بواسطة هيفاء بيطار | سبتمبر 8, 2020 | Cost of War, غير مصنف
ليس وعي الشعب السوري بأهمية الطب النفسي هو ما جعل الكثير من السوريين يراجعون عيادات الأطباء النفسانيين، بل وحشية وقسوة الظروف التي يعيشونها وانسداد الأفق أمامهم جعلهم يبحثون عن قشة أمل يتعلقون بها لأنهم غارقون في آلام نفسية ويأس وخيبات قد تدفع الكثير منهم إلى الانتحار، وبالفعل حوادث الانتحار في سوريا كثيرة لكن لا يُعلن عنها في الإعلام الرسمي. وبما أنني عشت في اللاذقية وعاينت عن كثب أزمات الناس خاصة الجيل الشاب فقد هالني فعلاً الإقبال الشديد على عيادات الطب النفسي عساها تقدم لهؤلاء المعذبين في سوريا نوعاً من الحل أو العزاء.
بداية أحب أن أنوه بتعريف الصحة النفسية في الطب النفسي: لا يجب أن نقول عن إنسان أنه بصحة نفسية جيدة وطبيعية إن لم يخضع لإختبارات في الطب النفسي. وعليه لا يجوز أن نعتبر أنفسنا وغيرنا أصحاء نفسياً إن لم نخضع لإختبارات في الطب النفسي. ولأنني مهتمة جداً بالحالة النفسية للشعب السوري وكوني طبيبة عيون لي أصدقاء أطباء اختصاصيون في الطب النفسي. وكنت أزورهم في عياداتهم وأحياناً يكون لي دور في الإصغاء للآلام النفسية للمرضى.
1-معاينة الطبيب الإختصاصي في الطب النفسي تتراوح بين 4000 ليرة سورية و6000 ليرة سورية، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة لمواطن سوري موظف (معدل الراتب في الدولة السورية 30 دولاراً) أو محدود الدخل وثمة الكثير من معدومي الدخل تقوم الجمعيات الخيرية بمساعدتهم. ومنظرهم وهم محتشدون في قاعة انتظار الطبيب النفساني يُشبه تماماً الاحتشاد على الأفران أو مراكز توزيع المعونات الغذائية، معذبون سوريون طاش صوابهم من القهر والفقر والظلم ورداءة الحياة وموت أولادهم يبحثون عن أي مُسكن لآلام أرواحهم، لا أنسى عبارة قالها لي أب سوري: لولا العار لانتحرت، لكن سيُوصم أولادي كل عمرهم بوصمة انتحار والدهم .
2- لعظيم الأسف فإن معظم الأطباء النفسانيين في اللاذقية (المدينة التي عشت فيها كل عمري) لا يُعطون المريض النفساني حقه، لأن ضغط العمل والمراجعين كبير جداً عليهم، لهذا لا يتجاوز اللقاء بين المريض النفساني والطبيب خمس دقائق، يتخللها قطع الحديث باتصالات هاتفية دائمة للطبيب، ونفاذ صبر الأطباء فما أن يبدأ المريض النفسي بالكلام ومن العبارة الأولى حتى يعلو صوت الطبيب النفساني مُشخصاً حالته: عندك اكتئاب أو شخصيتك اكتئابية أو عندك وسواس قهري أو عندك ميول انتحارية أو فصام في الشخصية الخ! يا للسهولة والخفة وانعدام الوجدان التي تُشخص فيها الأمراض النفسية في سوريا، ولماذا يكون لدينا طب نفسي هام ويحترم المريض وكل ما في حياة السوري رديء؟ وأظن الأطباء النفسانيين يجدون عزاء كبيراً لضميرهم لأنه لا يوجد سوى دواء نفساني واحد وحيد يُعطى لكل حالات الأزمات النفسية، وهو دواء سيئ بإعتراف العديد من الأطباء النفسانيين ومصدره إيران أو الهند، وثمة أدوية أخرى مهدئة تساعد في دعم تأثير الدواء الرئيسي. الحوار معدوم بين الطبيب النفساني والمريض، أي لا يتمكن المريض من الفضفضة بآلام روحه، ويشعر المريض أنه دفع مبلغاً كبيراً على أمل أن يصغي إليه الطبيب النفساني ويخرج من العيادة بخيبة أمل يحمل وصفة طبية مُوحدة لكل المرضى عامة.
3- الكارثة الأشنع هي الانقطاع المفاجئ للأدوية النفسية والمهدئة والمنومة، كذلك انقطاع العديد من الأدوية المهمة الأخرى كأدوية الغدة والقلب والضغط وغيرها، إضافة لارتفاع سعر الأدوية دفعة واحدة في سوريا 300 بالمئة دون أن يزيد الراتب قرشاً!
4- معروف أن الأدوية النفسية حتى ترفع مستوى السيروتونين في الدماغ (والذي يُسمى هورمون السعادة) حيث ينقص هذا الهورمون كثيراً لدى مرضى الإكتئاب وأمراض نفسية أخرى، تحتاج لأشهر من تناولها تترواح في الحد الأدنى ستة أشهر وقد يستمر المريض في تناولها ثلاث سنوات وأكثر. وفي بعض الأمراض النفسية كالفصام يتناول المريض الدواء النفسي مدى الحياة، ويجب أن يتم قطعه بالتدريج على الأقل طوال أسبوعين أو ثلاثة، لكن فجأة انقطعت الأدوية النفسية في سوريا وفي حالة كهذه يُصاب المرضى بنوب من الصرع وقد ينتحر البعض، وحتى الدواء الآمن (الليكزوميل أو الليكزوتان) وهو مضاد قلق مقطوع وبرأيي يجب أن توزعه الدولة السورية مجاناً أو على البطاقة الذكية، لأن كل سوري يحتاج لدواء مضاد للقلق عساه يساعده أو يوهمه أنه يساعده في قلقه الكبير. وأدى الانقطاع المفاجىء للأدوية النفسية في سوريا لحالات انتحار كثيرة خاصة عند الشباب الذين لا يجدون أملاً بالمستقبل وينتظرون فرصة للهجرة إلى بلد أوروبي.
5- استعاض الكثير من السوريين وخاصة الجيل الشاب المُحبط وبعضهم جامعيون (أخبرني العديد منهم أنهم توقفوا عن الدوام في الجامعة لأنهم لا يملكون مالاً لتصوير المحاضرات، لأن سعر الورق ازداد وإجرة التصوير ازدادت)، هؤلاء الشبان يلجؤون إلى المخدرات كحبوب الكابتاغون والحشيش وأنواع أخرى من المخدرات تشوش وعيهم وتخدر آلام روحهم ولو لفترة زمنية معينة، ويتعاملون مع مهربين معروفين في اللاذقية يؤمنون لهؤلاء الشباب اليائسين المخدرات الرخيصة ومن أسوأ الأنواع. وتمت مداهمة مجموعات من الشبان (معظمهم جامعيون) في شاليه على البحر أو في بيت أحدهم من قبل الشرطة، وتم سجنهم لأكثر من ثلاثة أشهر وطبعاً بعد تعرضهم لضرب مبرح، بدل أن يُعالجوا في مراكز لعلاج الإدمان، ولست واثقة أن في سوريا كلها مركزاً مؤهلاً لعلاج الإدمان.
هذا هو واقع الطب النفسي في سوريا، طب نفسي وهمي، دواء سيء ثم مقطوع، نسبة انتحار عالية خاصة لدى الجيل الشاب، إدمان على المخدرات الرديئة للهروب من واقع ليس فيه بصيص أمل، الفقر والذل والجوع والهدر الوجودي بانتظار رغيف خبز مُعجن أو كيس أرز ينغل فيه الدود، إضافة لرداءة التعليم وانقطاع الكهرباء شبه الدائم وشح المياه وتلوثها. كل شيء مأساوي وموجع في سوريا، ومن الطبيعي أن يكون الطب النفسي انعكاساً لهذا الواقع. ولو أردت أن أشبه ممارسة الطب النفسي في اللاذقية (وسوريا كلها)، فهي أشبه بتلك اللقطة من مسرحية حيث يقوم المُوجه في المدرسة بفحص القدرة البصرية لكل طلاب الصف (كلون يعني كلون) في نفس اللحظة أكثر من 40 طالب يجيبون على سؤال الموجه الذي يفحص الطلاب على لوحة القدرة البصرية ليعرف صحة الرؤية عند الطلاب. الطب النفسي في اللاذقية وسوريا مهزلة، لا تحليل نفسي ولا حوار بين المريض والطبيب. ثمة دواء وحيد يرفع المزاج أو هكذا يقولون، سرعان ما انقطع. وأظن انقطاعه ليس مشكلة كبيرة، لأن من يقبض راتباً من 30 دولاراً في الشهر ليعيل أسرته لا يوجد دواء في العالم قادر على رفع مزاجه؛ ومن دفنت شهيداً أو أكثر من فلذات أكبادها سحقها الحزن والقهر ولن يفيدها دواء؛ ومن مات ابنه تحت التعذيب في السجون السورية أو اختفى ولا يعلم عنه أحد شيئاً لن يفيده أي دواء. العبارة الأدق للطب النفسي السوري: فالج لا تعالج.
بواسطة هيفاء بيطار | أغسطس 25, 2020 | Cost of War, غير مصنف
ربما يجب أن نعيد تعريف كلمة مثقف، وأؤمن أن الفن والثقافة إن لم يكن هدفهما الأخلاق والخير فهما ساقطان ولا يجب تسمية المثقفين (الذين يقفون مع المستبدين والديكتاتوريين بالمثقفين)؛ أقول هذا الكلام لعدة أسباب ولملاحظات كثيرة بدأتُ أنتبه لها بشكل خاص منذ بداية الثورة السورية. وكلمة ثورة خط أحمر في سوريا، فالمنتفع من الفساد والاستبداد لا يُسمي ما حصل في سوريا ثورة، بل مؤامرة. سأذكر بعض مواقف من نسميهم مثقفين وهم فعلاً حاصلون على شهادات عالية من جامعات أوروبية وأمريكية أو من جامعات عربية.
أولاً: أحد زملائي الأطباء وكنا نعمل معاً في المشفى الوطني في اللاذقية وجمعتنا زمالة وهو اختصاصي ناجح ومن أسرة ثرية وعريقة، كتب لي منذ أيام ما يلي: “لا حظي عزيزتي كيف كان موقف الأوروبيين أثناء جائحة الطاعون، وكيف هو موقف الشعب السوري أثناء موجة كورونا، الشعب السوري لا يستحق الاحترام جالس لا يقوم بأي عمل مفيد ينتظر الحل من القدر!”. في الواقع أثار كلامه عاصفة من الغضب في أعماقي ولم أستطع الرد فوراً، وكنت قد قرأت أن ستين طبيباً ماتوا في شهر تموز أثناء علاجهم مرضى كورونا أي ماتوا بكورونا. وكتبت للدكتور الاختصاصي إياه أسأله: “ماذا باعتقادك يمكن أن يفعل الشعب السوري؟”، فلم يرد.
ووجدتني أتقمص معاناة شعبي المُروعة وأجيبه أن الشعب السوري يعيش أعظم معاناة في عصرنا حتى سميت المأساة السورية بمأساة القرن، وبأن راتب السوري هو أدنى راتب في العالم ولم يعد الراتب الذي هو حصوة يسند خابية، وبأن المواطن السوري يعاني هدراً وجودياً مُخزياً للغاية وهو يهدر أيامه في انتظار (وسط طابور من 400 شخص) بانتظار توزيع ربطة خبز من أردأ الأنواع (لأن الأفران بسبب نقص المازوت لا تخبز الخبز كفاية)، أو أنه يهدر يومه بانتظار توزيع مساعدات من المؤسسات الاستهلاكية للدولة. وأرسلت للدكتور فيديو لأكياس الرز التي يسرح فيها الدود. السوري الذي لا يستطيع شراء اللحم والسمك والفاكهة لأولاده بسبب الفقر المدقع. السوري يرى أطفاله يذوون أمام عينيه بسبب الجوع وسوء التغذية وبسبب فساد التعليم والطبابة في حين زادت أسعار الأدوية بنسبة 300 بالمئة ومعظمها غير متوفر ولم يزد الراتب قرشاً ليتناسب مع سعر الدواء على الأقل. الأدوية النفسية التي انقطعت فجأة والتي تعتمد شريحة كبيرة من الشعب السوري عليها وهذه الأدوية يجب إيقافها بالتدريج وعلى مدى ثلاثة أشهر ويؤدي انقطاعها فجأة لنوبات صرع لدى المرضى. لن أظلم هذا الزميل بأن أطلق عليه اسم “الدكتور الشبيح” لأنه يحتقر شعبه ويكرهه ويصفه بالرعاع والجهل ولا يترحم حتى على زملائه الأطباء الذين ماتوا وهم يعالجون مرضى كورونا. لعله نسي السنوات التي كنا فيها زملاء موظفين في المشفى الوطني في اللاذقية، المشفى الذي رائحته رائحة المراحيض بسبب القذارة والذي تمت فيه صفقات فساد كبيرة لم يُعاقب عليها الفاسدون الكبار. يتربع هذا الزميل في ثرائه وفي مزرعته الفخمة ويحتقر شعبه ويكرهه ويتهمه بالجهل وبأنه ينتظر الفرج من الله، وهو يعلم أن هذا الشعب الجبار في التحمل لا يستطيع أن يعترض أو يجهر بالحق لأن أجهزة الأمن متربصة به. هو يشارك في قتل شعبه باحتقاره له وسخريته حتى من طريقته في التدين. أجل هو من الأطباء القتلة لأن قتل الروح يوازي قتل الجسد. وأظنه يعرف أن بعض زملائه الأطباء مارسوا التعذيب في المعتقلات حتى الموت على شعبه الذي يحتقره ويقول عنه أنه رعاع.
لن أضيع الوقت في التحدث عن المشكلة الأبدية بشح الكهرباء في سوريا وتلوث المياه وندرتها. أكاد أرى في عيني زميلي الطبيب الاختصاصي الشبيح رغبته في موت شعبه، فمصلحته وضمان ثروته أن يموت هؤلاء الفقراء المظلومون المعذبون في الأرض، لأن وعيهم وإدراكهم لحقوقهم قد يهددان مزرعته الفخمة وبيته القصر. “الدكتور الشبيح” يشارك بقتلهم ، يا للعار كيف استطاع أن يقسم قسم إيبوقراط الذي يرتعش كل طبيب وجداني حين يقسمه. ثمة أطباء كثيرون شبيحة بفكرهم وممارستهم. الشعب السوري عظيم لأنه يحافظ على حياته، لأنه قادر أن يستأنف يوماً جديداً من الذل والقهر والجوع دون أن ينهار لأجل أولاده. إنه جبار لمجرد أنه باق. وهذه هي بطولته الأعظم والأهم. وهو باق لأن بقاءه من نوع: هنا على صدوركم باقون كالجدار – وفي حلوقكم كقطعة الزجاج كالصبار – وفي عيونكم زوبعة من نار. البقاء هو فعل المقاومة الأعظم للسوري زميلي الطبيب الشبيح.
ثانياً: ثمة مثقفون لمعت أسماؤهم كالأضواء الزائفة لتملقهم للمسؤولين والحكام، ووقفوا ضد مطالب شعبهم بالحرية والكرامة، هؤلاء لم يتخذوا أي موقف متعاطف مع شعبهم المسحوق، بل إن بعضهم امتدح أحد أهم رموز الفساد في سوريا. ثمة كاتبة تعلن صراحة أنها لن ولم تصرح عن أي موقف مما يحصل في سوريا! وتمتدح شخصية من أهم الشخصيات في النظام السوري. أستغرب كيف يمكن لكاتب ألا يكون له موقف مما يجري في وطنه ومن معاناة شعبه! كيف يمكن لكاتب أن يتجاهل جوع أطفال سوريا ومعاناتهم في مخيمات اللجوء أو في الداخل السوري حيث التسول وفساد التعليم والجوع. كيف يمكن لكُتاب أن يطرزوا كتابات منفصلة كلياً عن الواقع وعن المأساة السورية، وبعضهم يحصل على جوائز! بل إن بعضهم يصنف نفسه وتصنفه الكثير من الجهات الثقافية بأنه كاتب سوريا المعارض الأول فيما هو لم يمنع من السفر مرة واحدة، ويسافر في كل أصقاع الأرض وتطرز مديحاً برواياته إحدى أهم المسؤولات الشبيحات. وهذا الفساد الثقافي ينطلي على الكثيرين للأسف. لكن وكما يقال الثلج سيذوب ويبان المرج. لا أحد يستطيع أن يخدع الشعب أبداً مهما التمعت الأضواء الزائفة حول البعض، مهما اضطر الشعب المسحوق المظلوم للصمت خوفاً على أولاده وعلى نفسه كمعيل لهم. لكن الشعب (مهما وصفوه بالقطيع والرعاع) لا تخطىء بوصلة الحق لديه. وهو يميز بين الأضواء الحقيقية والزائفة، وإذا كانت العبارة الأكثر تداولاً بين السوريين (خلونا هلق ساكتين)؛ فذات فجر قريب ستصدح الحناجر بكلام الحق ولن يبقى أي مواطن سوري صامت.
بواسطة الحسناء عدرا | أغسطس 13, 2020 | Cost of War, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
تعيش سلمى وهي أم لطفلين هاجسين، الأول ظهور علامات الولادة المبكرة بعد أن أخبرها الطبيب باحتمال وضع مولودتها في الشهر المقبل وذلك قبل شهرين من الموعد المحدد، أما الثاني فهو الخوف من التقاط فيروس كورونا، لا سيما في ظل انتشار معدلات الإصابات ويأتي ذلك في ظل الحصار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، إذ تشكل النساء الحوامل الحلقة الأضعف في مواجهة الفيروس بعد كبار السن. وعن مخاوفها تقول سلمى: “أخشى أن ألد قبل الآوان، سأدخل في الشهر السابع بعد عدة أيام، أعاني من تشنجات تسببت لي بفتح عنق الرحم، ما قد يعجل من ولادتي ويقلب كل توقعاتي، كما أنني اتفقت مع طبيبي الخاص على أن يتولى أمور التعقيم الذي تكفل به على مسؤوليته الشخصية، محاولاً طمأنتني وعدم إثارة الخوف في داخلي، فيكفيني آلام المخاض”.
وعن الاحتياطات التي ستتخذها للوقاية من فيروس كورونا، تقول السيدة ممازحة: “يبدو أن طفلتي رح تجي معقمة خالصة وريحتها كلها كلور من كتر ما عم عقم وغسل، سآخذ معي معدات التعقيم من قطعة صابون ومعقماً لليدين ومنشفتي الخاصة، بالإضافة إلى منع الزيارات بتاتاً، وسأضطر إلى تقديم بعض الرشى للممرضات للقيام بواجبهن كما جرت العادة في ولاداتي السابقة كي يهتمين بي على نحو أكبر”.
أما لونا فاختارت دون عناء تفكير الولادة في جناح تابع لمستشفى خاص لانعدام ثقتها بالمستشفيات العامة من جانب النظافة والتعقيم والرعاية خاصة في ظل شكاوى الناس المتكررة من غياب مظاهر التعقيم، عدا عن الازدحام والأعداد الكبيرة فيها، ما يعرضها لالتقاط الفيروس بنسب أكبر. وتؤكد لونا: “حتماً سألد في مشفى خاص، على الأقل أملك ترف خيار البقاء في غرفة لوحدي دون أن تشاطرني بها مريضة أخرى، ناهيك أنني سمعت أنهم يعتنون جيداً باقسام الولادة، ومع ذلك كله، سأحضر معي كمامتي وفوطتي الخاصة”. وقد حاولت لونا مراراً عدم السماح للخوف من التسلل لداخلها حيث عقبت بالقول: “منعت نفسي من الشعور بالخوف لأن ذلك يؤثر سلباً على صحتي الجسدية ويثبط من مناعتي، ضاعفت اهتمامي بنوعية الطعام وتناول المأكولات التي ترفع المناعة نظراً لوجود الفيروس الذي يهدد الحوامل بشكل خاص، كما أنني ابتعدت عن الأخبار السلبية والمحبطة وأخبار الفيسبوك المكتظ بأوراق النعوات، بالإضافة إلى التعقيم المستمر داخل المنزل وأخذ الحيطة والحذر في الخارج، أعمل على قدر طاقتي، والباقي على الله”.
الولادة المنزلية للنجاة من العدوى
في ظل انتشار فيروس كورونا والتحذيرات المتكررة بعدم الذهاب إلى المستشفيات إلا للضرورة القصوى كونها بؤرة خصبة تشجع على التقاط العدوى، وبما أن النساء الحوامل معرضات بشكل متزايد لخطر الإصابة بمرض خطير من فيروسات كورونا، لجأت العديد منهن لخوض تجربة الولادة المنزلية والعودة إلى عادات الجدات القديمة بالرغم من كونها غير رائجة خوفاَ على حياتهن وحياة أطفالهن. ومن هذه التجارب، عايدة التي قررت وضع مولودها الأول في المنزل في قرار جاء متأخراً وذلك قبل يوم واحد فقط من موعد ولادتها في مستشفى خاص، وتوضح: “اتصلت مع طبيبي الذي أشرف على مراقبة وضعي الصحي طوال فترة حملي و ألغيت عمليتي قبل يوم واحد من موعد ولادتي لأخبره بأنني سأتجه إلى الولادة المنزلية خوفاً من التقاط أي عدوى، بعد ذلك حصلت على رقم إحدى القابلات اللواتي يُشهد لها بالإنسانية والمهنية واتفقت معها على أمور التعقيم “، مضيفة: “على الأقل تأكدت من تعقيم كل الأدوات لأن القابلة عمدت إلى تطهيرها أمام عيني مع ارتداء القفازات والكمامة، وأضمن هنا أنني لن التقط الفيروس، كانت تجربة جديدة ومثيرة حقاً بالنسبة لي”.
اعتادت نبيلة اصطحاب حقيبتها الممتلئة بالمعدات الطبية الخاصة بالولادة الطبيعية، فهي عملت قابلة قانونية لأكثر من 33 عاماً في أحد الأحياء الشعبية في دمشق، وقد نالت شهرة عالية في أوساط الحي وعرف عنها بتقاضيها أجور رمزية مقابل عملها الذي تصفه بـ”الإنساني” لافتة إلى أن عملها ازدادت وتيرته بالتزامن مع ظهور جائحة كورونا حيث تقول: “الولادة في المنزل كانت موجودة من قبل، لكنها اتسعت وازداد الإقبال عليها منذ ظهور جائحة كورونا، إذ قصدتني العديد من النساء الحوامل خشية تعرضهن للفيروس والتقاطه من المستشفيات وانتقاله للمولود”. وعن إجراءات التعقيم التي تتخذها السيدة تقول: “أضع جميع أدواتي من مقص جنين ومقبض رحم وملقط وغيرها في جهاز تعقيم خاص لمدة نصف ساعة، مع الحرص على ارتداء الكمامات والقفازات”.
إلا أن إلفت تتمنى لو بإمكانها الولادة في منزلها، لكنها لا تستطيع ذلك كونها خضعت لعملية قيصرية سابقة تحول دون ولادتها طبيعياً وتوضح قائلة: “ليتني أستطيع أن ألد في منزلي، لكن الأمر مستحيل كوني أجريت عملية شق في البطن في ولادتي الأولى، فوجودي في المستشفى الآن ضروري جداً نظراً لكونها عملية جراحية، لكن لو كانت حالتي الجسدية تسمح لي بإجراء ولادة طبيعية، لما ترددت لحظة واحدة في إحضار قابلة إلى بيتي خوفاً من التقاط أي عدوى في المستشفيات أو الاختلاط مع أحد”.
إرجاء الحمل حتى إشعار آخر
اتفقت سحر مع زوجها على تأجيل فكرة الحمل في ظل الظروف الراهنة للعام المقبل على أمل توفر لقاح لفيروس كورونا وتقول: “كنا زوجي وأنا نخطط للإنجاب للمرة الثانية بعد طفلي الأول إلا أننا عدلنا عن الفكرة ريثما يتم تأمين لقاح، لاسيما أن انتشار الفيروس بدأ بالتصاعد، فنحن بغنى عن الوقوع في المحظور، خاصة أنني لدي طفل”. أما خلود فلا تستطيع تأجيل تحقيق حلم الأمومة وقررت الحمل في هذه الظروف غير المناسبة، كونها تزوجت متأخرة وفرص الإنجاب قليلة بالنسبة لها، وتقول: “بدي لحق جيب ولد، فعمري شارف على الأربعين، لا أستطيع الانتظار أكثر، كل شيء من الله خير”. وتنصح رامية السيدات اللواتي لديهن أطفال من قبل تأجيل فكرة الحمل، سيما وسط ارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض.
بواسطة Rama Badra | أغسطس 8, 2020 | Cost of War, Reports, غير مصنف
لطالما صادرت الحرب أحلام آلاف الشبان والفتيات في سوريا بدءاً من أحلامهم الصغيرة المقتصرة على استكمال مراحل دراستهم الجامعية وتأدية الخدمة الإلزامية بالنسبة للشبان وتأمين عمل محترم يضمن لهم حياة كريمة وصولاً إلى بناء العائلة والخوض في مرحلة الاستقرار الأسري الذي انتقل من كونه مرحلة أساسية من حياة المواطن السوري ليصبح حلماً صعب المنال أو طموحاً بعيد المدى ضمن طموحات الشباب بالدراسة والعمل و تحقيق الذات خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السائدة اليوم في البلاد. ونظراً لارتفاع تكاليف الزواج ذهب البعض إلى التأجيل والبعض الآخر بحث عن بدائل للمستلزمات الخاصة بتقاليد حفلة الزفاف ومهر العروس والتجهيزات الخاصة بها، فوسط جنون أسعار الذهب الذي بلغ حد ١١٠٠٠٠ للغرام الواحد عيار ٢١ استعان كثيرون بالذهب البرازيلي والفضة كمنقذ من أزمة لا يبدو حلها قريباً مع وجود عدة أشكال وألوان من الذهب البرازيلي بأسعار مناسبة نوعاً ما، وهناك ممن قدمن تنازلات واتبعن سياسة ترتيب الأولويات، كسارة التي وجدت نفسها أمام عتبة الاختيار بين حفلة الزفاف وشراء الذهب، لتنهي معركة الحسم لصالح الأولى، إذ تمهلت الشابة بشراء الذهب في فترة الخطوبة على أمل انخفاض سعره عند اقتراب الزفاف إلا أن توقعاتها باءت بالفشل فجاء الواقع عكس الآمال المعقودة عليه، فأصابها الندم لعدم شرائه قبل انتقاله من مرحلة الغلاء إلى الغلاء الفاحش ففضلت إقامة حفل زفاف صغير بتكاليف متوسطة مستبدلة المصوغات الذهبية بالبرازيلية منها التي تبدو على حد قولها مشابهة للذهب الحقيقي.
أما علي فليس بأفضل حال، فقد أجل تجهيز منزله عدة مرات متتالية آملاً أن تتحسن الأسعار، وها هو الآن يؤجل ذلك إلى أجل أجل غير مسمى ومعه يؤجل موعد ارتباطه الرسمي مقترناً بخطيبته التي انتظرته طويلاً مع عقد ذهبي ناعم قد ابتاعه لها بشق الأنفس منذ شهر شباط حين كانت الأمور على تدهورها أفضل حالاً بكثير مما هو الأمر عليه اليوم. أما موعد زفاف علي فأصبح في طي المجهول فإن كان قد عقد نيته على الزواج في أواخر العام الحالي فها هو الآن يصرح لنا بأن كل آماله وأحلامه قد طارت من أول نافذة كاد أن يركبها في منزله الذي ابتاعه على الهيكل حيث يقول: “في أيام الرخص.. فالمنزل سيبقى على الهيكل حالياً لأن كلفة الإكساء ارتفعت بشكل كبير”.
خطوة استباقية وسياسة التقنين
عمدت لمى إلى اقتناء ما تراه مناسباً كحاجات للعروس من متجر لألبسة البالة نظراً لانخفاض سعرها مقارنة بتلك الجديدة فهي تدرك تماماً أن شراءها من الأسواق الجاهزة قد يكلفها أضعافاً مضاعفة بالرغم من أنها ليست مخطوبة ولكن أغلب من حولها من الفتيات المقبلات على الزواج قد اقتصرن على شراء قطعة أو اثنتين بسبب ارتفاع الأسعار.
فيما استغنت علا عن كل ما يتعلق بالملابس الخاصة بالعروس فقد كان لديها مخزون كاف منها كانت قد ابتاعتها منذ سنوات كلما سمحت لها الفرصة بأسعار “لقطة” على حد تعبيرها، وبذلك عندما تمت خطوبتها اقتصرت تجهيزاتها الخاصة على بدل واحد من الملابس. أما بالنسبة للذهب فقد روت لنا: “قمنا بشراء الذهب والخواتم حين كان سعر الغرام ٣٢٠٠٠ وأحمد الله على ذلك لأننا لو قمنا بتأجيله لما استطعنا شراءه بعد الارتفاع الكبير الذي شهده.” و استأجرت علا وزوجها منزلاً في عشوائيات مدينة دمشق بعد أن ألغت حفلة الزفاف كي تتمكن من تأمين العفش والأدوات الكهربائية الضرورية للمنزل.
وبالرغم من أن الوضع المادي لخطيب آلاء يُعد ميسوراً لاسيما أنه يعمل مهندساً في السعودية إلا أنها اشترت بعض حاجياتها من ألبسة البالة بغرض التقنين، حيث تقول: “يرسل لي شهرياً ما يقارب 500 ألف ليرة سورية لتجهيز حاجياتي الخاصة ريثما يحين موعد الزفاف، غير أنني وجدت الأسعار مرتفعة جداً فلجأت إلى البالة فهي جديدة وجودة عالية والذي أقوم بتوفيره أصرفه على شراء مستحضرات التجميل.”
أزمة تأخر الزواج
في تصريح حديث للقاضي الشرعي الأول في دمشق محمود معراوي يذكر فيه أن نسبة تأخر سن الزواج في سورية خلال عامي 2019 و2020 وصلت إلى حوالي 70 % عازباً، ويعود السبب إلى قلة أعداد الذكور إثر وفاة عدد كبير منهم في الحرب وهجرة قسم آخر ما أدى الي ارتفاع أعداد الإناث مقارنة بأعداد الذكور. تبدو هذه الإحصائية منطقية، لاسيما في ظل الصعوبات الكبيرة التي تواجه الشباب السوريين في تأمين مستقبلهم وارتفاع تكاليف الزواج، كما ساهمت ظروف الحرب السورية خلال الأعوام الفائتة في تأخر زواج الشباب من كلا الجنسين إذ إن التحاق الشباب بالخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية قد أسهم في عزوف الشباب عن فكرة الزواج حالياً، بالإضافة إلى النزوح الداخلي والخارجي لعدد كبير منهم مما أدى إلى قلة “العرسان”. بالإضافة للمعدلات العالية من البطالة والأزمات النفسية المتعددة وعدم الاستقرار الاقتصادي والنفسي والاجتماعي و الصحي مؤخراً مع استمرار انتشار و تفشي وباء كورونا بين السوريين، كل هذه الأسباب مجتمعة تشكل عوائق صعبة الاجتياز في وجه كل من يحلم ببيت الزوجية المنتظر، فاليوم أصبح تعدد الزوجات أمراً مرحباً به عند فئة كبيرة من العائلات السورية وسط قلة المتقدمين لطلب أيدي الفتيات اللواتي كنّ قابعات في المنازل على أمل عريس “لقطة”، أما الآن هناك من ينظر لأي شاب يمتلك منزلاً وعملاً بغض النظر عما إذا كان متزوجاً أو عازباً على أنه هو ذلك العريس” اللقطة”.
بواسطة طارق علي | أغسطس 4, 2020 | Cost of War, غير مصنف
“ياسر الصعب”، ليس اسماً عادياً لينساه السوريون بسهولة، فالاسم وحده قصة لمجزرة راح خلالها أولاد ياسر الثلاثة، وزوجته، حدث هز الساحة السورية على الصعيدين الواقعي والافتراضي، ففي الأول من شهر تموز/يوليو الفائت استفاقت العاصمة السورية على خبر مقتل ثلاثة أطفال واغتصاب أمهم وقتلها أمام أبيهم المطعون بسكين المهاجمين، في قرية بيت سحم. تعافى ياسر وخرج من المشفى، وألقي القبض على المجرمين الاثنين، وأحيلت أوراقهم للمحكمة، ولكنّ جرحاً لدى ياسر أعمق من مكان الطعنة في رقبته، لن يندمل وحتى بمرور السنين، فقد رأى الأب مشاهداً كأنها هاربة من فيلم سينمائي، وكل ذلك حصل بهدف السرقة، سرقةِ 260 ألف ليرة سورية (130$).
لم يكن تموز/يوليو شهراً عادياً على السوريين، الخارجين، كل يوم، من معركة حياتية قاسية، لتسجل البلاد أعلى مستوى من الجرائم المحلية في شهر واحد، ما ينبئ بأن البلاد تمر بمرحلة دقيقة على صعيد القيم المجتمعية والفكرية والتربوية.
يمكن أن نرد انتشار الجريمة لثلاثة أسباب: اجتماعية – اقتصادية – نفسية.
من الناحية الاجتماعية يُقرَأ الملف على أنه مرتبط بغياب الثقافة الاجتماعية، حيث يقول الدكتور موسى حبشي: “المشكلة كلها تتلخص في الحرب وتبعاتها من غياب لمنظومة الأخلاق الجمعية، فالجيل الناشئ في أتون الحرب لم تتح له ظروف المجتمع أن يرى الأمور من زواياها المتعددة، وبالضرورة أن يبني مفاهيم واضحةً حول التمييز بين الصح و الخطأ”، لا يحمل حبشي المسؤولية المباشرة لأحد، ولكنه يعتقد أن اجتماع الظروف الزمكانية في السنوات الماضية، أنجب أشخاصاً يصطلح حبشي على تسميتهم “دخلاء على القيم السورية”.
أما على الصعيد الاقتصادي فإن راتب الموظف السوري يبلغ في المتوسط الشهري (23$)، ليست المشكلة في هذه الرقم المتدني للغاية قياساً بكل الدول المحيطة، المشكلة أن الشريحة الأوسع في سوريا عاطلة عن العمل الفعلي المستمر، ليعمل جزء لا بأس به كمياومين، هؤلاء عرفوا الجوع الحقيقي-القسري إبان الحجر في أشهر الربيع الماضي بفعل بدء انتشار فايروس كورونا في البلاد، بالطبع لا يمكن تحميل الحجر وحده مسؤولية انهيار القيمة الاقتصادية للمواطن أولاً، ولعملته ثانياً، فقبل كورونا كما بعدها، الناس ما يزالون جائعين، يفترشون الطرقات والحدائق، يبحثون بكل كد وجد عن عمل يكفيهم قوت يومهم، لذا فإن الفقر محرك منطقي للجريمة، فمعظم الحوادث فيما عدا الاغتصاب، تقوم على السرقة. القتل أيضأ لأجل السرقة، وربما الاغتصاب والقتل معاً، ثم السرقة، في إشارة واضحةٍ لمجتمع زادت في كبته تفاصيل الحياة والحرب.
ولكن من الناحية النفسية البحثية تتسع الدائرة، فالحرب خلفت داخل أنفس السوريين آثاراً شظت قلوبهم، كما شظت الحرب أبدانهم، فخلفت مما خلفته أمراضاً وآلاماً نفسية جمة، يخبرنا بها معدل ارتفاع زيارات السوريين للأطباء النفسين، ولكن حتى هذه الزيارات تعتبر ترفاً، فأجور الأطباء مرتفعة حتى على قياس الطبقة الوسطى، فكيف بالفقراء إذاً. يقول الدكتور هاني منصور وهو أخصائي نفسي أن السوريين اليوم ودون مبالغة محتاجون للعلاج: “الاكتئاب يسيطر على المجتمع، وكذلك حالات طبية أخرى، قسم منها يقود للجرائم بشكل مباشر محمولاً على دوافع بيئية – نفسية تجعله يعتقد أن ما يفعله هو الصواب وسينجو بفعلته”. ويشير منصور أنه من المستحيل أن تشهد دولة اختبارات نفسية موسعة للجمهور، ولكن لا شك، أن استعادة ضبط الشارع بعد تنفيسه والسيطرة عليه أخلاقياً سيكون حلاً مقبولاً، “مع ضرورة توعيتهم لمخاطر الجريمة وعقوبتها، وبأن لكل فعل سيكون هناك رد فعل قضائي”.
العنف الأسري
بتتبع الوضع الاجتماعي السوري فقد أثبتت فترة الحجر الصحي المنتهية مع مطلع حزيران/يونيو الماضي أن نسبة العنف الأسري قد ارتفعت نسبياً، إذ سجلت حتى الآن حوالي 318 حالة عنف بحسب مصادر غير رسمية، بينهم 166 اعتداء زوجي، 45 ضرب شقيق لشقيقته، و20 حالة اعتداء أبناء على أهلهم، و87 حالة عنف باتجاه الأطفال دون السن القانوني. وقد كانت آخر إحصائية مسجلة ورسمية عام 2019، وتحدث حينها رئيس هيئة الطب الشرعي في سوريا أن نسبة العنف الأسري ارتفعت بنسبة 25% قياساً بالسنوات السابقة، وبمعدل 504 حالات، بينها 31 طفلا و53 إناث تحت السن القانوني، و420 حالة لنساء بالغات، دون تسجيل أي حالة وفاة بسبب العنف الأسري.
انتشار المعلومة
لا شك أن سوريا كانت تشهد بصورة مستمرة جرائم مختلفة الأشكال، ليس ابتداء بالسرقة وليس انتهاء بالقتل مروراً بالاغتصاب كما حصل للطفلة سيدرا (١٣عام في ريف الدريكيش – طرطوس) حديثاً، إذ تم استدراجها من قبل قريبها وصديقه، وكلاهما بعمر الأحداث، ليقوم أحدهما باغتصاب الطفلة، ثم شنقها وقتلها بسلك معدني، ومن وجهة نظر القانون فإن العقوبة قد تصل بحدها الأعلى إلى 12 سنة للجناة فقط، على اعتبار أن كليهما دون السن القانوني، بحسب المادة (29) من قانون الأحداث :”تفرض على مرتكبي الجنايات من الأحداث الذين أتموا الخامسة عشر وتحت الثامنة عشرة: إذا كانت جريمته من الجنايات التي تستحق عقوبة الإعدام فيحبس مع التشغيل بين ست إلى اثنتي عشرة سنة”.
ولكن ما جعل قصص هذه الجرائم تنتشر هو مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت مساحةً واسعةً للمعلومات في سوريا، وجاءت هذه المواقع مدعومة بصفحات وزارة الداخلية الرسمية التي باتت تطرح كل ملفات الجرائم وتفاصيلها عبر صفحتها، ليتناقلها الناس باستمرار، وسبب شيوعها أكثر هو شناعة الكثير من الجرائم، ليطالب الناس بالقصاص من هؤلاء المجرمين، وبعضهم وبقسم كبير راح يطالب بعقوبة الإعدام للجناة في الكثير من الحوادث والجرائم.
بواسطة هيفاء بيطار | يوليو 23, 2020 | Cost of War, غير مصنف
بداية لا بد من ذكر أنني أملك بطاقة إقامة في فرنسا وأتقن الفرنسية وبأنني طبيبة اختصاصية في طب العيون وكاتبة، وبأن كل أسرتي (أخي وأختي وأمي يقيمون في باريس)، وابنتي الوحيدة وزوجها الإيطالي يقيمان في بريطانيا. ولكن لأنني مسكونة بعشق سوريا فقد قررت ترك أسرتي وحريتي في باريس وأصدقائي والعودة إلى اللاذقية، عدت إلى اللاذقية في 8 كانون الثاني 2019 متغاضية عن البرد الشديد وانقطاع الكهرباء وغلاء الأسعار والأهم الصمت. فكل شيء مجلل بالصمت، وظيفة اللسان في سوريا تدوير الطعام إن وجد وليس تدوير كلمات الحق. طوابير الناس المنتظرة لساعات جرة الغاز (وأحياناً تنتظر أيام) مجللة بالصمت، طوابير الناس أكثر من 400 شخص ينتظرون رغيف الخبز الرديء (لأن الأفران لا تخبزه جيداً بسبب نقص مادة المازوت) مجلله بالصمت، طوابير الناس المنتظرة الرز الرديء مجلله بالصمت، وكذلك طوابير الناس المنتظرة أرخص وأردأ أنواع الدخان في العالم مجللة بالصمت، وثمة من يشتمها لأنها لا تنتبه لصحتها ولا تبالي بانتشار وباء كورونا! وراتب كل شخص من هؤلاء المنتظرين يعادل ثمن كيلو ونصف الكيلو من اللحم! وطبعاً أساس غذائهم الخبز الرديء والشاي والتسول. لكن يسمح البعض المترف لنفسه أن يشتم هؤلاء السوريين ويصفهم بالقطيع والحمير لأنهم يدخنون ويتقاربون غير مبالين بصحتهم ووباء كورونا.
في هذه الظروف عدت إلى سوريا تسندني بطارية الكهرباء الثامنة في إضاءة الصالون والتلفاز لكنها لا تفيد أبداً في التدفئة ولا في تشغيل أية أداة كهربائية أخرى. كل شيء حولنا يثير الرعب فتداول مجرد كلمة دولار يستحق العقوبة فصار اسم الدولار (الشو اسمو). بعد أيام من عودتي إلى سوريا أصرت جمعية الحوار السوري السوري (وأنا في الواقع لم أكن قد سمعت بها مسبقاً ولا أملك أية فكرة عنها أن تقيم لي تكريماً)؛ فرفضت لأنني أعرف أن سوريا لا تكرم إلا الموالين للنظام، وهم عادة رؤساء اتحاد الكتاب العرب أو شخصيات مماثلة، لكن إلحاح بعض الأصدقاء بأن جمعية الحوار السوري السوري تضم سجناء رأي كثيرين مثل السيد عادل نعيسة مثلاً –الذي سُجن 20 عاماً–وغيره أكثر من ثمانية أشخاص كانوا سجناء رأي وانضموا إلى الحوار السوري السوري كي تبدأ مرحلة الحوار البناء القائم على المحبة وحب الوطن ومحاولة التقارب في وجهات النظر من أجل بناء علاقات محبة بين السوريين ليتمكنوا من بناء وطن مُعافى. قبلت وكانت الجلسة تضم حوالي أربعين شخصية أغلبها موالون وبعض سجناء الرأي السابقين، وكانت اللغة خشبية وميته وخطابية، وكان أحد الحاضرين (لم ألتق به أبداً ولا أعرفه) يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي، لم ينطق بكلمة ولم يكف ثانية عن التدخين حتى كدنا نختنق. بعد هذا التكريم الهزلي الشكلي اللامعنى له سوى إيهام الناس أن سجناء الرأي السابقين أصبحوا أصدقاء مع الموالين للنظام، فوجئت بمنعي من السفر وباستدعائي لمراجعة فرع الأمن العسكري في اللاذقية! ولم أعرف السبب فأنا عادة لا أنشر مقالاتي على صفحتي على الفيس بوك وأعترف أنني لست كاتبة سياسية بل أتقن التعبير عن آلام الناس وأوجاعهم وصمتهم المُهين وأكتفي أن يوقفني أحدهم أو إحداهن في الطريق ويقولان لي: نحسك تحكين عن وجعنا تماماً لكننا لا نجرؤ على البوح. لم تكن المرة الأولى التي أمنع فيها من السفر بل المرة الرابعة والمرات السابقة كانت على حدود العريضة (الحدود السورية اللبنانية، فكنت أعود أدراجي مذلة مهانة إلى اللاذقية). ولم تكن المرة الأولى التي استدعيت فيها إلى فروع أمنية متعددة بل مرات عديدة حتى أنني وبسبب نفس المقال استدعيت إلى فرعين أمنين وحين سألت: “لماذا هذا الإجراء!” قالوا لي أنهم استحدثوا إجراء اسمه التطابق وطبعاً لم أفهم ما هذا التطابق. هذه المرة (بعد تكريمي الهزلي في اللاذقية) مُنعت من السفر وأستدعيت إلى الأمن العسكري بسبب تقرير كيدي كتبه بي السيد الشبيح المؤذي الفاشل ( إن الناجح لا يؤذي ولا يحقد) الذي يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي وكلف نفسه آلاف الليرات السورية كي يطبع مقالات كنت كتبتها منذ سنوات خاصة مقالي عن الخوذ البيض الذي نشرته منذ خمس سنوات وكتبت فيه بأنهم منظمة إنسانية إغاثية، من أين أتى هذا المخلوق الكرم حتى يطبع مقالاتي وكي يكتب بصراحة فاقعة على صفحته على الفيس بأنني خائنة وماسونية والتقيت طبقة الروتاري عندما قدمت محاضرات في هولندا (واضح أنه لا يعرف معنى الروتري) لم يترك بذاءة أو شتيمة إلا وشتمني بها وكان بإمكاني أن أقدم شكوى ضده لكن حالة من القرف الشديد أصابتني فحظرته وقام أصدقاء ومعارف كثيرون بحظره، لكن الأمن العسكري قبل مقالاتي التي قدمها ومنعني من السفر واستدعاني. ولا أنكر أن فرائصي تقصفت رعباً وأن دقات قلبي تسارعت فوق المئة، وبأنني سارعت لشراء دواء الليكزوتان المهدىء عيار 3 ولم يؤثر بي، وأنني كنت أنظر كل ثانية إلى ساعتي معتقدة أنها معطلة لأن الخوف يجمد الزمن، وعرفت الأرق بأحقر أشكاله وعرفت التخلي والنبذ بأقسى تجلياته لأن من تعتقدهم أصدقاءك يتخلون عنك ويهربون منك حين تقع في مشكلة أمنية، حتى أن أحد أصدقائي يستعمل تعبير بأنه يتغوط تحته إذا سمع أن أحد عناصر الأمن يسأل عنه.
كان علي أن أبحث عن واسطة كي لا أنتظر خمس ساعات أو ست ساعات في فرع الأمن في غرفة حقيرة منفردة عادة فيها أسرة معدنية صدئة قذرة وكنت أفقد صوابي من الإنتظار الطويل فأخرج إلى المنشى الضيق وأدخل غرفاً بائسة يعمل فيها موظفون وجوههم مكفهرة أبادرهم بالسلام فلا يردون ولا ينظرون باتجاهي، وأسألهم برجاء ولطف أن يقول لي أحد منهم كم علي أن أنتظر بعد، فلا يردون علي كأنني شبح. أصريت هذه المرة أن ألجأ لأحد معارفي كي يعفيني من الانتظار وبالفعل أعطاني هاتف ضابط عالي المرتبة وقال لي اتصلي به وهو سيؤمن لك مقابلة العميد (أو العقيد، لست متأكدة) في فرع الأمن العسكري، لكنني فوجئت بالواسطة العالية جداً يسألني ساخراً وشامتاً في الوقت نفسه: “ولماذا يزعجك الإنتظار لهذه الدرجة! البارحة ابنتي إنتظرت أربع ساعات لدى طبيب النسائية رغم أنها كانت على موعد!” وجدت نفسي وبحركة انعكاسية ألصق راحة يدي على فمي وأضغط بقوة كي لا تنفلت مني عبارة: “وهل هذه الحالة مثل تلك! هل الانتظار في عيادة طبيب مثل الانتظار في غرفة في مبنى أمن الدولة العسكري أو السياسي أو لا أعرف ماذا.” لكنه وفى بوعده ولم أنتظر، لكن حالة من الهياج اللاإرادي أصابتني قبل موعدي مع العقيد في الأمن العسكري؛ فأخذت أصابعي تتقلص بشكل غير إرادي وأصابني ضيق تنفس وحاصرتني أفكار الموت والانتحار كإعصار تلف جسدي الضئيل واتصلت بقريبي وهو محامي وأخذت أصرخ: “لن أذهب، لن أذهب، قد يعتقلونني، ودارت حول رأسي مئات وجوه لأغلى الأصدقاء كلهم اعتقلوا أكثر من عشر سنوات وهم في العشرينات بسبب جريمة رأي وبعضهم مات تحت التعذيب، وحاول قريبي تهدئتي وقال: “سأوصلك بنفسي لا تخافي مجرد بضعة أسئلة”، وتحولت إلى صراخ ولعنت الساعة التي عدت فيها إلى سوريا وآمنت أن الوطن يعني تماماً الذل، ولا أدرك صدقاً كيف أوصلني قريبي إلى فرع الأمن العسكري في اللاذقية وكنت أنظر بدهشة غريبة للناس التي تمشي وللدكاكين كما أنني أرى كابوساً، كما لو أن ثمة تساؤلاً طالعاً من أعماق روحي: “هل هؤلاء أحياء حقاً”.
ووصلت حواجز الأمن العسكري وكان الموظف أو المُجند الواقف في كوة صغيرة بالكاد تتسعه يلبس فانيلا فقط! “يا للاستهتار واحتقار المهنة ألا يفترض أن يلبس قميصاً”! ونظر إلى باحتقار وهو يطلب هويتي كما لو أنه يحكم علي أنني خائنة سلفاً ورافقني مجند نحيل وفقير لدرجة رغبت لو أعطيه مالاً ليشتري طعاماً وثياباً ومشينا طويلاً في الشمس الحارقة، وكان مبنى الأمن العسكري مؤلفاً من عدة مباني، وأشار لي إلى مبنى ودخلت فوراً غرفة الضابط متجهم الوجه وعلى يمينة أكثر من ثمانية أجهزة هاتف لا تتوقف عن الرنين وكان كالساحر يرد عليها كلها، وطلب مني الجلوس دون أدنى ترحيب وقال تفضلي تكلمي، فحكيت له باختصار قصة الحيوان الذي صور مقالاتي، وبأنه لم يؤذني وحدي فقط بل أذى كثيرين. سألني فجأة: “هل أنت مع الخوذ البيض؟”. فاجأني سؤاله فقلت له هذا المقال كتبته منذ خمس سنوات وأظن وضع وطننا الحبيب سوريا خطير جداً الآن و قاطعني بلهجة آمرة وقال: “هل أنت مع الخوذ البيض؟” قلت: “كل قنوات التلفاز عرضت ما يقوم به الخوذ البيض من أعمال إنقاذ وإسعاف ولو تسمح لي لا يوجد إعلام محايد”. سأل بإصرار: “ماذا تقصدين لا يوجد إعلام محايد؟”. قلت له “هل تسمح أن أكون صريحة معك؟”. قال: “بالطبع نحن نريد من كل مواطن أن يكون شريكنا في الكلام والقرار”. ولا أعرف أي شيطان دفعني لأقول: “هل تذكر حضرتك لما كانت حلب كرة من الجحيم والنار، يومها مذيع القناة الأخبارية السورية قال: ابتسم أنت في حلب”. وحل صمت من رصاص بيننا ولا أعرف لماذا طفا بذهني عنوان رواية ميلان كونديرا: خفة الكائن التي لا تحتمل. هكذا أحسست تماماً كنت خفيفة كريشة عصفور وشعرت بطوفان من السعادة يتفجر في داخلي كينبوع ماء يتفجر من قلب صخر. بدا العقيد أو العميد منزعجاً لدرجة لا توصف، وانشغل باتصالات عديدة ثم نادى المجند وقال له خذ الدكتورة إلى المبنى الآخر. ومشيت مع مجند آخر ينافس الآخر بؤساً وفقراً وقصدنا مبنى آخر ودخلنا غرفة قذرة فيها صوفا ومكتب، وكان موظف المكتب مكفهر الوجه لدرجة شعرت أنه يعاني من بحصة في الكلية أو المرارة لشدة تشنج عضلات وجهه، وتظاهر أنه يقرأ في أوراق ويتفحص بدقة المكتوب، ثم يقلب ورقة إثر ورقة، ولمحت أكثر من عشرين مقالاً من مقالاتي كان قد طبعها الشبيح المدعي أنه فنان تشكيلي. وأخيراً نطق الصنم وقال: “نحن نعرفك دكتورة نعرفك جيداً وهذه التقارير المقدمة بك تقارير كيدية”. وقفت وقلت له: “طالما أنها تقارير كيدية لماذا قبلتوها!، ومن يجب أن يُعاقب أنا أم السافل الذي قدم لكم التقارير الكيدية أم أنكم تتفقون معه”. فقال: “هذا الكلام غير مسموح لك على كل سوف نسمح لك بالسفر مرة واحدة”.
مشيت في الطريق كالمسرنمة أتساءل ما هو الوطن وما هو الحنين؟ وتذكرت أنني تركت كل ميزات العيش المريح في باريس لأنني كنت أحن إلى بالوعة ممتلئة قذارة، وكنت أعتبر أن الوطن هو الحنين، وغلبت قيمة الحنين على الحرية والكرامة. لا شيء في العالم يعلو على الحرية والكرامة. أوقفت تاكسي وانفجرت ضاحكة قال لي: “خير ضحكيني معك”. قلت له: “كنت أقارن بين الانتظار في عيادة طبيب وفي مكان آخر”. قال: “لم أفهم”. قلت له: “الأفضل ألا تفهم”. يا للعار!