“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي “عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟”، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: “بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد”، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا لقلّة ثقافة السوريّ، بل لانشغاله بدوره في طوابير الانتظار التي لا تنتهي.

ولأنّ الأمور في الحرب لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بسبب ترابطية عجائبية فأين طاف بها الساقي تنسكب خمراً غير مكتمل التعتيق في كؤوس تظلّ فارغةً لا تملؤها إلّا جماعية الهموم، ومنها بيت القصيدة الثاني، “أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ… فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ”. أليس من فيض المعقول أنّ هؤلاء الأحبة هم الذين تفرغ منهم البلد تباعاً، أهلها وأناسها، شبابها وشاباتها، وأليس من الأغرب أن ينتهي في كل حديثٍ مع سوريٍّ ندمه أنّه لم يهاجر، أو اشتياقه لمهاجر ربما لن يعود؟

حين جاء العيد

انتهى رمضان بكل ما حمله من مواجع لآلاف الأسر التي صامت وأفطرت على شوربة العدس وبعض الخضار بأفضل الأحوال، تفاوتت وجبات تلك العائلات، ولكنّ الجامع بينها أنّ موائد الشهر على فقرها أرهقتهم، وكذا ساروا يوماً بيومٍ حتى جاء العيد وقد يبدو غريباً أنّ شعباً لا ينتظر عيداً.

لذلك أسبابٌ من السهل معرفتها دون الحاجة لمراكز دراسات تقرأ في الحال اليومي لهؤلاء الناس، وإن بدا الحال مغرقاً في الكآبة فهل هناك فرحٌ مقرونٌ بقهر يبدأ بجودة رغيف الخبز ولا ينتهي بأشهر انتظار أسطوانة الغاز وبينهما صلاةٌ موحدة: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.

معضلة مركّبة

وجد الآباء والأمهات أنفسهم قبل هذا العيد أمام معضلة مركبة أكثر مما كانت عليه قبل عامين، وقبل عام، وحتى قبل شهر، من ارتفاع أسعار لا يعرف التوقف، ارتفاع جعلهم عاجزين عن تحقيق أشهر طقس مرتبط بالعيد، وهو شراء ملابس لأطفالهم.

بحسرةٍ يتحدث المهندس جاد سلامة عن عدم تمكنه من شراء ملابس لأطفاله الثلاثة بسبب ما لقيه من ارتفاع كبير في أسعارها، حتى تلك الشعبية منها، مبدياً قلّة حيلته واستسلامه أمام عجزه عن اجتراح حلول لأمرٍ إن بدا رفاهية للكبار المدركين، ولكنّه مبعث فرحٍ تامٍ للأطفال الصغار الذين لا يعرفون من رمضان سوى أنّ نهايته مقرونةٌ بعيدٍ يعمّ فيه الفرح وتنتشر الألعاب ويرتدون فيه الملابس الجديدة.

يشرح جاد الوضع: “تكلفة ملابس كل طفل بين 400 و600 ألف ليرة سورية، أليست هذه كارثة! من أين سأجيئ بذلك الرقم المهول الذي يعادل خمسة أضعاف راتبي الشهري ثمناً لملابس ثلاثة أطفال من أدنى حقوقهم أن يرتدوا ثياباً جديدة ويحتفلوا بالعيد ويشعروا بروحانيته وطقوسه؟”

مشكلة جماعية

لم يكن الحال أفضل بالنسبة لكثر آخرين سألناهم عن شراء ملابس العيد لأطفالهم، فمثلاً اكتفت أم مازن (ربّة منزل) بالقول: “لا حول ولا قوة إلّا بالله، حتى بهجة العيد صارت مفقودة، كيف سنشرح لأطفالنا ما نمرّ به وكيف أنّنا مرغمون على ارتداء ذات الملابس حتى تهترئ!”

بدوره يسأل مجيب راشد وهو موظف آخر بعد جولة مستفيضة بالأسواق لذات الغرض عن دور الرقابة والتموين في ضبط الأسعار التي تقفز من شهر لآخر بقوله: “ألم ينخفض سعر الدولار كثيراً وحافظ على ثباته منذ شهرين على الأقل فلماذا ترتفع الأسعار بين يوم وآخر!، سألت عن سعر ملابس لطفلتي في نفس المحل وبفارق يومين اختلف السعر”.

سوق الفقراء للأثرياء

بدا الأمر أكثر غرابةً عند زيارة سوق البالة الكبير في دمشق (سوق الإطفائية)، هناك حيث جنّت الأسعار مرّة واحدة على ما قاله زائرون للسوق بقصد الشراء، أو على الأقل محاولة الشراء من سوق الفقراء، ليتضح أنّ الأسعار قفزت فجأة إلى الضعف على الأقل.

برر صاحب أحد المحال هذا الارتفاع نتيجة قلّة البضائع ومنع استيرادها والاضطرار للحصول عليها تهريباً من لبنان غالباً وبالدولار وبطرق صعبة ومكلفة جداً، وأكمل يقول: “ارتفاع الأسعار هذا طبيعي بعد موسم كامل من الكساد في المبيعات”.

وبصورة وسطية تتراوح أسعار الجينزات كمثال بين مئة ومئتي ألف ليرة سورية، وبعض الأحذية وصلت إلى 600 ألف ليرة، أما الكنزات فمتوسط سعرها 60 ألف ليرة، والفساتين كان من الصعب حصر أسعارها لشدة تفاوتها بين محل وآخر بغرابة شديدة توحي بأنّ السوق فجأة تحول لأثرياء العاصمة نابذاً فقراءها.

“شعرت أنني في سوق الصالحية ولست في سوق الفقراء، الأسواق جميعها تلفظنا، كيف يعيش أولئك الباعة دون مبيعٍ!” هذا ما قاله أحد الزائرين للسوق والذي كان يتحدث ممسكاً بحذاء “مستعمل” يتفحصه بعينيه ويكرر سؤاله للبائع: “هل فعلاً سعره 500 ألف؟”

مصائب قوم

جنون الأسواق ذلك أفضى لنشاط في عمل الخياطين بحسب رئيس جمعية الخياطة توفيق الحاج علي الذي أشار في تصريحات لموقع محلي أن “إقبال الناس على إصلاح الملابس أو تصغيرها سببه ارتفاع أسعار الجديدة بشكل مضاعف عن العام الماضي وهذا أدى إلى تزايد الإقبال على تدوير الملابس القديمة لدى الخياطين بنسبة تتجاوز 40%، في ظل تدني القدرة الشرائية لدى الأهالي، وتالياً يعتبر هذا الحل تدبيراً اقتصادياً في ظل عدم قدرة 60% من الأسر لشراء الملابس الجديدة”.

ليس واضحاً كيف حسم رئيس الجمعية أمر الأرقام بدقة، فإن كانت فقط 60 بالمئة من الأسر لم تستطع شراء ملابس جديدة لأولادها فهذا أمرٌ سيء ولكنّه غير كارثي تماماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شمولية دراسات الأمم المتحدة التي تؤكد أنّ 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وهذا المؤشر يعني عدم قدرتهم على تأمين الطعام بصورة متواصلة.

مكرهٌ أخاك لا بطل

وبمعزلٍ عن لغة الأرقام الجافة إلا أنّه ثمّة وقائع لا يمكن تجاهلها وهي فعلاً تؤكد نشاطاً في عمل الخياطين استناداً لتمكنهم من تقديم أسعار منافسة للسوق على صعيد الإصلاح والحياكة والترميم وهذا ما شرحه الخياط معاذ جبلاوي.

يقول معاذ: “الناس يعلمون أنّهم لن يحصلوا على أفضل خامة ملابس لدينا، ولكنّهم ببساطة سيحصلون على مجرد كساءٍ، على قساوة التعبير ولكن هذا هو الحال، لأنّهم لو أرادوا تفصيل ملابس من خامة ثقيلة فسيكون سعرها ينافس أفضل بضائع السوق”.

ويضيف: “ما يدفعه الزبون لدينا هو قروش أمام ما سيدفعه في السوق، لأنّه أساساً يعتمد على الترميم وإعادة استخدام المستخدم أساساً”.

ومن ناحيته يشرح عبّاس غانم وهو خياط آخر الأمر من وجهة نظره: “الأمر ليس مرتبطاً بالتفصيل، فالزبائن تأتي لتعيد ترميم القديم وتضييق ملابس الأخ الأكبر ومنحها للأصغر وهكذا، لا، الانتعاش ليس توصيفاً دقيقاً، هو إقبال متزايد نعم، ولكن له ظروفه التي لا تحقق ما يستحقه المواطن ولا تغنينا في الأرباح.”

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص التوفيقية بين حدود المادية والمثالية، بل عدا ذلك إلى الجمع بين ثنائيات أخرى كالماركسية والقومية، والفلسفة والدين، وبين الوطنية والقومية، وبين الدولة والديمقراطية، ولا نبالغ إذ نقول بين الاشتراكية والبرجوازية.        

إلياس مرقص من مواليد اللاذقية عام 1929، وقد توفي فيها عام 1991. وعاش في بيئة ثقافية، وقد حصل على الثانوية بقسميها العام والفلسفي، ثم درس البيداغوجيا في جامعة بروكسل الحرة، وعمل معظم حياته في تعليم الفلسفة.

تعرَّف مرقص إلى الحزب الشيوعي السوري منذ أن كان طالباً جامعياً ببلجيكا، وانضم إلى صفوفه، واستمر على ذلك حتى بعد عودته لسورية، لكنه طُرِدَ منه عام 1956 وذلك بسبب سلوكه ومواقفه الثورية، وانحيازه جهة الديمقراطية والانتخاب. ولم يدفعه هذا الأمر إلى محاربة التنظيمات السياسية، بل بالعكس كان يؤكد أهمية التجربة الحزبية في الحياة السياسية، وفي تغيير الواقع والدفع به إلى الأمام، ولهذا استمر بالتواصل مع الفعاليات الحزبية المختلفة، وضمن نقاشاته وفي كتاباته المتعددة وفي ترجماته للعديد من الكتب ذات الصلة بالحياة الفكرية والسياسية، حتى لقَّبه خالد بكداش بأنه المثقف الأول بالحزب الشيوعي السوري.  

 وقد أسهم مرقص في إنشاء مجلة الواقع الفصلية في بيروت، ومجلة الوحدة الشهرية في باريس، ويتم عادة التمييز بين مرحلتين اثنتين مرَّت بهما الكتابات الفكرية لمرقص، الأولى قضاها بالتأليف، وفيها ألَّف معظم أعماله الفكرية، والثانية تفرَّغ فيها للترجمة، ومعظم كتاباته وترجماته كانت تنصب على الفلسفة والفلسفة السياسية تحديداً.

كان لمرقص موقف فلسفي واضح حيال دور المذاهب والاتجاهات الفلسفية، ودورها في بناء المجتمعات والدول، وما يميِّز تجربته الفلسفية أنَّه ورغم كونه ماركسياً لم يفهم ماركس من دون هيجل، ولم يفهم ديموقريطس أو زينون الأيلي من دون أفلاطون، لم يُقِم العالم على قدميه بمعزل عن عقله، ثم نراه ينتقل من ذلك إلى ربط كل العلوم والفنون بالفلسفة، فحسب مرقص ” لا فكر ولا تفكير ولا علم ولا معرفة، ولا بحث ولا تنقيب، ولا خدمة لهذه الأمة بدون أفلاطون إيجابياً، بدون سقراط وأفلاطون وأرسطو وبارميندس وهيروقليط  وفيثاغور وبدون هيجل وبدون كانط وهيوم وفشته … وبدون ماركس وإنجلز ولينين إيجابياً.” ( مرقص،1997، نقد العقلانية العربية، ص 489).

فالمثالية ليست في ذاتها عدواً للمادية، حتى بالنسبة للأديان. ومشكلتنا نحن كعرب ” لا تكمن في سيطرة الفكر الديني علينا كما يرى كثيرون، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي، لأن الفكر الديني من أهم ظواهر تاريخ أوربا وتاريخ الثقافة العربية أيضاً. والفلسفة الأوربية الحديثة لها مصدران: أفلاطون والمسيحية…” ( مرقص، 2013 حوارات غير منشورة، ص 16).

 ولهذا ينتقد مرقص الماركسية الشوفينية لاستبعادها فكرة الله والدين، في حين أنه لا ماركس ولا إنجلز ولا لينين، قالوا أو طالبوا بهذا الاستبعاد، وقد لعب النبي محمد ومن بعده عمر بن الخطاب دوراً جوهرياً في توحيد العرب أو القبائل العربية، كما أن الإسلام ” لعب دوراً، فعل فعلاً مديداً، في إلغاء العبودية، أي في اضمحلال واختفاء أو انطفاء وانقراض الظاهرة .” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص851).  

ولذا ركز مرقص على جدلية الفكري والموضوعي، الصوري والمادي، أو المثالي والواقعي، حتى لدى تحديده لمفهوم الأمة خلافاً لمفهومها عند ساطع الحصري والقوميين المثاليين، فالأمة لديه ” ليست جماعة أصلية نسلية طبيعية ولا أمة دينية، ولا هي الاثنان معاً. هي أمة لغة وإقليم (أرض) وإنتاج وثقافة وتاريخ ومصير ومواطنة. هي مجتمع واحد، دولة واحدة. هكذا مفهوم الشيء فكرته الواقعية، ليس واقعه الموجود، الأمم مختلفة من حيث اتفاقها مع النموذج الذي لا تتطابق معه أمة من الأمم من الناحية العرقية أو السلالية.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 961). لهذا لا وجود مادي واقعي بدون وجود فكري أو نظري.

ومفهوم الأمة لديه مرتبط بمفهوم الوحدة، والوحدة تمثل قضية القضايا في فكر مرقص، فقد كان يرى أن ” لا طريق للتقدم والتحرر العربيين من دون تحقيقها وأن العرب لن يتقدموا ثانية في طريق الوحدة العربية ما لم تتمكن قوى الثورة العربية من إعادة بناء الوعي القومي على أسس إنسانية وعلمانية وديمقراطية وما لم تعِ أن السيرورة الوحدوية هي حركة الأمة وليست مقصورة على طبقة أو فئة أو حزب.” ( إلياس مرقص، حوارات، ص9).

والكلام عن الأمة والوحدة متصل بالحرية، والكلام عن الحرية عند مرقص غير ممكن ” بدون الكلام عن العقل والضرورة والقانون، عن المجتمع والدولة والفرد، عن الفَرق والهوية، عن الشغل والقيمة. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون مفهوم الدولة، ولا يمكن الكلام عن الدولة الديمقراطية بدون الدولة الحقية (دولة الحق) أولاً وأساساً. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون الحديث عن التقدُّم وبدون عيش الناس، بدون خبزهم.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 845). وينتقد مرقص الفكر العربي الحديث لأنه ” لم يُعنَ بفكرة التقدم، بل تمسك بفكرة الثورة. (مرقص، حوارات ، ص 15). وشتان بين التقدم الذي يعني الانتقال والحركة نحو الأمام، وبين الثورة التي قد تكون خطوة في طريق التقدم، لكنها لا تنتهي بالضرورة إليه، إذ قد تنحرف أو تغيّر مسارها. 

خاض مرقص معارك فكرية ضد الشيوعيين الذين لم يفهموا ماركس؛ لأنهم لم يقرأوه فشوهوا أفكاره، وخاض سجالاته ضد الماركسية الستالينية، وضد الدوغمائية وضد قطرية الماركسية وضد القومية المثالية المعادية للاشتراكية، وكتب كتاباً في نقد ساطع الحصري، وكان يرنو من وراء ذلك إلى صياغة ماركسية لينينية عربية، تجمع بين الاشتراكية والقومية معاً. واختلف مع المقاومة الفلسطينية، ليس بسبب أنه ضد تحرير فلسطين، بل لأنه كان يرى أن تحرير فلسطين يمر عبر الوحدة العربية والإرادة القومية العربية . لم يكن مرقص يعد نفسه قومياً عربياً، بل كان يرى أنه ماركسي ناصري، حيث يوافق جمال عبد الناصر بقوله: إن العرب أمة واحدة مؤلفة من شعوب عدة، ولا يوافق الأفكار القومية [ الحصرية] التي ترى أن الدول العربية مجرَّد كيانات مصطنعة لا بد أن تزول لقيام الوحدة العربية. (مرقص، حوارات، ص18).

ربط مرقص بين الوحدة والتعدد أو الاختلاف، وهذا الموقف يعدُّ من مآثر الفيلسوف السوري، فبينما تنكر الفلسفة والأيديولوجيا الماركسية التعدد، وتؤمن بما هو مشترك، نرى مرقص الماركسي السوري يخلق التعدد والكثير، وينثره في الواحد الفرد الصمد. والماركسية كما يرى مرقص لا تُنكر التعدد من حيث الأصل، لكن ” الماركسيون فيما بعد ذهبوا نحو الأقنمة [ من أقنوم ]، استغرقوا الاختلاف في الطبقات … فـ الحزب فـ القائد والرمز ودولة الأجهزة. الدولة انتصرت على المجتمع، السياسة على الاقتصاد، الفكر على الوجود وفي الحاصل كان المنتصر أكبر المهزومين.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص59).

من هنا نرى حضور فلسفة الاختلاف والفردية لدى مرقص، ولعل الفضل يعود إليه باستخدامه لأول مرة في مجتمعاتنا مصطلح المجتمع المدني بمفهومه الكلاسيكي الهيغلي، وهو ما يعني المجتمع البرجوازي، أو إن شئت فقل المجتمع الحر الديمقراطي. وهذا مما أضافه مرقص للوعي الماركسي الشيوعي، لأنه لم تكن لديه تلك الحساسية التاريخية حيال البرجوازية، ومع كونه اشتراكياً فإن اشتراكيته لم تتحول كما تحولت اشتراكية الأحزاب العربية الستالينية، إلى اشتراكية كليَّانية، بل كان مرقص يربط مفهومي الوطن والأمة بالديمقراطية حسب الفهم البرجوازي، فلا وطنية من دون حرية، ولا حرية من دون حقوق إنسانية أولاً، واقتصادية وسياسية وأضف ما شئت من الحقوق ثانياً. يقول مرقص بهذا الصدد: ” ولأن لا أمة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون مجتمع مدني حر، من دون حقوق الإنسان أولاً، قبل وفوق حقوق المواطن، المواطن إنسان أولاً، المواطن مواطن المدينة أو المجتمع أولا ثم وبالتالي مواطن الدولة والسياسة.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص862).

من هنا نلاحظ أن مرقص كان يقيم فلسفته في الدولة على أساس مادي من جهة؛ لأنه أعطى للحقوق الإنسانية التي هي طبيعية ومادية أولوية على الحقوق السياسية، وعلى أساس مثالي من جهة أخرى؛ لأنه كان يطمح لإقامة دولة الحق الواجبة لا الموجودة على أرض الواقع، فكان فيلسوف المثال والواقع السوري بلا منازع. 

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

هل تنتهي معاناة السوريين بالخروج من البلاد؟: إضاءة على رواية  “إعصار عذب”

هل تنتهي معاناة السوريين بالخروج من البلاد؟: إضاءة على رواية  “إعصار عذب”

ترمينا الحياة في زواريبها وسراديبها دون شفقة فتارة إعصار بطيء وتارة عاصف، تارة يحطمنا وتارة يجعلنا نحلق في العذوبة، ومن هنا تستلهم  الروائية السورية شادية الأتاسي عنوان روايتها الأخيرة (إعصار عذب) الصادرة في 2023 عن الدار العربية للعلوم مقاربة واقع السوريين الذين أتتهم الحياة كعاصفة حملتهم من واقع إلى واقع وقلبت كيانهم وأماكنهم وهوياتهم. ترصد الرواية حياة أسرة سورية تقطن في العاصمة دمشق، حيث تقوم الأم وحدها بتربية أطفالها الأربعة بعد أن توفي الأب بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه فترة طويلة، وتنتقل الأم من الهموم العادية إلى الهموم المصيرية التي حملتها الأيام وثم الحرب للأسرة.

الراوي هو الابنة الصغرى البطلة سليمى التي تنطق بلسان الكاتبة وقد ورثت حب القراءة من والدها بينما ورث نبيل الأخ الأكبر عنفوان الأب وتحديه. غادر نبيل البلاد بعد تجربة اعتقال إلى سويسرا أما الأخوات فكان لكل واحدة منهن تجربتها الخاصة. انفردت سليمى بالمعاناة ودفعت من جسدها ونفسها الثمن الغالي فبعد أن تزوجت الشاب الذي احبته اكتشفت أنها تدخل بيتاً للأشباح تسيطر فيه الجدة التي ربت الشاب وتعيش عقدة الامتلاك تجاهه فتفرض جو الكآبة والقسوة وتبعد بين الزوجين، ورغم تحمّل سليمى إلا أنها تختار الطلاق بعد أن فقدت جنينها إثر شجار مع الجدة. احتوتها العائلة وساعدتها لتبدأ من جديد وتعود للدراسة التي تركتها نزولاً عند رغبة الزوج  لتتفرغ له، ولتعمل في التدريس بعد ذلك  وحين نشبت الحرب في البلاد كانت تكتب في المواقع والصحف ما أثار الجهات الأمنية فاختارت السفر مرغمة هروباً من التضييق عليها.

كيف يعيش اللاجئون في المجتمع الجديد

 تبتعد الأتاسي عن سنوات الحرب الطويلة ويومياتها لكنها تلمح إلى معاناة السوري اليومية والممتدة سواء في فقدان الأمان أو فقدان مستلزمات العيش البسيطة والبديهية كالكهرباء وتلك الكآبة المخيمة كالعتمة في أنحاء المدينة لتتابع رصدها أوضاع السوريين في الغربة بعد وصولها إلى سويسرا حيث لم يشكل  السوريون جالية لقلتهم إلا أن أتاسي  ميزت عدة نماذج من السوريين: منهم من استطاع الاندماج في المجتمع الجديد واحترام قوانينه وعلاقاته وأسلوب الحياة مستثمراً الإمكانيات المقدمة له  لبدء مشروعه الخاص، ومنهم من أعلن عدم تكيفه مع المجتمع الجديد ورفض أسلوب العيش فيه ونعته بالفاسق والكافر وحاول أن يعيش أفكاره التي حملها معه وعاداته دون النظر إلى مواءمتها للمحيط الجديد إذ يسيطر عليه الخوف من التأثر  فينكفئ  دون الاختلاط.  فهناك الشاب الذي يتخلى عن دراسته وتفوقه وحياته ويعود إلى الرقة السورية للجهاد مع الجماعات المتشددة وأمه التي تريد من سليمى عدم الاختلاط خشية التأثر وتدعوها لمتابعة الجلسات التي يديرها شيخ الجامع القريب، و هناك نموذج جيل ولد وعاش في المجتمع الأوربي ورفاهيته لكنه يحمل هم الوطن ويسعى لاعتباره قضيته كابنة نبيل التي ولدت وعاشت في سويسرا إلا أنها تشعر بالانتماء لوطن والدها وتذهب إلى مخيم الريحانية في تركيا لمساعدة اللاجئين.

لم يغب عن الكاتبة أيضاً إظهار ردود فعل السكان الأصليين في حذرهم من الغرباء الذين قدموا إلى وطنهم والريبة والشك في سلوكهم تجاه المهاجرين وخاصة بعد أن سبقتهم سمعة الإرهاب وتقارن بين واقعين؛ الشرق والغرب حيث تتلاشى الحدود وتصبح مجرد خطوط وليست قضبان سجن كما في الواقع العربي.

المعاناة في الداخل ومخيمات اللاجئين قضايا معلقة

استطاعت الروائية أن تقترب من أنماط حياة السوريين في الغربة وطريقة تعاملهم مع ظروف الحياة الجديدة كما ترصد من خلال أبطالها قضايا معلقة ما زالت فيها معاناة السوريين مستمرة فعن طريق علاقة سليمى بالشاب الكردي الذي التقت به في مطار بيروت تتعرف على القضية الكردية على لسان أهلها الصريح وما آلت إليه بعد سنوات من الحرب المشتعلة في البلاد وتناحر الأطراف الكردية وغياب نسق واحد لرؤية الحل على الأرض وهو ما يدفع ثمنه الأبرياء: فكريم الكردي يتعرض لإطلاق نار مقصود خلال زيارته للقامشلي ويكاد يموت. كما تصف  الكاتبة الحياة في مخيم  الريحانية وما يتعرض له السوريون في المخيم من إذلال وسرقة وفقدان الغذاء والدواء والشقاء تحت المطر وانجراف الخيام والبرد واغتصاب الطفولة في ظروف غير إنسانية  تصل حدود بيع الفتيات الصغيرات نتيجة الظروف السيئة للحياة في المخيم بأسعار بخسة  تحت ذرائع ومسميات كثيرة كالزواج والسترة. 

 تتابع سليمى حياتها  واضطراب علاقتها العاطفية مع كريم الكردي السوري كما تبدأ مشروعها الكتابي الذي كانت تحلم به دوما وتعده استكمالا لمشروع والدها الذي بدأه ودفع ثمنه من عمره في الاعتقال.

الاندماج لا يعني النسيان

تبدأ الرواية بوصف مكان سكن سليمى والتي تسرد الرواية متقمصة صوت الكاتبة الراوي العليم وبضمير المتكلم الذي يجعل سيرة حياة سليمى تبدو كسيرة ذاتية للراوية ويمنح السرد حميمية تأخذ القارئ وتشده  لتروي  عبر حكاية سليمى حكايات شخصيات كثيرة لا تتوقف عند أخوتها في العائلة وحيث يأخذها الحنين كل حين عبر المقارنات الكثيرة فهي إذ تصف مدينة لوزان ووحشة الغربة تتذكر حميمية توضّع بيوت حي المهاجرين. وحين تبدأ الرواية بمقولة تولستوي إن كل امرئ يحاول تغيير العالم لكنه لا يريد تغيير نفسه نجد أنها لطالما حاولت أن تبدأ من جديد بعد كل كبوة  والمضي قدما وراء مشروعها حتى استطاعت أن تستقل به عن مشروع والدها وتحدد طريقها نحو القادم من الأيام باختيار العودة إلى كريم المصاب والعيش معه في باريس.

تشوه المبادئ والحياة السياسية

تعرج الكاتبة على الجانب السياسي ليس فقط عن طريق تسليط الضوء على الانشقاقات في الجانب الكردي، بل نرى ذلك التخبط الذي كان ومازال السوريون يقعون به فوالدها أسس حزباً ثم انشق عنه لاختلافه معه بالخروج عن مبادئ التأسيس، وأخوها انتمى لليمين ثم غير بوصلته إلى اليسار بينما نجد أن الانطواء تحت جناح أحد الفريقين الموالاة والمعارضة قد قسم السوريين بشدة حتى على صعيد العلاقات العائلية: مثال علاقتها بعائلة أختها وصهرها الذي كان يمسك العصا من المنتصف ليضمن مكانه مهما اختلف الظرف السياسي وهو الذي أرادها ان تغادر البلاد حتى لا تحرجه بموقفها، أو العلاقات العاطفية: فقد انسحبت من محاولة إنعاش حب قديم لاختلافهما في الموقف السياسي.

تصف الكاتبة جو البلاد الكئيب والحزين وغرق الناس في تأمين سبل العيش والحياة وتفرق الكثير منهم في بلاد واسعة ليجرهم الحنين من أعناقهم كلما ابتعدوا. تنحاز الأتاسي بصورة أكبر إلى الإنسان وألمه ومعاناته  مشبهة رجل الأمن الذي طردها من البلد بديكتاتور وأنها في تلك اللحظة كانت البلاد كلها، التي تعيش قلقها وخوفها وحزنها ويلتبس كل هذا بروحها، وكيف غيرت الظروف حياة الناس ونكوصهم إلى طريقة التفكير الغيبية لفقدان الأمان والحلم والمشروع والإحساس بالواقع المتزعزع والمضطرب، وكشف شذرات عميقة من النفس البشرية وتناقضاتها.

 نلاحظ كيف تتفتح الذات الإنسانية حين تتوفر لها ظروف النماء الصحية وتعثر على ظرف مناسب فحين التقت بكريم في مطار بيروت وبدأت معه حديثاً وحيث لم تعد تشعر برقابة تنتهك خصوصيتها وقدرتها على التعبير كانت كأنما تفتح أقفال روحها المكبلة بالماضي أي تجربتها الشخصية القاتمة وتجربة بلدها التي مازالت تعيش أزمتها وحربها كما تظهر في ذهنها وتطرح أسئلتها الوجودية ومشاغلها الفكرية والفلسفية بعد استقرارها في المجتمع  الجديد.

يتميز سرد أتاسي صاحبة رواية تانغو الغرام بسلاسة وحميمية وتنحو لغتها إلى الشاعرية ويعيش القارئ معها في مكان وزمان الحدث حيث تماثلنا الشخصيات في المعاناة لكنها تنحو إلى التفاؤل وتحفيز الإنسان على العطاء وفتح الأبواب أمام الحياة والحب.

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه العلامة الكبرى التي كرست سوريا كسيدةٍ في الأعمال التاريخية التي لا تشوب نصها ونطق حروفها وأدواتها شائبة، وكان ذلك واضحاً وجلياً في ثلاثية حاتم علي (صقر قريش–ربيع قرطبة–ملوك الطوائف).

أما في عام 2010، العام الذي سبق الحرب السورية مباشرة فقد أسدلت الستارة على النتاج الضخم والمشبع فنياً وحركياً وبصرياً وذهنياً مع مسلسل “لعنة الطين” للكاتب سامر رضوان صاحب “ابتسم أيها الجنرال” وثلاثية “الولادة من الخاصرة” للكاتب نفسه و”تخت شرقي” للكاتبة يم مشهدي وغيرهم.

في هذا العقد قدمت سوريا ثورةً في الدراما الاجتماعية التي تخطت ما عداها لتلامس شرائح المجتمع كله تاركةً خلفها سبلاً وأدوات وحكايات تنطلق من البيئة التي جاءت منها بأسلوب تنفيذ سلس ومباشر وبسيط كان كفيلاً بصنع النجوم، نجوم اليوم.

سادة الدراما

لا يزال السوريون يعتقدون أنّهم سادة الدراما، يقدمون هذه المعلومة في كل موسم رمضاني خلال العقد الفائت، ويقولون بلا تفكير بأنّهم قدموا دراما اجتاحت الوطن العربي وعلمته كيف تكون الصنعة. ولكن ماذا يعرف العرب من المحيط إلى الخليج عن الدراما السورية؟

يعرفون شيئاً واحداً (شبرية أبو شهاب) في باب الحارة، وتلك الطامة الكبرى التي أغرقت سوريا في فخّ التجهيل وأوصلت للسوريين معلوماتٍ مغلوطة عن أنّ أعمالاً كزمن العار وأحلام كبيرة وغيرهما كانت تجعل العربي يتسمر خلف الشاشة، والعربي لم يسمع أساساً بتلك الأعمال، إلا ما ندر.

صراع سوريٌّ – مصري

يتجه السوريون هذا العام في جلساتهم وعبر منتديات النقاش في مجموعات التواصل الاجتماعي بصورة غريبة لمناقشة ومقارنة الفرق بين الأعمال السورية والمصرية واضعين عشرات الملاحظات على الأخيرة موجهين انتقادهم اللاذع إلى مسلسل “الحشاشين” بطولة “كريم عبد العزيز” وإخراج “بيتر ميمي”.

ينطلق هجومهم من إشراك اللغة العربية الفصحى باللهجة المصرية في سياق العمل، لتبدأ مواجهة حامية الوطيس يبدو فيها المدافعون عن الإنتاج المصري أكثر من الرافضين له، ويبدو هذا منطقياً لبلدٍ يملك شركات إنتاج تحقق شرطاً فنياً عالي الجودة ويمكن لشركات بلدهم تقديم ما يحاكيه لولا أنّ مزيجاً من الاستسهال والمبالغة والاستعراض جمع بين شركات سوريا ومخرجيها وممثليها، على ما يقوله مهتمون بالمتابعة.

مصر قدمت هذا العام مسلسلات: الحشاشين – العتاولة – المعلم – الكبير أوي 8 – المداح – أشغال شاقه – بابا جه – أعلى نسبة مشاهدة – امبراطورية م – بيت الرفاعي – بدون سابق إنذار – جودر – كوبرا – حق عرب – خالد نور – رحيل – سر إلهي – صيد العقارب – صدفة – صلة رحم – عتبات البهجة – 100 راجل وغيرهم.

وباتت المسلسلات المصرية تبدو وكأنها تحلق وحيدة كما تفعل منذ عقود في فضاء الفن العربي متفهمةً أخيراً أنّ الجمهور لا يحتاج عملاً من ثلاثين حلقةً، وبأنّ 15 حلقة كافية وتزيد عن حاجته وتشبع ذائقته الفنية.

“بوجقة وردح”

حتى الآن لا يمكن فهم أدوات عمل الممثل السوري وثباتها في مكان اللا تطور، حيث يحافظ على مبالغات في الأداء والصياح والاستعراض تجاوزتها مدارس التمثيل، فاليوم يتجه هذه المضمار لإبكاء المشاهد بلقطة يبدو فيها البطل حزيناً بنظراته لا حزيناً لأنّه يصيح ويمزق ثيابه. وهنا يمكن فقط استحضار مشهد المصري “سيد رجب” في فيلم “وقفة رجالة” إذ استطاع إبكاء المشاهدين في صالات السينما دون أن يذرف دمعةً واحدة حين توفيت زوجته وشريكه عمره.

حتى نهاية الأسبوع الأول من رمضان كانت معظم الأعمال السورية تقوم على التنميط، واستنساخ منشورات الفيس بوك، وأحاديث الشارع الممجوجة، وما يقال عنه بالعامية الشامية “البوجقة والردح” من قبل ممثلين محترفين يفترض أنّهم قاماتٌ كبرى متناسين أنّ قسطنطين ستانيسلافسكي” صاحب فلسفة إعداد الممثل قد علمهم أهم قاعدةٍ جوهرية وهي: “تحدثوا للعين وليس للأذن، فالعين هي العضو الأكثر حساسية الذي يقود معنى الفكرة.”

تصويبٌ لا هجوم

ما يحصل الآن ليس هجوماً على الدراما السورية، بقدر ما هو محاولة تصويب للأخطاء التي تكررها كل عام، فالفرنسي المحتل حاضر على الدوام بعمل أو أكثر كل موسم، ودمشق القديمة حاضرة كما المعتاد، والفتيان الزعران وبنات الليل والراقصات حاضرات أيضاً، وكما كلّ عام يتغير اسم الكاتب وتظلّ خطوط الحبكة متشابهة.

لا يمكن القول هنا إنّ ذلك يعود لخطورة مقصّ الرقيب، فالجميع بات يدرك أنّ الرقابة على الدراما باتت أقل ممّا كانت عليه، وإنتاج عملٍ اجتماعي لا يحتاج مغامرةً أصلاً! ومن أنتج وعرض “غزلان في غابة الذئاب 2006” وثلاثية “الولادة من الخاصرة 2011-2012-2013” وغيرهم يدرك جيداً أنّ السقف يمكن أن يكون عالياً والدليل الأمثل مسلسل “الخربة – 2011” للكاتب “ممدوح حمادة” والمخرج “الليث حجو” بكل إسقاطاته السياسية الشديدة والذي عرض ولا زال على الشاشات المحلية بين وقت وآخر، إذ لا ينسى السوريون أنّ “بقرة معلم أكرم” أهم من كل شرائع وقوانين ودساتير وحياة الإنسان في بلدهم.

مقارنة ظالمة

في هذا العام حضرت سورية بجملة من المسلسلات التي تفاوتت الآراء حولها، وما قد يظلمها هو مقارنتها بأعمال أخرى صنعت خلال الحرب.اليوم ينكب جزء من السوريين على مشاهدة أعمال هذا الموسم كـ: ولاد بديعة – كسر عضم (السراديب) – مال القبان – تاج – وصايا الصبار-بيت أهلي – الوشم. وكما في كل عام عانت هذه الأعمال على قلتها من الشرط التسويقي القاسي في السوق الخليجي والذي كان أساس ازدهار الصنعة السورية مطلع الألفية الحالية.

ممثلٌ مرغم على التمثيل

تعتقد رقيّة ميمون الخريجة الجامعية أنّ أعمال هذا العام جاءت متدنية المستوى، وفي قسم كبير منها لا تناسب المشاهدة العائلية، معلّلة ذلك بكم التناول الواسع لمواضيع حساسة تتعلق بالجنس وفتيات الليل والرقص وما شابه ذلك.

تقول: “هناك كميّة لا تصدق من النكد والحزن والانحدار الفني على مستوى النص المجتر والمكرر، لنتذكر قليلاً مشاهد مرّت في تاريخ درامانا ثم لنقارن، مشهد بكاء خالد تاجا في التغريبة الفلسطينية، الحلقة الأخيرة من أسعد الوراق، الاغتصاب في زمن العار، اجتماع العائلة في أحلام كبيرة، مقتل كليب في الزير سالم، مشاهد الأصدقاء في تخت شرقي، الخازوق في إخوة التراب، كل ذلك كان قبل 2011، أما بعده فصرنا نحسّ أنّ الممثل يؤدي وظيفته مرغماً”.

فلسفة مريبة

فيما تتساءل ناهلة عويتي الطالبة الجامعية عن السرّ الذي يجعل كل الحوارات في المسلسلات السورية مغرقة في الفلسفة والسفسطائية والغرابة والابتعاد عن طبيعة المجتمع وتكوينه البسيط، دون أن تنسى استذكار مسلسل “تخت شرقي – إخراج رشا شربتجي 2010″، والذي قدم في حينه صورة أكثر قرباً من يوميات الناس في بلدهم هذا. وتعبر عن رأيها: “الراقصة لديها فلسفتها الأفلاطونية، عامل الصيانة، الطبيب، الدهّان، القاتل، الضابط، الجميع يملك فلسفة مريبة وكذلك الطفل الصغير، أليس هذا نقلاً غير مفهوم في مستوى الدراما من الإمتاع العائلي الترفيهي البسيط إلى دائرة الانعزال عن القضايا اليومية التي تخلق بيئة العمل الدرامي كما يقول صناعه؟”.

بين الواقع والامتنان والإعجاز

في خضم ذلك يرجو الشاب محمد محمد أن تعود الدراما لواقعها بعيداً عن المبالغة المهولة في ترتيب المنازل وديكورها، قائلاً: “نريد شيئاً يشبه حياتنا وبيوتنا الفقيرة لتعود الدراما ملكاً لنا”.

ومن بين تلك الآراء يظهر رأي الأكاديمي معين نصراني مغايراً  إذ يقول إنه ممتن أنّ الشركات لا زالت قادرة على أن تنتج أعمالاً في بلد حطمته الحرب، ويُشدد على فكرته: “13 عاماً من الحرب ولا زلنا ننتج فناً، هل من بلد آخر يستطيع فعل ذلك!”

من سوء حظ معين أنّ جواب سؤاله جاء سريعاً من صديقه الواقف قربه، إذ قال بعفوية: “الرحابنة فعلوا ذلك في حرب لبنان”.

ثمّة نجوم من ذهب

لم يكن غريباً أنّ معظم من التقينا بهم لم يبدوا حماساً للأعمال الدرامية السورية، وهذا طبيعي ومفهوم، فالكثير من الناس في سوريا يملكون قدرةً تحليليةً على تمييز المنتج الرديء من السيء وإجراء مقارناتٍ تأخذهم دائماً نحو طلب الأفضل في ظلّ واقعٍ فعلي يسيطر عليه الاستسهال في معظم مناحيه. إلا أنّ ذلك بطبيعة الحال لا يمكن تعميمه، ففي سوريا نجوم من ذهبٍ قادرون على المنافسة شرقاً وغرباً، ولكنّ هؤلاء النجوم يخضعون لشروط مركبة، فإما شرط إنتاجي سيء، أو أجور قليلة، أو أدوار سيئة يضطرون للقبول بها لئلا يختفوا عن الشاشة. تلك وغيرها عوامل جعلت ولا زالت من الدراما السورية منكسرةً حزينةً لا ترضي صناعها قبل جمهورها.

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين الذين لا يجرؤ أحد على محاسبتهم لأنهم فوق القانون. لكن للأسف الشديد ثمة موضوع أبدي تناولته ولا تزال تتناوله الدراما السورية هو الانتداب الفرنسي في مسلسلات بأجزاء كثيرة تصل أحياناً إلى أكثر من عشرة أجزاء (كل جزء ثلاثون حلقة) مثل مسلسل باب الحارة حيث اضطر المخرج أن يُعيد شخصية عباس النوري (أبو عصام) لأن الجمهور غضب كثيراً لأن أبو عصام مات (عباس النوري نجم أيضاً). ولا يُمكن إغفال مسلسل تاج، بطولة النجم تيم حسن والنجم بسام كوسا وإخراج سامر البرقاوي. كلف المسلسل المليارات حتى أن المنتج (شركة الصباح) أعلن أنه تم بناء مدينة كاملة استغرق بناؤها أشهراً من أجل مسلسل تاج الذي يتناول الانتداب الفرنسي في سوريا. هذا يدل على الإفلاس في إنتاج دراما سورية تحاكي واقع السوريين. صار لدينا فرط إشباع من مسلسلات الانتداب الفرنسي. وتكمن الخطورة في أن هذه المسلسلات يقوم ببطولتها نجوم أو ممثلون مبدعون، فتيم حسن مثلاً ممثل عالي الموهبة ومؤثر في شريحة كبيرة من المشاهدين في العالم العربي كله، ولا أزال أذكر العدد الكبير من شبان اللاذقية وغيرها كيف قلدوا جميعهم قصة شعر وشكل الذقن في أحد مسلسلات تيم حسن. لكن الخطورة تكمن في أن الموهبة العالية للنجم أو النجمة في الدراما هي سلاح ذو حدين، فمن جهة إن الشهرة الكبيرة للممثل والكاريزما الخاصة به تدفع محبيه لمتابعته وقبول أية شخصية يمثلها حتى لو كان تاجر مخدرات خارجاً عن القانون كما في دور تيم حسن في مسلسل الهيبة المؤلف من خمسة أجزاء. لكن عشاق إبداعه وموهبته الفذة والكاريزما التي يتمتع بها تجعل المشاهد يُعجب بشخصية تيم حسن في مسلسل الهيبة، حتى أنني لاحظت في اللاذقية قبل سفري إلى فرنسا عدة محلات ألبسة وأطعمة حملت اسم الهيبة.

 إن المسلسلات السورية الأخرى الجريئة ظاهرياً–هي التي تتحدث عن السلطة المطلقة لأجهزة الأمن (المخابرات) مثل مسلسل الولادة من الخاصرة، وهو يتألف من ثلاثة أجزاء وكل جزء يتألف من ثلاثين حلقة، وبرع هذا المسلسل في إظهار قوة وجبروت أجهزة الأمن وأبدع في إظهار وسائل التعذيب الوحشية التي يتعرض لها من يقع في قبضة المخابرات. وهنا أيضاً تلعب نجومية الممثل دوراً في التأثير على المشاهدين فالممثل عابد فهد نجم مبدع له جماهيرية كبيرة وأبدع في تمثيل دور ضابط الأمن في مسلسل الولادة من الخاصرة الذي أحرق فيه وجه زوجته الممثلة سلاف فواخرجي وقتل والدها. وفي نفس السياق، يسلط الضوء مسلسل كسر عظم للمخرجة رشا شربتجي وبعض حلقات بقعة ضوء على القوة المُطلقة الجبارة لأجهزة المخابرات، لكن هل دور هذه المسلسلات نقد أجهزة المخابرات وفضح وحشية طرق تعذيبها؟ صحيح أن هذه المسلسلات صورت الطرق الوحشية لأجهزة المخابرات وظلمها لكن المُشاهد السوري يشعر بانفصام في الشخصية وهو يشاهدها لأنه يعرف أن ما يعيشه في الواقع أفظع بكثير مما يشاهده في المسلسل وأن سلطة أجهزة الأمن في سوريا مُطلقة لذا هذه المسلسلات لم تعد تنجح حتى في تنفيس الغضب الكامن في نفوس السوريين، لأنهم يعيشون الواقع أي الحاضر المُرعب حيث لا تكاد توجد أسرة سورية لم تخسر العديد من أولادها وأحبائها سواء ارتقوا وصاروا كوكبة من الشهداء (كما يُحب الإعلام السوري تسمية الشهداء) أو ماتوا في قوارب الموت أو ماتوا تحت التعذيب. إن المسلسلات السورية كلها للأسف هي فعل ماض، من المسلسلات الأبدية للانتداب الفرنسي إلى مسلسلات تفضح ممارسات الأجهزة الأمنية بينما الشعب السوري يحتاج لمسلسلات (الفعل الحاضر أو المُضارع).

من المُخزي اعتماد الدراما العربية والسورية على المسلسلات التركية، وهي كلها مسلسلات تتنافس في التفاهة وبعضها يصل إلى 500 حلقة مثل مسلسل مرارة الحب التركي الذي أعيد عرضه عدة مرات. هناك مسلسلات تركية قمة في التفاهة تحاصر المشاهد العربي لتخدره بالحسناوات السخيات في عرض مفاتنهن وبجمال الطبيعة. من المُخزي أكثر استنساخ مسلسلات عربية وتقليد مسلسل تركي في سورية بمشاركة ممثلين من لبنان مثل مسلسل ستيلتو ومسلسل الخائن، وكأن المواضيع نفدت من عالم الدراما. هل تمت هذه المسلسلات بصلة لنمط حياة الشعب العربي! نساء فاتنات بكامل الأناقة وسخيات في عرض المفاتن وسيناريو مُروع بتفاهته عن الغيرة النسوية! نساء طوال الوقت يلبسن أحذية بكعوب عالية حتى وهن يطبخن رغم وجود الخدم! لا أنكر أنني سقطت في فخ مسلسل ستيلتو لأنني معجبة جداً بالنجمة ديما قندلفت وكنت أحس بالقهر والغضب كلما تابعت حلقة.

السؤال الأهم الذي يطرح نفسه وبقوة: لماذا لا يعتمد المنتجون والمخرجون على روايات عربية عظيمة تحكي وتعبر بصدق عن حال المواطن العربي؟ كيف أنسى المسلسل العظيم واحة الغروب المأخوذ عن رواية المبدع بهاء طاهر، وهو مسلسل إبداعي عظيم بطولة النجمة منة شلبي، أو مسلسل ذات المأخوذ عن رواية صنع الله إبراهيم ذات. كاد المسلسل الذي تلعب فيه دور البطولة النجمة نيلي كريم يتفوق على الرواية. ثمة روايات عربية رائعة وصادقة تعبر عن واقع الشعب العربي خاصة في دول النزاع والحروب مثل رواية الخبز الحافي مثلاً للمبدع محمد شكري الذي حكى بشفافية وصدق عن سكان قاع المدينة وكيف اضطرهم الفقر إلى أن يذهبوا إلى المقابر لقطف البقلة والحميضة وأكلهما. ألا يأكل الكثير من الأحبة في غزة الحميضة وأوراق الشجر كي لا يموتوا من الجوع! هذه الرواية، الخبز الحافي، رفض الناشرون العرب طباعتها لأنهم يخجلون من قاع المدينة والهول الذي يعيشه سكانها. الأخلاق العربية التي تعتمد على الدين تخجل مما حكى عنه بصدق محمد شكري. مثلاً رواية تغريدة البجعة للمبدع المصري مكاوي سعيد (الرحمة لروحه) تصلح أن تكون مسلسلاً ولا أروع يحكي بشفافية وصدق واقع العشوائيات في مصر.

أخيراً أحب أن أختتم بحوار دار بيني وبين صديقة من الساحل السوري وهي سيدة مثقفة ووطنية كانت في حالة مروعة من القهر والغضب وهي تشرح لي ما يُسمى بتطبيق سيرياتيل كاش، ما فهمته هو أنه يتعلق بطلاب البكالوريا وبمن يرغب بالتسجيل في الجامعة وشرط التسجيلonline  ومن ضمن الشروط وضع مبلغ 106 آلاف ليرة سورية عن طريق تطبيق (سيرياتيل كاش) على أساس أن هذا المبلغ سيحول إلى الجامعة. لم أفهم تطبيق سيرياتيل كاش من صديقتي التي أخبرتني أن الفواتير صارت كلها تُدفع من خلال هذا التطبيق، وأنها حين راجعت الجامعة قالوا لها: لم يصلنا أي مبلغ! ويا للدقة (مئة وستة آلاف)! أتمنى لو يتم إنتاج مسلسل أو فيلم سوري بعنوان سيرياتيل كاش، عندها يكون فيلماً أو مسلسلاً من الحاضر وليس من الماضي حتى لا نُصاب بالإشباع إلى حد التسمم من مسلسلات الإنتداب الفرنسي، فضلاً عن خسارة أموال طائلة تُصرف لتخدير جمهور فقير ومُتعب وخائف لدرجة الذعر وهو ضحية سلاح ذو حدين: نجومية ممثلين يحبهم ومواضيع مسلسلات هي تماماً كدس السم في العقل. بالمناسة حتى الآن لم أفهم بدقة تطبيق سيرياتيل كاش لكن يكفي أنني أحسست بقهر صديقتي.

الأمهات في سورية: عيد ناقص

الأمهات في سورية: عيد ناقص

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور “الأم” الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري للرجل. باتت معظم الأمهات يكافحن وحيدات في ساحة الحياة من أجل لقمة العيش، فتحولن إلى نساء مثخنات بلوعة الفراق والقهر والحنين.

تخلت لينا (40 عاماً) منذ قرابة سبع سنوات عن لقب “الأم” بوصفه الدور الوحيد الذي كانت تمارسه قبل وفاة زوجها، غير أن ألقاباً كثيرة ألصقتها بها الحياة عنوة لتتنقل بين أدوار “الأب” تارة و”المعيل” تارة أخرى و”الأخ” و”المنقذ” في أحيان أخرى. تقول لينا عن تجربتها: “نسيت أنني أم منذ سنوات؛ تلك الأم التقليدية التي كانت تقوم بمهام الاعتناء بالأطفال والإشراف على طعامهم ودراستهم فقط دون الالتفات لأمور أخرى. دور الأب هو الطاغي حالياً، أعمل دوامين من أجل تأمين لقمة العيش.” تقر لينا أن وفاة زوجها حملتها مسؤوليات تفوق قدراتها الجسدية ووضعتها تحت ضغوط نفسية ومادية، خاصة أنه ترك خلفها لائحة من الديون غير المسددة. تشرح وضعها: “كان زوجي كثير الدين من أصدقائه، اعتاد أن يسدد شهرياً من عمله الإضافي في تعهدات البناء، لكنه لم ينته من تسديد ديونه كلها وأقوم أنا بالسداد”.

ليست فقط الأعباء المالية هي التي تؤرق كاهل لينا، بل هناك حمولة فائضة، ثمة شعور بالأمان تفتقده منذ وفاة زوجها، ففكرة غياب العنصر الذكوري في حياتها يشعرها بانعدام التوازن وفراغ كبير وتوضح مشاعرها: “افتقد شعور الأمان والسند الذي ضاع مني، أحتاج كتفاً اتكأ عليه كلما اختل توازني، كما يحتاج طفلاي هذا السند أكثر مني”.

وجدت نهال (30 عاماً) نفسها بين ليلة وضحاها أماً لأربعة أطفال، لطفلتها ذات الست سنوات، وأشقائها الثلاثة بعد وفاة والدتها، لتوزع عاطفة الأمومة بين الجميع بحصص عادلة، تقول: “توفيت والدتي مبكراً مخلفة وراءها أخوتي الذين مازالوا صغاراً، أعتني بهم وكأنهم أطفالي أسوة بابنتي، أحاول قدر الإمكان تعويضهم حرمان الأم كي لا يشعروا بالألم “.

تصالحت أحلام (50 عاماً) مع فكرة تحول زوجها من المعيل الأساسي إلى شخص غير منتج في المنزل بسبب مرض السكري الذي تلاه إجراء عملية قلب مفتوح، وبالتالي انتقلت جميع المهام إليها بدءاً من تأمين حاجيات البيت والإشراف على دراسة بناتها الثلاث، مروراً بالقيام بأعمال صيانة المنزل وتركيب أنبوبة الغاز، ناهيك عن عملها الصباحي كمدرسة في المرحلة الابتدائية، لتضاف إليها الدروس الخصوصية كمصدر دخل إضافي، تقول:”أشعر بأنني الرجل في البيت، وليس زوجي، كل شيء يقع على عاتقي لدرجة أنني فقدت شعوري بأنوثتي وأنه يجب الدلال والاعتناء بنفسي، لا وقت لدي لذلك، ضغوطات الحياة تثقل ظهري”.

قرار مصيري

أرغمت خلود (28 عاماً) على إيداع ابنها ذي الأعوام السبعة عند والدتها والسفر إلى أربيل بحثاً عن حياة أفضل لها ولطفلها بعد أن تخلى عنها زوجها وتنصل من مسؤوليته كأب. كلفها هذا القرار ساعات طويلة من الوحشة والدموع واللهفة لطفلها تحاول أن تبددها بمكالمة هاتفية يومياً. وتشرح قصتها: “لم يكن القرار سهلاً عليّ، بل ترددت كثيرا، لكن تركت عاطفتي جانباً واتخذت القرار بعد أن سدت الطرق كلها أمامي وتهرب طليقي من مسؤولياته المادية والعاطفية لابنه، لا فرص عمل هنا تكفي للعيش بكرامة.” تعمل خلود طباخة في أحد مطاعم أربيل ودخلها جيد لكنها تنتظر عدة أشهر إضافية كي تستطيع لم شمل ابنها بعد أن وافق والده على إذن السفر مقابل مبلغ مادي، وتعقب: “تفاوضت مع طليقي من أجل السماح لابني بالسفر معي، أتحضر لإحضاره إلى هنا مع أمي للعيش سويا”.

أمهات على قارعة الطريق

تتوقف يداك عن الجمع وأنت تحصي أعداد الأمهات الجالسات على قارعة الطريق وعتبة العوز والحسرة، تراهن في كل مكان وأنت تتجول في شوارع دمشق. تلتمس نظرات التعب التي تعلو الوجه الشاحب والابتسامة الخجولة لسيدة تركن كرسيها البلاستيكي في زاوية لمحل خضار تفرم حزم البقدونس وتقشر حبات الثوم لتشتريها صاحبات الأيادي الكسولة التي لا تمتد إلا لتناول الطعام أو تلوين الأظافر. تمشي عدة أمتار فتستوقفك أم بمنزلة طفلة تحمل رضيعتها التي لا تعلم كيف تربيها وتمد يدها لتناولها ثمن علبة حليب، ثم تعاود المشي لتناديك بائعة التين والزبيب المجفف  بعد أن أخذت طفلتها قيلولة قصيرة، وحين تدخل أحد محلات الألبسة المستعملة تجد سيدة تتسول سترة مطرية أنيقة تليق بابنتها وهي  ذاهبة إلى الجامعة. 

الاحتفال وحيدات

تغيرت الصورة النمطية للاحتفال بعيد “الأم” إذ فقدت رونقها الخاص وشرطها الحميمي، فتفرق الأبناء والبنات وبات لم الشمل حلماً تنتظره الكثير من الأمهات. بينما يضطر العديد من الأبناء ممن سافروا خارج البلاد إلى إعادة ترتيب أولوياتهم والتقليص من عدد الزيارات بسبب الكلفة المادية المترتبة عليهم، والاكتفاء بزيارة سنوية أو في بعض المناسبات الكبيرة كعيد الفطر والأضحى. هناك أمهات يحتفلن وحيدات وبعيدات عن حضن أبنائهن، ليكتفين بمكالمة “فيديو” وقبلات افتراضية لا تشبع صبوة الأم وتطفئ لهيب شوقها.

حتى الهدايا أخذت شكلاً مختلفاً عما ألفه السوريون، كانت في السابق ترتبط بقطعة ملابس من ماركة ممتازة أو هدية جماعية يتشاركها الأبناء لاقتناء قطعة ذهبية كانوا قد وفروا ثمنها طيلة الأشهر السابقة، أما الآن فقد صار طابعها فقيراً وملحاً يندرج تحت الاحتياجات الدوائية والجسدية والغذائية، كإحضار علبة دواء، أو جهاز لقياس الضغط، أو حذاء طبي يخفف عن الأم أوجاع الدوالي، وربما كنزة مستعملة مازلت محافظة على جودتها، أو وشاح مصنوع يدوياً لأمهات أخريات طرزنه بعرق جبينهن وأصابعهن الباردة لإطعام أولادهن.