“هداك المسلسل”: آراء سوريي الداخل بمسلسل ابتسم أيها الجنرال

“هداك المسلسل”: آراء سوريي الداخل بمسلسل ابتسم أيها الجنرال

“العمل مهم جداً، وعلى الصعيد الدرامي جيد للغاية، استمتعت به فعلاً، ثم هل يعقل أن يكتب سامر رضوان عملاً يخلو من رسائل ومضامين عميقة! هناك ملاحظات لا شك، لكنّ هذا العمل دخل المحظور، وبالمناسبة أصرح لأصدقائي هنا في دمشق بشكل طبيعي أني تابعت العمل (ابتسم أيها الجنرال)، ولكن حين أصرح للإعلام ربما يجب أن استخدم اسماً مستعاراً.” يضحك المهندس جمال في نهاية حديثه، مؤكداً مجدداً أنّ الأمر لا يستحق كل هذا الإخفاء والتستر، واصفاً الأمر بأنّه ليس اتجاراً بالمخدرات، وما هو إلّا محض عمل درامي، ولكن من نوع خاص للغاية، على حد تعبيره، عمل يخرق المحظور ويؤسس لفن جديد غير مسبوق.

وفي معرض حديثه يقول: “أليست بداية كل حلقة تقول إنّ جميع شخصيات المسلسل وأحداثه من وحي خيال الكاتب! وإنّ أي تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية هو من قبيل المصادفة! لذلك علينا ألّا نحمل الأمر أكثر من حجمه، ولكن المشكلة في أولئك الذي نخزتهم مسلة المواقف والمبادئ والقضايا والشعارات، فراحوا يعيبون علينا مشاهدته، مبتعدين أكثر نحو تخويننا في مرات”.

وحول ذلك يروي جمال موقفاً حصل بينه وبين زميله في العمل: “كنا نتحدث في المكتب بشكل طبيعي عن أعمال رمضان هذا العام، وفي سياق الحديث أبديت إعجابي بالعمل وإسقاطاته (الرهيبة)، فما كان من أحد زملائي إلّا أن انتفض واصفاً العمل بالكاذب والرجعي والمؤامراتي والمكائدي متهماً إيايّ ببيع القضية ودم الشهداء. حقيقةً لم أفهم المقاربة، ما علاقة الدماء والقضية بعمل درامي تشويقي ليس توثيقياً وغير مألوف على المستوى العربي!”. ويوضح جمال أنه بهدوء امتص غضب زميله خشيةً أن يكون من أولئك الذين يكتبون تقاريرَ أمنية وقال له: “رويدك، العمل كلّه خيالي، لا شيء فيه حقيقي، نتابعه لنتسلى فقط، ولنشاهد عن قرب كواليس المؤسسات العليا كما صورها خيال الكاتب. وبعد ذلك صرت أكثر حذراً حين أحدث أحداً بما أتابعه من مسلسلات رمضانية، تخيل، حتى المسلسلات صارت تخضع لميزان القضية، ونحن كما تعلم، قضايانا في هذا الشرق أكبر من تعداد سكانه”.

بورتريه

مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” عمل سوري من إنتاج شركة ميتافورا وإخراج عروة محمد وتأليف سامر رضوان صاحب التجارب البارزة في الدراما السورية، وعلى رأسها أعمال مثل دقيقة صمت ولعنة الطين والولادة من الخاصرة، وكلّها أعمال أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع السوري حين عُرضت. والمسلسل  من بطولة نخبة من الممثلين السوريين المقيمين في الخارج، ومنهم: مكسيم خليل، عبد الحكيم قطيفان، غطفان غنوم، ريم علي، عزة البحرة، مازن الناطور، سوسن أرشيد.

المسلسل الذي اصطلح سوريو الداخل على تسميته “هداك المسلسل” كنوع من المواربة في مكان، والتندر في مكان آخر، يتناول قصة عائلة تحكم بلداً افتراضياً اسمه “الفرات”. وفي تلك العائلة يخوض رئيس البلاد وأخوه الضابط صراعاً عنيفاً في محاولة كلٍّ منهما أن يحوز السيطرة الكاملة على البلد الذي يتم تقديمه في كثير من المشاهد كمزرعة شخصية لتلك الأسرة التي تكون كل شخصياتها مستعدة لإحراقها في سبيل انتزاع السيطرة التامة عليها.

عرض العمل على شاشتي العربي الجديد، وتلفزيون سوريا “المعارض”، في حين أحجمت معظم القنوات عن شراء حقوق بثه بحسب مصادر خاصة لـ “صالون سوريا” رغم عرض الجهة المنتجة العمل على أكثر من جهة، ليظل التلفزيون العربي الذي يبث من قطر ممسكاً بزمام مبادرة العرض الأول متمسكاً بموقفه من حتمية العرض.

وإبان عرض العمل، صرح زيد العظم (محامٍ سوري معارض مقيم في فرنسا وعضو في حزب النهضة الفرنسي الذي يرأسه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) أنّه جرى تحريف المسلسل بعد أن خرج كنص من يد المؤلف، وبحسب العظم فإنّ النص الذي شاهده الناس على الشاشة ليس النص الأصلي، بل هو نسخة معدلة وملطفة.

ويؤكد العظم وفق معلوماته أنّ العمل الأولي سمى الجمهورية موضع النقاش الدرامي بدولة “العرين” وليس دولة “الفرات”، ورئيس الجمهورية “بشر” وليس “فرات”.

حرب المحاور

وبالعودة لـ “هداك المسلسل” فتكفي كتابة كلمة “هداك” على محرك البحث الشهير “غوغل” حتى تنهال النتائج المتتالية عن “ابتسم أيها الجنرال”، فالعمل باسمه الجديد سرعان ما صار بلغة السوشال ميديا “تريند”.

الأمر لم يتوقف عند حدود رغبة المشاهد وقناعته بما يرى، فانبرت منابر لتشرح للمشاهد ما عليه التفكير به خلال مشاهدته للعمل، أحد التلفزيونات قال في تقرير له إنّ شوارع دمشق خلال شهر رمضان تفرغ من المارة في الساعة العاشرة مساء لأنّ الجميع يذهبون لمنازلهم لمشاهدة المسلسل، وحقيقة هذه الرؤية الشمولية غير منطقية، فمن المعلوم أن لا كهرباء في البلاد أصلاً، والعمل بطبيعة الحال متاح على يوتيوب دون حقوق ملكية، ويمكن مشاهدته في أي وقت، ويكمل التلفزيون في أحد تقاريره أنّ العائلات السورية في الداخل تجتمع بعد الحلقة لتناقش مضامينها.

ومن جهة أخرى، نشرت إحدى الصحف اللبنانية المعروفة مقالة نالت فيه من العمل واصفةً ما يقدمه بالأحداث البطيئة والخطاب السياسي الساذج مكيلةً له مختلف ما هو معروف من الاتهامات الذي تستهدفه كعمل مقللةً من شأنه حتى كادت تساويه ككل بتلك اللوحات البسيطة التي يعرضها الفيس بوك لمتابعيه بغرض التسلية ليس إلّا.

أنا أشاهده

يُبدي خريج إدارة الأعمال عبد الناصر استغرابه من كثر الأخذ والرد حول مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” ويشرح موقفه: “لماذا عليّ أن أخفي مشاهدتي للعمل؟، أليس من فيه سوريون؟، أليس لهذه الحرب مواقيت ستنتهي بها ونتصالح جميعا مع تبويسة شوارب، علينا أن نتغاضى كثيراً، ثم هل تعتقد أنّ أجهزة المخابرات لا تتابعه؟، يا سيدي، المخابرات ليست كلها كما تسوقه الروايات المتواترة، ففيها ما فيها من أناس عاديين، ولست في معرض الدفاع عن أحد، أنا لست مهتماً أصلاً، ولكنّه عمل درامي وكفى، وقالوا ألف مرة إنّه محض خيال، ماذا عليهم أن يفعلوا أكثر؟”

وحين سألنا الحقوقي فايز عيتوني إن كان شاهد “هداك المسلسل”، ضحك مطولاً وأجاب: “تماماً، هو هداك المسلسل، كدنا ننسى اسمه الأصلي، وفي اسمه الجديد تندر كبير وسخرية من الواقع الذي نعيشه ومقاربة كوميدية سوداء لحالنا”. ويكمل: “لنكن واضحين، في مكان ما هذا عن العمل متنفس جيد، ففيه ما فيه من خرق لخطوط حمراء في سوريا، ولدى العرب عامةً، خطوط لم يحدث أن خرقت، فما من عمل تناول كواليس صراع عائلة تحكم بلداً عربياً، فالعمل بحد ذاته جديد ويكتسب أهميته من جرأة الطرح، بمعزل عن موقفنا السياسي، وبالمناسبة أنا لا أتفق مع ذلك الخط السياسي، ولكنّ شيئاً من الفضول جعلني أشاهد كل حلقاته”.

هرطقة

من وجهة نظر الشاب منتصر زايد فإنّ العمل “هرطقة” قائلاً: “هل نختفي وراء إصبعنا؟، العمل واضح لمن هو موجه، وواضح من هم المستهدفون، حتى لو ظلّ صناعه يقولون لمئة عام إنّه عمل خيالي، الاستهداف لسوريا ومؤسساتها وصمودها وشعبها واضح، وتسميته بـ (هداك المسلسل) لن تمحو عنه عار نهشه في جسد البلد”.

أما بالنسبة لعمار متيناوي الطالب في كلية الصيدلة فإنّ العمل واضح الأهداف والرسائل، يقول: “العمل مليء بالإسقاطات، ولكن انظر من حولنا، في الشارع والسوشال ميديا، الناس بجرأة تقول إنّها تشاهده، هذه الحرب كسرت الكثير من الخطوط الحمراء، وقد لا أكون معجباً بكمية الإسقاطات تلك، ولكنّه عمل ينبغي مشاهدته لأسباب عدة، ولكن ما يجعلني أقلق هو أنّ النوايا فيه بالتأكيد ليست مثالية، وهذا بحدّ ذاته مشكلة، ولكنّه بالمحصلة يبقى (هداك المسلسل) الذي لا أحد يريد قول اسمه”.

الكوميديا السوداء

شبان آخرون التقاهم “صالون سوريا” أبدوا امتعاضهم من العمل متهمين إياه بذر الرماد في العيون وتقديم صورة مبالغ بها عن الحال في بلادهم. في مقابل كثر يتابعونه ويهتمون به. وفي موقف الطرفين هذا انقسام آخر يضاف ليوميات السوريين المشبعة بالانقسام، ولكنّه هذه المرة في البيئة الحاضنة للسلطة نفسها. وفعلاً نسبة مشاهدة العمل مرتفعة، ومردّ ذلك عوامل كثيرة، الإعجاب بالمضمون إحداها، والفضول كذلك، وحتى القهر والعدمية ساهما في رفع نسبة المشاهدة، فالناس في هذه الظروف ناقمةٌ على الهواء الذي حولها، فأمام الجوع المقيم في البطون، تسقط الكثير من المعادلات، ويظلّ الحديث عن مشاهدة “هداك المسلسل” مشروعاً ولكن بالطريقة السورية، الطريقة التي تقارب الوجع بالكوميديا السوداء.

ظلّ الجنرال (مكسيم خليل) عابساً حتى آخر مشهد في المسلسل حين قتل شريك نضاله بالسم، تاركاً الباب موارباً على جملة من الاحتمالات المفتوحة التي تركت للسوريين هامشاً غير مسبوق بالتصور والإسقاط والاستدلال، فهل كانت تلك فعلاً رواية عن عائلة حكمت بلداً عربياً؟، هل كانت رواية عن رئيس حالي أم رئيس سابق؟، هل بابتسامة الجنرال تلك تنفس السوريون واستعادوا شيئاً من خفايا الماضي التي كانوا يتهامسون حولها سراً خلال عقود! والأهم –بحسب كثر- كيف لم تحجب السلطة في سوريا العمل عبر المنصات التي كانت تنقله؟، هل ما حصل هو شيء من تلك السياسة التي سمحت للماغوط يوماً أن يقول على لسان دريد لحام ما كان يشكل أكثر تابوهات السياسة إيلاماً للسلطة فداء (للتنفيس) عن شعب غاضب!

 أنطون مقدسي: كاهن التنوير ١٩١٤- ٢٠٠٥

 أنطون مقدسي: كاهن التنوير ١٩١٤- ٢٠٠٥

على امتداد عقود شغل الأستاذ أنطون مقدسي وظيفة هامة في وزارة الثقافة السورية، كمدير للتأليف والترجمة، حتى جاز القول  إنه طبع الوزارة بطابعه الشخصي والثقافي خلال فترة وجوده. 

 في سنواته الأخيرة، وفي طريقه إلى عمله اليومي في وزارة الثقافة الواقعة في حي الروضة الدمشقي، كان يمكن للمهتمين بالثقافة أن يلحظوا هذا الرجل المحني الظهر، الضئيل الذي يشبه أباطرة أو كبار كتاب اليابان، مثل يوكوشيما أو كاواباوتا، يسير بخطوات  بطيئة، وكأنه يخشى أن يتعثر، وكانت ابتسامة خفيفة ترتسم على محياه وهو يستقبل ضيوفه، وإذا أطال الزائر أو تمادى في الثرثرة فسرعان ما تختفي الابتسامة ليُظهر وجهاً صارماً له مهابة عظمى.

إنه “الأستاذ” في ذهابه وغدوه الذي يحمل إرثاً معرفياً شاملاً، ويلم بمعارف شتى، إنه الفيلسوف الذي يفكر فلسفياً دون أن يترك خلفه كتباً فلسفية، رجل الثقافة الكبير الذي قصده الكتاب والمترجمون والشعراء والنقاد والفنانون التشكيليون من كافة الأجيال والمناطق، من المدن والأرياف.  

ولد أنطون مقدسي في بلدة  يبرود الصغيرة من قرى القلمون في محافظة ريف دمشق، في قرية قديمة عثر فيها المنقبون على آثار لإنسان الكهوف تعود إلى العصر الحجري. تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في بلدته ودرس الفلسفة فترة قصيرة بين عامي 1933و 1934 في جامعة دمشق ثم سافر إلى باريس وحصل على إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسي من جامعة مونبيلييه، ثم حصل على إجازة في الحقوق وأخرى في العلوم السياسية من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت وكانت تابعة لجامعة ليون الفرنسية في ذلك الوقت. وبعد عودته إلى سورية عمل مدرساً للفلسفة في ثانويات حمص وحماه وحلب ودمشق منذ عام 1940 وعمل مدرساً أيضاً لعلم النفس والتربية، ثم مدرساً للفلسفة اليونانية في جامعة دمشق على مدى عشرين عاماً، وعمل مدرساً  للفلسفة السياسية في المعهد العالي للعلوم السياسية أربع سنوات.

كان أنطون مقدسي أستاذاً ومربياً شارك في وضع المناهج التعليمية وكانت له بصمته في ذلك، وعلى صعيد الجامعة كان أستاذا في تدريس الفلسفة تخرج على يديه، أهم أساتذة الفلسفة، وتعد الفترة التي كان يدرس فيها في جامعة دمشق إلى جانب رفاقه هي المرحلة الذهبية للتعليم الجامعي فهو من جيل الأساتذة الذهبيين: عبد الكريم اليافي، وعادل العوا، وجميل صليبا، وحافظ الجمالي، وسامي الدروبي، وبديع الكسم.

أثناء عمله الدؤوب في مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية، كان يدير فريقاً من خيرة المثقفين والمؤلفين والمترجمين والخبراء الذين أوصلوا الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة السورية إلى كل العواصم العربية على أنه كتاب يعتدُّ به، تأليفاً وترجمة.

وعلى الرغم من عمله مديراً للتأليف والترجمة والنشر منذ عام 1965 حتى عام 2000م، وكانت أهم وأنشط جهة للنشر في سورية، وموقعة البارز في اتحاد الكتاب العرب، وعلاقاته الواسعة مع مؤسسات وشخصيات ثقافية عربية وعالمية إلا أنه لم يطبع كتاباً، وله عشرات المقالات الهامة، ومقدمات طويلة وهامة لبعض الكتب إلا أنه لم يجمع مقالاته بين دفتي كتاب في حياته، وكل مقال أو مقدمه كتبها الأستاذ مقدسي تعادل كتاباً في موضوعها، وهذا أمر محير، جعل بعض الصحفيين اللبنانيين يشبهونه بسقراط الذي لم يعرف له كتاب ألفه في حياته، و لا أحد يستطيع إنكار مكانة سقراط في تاريخ الفلسفة وكذلك لا أحد يستطيع إنكار تأثير وحضور الأستاذ أنطون في الثقافة العربية المعاصرة.

على الصعيد السياسي، ربما قلة يعرفون أن أنطون مقدسي كان قريباً جداً من السياسي السوري أكرم الحوراني مؤسس الحزب العربي الاشتراكي، ويقال إنه وضع النظام الداخلي لهذا الحزب وبرنامجه السياسي، وكان له دور في اندماج الحزب العربي الاشتراكي مع حزب البعث وصياغة وثيقة الاندماج عام 1953 ليصير اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم سورية منذ عام 1963. ولم يسعَ أنطون مقدسي ليكون له أي امتيازات أو منصب سياسي، وحافظ على مكانته كمفكر قومي اشتراكي مستقل وصاحب عقل نقدي طيلة حياته. كان يمتلك ثقافة موسوعية شاملة، وتؤكد كتاباته واهتماماته على ذلك، فله مقالات في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والأدب والفن التشكيلي والنقد الأدبي وفن الشعر وأنماط السرد، وكل مجالات الثقافة، وفي الدين واللاهوت والتحليل النفسي ونظريات علم الاجتماع والتربية والفكر الماركسي والوضعي، وكان فاعلاً في كل مراحل حياته وكل أدواره التي تمثلها وعمل بها، وليست هذه من المبالغات بل كانت واقعاً لمسه معاصروه وعايشوه معه عن قرب. إنه من الموسوعيين العرب بعمق، وبانحياز واضح نحو الحداثة وبعدها النقدي. وكان في سنواته الأخيرة حين ينكب على عمله ينحو إلى الصمت والنفور من الثرثرة المعتادة في أوساط المثقفين، ولم يعرف عنه حب الزيارات ومجالسة المثقفين في المقاهي أو النوادي، كان أشبه بكاهن تنويري، ومن المؤكد أنه على الرغم من اشتراكيته ونشره للفكر العلماني كان مؤمناً بعمق أيضاً وهذا ما أشار إليه صديقه الأب الياس زحلاوي، وقد اشتركا معاً  في إصدار كتاب  مشترك ديني المحتوى والشكل بعنوان” الصوفانية” عام 1982.

 ولأنه رجل فكر منخرط بقضايا أمته، ويعرف دور المثقف النقدي في إصلاح المجتمع كان مؤمناً بالإصلاح السياسي لبلده سورية حتى رحيله، وكان قد وجه رسالة مفتوحة إلى القيادة السورية على صفحات جريدة السفير اللبنانية  نشرت عام 2000عبَّر فيها عن رؤيته وأمله في تحقيق إصلاحات جوهرية. كما وقع مع مثقفين سوريين بيانين من أجل الإصلاح، وهما ما عرف ببيان الـ99 مثقفاً ثم بيان الـ1000 مثقف اللذين طالبا في الإسراع بالإصلاح وإطلاق الحريات السياسية وإلغاء قانون الطوارئ، قبل الانفجار السوري الكبير بحوالي عقد من الزمن.

هوامش

نشر أنطون مقدسي مقالاته في كبريات الصحف والمجلات العربية، ومن أشهر مقالاته في الأدب:

١- قضايا الأدب وضرورة إنتاجه، نشرت عام 1972  من / 90/ صفحة في سلسلة الدراسات الأدبية، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية.

٢- مدخل إلى دراسة الأدب والتكنولوجيا، من 50 صفحة نشرت في مجلة الموقف الأدبي السورية عدد /12/ نيسان 1973.

٣- وطن ألفه الكلام، مجلة المعرفة السورية عدد /147/ أيار 1974.

٤- الحداثة والأدب، الموجود من حيث هو نص: رؤياه وإبداعه /20/ صفحة الموقف الأدبي عدد /9/ 1975.

٥- مقاربات في الحداثة، مجلة مواقف عدد 35 ربيع 1979في 60 صفحة. 

٦- كما أعدَّ مقدسي عدداً من مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق العدد 286 عام 1985 بعنوان” أدونيس في باريس“.

أهم مقالاته في الفلسفة:

١-من الوجود إلى الوجودية، نشر في مجلة المعرفة عدد 85 عام 1969.

٢- لينين والفلسفة المادية المعرفة عدد 99 أيار عام 1970.

٣- في البدء كان المعنى، مجلة المعرفة عدد 113، تموز 1971.

٤-الفلسفة تبحث، مقدمة لكتاب عن الفلسفة لـ: إبراهيم الفاضل صادر عن اتحاد الكتاب العرب عام  1979.

٥- العقل وغير العقل، عقلانية في موقع البحث، مجلة الوحدة عدد 55 عام 1988. 

٦- من المنطق إلى الميتافيزيقيا، مجلة المعرفة عدد 334 عام 1991.

٧- ما هي الماركسية؟ قراءات الياس مرقص في أسفار الماركسية اللينينية، مجلة المعرفة 

٨- الفلسفة تحاور الأدب، المعرفة عدد 350 تشرين الثاني 1992.

٩- أهم مقالات أنطون مقدسي في الاقتصاد:

١٠- الفن الحديث عام1976

١١- ديالكتيك للاقتصاد ومنهجه لدى كارل ماركس، مجلة المعرفة عدد 112 عام 1971.

مقالاته في الفكر العربي المعاصر:

١- في الطريق إلى اللسان، بحث في زكي الأرسوزي واللغة نشرت في الموقف الأدبي عدد 3و4 عام 1972 ومقدمة للأعمال الكاملة للأرسوزي.

٢- الحصري يُعرّف الأمة، المعرفة عدد 204 عام 1970.

٣- صدقي إسماعيل مفكرا، مع تأملات في الفكر والأدب، المعرفة عدد 164 عام 1984

  • الرواية والأصل، مراجعة وتقديم لكتاب: رواية الأصول وأصول الرواية تأليف مارت روبير ترجمة : وجيه أسعد. 

مقالته في الفن التشكيلي:

١- العقلي واللامعقول من بودلير ؟إلى الفن الحديث، الموقف الأدبي.

٢- الفن والإنسان والياس الزيات، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة بدمشق.

٣- ساعات مع الفاتح، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة بدمشق.

٤-ذلكم هو الإنسان، عن الفنان مروان قصاب باشي، الحياة التشكيلية.

  • أن تكونوا مع الأطفال، عن رسوم الأطفال اللبنانيين، نشرت في الموقف الأدبي عدد 4 عام 1974.

مقالاته في القضايا العربية:

١- حرب الخليج، اختراق الجسد العربي.

٢- المثقف العربي والديموقراطية، مجلة المعرفة عدد 1139 عام1979. 

٣- الديموقراطية في مواجهة العنف، الموقف الأدبي عدد 211 عام 1988. 

يذكر أنه ترجم عن الفرنسية رواية مكسيم غوركي” مأساة جليزنوفا” صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1981 

وبعد رحيله بعام  جمع الأستاذ علي القيم مقالات أنطون مقدسي في كتاب بعنوان ” الأستاذ”  ضم أهم مقالاته المنشورة بين 1968و 1992 إعداد وتقديم د. علي القيّم – وزارة الثقافة عام 2006 .

كما جمعت له محاضرات في الفلسفة تحت عنوان: ” الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية” تقديم المفكر السوري أحمد حيدر مراجعة الدكتور علي القيم صادر عام 2008م

إن قراءة مقالات أنطون مقدسي تعد متعة معرفية وأسلوبية، ومقالاته كلها طويلة بمنزلة كتاب شامل، يلحظ القارئ فيها الوضوح والدقة في الوصف والعمق في التحليل والاستنتاج، وهو يكتب كما يتحدث، إنه أشبه بأكاديمية فكرية، تشع منها الأفكار، مؤمناً حتى العظم بالفلسفة وبالتفكير الفلسفي، منقطعاً إلى الثقافة، يطل من خلالها  نحو العالم ونحو الإنسان العربي المعاصر بشكل خاص. وكان متشبعاً بالفلسفة اليونانية والأوروبية ولديه اهتمام لا يستكين بالآداب والفنون  وبفلسفة اللغة.

حصل الأستاذ أنطون مقدسي على بعض الجوائز:

  • جائزة الأمير كلاوس 2001م
  • جائزة تكريمية من وزارة الثقافة السورية 2002
  • جائزة تكريمية من وزارة الثقافة الفرنسية عام 2003/ تقديراً لنشره الثقافة والآداب. 

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

 ملف حول المنعطف السوريّ

 ملف حول المنعطف السوريّ

         يُعنى صالون سوريا، بتقديم قراءة تأويليّة مُعمَّقة لشخصيات حققت انعطافات جوهريّة في التاريخ الثقافيّ للشعب السوريّ في القرن العشرين، وكان معيار انتقاء هذه الشخصيات قائماً على استنساب خيطه الهادي الوحيد هو الأصالة الفرديّة، إذ الهدف المنشود من هذا التوجُّه هو تبيان إلى أي مدى استطاع سوريون أُصلاء أن يحققوا، بصفتهم أفراداً، تأثيراتٍ حقيقيّة في بلادهم، على نحوٍ أسهم في تغيير طبيعة الوعي الاجتماعيّ في سوريا.

    لقد كانت بداية القرن العشرين فاتحة حقيقية لإثبات الإنسان السوريّ ذاتَه، سواء أكان رجلاً أم امرأة، إزاء العالم كلِّه، فما كادت سوريا تخرج من ظلام الاحتلال العثماني التركيّ حتى دخلت تحت أغلال الاستعمار الفرنسيّ، فكان ضروريّاً جداً أن تنبثق هُويّة سوريا بإشعاعات كثيفة لا تنضب من أعماق أبناء شعبها.

   وهنا نجد تجليات رائعة للعقل السوريّ في مختلف ميادين الحياة، تحديداً الثقافيّة منها، ولا شك في أنَّ هناك أسماء معروفة للمبدعين السوريين في هذه الحقبة؛ ولكن في المقابل توجد أسماء مجهولة لا تعرفها إلا قلّة قليلة من المهتمين. غير أنَّ الأسماء المعروفة أنفسها تحتاج إلى قراءات جديدة تكشف جوانب خفيّة أو غير مكتشفة في تجاربها.

   من هنا يجد هذا المشروع مسوِّغاته، فإرجاع روح الحضارة السوريّة إلى ينابيعها الأصيلة الحقيقية أمر تقتضيه ليس فقط الأمانة التاريخيّة؛ بل تفرضه ضرورة محاولة إعادة الثقة للإنسان السوريّ بقدراته الإبداعيّة الخلاقة التي توجد الآن على هيئة إمكانيّة في كل شاب وشابة سوريين، لذلك لا بدّ من إعادة اللهب المتوقد لنار الإبداع السوريّة بإحياء ذكرى مبدعين كبار رفعوا راية سوريا إلى أعلى ذروة، وهكذا يتصل الماضي المضيء بحاضر يبحث عن الاستنارة.

     وستكون منهجيّة تقديم هذه الشخصيات السوريّة متجاوزة للتوثيق والأرشفة والعرض على الطريقة الأكاديمية الكلاسيكيّة؛ لأنها ستتجه نحو التركيز على أعماق جوهريّة معاكسة للقراءات السطحيّة المعتمدة على المنهج التأريخيّ على نحو تامّ. وبذا يمكن إعادة تكوين فهم-رؤياويٍّ للهُويّة الثقافيّة السوريّة.

عناوين المواد المنشورة ضمن الملف:

أنطون مقدسي: كاهن التنوير ١٩١٤- ٢٠٠٥

استعادة حنّا مينة

نازك العابد (1887-1959): تأثيرها في الفضاء العمومي السوري في النصف الأول من القرن العشرين

عبد الكريم اليافيّ: عالم الفيزياء متصوِّفاً

فيلسوف سوري مجهول

أحمد برقاوي والطَّريقُ الفلسفيُّ المُستحيل

الشحرور الذي غرّد خارج السرب

ماري عجمي:رائدة الصحافة النسوية السورية

صباح فخري.. مدرسةٌ غنائيةٌ شاملة ومسيرةٌ حافلة بالفن والإبداع  

سعد الله ونوس: مسرحي بحجم وطن

أبو خليل القباني.. المبدعُ الخالدُ بفنه الأصيل 

صُعلوكٌ عربيٌّ جاهليٌّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب

المانوليا الدمشقية (إلفة الإدلبي ١٩١٢-٢٠٠٧)

محمد الماغوط الحداثي الساخر من الحداثة

سَاطِع الحُصْريّ أو مأساة الجُذُوْر

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

حليم بركات طائر الحوم الذي لم يعد

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

عمر أميرلاي: رائد السينما التسجيلية السورية وصانع نهضتها

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

أنطون سعادة: جُرح في الزوبعة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

التاريخ بقراءة مغايرة في رواية “الأفغاني-سماوات قلقة” لهوشنك أوسي

التاريخ بقراءة مغايرة في رواية “الأفغاني-سماوات قلقة” لهوشنك أوسي

“الحياة والموت وجهان أبديان للعبث”، بهذه التداعيات للأفكار الملتبسة يدخلنا هوشنك أوسي في تفاصيل روايته الثالثة “الأفغاني –سماوات قلقة” الصادرة عن دار خطوط وظلال الأردنية لعام2021 إلى أجواء مكابدات بطله ذي الحيوات الممتدة في التاريخ، وهو الملقب بالأفغاني على الرغم أنه لم يثبت على انتماء محدد لبلد أو مكان، فكل صديق اقترب منه أو صاحَبه  يجزم بانتمائه إلى بلده وإلى مكان يخص من جاوره، وما يعنيه ذلك من المعرفة العميقة والحميمة بصفاته وتاريخه، في مشابهة مع فكرة رواية بول أوستر “4321” بالمصائر المتعددة للشخصية الواحدة.

 الرجل الاستثناء الذي يتجول بين العصور، هذه الشخصية المتنوعة بمنعرجاتها الفكرية والموشحة بالشعر والرومانسية في القصائد المتروكة بعهدة كل صديق وكل منها بلغة مختلفة ما يؤكد عمق انتمائها الذي يدعيه في مخاتلة من الكاتب الذي يكاد في كل رواية لحياة منها أن يقنعنا بها ليراوغنا في الحكاية الثانية فما أن نقارب على الاقتناع حتى يقوض فهمنا التالي للشخصية التي خلقها ببراعة في مرويات من شهده وعاشره قبيل مصرعه. 

هذا النسج لشخصيات متعددة تتوالد من شخصية واحدة فيما بقي في ذهن من عاصروه، الشخصية الإشكالية التي استطاعت أن تحوز على ثقة واهتمام كل من التقاه على الرغم أن الراوي لم يقابلها إلا خلال فترة بسيطة في معسكر اللجوء في جزيرة خيوس اليونانية التي جمعت أطيافاً بشرية من كافة أنحاء البسيطة،  ليتم جمع كل هذه المعلومات من خلالهم بعد موت هذه الشخصية ورغم الشكوك التي تحيط بهذه النهاية ولكن الكاتب أدار دفة العمل لما يغاير المنحى البوليسي في البحث عن القاتل وجعله في معرفة القتيل من خلال معارفه، فالأول منها يعتقد ومتأكد من أنه مصري من عشاق عبد الحليم حافظ والمقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ومن الذين شهدوا حرب مصر مع إسرائيل وله رأي يظهر فيه تخاذل السادات. 

الشخصية الثانية للأفغاني يفترضه فلسطينيًا هجر من أرضه و كبر وسط المأساة وعانى من نكبات متتالية؛ تهجير 1967؛ ومن ثم أيلول الأسود في الأردن؛ وبعدها شارك بحرب1982 بلبنان؛ وانتقل مع المقاتلين الفلسطينيين إلى تونس ومنها إلى لندن وبعدها رجع يتنقل بين العواصم خاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو ليترقى في المناصب الأمنية وبعدها استقال محاولًا الرجوع إلى حياته وتجارة الأقمشة ومعاودة  القراءة بعد أن يئس من السياسة، لأن بداية انتمائه الحزبي كانت  مشحونة بالأوهام عن أعداء الثورة الواجب تصفيتهم، الأمر الذي خلق مناخ الاحتراب بين الفصائل الفلسطينية،  ما جعله يكره ذاته إضافة لرأيه في قضية محمود درويش وناجي العلي بمن يخسر كل شيء ومن يفوز بكل شيء، وقد كان قد قرر أن يفجر قنبلة وأن يعترف بأنه أحد المتورطين باغتيال ناجي العلي لكنه اغتيل دون ذلك.

الشخصية الثالثة للأفغاني يفترضه أفغانيًا يعاني من تبعات ومخازي الاحتلال الأميركي وفجور جنوده وتعنت طالبان.

الشخصية الرابعة جزائري ابن يهودي تربطه علاقات مع قيادات الثورة الجزائرية والسلطات الفرنسية معًا الأمر الذي جعله في مرمى تهديدات المتطرفين أيام العشرية السوداء التي عصفت ببلد المليون شهيد.

الشخصية الخامسة تونسي أبوه شيوعي معارض للحبيب بورقيبة وقضى بالسجن ردحًا من الزمن ما اضطر الابن لترك المدرسة وإعالة أمه وإخوته بغياب أبيه

الشخصية السادسة إيراني جده من حزب تودة غدر بهم ستالين وأطلق يد الشاه في قمع جمهوريتي المهاباد الكردية وأذربيجان الإيرانية.

الشخصية السابعة كردي والده متورط بالصراعات الكردية الإيرانية والعراقية ووصية والده له بعد انتحاره هي الابتعاد عن السياسة فمن دخل مستنقع السياسة لن يخرج منه نظيف العقل والروح والضمير واليدين، وهو في كل هذه الشخصيات ثمة من يستهدفه ويفكر في تصفيته، ودائمًا ثمة قصيدة بلغة ما تؤكد انتماءه للشخصية التي لبسها عندما يتطور الحدث كبؤرة تتسع باستمرار للإيغال في تفاصيل شخصيات تتفرع من شخصية واحدة.

هذا التكنيك في السرد المتشظي تجاه قضايا عدة افترضتها الشخصيات المتناسلة التي نسجها ببراعة وهذا التنوع الذي خلقه في الحيوات العابرة للزمن والمتوزعة بانتماءات عدة من هوية مصرية وكردية وإيرانية وفلسطينية وسواها عاد وضيقها في الجزء الثاني من العمل بحصره استحضار الأحداث في موقعة النهروان وخلاف علي بن أبي طالب مع الخوارج.

مامن شيء حرج وشديد الحساسية مثل طرح الخلافات التاريخية ذات الفحوى الديني على بساط البحث والسجال سواء في المجال الفكري أو السردي أو النقدي، ولا ينفي ذلك الحاجة الماسة إلى رفع صفة التقديس عن كل القضايا ومناقشتها بمنطق العقل والعصر الذي لا ينتظر صحوتنا، وخاصة في ظل سعي محموم لذوي الرايات السوداء في التأليب والتكفير وتوزيع الجنة والنار وفق أهوائهم باعتبارهم قابضين على عنق الحقيقة.

بعد مرور كل هذا الزمن يطل الكاتب على الأحداث ليعيد تقييمها ورؤيتها بمنطق عقلي والاحتكام لضرورات عصرية بعيدًا عن نزاعات الطوائف والاصطفاف العاطفي. فقد عارض الخوارج عليًا لقبوله بتحكيم كل من عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وهم ليسوا أصحاب ثقة ويتوقع منهم الغدر، كما عارضوا حصر الخلافة في قريش بين بني هاشم وبني أمية كونها لا تؤسس لشورى حقيقية، كما تأييدهم لضرورة وتطبيق حكم الله لما فيه نص صريح وهو قتال الفئة الباغية في تخيل الكاتب للحوار بين الفريقين ومستشهدًا بأحكام جلد الزاني وقطع يد السارق التي فيها نص واضح.

ولكن إن وافقنا على ماذهبوا إليه في البداية فالجزء الثاني من كلام الخوارج ذو النفس الراديكالي معطل للعقل في الاحتكام للنص دون سواه فعندما حلل عمر بن الخطاب إيقاف حكم قطع يد السارق في سنة المجاعة وإلغاء حق المؤلفة قلوبهم في المغانم والكلأ بعد أن قوي عضد الدولة في قراءة معاصرة للنص المقدس بتحكيم العقل وقراءة الواقع، فقد عرف عن الخوارج أنهم كانوا ميالين للعنف والتكفير والأخذ بالنص دون هوادة وربما كانت فكرة علي بن أبي طالب حقن دماء المسلمين فمن قال إن علي كان لينتصر على معاوية لو حاربه، وابن أبي سفيان معروف بثرائه ودهائه،  في أي حرب هناك احتساب لاستشراف النصر أو الخسارة وهنا دور القادة في استقراء الوقائع، ربما سارع علي لحرب الخوارج لأنه وثق من إمكانية انتصاره عليهم وربما الأفكار المتقدمة لم ينضج ظرفها التاريخي بعد، ونحن عندما نطرح شخصية ما على بساط البحث من غير الوارد أن نشيطن جهة ونضع الأخرى بجهة الملائكة ضمن العوامل المتقلبة المنتجة لفكر الجماعات والدول. فالخوارج كانوا متشددين في حضِّهم الثوري على أئمّة الجور، وفي استحلالهم لدماء مخالفيهم، والدعوةِ إلى العدالة الاجتماعية والمساواة ولكنهم رغم ذلك انزلقوا إلى العنف والدماء أو جروا إليه ويظهر ذلك في الانشقاقات المتكررة في جماعاتهم.

المثال الذي أورده الكاتب على لسان الخوارج حول آية الرجم كمثال على الاحتكام للنص، في نص مشكوك بنسخه إذ هناك من يقول إن عمر بن الخطاب أضافها إلى القرآن بعد أن نسخت (ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وفي الموطأ والسنن الكبرى وغيرها من كتب الحديث نسخ آية الرجم لفظًا لا حكمًا أي: أنها بعد النسخ لم تعد من الآيات القرآنية، وبقي حكم الرجم الذي دلت عليه. قال السيوطي في كتاب الإتقان في علوم القرآن أن آية الرجم مما نسخ لفظها وبقي حكمها.) بالإضافة إلى أن فرقة من الخوارج والمعتزلة أنكروا حد الرجم فمن التناقض إدراج مثال ضمن حجاج المتحاورين في أمر مشكوك فيه بالأصل، وربما كان من الأفضل لو استخدم نصًا مختلفًا للبرهان والحوار الذي يتوه القارئ بين مرجعيته التاريخية وحقيقة وجوده وبين خيال الكاتب في استنطاقه لكلام الشخصيات التي يوردها، وبالعموم كمسألة فكرية الاحتكام إلى نص لزمن ما قد يعني قوة بالفكر ربما يفحم طرفًا في وقت ما، ولكن بزمننا أي احتكام لنص باعتباره الحقيقة المطلقة قد نعتبرها نوعاً من الانتقاص من القدرات العقلية للكائن المفكر.

ربما لو أبقى الكاتب الحوارية ضمن رموز لشخصيات روائية لتجنب المباشرة في طرح الحوار المتخيل بين الخوارج وعلي بن أبي طالب مما يجعل لكل ذي رأي الإدلاء بدلوه حول مصداقية الحوار والتوجه الفكري والمسألة الشائكة الذي لم يستطع الزمن المديد الذي يفصلنا عن هذه المشكلة رأب الصدع بازدياد تمترس كل وارث لفكر في موقعه وتناسل الضغائن والأحقاد.

تظهر المباشرة في طرح الأفكار في أكثر من جانب ففي الاستطراد الاستشهادي ((تشابه الخطاب الثوري الشيوعي مع الخطاب الجهادي الإسلامي)) تشابه ارنستو تشي جيفارا مع المجاهد الإسلامي في نصرة المظلومين ومناهضة الاستعمار وأيضًا الاستنتاج “أن التاريخ يكتبه المنتصرون لو انتصر هتلر أو ستالين أو لتغيرت كتابة التاريخ وفق منطقهم”، لا يترك  أوسي هذا الاستنتاج للقارئ ليترك له مساحة من القبول والاختلاف فيما يذهب إليه، كما أن المباشرة ظهرت في هذا الطرح للمماحكات الفكرية بين الخوارج وأنصار علي بن أبي طالب التي أخذت أكثر من شكل بالإضافة إلى إتباع قالب مكرر في السرد بشكل كبير كوجود أوراق في صندوق بعد مضي زمن عليه لتعاد قراءته مشكلة الجزء الأكبر من جسد العمل سبق أن فعله يوسف زيدان في “عزازيل” وآلان بادو في “عبدة الشيطان” وواسيني الأعرج في “ليالي ايزيس كوبيا” وغيرهم.

تختلط الشخصيات التاريخية بالشخصيات الروائية فهو يستنطق الأولى ويؤلف حججًا وبراهين على لسان الأخرى في حشد هائل منها، تتوزع بين الصحابة معاصري أيام الخلافة إلى عبد الله عزام والتنظيمات الجهادية التي يحتاج الخوض فيها إلى كتب وملفات واسعة تعج بالتفاصيل والتواريخ باحتشاد لا يجد القارئ صبرًا على الإلمام بكل هذا التاريخ، ولكن أهم ما فيها رفع صفة القداسة عن الأشخاص ومناقشة الأحداث بمنطق العقل الذي نتفق فيه أو نختلف.  

ولكن ما يجعلنا نتعاطف مع العمل أن الكاتب ينتصر لفئة مهزومة عبر التاريخ لم يبق لها مريدون ولكنها تحمل بذور حرية العقل إلى حد ما، فنحن نحتاج لمساحة الحرية التي تسمح لنا بمراجعة تاريخنا كله بمنطق العقل والبرهان الفكري لا التكفير والإلغاء، وإلا سنظل نؤجج الخلافات والتحزبات الطائفية والمذهبية إلى ماشاء الله وحتى لا تقوم لنا قائمة بعد اليوم.

أكرم حمزة: لوحة مفصلية في مسيرتي التشكيلية

أكرم حمزة: لوحة مفصلية في مسيرتي التشكيلية

أكرم حمزة فنان تشكيلي سوري من مواليد السويداء 1963. درس الفن وتخرج من كلية الفنون الجميلة جامعة دمشق. عمل مخرجاً صحفياً ومصمماً إعلانياً، ومصمماً للفضاء المسرحي. عمل أيضا في مسرح Pakhuis Hoorn في تنفيذ الإضاءة والصوت لسنة ونصف. أقام عدة ورشات عمل فن تشكيلي والعديد من دورات الفنون.عضو لجان تحكيم العديد من المسابقات الفنية والمسرحية. نال العديد من الجوائز الأولى في التصميم والسينوغرافيا، وصمم ونفذ العديد من مهرجانات الفن والمسرح والثقافة. عرض و شارك في عدد من المعارض والتظاهرات الثقافية في عدة مدن  أوروبية، وكتب ونشر في عدة صحف في الفن التشكيلي والغناء الملتزم. أقام نصباً فنياً في مدينة هورن لمنظمة هولندية تُعنى بشؤون البيئة من النفايات البلاستيكية، النصب بارتفاع ثلاثة أمتار وبناه من المخلفات البلاستيكية وكان حامله قضيباً معدنياً مجوفاً. عضو منظمة أطباء بلا حدود العالمية، عضو منظمة آفاز العالمية، وعضو متطوع في جمعية مساعدة مرضى الزهايمر الهولندية.  مقيم حاليا في مدينة هورن.  

صالون سوريا: متى رسمتَ هذه اللوحة، ما الشرارة الأولى التي كشفت الطريق إليها، هل هناك فكرة أو إيحاء أو تأثير معين دفعك إلى رسمها؟

أكرم حمزة: لقد اشتغلتُ على الوجه البشري في المراحل الأولى من عمري، أي منذ طفولتي، وكانت الدراسة الجامعية وما بعدها المؤثر الحقيقي لهذا التوجه الذي تكرس بعدد من التجارب اللاحقة تعددت فيها الأساليب والتقنيات، وكان تتويجا لها ارتحالي عن بلدي لأعود الي جذوري التشكيليية وأعاود دراسة الوجه وإنجاز العديد من التجارب وكم من الأعمال على مدار سنة كاملة لتبزغ اللوحة- السلسلة مع مجموعة أعمال تجولتُ بها في عدة معارض فردية وجماعية في أوروبا ( بلجيكا: مول و بروكسل، ألمانيا: بريمن وبون، هولندا: أمستردام، إيندهوفن، أوس، ستيدبروك، ميدبليك، هورن). كانت تلك الأعمال تُعنى بالوجه البشري وضمنياً بالانفعالات الإنسانية والبشرية، ونفذت تلك الأعمال بداية الشهر السادس من عام 2016 ونفذت اللوحة أعلاه في الشهر الثامن من العام  نفسه، واللوحة التالية هي أول لوحة من تلك المجموعة.

هذه هي كانت البداية والمحرض بعد استتباب مقومات الأسلوبية من ناحية التقنية-المهارة، وضمناً تماهيها مع الموضوع الذي أعمل عليه، فالشرارة عندي ليست المحرض الخارجي على الأقل من خلال بحثي الدائب في تلك الفترة عما أستطيعه، والعمل اليومي وإنجاز العديد من الأعمال التي تحاكي وتتقاطع في بعض منها تجارب أخرى. 

واقتنت هذا العمل الأول السيدة الباحثة دومنيك فان لير المختصة في تاريخ الفن و رئيسة تحرير مجلة تابلو الفنية التي تصدر في أمستردام.

ص.س: ما موضوع هذه اللوحة، وما العوالم التي تشير إليها وما الذي تحاول إيصاله فنياً فيها؟

أكرم حمزة: هي جزء من سلسلة بعنوان تحولات العواء أستلهم فيها مأساة الإنسان في رحيله وحيداً مع كامل أحزانه وآلامه الجسدية والنفسية خصوصاً ما يجري الآن من تكالب السواد والليل في منطقتنا والعالم. 

هي صرخة عواء من قعر الألم. حتى ما يسمى بالحيوان كان وسيظل أكثر التصاقا بالوجع وفي التعبير عنه، وحيداً في ألمه، وحيداً في صمته، وحيداً في ليل عوائه.

ومن خلال الوجه الذي يندمح فيه الحيوان والإنسان، والتركيز على الحس التعبيري بالعينين وعضلات الوجه، أختصر الوجه بما ذكرته، مبقياً على الشحنة التعبيرية بوجود الخط الانفعالي المستمر على مساحة من بياض تتلوث بالقليل من تونات الوجه.

وبالنسبة للوحة تلك سميتها نظراً لتميزها حالات تسعوية، لما فيها لعب على الكلام من حالات والحال (الوجد الصوفي) والتسعوية، الرقم تسعة والتعاسة كقلب الأحرف، والمهم هو كيف تشاهد وما تشاهده يبقى هو الفيصل والحكم. والتالي بعض من وجوه اللوحة.

ص. س: ما الذي تشكله هذه اللوحة في مسيرتك الفنية؟

أكرم حمزة: بهذه المجموعة وضمنها هذه اللوحة أستطيع القول أنني أنجزت شيئا ما وإضافة في مسار الفن التشكيلي ضمن مجال اللوحة المحمولة، لجدة طرحها تقنياً وأسلوبياً. 

ص.س: كيف تختلف هذه اللوحة عن لوحاتك السابقة؟

أكرم حمزة: كما ذكرت سابقا هذا العمل لا يختلف من الناحية التقنية لأنه تطوير وتصعيد للتجارب التي قمت بها سابقا فالمزاوجة بين الغرافيك والرسم، الدراسات الخطية (الإسكتش السريع، الكروكي) مع الإكرليك على اللوحة القماشية المحمولة، هذا من ناحية، ومن ناحية الأسلوب زاوجت بين اللوحة السطح أي إلغاء المنظور الهوائي والبعد الثالث في فراغ اللوحة وأبقيت على التجسيم في الوجه عن طريق الخط الغرافيكي المستمر. 

(اسكتش بقلم الرصاص 2016 ، وفيه يظهر نفس طريقة العمل في وجوه اللوحة، لكنه هنا أكثر تحرراً). 

ص. س: ما الأدوات المستخدمة في اللوحة وكم استغرق إنجازها؟

أكرم حمزة: اللوحة جزء من مشروع  وسلسلة تحولات العواء. مواد التنفيذ قلم حبر جاف أسود والدهانات الإكريلية والديكور الرمادي، على القماش  المجهز بالأساس للرسم. قياس العمل كواجهة 100×100 سم . نفذ العمل في صالة J.A.J.A  إيندهوفن هولندا عام  2016 مع مجموعة سلسلة التحولات واستغرق إنجازها أسبوعاً. في هذه الفترة من النصف الثاني من العام 2016 حيث كنت متفرغا للعمل في هذا المشروع الذي تجاوزت لوحاته الأربعين لوحة، وقد قسمت اللوحة إلى 9 مربعات متساوية يفصل بينها شريط رمادي مزرق وتشكل 9 حالات لوجوه شبه أمامية وشبه آدمية بشرية ونحن نعلم رمزية العدد تسعة في المثيولوجيا وعلم الأعداد وحساب الجمل، والوجوه كلها رُسمت بالخط الغرافيكي المتتابع والانفعالي بواسطة قلم الحبر الجاف الأسود مما كان مزواجة أولى للاسكتش الغرافيكي مع اللوحة القماشية وخلفيات الوجوه جميعاً بمادة الإكرليك التي غلبت عليها الألوان القاتمة والسطوح المتناغمة، وبعض السطوح كانت أقل دسامة وشفافية وتعتمد اللمسة السريعة والقصيرة المتقطعة. أما الحامل فهو القماش المجهز بالأساس القليل الامتصاص ومشدود على إطار خشبي. 

(دراسة وجهية 2016 بنفس الطريقة والإسلوب، لكن فقط بقلم الرصاص   B6 )

ص.س: هل كانت آراء النقاد والمشاهدين مطابقة لما ترمي إليه في هذه اللوحة؟

أكرم حمزة: تناولت الصحافة عامة كثيراً التجربة نظرا للدعوات التي وُجهت لعرضها في العديد من الأمكنة ومدن الشمال الهولندي وفي  كل الصالات التي عُرضت فيها  هذه اللوحة  مع مجموعة أخرى من الأعمال، كانت تثير الإهتمام لما فيها من غرابة و جدة. وكانت تجري نقاشات حول المجموعة ككل، وكانت اللوحة تحظى بالتأمل والوقوف مطولاً أمامها، وكثير من الأشخاص والمجموعات يعودون إليها وهذا ما جرى في المعرض الأخير حيث اقتنيت اللوحة، وكذلك أبدت اهتمامها السيدة الناقدة المختصة بتاريخ الفن دومنيك فان لير رئيسة تحرير مجلة تابلو الفنية التي تنشر في أمستردام واقتنت عملاً من نفس هذه المجموعة عام 2018 . ولا أعتقد أنها كانت بعيدة عن رؤيتي العامة للمجموعة، لأن من طبع الفن عامة أنك تستطيع ان تحلله وتفككه أو تستمتع به من خلال رؤياك أنت، وهذا ما يضفي على الفن عموماً طابع حرية التلقي، فالرسائل الموجهة تصل بالمشاهدة، والمشاهد هو الذي يحدد من أين وكيفية المشاهدة، وصحيح أن الفنان المتمكن من أدواته المعرفية والتقنية يستطيع أن يوجه المشاهد ويجعله يتفاعل مع ما يريد سواء بمتعة المشاهدة الجمالية أو المعرفية التي أعتقد أن لا انفصال بينهما إلا لضرورات الشرح والتعريف. 

كل أيامنا صيام: السوريون في رمضان

كل أيامنا صيام: السوريون في رمضان

“رمضان؟، صيام؟، طقوس؟، هل تعتقد أنّنا نصوم بكيفنا، إذا ما استبعدنا الجانب الديني، فكلّ أيامنا في سوريا صيام، ما الذي اختلف الآن؟ منذ عامين لم تدخل اللحوم الحمراء منزلي، أهذا منطقي في بلد زراعي؟. بل أين المنطق أن يصل سعر كيلو الخيار لعشرة آلاف ليرة، في بلد زراعي أيضاً، هذه كذبة كبيرة، نحن لسنا بلداً زراعياً ولا إنتاجياً ولا رعوياً. نحن بلد أثبتت الحرب فيه أنه رأسمالي برجوازي يحكمه الإقطاع المتلون في عباءات مختلفة”.
يقول المهندس عبد الرحمن مراد في حديثه مع “صالون سوريا” مستذكراً أياماً كان الخير فيها يطوف على العباد بحسب تعبيره، فالمهندس الأربعيني الذي يعمل في وظيفة حكومية، يكاد دخله لا يكفي لأدنى متطلبات الحياة لا الكريمة، ولا حتى شبهها، بل تلك التي تبقيه على خط الفقر أقلّه، وعلّه ينال ذلك.
يضيف عبد الرحمن في حديثه: “الصيام سنة لا نتجاوزها كأسرة، ولكن في ذات الوقت لا يمكننا إغفال أنّ أيامنا جميعها أصبحت تتبع تلك السنة، فالمنزل الذي ليس فيه حواضر الإفطار والعشاء وطعام الغذاء، فحكماً أهله صائمون، ماذا تغير؟. فقط أننا لا نشرب الماء بين وقت الإمساك والإفطار، لا أريد أن أشكو وأندب وألطم، أعلم النتيجة سلفاً، ولكن سأكتفي بالقول إنّ راتبي الذي يبلغ نحو 130 ألف ليرة سورية، يعادل سعر كيلو لحم وكيلو جبنة، وعلى ذلك يمكن القياس”.
وبحسرة باديةٍ على ملامح مراد يتحدث عن مكونات إفطارهم الرمضاني التي تقتصر على البطاطا، “مقلية، مسلوقة، مفركة بطاطا، يا الله كم نحن مرفهون، وبالمناسبة فإنّ البطاطا ليست رخيصة، ولكنها ضمن المستطاع، أما السلطات فقطعاً ليس بمقدورنا إعدادها، صحن السلطة اليوم قد يكلف عشرين ألف ليرة”.
يحز بنفس المهندس منظر الموائد العامرة في المطاعم التي أغلقت حجوزاتها حتى نهاية شهر رمضان، متسائلاً بغرابة عن مصدر أموال الكثير من الناس في بلد جلّ رعاياه موظفون حكوميون، مبدياً قلقه من حالة التفاوت تلك، والتي يقول عنها إنّها أمعنت نهشا في الطبقة الوسطى، فأحالتها للعدم المادي، مقابل تبلور في الثراء لشريحة أخرى لا يدري هو كيف حصلت على أموالها، ولكنّه يعيد الأمر إلى معادلة رياضية غير مفهومة الأبعاد والنتائج.

شظف العيش

تعمل أم أحمد “سيدة خمسينية” كمستخدمة في إحدى شركات العاصمة دمشق، تعيل أولادها بعد وفاة زوجها مطلع الحرب، هي بدورها صائمة، وأولادها كذلك، لكنها تشترك مع المهندس وكثير من الأسر بذات المعاناة المتعلقة بانعدام الموارد التي تمكنهم من الإفطار كما يجب أن يكون. وما يجب أن يكون هو تماماً ذاك الشكل الذي يحاكي موائد المنازل قبل عقد، قبل أن تبدأ الحرب وتصيب المجتمع وطبقاته الوسطى والدنيا بشلل بات معه عاجزاً عن إتمام شؤون حياته منفرداً دون مساعدة تنتشله من حيث هو، وتلك المساعدة حكماً ليست على شكل سلة غذائية أو مساعدة عينية، فإن أعانت تلك المعونات الأسرة أسبوعاً وشهراً، فمن سيعينهم على شظف العيش بقية الأشهر؟، وهذا الرأي كان حصيلة آراء استمزجها “صالون سوريا” في معرض الحديث مع أشخاص متعددين عن الصيام القهري للكثير من العائلات السورية.

الحنين إلى فروج كامل

تغالب أم أحمد دمعتها حين تخبرنا أنّهم لا يتسحرون، لأنّ كيلو الجبنة بعشرين ألفاً، والزعتر كذلك، واللبنة بآلاف أخرى، وكما أنّهم لم يتمكنوا من إعداد مؤونة المكدوس والقريش بسبب ارتفاع الأسعار في حينه، ولكنّها توقظ أولادها ليشربوا الماء على الأقل، والشاي أحياناً، على ما تقوله.

وتضيف: “فطورنا هندباء، خبيزة، سبانخ، ما توفر من حشائش رخيصة، ومعها الخبز المدعوم، والذي والحمد لله هو نعمة، فلا زلنا نستطيع الحصول عليه كل يوم، ولكن ماذا أقول؟، براد منزلنا خاوٍ، حسبي الله ونعم الوكيل مما آلت إليه أمورنا”.

وتتابع: “في رمضان 2020، اشترينا فروجاً كاملاً وتناولناه على الإفطار، تلك كانت آخر مرة يدخل فيها الفروج منزلنا، وبعدها تدهور الحال ولم يعد بمقدورنا شراء اللحوم، وحينها كنا نتسحر، ونفطر، ونصوم، ونعد الأطباق الشهية، رحم الله أبا أحمد، كان عمود البيت وجسره، بعد رحيله، وبعد سنين الحرب تلك، نحن الآن نشد الأحزمة على بطوننا، نحن نصوم مكرهين طيلة العام. وإياك أن تعتقد أن رمضان هذا مختلف عن شعبان وما سبقه من الأشهر، فكل أيامنا ما قلّ من الطعام، ولكن حسرة في نفسي طقوس هذا الشهر الفضيل كيف تلاشت”.

أسر لا زالت تقاوم

أسر أخرى يمكن القول إنّها ما زالت تقاوم، ولكنّ عاداتها رغم ذلك تغيرت شيئاً فشيئاً، إذ درجت عادة معظم الأسر السورية أن تستقبل إفطار أول يوم رمضاني بأكلات يكون اللبن قوامها، كالشاكرية على سبيل المثال، ولكنّ الطبخة ذاتها صارت مكلفة، فتجاوزت أسر كثيرة عن ذاك الطقس.

رقية منصور واحدة من تلك النساء التي لم تتمكن من مجاراة تلك العادة هذا العام، تقول: “أنا وزوجي و4 أولاد لدينا، إذا أردنا تحضير الشاكرية فهي ستكلف ما لا يقل عن 60 إلى 70 ألف ليرة، أي أكثر من نصف مرتب زوجي. لذا تجاوزت الطبخات التي تعتمد على اللبن واللحوم، ولكن هذا ليس الأسوأ، فلم يمر يوم رمضاني سابق ولم أكن أحضر طبختين أو ثلاثاً على مائدة الإفطار، أما في رمضان هذا فقد افتتحنا شهرنا بالشوربة، وكل يوم لاحق بطبخة واحدة، وبكل حال الحمد لله، فغيرنا لا يفطر أبداً”.

وجبة واحدة

ومن جانبه يقول الشاب محيي الدين عشماوي لـ “صالون سوريا”: “في الأيام الطبيعية أتناول وجبة واحدة، فما الذي تغير في رمضان، إذاً؟”. ويؤكد أنّ أيامه كلّها صيام، وبأن لا شيء يختلف، مشيراً أنّ هذا السوء لم يكن خلال سنوات الحرب، بل هو تمادى وكبر في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص.

ويشرح من وجهة نظره ذلك بالعقوبات التي انهالت تباعاً على بلده، فضلاً عن تهاوي قيمة العملة المحلية وما إلى ذلك من أسباب: “في أول يوم رمضاني هذا العام قررت أن أدلل نفسي، فاشتريت ساندويش بطاطا (دبل) من مطعم وكان سعرها 9 آلاف ليرة، لو أنني سأدلل نفسي كل يوم، فسأحتاج 270 ألف ليرة في رمضان، أليس من السخرية أنّ البطاطا أصبحت دلالاً، فكيف باللحوم؟”.

لن أصوم

معروف الحسن شاب عزف عن الصيام هذا العام، بعد أن كان ملتزماً بالصوم طيلة سنين سابقة، في معرض شرح فكرته يقول: “ما الغاية من الصيام؟، أن أشعر بالفقراء، حسناً أنا فقير للغاية، على الآخرين أن يشعروا بي وليس العكس، وإذا ما كانت كل أيامي صيام، فما الفرق الآن؟، لا لن أصوم، وسأدخل الجنة إن كان لا لشيء، فلصبري على ما نحن فيه وهذا يكفي”.

وفي هذا الإطار يمكن ملاحظة توجه نسبي يتعلق بالعزوف عن الصيام، ويعود ذلك لأسباب مختلفة، دينية متجددة، اقتصادية، اجتماعية، وغيرها.

مجتمع يشعر بالبرد

وفي المحصلة هناك أناس كثيرون نهشهم الجوع المتنامي، الجوع الذي تقول الأمم المتحدة عنه إنّه ينتشر في المجتمع السوري الذي بات أكثر من 90 بالمئة منه تحت خط الفقر، وما من دلائل على ذلك أوضح من حال الناس الملحوظ في الطرقات، ولربما يمكن القول إنّ بهجة هذا الشهر تلاشت، ومعها طقوسه المميزة.

ولعلّ ما يمكن الاستدلال به على ذلك أيضاً هو منظر طفل صغير حاول “صالون سوريا” محادثته حين كان يلتصق بمولدة لإحدى المحال بغية تحصيل بعض الدفء، وفي موعد الإفطار تماماً، لكنه ارتاب ومضى لحاله، فهل ثمة ما هو أوضح من ذلك حين الحديث عن مجتمع بات كلّه “يشعر بالبرد”؟، كحال ذاك الطفل تماماً.