كيف تستفيد روسيا من “خنق” سوريا… اقتصاديا

كيف تستفيد روسيا من “خنق” سوريا… اقتصاديا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

برر السفير الروسي في دمشق الكسندر يفيموف سبب عدم تقديم بلاده الدعم المالي للنظام السوري، وصرح أن الوضع صعب للغاية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، ووصف حال الاقتصاد السوري بالاستنزاف العام، وأضاف أنه رغم أهمية الدعم متعدد الأوجه، إلا أن روسيا تعمل على تعزيز جهودها العسكرية لمحاربة الإرهاب. ونوه أن روسيا نفسها تحت تأثير العقوبات، وتعاني ركوداً اقتصادياً بسبب جائحة كورونا، على الرغم من إعلان روسيا عن مشاريع استثمارية كبيرة في سوريا والتي لم تدخل حيز التنفيذ بعد.

ليس خافياً على أحد، أن سلسلة الأهداف التي تسعى لها روسيا من تواجدها في سوريا، تذهب أبعد من النظام واستمراره.  ففي الوقت الذي يشكل لها النظام ضمان استمرار المصالح الروسية وتمددها، تشير الوقائع، على أنه كلما ضعف النظام واستنزف قدراته كلما قويت شوكة روسيا وازدادت مكاسبها العسكرية والاقتصادية والسياسية، حيث لا انفكاك ولا بديل للنظام السوري عن الدعم الروسي، خاصة مع زيادة الخناق على الدعم الإيراني للنظام، سواء بسبب العقوبات والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إيران، أم بسبب الاتفاق على تحجيم الوجود الإيراني بالاتفاق بين أمريكا وإسرائيل وروسيا، عبر مسلسل طويل من الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية. هذا الواقع المعقد يجعل من حلم تمدد إيران وتوسعها في سوريا كابوساً؛ فالتواطؤ الروسي مع هذه الضربات يسعى لإضعاف وتحجيم إيران، وإعادة اقتسام الغنائم لصالح روسيا.

في الوقت ذاته تعمل روسيا على احتواء إيران، ووضعها تحت جناحيها لتدور بفلكها، بعد أن سدت جميع المنافذ بوجهها، و أضعفت هامش مناوراتها. فروسيا التي تسيطر على الأرض بقواعدها العسكرية، وتتدخل على الصعيد العسكري لخلق معادلات جديدة تزيد من نفوذها وتوغلها في مفاصل الحياة السورية وتدخلها في هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية بما يضمن ويعزز سيطرتها.

سلم تطور العلاقات الاقتصادية الروسية مع سوريا

منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015عملت روسيا إلى جانب الدعم العسكري على تمتين العلاقات الاقتصادية التي كانت متواضعة بين الجانبين، وعملت على تأسيس علاقات اقتصادية طويلة الأمد. من المعروف أن دمشق احتفظت دوماً بعلاقات سياسية جيدة مع موسكو، لكن علاقاتهما الاقتصادية اكتسبت أهمية أكبر بعد اندلاع الاحتجاجات في 2011 ؛ فوفقاً لبيانات رسمية، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وسوريا في العام 2010 نحو ‏مليار دولار أمريكي، لكنه ارتفع بعد اندلاع الاحتجاجات في عام 2011 إلى نحو 2 مليار دولار.

في عام 2013 وقعت الحكومة السورية اتفاقاً مع شركة “سيوزنفتاغاز”   (Soyuzneftegaz)  الروسية من أجل الحفر والتنقيب عن النفط والغاز، قبالة الساحل السوري، وفقاً لعقد يستمر لمدة 25 عاماً.

هذه الاتفاقية تحقق أحد أهداف روسيا للاستثمار في قطاع الطاقة السوري، حتى يكون لها حصة فيه بدلاً من التنافس معه، باعتبار أن سوريا مكان محتمل، لمرور شبكة أنابيب النفط والغاز إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، وهو ما يهدد هيمنتها على تصدير الغاز للقارة الأوروبية.

بعد أن تمكن النظام بمساعدة حليفيه روسيا وإيران، من استعادة سيطرته على نسبة 70 بالمائة من أراضي سوريا، وفي سياق عملية التفاوض المتعثرة، دخلت روسيا في سباق التنافس مع إيران، على اقتسام الكعكة السورية، وكان واضحاً أن روسيا تقبض ثمن كل خطوة تدعم بها النظام، واتجهت بقوة نحو الاقتصاد حيث استطاعت روسيا، استمالة حيتان المال، وصبت سيولتهم المالية في بنوكها، وعقدت ما شاءت من صفقات وعقود، ترهن فيها البلد لمصالحها.

أخذت تطالب النظام بمستحقاتها من الديون قبل أن يدخل قانون قيصر حيز التطبيق، وروسيا عالمة بحجم الخلاف بين حيتان المال ورامي مخلوف في الصراع على الحصص، والتنافس على النفوذ الاقتصادي. وتبين مع الوقت كيف أن روسيا أخذت تلعب على التناقضات القائمة بين مخلوف والسلطة، لتصل الى مبتغاها ليس المالي فحسب، بل السياسي أيضاً في سوريا.

واستغلت روسيا فترة السبات الانتخابي في أمريكا التي امتدت لمدة ستة أشهر، وأصابت السياسة الأمريكية الخارجية بالشلل، لتعزيز مكانتها واستثمار نفوذها وفرض وقائع جديدة، حيث زار لافروف على رأس وفد روسي دمشق وشدد حينها على أن إعادة الإعمار في سوريا لها أولوية، بعد أن انتصرت على الإرهاب بدعم روسيا.

وبالفعل، وقعت روسيا مع النظام عدة اتفاقيات استراتيجية، في مجال التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية في البحر المتوسط، واستخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر، كما وقعت “ترانس غاز” مع حكومة النظام اتفاقية لاستئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً.

ولم تقتصر الاتفاقيات بين الطرفين على البترول والغاز والطاقة وحسب، بل شملت جوانب أخرى، منها الحبوب والأغذية، حيث بموجب هذه الاتفاقيات، أصبحت روسيا الدولة الأولى في تصدير مادة القمح لسوريا، إضافة إلى الاتفاق على بناء أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص بكلفة 70 مليون يورو، ما يعني أن القمح الذي يشكل المادة الأساسية في قوت السوريين، بات بيد روسيا بشكل شبه تام.

 إضافة لذلك حازت على اهتمام القيادة الروسية عقود إعادة الإعمار، وكشفت مؤسسة الإسكان على لسان مديرها “أيمن مطلق” على أنها توصلت مع شركات روسية إلى مراحل متقدمة من النقاش حول المشاريع الإسكانية. وأعلن في وقت لاحق ممثل مركز المصالحة الروسي، على أن بلاده تقوم بدراسة مشاريع، تتعلق بإعادة الإعمار، بهدف عودة اللاجئين. وهكذا استطاعت روسيا أن تعقد من الاتفاقات ما تريد، وترهن سوريا مقابل تعهدها بدعم وجود النظام، لكن لو فرضنا أنها تخلت عن النظام، ونكصت بوعدها هل بإمكان النظام أن يفعل شيئاً! إلى أين المفر! ما يراهن عليه النظام هو أن روسيا لن تجد بديلاً أفضل منه، ولن تتخلى عنه! إلا أن روسيا التي أبرمت هذه الاتفاقيات لتصبح أوراقا إضافية بيدها، فعلت ذلك لتثبت قدرتها على التحكم بالنظام والضغط عليه لتساوم المجتمع الدولي على مستقبل سوريا، بانتظار معرفة وجلاء الموقف الأمريكي الجديد، بقيادة الرئيس بايدن. نعم أبرمت روسيا هذه الاتفاقيات مع وقف التنفيذ، بحجة قانون قيصر الذي يسلط سيف العقوبات على الدول والشركات التي تدعم النظام السوري، فهي لن تستطيع إدخال المواد والأجهزة التي تمكنها من تنفيذ هذه المشاريع! أما النظام فما دفعه إلى إبرام هذه الاتفاقيات هو الأزمة السياسية والعسكرية والاقتصادية وضرورة تحقيق الاستقرار للبدء بإعادة الإعمار، خشية من تجدد اندلاع النزاعات المسلحة خاصة مع أمريكا.

استثمار روسيا للواقع الاقتصادي المزري لخدمة أهدافها

عمل النظام السوري بشكل مستمر على نقل عبء الأزمة الاقتصادية الخانقة، والعقوبات المفروضة عليه إلى عاتق الشعب السوري، حتى أصبح أكثر من 80 بالمائة منه مهدداً بالجوع، وصارت سوريا بأسفل قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم. حاول النظام الاستثمار بوضع الشعب المزري، ودعا إلى زيادة الدعم والمعونات  سواء من الدول على شكل مساعدات أو من اللاجئين بضخ العملة الصعبة إلى أهاليهم في سوريا لإنقاذهم من الموت جوعاً، حتى أن النظام استخدم وباء الكورونا من أجل الضغط على الخارج لدعمه ورفع العقوبات عنه. إضافة لذلك استغل النظام الوضع المعيشي الصعب وانهيار الاقتصاد وتفشي البطالة، لعسكرة الشارع والتجنيد في صفوف الجيش.

أيضاً عملت روسيا على استغلال الوضع الاقتصادي المذري، لتحقيق أهدافها في التغول أكثر في المجتمع السوري، وتعزيز نفوذها العسكري والأمني. فمنذ أن بدأت روسيا تدخّلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015 عملت على خضوع النظام السوري عسكرياً وأمنياً لقراراتها، لكن ذلك لم يمنعها من المضي في مسار موازٍ لتشكيل كيانات عسكرية تابعة لها، بصورة مباشرة، لضمان الولاء العسكري لها على المدى الطويل.

وتحقيقاً لهذه الاستراتيجية، شكلت روسيا فرقة النمر بقيادة الضابط البارز في قوات النظام سهيل الحسن، وأغدقت عليه العتاد والدعم. كما أنشأت الفيلق الخامس، الذي فتح أبوابه للمتطوعين والمنشقين سابقاً، وحتى للمقاتلين السابقين في صفوف الجيش الحر، ممن انخرطوا في التسويات والمصالحات في المناطق التي كانت يُهجَّر سكانها، وذلك كملجأ لهم يعيدهم إلى النظام، ولكنه يحميهم من انتقامه في الوقت نفسه. وبناء على ذلك يعد الفيلق الخامس تشكيلاً عسكرياً كبيراً، تابعاً للنظام السوري رسمياً، ويأتمر بأوامر قاعدة حميميم الروسية عملياً، ويتلقى من روسيا دعماً مادياً ولوجستياً وعسكرياً، ويوجد في عدة محافظات سورية.

 تجنيد الشباب السوري كمرتزفة

إن البطالة والفقر المدقع والوضع الاقتصادي المزري، كانت من أهم العوامل لنجاح روسيا في تجنيد آلاف المرتزقة وإرسالهم إلى الجهة التي تريدها، بما يخدم مصالحها وسياستها التوسعية عبر العالم، حيث كشف تقرير مفصّل صادر عن منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، عن قيام شركات أمنية روسية بتواطؤ مع النظام السوري بتجنيد ما لا يقل عن 3 آلاف مقاتل سوري، لغرض القتال في ليبيا، دعماً لقوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، ضد قوات “حكومة الوفاق”.

انتشرت عمليات التجنيد في كافة المحافظات السورية، ولاقت رواجاً كبيراً بدءاً من مدينة السويداء وانتقالاً فيما بعد إلى القنيطرة ودرعا ودمشق وريفها (جنوباً)، وحمص وحماة (وسط)، والحسكة والرقة ودير الزور (شمال شرق البلاد)

 ورغم المصير الأسود الذي ينتظر هؤلاء المرتزقة، والنيل من سمعتهم وانتمائهم الوطني إلا أن الظروف الاقتصادية المزرية، والرواتب المغرية التي قدمتها روسيا لهم، كانت كفيلة بجذبهم وتجنيدهم ليشكلوا ظهيراً عسكرياً لدعم روسيا ليس في الداخل السوري فحسب، بل خارج الحدود.

 الخلاصة

استنزفت روسيا  النظام رغم الأزمة الخانقة التي يعيشها، حين طالبت بديونها ثمناً للسلاح الذي استخدم لاستعادة المناطق وحماية النظام. ورهنت سوريا عبر الاتفاقات والعقود والقواعد العسكرية، بالمقابل كان دعمها المالي والاقتصادي محصوراً بالقوى الموالية لها التي تأتمر بأمرها كقوات نمر والفيلق الخامس والمرتزقة. وبعد كل ما حصلت عليه وكل الوعود التي قدمتها لدعم النظام، أخذت تُحمل النظام مسؤولية الوضع الاقتصادي القائم، وتتخلى عن التزاماتها اتجاهه، لتترك الباب مفتوحاً على المساومات والضغوط بما يناسب مصالحها.

سوريا والعيش في وفرة العتمة

سوريا والعيش في وفرة العتمة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

بداية قبل التحدث عن الانقطاع شبه التام للكهرباء في سوريا، لا بد للأمانة أن نذكر أن هناك تمييزاً في توفر الكهرباء في سوريا، فمثلاً مشروع دُمر في دمشق مدلل جداً إذ تأتي الكهرباء أربع ساعات متواصلة أو أربع ساعات ونصف الساعة وتنقطع ساعتين (أو ساعة ونصف)، بينما في أطراف دمشق وفي بعض الأحياء الفقيرة المغضوب عليها (لأن النظام يعتبرها انتفضت عليه) تأتي الكهرباء ثلث ساعة في اليوم كله.

بالنسبة لوطن الظلام سوريا أتابع بشكل يومي حياة الناس في ظل انقطاع الكهرباء الطويل، ويمكنني أن أعطي صورة تفصيلية عن حالة الساحل السوري (الذي يُعتبر مُدللاً نسبياً)، حيث تنقطع الكهرباء خمس ساعات وتأتي ساعة واحدة ليعود القطع خمس ساعات، وفي أحسن الأحوال تنقطع الكهرباء أربع ساعات لتأتي ساعة واحدة، وغالباً ما يتم اختزال ساعة الكهرباء إلى نصف ساعة فقط! أحد الأصدقاء في اللاذقية قال لي اكتبي عن تسونامي الكهرباء، وسألته ماذا يعني بتسونامي فقال لي: بعد انتظار خمس ساعات في ظلام مطبق جالسين في البيت مشلولين من الحركة وما أن تأتي الكهرباء نصف ساعة أو ساعة حتى ينتفض كل الشعب السوري ويصبح مثل خلية النحل، من يريد أن يشحن هاتفه الخليوي، ومن يريد أن يكون محظوظاً ويُسخن ماء ليستحم، ومن تريد أن تكمل وجبة الغسيل في الغسالة وهو منقوع فيها لعدة أيام بسبب انقطاع الكهرباء.

ويلاحظ المتابعون لكتابات السوريين في الداخل على مواقع التواصل الاجتماعي أن مشكلة انقطاع الكهرباء تحتل القسم الأكبر من التذمر والشكاوي، وقد وصل الغضب بالبعض وعدم تحمل هذا العيش في الظلام أنهم أصبحوا يكتبون شتائم فاحشة بحق وزير الكهرباء ومؤسسة الكهرباء.

طبعاً على السوري أن يجد حلاً لانقطاع الكهرباء الدائم وهنالك عدة حلول بديلة ، فالسوري الثري أو موفور الحال يشتري بطارية كهرباء سعرها قرابة مليون ليرة سورية وقد تحتاج لأجهزة إضافية (إنفيرتر)، ويصل المبلغ إلى مليون وثلاثمئة ألف، لكن حتى هؤلاء لا يستفيدون من هدر نحو مليون ونصف ثمن بطارية كهربا تضيء لهم غرفة المعيشة (أي أنها لا تستطيع تشغيل براد أو غسالة أو آلة تدفئة كهربائية)؛ فوظيفة هذه البطارية (بسعر مليون وثلاثمئة ألف) إضاءة غرفة المعيشة والمطبخ، وتستمر الإضاءة حوالي ساعتين على أقصى حد لأنه لا يوجد أساساً كهرباء كي تتمكن البطارية من شحن وتخزين الكهرباء. يضطر هؤلاء أن ينتقلوا إلى المستوى الثاني (وهو الذي يلجأ له معظم الشعب) استعمال اللدات الكهربائية التي تعمل على بطارية رخيصة نسبياً (مئتا ألف ليرة سورية)، وهذه اللدات عبارة عن كهارب صغيرة جداً وضوؤها واخز وحاد ومُخرش للعين ويُحدث أذى لشبكية العين تماماً كما يحدثه لحام الكهرباء (أي تسبب ما يشبه حروقاً في الشبكية). هذه اللدات سرعان ما ينوس ضوؤها وتنطفئ بعد ساعة أو ساعة ونصف لأن البطارية الصغيرة التي تشحنها تكون قد فرغت من الشحن أو لم تستطع أن تختزن أو تشحن كمية كافية من الكهرباء خلال ساعة أو أقل  وقد سألت مختصين في تركيب اللدات الكهربائية وأجمعوا جميعاً أنه يتوجب كل شهر أو كل شهر ونصف الشهر شراء بطارية جديدة لتشغيل اللدات؛ فهذه البطاريات صناعة صينية غالباً ورخيصة جداً وسريعة العطب (وأحب أن أذكر أنني خلال عيشي في اللاذقية من 2011 وحتى 2019 اضطررت أن أشتري ثماني بطاريات).

إذاً لم يبق من حل للسوري كي يتغلب على العتمة سوى الشموع، وسعر الشمعة الواحدة بعرض الإصبع ألف ليرة سورية وتذوب تماماً بعد نصف ساعة، لذا على أسرة سورية كي تؤمن إنارة رومانسية بالشموع لأولادها كي يدرسوا أن تستهلك عشر شموع أو عشرين على الأقل أي عشرة آلاف أو عشرين ألف ليرة سورية. ومعظم الأسر السورية (حوالي 80 بالمئة) تعيش تحت خط الفقر وعاجزة حتى عن تأمين شموع ليدرس أولادها.

ثمة مشكلة خطيرة تنجم عن العيش في ظلام شبه دائم هي التأثير النفسي للظلام على نفوس الناس خاصة على الأطفال، فالكثير منهم لديهم رهاب العتمة، وكنت على تواصل مباشر مع أسر سورية فقيرة لديها أطفال يبدؤون بالبكاء والصراخ وتنتابهم نوبات ذعر حين تنقطع الكهرباء لساعات طويلة؛ فتنتابهم حالة عصبية من الهياج والصراخ وتكسير كل ما تفع أيديهم عليه. وقد أقنعت أهلهم أن يقصدوا طبيباً نفسانياً؛ لكن ذلك الذصديق قال لي يومها بأسى كبير: “لا حل لمشكلة هؤلاء الأطفال الذين يُعانون من رهاب العتمة سوى الشراب المنوم”. قلتُ لصديقي الطبيب النفسي: “يعني كأنك تعطيهم مخدراً كي يناموا!” قال: “هل عندك حل آخر؟ هل نترك هؤلاء الأطفال يتقصفون رعباً من العتم، من ظلام دامس يعمي القلوب قبل العيون”. وحكى لي عن طفل حالته شديدة من رهاب العتمة اضطر أن يعطيه أدوية مضادة للاكتئاب!

هؤلاء الأطفال يدرسون في مدارس بائسة في صفوف مُعتمة (لأن الكهرباء مقطوعة)، وبما أن الدولة العتيدة بسبب وباء كورونا قد اتخذت إجراء أن يكون هناك دوامان صباحي ومسائي كي تخفف من ازدحام الطلاب في الصف فإن العديد من الأطفال يدرسون في العتمة (أرسلت إحدى المدرسات صورة لصف في مدرسة عبارة عن لوحة سوداء تماماً)، وبعض الطلاب تعرضوا للسقوط وهم ينزلون الدرج في المدرسة وأصيب العديد منهم بكسور.

سوريا بلد الظلام (ما عدا بعض الشوارع المدعومة كمشروع دمر في دمشق) الذي يسكنه المسؤولون.

الجرائم المُروعة التي تحدث في كل مناطق سوريا والتي يكون الظلام الدامس شريكاً لها، لم نعهدها في المجتمع السوري من قبل  عدا عن السرقة وأحياناً القتل بهدف السرقة فإن هناك تنوعاً مُخيفاً في تلك الجرائم. فمنذ أسابيع قام شابان بإقتحام شقة امرأة تعيش وحيدة في بناية من خمسة عشر طابقاً وهي ثرية وحاصلة على الجنسية الكندية. قاموا بربطها على كرسي وحرقها بعد أخذ كل مصاغها وأموالها وكل ما استطاعوا حمله من أثاث البيت. هذا الفحش في الإجرام (أن يقتلوها حرقاً) يدل على تشوه نفسي كبير وأحقاد مروعة أحدثتها ظروف معينة في نفوس بعض الشباب السوريين.

ليس الفقر وحده سبب هذا التوحش في الإجرام بل مظاهر التباهي والاستعراض والعهر التي يمارسها أثرياء الحرب على مرأى ناس فقراء ينتظرون ساعات في طابور الخبز ليحصلوا على خبز تعاف الدواب أكله، وحين يرى الشباب والمراهقون خاصة أن أحداً من أثرياء الحرب أحيا عيد ميلاد لابنته البالغة من العمر ثلاث سنوات وكلفه الحفل خمسين مليون ليرة سورية، وينشر صور الحفل على الفيس بوك؛ فإن هذه المظاهر من الوقاحة والتباهي بالثراء الفاحش تولد أحقاداً ونقمة في نفوس الشبان الجياع العاطلين عن العمل والذين لا يشعرون بقيمتهم وينتظرون فرصة ليهجّوا من بلد الظلام والظلم.

في الواقع لا أحد من السوريين يصدق أن مشكلة الكهرباء وانقطاعها شبه الدائم هو بسبب الحرب في سوريا والجماعات الإرهابية التي تخرب شبكة توليد الكهرباء (كما ضج خبر أن قرشاً قضم خط الإنترنيت في سوريا لذلك انقطع. الناس ليسوا أغبياء، الكل يعرف أن قطع الكهرباء غايته إذلال الناس وإلا لماذا الكهرباء متوفرة بشكل شبه دائم في مشروع دمر في دمشق! ولماذا فجأة تصبح سوريا كلها منارة بالضوء حين يكون هناك خطاب لرئيس أو شخصية سياسية مُقدسة! لا أنسى ذات يوم لم تنقطع الكهرباء في بيتي ثلاثة أيام متواصلة مع أن البناية قربي غارقة في العتمة، وأصابتني حالة من القلق والعصبية وتبين أن السبب هو زيارة السيدة وزيرة الشؤون الإجتماعية لمدينة اللاذقية لثلاثة أيام وأن الفندق الذي تقيم فيه يتشارك مع البناية التي أسكنها بخط الكهرباء، شعرت بالقهر والذل ولم أحس بالفرح أبداً.

المُخزي ما وصل إليه السوري من ذل ومهانة. كان السوري يُنفث عن قهره بشتم وزارة الكهرباء أو لعن هذا العيش الذليل حتى أن أحدهم كتب: “لا عزاء لنا سوى صور الأطفال في مخيمات النزوح أقدامهم غارقة في الثلج والوحل، هذا عزاؤنا الوحيد في بيوتنا المظلمة.”

صدر مرسوم أن كل من يتهكم ويشتم ويكتب كتابات توهن الشعور القومي للموطن السوري سيُعاقب وستعتبر كتابته جريمة إلكترونية لأنه يوهن عزيمة الأمة (ويا لها من عزيمة مُصانة بالكهرباء والغاز والراتب الذي يؤمن حياة كريمة وحرية التعبير والكلام…) كم آلمني أن الكثيرين من السوريين ارتعبوا وتوقفوا عن كتابة يبثون من خلالها قهرهم، وقد كتبت امرأة كانت لامعه في انتقاد وضع الكهرباء في سوريا بكتاباتها الجريئة الصادقة خفيفة الظل، كتبت (وكان وقتها عيد الحب) نحن ووزارة الكهرباء غرام دائم، أحلى عيد حب مع وزارة الكهرباء.

تم التدجين بالكامل. تذكر السوريون أن للحيطان آذاناً وأن الفيس بوك مُراقب وكل كلمة يكتبونها قد تجرجرهم إلى فروع الأمن بتهمة (وهن شعور الأمة) وصارت عبارات من مثل (نيالو مات وارتاح) و (نحن أموات ولسنا أحياء…) أقوال يومية في حياة معظم السوريين .سوريا وطن الظلام وأن تقتل نور الأمل وحب الحياة في نفوس الناس وتُجرمهم على كلمات كتبوها فهذا هو الموت.

الطب البديل خيار استراتيجي لمن لا يملك ترف الاختيار

الطب البديل خيار استراتيجي لمن لا يملك ترف الاختيار

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

الطب العربي، طب الأعشاب، الطب البديل، كلها أسماء “لمصلحةٍ” واحدة، وكلها معاً، صارت هدفاً للسوريين. لا يوجد رقم دقيقعن مدى استخدام هذا النوع من الطب الشعبي، ولكن الفقر والجوع دفع بالكثيرين للجوء لهذا الطب فحسب تقديرات الأمم المتحدة أكثر من 90 بالمئة من السوريين يعيش تحت خط الفقر المباشر، أي أنّ نتاج الفرد منهم لا يتخطى دولارين في اليوم الواحد. وعلى أرض الواقع فحتى مبلغ دولارين في اليوم هو حلم بعيد المنال لمعظم المواطنين، فمتوسط راتب الموظف السوري شهرياً هو خمسون ألف ليرة سورية أي ما يعادل 15 دولاراً أمريكياً على حسابات السوق السوداء، وهي حسابات يُحظر التعامل بها في سوريا، سراً أو علانية، إلا أنها تحكم الشارع والتجارة والأسواق والحياة اليومية، فالجميع في الداخل السوري يعمل في المضاربة.

في ضوء هذا الحال، لجأ الكثير من السوريين إلى الطب البديل، لأسباب واضحة، على الصعيد العام ترتبط بالشح الدوائي الخطير في سوريا من جهة، وانهيار المنظومة الطبية من جهة ثانية، فضلاً عن ارتفاع أجور المعاينات الطبية بما لا يتناسب بأي شكل مع الدخل السوري (وصلت معاينة شريحة كبيرة من الأطباء إلى عشرة آلاف ليرة سورية)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأدوية الكيميائية الموصوفة من قبل الأطباء (إن وجدت) فإنها إلى جانب المعاينة قد تكلف صاحبها راتبه كاملاً، وفي أحسن الأحول ثلثه أو نصفه.

ولتوضيح تجارب السوريين في هذا الإطار يقول سامي المعراوي الذي وجد ضالته في الطب البديل: “أقل كلفةً وعناءً ومالاً وجهداً وهو علاج طبيعي مئة بالمئة”. ويضيف عن تجربته مع المرض والأطباء والمشافي التي استنزفت مدخراته المالية: “لديّ مشكلة في الكلى، وعانيت منها طويلاً، وكلفتني الكثير من الأموال دون أن يتفق الأطباء على علاج واحد، حتى لجأت إلى أحد العطارين (العطار اسم شعبي لمن يعمل في الأعشاب) بعد أن سمعت عنه الكثير، وصف ليّ أعشاباً ومغلي الماء بالأعشاب، واظبت على الدواء، بت أشعر أنني الآن أفضل”.

وتعتبر مهنة العطارين نداً للطب التقليدي الذي يشن عليها على الدوام حرباً كبرى، إذ يرى المجمع الطبي أن الطب التقليدي والأدوية المصنعة وجدت لعلاج كل الأمراض نسبياً، في حين أنّ الطب الشعبي يعتريه ما يعتريه من النصب والسرقة والاحتيال. ويتفق الأطباء أن خلطات الأعشاب تفيد طبيعياً بحالات معينة ومؤقتة للغاية (غير مزمنة). فأعشاب كإكليل الجبل واليانسون والزعتر البري والزوفا والمليسة والميرمية والبابونج والشيح والزعفران والزنجبيل والقرفة والكمون وسواهم، تفيد في حالات معينة، كالمغص والصداع والإسهال والتشنج العضلي والمعوي والمفاصل والجيوب والقولون وآلام الظهر العضلية المؤقتة وغيرها؛ ولكنها حكماً لن تغني مريض السرطان عن الجرعات، ولن تعالج تلف الكبد، وبالضرورة فإن الديسكات التي تحتاج جراحة عصبية لن تشفى بالكمون والليمون مثلاً، ولن تكون بديلاً عن الدواء أولاً والمنفسة ثانياً في حال التدهور الصحي لمرضى الكورونا المعروف بـ كوفيد-١٩.

يعتقد المعالج النفسي بشار الماجد أنّ الأمر كلّه مرتبٌط بالحالة النفسية لمتلقي العلاج: “كثيرٌ من الناس يؤمنون بفعالية هذه العلاجات، وهي عادات متوارثة غالباً، نجدها في المجتمعات المغلقة التي تحكمها العادات والتقاليد والقصص المتوارثة، إذن، القصة كلها مرتبطة بالعامل النفسي، وحقيقةً فإن لهذا العامل  دوراً كبيراً للغاية في تحسن مفترض لأي مريض، ولكنه تحسن نفسي غير عضوي وهنا المشكلة، فارتياح الشخص لا يعني أن حالته المرضية لا تتطور، وبالمقابل فمن الممكن أن يحدث العكس تماماً، كل شيء وارد”.

ويرفض العطار أبو هاشم أيّ اتهام بالنصب أو الاحتيال مشدداً “هذا ما وجدنا آباءنا عليه”، ويعتقد من وجهة نظره أنّ العلاج كله يكمن في الطبيعة، ليتساءل حول كيف كان يتعالج الأجداد والقدماء قبل وجود المستخلصات الكيميائية: “نحن طب قائم بقوة العرف، وعشرات الحالات تشفى على أيدينا وهناك الكثير من الأمثلة، نحن نبيع منتجاً طبيعياً والعلاج على ربّ العالمين”.

لبنان والدواء إلى سوريا

لعب إغلاق الحدود بين البلدين دوراً في الانتعاش المرحلي لسوق الأدوية الطبيعية، فالبلد الذي كان متنفساً دوائياً-اقتصاديا لسوريا ما عاد كذلك. فبعد حادثة المرفأ المحزنة بات لبنان نفسه يعاني أزمة دوائية خانقة.

وكان نقيب الصيادلة اللبنانيين ​غسان الأمين​ قد ذكر أواخر العام الماضي أن “هناك أدوية مفقودة من ​الصيدليات​ وذلك بسبب تهافت الناس على شرائها وتخزينها”، مشيراً الى أنه تم “وضع خطة لترشيد دعم ​الدواء​، وتناقلتها وسائل الإعلام بكل أشكالها، الا أنه لليوم لا قرار للحكومة بتبني الخطة، ولا تبني لهذه الخطة من ​مصرف لبنان​ لذلك تتهافت الناس على شراء ​الأدوية​ وتخزينها في المنازل”.

وفي حديث للأمين لصحيفة “الشرق الأوسط” في أيلول/سبتمبر الفائت كان قد قال علانيةً أنّ “مخزون الدواء في المستودعات الذي كان يكفي لستة أشهر عادة، بات لا يكفي لأكثر من شهر ونصف الشهر”، مؤكداً حينها أنّ مشكلة فقدان الدواء مستمرة.

وفضلاً عن كل ذلك لعبت عقوبات قيصر/سيزر دورها في الملف، فلبنان الآن مهدد بعقوبات اقتصادية شاملة وقاسية في حال أجرى أي تعاملٍ اقتصاديٍ مع سوريا بحسب ما نصت بنود القانون الأمريكي، ما خلق مشكلةً مضاعفة للبلدين، فسوريا التي كانت مصدراً دوائياً للبنان في سنوات حربها الأولى باتت الآن بأمس الحاجة لأي دواء من لبنان، سيما مع توقف حركة النقل بين البلدين بشكلها الرسمي وما كان يصحبها من “تجارة الشنطة”، وهي نوع من أنواع التهريب البسيط من خلال السائقين بين البلدين، ليبقى ملف التهريب بشكله العام على المعابر غير الشرعية قائماً، ولكنه دون فائدة يمكن التعويل عليها، فلا لبنان لديه فائض دوائي، ولا سوريا لديها ما تقدمه للبنان، على الرغم من أنّ سوريا أقرت غير مرة إعفاءات ضريبية على إدخال المواد الأولية من لبنان، إلا أنّ عقوبات سيزر أثارت فوضى في الحسابات المحلية والإقليمية وحتى الدولية.

كورونا وصراع المصالح

كانت قد سجلت أول حالة بفيروس كورونا كوفيد-١٩ في سوريا قبل تطبيق القانون الأمريكي بثلاثة أشهر تقريباً، تحديداً في الثاني والعشرين من آذار/مارس الماضي، مما خلق ضغطاً إضافياً على القطاع الطبي-الدوائي في سوريا، فالبلد المحاصر ليس بمقدوره الاستيراد بأي شكل، وبالتالي برزت المشاكل الصحية التي تتعلق بالاستيعاب المرضي من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تأمين منافس وأدوية مؤقتة تغطي مرحلتي الانفجار المرضي اللتين مرت سوريا بهما، ليطفو إلى السطح سؤال يتداوله الشارع السوري: أين الحلفاء؟، وهم الأفضل في المجال الطبي والتقني والنفطي. بيد أنّ مؤشر الأيام يقول أنّ هؤلاء الحلفاء لا ينظرون إلى الشعب السوري بعين المنطق التشاركي، إنما ينظرون إلى سوريا من منطلق الكعكة الواجب تقاسمها بحدّة وتعزيز المكاسب على الأرض، فالعسكر هم العسكر، وليتولى السوريون أمرهم، هذا ما يقوله الواقع، فلا المنظومة الطبية بخير، ولا القطاعات الخدمية بحال جيد، فسوريا اليوم صارت “جمهورية الطوابير”، الطوابير بمعناها الخدمي، والطوابير بمعناها العسكري.

هل هو “الفصل الاخير” من المفاوضات السورية-الاسرائيلية؟

هل هو “الفصل الاخير” من المفاوضات السورية-الاسرائيلية؟

كانت سوريا وإسرائيل، بفضل وساطة أميركية، على حافة توقيع اتفاق سلام في نهاية فبراير (شباط) 2011، قبل اندلاع الاحتجاجات ضمن «الربيع العربي». صاغ الوسيط الأميركي مسودة اتفاق «ذهبت أبعد بكثير من أي ورقة سابقة»، وتضمنت قطع دمشق لـ«العلاقات العسكرية» مع طهران و«حزب الله» اللبناني، و«تحييد» أي تهديد لإسرائيل، مقابل استعادتها مرتفعات الجولان السورية المحتلة من إسرائيل، إلى خط 4 يونيو (حزيران) 1967.

هذا ما أكده لـ«الشرق الأوسط» مسؤولون كانوا منخرطين في المفاوضات التي قادها المبعوث الأميركي فريد هوف بين الرئيس بشار الأسد ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتضمنت عقد جلستين على الأقل مع وزير الخارجية الراحل وليد المعلم، والمستشار القانوني رياض داودي، بحضور السفير الأميركي السابق روبرت فورد. وكان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ونائبه وقتذاك جو بايدن (الرئيس الحالي)، على علم بهذه المفاوضات السرية، مع انخراط كبير من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. ولم يتوفر تعليق رسمي على مضمون هذه المفاوضات من دمشق التي تعلن دائماً التمسك بـ«استعادة كامل الجولان» و«العلاقة الاستراتيجية مع إيران».

– عرض مثير

كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري قال في كتابه «كل يوم هو يوم إضافي» إن الأسد بعث إلى الرئيس أوباما مقترحاً لإقامة سلام مع إسرائيل، وإن نتنياهو عندما اطلع على الاقتراح وجده «مثيراً للدهشة». وقال كيري إنه في عام 2009، بينما كان يتولى رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، زار دمشق وتناول في اجتماع مع الأسد أموراً عدة، بينها اتفاق السلام مع إسرائيل، في ضوء أن المحاولات السابقة في ظل حكومات إسحق رابين وشيمون بيريز وإيهود باراك وأولمرت ونتنياهو (خلال فترته الأولى بين 1996 و1999) انتهت بالفشل.

وقال كيري: «سألني الأسد ما الذي يحتاج إليه الأمر للدخول في مفاوضات سلام حقيقية، على أمل ضمان عودة الجولان التي فقدتها سوريا لحساب إسرائيل عام 1967، أجبته بأنه إذا كان جاداً، فعليه تقديم مقترح غير معلن. وسألني عن الصورة التي ينبغي أن يكون عليها الاقتراح، فشاركت معه أفكاري. وبالفعل، أصدر توجيهات إلى أحد كبار مساعديه بصياغة خطاب من الأسد إلى أوباما». وكتب كيري أنه في هذا الخطاب، طلب من أوباما دعم محادثات سلام جديدة مع إسرائيل، وأعلن «استعداد سوريا لاتخاذ عدد من الخطوات، مقابل عودة الجولان من إسرائيل».

وبعد اجتماعه مع الأسد، توجه في اليوم التالي جواً إلى إسرائيل، وجلس مع نتنياهو الذي كان قد عاد إلى السلطة بعد 10 و«أطلعته على خطاب الأسد، فشعر نتنياهو بالدهشة من أن الأسد على استعداد لقطع كل هذا الشوط الطويل، والوصول إلى نقطة أبعد بكثير عما كان على استعداد لتقديمه من قبل».

وذكر كيري أنه بعدما عرضه على نتنياهو، حمل «عرض الأسد» إلى واشنطن، وحاولت إدارة أوباما اختبار مدى جدية الرئيس السوري، من خلال طلب اتخاذ «إجراءات لبناء الثقة» تجاه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بينها وقف بعض شحنات الأسلحة لـ«حزب الله»، الأمر الذي لم يحصل. وكتب كيري: «أتذكر أنني سمعت أن الأسد استمر في نمط السلوك ذاته تماماً تجاه (حزب الله) الذي أخبرناه أن يتوقف عنه؛ كان ذلك خيبة أمل، لكنه لم يكن أمراً مفاجئاً».

– ضربات إيرانية

بعد انطلاق مفاوضات السلام عقب مؤتمر مدريد للسلام في 1991، جرت محاولات بين سوريا وإسرائيل بلغت ذروتها مع رابين عبر مفاوضات ما يعرف بـ«أرجل الطاولة الأربع»: الانسحاب، وعلاقات السلم، وترتيبات الأمن، والجدول الزمني، وتضمنت اجتماعات بين رئيسي أركان سوريا وإسرائيل، ومفاوضات سرية وعلنية تضمنت الالتزام بـ«الانسحاب الكامل» من الجولان، وبحث إقامة «علاقات سلم طبيعية» وترتيبات أمنية، والبحث في فتح سفارات وبوابات حدودية على الخط المفترض لـ4 يونيو (حزيران) 1967.

وبعد اغتيال رابين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، حاول بيريز «التحليق في السماء باتفاق سلام مع سوريا»، واستعجل المفاوضات وصولاً إلى معاهدة. وفي بداية 1996، بدأت مفاوضات ثنائية، لكنها انهارت بعد عمليات انتحارية في تل أبيب وعسقلان والقدس. وقتذاك، أبلغ الوفد الإسرائيلي نظيره السوري، في جلسة تفاوض بأميركا، أن «إيران تقف وراء الهجمات لإفشال المفاوضات»، وأنه «يجب أن تدين سوريا العمليات الإرهابية»، حسب قول مصدر مطلع. انهارت المفاوضات، وذهب بيريز إلى عملية «عناقيد الغضب» في لبنان التي أخرجته (بيريز) من الحكومة.

وبعدما تسلم نتنياهو الحكومة 1996، «فاوضه» الرئيس الراحل حافظ الأسد، عبر رجل الأعمال الأميركي رونالد لاودر على اتفاق تفصيلي «متقدم جداً» عام 1998. كما أن خليفة نتنياهو، إيهود باراك، عرض لدى استئناف المفاوضات، وانعقاد لقاء بينه وبين وزير الخارجية السوري الأسبق فاروق الشرع، برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، الانسحاب من الجولان حتى خط 4 يونيو (حزيران)، مقابل السلام وترتيبات الأمن. وعقدت جلسات عمل تفصيلية في شيبردزتاون، قرب واشنطن، مع تركيز على ملف المياه الشائك، حيث قال الإسرائيليون إن «المياه خط أحمر»، وقدم الأميركيون وقتذاك «ورقة عمل» كانت بمثابة مسودة اتفاق سلام.

باراك أبلغ الأميركيين في ختام جولة المفاوضات في بداية 2000 بأنه لا يستطيع عقد اتفاق سلام بسبب «الوضع الداخلي المعقد» الذي يستدعي ذهابه إلى إسرائيل، ثم العودة إلى بلدة شيبردزتاون لاستئناف المفاوضات، لكنه لم يعد.

وفي مارس (آذار) 2000، كانت آخر محاولة في عهد الأسد (الأب) الذي كان يعاني من مشكلات صحية، عبر لقائه كلينتون في جنيف. أيضاً انهارت القمة السورية – الأميركية بعد 20 دقيقة، جراء الخلاف حول الوصول السوري إلى شاطئ بحيرة طبريا، وعرض كلينتون خريطة لخط 4 يونيو (حزيران) وشاطئ طبريا أمام الأسد كان قد رفضها سابقاً.

وتسلم بشار الأسد الرئاسة في منتصف 2000. وبعد دخول سوريا في عزلة، إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 2005، قدمت دمشق مرونة بالتعبير عن رغبتها في مفاوضات مع تل أبيب لـ«فك عزلة واشنطن عبر عملية تفاوضية مع تل أبيب». وقتها، رعت تركيا في 2008 محادثات وصلت إلى حد التفكير بترتيب مفاوضات مباشرة، بوساطة هاتفية من رجب طيب إردوغان والأسد وأولمرت نهاية 2008، قبل أن تنهار بقصف إسرائيلي لقطاع غزة نهاية ذاك العام.

انتهت العزلة الأوروبية، ثم الأميركية، وجاء روبرت فورد سفيراً أميركياً إلى دمشق. وفي 2010، بنت واشنطن على جهود سابقة، بينها جهود أنقرة، ورغبة إدارة أوباما بتفعيل مسار السلام، وتعيين مبعوثها جورج ميتشل لاختبار مسار التفاوض السوري – الإسرائيلي. واتسمت المحاولة الأخيرة بالسرية. وكان عدد العارفين بمسار التفاوض محدوداً في كل دولة. ومن الجانب الأميركي، كان على علم كل من أوباما وبايدن وكلينتون، ومستشار الأمن القومي توم دونيلون، والسفير الأميركي في تل أبيب دان شابيرو، والسفير الأميركي في دمشق روبرت فورد. ومن الجانب السوري، علم بالمفاوضات بدرجات متفاوتة كل من الأسد والمعلم وداودي، حيث عقدت جلسات بين المعلم وداودي وهوف وفورد. وفي إسرائيل، حصرت لقاءات هوف بنتنياهو في مقر الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء، بحضور باراك وزير الدفاع.

– الأسد-هوف

آخر لقاء ضمن هذه الوساطة، كان بين الأسد وهوف في 28 فبراير (شباط) 2011، أي في خضم «الربيع العربي» الذي غير نظامين في ليبيا ومصر، وبدأت مظاهراته في دمشق. وروى هوف الذي عمل على صوغ مسودة الاتفاق أن الأفكار تضمنت تخلي دمشق عن «العلاقات العسكرية» مع طهران و«حزب الله»، مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الجولان إلى خط 4 يونيو (حزيران).

وكان هوف، القائد السابق في الجيش الأميركي الخبير في مجال ترسيم الحدود بالمناطق المتنازع عليها، أول شخص رسم على الأرض خط 4 يونيو (حزيران) في بدايات تسعينيات القرن الماضي. ويروي فورد لـ«الشرق الأوسط» أن هوف لدى وصوله إلى دمشق، طلب عدم حضور لقائه (هوف) مع الأسد، وأنه وافق على ذلك شرط أن ينام هوف في منزله، مقر السفير الأميركي في دمشق. وقال: «اتصلت به هاتفياً على خط مفتوح كي تسمع المخابرات السورية حديثنا، وقلت: أنا موافق شرط أن تنام في مقر الإقامة الخاص بالسفير، أنت ومساعدك، كي يعرف السوريون أننا فريق واحد. وهذا ما حصل. كما أن هوف أخبرني بمضمون اللقاء، وأترك له ذكر تفاصيل ما حصل في اللقاء مع الأسد، والمفاوضات عموماً».

وقد تضمنت وثائق هوف، حسب تقارير إسرائيلية نشرت في 2012، أن المفاوضات اعتمدت على استعداد نتنياهو للعودة إلى حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، ما يعطي دمشق السيطرة الكاملة على الجولان، مقابل اتفاق سلام شامل، يتضمن «توقعاً» إسرائيلياً بقطع العلاقات بين سوريا وإيران.

وحسب اعتقاد مسؤولين مطلعين على مضمون المحادثات، كان هوف «مقتنعاً بأن اتفاق السلام ممكن، بحيث ينهي الأسد علاقته مع إيران و(حزب الله)، ويتحول في تحالفاته إلى أميركا والدول العربية المعتدلة». وقال أحد المسؤولين لـ«الشرق الأوسط»: «لم أشاهد مسودة اتفاق سلام؛ كانت بداية للتفاوض، وليس النهاية». وذكر مسؤول آخر: «لم يكن واضحاً أن الطرفين اتفقا على جدول زمني محدد، أو توصلا إلى حل مسألة المياه في الجولان. سوريا كانت تقول إنه لا حق لإسرائيل بالمياه وراء خط 4 يونيو (حزيران)، فيما كانت إسرائيل تقول إنه حتى لو يكن لديها جيش وراء خط 4 يونيو (حزيران)، فإنها تريد حضوراً لوجيستياً يسمح بالوصول إلى المياه». وكان الخلاف حول المياه وشاطئ طبريا أحد الأسباب التي أدت إلى انهيار قمة الأسد – كلينتون في مارس (آذار) 2000، حيث أصر الرئيس السوري الراحل على «وضع قدميه» في مياه البحيرة، الأمر الذي رفضه باراك وقتذاك، بل أقام الإسرائيليون طريقاً محيطاً بالشاطئ يجعل الوصول السوري إليها متعذراً دون اتفاق لا يشوبه أي غموض.

هناك من يقول إن وساطة هوف كانت «شرطية – افتراضية»، كما حصل في منتصف التسعينيات، عندما قاد وزير الخارجية الأميركي الأسبق وارن كريستور مفاوضات تحت عنوان «ماذا لو؟»، تضمنت اقتراحاً للأسد: «ماذا لو تعهد رابين بالانسحاب الكامل من الجولان؟ هل أنت مستعد لعلاقات سلام (تطبيع)؟». وقتذاك، وضع رابين في جيب كريستور «وديعة رابين» التي تضمنت الاستعداد للانسحاب الكامل من الجولان، إذا وافق الأسد على مطالب تتضمن علاقات السلم وترتيبات أمنية. ويقول أحد المسؤولين إنه في وساطة هوف، أبدى نتنياهو «الاستعداد للانسحاب الكامل من الجولان، إذا وافق السوريون على اتفاق سلام يتضمن تغيير التوجهات الإقليمية، وقطع العلاقات مع إيران».

وقال مسؤول أميركي سابق على اطلاع على الملف لـ«الشرق الأوسط»: «فيما يتعلق بجدية الطرفين، لا شك في ذلك أبداً. المفاوضات كانت شرطية: الإسرائيليون كانوا يريدون تغييراً استراتيجياً في التوجه السوري، وسوريا كانت تريد إعادة كل الأراضي حتى خط 4 يونيو (حزيران)، وقد حصل كثير من التقدم من الطرفين». وزاد: «أميركا لم يكن لديها أي شك بجدية المفاوضات. الأسد ونتنياهو كانا جديين لمعرفة إلى أي حد سيذهب الطرف الآخر. أيضاً كان هناك تقدم كبير من نتنياهو في موضوع الأراضي أكثر من أي وقت سابق. لقاء هوف مع الأسد في 28 فبراير (شباط) أعطى إشارة واضحة لما يمكن للأسد أن يقوم به».

ويحرص الأميركيون على القول إن المسودة الخطية للاتفاق كانت أميركية، وهو «أمر مهم، ذلك أن المبعوث الأميركي ميتشل لم يقم بصوغ أي ورقة بين نتنياهو والرئيس محمود عباس (أبو مازن)». أيضاً، هناك تأكيد أميركي على عدم حصول لقاء مباشر سوري – إسرائيلي، بل كان التفاوض عبر هوف.

– بناء ثقة

تكتسب المحاولة الأخيرة من المفاوضات أهمية عشية الذكرى العاشرة لاندلاع الاحتجاجات السورية، خصوصاً أن موسكو (اللاعب الرئيسي في سوريا) تقود وساطة لـ«بناء الثقة» بين دمشق وتل أبيب، تضمن عناصر بينها صفقة تبادل الأسرى، وإعادة رفاة جنود إسرائيليين، ورعاية عودة العمل بـ«اتفاق فك الاشتباك» في الجولان 2018، وإبعاد إيران وميليشياتها عن جنوب سوريا.

وهناك أهمية أخرى بعد تردد أنباء عن اهتمام دول عربية بفتح أقنية بين دمشق وتل أبيب، أو عقد اجتماعات سرية لاختبار إمكانات عقد اتفاق سلام، و«الابتعاد» عن إيران، مقابل تقديم «حوافز» مالية تخص إعمار سوريا وحل مشكلاتها الاقتصادية.

لم تبد تل أبيب اهتماماً علنياً بالمفاوضات السياسية، خصوصاً بعد إعلان الرئيس دونالد ترمب تأييد «السيادة الإسرائيلية» على الجولان في 2019، واستمرارها في شن غارات على «مواقع إيرانية» في سوريا. كما أن دمشق لم تبد اهتماماً علنياً باتفاق سلام لا يتضمن «الانسحاب الكامل» من الجولان، و«تغامر فيه بعلاقتها الاستراتيجية مع إيران».

ومن جهته، قال فورد لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون صعباً على الأسد حالياً توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، إلا إذا حصل في المقابل على الكثير، لأنه يحتاج حالياً إلى الدعم من إيران وميليشياتها و(حزب الله)؛ إذا خرجوا من سوريا، فمن سيساعد النظام على السيطرة على البادية السورية وحمص والسويداء وجزء من درعا؟». وأضاف: «هل ستحصل دمشق على مساعدات مالية غربية حتى لو وقع الأسد اتفاق سلام وفتح سفارة إسرائيلية في دمشق؟ من الصعب تدفق الأموال وإزالة العقوبات بعد كل الجرائم التي حصلت في سوريا. من الممكن إزالة بعض العقوبات الأميركية الخاصة بإدراج منظمات إرهابية أو التدخل في لبنان أو بعض الاستثناءات، ووصول مساعدات عربية أو أوروبية، لكن قانون قيصر (الذي بدأ تنفيذه منتصف العام الماضي) لن يلغى ببساطة»، متابعاً: «لن يكون هناك تعاطف في أميركا مع الأسد، حتى لو تم توقيع اتفاق سلام. هناك حدود لما يمكن أن يقدم في مقابل أي اتفاق سلام».

في المقابل، قال مسؤول عربي مطلع على موقف دمشق: «صعب أن يقبل النظام توقيع اتفاق سلام دون ضمان واضح باستعادة كامل الجولان. صعب أيضاً أن يبتعد النظام كلياً عن إيران».

وبين الموقفين، يقول مسؤول كبير مطلع على الوضع في سوريا وإسرائيل والمنطقة وأميركا: «ربما كان ذلك الفصل الأخير في جهود البحث عن اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل، كما عرفناه في العقود الماضية. قد يحصل، في أحسن الأحوال، تفاهم أو اتفاق جديد، لكنه مختلف عما قرأناه وفاوضنا لأجله لعقود».

  • نقلا عن “الشرق الاوسط”
سوريون في بلاد “المسبار”: بين الأمل والألم

سوريون في بلاد “المسبار”: بين الأمل والألم

لم يكن حدث وصول المسبار الإماراتي إلى المريخ حدثاً عادياً في تاريخ دولة الإمارات، ولم يكن هذا الحدث بطبيعة الحال ليمرُّ على الشارع العربي دون أن يشهد مداً وجزراً وآراء متباينة تصل حد العراك الالكتروني أحياناً. الأمر ليس غريباً، فالمشهدية ذاتها تتكرر مراراً تحت مسميات مختلفة، ذلك أنّ الشارع ذاته منقسم على نفسه لدرجة بات قادراً معها على تسخيف أي إنجاز، إذا ما استثنينا أنّ “الشيف بوراك” تمكن من لمّ الصف خلفه. أما فيما يتعلق بالدين والعرق والسياسة والجنس والتكنولوجيا وسواهم فتخضع هذه المواضيع لأخذ ورد ينتهي غالباً بالتكفير والتهديد بإراقة الدماء، ولا يحتاج الكثيرون إلى ذرائع منطقية، فالفتاوى جاهزة وفضفاضة على قاعدة أنّ المقصلة تتسع لجميع الرؤوس.

بالطبع حضرت سوريا على ساحة الرأي حول هذا الحدث، لينقسم الشارع هذه المرة إلى قسمين، قسم بارك لدولة الإمارات وقياداتها وقدم أخلص الأمنيات بدوام تفوقها؛ وقسمٌ راح يسخف الإنجاز ويتندر حوله متذرعاً أنّ كل ما في الإنجاز هو أجنبي باستثناء أرض إطلاق المسبار فكانت عربية. ولم يستطع البعض ممن أبدى رأيه ألّا يغلب السياسة على الحدث، وهنا كان انقسامٌ آخر، فسوريون مدحوا الإنجاز لمجرد مدح دولة افتتحت سفارتها في عاصمتهم وأعادت تمثيلها القنصلي كأول دولة خليجية تكسر العزلة الدبلوماسية حيال دمشق، وقسمٌ آخر رفض الإنجاز على قاعدة أنّ الإمارات عينها كانت ركيزةً سابقة في الحلف الخليجي ضد دمشق، وبين الاثنين برز رأيٌّ آخر تبنته بعض المعارضة على قاعدة أنّ انفتاح الإمارات نحو دمشق يمثل طعنةً لهم.

إذن، لم يستطع السوري بعد هذه السنوات أن يقول رأياً يتبناه بالقناعة المجردة والخالية من العواطف، إذ نجح مرةً جديدة في خلق صراعٍ دون مبرر أو جدوى، فلا هذه الآراء أغنت الإمارات، ولا أنقصت من شأن إنجازها، بيد أنّه اتضح بالدلائل المتتالية أنّ الشارع السوري يبحث عن الخلاف ولو اضطر لخلقه من تحت أظفاره.

الجميع يريد الإمارات

في الظل وخلف الكواليس وفي العلن أيضاً يسعى كثيرون، الفئة الشابة بالعموم، للحصول على فيزا تخولهم الذهاب إلى الإمارات، وغالباً رحيلٌ بلا عودة، نيةٌ تقرأها بين سطور الناس وتدويناتهم، تحديداً أولئك الذين حولوا الحدث إلى كوميديا سوداء، كوميديا من النوع الذي يقارن بين امتلاك الإمارات لإنجاز المسبار، وامتلاك السوريين لإنجاز البطاقة الذكية والطوابير الممتدة والقهر المقيم في يومياتهم.

المقاربة غير عادلة، فتفاوت الفرق الحضاري عززته عشر سنوات من الحرب في سوريا، الحرب التي دمرت أحياء وقرى، وقضت على الواقع الاقتصادي، ومزقت الأسر، وأنجبت الفقر، وكرست السواد، وفعلت ما فعلته في النفوس، قياساً ببلد استند على حاضره ليحجز دوره كخامس دولة حول العالم تصل إلى المريخ، وحقيقةً هي وصلت إلى المريخ بغض النظرعن أنّ عمرها عشرات السنين وعمر دمشق آلاف السنين، هذا تندرٌ آخر نشره سوريون على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.

الهالة الكبرى

يتخيل كل سوري يسعى للسفر إلى الإمارات بأنّ فرصاً من ذهب تنتظره هناك، وهذا ما حصل مع لمياء منصورة (سورية مقيمة في الإمارات)، حيث تخبرنا أنها قصدت دبي طمعاً بفرصة عمل ذات دخل مرتفع تقلب الموازين في حياتها قياساً بأي مفصل من مفاصل بلدها الأم، وعن تجربتها تقول: “سافرت إلى دبي بحثاً عن مستقبل أفضل، مستقبل مضمون، ولكنني اصطدمت بآلية التدرج الوظيفي المرهقة، لم يكن هذا ما اعتقدت، كان علي أن اجتهد أكثر مما تخيلت، وأن اكتسب خبرة كبيرة”.

عملت لمياء في وظيفة بشركة مقاولات، ولكنها بدأت تكتشف شيئاً فشيئاً أن الحلم الذي رسمته بدأ يخبو بريقه: “لكي أتدرج وأصل إلى مناصب عليا لا يجب أن أكون سوريّة، السوري لم يعد ورقة جوكر في الإمارات، لتحصل على مناصب كبيرة في شركات مهمة يجب عليك أن تكون من حملة الجنسية الأمريكية أو الأوروبية، الوضع تغير عما كان عليه قبل حربنا”.

لا يبدو الأمر أفضل عند فاتح (اسم مستعار – سوري مقيم في الإمارات) حيث يشارك: “لا أريد الحديث عن أي شيء يتعلق بمجيئي إلى الإمارات، لست مرتاحاً، لا أريد أن أتحدث عن الأمر، ولكن باختصار، ذهلت بالعمران والحياة وخذلت في كل ما عدا ذلك”.

البلد الذهبي

أما عبير العلي (سورية مقيمة في الإمارات) فقد سحرها الجو الإماراتي، وتعبر عن ذلك بندمها عن كل لحظة لم تقصد فيها دبي. تُلخص عبير وجودها الذي لم يمض عليه سوى عامٌ واحد بأنّ ما تراه هناك لا يصدق: “تشعر أنك إنسان، وبأنك للتو انتقلت إلى كوكب جديد، هنا تنبهر تماماً، كل شيء مختلف، النظافة، القانون، التنظيم، النظام العام، كل شخص معني بنفسه فقط”.

سرعان ما وجدت عبير فرصة عمل في متجر معروف للألبسة وبراتب عالٍ وتقول بتفاؤل: “أنت وصاحب العمل واحد، حقيقة أنت والجميع واحد، لا تمييز ولا تفرقة، الكل هنا إنسان له الحق بالحياة، هنا أنت حر من كل القيود والمشاكل والصراعات، هذا البلد يحتوينا ويحتوي غيرنا، والهدف يكمن في كله بالعمل لأجل الحياة”.

سفرٌ لدفع البدل

سوريون آخرون سافروا إلى الإمارات لأهداف أخرى بينها قضاء مدة تخولهم دفع بدل الخدمة العسكرية وفق ما تم إقراره من قانون الخدمة الإلزامية، هكذا فعل أحمد بركة (سوري مقيم في الإمارات)، حيث يقول:”جئت إلى الإمارات ووجدتُ عملاً بدخل جيد وكل ذلك بهدف جني مبلغ من المال لأدفع بدل خدمة العسكرية الإلزامية”. وحول سفره يقول: “قدمت أوراقي في أحد مكاتب السفر المعتمدة في سوريا، ثم سافرت إلى الإمارات، في الفترة الأولى تعذبتُ كثيراً حتى تعرفت على الجو واعتدت البلد، وعملت في معمل للشوكولا بينما كنت قد سجلت دورات لتقوية لغتي الإنكليزية، اللغة الأجنبية مطلوبة هنا في كل شيء تقريباً. الآن أعمل في فندق، وأعتقد أنني بعد دفعي للبدل، سأظلّ هنا في الإمارات، المستقبل هنا أفضل وأكثر إشراقاً”.

فقدان الكرامة والمستقبل المأمول

تروي سما إبراهيم (سورية مقيمة في الإمارات منذ أشهر) تجربتها بكثير من المرارة؛ فتفكيرها لا يزال متعلقاً ببلدها الأم، ولكنها رغم ذلك لا تفوت فرصة للمقارنة بين البلدين. وتعتبر سما أنّ سوريا قد استنزفت طاقتها وتفكيرها وحتى مستقبلها: “لم أكن أنوي بأي شكل أن أترك البلد، حتى أني كنت أحقد على من يفكر بهذه الطريقة، ولكنني أصبت بخيبة أمل، وصلنا لمرحلة كدنا نشحذ، ننام على أسعار ونستيقظ على أخرى، مقومات الحياة باتت معدومة، ويمكن القول حرفياً أنني ما عدت أحس بكرامتي”.

تقول سما أنها غادرت حين أحست بالعجز، وضياع المستقبل، وأنّ مصير شباب البلد يتجه نحو المجهول: “بإمكاني أن استخدم كل الكلمات القاسية لوصف مشاعري، من الغضب واليأس والقهر لاضطراري أن أترك بلدي، وثم أجد أنّ كل ما ينقصني هو هنا”.

تؤكد سما أنّ فرص العمل في الإمارات باتت قليلة جداً، سيما مع وجود نظام للترحيل في ظل الظروف القائمة، إذ يتوجب على الشخص إثبات نفسه والارتباط بعقد عمل واضح وصريح، وعن طريقة سفرها، وتقول: “العامل الذي ساعدني كثيراً هو أنني فتاة، لأنّ حصول الفتيات على فيزا أسهل من حصول الشبان عليها بكثير، عانيت في البداية من الغلاء في كل شيء هنا، ولكنني بدأت أتأقلم”.

ويبقى المشترك بين سوري سافر إلى الإمارات، وآخر ينتظر فرصةً للسفر، وثالثٍ متمسك بالبقاء، إيمانهم بأنّ سوريا ما عادت تشبه نفسها، وبأنّ حرب الاقتصاد والجوع أقسى من حرب العسكر والسلاح، وبين الحربين بلادٌ ممزقة ومصير مجهول يعصف بها وبحياة أولادها.

الفقر يدفع النساء لبيع شعرهن في سوريا

الفقر يدفع النساء لبيع شعرهن في سوريا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا”المعاناة اليومية في سوريا

تعد السنة الأخيرة من أسوأ الأعوام اقتصادياً التي مرت على سوريا خلال سنوات الحرب مما زاد من تأزم الوضع المعيشي لمعظم الأسر، ووصول نسبة الفقر إلى 90 في المائة مع انعدام فرص تحسين دخل الأسرة والارتفاع الفاحش في الأسعار. أدى هذا الوضع إلى لجوء الكثير من النساء إلى بيع  شعرهن أو  شعر بناتهن بسبب الحاجة المادية لتغطية نفقات الاحتياجات الأساسية من توفير المازوت للتدفئة أو مستلزمات المدارس أو بسبب الحاجة لتأمين دواء وعلاج أو حتى لتوفير الطعام.

فاطمة أم  لثلاث فتيات، واحدة منهن من ذوي الاحتياجات الخاصة وتحتاج إلى علاج ودواء بشكل مستمر؛ أجبرتها الظروف الاقتصادية السيئة إلى بيع شعر ابنتها البالغة من العمر 10 سنوات. وتقول السيدة الثلاثينية: “اضطررت لقصه وبيعه لأحضر الطعام والدواء لها ولأخواتها، وبسبب اضطراري للمال قبلت بيعه بثمن بخس رغم أنه كثيف وطبيعي منسدل لأسفل ظهرها، في البداية لم تقبل المسؤولة في مركز الحلاقة والتجميل شراءه بسبب العروض الكثيرة التي تأتيها من قبل النساء لبيع شعرهن، وعندما رأته وافقت على شرائه ولكن بمبلغ زهيد.” وتضيف بحرقة: “لو كان في حقيبتي ثمن ربطة خبز لما قمت ببيعه حينها.”

قبل عامين كانت تجارة الشعر الطبيعي في سوريا تقتصر على البيع والشراء في صالونات الحلاقة والتجميل وبشكل محدود. أما في الفترة الأخيرة مع  تزايد عروض بيع الشعر بشكل كبير، أصبح هناك من يعمل في بيع وشراء الشعر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حسب “هادي” الذي يملك صالون للحلاقة النسائية في المزة والذي أضاف: “خلال السنة الأخيرة زاد بيع الشعر بشكل كبير، سابقاً كان يعرض علي شراء الشعر قرابة السبع مرات في الشهر، أما خلال السنة الأخيرة  فقد  بلغت عروض البيع نحو 50 مرة شهرياً من مختلف المحافظات عبر الصفحة الرسمية للمركز.”

ويشير “هادي”  أنه في بداية العام الدراسي ومع تزايد المصاريف بالنسبة للعائلات السورية تزامناً مع الظروف الاقتصادية المنهارة في البلاد، تزايد  بشكل ملفت عدد النساء اللواتي يعرضن شعر بناتهن للبيع، ومعظمهن كان يبيع شعر ابنته ليشتري لها المستلزمات الدراسية من قرطاسية وغيرها. ويشارك “هادي”  إحدى القصص الإنسانية التي صادفته: “في بداية العام الدراسي زارتني سيدة تطلب قص شعر ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات لبيعه. عندما بدأت في القص، بدأت الفتاة بالبكاء وقالت لوالدتها أنها سوف تشتري بكل المبلغ أغراض المدرسة، لتبدأ السيدة بالتحدث عن ظروفها المادية وحاجتها للمال وعدم وجود معيل مع الارتفاع الفاحش بالأسعار مما اضطرها لبيع كل أغراض منزلها وما تملك”.

يُباع الشعر الطبيعي بالغرام، ويختلف سعر الشراء حسب نوع الشعر، ويتراوح سعر الغرام من 200 إلى 400  ليرة شراء من صاحبة الشعر، و يباع أيضاً بالغرام من 3000 إلى 3500  ليرة سورية ( 1 دولار). أقل وصلة شعر يبلغ سعرها في السوق 700 ألف ليرة سورية (230 دولاراً) وقد تصل للمليون ليرة (330 دولاراً) في الصالونات التي تقع في الأحياء الراقية.

تشتري الوصلة من صاحبة الشعر بين 70 – 100 ألفاً وتباع بين 700 ألف إلى المليون حسب وزنها وطولها، والطلب الكبير يكون على شعر الأطفال لأنه يكون كثيفاً وغزيراً ويكون طبيعياً غير معرض لصبغ أو حرارة السيشوار، وعلى أساس ذلك يقدر نوع الشعر كنخب أول أو ثاني أو ثالث.

كان يعتمد في سوريا في صنع وصلات الشعر أو الباروكات على الشعر المستورد من الهند والبرازيل الذي يخضع لمعالجة ويقوى ويصبح صالحاً لمدة سبع سنوات؛ بينما الشعر المحلي لا يخضع لمعالجات مما يجعل استمراريته لا تتجاوز السنتين في حال تم الاعتناء به. وبسبب الظروف الراهنة وصعوبة استيراد الشعر من الخارج، وحتى في حال الاستيراد فبعد الجمركة يصبح ثمن وصلات الشعر مرتفعاً جداً مما يقلل الطلب عليها. لذلك ومع انتشار ظاهرة بيع الشعر أصبح الإقبال على الشعر المحلي أكبر حسب أحد العاملين في تجارة الشعر الطبيعي مع الإشارة إلى نوعية الشعر السوري الممتازة وانخفاض سعره مقارنة بالمستورد.

مع ازدهار تجارة الشعر الطبيعي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المجموعات والصفحات العامة لعروض البيع والشراء، تحوي منشورات بيع الشعر الطبيعي وأغلبهم  لفتيات صغيرات ترفق مع صورة لشعر الفتاة قبل قصه ويطلب تسعيره، مع إرفاق عبارات مثل “جاهز للقص عند طلب الزبونة” أو تنشر صور لضفائر شعرهن مقصوصة  لإيجاد السعر الأفضل. تقول سناء (40 عاماً) والمقيمة في جرمانا في ريف دمشق، والتي عرضت شعر ابنتها للبيع مع إرفاق صورة لضفائر شعرها الذهبي الطويل: “عرضت شعر ابنتي للبيع لأجمع لها المبلغ اللازم لإجراء عمل جراحي في العين اليمنى ولم أكن أرغب بقبول المساعدات المادية من أحد، لتبدأ التعليقات السلبية والشتم من بعض الناس دون الالتفات لسبب وراء ذلك”.

يدير هذه المجموعات أشخاص يعملون كصلة وصل بين البائع والشاري، وجد هؤلاء مهنة جديدة تدر عليهم  دخلاً إضافياً. فمثلاً (هدى “22 عاماً” التي تدرس في كلية الهندسة المقيمة  في منطقة “دف الشوك” في ريف دمشق) أنشأت مجموعة على الفيسبوك تشتري من خلالها الشعر الطبيعي  وتبيعه، وجدت من خلالها مردوداً مادياً يساعدها على تغطية نفقاتها الجامعية، وتشرح الشابة: “بعد شراء الشعر والاتفاق على المبلغ، نقوم بمعالجة الشعر وحبكه ليصبح جاهزاً لنقوم ببيعه.”

تشير الشابة إلى أن انتشار بيع الشعر الطبيعي سبب ارتفاع السعر التي تحصل عليه صاحبة الشعر عما قبل السنتين الماضيتين، لأن النساء أصبحن يعرفن أن الشعر يباع بالغرام بينما قبل ذلك كانت السيدة تبيع شعرها بالجدولة كاملة بمبلغ معين، فأصبح سعر وصلات الشعر مغرياً نوعاً ما للنساء اللواتي يعانين من ضائقة مالية.