته وكميتها عامل مهم في كفاءة الذكاء الاصطناعي. إدخال مفهوم الحرية في هذا السؤال أراه رائعاً. في الحقيقة، يمكنني أن أربط كفاءة وقدرة الذكاء الاصطناعي بالحرية التي نعطيها له. قدرته الإبداعية ستكون مرتبطة بشكل مباشر بالفضاء الذي سنبنيه فيه.

ص.س: يتجلى الذكاء الصناعي في صناعة الروبوتات، وهناك بعض العلماء وكان بينهم ستيفن هوكينغ خافوا من احتمال أن يتمرد الروبوت على صانعه، ومن أن يقتله في بعض الحالات وأن يعيث دماراً في الكون، ما دقة طروحات كهذه؟

ف.م: لست من أنصار هذه النظريات. أعتقد أننا نستطيع التحكم بالروبوت وتحركاته. طبعا من السهل أن نعلّم الروبوت التمرد أو أن يصبح قاتلًا. الروبوتات المقاتلة أصبحت جزءاً من تسليح الجيوش اليوم، ولكن قدرتها على تعلم التمرد والقتل لا يمكن أن تنجح إلا إذا قمنا بإعدادها لذلك. 

لنفكر في شيء من الخيال العلمي، إن تعريف الذكاء الاصطناعي يفترض أن يتعلم البرنامج تلقائياً وبالتالي فوضعه في بيئة مشوبة بالتجارب المنحرفة يفترض أيضاً أن تجعله قادراً على الانحراف. ومع ذلك أعتقد أننا نستطيع الحد من كل ذلك وتوجيهه بالاتجاه الذي نريده.

ص.س: ما هي العقبات التي تعرقل عملك في هذا المجال عربياً؟

ف.م: للأسف لم ندخل بعد بشكل حقيقي في مجال نشر الذكاء الاصطناعي وتعميمه في الدول العربية حتى نتكلم عن العراقيل بشكل موضوعي، ورغم ذلك أوضحت تجاربي المحدودة مؤخراً أن هناك عقبة كبيرة وأساسية هي الحصول على المعطيات والتي هي، وكما ذكرتُ سابقاً، عماد بناء الذكاء الاصطناعي. فقد وقعنا على حالات لم تكن المعطيات متوفرة فيها، أو متوفرة ولكنها و لسبب أو لآخر لا يمكن مشاركتها، أو متوفرة ويمكن مشاركتها ولكنها ليست جاهزة، أقصد أنها غير كاملة أو غير كافية. 

من المعروف أن بلداننا ما تزال متأخرة في مجال تنظيم وحفظ المعطيات وهذا يتطلب مرة أخرى معالجة قانونية وإدارية وتنظيمية وأعتقد أن هذه المعالجة هي طريق دخولنا إلى عالم الذكاء الاصطناعي هذا إذا افترضنا الإرادة الحقيقية لذلك.

ص.س: أطلقتَ مرة في سوريا مشروعاً صغيراً على المستوى المحلي لا علاقة له بالمؤسسات الرسمية، ماذا كانت حدود الحرية المتاحة لك كي تنطلق في هذا المجال، في ظل غياب المؤسسات العلمية والأكاديمية القادرة على احتضان مشاريع مستقبلية كهذه؟

ف.م: بدأت بإنشاء معهد خاص لتعليم الذكاء الاصطناعي في سورية. أعتقد أنه كان أول معهد متخصص في هذا المجال. وضعت له قواعد صارمة كي يكون تجربة علمية حقيقية بعيداً عن أي أهداف تجارية أو توظيف سياسي. كنت مقتنعا أنه بالرغم من الظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد فسيكون هناك الكثيرون من المتعطشين لإطلاق تجارب من هذا النوع. والتجربة أثبتت نجاحها بشكل كبير. هذا المشروع العلمي فتح لنا آفاقاً كبيرة من ناحية إقامة مشاريع بحث علمي متقدمة تقارع مشاريع أعمال أقوم بها في فرنسا ودول أخرى.  وفي الحقيقة بدأت هذا المشروع مدركاً بشكل كامل للصعوبات والمعوقات التي يمكن أن يواجهها، سواء كانت إدارية، علمية أو غيرها وبالتالي كل ما نحققه نراه إيجابياً ويعطينا دافعاً للاستمرار. نحاول التواصل مع المؤسسات العلمية المختلفة لإنشاء وتوسيع المنظومة والتواصل مع مؤسسات أخرى للحصول على معطيات واقعية يمكن استخدامها في مسائل محلية. يجب أن أعترف أن نجاحنا هنا مازال محدوداً، ولكن هذا لن يجعلنا نتوقف أو نتراجع.

ص.س: أين تنشط عربياً في هذا المجال، وما الذي تقوم به بالضبط؟

ف.م: أحاول توسيع الدائرة والنشاط خارجياً. طبعاً من البديهي أن أنشط في فرنسا بحكم وجودي فيها ولكنني اتجهتُ عربياً واكتشفت أن دول الخليج العربي تبنت مشاريع وخططاً كبيرة في هذا المجال. حتى الآن، استطعت التواصل مع السعودية والإمارات والحقيقة إن البداية مشجعة جدا وتدعو للتفاؤل.