من فكرة صغيرة إلى مشاريع كبيرة: حكاية مخبز القرية

من فكرة صغيرة إلى مشاريع كبيرة: حكاية مخبز القرية

لا يمكنك أن تعبر المكان دون أن تستوقفك رائحة الخبز اللذيذة التي تنتشر على طول الطريق منبعثةّ من مخبزٍ صغيرٍ في قرية نائية لكنه يخفي خلفه قصة نجاح كبيرة بطلاتها نساءُ قرية سهوة بلاطة في ريف السويداء.

بدأت الحكاية باقتراحٍ بسيطٍ بين مجموعة من الصديقات لإنشاء صندوق خيري صغير يجمع التبرعات من نساء القرية بمبالغ زهيدة لا تتجاوز 200 ليرة من كل امرأة لمساعدة من كنّ في حاجةٍ لبعض الدعم وبخاصة تلك النسوة اللواتي فقدن أزواجهن ولا يوجد من يعيلهن ويعيل أسرهن، إلا أنّ الفكرة العفوية تطورت إلى اقتراحٍ بإنشاء مشروعٍ صغيرٍ يؤمن عملاً ودخلاً لأولئك النسوة عوضاً عن تقديم مساعداتٍ محدودة لهن. تعددت الاقتراحات وتراوحت بين تأسيس ورشة خياطة وتطريز أو مركز تجميل وغيرها، لكن تم الاتفاق أخيراً على إنشاء مخبزٍ لصنع خبز الصاج الذي تشتهر به السويداء، وما إن طرحت الفكرة على مستوى القرية حتى تحمس لها الجميع وبخاصة من أبناء القرية المغتربين في الخارج وقدّموا لها الدعم المالي الكافي لشراء المعدات والمستلزمات الأساسية للبدء بالمشروع.

لم أتمكن، لأسبابٍ خاصة، من لقاء أي من المسؤولات في الجمعية، لكني استطعت لقاء بعض الشبان في القرية والذين تجمعني بهم معرفة سابقة، أخبرني أحدهم، مفضلاً عدم ذكر اسمه، عن بعض التفاصيل فيقول: “بدأ العمل في المخبز بعد فترة قصيرة من طرح الفكرة وتجهيز المكان والمعدات، وأصبح يُنتج الخبز بجودة ونوعية ممتازة مراعياً المعاير الصحية والطبيعة من خلال تأمين أفضل أنواع القمح والاهتمام بجودة الإنتاج والنظافة والتسويق الجيد أيضاً، واليوم وبعد مرور 6 سنوات على إنشائه نجح المشروع بشكلٍ ممتاز واستطاع تأمين عملٍ ودخلٍ ثابت لأكثر من 20 امرأة في القرية ولبعض الشباب أيضاً الذين تولوا عمليات تسويق المنتج خارج البلدة”.

 لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فقد أنشأت الجمعية صندوقاً لتقديم الدعم لطلاب الجامعات والمدارس بشكلٍ شهري وبمنتهى السرية حفاظاً على قيمة العمل ومنعاً من التسبب بأي إحراجٍ لمن يتلقى المساعدة. وبحسب سليمان (25 عاماً) وهو أحد شباب القرية المتطوعين في المشروع ” فإنّ إمكانيات صندوق دعم الطلاب محدودة في الوقت الحالي ولا يمكن أن يتكفل الصندوق بكامل المصاريف المادية للطلاب المحتاجين، إلا أنّ المبالغ المقدمة تشكل دعماً لا بأس به للأسر محدودة الدخل وخاصة إذا كان فيها أكثر من طالب في الجامعة، المهم في المبادرة هو التشجيع على العلم وإيصال رسالة للطلاب بأن هناك من يقف بجانبكم ويشجعكم”.

 ونتيجة ً للأرباح الجيدة التي أتت من المخبز والجهود المبذولة من أهل القرية لإنجاحه، فقد أثمر المخبز عن تطوير مجموعة أخرى من المشاريع الصغيرة كان أولها إنشاء أقسامٍ جديدة فيه لإنتاج الفطائر والحلويات الشعبية (لزاقيات ومرشم وغيرها) والتي لاقت رواجاً ونجاحا ًكبيراً، بالإضافة إلى إقامة مشروعٍ صغيرٍ لإنتاج الأجبان والألبان بحيث يساهم في خلق فرص عملٍ جديدة وتسويق المنتج المحلي بأسعارٍ جيدة.

 ومن إنجازات جمعية النساء الخيرية في السهوة أنها قامت بمبادرةٍ بالاشتراك مع أهل القرية لإلغاء إحدى العادات الموجودة في المجتمع والتي تقوم على تقديم وجبات الطعام في مناسبات العزاء والتي عادةً ما يقوم بتقديمها أقرباء الميت أو جيرانه واستبدالها بوجبة طعام يقدمها المخبز، مخففاً بذلك الكثير من الأعباء المادية على الناس وخصوصاً في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر فيها الجميع.

ومنذ عامين تقريباً توسع نشاط الجمعية ليشمل إنشاء حديقة للبلدة ومشتلاً زراعياً في قطعة أرضٍ كانت مهملة قبالة المخبز. كما شرعت الجمعية مؤخراً بمشروع جديد وهو إنشاء معملٍ لتجفيف الفواكه في القرية مستفيدة من توفر الفواكه المحلية وتنوعها، حيث ساهم المشروع في تسويق الفواكه المحلية ومساعدة الفلاحين وتأمين المزيد من فرص العمل لشباب وصبايا البلدة.

ما حققته هذه الجمعية الصغيرة من نتائج تجاوز نجاح المشاريع والمبادرات التي أنشأتها على المستوى المادي ليصل إلى خلق حالةٍ من التعاون والتكاتف الاجتماعي في القرية وتعزيز قيم العمل الجماعي والتشاركي، حيث غدت الجمعية مشروعاً شخصياً لكل فردٍ من القرية يحاول دعمها بما يستطيع.

 أخبرني عمر (24 سنة، طالب جامعي) عن مدى تأثير الجمعية في تشجيع المبادرات الطوعية والعمل الجماعي في القرية فيقول “نجاح جمعية النساء شجعنا نحن الطلاب على إقامة مبادرات جديدة بيننا، فقمنا بحملات تنظيف لشوارع البلدة ومحيطها، كما قمنا بإنشاء فرقٍ لحراسة الحراج في القرية لمنع عمليات التحطيب التي انتشرت بشكل كبير في السنوات الماضية، بالإضافة لحملات التشجير في محاولة لإعادة الغابة كما كانت سابقاً، هذا عدا عن الدورات التعليمية المجانية التي قمنا بها لتدريس بعض المواد لطلاب المدارس وخصوصا لطلاب الشهادة الإعدادية والثانوية”

  أدى تفاقم الأزمة الاقتصادية مؤخراً وانعكاساتها السلبية على الحالة المعيشية للناس وارتفاع الأسعار الجنوني إلى مجموعة من المشكلات التي باتت تهدد عمل الجمعية وقد تؤدي إلى توقف عملها، حيث بات من الصعب تسويق المنتجات كما كان في السابق، الأمر الذي انعكس على إيرادات الجمعية وقلص أرباحها للحد الأدنى، مما دفع الجمعية إلى الاعتماد على التبرعات من أبناء القرية لسدّ بعض الثغرات المالية والإيفاء بالتزاماتها. وبحسب فيديو منشور على صفحات شبكات الأخبار في السويداء، قام المركز الإذاعي والتلفزيوني بزيارة المخبز مؤخراً وأعدّ تقريرا مصوراً عنه حيث تحدثت إحدى المسؤولات عن أبرز الصعوبات التي تواجههم حالياً والتي تتمثل بالتسويق وارتفاع أسعار بعض المواد، حيث يبلغ الإنتاج اليومي للمخبز بين 60إلى 80 كيلو من الطحين، ويطمحون لزيادة الإنتاج فيما لو توفرت فرص تسويق جيدة إلى خارج البلدة.

هناك محاولات اليوم في أكثر من قرية بالسويداء لتعميم هذه المبادرات، والتركيز على دور المنظمات المدنية والخيرية المحلية لتخفيف آثار الحرب وانعكاسها على الجميع، سيما مع تفاقم وطأة العقوبات الاقتصادية وتفاقم الفساد والاضطرابات الإقليمية التي أثرت على تدفق السيولة المالية من المغتربين، وحتى وإن كانت النتائج أقل من التوقعات المرجوة، إلا أنها تبقى تجربةً مهمة وذات قيمة كبيرة تسهم في دعم المجتمع والحفاظ على تماسكه.

The Poor in Damascus Do Not Even Have the Option to Be Afraid of Corona

The Poor in Damascus Do Not Even Have the Option to Be Afraid of Corona

This article is published as part of the Salon Syria Roundtable: War on Corona: A New Fateful Battle for the Syrians

Despite procedures taken by the government to tackle the Corona virus outbreak like closure of schools and universities; suspension of work for most official employees; cessation of public transport; closure of restaurants, cafés, and commercial shops; nighttime curfew; and a ban on transportation between governorates, and despite a statement by the United Nations saying that the situation in Syria could be catastrophic and the increase of infected cases to ten, including two deaths, many people in Damascus do not care about all of that, as streets in the daytime are full of pedestrians, honking cars, and calls of street vendors.

When I looked out of my balcony and saw all these people moving about in the streets, I asked myself “aren’t these people afraid for their lives? Doesn’t the Corona virus scare them? Why don’t they quarantine themselves in their homes just like most of the people around the world?” The answer then came to me from their exhausted faces and weary footsteps. Simply put, they are like no other people in the world. They resemble no one except for their country, which has suffered from the epidemic of war, besieging them for nine years and forcing them to experience countless forms of death.

The Poor Do Not Even Have the Option to Be Afraid of Corona

At seven in the morning, Abu Abdullah sweeps the street in front of a few grocery stores, which were exempt from the closure decision, he then carries the trash to a cart using his hands. He does not use a mask or gloves, for he does not give attention to the epidemic. “We have been playing with death for nine years. We escaped it more than once. I do not think God Almighty will kill us with an invisible virus,” he said.

Abu Abdullah is not an employee of the municipality. He performs these tasks in exchange for some money from the owners of these shops, in addition to vegetable and fruit leftovers and dry bread, which they give him for free.

Not far from Abu Ahmad and in front of a kiosk that sells government subsidized bread, dozens of people gather in a gruesome crowd. A quick glance reveals that most of them are poor and destitute. I stopped a woman who has just come out of the crowd as she angerly removed her scarf off her faces, which she was using as an alternative for a mask and asked her if she feared being present in crowded places. “If I could buy normal [unsubsidized] bread, I wouldn’t come here. The price of a bundle of that bread is seven hundred Syrian pounds, which is enough to cover the cost of an entire meal for me and my family. We, the poor, are prohibited from being afraid of the epidemic,” she replied.

Adnan, a child working as a delivery boy for a supermarket, is also fearless of the Corona virus. He wears his mask and carries on with his work with a smile on his face. He climbs the stairs of dozens of buildings carrying the orders of customers who chose to stay at home for fear of their safety. This is a choice that Adnan and his brother, who works in a similar job, cannot have because they are the only breadwinners of their displaced family suffering from grave living conditions.

Behind a small cart selling strawberries and green almonds stands Abu Ghassan wearing a mask and gloves and shouting out for his few goods. He is convinced of the importance and necessity of the quarantine, but he cannot do it himself. “I wish I could stay at home and relax from the epidemic nightmare that daunts upon me while I am working. I must deal with dozens of customers every day. However, if I stay at home, I might survive the Corona virus, but I will not survive the hunger,” he said.

With the start of the Stay at Home campaign and the nighttime curfew a few days ago, and in a dramatic scene, most roasteries I passed by were packed with customers buying enough supplies of nuts and salty treats to last them for days or even weeks in preparation for the home quarantine. Outside one of these roasteries stood an old man begging pedestrians and customers walking out with their bags, “help me, may God keep Corona away from you,” he was saying. A few meters away, a child was lying on the sidewalk wearing worn-out clothes with no care in the world about this epidemic.

Corona Threatens the Livelihood of the Poor

In one of the squares in the city of Jaramana, Abu Shaker, a taxi driver, waits for more than two hours for passengers, who have become almost non-existent, to get into his car, which he sterilizes a number of times every day. “Our work suffered after the decision to close restaurants, markets, and commercial shops. People’s movement was paralyzed to a great extent. Fear also found its way to their hearts and they are now afraid to take a taxi because they are concerned of getting infected with the virus,” said Abu Shaker. “I have to pay a monthly installment for the owner of the taxi in exchange for using it. Because of the nighttime curfew, my work hours decreased, and I am unable to pay the installment,” he added.

Several men, working as porters of furniture and construction material, gather in another square. Their eyes, filled with sorrow and pain, stare in all directions in search of someone who might require their work.

One of these men, Abu Yaser, tells me about their work during the Corona crisis, “a couple of days ago, I carried four sandbags and two cement bags to an apartment on the fifth floor for three thousand Syrian pounds. This was the last job I did. I was lucky compared to other porters who have not done much work for several days.” He then went on to say, “our work provides for our livelihood day by day. We are now at risk of losing our jobs, as people will no longer need our service in such conditions.”

At noon, a popcorn trolley is blaring a famous folklore popcorn song but there are no kids gathering around it as its owner was accustomed to. “In the past I used to sell a lot. Especially when children came out of schools. After the Corona crisis, my sales have dropped seventy per cent because children are no longer going out of their homes as much as they used to. I fear that the situation might get worse, then I would have to stop this work, which is my only source of income,” said the trolly’s owner.

Only the Poor Are Paying the Price for the Preventative Measures

Due to the closure decisions and the cessation of public transport, thousands of people lost their jobs and are now threatened by a daunting and frightening future, especially those who do not have any other source of income or some form of support they can resort to.

Shadi did not get the chance to celebrate his new café as he had to close it one week after opening it. “I spent two months preparing for the opening. I prepared the place and put a lot of effort in the decorations. I had to borrow a million Syrian pounds. Most of the equipment I got for the café have not been paid for yet,” Shadi said. “What can I do now to make up for my loss? How can I pay the rent? I fear the closure and curfew will go on for a long time because in that case I might die of sorrow rather than Corona,” he added.

Abu Omar, a bus driver, told me about the implications of his stopping work, “the bus used to provide work for three drivers, thus, three families were being supported. During the past few days, our income decreased by more than a half. The decision to stop all public transportation deprived our families from income and we are now threatened with necessity. Had it been not for the financial aid my siblings have provided, I would have actually starved.”

Mohannad, who used to work as a waiter in a restaurant, is also suffering. “I understand the importance of the closure decision in preserving public safety. However, will the restaurant owner give me any compensation to help me secure my daily livelihood? Will my landlord relieve me of paying rent? Will I find someone who can provide medicine for my sick mother who suffers from hypertension and diabetes?”

Preventative Measures Cost a Lot

An ounce of preventions is worth a pound of cure. Despite the importance of this adage, it is not suitable for many people in Syria. Prevention requires a lot of money. Due to the greed of the crisis dealers, the price of a mask reached seven hundred Syrian pounds, which is also the price for a small bottle of rubbing alcohol. The outrageous increase in prices also affected soap and cleaning materials, adding an additional burden on people who barely can provide their daily bread. In a saddening paradox, Abu Ghassan (the strawberry and green almond seller) paid his full daily labor to buy the mask, gloves, and a small bottle of rubbing alcohol.

Reinforcing the immune system requires various healthy foods, in addition to psychological comfort and avoiding stress. However, most people cannot enjoy these luxuries as the prices of fruits and vegetable skyrocketed. For example, the price of bananas, apples, and onions reached one thousand Syrian pounds for one kilogram, and the price of a kilogram of lemon or green pepper, which are high in vitamin C, surpassed one thousand six hundred Syrian pounds. Buying meat has turned into an unattainable dream.

Perhaps the man I met at the grocery store says it best. After he was intent on buying two kilograms of lemons and onions, he angrily stopped when he learned their prices. He eventually bought two onions and two lemons and sarcastically said, “they give advice to strengthen our immunity system! Do we strengthen it by eating bread, lentil, and bulgur? The poverty, pain, and deprivation we are experiencing will surely destroy all parts of our bodies. It seems that there is no savior for us other than Divine Providence.”

When I asked a butcher about how his business fairing, he answered with a sigh, “most customers are just buying one or two hundred grams of meat. Some people are buying the bones and putting them with the soup to give it the flavor of meat. People are barely able to buy bread and cheap vegetables.”

As the time for the night curfew sets, a sudden silence prevails. People then experience another form of suffering inside their homes that lack most entertainment gadgets and the most basic necessities of life as a result of previous crises, for example, the shortage in cooking gas, long hours of electric blackouts, and deteriorating internet services which hinders electronic communications, the only outlet available for people.

I stare at the dark windows of the houses and I think about their residents. What are they doing? What does the future hold for them? Will they be able to sleep with all these nightmares they are experiencing while they are asleep or awake?

المواطنة لا الفزعة

المواطنة لا الفزعة

رغم نشأتي في أسرة يسارية الفكر، كانت ترى في المناطقية عيباً مجتمعياً، إلّا أنني بقيتُ حاملة لآثار تلك المناطقية حتى بلغت الخمسين ونيفاً، تقودني إليها جذوري وردود فعلي حين أُصبح محط اتهام بمرتبة إنسانيتي ومواطنتي لأنني سليلة فلّاحين. يدفعني هذا الاتهام للتحصّن وراء مناطقيتي، فتراني أستدعيها على الفور حين تقديمي لنفسي كحورانيّة، وكأنني أقول حذاركم والمساس بأجدادي فأنا حفيدة فلّاحين من حوران فانتبهوا لما تنوون قوله حتى قبل أن يلفظوا حرفاً.

ربما هذا بالضبط ما يحدث أيضاً مع الطوائف والقوميات وليس المناطق فقط، في مجتمع فيه أغلبية ذات لون واحد تجعل الفئات الأصغر أو الأضعف فيه تشعر أنها مضطرة لحماية نفسها تحسباً لأي انتهاك محتمل.

 يحدث هذا على ما أظن حول العالم، في كل الدول التي يفتقد مواطنوها قوانين تحمي مواطنتهم، وتضبط حقوقهم وواجباتهم، فتختفي الانتماءات الصغيرة لعدم وجود ما يخشوه، ولعدم الحاجة للتقوقع حول أنفسهم أوللتحالف على عماء تحت غطاء الدفاع الاستباقي عن النفس، والتضامن في وجه المخاطر المحتملة.

بينما تجد تلك الفئات تتحوّل في الدول ذات السلطة الديكتاتورية إلى مجتمعات مغلقة تحافظ بشدة على أواصر وصلات بين أفرادها، قوامها العادات والتقاليد والممارسات واللهجة المشتركة، ويصبح الانتماء للمنطقة أو الطائفة أو القومية معنى الوجود وأصل الحياة التي تصبح بلا معنى لديهم بدون تلك الروابط، ويصبح هذا الانتماء عصب الوجود كلّه، إلى درجة أن يُحرِّم الإنسان على نفسه الاقتراب من الخطوط الحمراء لمنطقته أو طائفته أو قوميته خشية فقدان انتمائه لها بلفظه خارجها، والحكم عليه بالقطيعة فينقطع شريان الحياة.

الكارثة ليس فيما ينهجه عموم الناس غرائزياً، الكارثة حين تلمس من أصحاب العقل والثقافة والمنطق والعلم الخوف من الاقتراب من تلك الخطوط الحمراء ونقد ما يمس مجموعاتهم، في حين يدعون للحريّة والتحرر من القيود الدينية والطائفية والقومية لدى الآخر، أي آخر. هذا الخوف هو بالضبط ما جعل أجنّة الإجرام والانحراف تصبح قوّة مؤثرة قد تأخذ أهلها إلى داهية كما يحدث في درعا والسويداء، وأرى فيه نموذجاً لما يمكن أن يحدث بعد حين في أنحاء سوريا، ويحوّلها كلّها إلى أرض لحرب أهليّة حقيقية سعى النظام السوري من سنوات عديدة لتتبنى المصطلح دول العالم حين توصّف المقتلة الجارية في سوريا تحت رعايته ومن بطولته وبطولة أشباهه.

ما يحدث في درعا والسويداء في الجنوب، وما سيحدث في الشرق والغرب والشمال، بين العرب والكرد، بين أهل الدير والرقة، بين إدلب وحلب، حتى بين الطوائف التي تحمل من مئات السنين تاريخاً مثقلاً بالظلم والقهر من إحداها للأخرى، أو عداءاً تاريخياً بين واحدة وأخرى، هو بجدارة حرب أهلية حقيقية ستحصد الجميع بلا استثناء، أو بالأحرى ستحصد ما بقي من بلد وأهله. لم تعد القضايا الساخنة المطروحة على الساحة السورية ثورة شعب ولا حراك تغيير ولا انتفاضة مقهورين، تعدّت كل هذا بعد سنوات حرب طويلة أنهكت السوريين اقتصادياً واجتماعياً، وأودت بأحلامهم إلى داهية، تعدّت كونها حمل السلاح للدفاع عن النفس، أو لتغيير نظام حكم بثورة مسلّحة، أو لأرض معركة لنزاعات بين دول تريد موطىء قدم لها في منطقة جغرافية حسّاسة تفتح نوافذ على شرقنا الملعون، أو حتّى لم تعد لحفاظ سلطة الاستبداد على الحكم، ولا للدفاع عن وطن، ولا لمحاربة إرهاب.

القضايا الساخنة ضاقت لتتحول لدفاع عن مصالح فردية، أو مجموعاتية، أو مناطقية، أو قوميّة، أو طائفية دينية. ضاقت حتى مُسِخت كل القضايا التي جمعت حولها السوريين حين اتّحدوا تحت شعار الحريّة، والعدالة، والديمقراطية، والمواطنة المتساوية.

 تلك نتائج طبيعية لمجتمعات أنهكها السلاح، فأصبح صوته يحكم الأرض لا القانون، في ظل دولة لم تعد تملك مقومات دولة، تقودها سلطة السلاح المستبد وفق عقلية تشبه بشكل ما عقلية العصابات التي أنتجها الوضع الراهن، سلطة فلت عقالها فانفلت السلاح على الأرض المستباحة، فوق رأس الشعب  المستباح.

ما يجري في درعا والسويداء نموذج واضح لمن ما زال يملك بصراً وبصيرة، السلاح أغرق الأرض وأصبح في متناول الجهلة والهُمّل، والزعران والمجرمين، والمنحرفين وسَقَط القوم، يتم استخدامه لغايات وأهداف ليس فيها ذرة من الأخلاق، للسرقة ولفرض السطوة وللخطف وللتهريب ، لتجارة السلاح والحشيش، لتهريب الآثار، للصفقات المشبوهة في سوق مفتوح للمنافسة، وتضارب مصالح لا حدود له.

كل هذا يجري تحت بصر سلطة لا سلطة لها تتظاهر بالعماء، وأفراد وعائلات، وحمايل وعشائر وشيوخ، غضّوا الطّرف، وتظاهروا بالعمى والطرش، وتسلحوا بالخرس، حتى وقعت الواقعة وستقع، ولم يعد بالإمكان ضبط عقال الحمقى، في بلد مريض عليل، بلا قانون، وشعب بلا حماية، يهرول للتقوقع كل حول نفسه، وتحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق، العائلي أو المناطقي أو الديني أو غيره.

في ظل وضع بهذا السوء، وعندما تقع الواقعة، تحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق تذرّعاً بأسباب هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، وتُستثار العواطف بالدعوة للنخوة والفزعة، وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وأنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمّي على الغريب، وتُشعل النار وتحترق البشر والحجر.

ما تحتاجه درعا والسويداء وما يحتاجه من سيأتيهم الدور بعدهما ليس عقلاء وشيوخاً لم يكونوا يوماً عقلاء، إنما صحوة مجتمعية تعيد ترتيب أولوية الولاء فتضع على رأسها الولاء لوطن في نزعه الأخير، تنعش فيه دولة ديمقراطية تحمي مواطنيها وتضع قوانين تضبطهم، تدافع عن حقوقهم وتفرض عليهم واجباتهم، دولة يتفوّق بها حس المواطنة على أي حس مناطقي أو قومي أو طائفي أو ديني، دولة يشعر في ظلها الإنسان بالأمان فلا يحتاج لقوقعة يتوهّم أنها تحميه، ولا يهرول للاحتماء تحت عباءة تجرّده من حرّيته وتثنيه عن الجرأة المطلوبة للتخلّص منها كمرحلة أوليّة على الطريق للتخلّص من كل أنواع الاستبداد السلطوي، السياسي منه أو الديني أو العسكري أو المناطقي. الحريّة تبدأ عندما نبدأ في كسر قيودنا الفردية لنستطيع أن نكسر القيود التي تكبّلنا جميعاً فنتحرر.

The Poor in Damascus Do Not Even Have the Option to Be Afraid of Corona

فقراء دمشق لا يمتلكون حتى خيار الخوف من كورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

على الرغم من الإجراءات الحكومية، التي اتُخذت للوقاية من انتشار وباء كورونا، كإغلاق المدارس والجامعات، وتعليق الدوام الرسمي لمعظم الموظفين، وإيقاف حركة المواصلات العامة، وإغلاق المطاعم والمقاهي والأسواق التجارية، وحظر التجول المسائي، ومنع التنقل بين المحافظات، وعلى الرغم من إعلان الأمم المتحدة بأن الوضع في سوريا قد يكون كارثياً، وارتفاع عدد المصابين بكورونا إلى نحو 10حالات بينهم حالتي وفاة، لا يكترث كثيرٌ من الناس في دمشق بكل ما ذكر، حيث نجد معظم الشوارع، خلال فترة النهار، مليئة بالمارة، تعج بضجيج السيارات وأصوات الباعة المتجولين.

حين أطل من شرفتي وأرى حركة الناس في الشارع، أتساءل: ألا يخشى هؤلاء البشر على حياتهم؟، ألا يرعبهم كورونا؟، لماذا لا يحجرون أنفسهم في بيوتهم أسوةً بمعظم شعوب العالم؟،  فتأتيني الإجابة من وجوههم المنهكة ومن خطاهم المتهالكة. ببساطة هم ليسوا كشعوب العالم ولا يشبهون سوى بلادهم التي مازالت ترزخ تحت وطأة وباء الحرب الذي يحاصرهم منذ تسعة أعوامٍ اختبروا خلالها أنواعاً لا تحصى من الموت.

الفقراء لا يملكون حتى خيار الخوف من كورونا

في الساعة السابعة صباحاً، يكنِّس أبو عبدالله الشارع أمام بعض البقاليات ومحلات الخضار، التي نجت من قرار الإغلاق، ثم ينقل القمامة بكفيه إلى العربة. لا يرتدي كمامة أو قفازات طبية، فهو لا يكترث للوباء: “تسع سنوات ونحن نلعب مع الموت، نجونا منه أكثر من مرة، لن أتوقع أن رب العالمين سيقتلنا بفايروسٍ غير مرئي”. أبو عبدالله ليس موظفاَ في البلدية وإنما يزاول عمله هذا مقابل بعض المال الذي يجنيه من أصحاب تلك المحلات، إلى جانب بقايا الخضار والفاكهة والخبز اليابس التي يهبونه إياها دون مقابل.

وليس ببعيدٍ عن أبو أحمد، وأمام أحد أكشاك معتمدي بيع الخبز الحكومي يتجمهر عشرات الناس في ازدحامٍ مخيفٍ. نظرة سريعة على هيئاتهم ستكشف أن معظمهم ينتمي للفقراء والمعدمين.  أوقفتُ سيدةً كانت خارجة لتوها من قلب ذلك الازدحام، وقد نزعت، بتأففٍ وغضبٍ، شالها الذي غطت به وجهها كبديلٍ عن الكمامة، وسألتها عن خوفها من خطر التواجد في الأمكنة المزدحمة فأجابت لاهثةً وبكثيرٍ من القهر:” لو كان باستطاعتي شراء الخبز السياحي لما أتيت إلى هنا، فسعر ربطة ذلك الخبز (700 ليرة)  يكفيني وأولادي ثمن وجبة طعام. نحن الفقراء ممنوعٌ علينا أن نخاف من الوباء”.

الطفل عدنان، عامل توصيل الطلبات في سوبرماركت، هو أيضاً لا يكترث للكورونا. يرتدي كمامته ويواصل عمله مبتسماً، ليصعد كل يومٍ عشرات البنايات محملاً بطلبات الزبائن الذين اختاروا البقاء في بيوتهم حرصاً على سلامتهم، وهو خيار ليس بمقدور عدنان وأخيه -الذي يعمل في عملٍ مشابه- اتخاذه، فهما المعيلان الوحيدان لعائلتهما النازحة والتي تعاني ظروفاً معيشية قاهرة.

وخلف عربةٍ صغيرة لبيع الفريز والعوجة يقف أبو غسان، مرتدياً كمامته وقفازاته لينادي على بضاعته القليلة. البائع مقتنعٌ بأهمية وضرورة الحجر الصحي ولكنه لا يستطيع تطبيق ذلك :” أتمنى أن أجلس في بيتي لأرتاح من كابوس الوباء الذي يلاحقني طوال عملي، حيث أضطر للاحتكاك مع عشرات الزبائن، ولكن إن جلست في البيت، ربما أنجو من الكورونا ولكني قد لا أنجو من الجوع”.

قبل أيامٍ، وبالتزامن مع حملة “خليك بالبيت” وتنفيذ قرار حظر التجول المسائي، وفي مشهدٍ درامي، اكتظت معظم المحامص، التي مررت بجانبها، بالزبائن الذين كانوا يشترون مؤونة وفيرة، من المكسرات والموالح وغير ذلك، تكفيهم أياماً وربما أسابيع، وذلك استعداداً لتطبيق خيار الحجر المنزلي. مقابل إحدى تلك المحامص وقف متسولٌ عجوزٌ يستجدي المارة والخارجين بصحبة أكياسهم، منادياً: “ساعدوني الله يبعد عنكن الكورونا”، وعلى بعد أمتارٍ منه كان طفلٌ ينام على الرصيف بأسماله البالية غير آبهٍ بالوباء الذي يرعب العالم.

كورونا يهدد مصدر رزق الفقراء

 في إحدى ساحات مدينة جرمانا يقف سائق التاكسي أبو راشد لأكثر من ساعتين، منتظراً  ركاباً، باتوا شبه معدومين، كي يصعدوا إلى سيارته التي يتكفل بتعقيمها عدة مراتٍ في اليوم. يشتكي السائق واقع حاله: ” تضرر عملنا بعد قرار إغلاق المطاعم وبعض الأسواق والمحلات التجارية حيث شُلت حركة الناس بشكلٍ كبيرٍ، كما أن الرعب قد تسلل لقلوبهم فباتوا يخافون من الصعود معنا خشية احتمال إصابتهم بالفايروس”. ويضيف :” أدفع لصاحب التاكسي مبلغاً شهرياً لقاء استثمارها، ونتيجة حظر التجول المسائي تراجعت ساعات عملي ما قد يجعلني عاجزاً عن دفع ذلك المبلغ”.

في ساحة أخرى يتجمع عدد من الرجال الذين يعملون في مهنة العتالة ونقل الأثاث ومواد البناء. تحدق وجوههم، الطافحة بمعالم القهر والوجع، في كل الاتجاهات علَّها تلتقط أحداً يطلبهم في عملٍ ما.

يحدثني أبو ياسر أحد أولئك الرجال عن واقع عملهم خلال أزمة الكورونا: ” قبل يومين قمت بنقل أربعة أكياس رمل وكيسيْ إسمنت إلى شقةٍ في الطابق الخامس لقاء ثلاثة آلاف ليرة، وكان هذا آخر عملٍ قمت به وقد كنت محظوظاً به مقارنة بمعظم العتالين الذين لم يحظوا بأي عملٍ يذكر منذ عدة أيام”. مضيفاً :”عملنا هذا يؤمن قوتنا يوماً بيوم، وقد أصبحنا الآن مهددين بخسارته، إذ لا أحد سيحتاج لجهودنا في مثل هذه الظروف؟”.

وعند الظهيرة تصدح في الشارع عربة بائع البوشار بأغنية “طير وفرقع يا بوشار”، ولكن دون أطفالٍ يتحلقون حولها كما اعتاد البائع الذي يقول:” في السابق كنت أحقق مبيعاتٍ كبيرة، خاصة خلال عودة الأطفال من مدارسهم، وبعد أزمة الكورونا انخفضت مبيعاتي لأكثر من 70%  نتيجة انحسار وجودهم في الشوارع، وأخشى أن يسوء الوضع أكثر فأضطر لإيقاف عملي الذي يشكل  مصدر رزقي الوحيد”.

 وحدهم الفقراء يدفعون ثمن القرارات الوقائية

نتيجة قرارات الإغلاق وإيقاف حركة المواصلات العامة تحول آلاف الناس إلى عاطلين عن العمل، وباتوا مهددين بغدٍ مخيفٍ ومجهولٍ، خاصة من ليس لديهم أي مصدرٍ مالي آخر أو أي داعم يلجؤون إليه.

  لم يفرح الشاب شادي بمقهاه الجديد الذي أغلقه بعد أسبوعٍ من افتتاحه، حيث يقول: “لنحو شهرين وأنا أستعد للافتتاح. بشق النفس جهّزت المكان وبذلت جهداً في تصميم ديكوراته وقد استدنت لأجل ذلك نحو مليون ليرة، كما أن معظم المستلزمات التي أحضرتها للمقهى لم أسدد ثمنها بعد”. ويضيف بقهر: “ماذا سأفعل الآن لتعويض خسارتي وكيف سأسدد إيجار المكان؟”، أخشى أن يطول أمر الإغلاق وحظر التجول لأنني حينها قد أموت من القهر وليس من الكورونا”.

ويحدثنا سائق السرفيس أبو عمر عن تداعيات توقفه عن عمله: ” كان السرفيس يؤمن عملاً لثلاثة سائقين فتعتاش منه ثلاث عائلات، وخلال الأيام الماضية تقلص دخلنا لأكثر من النصف، ومع قرار إيقاف حركة المواصلات العامة حُرمت عوائلنا من أي دخلٍ وبتنا مهددين بالعوز والحاجة، ولولا المساعدات المالية التي يمدني بها أخوتي لكنت مهدداً بالجوع بشكلٍ فعلي”.

 معاناة أخرى يعيشها الشاب مهند الذي كان يعمل نادلاً في مطعم حيث يقول” أتفهم مدى أهمية قرار الإغلاق في الحفاظ على السلامة العامة، ولكن بالمقابل، هل سيدفع لي صاحب المطعم أي تعويضٍ يساعدني على تأمين قوت يومي، وهل سيعفيني صاحب البيت الذي أسكنه من دفع إيجاره؟، وهل سأجد من يؤمن أدوية الضغط والسكري لأمي المريضة؟”.

الإجراءات الوقائية تكلف غالياً  

“درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج”. بالرغم من أهمية ذلك المثل إلا أنه لا يناسب الكثير من الناس في سوريا، إذ باتت الوقاية تحتاج لقناطير من المال، نتيجة جشع تجار الأزمات، فقد وصل سعر الكمامة الجيدة إلى 700 ليرة وأكثر، والسعر ذاته لعلبة الكحول الصغيرة، كما طال الغلاء الفاحش أسعار الصابون ومواد التنظيف، وهو ما شكل عبئاً إضافياً على المواطن الذي بالكاد يتمكن من تأمين لقمة عيشه. وفي مفارقة مؤلمة، دفع أبو غسان (بائع الفريز والعوجة) كل ما جناه من عمل يومٍ كاملٍ لشراء كمامته وقفازاته وعلبة معقمٍ صغيرة.

 وتحتاج تقوية الجهاز المناعي لتناول الأغذية الصحية المتنوعة إلى جانب الراحة النفسية والابتعاد عن التوتر، لكن معظم الناس لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، في ظل تحليق أسعار الفاكهة والخضار، فعلى سبيل المثال،  وصل سعر الموز والتفاح والبصل إلى ألف ليرة، فيما تجاوز سعر الليمون والفليفلة – الغنيين بفيتامين C-  الـ 1600 ليرة. أما اللحوم فقد أصبح شراؤها حلماً بعيد المنال.

ولعل الرجل الذي صادفته في محل بيع الخضار يلخص واقع الحال، فبعد أن كان عازماً على شراء كيلوين من الليمون والبصل، تراجع عن ذلك بغضب حين علم بسعرهما مكتفياً بشراء بصلتين وليمونتين صغيرتين، ومعلقاً بسخرية رمادية: “ينصحوننا بضرورة تقوية مناعتنا !، هل سنقويها بتناول الخبز والعدس والبرغل؟. إن الفقر والألم والحرمان الذي نعيشه كفيلٌ بتدمير جميع أعضاء جسدنا. يبدو أنه ليس لنا من منقذٍ سوى الرعاية الإلهية”.

وعند سؤال أحد اللحامين عن مدى إقبال الناس على ملحمته أجاب متنهداً :”معظم الزبائن يكتفون بشراء مئة أو مئتين غرام لا أكثر، وهناك من يكتفي بشراء العظام لكي يضعها مع الحساء ممنياً نفسه بطعم اللحم، فالناس اليوم بالكاد يستطيعون شراء الخبز والخضراوات الرخيصة”.

مع بداية موعد حظر التجول المسائي وحلول الليل يعم الصمت فجأة، ليخوض الناس معاناة أخرى داخل بيوتهم التي تغيب عنها معظم وسائل الترفيه والتسلية وأبسط مقومات الحياة، نتيجة الأزمات السابقة التي مازالوا يعايشونها، كفقدان الغاز المنزلي والانقطاع الطويل للكهرباء وسوء خدمات الإنترنت التي تعيق إمكانية التواصل الالكتروني الذي بات المتنفس الوحيد أمامهم.

أحدِّق في نوافذ البيوت المعتمة، أفكر بحال ساكنيها. ماذا يفعلون الآن؟ وماذا يخبئ الغد لهم؟، ترى هل يستطيعون إلى النوم سبيلاً في ظل الكوابيس التي تداهمهم في نومهم وصحوهم؟.

كورونا في اللاذقية

كورونا في اللاذقية

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

منذ إعلان فيروس الكورونا كوباء عالمي، ظل الإعلام السوري ينفي وجود أيه حالة إصابة به، رغم أن لبنان أعلن عن إصابات بفيروس كورونا واتخذ الإجراءات اللازمة للحد من انتشار الفيروس، بينما وزير الصحة السوري وهو طبعاً طبيب أعلن أن لا إصابة بفيروس كورونا في سوريا وبأن الجيش السوري البطل قضى على الفيروسات والجراثيم! وبذلك حول علم الطب إلى مادة القومية التي يدرسها طلاب سوريا في المدارس والجامعات. لكن النظام اضطر فجأة إلى اتخاذ إجراءات وقائية من فيروس كورونا، أحس بالحرج وبشيء من الخجل، فدول العالم كلها أعلنت عن إصاباتها بفيروس كورونا ما عدا سوريا. وأعلن النظام السوري إغلاق المدارس والجامعات ودور العبادة والمقاهي والأراجيل ( لكنه لم يغلق أبداً أي من محلات بيع الدخان ومعسل الأراكيل!). وجاء إعلانه بإيقاف النقل العام (باصات الدولة الكبيرة) والميكروباصات التي تنقل المواطنين من قرى اللاذقية إلى مركز المدينة.

ولأنني على إحتكاك يومي مع الشارع السوري وأتكلم مع مختلف شرائح المجتمع سأنقل صوت أخوتي السوريين في اللاذقية، و لكن قبل نقل معاناة السوريين في اللاذقية في زمن كورونا يجب الإشارة إلى القوانين التي أصدرتها الحكومة السورية بشأن كورونا؛ ففي مجال المحاكم والقضاء وبناء على قرار وزارة العدل رقم 5708م يتوقف العمل في المحاكم السورية حتى تاريخ 16 – 4 – 2020. إلا في الحالات الإسعافية كبعض القضايا الجنائية. ومعظم المحامين توقف عملهم في مكاتبهم التي يداومون فيها بعد الظهر من الساعة الخامسة ألى الثامنة أو التاسعة لأن المواطن مضطر أن يلتزم الحجر في المنزل تمام الساعة السادسة. وإن كان من أهل القرى المجاورة القريبة من اللاذقية فعليه أن يلتزم الحجر في منزله الساعة الثانية ظهراً لأن المواصلات بين اللاذقية والقرى المجاورة أو المناطق البعيدة تتوقف. أما بالنسبة للمدارس فاتخذت الحكومة السورية قراراً بإغلاقها حتى 16 نيسان، ولكنه قرار قابل للتمديد حسب تفشي فيروس كورونا. ويبقى الطلاب بدون مدرسة وبدون علم. ولأن فكرة التعليم عن بعد التي تطبقها معظم الدول (ومنها بعض المدارس والجامعات في لبنان) غير ممكنة في سوريا؛ فمعظم الطلاب يعيشون تحت خط الفقر ولا يملكون لاب توب في بيوتهم، وهم بالكاد يعيشون على الخبز والشاي. القرار الأهم الذي التزمت به الدولة بشكل جدي للغاية هو إصدار مرسوم بتغريم كل مواطن يخرج من بيته بعد الساعة السادسة مساء، والغرامة تترواح بين 50 ألف وبين 100 ألف ليرة سورية. وقد شهد محامي صديق تطبيق تلك الغرامة أمامه وإصرار الشرطي رغم توسل المواطن المروع من الجوع أنه لا يملك هذا المبلغ؛ لكن استطاع الإتصال ببعض الأصدقاء ليؤمنوا له مبلغ المخالفة مئة ألف ليرة.

إنها قمة المهزلة والظلم حقاً أن تجد في كل شوارع اللاذقية خاصة عند صرافات قبض الراتب وعند مراكز توزيع المساعدات الغذائية حشداً من السوريين المتلاصقين يزيد عددهم عن 400 شخص أو 500 بانتظار توزيع الراتب، وترى سوريين يبيعون الخضار والفاكهة والبطاطا في سوزوكي. وفي الأحياء الشعبية مثل قنينص وفي ساحة مديرية التربية ترى بسطات كثيرة وعلاقات ثياب على حامل معدني تبيع الأبسة المستعملة أي البالة. كل هذا لا يعني الدولة السورية لا يهمها بشيء بل المهم هو الحجر التام الساعة 6 في المنزل . أما بالنسبة لأهل القرى والمناطق المجاورة والبعيدة نسبياً عن مدينة اللاذقية؛ فقد انتظر بعضهم ساعات حتى حان دوره في قبض الراتب لكن من سوء حظهم إنتهى الدوام وقاربت الساعة الثانية وربعاً ظهراً فقالوا لأهل القرى عودوا غداً. البعض انتابه حالات هستيرية حقيقية لدرجة أن رجلا في السبعين من عمره هده من التعب والوقوف بانتظار الراتب أخذ يلطم وجهه ويلعن حياته ويقول كل انتظاره من أجل راتب تقاعدي 18 ألف ليرة وبأنه دفع نصفها في المواصلات. الكل يتساءل (وأنا منهم) هل حقاً الحكومة السورية حريصة على صحة المواطن السوري! وحين ترى تلك الحشود في النهار وحتى الساعة 2 ظهراً متلاصقة لساعات بانتظار ربطة خبز أو كيس رز ألا ترى خطر كورونا! ومعظم هذه الحشود في ساحة 8 آذار وقرب مخفر الشيخ ضاهر حيث توجد مراكز توزيع (مخفر الشيخ ضاهر – ومشفى الأسد الجامعي) ألا تعنيها صحتهم قبل الساعة 2 ظهراً؟  أقسم لي بعض الموظفين أنهم انتظروا أكثر من 8 ساعات حتى قبضوا رواتبهم، لأن الجوع كافر ولأن الموت من الجوع أخطر وأكثر من الموت بكورونا. أما الأصرار على أن يُغرم المواطن السوري الذي بالكاد يسد جوع أولاده بالخبز بـ 100 ألف ليرة أو خمسين ألف ليرة ( حسب مزاج الشرطي ) إذا وجد خارج منزله بعد الساعة 6 والإصرار على هذه الغرامة فهو برأيي باب للنصب واضح ولا يمكن تفسيره بطريقة أخرى! الآن أصبحت حياة المواطن تهمكم بعد الثانية ظهراً؛ فتحبسونه في البيت بدون كهرباء (حيث بلغ انقطاعها 5 ساعات متواصلة) وبدون ماء ساخن.

 كما أصدرت الحكومة السورية قراراً بمنع التنقل بين مدينة اللاذقية والقرى المحيطة بها بعد الساعة الثانية ظهراً؛ وكلنا نعرف أن ريف اللاذقية بأسوأ حالة ولا توجد فيه خدمات طبية أبداً. لنفرض أحد هؤلاء المواطنين أصيب بجلطة قلبية أو انفجار في الزائدة الدودية أو نوبة ربو وكلها حالات تستدعي الإسعاف السريع ما يعني وجوب أن يكون المريض في غرفة العناية المركزة خلال عشر دقائق، فكيف يتصرف أهل القرى؟ سألت فقالوا لي هناك خطوط ساخنة يتصل بها المواطن وهذه الخطوط الساخنة لا تجيب! وإذا حدثت معجزة وردت على شكوى المواطن فإن اتخاذ الإجراءات اللازمة لإسعاف المريض تستغرق وقتاً يكون فيه المريض قد انتقل للحياة الأخرى. أما الغلاء الفاحش فأمر لا يُصدق إذ يومياً يزيد سعر كل السلع الاستهلاكية مئات الليرات، أصبح كليلو البطاطا بـ 1200 ليرة وكيلو اللحم بـ 15 ألف ليرة وكيلو ليمون الرتقال بـ 1200 ليرة وكيلو ليمون الحامض بـ 1600 ليرة. حتى البصل سعر الكيلو 1000 ليرة. ورواتب الاحتقار هي ذاتها 30 أو 40 دولاراً في الشهر. والتموين لا يبالي ولم يشهد أحد أن التموين حاسب تاجراً على زيادته للأسعار. أترك لأخوتي السوريين الذين التقيهم كل يوم التعبير عن حالتهم.

عامر: التقيت بعامر، 40 سنة أستاذ للمرحلة الإبتدائية حين كان يقف في طابور لأكثر من 300 مواطن سوري (رجال ونساء ومجندون) عند بوابة مؤسسة استهلاكية في شارع 8 آذار؛ سألته: ماذا تنتظر؟ أيه مادة سيوزعون؟؛ فرد بغضب لم يستطع إخفاءه: الخبز. وأشار إلى شاحنه عملاقة ممتلئة بربطات الخبز، وقال لي: عيشة كلاب يا محلى الأفران. صحيح كنا نقف طوابير على باب الأفران لكن كان هنالك شيء من تنظيم، كان هناك (على باب الأفران) ثلاثة كوات أو نوافذ: نافذه للرجال وأخرى للنساء وثالثة للعساكر (الجنود)؛ لكن الدولة السورية أرادت أن تخفف الضغط على الأفران واحتكاك الناس ببعضهم فأقامت مراكز لتوزيع الخبز وغيرها من المواد كالسكر والرز وزجاجة الزيت النباتي وكما ترين الازدحام على مراكز التوزيع أكثر بكثير من الازدحام على الأفران. عامر طاش صوابه من الغضب ولعن ذل العيش وقال لي: أصبح الخبز رديئاً جداً، غير مخبوز بشكل كاف. سألت عن السبب أحد العاملين في الأفران فقال لي بأنهم يفتقدون للمازوت ولا يكفي المازوت الشحيح لإنضاج الخبز فتخرج الأرغفة قبل أن تنضج.

هذا المشهد، أي إزدحام الناس الكبير (أكثر من 300 شخص) على أبواب المؤسسات الإستهلاكية أو مراكز توزيع المعونات نراه في كل زوايا اللاذقية، وتبدو إجراءات العزل كإغلاق المدارس والجامعات والمقاهي كنكتة. فمقابل مخفر الشيخ ضاهر في اللاذقية الملاصق لثانوية جول جمال التي تحولت إلى خرابة وثكنة عسكرية هنالك أيضاً مركز توزيع معونات كالسكر والأرز ويحتشد المئات من السوريين بأجساد متلاصقة لاستلام المعونات على البطاقة الذكية، بينما كل المقاهي المجاورة مُغلقة بقرار حكيم من الدولة السورية بمنع التجمعات حفاظاً على صحة المواطن من فيروس كورونا!

وداد: هي أم لأربعة أطفال التقيتها تصرخ وتبكي في صيدلية، المسكينة فقدت أعصابها لأنها قصدت أكثر من عشر صيدليات بحثاً عن دواء للغدة الدرقية؛ فهي مصابة بفرط نشاط الغدة الدرقية والدواء مقطوع (مثل الكثير من الأدوية الرئيسية). تحدثتُ إليها وحاولتُ مواساتها ونصحتها أن تلجأ إلى مشافي الدولة عسى يؤمنون لها الدواء، واعتقدت أن الدواء متوفر في المشافي، قالت لي: لا تواخذينني، أشعر أنني امرأة شريرة صرتُ أضرب أولادي بقسوة ثم أندم وأبكي والسبب أنني منذ ثلاثة أشهر لا أتناول دواء فرط نشاط الغدة الدرقية فهو مقطوع، وهذا يسبب لي تسرعاً في القلب ورجفة في الأيدي وعصبية شديدة. وأضافت بأن كل الصيدليات التي قصدتها وعدتها أن تؤمن لها الدواء، لكن كل صيدلي أعطاها سعراً مُختلفاً. ويشتكي العديد من السوريين في اللاذقية الذين التقيتهم من جشع الصيادلة وكيف يتحكمون بسعر الدواء ويضاعفون سعره حسب مزاجهم ولا أحد يحاسبهم.

فواز: 44 سنة محامي عديم الضمير مُرتش وبارع في الكلام، تجمعني به معرفة قديمة، اعترض طريقي بوقاحة وأراد أن يمنعني من التقاط صور لحشد من المواطنين في اللاذقية ينتظرون توزيع السكر؛ فتحديته وقلت له بأي حق تمنعني من التقاط الصور! قال: أنت تشوهين صورة بلدك وعيب عليك نشر الغسيل الوسخ! ذكرني كلامه بخطاب الأجهزة الأمنية. كلهم مولعون بعبارة (عيب نشر الغسيل الوسخ). قلت له بسخرية: المفروض أن تدافع عن شعبك لأنك محامي والمحامي يدافع عن الحق و…. لم يتركني أكمل صرخ بوجهي: أتسمين هذا شعباً هؤلاء حمير وبقر تأمليهم كيف يقفون كالقطيع بانتظار ربطة خبز أو كيس سكر. وهؤلاء البقر والحمير غير مدركين خطورة فيروس كورونا وسيتسببون لنا بكارثة في حال انتشر الوباء! امتصصت غضبي بالسخرية منه وقلت له: عجيب كيف تصف شعبك بالحمير والبقر. تأكد هؤلاء يعرفون تماماً خطر فيروس كورونا ويعرفون تماماً أنهم يعرضون حياتهم للخطر لكنهم مضطرون، وعلا صوتي: هل تعرف معنى (مضطرون)، لأن أعلى راتب في الدولة السورية 30 دولاراً وأقصى راتب 50 دولاراً، لذا هم مضطرون لتحمل الذل واحتمال الإصابة بمرض كورونا المميت لأنهم وأطفالهم جياع . أنت وأسيادك لم تجربوا شعور الجوع فالجوع كافر. وكان “محامي الشعب” قد وضع صورة على صفحته على الفيس لرجل يبدو كبدوي يلبس رداء أبيض وبيده عصا وبجانبه حمار يجره غصباً إلى الزريبة وكتب تحت الصورة هكذا تضطر الدولة السورية للتعامل مع الشعب السوري الحمار في اللاذقية بأن تجبره على الحجر في المنزل. قلتُ له بمناسبة الصورة لو أن الدولة السورية تحب شعبها وحريصة أن تحجره في المنزل كي لا يصاب بالأمراض لكانت أعطته راتباً على الأقل 400 شو إسمو (أي دولار لأن اسم الدولار في سوريا الشو اسمو واسم الكورونا ذات الرئه) وكل شيء في هذا الوطن له اسمان. قال لي: يا للعار تشوهين صورة مدينتك وتنشرين صوراً بشعة ومهينة عنها. قلت له: معك حق الحقيقة موجعة. ومن هذا الحبق شتلات كما يقولون ومثل المحامي عديم الضمير هناك كثيرون مثله. لا أحد يجرؤ على كتابة أو قول: أية إجراءات عزل هذه وحجر الناس في بيوتها وإغلاق المدارس والجامعات الخ، والناس يحتشدون بالمئات على أبواب مراكز توزيع المعونات الإستهلاكية!

أحمد: 30 سنة يسكن في قرية قرب اللاذقية ويعمل في البناء (معلم باطون)، أي أنه يضطر أن يخرج من بيته كل يوم ومدخوله من المال يومي، في اليوم الذي لا يعمل به لا يقبض مالاً. كان في حالة نفسية شبه منهارة وهو يقول: كيف سألزم المنزل! يجب أن أعمل كل يوم لأطعم أطفالي، لو أن الدولة تعطيني (وأمثالي) تعويضاً بدل حجرنا في البيت ثم إن قريتنا (كمعظم القرى) ليس فيها الحد الأدنى من الخدمات، وأي إجراء ظالم ولامنطقي منع المواصلات! والميكروباصات من القرى إلى اللاذقية، افرضي انتابنتي جلطة قلبية! ماذا أعمل! لا قدرة لدي لأطلب تاكسي لا أملك المال! كيف سيتم إسعافي، وأنت تعرفين الجلطة القلبية تُميت بدقائق إن لم يتم إسعافها. ماذا يفعل أبناء القرى وقد عزلوهم في بيوتهم ولا توجد أية خدمات صحية ولو اضطروا لأسباب كثيرة صحية وخدمية أن يسافروا إلى اللاذقية فلا توجد مواصلات! لو أنهم يعقمون الميكروباصات المهترئه وحالتها مزرية ولا يسمحون إلا لثلاثة أشخاص بركوبها يكون هذا حلاً معقولاً، أما أن يحجرونا في منازلنا ويقطعون المواصلات بالكامل فهذا يعني أن نموت مما يمكن أن نتعرض له .

سالم: موظف في مؤسسة المياه لا يلتزم بالحجر الصحي على الإطلاق. يقصد كل يومين سوق الخضار المركزي في اللاذقية ويدخل إلى دهاليزه الداخلية وهي عبارة عن دهاليز أو أزقة ضيقة جداً موغلة في القذارة وسخام الزبالة وتتراص فيها بسطات الباعة الذين يبيعون الخضار والفاكهة واللحوم وغيرها من المواد الغذائية بأسعار أرخص قليلاً من الدكاكين الأنيقة. سالم يقضي كل يوم ساعتين في تلك الدهاليزليشتري مثلاً كيلو البطاطا بـ 900 ليرة بدل ألف ليرة في الدكاكين الأنيقة، مصعوقاً من ارتفاع الأسعار الجنوني حيث صار سعر كيلو الليمون الحامض 1600 ليرة سورية، وسعر البيضة 70 ليرة سورية وسعر كيلو اللحم 14 ألف ليرة سورية، وهو لا يشتري اللحم أبداً وأولاده لم يذوقوا اللحم منذ سنتين كما قال لي. يعرف سالم أي خطر يحدق بصحته في دهاليز سوق الخضار المركزي في اللاذقية، وهو ليس فقط خطر الكورونا بل خطر كل أنواع الجراثيم والفيروسات لكنه مضطر أن يشتري من هذا السوق القذر ليطعم أطفاله كي لا يموتوا من الجوع. يسأل سالم أين التموين؟ أين جمعية حماية المستهلك! هل هنالك حقاً جمعية لحماية المستهلك!

طفل سوري لا يزيد عمره عن خمس سنوات، يعتلي حاوية قمامة طافحة بالزبالة وينكش فيها بحرية. أرجوه أن ينزل، فلا يبالي بي، أغويه بالمال فلا يبالي؛ حواليه عدة قطط تنبش معه في القمامة في شارع 8 آذار أي مركز اللاذقية ومعظم حاويات القمامة الثلاث المتلاصقة المتخمة بالزبالة عند الباب الخلفي لمشفى الأسد الجامعي الذي تحول إلى المشفى العسكري وتحول المشفى العسكري الكبير إلى مركز لتركيب الأطراف الاصطناعية للمتضررين من الحرب. وقد شهد معظم سكان اللاذقية الشاحنة العملاقة وقد امتلأت بكل أنواع الأطراف الاصطناعية ولم يكلف أحد نفسه أن يغطيها بقماش. منظر هذه الشاحنة أوهن الشعور القومي للمواطن السوري إلى الحضيض؛ شعر كل من شاهدها أن مصيره قد يكون إنساناً معطوباً تهتم به الدولة وتهديه قدماً اصطناعية أو يداً اصطناعية أو عيناً زجاجية ترأف به كي لا يرى وحشية الواقع. طفل الزبالة نراه في كل مكان وفي معظم الحاويات. الموجع أنه في كل بلدان العالم حتى في لبنان الشقيق فإن حاويات الزبالة تكون مبطنة بأكياس خاصة من النايلون السميك وحين إفراغها يتم استبدال كيس الزبالة بكيس جديد نظيف؛ ما عدا في سوريا (اللاذقية) حاويات الزبالة مُقرفة ويفرشها سخام من القذارة وهي مستودع نموذجي ومثالي لتكاثر كل أنواع الجراثيم والفيروسات. المؤلم أن ترى عاملاً في اللاذقية موظفاً في البلدية على الأرجح يرش الشوارع بمادة معقمة الله أعلم ما هي، ويتطاير رذاذ المادة المعقمة فوق سخام حاويات الزبالة، وحول الحشد من 300 سوري أجسادهم متلاصقة بانتظار توزيع معونة غذائية! لوحة جميلة بوجعها، أعلى درجات المرارة والسخرية تعقيم الحشد الشعبي. ومن الضروري أن نذكر أن محلات بيع الدخان وكل أنواع معسل الأركيلة لم تُغلق ولم يُتخذ قرار بإغلاقها. ومن المهم أن نذكر أن الحشد الشعبي على أشده عند كوات الصرافات الآلية لقبض الراتب، وبأن بعض المصارف الخاصة اتخذت إجراءات وقائية بأن يدخل مواطن واحد فقط إلى المصرف وثمة موظف يلبس قفازات ويضع كمامة على أنفه وفمه يقيس حرارة المواطن ويرش في يديه مادة معقمة، لكن حشد المواطنين عند باب المصرف كبير ولا توجد أيه مسافة أمان بين شخص وآخر. وحين صرخ بهم موظف المصرف ابتعدوا قليلاً عن بعضكم، أجاب أحد المواطنين لو ابتعدنا كل منا عن الآخر مسافة مترين لوصل الرتل إلى أستراليا. وأخيراً ولأن شر البلية ما يضحك فقد أخبرني زملائي الصيادلة أن الشعب السوري بحالة لهاث لتموين السيتامول (دواء ضد الصداع)، هستيريا تموين السيتامول تدل على أن الكثير من السوريين انعطب تفكيرهم من المعاناة كما لو أن السيتامول سيقيهم من آلام رأس قادمة في زمن العزل.

 مسكين يا شعبي ألم تشعر بالصداع إلا في زمن كورونا فتعلقت بقشة اسمها سيتامول؟

The political context for Syria’s reconstruction: Partial state failure, regime resilience and societal change

The political context for Syria’s reconstruction: Partial state failure, regime resilience and societal change

*Published in Partnership with the LSE’s Conflict Research Programme.

Summary by the LSE report editors of the presentation given by Professor Raymond Hinnebusch at the London School of Economics Political Economy and Governance in Syria 2018 conference.

To better understand the reconstruction process in Syria, we must position it within the larger context in which it has been wrought. Namely, that of the conflict and the way in which it restructured both the economy and the regime, in part by proving the latter’s resilience. This has had far reaching implications on reconstruction which can, through its depiction within the context of conflict, be seen as a continuation of the power struggle, albeit through other means. This has deterred reconstruction from functioning as a form of restorative justice and placed significant risks on the process.

Syria’s war economy has seen massive capital flight, checkpoint taxation, increased dependency, a growing economy of looting, extortion and sieges. Under these conditions, new actors have thrived. A conflict society reflects the lack of social cohesion. War has been civilianised through the recruitment of a large number of the civilian population into militias. Sectarianism has been instrumentalised on both sides and deepened by the “security dilemma” of political polarisations along sectarian lines. The regime is remarkably resilient. It adapted to the conflict by adopting more violent, exclusionary, neo-patronage methods. As the tide turns, it undertakes to claw back lost territory from the opposition.

Reconstruction, thus, has consolidated the regime’s position as a result of three main factors: The consolidation of crony capitalists through private-public partnerships for reconstruction; the redistribution of control over strategic areas through the introduction of new property laws; and the creation of secure zones, to be redeveloped as upscale housing for regime loyalists, which will also recentralise power. Decentralisation will also have implications on the reconstruction process. Since 2011, state control has largely contracted. The Syrian government lost control over some areas to the opposition, which subsequently created their own governance bodies and mechanisms. Not withstanding, centralised state control over the regime’s own territories has also been fragmented and replaced with local governance bodies due to the inability of the centralised state, economically, politically and administratively, to exercise power. This leads to a patchwork of power-sharing arrangements.

Reconstruction will also be structured and curtailed by the geopolitical and geo-economic powers with influence in Syria. Geo-political powers, such as the Iranian-Russian coalition, have superior political advantage but fewer economic resources. And those that have geo-economic power lack the political leverage. The phenomenon of foreign interference will intensify following the defeat of IS, in a race to fill the power vacuum in the areas that were under IS control. Overlapping spheres of influence between foreign powers will create insecurity and partition, effectively deterring any form of integrated reconstruction effort and hardening ethno-sectarian fault-lines.

The role of the US is more of that of a spoiler. The US can’t win the political-military battle but is in a position to use geo-economics to obstruct reconstruction. However, many new war profiteers have thrived as a direct and indirect result of US sanctions, through sanctions busting, smuggling and so on.

Russia has strong strategic stakes and is well situated to both push reconstruction ahead and to act as a broker between regional actors and warring factions on the ground. Russia prioritises the reconstruction of state institutions, particularly the army and the security- intelligence apparatus. It does this to impose a modicum of order and curb, disband or incorporate the lawlessness of militias which are detrimental to political security and economic recovery. Its aim is not the rule of law but rule by law, essential to the kind of stability and predictability needed for economic revival and investment. Russia’s resources are limited. The companies most prepared to invest in the conflict are energy companies and others run directly by the oligarchs. Russia’s diplomacy is geared towards attracting other investors via some minimally acceptable political settlement that would enable the return of some refugees, enough to entice funding support for this from European states and international organisations.

Iran’s stake is geo-political. Its presence in Syria is mainly to deter Israel and keep its Saudi rivals out. Constrained by US sanctions on its own economy, Iran is attempting to recoup some of its previous investments and loans to the Syrian regime by ensuring the regime’s survival through reconstruction concessions. The Revolutionary Guards, who own the largest construction firms in Iran, have signed major economic reconstruction contracts with the Syrian government.

Turkey’s stake ends with the Kurdish people. To that end, it has occupied predominantly Kurdish areas in Northern Syria, trained and recruited local police forces, and set up local councils which operate vital services and schools (where the Turkish language is taught). Turkish companies supply electricity and services to large swathes of areas along and beyond its borders. More than 100,000 Syrians, residing in Syria, currently receive their salaries from the Turkish government. Going back to the previous point made concerning the fragmentation of reconstruction, Turkey here epitomises the kind of politicisation and conditions that affect reconstruction.

To conclude, there are numerous impediments to the reconstruction of Syria’s economy. Those (both governments and organisations) willing to play a role in the reconstruction process should be wary not to further damage social cohesion, debilitate Syria’s sovereignty, reinforce war profiteers and the war economy, or consolidate the regime’s authoritarian structure. Governments with an interest in stabilising Syria and ensuring that the war is not reproduced should come together and wearily discuss how that can practically be achieved.