لم يعد يكفينا قلبٌ واحد، صرنا نتمنى كما قال الشاعر العربي القديم قيس بن الملوح أن يكون لنا قلبان نعيشُ بواحد ونفرد الآخر للحزن، ذلك أن الموت صار يأتي بالجملة، وخاصة في أعقاب الزلزال المدمر الذي دمّر المدن والأرياف في تركيا وسوريا وقتل وجرح وشرد أعداداً كبيرة، وعوضاً عن أن نتجاوز حدود النزعة الإنسانية السائدة والبيروقراطية الفاسدة التي تتحكم بها، ونصبح أكثر إنسانية في تضامننا بما أن الخطر جماعي وعابر للحدود، أعدنا إنتاج خطاب ما قبل الكارثة وحولنا خطاب الزلزال إلى امتداد لخطاب الحرب، حيث تتحكم المصالح والاصطافافات ويتم التلاعب بمصائر البشر ويُترك الضحايا تحت الأنقاض. حين يأتي الموت يكون فاجعاً، تتحول الحياة التي كانت إلى شريط ذكريات ثم يهيمن النسيان على المشهد، ذلك أن أعلى قمة في جبل الكينونة كما قال الفيلسوف الألماني هايدغر هي قمة النسيان، لكن الحياة البشرية تستمر أيضاً دون أن تُنسى تجلياتها السابقة، ذلك أنه مقابل قمة النسيان تتوضع قمة التذكر وإن كانت القمتان تتصارعان على حكم سلاسل جبال الحياة والموت. لهذا من الصعب التسليم بفكرة المحو، فالحياة تتمسك بما لديها وتعمّق خطها وتحتفظ في داخلها بزخمها المخترق للأزمنة وهي تتقدم في سياق من العدم الشامل كمشعل يضيء ليل العالم، فنحن نتاج تاريخ طويل ضارب في القدم لا يكف عن التطور.
أمام الموت نفكر بالجسد، بما رسمنا له من مسارات تحولية ماورائية منذ الميثولوجيا مروراً بالأديان التوحيدية وصولاً إلى العلم الذي صنع شعرية الذرات المسافرة والمتنقلة بين العوالم في رواية تنفي الرواية الدينية. ما يبقى هو التراث: انظروا إلى محيط الأسماء الباقية في الكتب والمدونات، إلى الاختراعات والثورات والقفزات النوعية للبشرية وإلى المنجزات الفردية في جميع حقول المعرفة وإلى الإبداعات الشعرية والفنية والروائية والمسرحية، دوماً نعود إليها ونمد أيدينا إلى رفوف المكتبات وندخل إلى المتاحف كي نبحث عما يضيء لحظتنا ويدفئنا من بردها. هناك أشخاص يتوهجون عبر ما تركوه من آثار وتأثيرات، وما ولّدوه من خلال أسلوب حياتهم ولقد كانت حياة رفعت عطفة فضاء وقصيدة ومقطوعة موسيقية وكتاباً مترجماً أو مؤلفاً ومائدة مشتركة وسيمفونية صداقة. في ضوء هذه الاستمرارية لقوة الحياة مَن ماتَ يولدُ من جديد داخلنا بطريقة أو أخرى، ويشكل جزءاً من وجودنا، يتواصل في حياتنا داخل الشعلة التي تتقدم في الظلام. ولعمري إن هذا التراكم الإبداعي المتواصل الذي يغذّي هذه الشعلة بوقوده هو ما يجب أن نعول عليه. وهنا، فيما أعلن تضامني مع كل الضحايا الذين سقطوا تحت أنقاض البنايات التي غدر بها الزلزال وأعبر عن عزائي لكل من فقد عزيزاً، أكتب عن أشخاص عرفتهم عن قرب وكانوا أصدقائي وشعرتُ بفداحة خسارتهم ماتوا قبل الزلزال وبعده. كان رفعت عطفة شعلة مضيئة لمن حوله ولقرائه، وفي مجتمع منقسم طائفياً وسياسياً كان نقطة وصل بين سوريين كثيرين، جسراً للعبور نحو منطقة آمنة يجلسون فيها ويتناقشون، ويدخلون ويخرجون متعانقين. تعرفتُ على ذلك الجو الذي كان يضم فيما يضم كوكبة من أجمل الشخصيات الفكرية والأدبية والموسيقية والناس الشعبيين والعاديين. وكأس العرق، الذي كان على رأس القائمة في الطقوس الأبي زيدونية، والسلطات المبتكرة كسلطة الهندباء والجرجير والقرص عنّة والتبولة والفريفيرة غير المسبوقة في المطبخ السوري، وبعض الأطباق الجديدة والتجريبية، التي كان يتفرد بإعدادها وأنواع الفطر التي كان يجمعها ويقليها مع البصل اليابس وزيت الزيتون والمأكولات الأسبانية التي كان يعدّها بسرعة كبيرة والتي حين تتذوقها تظن أنه أمضى ساعات في إعدادها، والحميمية المتأصلة والعميقة والحب الذي يفيض منه ويتوهج على من حوله، كانت كل هذه الأمور توسّع من غنى الحياة اليومية وفسحتها وتضيف إليها وتسرع في تحويلها إلى جامع بين أفراد كانوا يعيشون ضائعين وخائفين ويائسين ومحبطين في مجتمع يخلو من المنتديات الفكرية والصالونات الحرة وأماكن التجمع العامة. وكانت هذه الفسحة تقدم لهم بديلاً منزلياً يستمتعون فيه بالطعام والشراب والحوار الفكري والسياسي الغني والإصغاء لمختلف الفنون الأدائية. وكان منزل أبي زيدون هو من المنازل الأولى التي يحنّ إليها كل من زارها فما أن تدخل من الباب الحديدي حتى تشم رائحة الحبق والنعناع وترى الورود متفتحة والطراوة على الأوراق الخضراء، وحين تصعد الدرج بين صفوف النباتات وأصص الأزهار الموضوعة على يسار ويمين كل درجة في الدرج المؤدي إلى باب الصالون تشعر كما لو أن الطبيعة أرسلت حشداً من أجمل ورودها ونباتاتها لاستقبالك، وحين تدخل البيت تشعر بأن جوه الداخلي فضاء تستطيع أن تكون فيه نفسك، وفيما تستكشف أكثر تشعر أنك ابن هذا البيت بوروده ولوحاته وتماثيله والكتب على رفوفه ونوافذه المطلة من الخلف على شجرة خرنوب باسقة، ومن الأمام على شجرة رمان وعريشة كرمة تتدلى عناقيدها وتنضج في طريقها إلى زجاجات النبيذ والتي إن كنت محظوظاً ستحظى بكأس منها في ليلة شتائية باردة. داخل هذا الجو كانت الحوارات تنطلق والقصائد تُقرأ والأغاني تنشد والموسيقا تصدح، وقد توهجت هنا وجوه أصدقاء من الأموات والأحياء مثل غالب هلسا ومظفر النواب وحيدر حيدر وممدوح عدوان وعبد الرحمن منيف وأنطونيو غالا وغيرهم كثيرون، واجتمع شعراء أسبان وعازفو عود وكمان وناي وشعراء شباب وكتاب قصة قصيرة وروائيون ومسرحيون ورسامون ونحاتون، وكان رفعت يختتم كل جلسة بعزف مازح على ناي يحمله بين أصابعه، وحين ينعس تتواصل السهرة ويعتذر قائلاً إنه ذاهب ليقطف للموجودين بعض الفواكه أو البصل الأخضر أو الفجل أو قرص العنة، ويكون في طريقه إلى فراشه في الطابق الثاني. لن أتحدث هنا عن رفعت القاص والروائي والشاعر والمترجم وكاتب المقالة فكل هذا الإرث موجود لمن يريد الاطلاع عليه، بل أريد أن أتحدث عن فرادته في العلاقة مع الآخر، وقد ترجم هذه الفرادة من خلال إيمانه بالمواهب الشابة ودعمه لها بكافة السبل. يمكن القول إنه كان مناضلاً من أجل الآخرين، ولم تكن التجربة الثقافية والفكرية بالنسبة له سوى باب مفتوح نحو شيء آخر أفضل. لعب دوراً مثمراً وبناء في ظهور مواهب مهمة ودعمها ليس فقط بمساعدتها على الأداء أو النشر أو تزكيتها بل من خلال الدعم المادي المباشر لكل محتاج، فقد ساعد مادياً وأحياناً على حساب احتياجاته واحتياجات عائلته (رغم أنه لم يكن من الأثرياء) كثيرين ضاقت بهم ظروف الحياة سواء كانوا في سوريا أو أسبانيا كما لو أنه مؤسسة قائمة بذاتها تقدم المنح. ويمكن القول إن ما في جيبه لم يكن له بل كان للآخرين المحتاجين والموهوبين الذين لديهم شيء يقدمونه. وكان غيوراً مندفعاً إلى المساعدة بشهامة قلّ نظيرها ولقد لمستُ هذا بنفسي في مواقف عدة. وكان يعول على الروح المدنية السورية، وعلى التعددية واختلاف الآراء والتوجه العلماني، وعلى الديمقراطية التي لا يمكن أن ينمو أي شيء مهم إلا في تربتها، واحترام الآخر المختلف. وحين أدار المركز الثقافي في مدريد، تحرك رغم الإكراهات والقيود والرقابة وصنع منزلاً عالمياً للثقافة أثار خوف الرسميين الذين ترعبهم الأصوات المختلفة. صارع رفعت عطفة المرض العضال في وقت تعاني فيه سورية من المرض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كأنها ممددة على سرير الحرب والمجاعة والكورونا، ولم يكن ما يشعر به ويقض مضجعه وهو على الفراش ألماً ناجماً عن السرطان فحسب، كان الألم الأكبر الذي عانى منه هو المتولد من حزنه على سوريا، على بلاد تتفكك وتضيع وتتقسم، بحيث أن ألمه الناجم عن المرض كان منسياً في طيات ذلك الألم. ولم يكن يرى وهو طريح الفراش سوى الانهيار حوله في كل مكان. كان العنف هو سيد الموقف، والرصاصة أهم من الكلمة، والقذيفة هي الفيصل، والتدمير هو الخيار والطريق، لكن هذا الخيار وصل إلى طريق مسدود، إلى حاجز التعطل والانهيار، وخاصة بعد أن بدأت الليرة تتهاوى والتضخم يلقي بظلاله المشؤومة على الجميع. وبعد أن كان السوري يواجه العنف وغياب الأمن صار يواجه البرد وانقطاع الكهرباء وغياب الخدمات الشامل، وندرة الطعام والافتقار إلى الحياة الكريمة والمريحة إلى درجة أن أبي قال لي في اتصال هاتفي معه: ”إننا نأخذ دورات للتدرب على الجحيم”. في هذا الجو الكئيب، توفي رفعت عطفة على سرير في مستشفى يعاني مثل غيره من النقص الشديد في كل شيء. كانت جنازته عرساً حقيقياً، فقد أتى المئات من محبيه كي يسيروا في جنازته رغم الظروف الصعبة للتنقل، منهم من أتى مشياً على الأقدام ومنهم من تدبر أمره وحملوه على الأكتاف إلى مدفنه قرب قبر أمه في مقبرة مصياف. كانت هذه خاتمة حياة تفجرت عطاء في كل اتجاه، وكان أثناءها يحاول أن يقول إن سوريا لا يُساوم على استقلالها وحريتها، وكان يعني بذلك سوريا المستقبل، لا المستقبل القريب، كما قال ابن منطقته المرحوم حسان عباس قبل وفاته هو الآخر بالسرطان، بل المستقبل الذي لا ريب أنه آت وسيكون مزهراً.
رفض رفعت عطفة مغادرة سوريا رغم أنه كان قادراً على الخروج، أصر على البقاء مع الناس العاديين والذين هم إيقاع الحياة ونبضها، وطيلة بقائه حياً كان أهم ما يميزه هو قدرته على العطاء، ولقد أعطى حتى النفس الأخير في أشد الظروف قسوة. بعد أيام من وفاته ضرب الزلزال. لا بد أنه شعر بالهزة وعثر على طريقة ما كي يساعد، ذلك أن من رسّخ هذه النبالة في حياته سيلهمها بعد موته.
وها هي سوريا بعد أكثر من عقد من حرب عبثية مدمرة تشهد كارثة أخرى، فقد أتى الزلزال كي يضع توقيعه على لوحة الدمار. في هذا الزلزال المدمر فقدنا الصديق الدكتور فائز عطاف، والذي جمعتني به صداقة مدنية، تواصلت عبر الإنترنت، أقول مدنية لأننا تعاونا في الترتيب لأنشطة مهرجان جبلة الثقافي والذي أقيم بمبادرة من جمعية العاديات المدنية في جبلة بجهود جبارة من الصديق جهاد جديد وزوجته بديعة والقاص والنحات أحمد اسكندر سليمان والمسرحي والمعارض والسجين السياسي السابق بدر زكريا وآخرين كثيرين عملوا لتحويل المسرح الروماني في جبلة إلى أفق آخر للثقافة بعيداً عن القيود الرسمية وعن طريق الانفتاح على الكتاب والفنانين والموسيقيين في العالم العربي والعالم الأوسع. دمرت سنوات الحرب كل شيء لكنها لم تهزم إرادة الحياة وقوة الثقافة التي تحول الكلمة إلى فعل، وهذا ما تجسد في تجربة فائز عطاف الرائدة في العمل الإنساني من خلال وضع خبرته الطبية في خدمة الفقراء والمحتاجين مفتتحاً أفقاً للروح التطوعية لم يسبقه إليه أحد من أبناء جيله. كان مثال النزعة الإنسانية الجريئة المتجاوزة للحدود. كان طبيباً ماهراً وفناناً فوتوغرافياً مبدعاً ومحباً للشعر والرواية والقصة ومواكباً لنتاج الأجيال الجديدة، وتميز باللطف الشديد والحضور الإنساني والشهامة. كان سورياً تزهو بمثله البلدان وتبني على ما فعله الأجيال وقد شكل موته خسارة كبيرة لأصدقائه ولمرضاه ولكل من عالجهم في ظروف الحاجة والفقر. قضى فائز عطاف تحت أنقاض بناية أساساتها مشبوهة هو زوجته وأطباء آخرون، وبموته تحول إلى إرث سوري عظيم، إلى روح أخرى تغذي المشعل الذي يضيء في ظلام حياتنا.
وفي أعقاب الزلزال الذي حصد وما يزال أرواح الأحياء تحت الأنقاض، سقط صديقنا القاص ناظم مهنا عن صهوة اللحظة وتوفي في وقت ما نزال نندب فيه أصدقاء آخرين. كان ناظم من كتاب القصة الموهوبين والمتميزين ويمتلك فرادة فكرية في قصصه ميزته عن غيره من الكتاب الآخرين، فشخصياته دوماً لديها مقاربتها الوجودية الساخرة ونظرتها غير المألوفة والجديدة، فاتحة منافذ لاستكشاف واقع لم تكن معروفة من قبل. جمعتني صداقة طويلة بناظم مهنا وخضنا حوارات وأمسيات كثيرة. كان إنساناً نظيفاً ووطنياً لا يشق له غبار. وكان يؤمن بسوريا علمانية وديمقراطية تعددية. كان ضد الظلم وقتل الآخرين واللعب بمصائر البشر. إن موته خسارة لا تُعوض. مات أصدقاء كثيرون حزنّا لرحيلهم، ولكن علينا أن نتعمق أكثر في ما تركه الراحلون باحثين عن الجميل والمختلف فيه، عما يلهمنا ويمنح وقوداً لحياتنا في وقت تتحالف فيه الطبيعة مع التوحش في الإنسان لتحويل الحياة إلى سلسلة متواصلة من المآسي. وإذا ما واصلنا فعل ذلك، إذا بحثنا عن الجميل في إرثهم وسلطنا عليه الضوء واستلهمناه في مسيرة حياتنا فإننا سنهزم الموت والخراب ونشحن قوة الحياة بطاقة جديدة.
تُعنى مجلة صالون سوريا الإلكترونيّة في الوقت الراهن بإعداد ملفّ يتناول حياة السوريين اليوميّة، ويتكوّن هذا الملف من موادّ صحافيّة يقدّمها باحثون من مختلف الاختصاصات، وستكون المنهجيّة المُعتمدة ذات أبعاد ميدانية استقصائيّة من أجل استطلاع آراء عينات من الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية؛ ذلك من أجل الكشف عن آليات مقاومة الظروف القاهرة من انقطاع للتيار الكهربائي أكثر من عشرين ساعة في اليوم في غالبية أنحاء سوريا، والنقص الكبير في مياه الشرب، وتوقّف المواصلات بسبب فقدان الوقود، والنضوب الشديد في المحروقات، ومعاناة سوء التغذية، والتعرّض للبرد القارص، وغياب الخدمات الطبيّة والصحيّة، وإلى ما هنالك من ظروف لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً؛ إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
أصبح الإنسان السوريّ ضحية لحصارين: داخلي وخارجيّ؛ غير أنه استطاع التكيُّف مع أوضاع لا يمكن أن يوجد ما هو أسوأ منها في العالم الآن، من هنا جاءت المواد الصحافية من أجل التعمّق في فهم كفاح شعب بأكمله من أجل الانبعاث من الرماد، ولذلك جاءت محاور الملف على النحو الآتي:
أولاً-استقصاء آراء عينات من المجتمع السوري في أسباب معاناتهم الدامية أكثر من عقد من الزمان؛ ثانياً-استطلاع وجهات النظر فيما يتعلّق بابتكار أساليب إنقاذية للحياة على مستويات مختلفة؛ ثالثاً-البحث عن تحديد خطر التأثيرات النفسية المرضية في الأطفال بسبب قسوة الظروف الحياتيّة: التوحّد-السايكوباتية-النرجسيّة-اضطراب الشخصيّة الحدّيّة وإلى ما هنالك؛ رابعاً-اكتشاف طرق تأمين الطعام والشراب والعلاج والتدفئة والنظافة الشخصيّة والعامة، وكل ما يتصل بالحياة اليومية؛ خامساً-دراسة الواقع التربويّ بأبعاده المختلفة؛ سادساً-تحليل سوية التعليم الجامعي بمرحلتيه الدنيا (الإجازة) والعليا (ماجستير ودكتوراه). سابعاً-البحث في واقع العمال والفلاحين والحرفيين؛ أخيراً-استقصاء آراء العاطلين عن العمل.
تسكن مجموعة من القبائل العربية منطقة حوض الفرات والجزيرة السورية، إضافة لريف حلب الشرقي، وإدلب الجنوبي الشرقي، وشرق حماه وحمص، وهي قبائل لها امتدادها البشري نحو العراق وتركيا والأردن، وصولاً لدول الخليج. ورغم هذا الانتشار إلا أن سكان مناطق شمال شرق سورية فقط هم من يُعرفون باسم الـ “شوايا”، دوناً عن سواهم من بقية القبائل والعشائر العربية.
ويطلق على السوريين/ات من قبائل مثل “الجبور – العكيدات – البكارة”، مسمى الشوايا في حين أن أبناء/بنات هذه العشائر في العراق لم يُعرفوا بهذا المسمى قبلاً، وقليل منهم من يتداوله.
فاسم “شوايا” ليس له دلالة انتماء عرقي، أو ديني..
ابن خلدون.. أممية التوصيف
يقول ابن خلدون في مقدمته “ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم، فالتقلب في الأرض أصلح بهم، ويسمون شاوية، ومعناه القائمون على الشاه والبقر، ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة”، ويمايز ابن خالدون “الشوايا” هم عن البدو بكونهم يعملون في تربية الإبل.
وقد راح البعض وبنتيجة لمقدمة ابن خلدون لاعتبار كل سكان المناطق القريبة من الأنهار والذين يعملون بتربية الأغنام بـ “الشوايا”، وبتخصيص سورية أطلق المسمى على كل سكان حوض الفرات من جرابلس عند الحدود التركية وحتى البوكمال على الحدود العراقية، لكن هذا يتناقض وواقع الحال عند كل من البدو والشوايا، فالبدو ومنذ بداية حياتهم القائمة على الترحال بحثاً عن المراعي، يربّون الشياه (الأغنام والماعز)، وهم وإن كانوا يربّون قطعان من الجِمال والخيل العربي، فإنهم لم يستغنوا أبداً عن تربية الأغنام حتى يومنا هذا، كما أن سكان المناطق القريبة من الأنهار لم يكتفوا بتربية الأغنام، فهم يمتلكون قطعاناً من الجمال والخيل العربية أيضاً حتى الآن، ما يعني أن التسمية وفق ما ذكره ابن خلدون مايزت بين الفريقين لكثرة ما يربّوه وليس من باب الانفراد، وعليه هي ليست تسمية جامعة أو ملائمة للواقع المعاش في يومنا هذا.
إن فرضية ابن خلدون وفقاً لتوصيفه إن صحّ، يجب أن تكون شاملة لكل العرب، فسكان الريف المغاربي الذين يعملون بتربية المواشي، سيكونون مثل أقرانهم في اليمن والجزيرة العربية والعراق “شوايا”، وعليه فإن ما عناه مؤسس علم الاجتماع يمكن أن يطبّق على سكان أحواض الأنهار في الصين والهند وأمريكا اللاتينية، ولا ينحصر في المنطقة العربية، وبالتالي لن يكون الاسم مختصاً بشريحة مجتمعية تسكن شمال شرق سورية، وعليه فإن الاستناد لمقدمة ابن خلدون في التسمية التي تختص بالقبائل السورية ليست مسألة دقيقة.
المرجع الأقدم
تقول بعض المصادر التاريخية أن المسمى ظهر أول مرة في اللغتين الآشورية والسريانية القديمتين، إذ كان سكان الممالك القديمة يطلقون على سكان حوض الفرات لفظ “شاويو”، ومعناه “الكريم والمضياف”، لكن حصر ربط صفة الكرم بشريحة من القبائل العربية سينسف مضرب المثل العربي في الكرم في حكاية “حاتم الطائي”، الذي كان بدوياً وتحولت قبيلته “طيء”، بجزء كبير منها إلى الحالة المدنية حينما أصبح غالبيتها من الحضر الذين سكنوا القرى والمدن الكبرى (أكبر انتشار لها جنوب شرق مدينة القامشلي)، وستختص واحدة من سمات الشخصية العربية بشريحة ضيقة من القبائل على حساب ما يروى عن كرم البدو وقبائل الجزيرة العربية، وعليه فإن صح تاريخياً أن هذا اللفظ السرياني والآشوري أطلق على سكان حوض الفرات، فلكونهم كانوا الجيران الأقرب من القبائل العربية، وهو ليس تخصيصاً لهم، وإنما توصيفاً لشريحة مجتمعية جاورت الممالك الآشورية دون دراية من سكان هذه الممالك بحال بقية المجتمع العربي، كما أنه لفظ تعميم.
الشاوي دمشقي أم كويتي؟
ثمة مهنة قديمة في دمشق والمدن السورية الكبرى تعرف باسم “الشاوي”، وكان ممتهنها يقوم بالإشراف على نظافة قنوات الري ونقل مياه الشرب من نهر بردى إلى المنازل، والشاوي في منطقة عمله هو بمثابة ضابط الأمن المائي للمنازل والحقول الزراعية، وكان من مهامه أن ينظم عمل قنوات الري وكميات التدفق وأوقاته، ويمنع مرور أوراق الأشجار والأوساخ في قساطل المياه الواصلة للمنازل. وكان من فضل زيارات البدو إلى دمشق للتبضع والتجارة، أن تعرّفوا على مهنة الشاوي، ولكون البدو وحتى يومنا هذا يشعرون بشيء من التفوق على سكان القرى من القبائل لكونهم حافظوا على عاداتهم المجتمعية في مقابل تحول سكان حوض الفرات والجزيرة إلى الزراعة، أن سمحوا لأنفسهم بإطلاق مسمى “شاوي”، على المشتغلين بالزراعة لكونهم يقومون بفعل السقاية المشابه والمطابق لعمل الشاوي الدمشقي، من حيث شق قنوات الري والحفاظ على تدفق الماء إلى الحقول، لكن هذا التفسير ضعيف السند، فلا يمكن حصر مهن سكان الريف بالزراعة، فمنهم من يعتمد بشكل أساسي على تربية المواشي وتجارتها، إضافة لفرض المدنية لوجود مهن أخرى تعلموها من سكان المدن لضرورتها في حياتهم اليومية.
وهناك من يرجع المسمى إلى أصل استخدام كلمة “شاوي”، في الكويت، وهو الشخص الذي يقوم برعي مواشٍ لا يملكها مقابل أجر متفق عليه مع المالكين، لكن المسمى يجانب الصواب أيضاً لذات الأسباب التي تنفي احتمالية إعادة المسمى لـ “الشاوي الدمشقي”، فمن غير المنطقي تعميم مسمى مهني محدود على شريحة مجتمعية واسعة تسكن ما يقارب ثلث الأراضي السورية.
منطق وعاطفة
تشير بعض المراجع التاريخية إلى أن القائد الفرنسي للحملة الفرنسية التي دخلت مدينة “دير الزور”، وكانت قواتها مؤلفة من حوالي 300 مقاتل، كان يتدخل بشؤون المنطقة وبدأ بالتضييق على سكانها، ونتيجة لعدة أسباب تحرّك مجموعة من الثوار المتحدرين من قبيلة “العنابزة” و “البوخابور”، لمهاجمة المطار العسكري واقتحامه، قبل تمكنهم من قتل قائد الحملة وإحراق عدة طائرات فرنسية، ثم التوجه نحو قلب المدينة لاقتحام المراكز التي يسيطر عليها الفرنسيون
وحسب المصادر التاريخية فإن ثورة العشائر انطلقت ليل 16 أيلول من العام 1921، ويعد أول تحرك عسكري ضد الاحتلال الفرنسي بعد معركة ميسلون، وتسببت هذه الليلة بدفع الفرنسيين لإرسال حملة ضخمة من حلب تضمنت كتائب من السنغاليين والجزائرين المجندين في صفوفها، ونتيجة لشراسة النيران التي أُطلقت على بعض القرى، لجأ الثوار إلى معارك يمكن وصفها بالاستنزاف، وقد كانت هذه المعارك سبباً لإطلاق وصف “شاوي”، من قبل جند القوات الفرنسية على الثوار مشبيهن إياهم بمقاتلي قبيلة “الشاوية”، الذين كانوا قد واجهوهم في الجزائر، والوصف كان نتيجة للملابس التي يرتديها الثوار أو لطريقة القتال والإغارات البرية التي نفذوها آنذاك، وقد كان احتكاك سكان المدينة بالمجندين فرنسياً من عرب وسنغاليين سبباً في التقاط التوصيف (شاوي – شاوية – شوايا).
يقول أحد معمري ريف دير الزور الشرقي خلال حديثه لـ “صالون سوريا”، في البوكمال هناك منطقة تعرف باسم “قبور الانكليز”، وفي “خشام”، الواقعة شرق الفرات هناك أرض تعرف باسم “قبور السنغاليين”، وهي منطقة دَفن فيها الثوار قتلى الاحتلال الفرنسي من السنغاليين (وهو توصيف لكل أصحاب البشرة الداكنة الذين كانوا ضمن صفوف القوات الفرنسية بغض النظر عن جنسيتهم الأصلية)، ويشرح أبو محمد بأن اسم “شوايا” لم يكن يطلق على كل أبناء العشائر، حتى يمكن القول أن أبناء العشيرة الواحدة ليسوا كلهم شوايا، لقد كان توصيفاً أطلقه الفرنسيون، والتقطه السكان لاحقاً وبدؤوا بتداوله، ثم أخذوا بتعميمه على سكان الريف عموماً حتى ممن لم يشتركوا في القتال آنذاك، وورثه أبناء الريف”.
بالمقاربة يبدو أن هذا السبب أو الجذر التاريخي أقرب للمنطق في أصل التسمية المقرونة بسكان مناطق ريف “دير الزور: ومن ثم “الحسكة” و”الرقة”، ولعله الأقرب للعاطفة الجمعية لأبناء المنطقة أيضاً، لكن التنميط الذي لاحق الـ” شوايا”، من قبيل التخلف المجتمعي وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية، والعادات البالية وصولاً لوصفهم بممارسة الجنس مع الحمير، حوّل لفظ “شوايا”، من إيجابية توصيف الثوار ضد الاحتلال إلى سلبية وسم سكان ثلاث محافظات من سورية بعدد هائل من النمطيات، ما شكّل خطاب كراهية ضدهم، لم يكن ليواجهه سكان المنطقة غالباً إلا بخطاب كراهية مضاد.
لم تستطع سهير الزعرور (27 عاماً) الالتحاق بزوجها المقيم في تركيا بعد أن منعها حاجز “هيئة تحرير الشام” أو ما يسمى بـ”مكتب أمن الحدود” من العبور بطريقة غير شرعية، لا حفاظاً على سلامتها وسلامة أبنائها، وإنما لعدم وجود محرم (رجل من عائلتها) يرافقها في رحلتها.
تقول سهير التي عادت تجر أذيال خيبتها بعد أن كانت متحمسة لدخول تركيا ولم شمل العائلة، أن أحلامهما اصطدمت بوجود “المحرم الشرعي”.
وتفرض سلطات الأمر الواقع في إدلب العديد من المُحددات والقوانين على الحريات الشخصية، لا سيما فيما يتعلق بالنساء، مما زاد من معاناة النساء اللواتي يعشن حالة من التخبط والتضييق عليهن والتدخل في شؤونهن وحرياتهن الشخصية من قبل عناصر أجهزة ” هيئة تحرير الشام”.
باسم الدين تقيد الأخيرة تحركات النساء وتحد من أنشطتهن، وتتدخل بأدق تفاصيل حياتهن من خلال قائمة من الممنوعات التي اعتمدتها في سبيل ذلك، كحظر الاختلاط بين الجنسين في مدارس الأطفال منذ الصغر، وحتى في مختلف مجالات العمل أو الحياة اليومية دون وجود محرم، فضلًا عن ملاحقة “المتبرجات” وغير الملتزمات بـاللباس الشرعي.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد عمدت هيئة تحرير الشام إلى استئناف نشاط “جهاز الحسبة” أو ما يعرف بـ “سواعد الخير”، تحت مسمى “مركز الفلاح” في مناطق نفوذها، وذلك بعد إيقافها لمدة عامين نتيجة “ضغط شعبي ومظاهرات كبيرة طالبت بإخراجهم”.
وتتكون “سواعد الخير” من مجموعة دعاة وداعيات من جنسيات مختلفة، تتجول في شوارع إدلب بدعم من كتائب أمنية تابعة لهيئة تحرير الشام، وهي “تتدخل في الحياة العامة للسكان وتفرض عليهم قيوداً وأنماطاً معينة في السلوك” بحسب المرصد.
وكما حال سهير، كذلك منعت رابعة الصفو( 29عاماً) من السفر إلى مكان عملها، لعدم وجود المحرم الذي سيرافقها خلال رحلتها الشبه يومية من إدلب إلى مدينة سلقين.
تقول رابعة “إن ما تفعله هيئة تحرير الشام جراء التدخل في شؤون النساء يمنع خروجهن، ويحد من فرص عملهن وسط الظروف الصعبة التي تعيشها غالبية النساء، وخاصة الفاقدات للمعيل وسط الفقر والغلاء والنزوح”.
مشيرة إلى أنها اضطرت نتيجة منعها السفر بمفردها للانتقال والإقامة في مدينة سلقين، لتكون قريبة من مكان عملها في إحدى منظمات المجتمع المدني، ما أجبرها على دفع بدل إيجار للمنزل الجديد بعد أن كانت تسكن مجاناً في بيت أحد أقربائها بمدينة إدلب.
لكن التنقل ضمن المنطقة الواحدة حتى له محدوديته. لم تتوقع فاتن الزريق (22 عاماً) أن توضع في موقف محرج كالذي تعرضت له من قبل جهاز الحسبة التابع لهيئة تحرير الشام حين استوقفتها عناصرهم وسألوها عن سبب تجوالها في شوارع إدلب بلا محرم مساءً، و”بصعوبة” سمح لها بمتابعة طريقها بعد “محاضرة طويلة، وتهديد ووعيد بألا تعيد الكرة ثانية” كما تصف.
تعمل فاتن في إحدى صالات الحفلات في مدينة إدلب، وعملها يحتم عليها العودة ليلاً بعد انتهاء عملها في الصالة، وتتقاضى لقاء عملها راتباً شهرياً يساعدها في الإنفاق على طفليها اليتيمين، بعد وفاة والدهم بالقصف الذي طال مدينتهم سراقب أواخر عام 2019.
تقول فاتن لـ”صالون سوريا” ” ليس كل من يمشي في شوارع المدينة ليلاً شخص سيء أو بلا أخلاق، نحن نوضع دائماً موضع المتهم لمجرد خروجنا بأنفسنا وبلا محرم” وتتساءل ” هل على فاقدة المعيل مثلاً أو ممن ليس لديها محرم بالأصل يرافقها في جميع شؤون حياتها أن تنصاع لأوامر هيئة تحرير الشام وتمنع نفسها من الخروج، وإن فعلت ذلك من ستراه سيساعدها ماديا؟ هل ستمنحها الهيئة ما تقتات به مع أطفالها “.
المرشدة النفسية والاجتماعية هلا غنوم (31 عاماً)، تحدثت عن تهميش المرأة ومعاناتها من التمييز القائم على النوع الاجتماعي، وحرمانها من الموارد والفرص مقارنة مع الرجال الذين يتصدرون مواقع أعلى وأكبر.
وأرجعت الأسباب إلى “التدخل في شؤونهن وتحركاتهن والحد من نجاحاتهن من قبل سلطة الأمر الواقع من جهة، وغياب وعي مجتمعي كامل لأهمية وجود المرأة في أماكن متنوعة تختلف عن الصورة النمطية للمرأة التي يتوجب عليها فيها أن تكون ربة منزل وحسب ، وهو ما يجبرها على المشي بخطوات بطيئة لكيلا تكون بمواجهة المجتمع” بحسب قولها.
وترى الغنوم أن المرأة في إدلب بحاجة لإتاحة الفرص ومنحها مساحة أكبر للتحرك والعمل وإثبات ذاتها، وخاصة بعد أن وجدت نفسها أمام مسؤوليات لم تعتدها سابقًا، كإعالة أطفال أو معاقين أو إخوة أو أهل بمفردها.
وبحسب تقرير صدر عن الأمم المتحدة في تشرين الأول 2021 بين أن سوريا تعد من أخطر الدول على المرأة، حيث احتلت سوريا المركز الثاني في ذيل “مؤشر السلام والأمن للمرأة” (WPS)
ووفق المؤشر، فإن سوريا هي الأسوأ عالميًا فيما يتعلق بالعنف المنظم، والأسوأ إقليميًا فيما يتعلق بسلامة المجتمع. وحلّل المؤشر وضع المرأة في ثلاثة أبعاد، هي الإدماج (التعليم، الإدماج المالي، التوظيف، استخدام الهاتف المحمول، التمثيل البرلماني)، والعدالة (عدم وجود تمييز قانوني، الانحياز، القواعد التمييزية)، والأمن (عنف الشريك، سلامة المجتمع، العنف المنظم).
“أشعر بأنني خائنة لو تركت البلد، أنا هنا منذ أربعين سنة وما زلت أحب دمشق وناسها”، تقول هايكة فايبر هذه الجملة مبتسمة وهي تتأمل منزلها العربي في حي باب شرقي الدمشقي. مازال المنزل يحتفظ ببريقه وبساطته الأنيقة رغم أن السيدة الألمانية بقيت فيه بمفردها، بعدما سافر أولادها الثلاث بحثاً عن حياة أفضل لهم خارج البلاد مع اندلاع الحرب.
هايكة قد تكون الألمانية الوحيدة المقيمة في دمشق، وهي من الأجنبيات القليلات اللواتي ما زلن يقمن في البلد رغم الحرب، لكن الأمر مختلف كان بالنسبة لهذه السيدة الشقراء ذات العينين الزرقاوين، فهي اليوم تحاول إعادة إحياء مشروعها المميز “عناة” الذي حقق شهرة واسعة في تسعينات القرن الفائت وبداية الألفين، ونجح يومها بتشغيل ألف سيدة سورية في قرى نسيها الزمن، ولا يملك أهلها فرصاً مهمة للعمل.
رحلة هايكة مع سورية بدأت عام 1982 عندما نزحت مع زوجها الفلسطيني الأردني من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي، واتجها إلى دمشق مع أولادهما واختارا السكن في منطقة مخيم اليرموك، وهناك بدأت هايكة الشابة بتنفيذ دورات لتعليم السيدات كي يستفدن من القطع القديمة ويقمن بإعادة تدويرها في تنفيذ تصاميم وأشكال عديدة، وبعدما تعلقت السيدات بهذا الفن اقترحن تأسيس عمل لهن، وهنا قررت هايكة البحث عن شيء جديد يحقق للجميع دخلاً مقبولاً، فقررت التوجه للتراث الفلسطيني وتقديمه برؤية جديدة وأسست ورشة لها في منطقة التضامن عملت فيها العديد من السيدات الفلسطينيات والسوريات.
تقول هايكة “عندها بدأت المشاركات السوريات يقدمن اقتراحات للتعريف بتراث مناطقهن المختلفة والفنون الجميلة التي تمتلكها، فبدأت بجولة بحث جديدة للتعرف على فنون المناطق المختلفة السورية، وفي كل مرة كنت أضيف خطاً جديداً، ولم يقتصر عملي على دمشق بل قررت التوجه لأرياف حلب وإدلب والسويداء ودرعا، والتعرف على سيدات يمتلكن مهارات التطريز والحياكة التقليدية، حتى وصل عدد عضوات فريقنا لحوالي ألف سيدة”.
وبعدما توسع عمل هايكة قررت الانتقال لقلب العاصمة القديمة واستأجرت محلاً صغيراً خلف المسجد الأموي نجح في استقطاب الكثير من السياح والشخصيات الفنية والسياسية رغم تواضعه، ثم انتقلت لمحل أوسع في منطقة باب شرقي كان أشبه بالمتحف، قدمت فيه خطوط الموضة التي ابتكرتها، والتي نقلتها بالفعل لمختلف دول العالم من خلال تنظيم معارض في أوربا وآسيا وأميركا.
مع بداية الحرب، وانعزال القرى عن بعضها البعض بسبب الحصار والحرب، تفرقت السيدات اللواتي عملن معها، كما توقفت السياحة وتراجع الوضع الاقتصادي، ولم يبق من مشروع هايكة سوى الاسم.
تقول هايكة “كنت اعتقد دائما بأن الحرب ستنتهي، وفي كل مرة أقول أن الأزمة مؤقتة، لكن لم أتوقع أن تستمر لأكثر من عشر سنوات، وخلال هذه السنوات احتفظت بالقطع القديمة التي نفذتها سيدات ولم تكملها أو نفذنها واضطررن لاحقاً للهرب أو ربما تعرضن للموت، ولذا قبل حوالي العام قررت تأسيس معرض تعرض فيه القطع التي بقيت بحوزتي كنوع من التكريم والشكر للسيدات اللواتي عملن معي”، وخلال التغطية الإعلامية التي رافقت المعرض وصلت رسالتها لبعض السيدات اللواتي عملن معها بالماضي، وعرفن أنها مازالت في دمشق، فتواصلن معها ومن هنا قررت هايكة إعادة إحياء المشروع.
اليوم عاودت السيدة الألمانية الناطقة باللغة العربية بطلاقة، نشاطها من جديدة ورغم تقدمها بالعمر، بدأت بنفيذ جولات في مختلف الحافظات، وتقول بأنها لا تعرف إن كان المشروع سينجح كما في الماضي خاصة وأنها تواجه صعوبات عديدة مثل تقدمها بالسن، وغلاء مواد الإنتاج وضعف جودتها وأيضاً مشكلة البنزين والكهرباء، لكنها تحاول.
وقد أصدرت مؤخراً هايكة كتاباً بعنوان “عناة” وبطلها بعل باللغة الإنكليزية وقعته في دمشق وفي دبي، غاصت من خلاله في تاريخ الرموز المستخدمة على الأقمشة والتطريز، وأثبتت من خلال أبحاثها العميقة تناقل بعض الرموز عبر آلاف السنين حتى اليوم.