علاقة السوريين واللبنانيين بين المبالغات والحقائق

علاقة السوريين واللبنانيين بين المبالغات والحقائق

يمثل أحد المراكز التجارية التابع لبلدية الجديدة في العاصمة بيروت، نموذجاً حياً عن طبيعة العلاقات التي تشكلت بين السوريين واللبنانيين بعد عام ٢٠١١. فعلى الرغم من أن غرف المركز مخصصة لتكون مَحَالاً تجارية، بيد أن ذلك لم يمنع المسؤولين عنه من مخالفة القانون، وتأجيرها كغرف سكنية، يشكل السوريون الفارّون من الحرب العدد الأكبر من مستأجريها، إضافة إلى اللبنانيين والعراقيين والبنغلاديشيين والأثيوبيين. ويتراوح سعر إيجار الغرفة الواحدة بين 200 إلى 400 دولار، الأمر الذي جعل كثيراً من اللبنانيين، باستثناء أصحاب العقارات، يلومون السوريين على ارتفاع سعر الإيجارات عشرة أضعاف، عما كانت عليه قبل مجيئهم.

لا يتذمر اللبنانيون وحدهم من هذا الوضع، بل دائماً ما يشتكي السوريون من غلاء المعيشة في لبنان، إضافة لما يصفونه بـ”سوء المعاملة” التي يتلقونها في الدولة الجارة. فعندما داهمت دورية تابعة للبلدية المركز التجاري لإخراج الأجانب منه ومن بينهم السوريين، تبين أن القصة كما يرويها سامر أحد السوريين المقيمين في المركز، “لم تكن ممارسة عنصرية موجهة ضد السوريين، بل كانت ابتزازاً مادياً لحث المُقتدر منهم، على دفع مبلغ من المال مقابل البقاء في المركز، لكونهم يشغلونه بطريقة غير قانونية”.

وعن معاملة اللبنانيين للسوريين يؤكد حسين، الحاصل على إجازة في الحقوق، والذي يعمل في إحدى ورشات التكييف المركزي في الدكوانة، على أن القصص التي يتداولها السوريون عن سوء معاملة اللبنانيين لهم، تحدث تبعاً للمنطقة التي يقطنون فيها. ففي بداية لجوء حسين للبنان عام ٢٠١٦ هرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في سورية، استأجر حسين منزلاً في الضاحية الجنوبية، نظراً لانخفاض الإيجارات فيها، لكنه تعرض للعديد من المضايقات، و بعض السكان كانوا يقولون له: “نحن نرسل أولادنا للدفاع عن بلدكم، وأنتم السوريون تقيمون في بلدنا، ولا تفعلون شيئاً سوى الأكل والنوم”، مما جعله ينتقل إلى منطقة الدكوانة هرباً من الإجراءات الأمنية المشددة في الضاحية.

وبلغت ذروة المضايقات التي يتعرض لها السوريون في لبنان الفترة بين عامي 2012 و2015، وترى مروى عثمان، الأستاذة الجامعية من سكان الضاحية الجنوبية، أن لها أساساً طبقياً مضيفة “السوري المتعلم والمقتدر مادياً لم يكن يتعرض للمضايقات كما هو حال الفقير القادم من الأرياف السورية”. فيما يرى البعض أن اللبنانيين ينتقمون منهم، بسبب الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري بحقهم بين عامي 1976 و2005.

وفي أحيان أخرى اتخذت علاقات السوريين واللبنانيين شكلاً آخر أطاح بكل ما قيل وكُتب في هذا السياق، فكان مطعم “رواق” في منطقة مار مخايل، نموذجاً عن الشراكة اللبنانية السورية، التي لم تأبه بكل التصاريح السياسية فيما يخص الوجود السوري في لبنان، واللافتات التي عُلّقت في بعض المناطق اللبنانية، لمنع السوريين من التجول في ساعات الليل المتأخرة، كما ساندت بعض الجمعيات اللبنانية، اللاجئين السوريين الذين يعيشون في المخيمات، خاصة في الظروف المناخية الصعبة، فالاعتبارات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية والمصالح العملية قد يكون لها قول آخر، عندما تنشب الخلافات بين سياسيّ وزعماء الدول في الحروب والأزمات، وهذا ما يعيه السوريون واللبنانيون جيداً، لكن يبقى دخول السوري إلى مختلف ميادين العمل في لبنان، الغصة الموجعة التي لا تزال تؤرق اللبنانيين إلى الآن.

العلاقة التاريخية

لا يكفي الترابط الجغرافي بين سوريا ولبنان، وحده للتعبير عن عمق العلاقات بين السوريين واللبنانيين، فبعد فصل لبنان عن سوريا، أو ما كان يُعرف سابقاً ببلاد الشام، على يد الفرنسيين، بمرسوم أصدره المفوض السامي آنذاك هنري غورو عام ١٩٢٠، ظلت علاقات التنسيق قائمة بين البلدين في المجالات كافة: السياسية والعسكرية والاقتصادية، كما بقي النسيج الاجتماعي مترابطاً حتى يومنا هذا، من خلال الزواج المتبادل وعلاقات القُربى بين الطرفين.

و اعتاد اللبنانيون فيما مضى التغني بجولاتهم السياحية إلى سوريا، والتي لم تكن تكلفهم حينها أكثر من مئة دولار، أي ما يعادل خمسة آلاف ليرة سورية، وشراء البضائع من أسواقها الشعبية بأسعار رخيصة بالنسبة لهم، لبيعها في الأسواق اللبنانية، ولطالما اعتبر السوريون لبنان منبعاً لحرية الرأي والثقافة في البلدان العربية، وافتخروا بشراء ماركات المنتجات الأجنبية منه، التي لم تكن متوفرة حينها في سوريا. بيد أن هذه العلاقات لم تكن وردية في جميع أحوالها، فقد شابتها العديد من الأحداث، كالعلاقات السياسية الشائكة المبنية على دعم بعض الأحزاب في لبنان للنظام السوري، ومناهضة بعضهم الآخر له، ومن جهة أخرى. كذلك اعتبر العديد من اللبنانيين وجود النظام السوري لتسعة وعشرين عاماً في لبنان، تدخلاً مباشراً في الشؤون اللبنانية.  وجعلت أحداث عام ٢٠١١ في سوريا العلاقات بين اللبنانيين والسوريين، تتأرجح بين ما وصفه السوريون “بالعنصرية اللبناينة”، وبين شعور اللبنانيين أنهم يحملون عبئاً، يفوق قدرات بلدهم المنهك بالانقسامات السياسية وتردي الحالة الاقتصادية.

تجاوزات للقوانين اللبنانية بالجملة

إثر اندلاع الحرب في سوريا على لبنان من نواحي عديدة وخاصة الاقتصادية وسوق العمل، وانتشرت تصريحات لبعض المسؤولين اللبنانيين يحملّون فيها السوريين عبء الانهيار الاقتصادي في لبنان، وهذا ما أكد عليه جبران باسيل وزير الخارجية في تموز/يوليو الفائت  2018، مع العلم أن أزمات كثيرة كانت ولا زالت موجودة في لبنان، “أولها فساد السياسيين” برأي الدكتور إسكندر كفوري رئيس تحرير مجلة فوستوك إنفيست، “والهدر العام وعدم وضع خطط مجدية للاقتصاد اللبناني، لكن اللجوء السوري قد تسبب بمضاعفات كبيرة في هذا الشأن” بحسب تعبيره”.

وتقوم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالتنسيق مع الجمعيات التي تقدم المساعدات، وتتكفل بالتغطية الطبية للاجئين، الذين وصلت أعدادهم إلى ما يزيد عن 950 ألف لاجئ، “إضافة إلى تقديم مبالغ مالية للاجئين الأكثر حاجة من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية” كما تقول هبة فارس مسؤولة العلاقات الخارجية في مكتب البقاع، “، فضلاً عن مناشدة الحكومة اللبنانية للمجتمع الدولي للحصول على مبلغ 2.68 مليار دولار لتأمين المساعدات للاجئين والاستثمار في البنية التحتية في لبنان، حسب بيان الأمم المتحدة الصادر في شباط/فبراير 2018.

 إلا أن ذلك لم يخفف من وتيرة القصص التي رويت عن استحواذ السوري على مجالات مختلفة من العمل، لا تقتصر على ما سمح به قانون العمل اللبناني، من مزاولة مهن البناء والنظافة والزراعة، التي يتجنب اللبناني العمل فيها، بل تعداه إلى مهن أخرى كفتح عيادات طبية دون رخص قانونية، كما حدث في المركز التجاري في بلدية الجديدة، حيث عَمَد أحد الاطباء اللبنانيين إلى تأجير عيادته لأحد الأطباء السوريين.

يعلل السوريون مخالفتهم قوانين العمل لأسباب عدّة، منها أن بعضهم دخل لبنان بطريقة غير شرعية ويعملون بأجور منخفضة، وآخرون يرتبط مصيرهم بأرباب العمل اللبنانيين، الذين يتهرب بعضهم من دفع الضرائب المترتبة عليهم، كما هو الحال مع تمام عبدالله القادم من مدينة درعا، والذي يعمل في صالون للحلاقة النسائية في برج حمود، حيث تعذر عليه استصدار رخصة عمل لعجزه عن إتمام الأوراق المطلوبة، فمكان عمله غير مرخص أصولاً.

وتنعكس التجاوزات التي تحدث في سوق العمل اللبناني، سلباً على إجراءات الإقامة، إذ لا يمكن للسوريين استصدار الإقامة ما لم يحصلوا على إجازة العمل، الأمر الذي جعل غالبية السوريين يقيمون في لبنان بإقامات منتهية الصلاحية، باستثناء البعض ممن يتوفر لديهم كفيل شخصي، ويتمتعون بالقدرة المالية على دفع مبلغ يصل إلى 1000 دولار سنوياً، ينقسم إلى 200 دولار رسم تجديد الإقامة، ويذهب باقي المبلغ للكفيل اللبناني.

لا بديل عن العودة

بعد أن أثبتت الجهات المعنية في لبنان عجزها عن وضع حد لكل المخالفات والتجاوزات المرتكبة، يخلص السوريون واللبنانيون إلى نتيجة واحدة لحل هذا الوضع المأزوم للطرفين، وهو عودة اللاجئين. وقد تكررت مطالبات الرئيس ميشيل عون بعودة اللاجئين وعدم السماح بتوطينهم في لبنان، وبعد أن استبشر بعض السوريين خيراً بقرار العفو الذي أصدره الرئيس السوري بشار الأسد في تشرين الأول/أكتوبر 2018، وبدؤوا بحزم أمتعهم للعودة، تراجعوا ولم تكتمل فرحتهم كما يقول محمد البالغ اثنين وثلاثين عاماً، والقادم من حي الوعر في مدينة حمص. يقول محمد “كنت أهم بالعودة وقد عزمت أمري لولا الأخبار التي سمعتها عن استصدار لوائح جديدة لخدمة الاحتياط”.

ويرى العديد من السوريين ألا بديل عن العودة إلى بلادهم، لأن سنوات الانتظار التي قضوها في لبنان لم تعد عليهم بالنفع الكثير من الناحية الاقتصادية تحديداً، فهم لا يستطيعون أن يؤمنوا مستقبلاً لهم في ظل الغلاء المعيشي الفادح في لبنان، كما أن بعضهم يفتقدون إلى الشعور بالأمان، بسبب تشابه الأسماء الذي يحدث في بعض الأحيان، مع أسماء عناصر الفصائل المسلحة، التي تسللت إلى لبنان، وهذا ما حدث مع حسين علي، الذي أوقفته الجهات المختصة لتشابه اسمه مع إسم أحد عناصر تنظيم داعش. أما بالنسبة للبنانيين فهم يشعرون أنهم يدفعون ثمن أزمات لم يكونوا سبباً فيها، ويحملون في كل مرة ما فوق طاقة بلدهم الصغير جغرافياً على الاحتمال.

طب الأعشاب بديلاً عن ضعف الكوادر الطبية ونقص الأدوية

طب الأعشاب بديلاً عن ضعف الكوادر الطبية ونقص الأدوية

تعاني الثلاثينية هدى من بكاء طفلها الرضيع المتواصل، والذي لم تستطع معرفة سببه حتى اللحظة، رغم عرضه على معظم أطباء المنطقة. فكل منهم أرجع سبب بكاء الطفل لمرض معين يختلف عن الآخر وصف له دواءً لم يشفه من علتّه الحقيقة التي ماتزال مجهولة للآن.

تصف هدى ما تعاني منه مع رضيعها قائلة “في البداية قصدت طبيباً مختصاً بأمراض الأطفال، فعلل بكاء الطفل لوجود التهاب في أذنيه، إلا أن مضاد الالتهاب الذي وصفه لي لم يشف صغيري، فقصدت طبياً مختصاً بأمراض الأذن والأنف والحنجرة، والذي أكد بدوره بأن ابني لا يعاني من أي التهاب بأذنيه”، طبيب آخر عزا البكاء المستمر لنمو أسنان الطفل، الذي راح ينقص وزنه ويفقد شهيته.

ويشكو العديد من المرضى المصابين بأمراض في مناطق سيطرة المعارضة السورية من قلة الأطباء والأخصائيين، لاسيما الاختصاصات النادرة كالأوعية والقلبية والصدرية، وذلك بسبب وفاة بعض الأطباء بعد استهداف المشافي من قبل طيران نظام الأسد وحلفائه، وهجرة الآخرين أو نزوحهم مما تسبب بنقص كبير في الكفاءات الطبية.

كذلك يعاني أهالي إدلب من ضعف الكوادر الطبية بشكل عام، كالتمريض. تروي لمياء العمر (٣٧ عاماً) ما واجهها من قلة خبرة الممرضات في مشفى الأطفال وتقول “اضطررت لإدخال طفلي البالغ من العمر خمسة أشهر إلى المشفى بسبب مرض التهاب أمعاء مزمن أصابه، وأصبح ابني على على إثره عرضة للجفاف، ولذا توجب إعطاء الطفل سيروم وريدي، إلا أن الممرضات لم يستطعن إيجاد وريد الطفل”، وتتابع بحزن “خرجت الممرضات من غرفة الإسعاف معلنات عجزهن، بعد أن غرزوا الإبر في كل قطعة من جسد طفلي، فساءت حالته واختفى صوته من البكاء الشديد، الناجم عن ألم الإبر من جهة ومرضه الأساسي من جهة أخرى”.

وأدى غياب الخريجين والدارسين إضافة للواسطات والمحسوبيات لتوظيف كوادر غير مؤهلة في المشافي لا يملكون أية خبرات، مما أدى في كثير من الأحيان إلى بطء العمل الإسعافي، والارتباك في الأزمات وضياع الوقت والجهد. كذلك يشكو العديد من مراجعي المشافي والمراكز الطبية، من الطريقة الفوقية التي تتعامل فيها الكوادر الطبية مع المرضى والمراجعين، وهو “ما أفقد عدداً من المشافي صبغتها الإنسانية” بحسب وصفهم.

الطبيب حسام طعمة (٤٨عاماً) بدوره يعتبر أن الوضع الصحي في إدلب وريفها ضعف جداً بسبب النقص في الاختصاصات وضعف التنسيق بين المراكز الطبية،  بالإضافة لنقص بعض الأدوية،  مبيناً أن المشاكل التي تواجه القطاع الطبي هي قلة الخبرات بالدرجة الأولى، إذ أن أغلب المشافي مجهزة لاستقبال حالات معينة كالجراحة العامة والعظمية ، و٩٠ بالمائة من المشافي تحوي على هذين الاختصاصين فقط،  في حين تندر فيها بقية الاختصاصات كالهضمية والوعائية والعصبية.

ونظراً لقلة الاختصاصات والخبرات، وتحكيم المحسوبيات، ونقص الأدوية الهامة مثل الألبومين والبروتين والأنسولين، فقد اتجه معظم الأهالي للاعتماد على طب الأعشاب البديل الأكثر انتشارا والأقل تكلفة. علي شردوب (٣٥ عاما) من معرة النعمان وهو أب لستة أبناء يقول “في فصل الشتاء يقل العمل وتكثر الأمراض، وأسعار الأدوية في الصيدليات مرتفعة  لا تتناسب مع دخلنا المحدود، لذلك لجأت لطب الأعشاب لأداوي أولادي من الأنفلونزا والسعال والالتهابات وغيرها من الأمراض”. من جهتها الأربعينية أمية علوان تثق جداً بما أسمته الطب الشعبي لأنه “إن لم ينفع المريض فلن يضره ” بحسب وصفها، ورغم أنها لم تصب بمرض خطير، إلا أنها ترى أن وصفات الأعشاب “دائما تنجح وهي مفيدة للزكام والروماتيزم وآلام الأذن والعين و الرأس”.

لكن الطبيب حاتم عطا يعارض ما تقوله أمية، ويقول إن اعتبار الأعشاب “لا تضر إن لم تنفع” هو خطأ شائع، ويقول “يمكن أن يفوق ضرر بعض الأعشاب الأدوية الكيميائية، ولهذا فلا يجب التقليل من خطورة الاستعمالات الخاطئة للأعشاب وغيرها، لأنها قد تؤدي إلى مضاعفات لا يمكن تداركها، والمسؤولية في ذلك تقع على المريض أحيانا لأنه لا يتابع وصايا الطبيب كما ينبغي من حيث اتباع المقادير المحددة في أوقاتها المحددة، أو على عاتق الطبيب الذي لايعرف شيئا عن خصائص بعض النباتات ورغم ذلك فهو يصفها للمرضى الذين وثقوا به”. وهذا ما حدث مع الحاجة صبحية التي ازدادت حالتها الصحية سوءاً بعد تناولها لنبتة الدفلة، التي وصفت لها كعلاج مخفض لمستوى السكر في الدم، فكان أن عادت لاستخدام الأدوية الكيميائية والتي لم تكن متوفرة مما استدعى جلبها من تركيا وبمبلغ كبير .

بينما تؤيد سعاد الحسن طب الأعشاب وبحماس كبير كونها استفادت منه في علاج مرضها الجلدي، والذي عجزت عن علاجه كافة الوصفات والأدوية الكيميائية، تقول الحسن” بعد يأسي من الشفاء لجأت وكحل أخير لأحد العطارين، والذي وصف لي خلطة أعشاب شفيت على إثرها تماما، رغم أن مدة العلاج طالت قليلا، ولكنني تخلصت من آثار المرض، وعدت بفضل طب الأعشاب لحياتي الطبيعية بعد أن كنت منزوية ومحرجة من مرضي، ولذا فطب الأعشاب برأيي هو الأجدى”.

ويرى الطبيب العطا أن من واجب كل من يدخل ميدان طب الأعشاب أن يكون دقيقا في حفظ النباتات ومعرفتها بأسمائها العلمية، وكيفية تناولها ودواعي استعمالها، و”إلا فإنه سوف يقع في أخطاء قد تؤدي إلى موت المريض وفي ذلك مسؤولية عظيمة” بحسب تعبيره.

يوميات سورية: يوم عادي في مشفى خاص

يوميات سورية: يوم عادي في مشفى خاص

أضواء زينة أعياد الميلاد تملأ فضاء الحي حيث يقع مشفى خاص ذائع الصيت في دمشق، وفي داخله أشجار ميلاد مزينة وعمال يتوافدون لتهنئة إدارة المشفى وتقبّل الهدايا، في أجواء احتفالية لا يعطلها حضور المرضى المتعبين مع أوجاعهم ومرافقيهم.

وقد شهدت المشافي الخاصة زيادة في عدد روادها بعد الحرب، العديد منهم لا يدفعون تكاليفها بنفسهم وإنما يتكلون على مساعدة الجمعيات الأهلية، إذ أصبح الاستطباب على حساب هذه الجمعيات الآن وضعاً طبيعياً ومكرراً، بعد أن كان سابقاً علامة نقص وإشارة لأن متلقي تلك المساعدة فقير وغير قادر على دفع نفقات علاجه بنفسه. وتشمل هذه المساعدات الطبية العلاج والعمليات الجراحية، وقيمة الوصفات الطبية، وخاصة للأدوية اليومية والاعتيادية التي توصف لعلاج أمراض كالقلب والسكري والأمراض العصبية وغيرها.

وأما أسباب تحول المساعدات الطبية المطلوبة من الجمعيات الخيرية أو من لجان الكنائس فأمر طبيعي ومتواتر فهي: بسبب عجز المشافي الحكومية عن تأمين خدمات العلاج للعدد الكبير من المرضى، ولانشغالها بمعالجة جرحى الجيش أو الحوادث الإسعافية الناجمة عن تفاصيل الحرب الدائرة، وثانياً بسبب الارتفاع المضاعف لتعرفة أي إجراء طبي، حتى لوكان يقتصر على شراء حبوب مسكنة لوجع الرأس أو مرهم خاص بترطيب الأنف.

 وقد تضاعفت قيمة نفقات العلاج لأكثر من عشرة أضعاف، في ظل  حالة فقر شبه عامة وعجز في القدرة الشرائية وفقدان السيولة. يضاف إلى ماسبق ازدياد الحاجة للخدمات الطبية، نظراً لازدياد الأمراض في ظل انعدام أسس الوقاية والحماية، وكثرة التعرض للأسباب الممرضة، ونقص الخدمات، وزيادة الشدات النفسية والخوف والتهجير والوحدة، وانعدام الأمن الشخصي والعام والغذائي والدوائي والوقائي.

ويبدو التعامل سهلاً وسلساً مع الحالات المرسلة أو المتكفلة من قبل الجمعيات، فطلبٌ محددٌ من المريض مؤكد برأي الطبيب المعالج، يليه موافقة، فتمرير للمحاسبة، ثم موعد وتنفيذ للمداخلة الطبية المطلوبة. لكن اللافت في مشهد المشفى هو الانفراط الواضح للعقد الاجتماعي لحالة المرافقة إلى المشافي، وفقاً للتقليد المتعارف عليه والثابت حضوراً وتعاملاً وتكيفاً.

رجلٌ مع زوجته التي قدمت للولادة، زوجة مع زوجها المقيم في جناح كبير للرجال الذين أجروا عمليات جراحية مختلفة، شاب لم يتجاوز الثالثة عشرة يسند جده العاجز عن تحريك ظهره، جارة مع جارتها العجوز المصابة بحالة ارتفاع بالسكر،  صديقة مع إحدى الصديقات التي ستخضع لتنظير هضمي.

أما قبل الحرب، فقد كانت حالات الولادة تشهد حضور العائلة الكبيرة مع الأم المستقبلية ماعدا الزوج، أم الولاّدة وأم الزوج والشقيقة وشقيقة الزوج والعمة الأكبر و..، والزوج آخر القادمين كي لا يستمع لأنين زوجته وصراخها، وكي لا يرى تفاصيل الولادة التي تعتبر طقساً نسائياً خالصاً. اليوم شاب ثلاثيني برفقة زوجته الولاّدة، تتأبط ذراعه ويحمل حقيبة الطفل ومتاع زوجته وينتظران قدوم الطبيب الموّلد، يبدو أنهما غريبان عن  المكان، أو  أنهما من مدينة بعيدة، وربما بقي أهلهما في الريف البعيد، وتشتت أوصال العائلة ليسكن الزوجان هنا معاً بعيدين عن الجميع، بدافع العمل أو الالتحاق بخدمة محددة. فرض هذا الواقع أن يكون الزوج وحده معها، وربما قد قام ببعض التجارب المسبقة لكيفية تغسيل الطفل لوحده، وكيفية العناية به في أيامه الأولى حيث تكون الأم غير قادرة على ذلك، المهم أنهما حالة تخالف كل التقاليد العائلية التي كانت تحصل وقت الولادة.

تقول سيدة لأخرى قدمت مع زوجها “سيعيقك حجابك أثناء إجرائك لتنظير المعدة”، خاصة وأن حجابها مفروش على كامل صدرها ومثبت بدبابيس من الجهتين تشد على ذقنها ورقبتها، تتحفظ وتحافظ على صمتها. لكن الزوج يرد: “لا مشكلة، أصلاً أنا أعرف أن من سيجري التنظير هو طبيب،” ويكمل “أفترض أن خطراّ مسها وأسعفوها حتى دون حجاب، حينها لا ذنب لها، ولا ثمن تسدده جراء وضع إسعافي خاص.” ترتاح قسماتها وباللاشعور تبدأ بإزالة تلك الدبابيس الواخزة والمقيدة.

***

يطلب رجلٌ موجوع المساعدة من موظف في المشفى قائلاً له: “هات يدك أسندني” فمن يقوده هو حفيده البالغ ثلاثة عشر عاما  فقط، وهو غير قادر على التحكم بجسد جده الضخم. دونما سؤال يتلو الرجل قصته: “الرجال إما في الجيش أو خارج البلاد” نسمع غصته  النافرة من صدره. سيدة متقدمة في العمر تقول: “حسبنا حساب كل شيء في حياتنا إلا رحيل الرجال.”

في المشهد أيضاً شباب “هلاليون”، أي مجموعة إسعاف من  طاقم الهلال الأحمر، يحملون النقالة الإسعافية متجهين نحو سيارتهم بعد أن قاموا بنقل سيدة متقدمة في  العمر ووحيدة تعاني من ضيق حاد بالتنفس ومن فقدان جزئي للتوازن. تحتفظ العجوز برقم طوارئ الهلال الأحمر على جوالها، كما تمنحه الرقم واحد في ترتيب الأرقام الخاصة المدونة كميزة للاتصال المباشر السريع دون كتابة الأرقام في ذاكرة الهاتف الأرضي.  وحيدة هي والإسعاف مشغول وسياراته قليلة العدد، لا تلبي الحاجة  المتزايدة والفورية .

تسأل سيدة عن عنوان مخبر التشريح المرضي الذي كتبه الطبيب الجراح على ورقة خاصة، لتأخذ إليه العينة التشريحية لفحصها بعد استئصالها من قدم ابنتها، وتقول: “سأترك ابنتي لوحدها ريثما أذهب إلى المخبر وأعود”. فتتطوع سيدة بنقل العينة إلى المخبر، لكن الأم ترفض و تقول وبرجاء “إذا ممكن أن تبقي قريبة من ابنتي؟” مشيرة بيدها إلى غرفة الابنة، تودع السيدة المتطوعة للمساعدة بعينين دامعتين وترحل شبه راكضة.

كان يوماً عادياً في مشفى خاص، المرض عادي وكذلك الشفاء، والمال اللازم للإنفاق الطبي والجمعيات الخيرية والمدنية والمجتمعية. كل شيء عادي في الحرب، إلا الحرب ذاتها. فهي تقلب الأدوار بجذرية  سريعة وقصيرة الأمد، تغيير كبير، لكنه كان يحتاج لزمن أطول  في زمن مختلف.

 هل نهلل للتغييرات؟ أم نقول إنّ الحرب قد مرت من هنا؟ أم نتلمس التغيير الحقيقي والمنطقي للوظائف الاجتماعية التي يفرضها المجتمع في ظل تغيرات بنيوية لا نملك ردها، المهم هو البناء على ما قد يتكثف ويتركز كتغير حقيقي، قد يقلب الأدوار، ولكنه قد يضعها على المسار الصحيح.

التنقيب عن الآثار مهنة رائجة في إدلب

التنقيب عن الآثار مهنة رائجة في إدلب

تغيرت حياة أبو عمر (٣٩عاما) من مدينة كفرنبل وانقلبت إلى أحسن حال بعد عثوره على أحد الكنوز الأثرية القريبة من مدينته، وذلك أثناء قيامه بالتنقيب عن الآثار في منطقة سرجيلا الأثرية،فبعد أن كان أبو عمر يعمل في تصليح الدراجات النارية، أصبح اليوم يمتلك الأراضي والعقارات. عن تجربته يقول أبو عمر: “تركت عملي في تصليح الدراجات بعد أن أصبح دخله لا يسمن ولايغني من جوع في ظل الغلاء الفاحش، و أصبحت أعمل في مهنة التنقيب عن الآثار، وقد شجعني على هذا العمل، عثور بعض أقاربي على تحف أثرية قيمة.“

واستغل تجار الحروب ما تمرّ به البلاد من خرابٍ وفوضى فضلا ًعن غياب الرادع الأمني، لتغدو المواقع الأثرية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وخصوصا في إدلب وريفها، مسرحاً للتنقيب العشوائي غير المشروع. ونشطت حركة التنقيب والتجارة في مجال الآثار عقب خروج مدينة إدلب عن سيطرة القوات الحكوميةمنذ آذار/مارس ٢٠١٥، حيث شرع المئات في عمليات الحفر العشوائية بحثاً عن قطعٍ نادرةٍ ضمتها تربة المحافظة والتي شهدت نهضة حضارية خلال العصور الكلاسيكية (لاسيما خلال الفترة الرومانية والبيزنطية) والإسلامية.

إن عملية البحث عن الآثار ليست بالأمر السهل، وإن حالف الحظ أبو عمر أحد بالعثور على لقىً ثمينة غيرت حياته، إلا أنه يوجد في المقابل العديد ممن يبحثون عن الآثار منذ مدة ولم يجدوا شيئاً حتى الآن. كحال الشاب حسام (٢٠عاماً) من بلدة حيش، والذي عانى من البطالة بعدما اضطر لترك دراسته في الجامعة بسبب الأوضاع الأمنية، فراح ينقب عن الآثار، منذ شهور يصعد التلال ويجوب الوديان عله يوفق بالعثور على لقىً أثرية تمكنه من تأمين متطلبات الزواج على حد قوله. الأستاذ خالد السيد (٣٥عاما) خريج قسم الآثار ينتقد التنقيب عن الآثار بشدة قائلاً: “لم يترك لصوص الآثار في المحافظة وريفها زاويةً إلا ونقبوا فيها بحثاً عن القطع الأثرية، مستخدمين أجهزة كشف متطورة، فهم يتسابقون ويتصارعون على سلب تاريخ سوريا من أجل ملء جيوبهم.”

وعن أسعار بعض القطع الأثرية يحدثنا تاجر الآثار أحمد (٤٥عاما) من معرة النعمان قائلاً: “يتراوح سعر التماثيل الأثرية النادرة بين عشرة آلاف ومئة ألف دولار، أما أسعار العملات الرومانية فتتجاوز الألف دولار للقطعة الواحدة.“ ويقول أحد التجار بأنه باع إحدى القطع بمئة ألف دولار كونها نادرة جداً مشيراً إلى أن طريق التهريب كان يمر بلبنان، ولكن في الآونة الأخيرة شهد هذا الطريق تشديداً كبيراً، ما جعل الكثيرين يفضلون التهريب إلى تركيا، متجاوزين التدقيق العالي على المعابر.

هذا وقد طالت الآثار المدمرة للحرب في سوريا، الإرث الحضاري والتاريخي من متاحف وقلاع وتلال وأسواق ومدن منسية، إذ تعرضت الكثير من المواقع الأثرية للقصف العنيف والمتواصل من قبل الطيران الحربي التابع للنظام السوري وحلفائه، الأمر الذي أدى لهدم تلك العديد من المباني كلياً أو جزئياً وطمس معالمها الأثرية. محمد السعيد (٤٠ عاماً) من سكان قرية البارة الأثرية يتحدث بحزن عن قريته التي انقلبت بشكلٍ جذري عما كانت عليه سابقاً، وللبارة رصيد أثري يعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية القديمة ومن بعدها العربية. يقول السعيد بغصة: “دمر القصف ما دمره من المباني الأثرية، أما ما بقي منها فقد شوه معالمه النازحون، حيث قصدت القرية عشرات العائلات النازحة وأسسوا فيها مسكناً لهم، وقاموا بتكسير حجارة تلك المباني وبنوا فيها حظائر للماشية من الجدران الإسمنتية.” كما أن جزءاً كبيراً من تلك المباني دُمّر إثر عمليات تجريب السلاح من قبل عناصر تابعة لفصائل عسكرية بحسب السعيد، فباتت الجدران القديمة مسرحا للتأكد من مدى صلاحية السلاح والذخيرة وفاعليتها، بعد ما كانت تلك المواقع سابقاً تحظى بأهمية كبيرة لدى السائحين الذين يتوافدون إليها من كل حدبٍ وصوبٍ. وتشكل آثار محافظة إدلب ثلث آثار سوريا حيث يبلغ عدد مواقعها الأثرية أكثر من ٧٦٠ موقعاً.

ونتيجة لهذه الفوضى العارمة والانتهاكات بحق الآثار، ظهر في إدلب نشطاء ومتطوعون أخذو على عاتقهم حماية مابقي من الآثار والحفاظ عليها، فبادروا بتأسيس مركز آثار إدلب. وحول الهدف من المركز وعمله تحدّث مؤسس المركز ومديره المختص بعلم الآثار الأستاذ أيمن النابو ( ٣عاماً) قائلاً: “تم تشكيل مركز آثار ادلب في النصف الثاني من عام ٢٠١٢ من أجل حماية آثار محافظة إدلب، من قبل عدد ٍمن الأكاديميين والمختصين في علم الآثار. وكان يقتصر العمل بدايةً على موضوع توثيق الانتهاكات ومن ثم تطور في السنوات الأخيرة ليشمل حماية القطع الأثرية التي تم جمعها من مناطق مختلفة والتي يبلغ عددها مايقارب الألفي قطعة أثرية، حيث يتم تغليف القطع بمادة (تايفك) التي تحميها من العوامل الجوية، بالإضافة لمادة الأكياس الفقاعية التي تحميها من الاصطدام والكسر نتيجة ظروف الحرب التي نعيشها.” كما أكد النابو أنه يتم أيضاً حماية اللوحات الفسيفسائية وترميم ما تعرض منها للأذى، ويختتم حديثه بأن المركز يسعى إلى توسيع النطاق الجغرافي لعمله ليمتد إلى ريف حلب وريف حماه الشمالي ريثما يتم إنشاء مراكز خاصة في كل محافظة. ويأمل العاملون في مجال الآثار توفر مناخ مناسب يسمح لهم بتقييم الأضرار وتوثيقها وترميم آثار هذا البلد العريقة والتي تعرضت لأضرارٍ جسيمة خلال سنوات الصراع.

مناطق ”درع الفرات“ و ”غصن الزيتون“ .. إلى أين؟

مناطق ”درع الفرات“ و ”غصن الزيتون“ .. إلى أين؟

بعد دخول قوات ”غصن الزيتون“ مدينة عفرين وإعلان السيطرة عليها في ١٨ مارس/آذار ٢٠١٨، انضمت المدينة لسابقاتها من مدن جرابلس والباب واعزاز بالانتقال من سيطرة قوات وحدات حماية الشعب الكردي إلى فصائل المعارضة السورية الموالية والمدعومة من تركيا. مما يعني أن عملية “غصن الزيتون” هي مرحلة مُتممة لعملية ”درع الفرات“ التي امتدت من ٢٤ أغسطس/آب ٢٠١٦ وحتى  ٢٩ مارس/آذار ٢٠١٧، والتي أدت إلى تقليص مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ”قسد“ وانحسارها إلى غرب الفرات، أمام ظهور هيمنة تركية واضحة على تلك المناطق، فيما لا يزال مصير مدينتي ”تل رفعت“ و“منبج“ مجهولاً، فبعد إحكام السيطرة على عفرين، أصبحت المدينتان محور خطاب القيادة التركية وتوعّدها.

ومع وصول آلاف العائلات النازحة من الغوطة الشرقية إلى مدينة جرابلس، لوحظ نشاط واضح للحكومة المؤقتة التي تتخذ من مدينة غازي عينتاب التركية مقراً رئيساً لها، إضافة للمؤسسات التابعة لها في مدينة عفرين، وذلك لإدارة شؤون المدينة، إضافة إلى توطين مئات العائلات الواصلة من الغوطة الشرقية هناك، كما جرى اجتماع تأسيسي للمجلس المحلي لمدينة عفرين في مدينة غازي عنتاب.

وجرى هذا بعد أن غادر المدينة أكثر من نصف أهلها إبان دخول فصائل المعارضة السورية إليها، وترافق دخولهم هذا بحملة ”تعفيش“ وسرقة للممتلكات، لم يردعها  وجود حواجز الشرطة العسكرية التابعة لفصائل المعارضة والتي وُضعت لمنع وضبط تلك التجاوزات.

ولرسم صورة أدق عن وضع مدينة عفرين وما حولها في المستقبل القريب، يمكننا إلقاء الضوء على مناطق سيطرة “درع الفرات”؛ داخل هذه المناطق، تنظم الحكومة التركية عمل المؤسسات العامة والقطاعات الخدمية في المدن الرئيسية: جرابلس والباب واعزاز، بالطريقة التي تراها مناسبة، بعيداً عن قرارات المؤسسات الثورية أو الحكومة المؤقتة.

فمن ناحية المؤسسات العامة، تقوم الحكومة التركية بتقديم الدعم اللوجستي والمادي لأهم المجالس المحلية وهي: جرابلس، الباب، اعزاز، الراعي، قباسين، بزاعة، أخترين، تركمان بارح ومارع، وذلك من خلال  دفع رواتب موظفيها، إضافة إلى رواتب المعلمين والشرطة وموظفي المحاكم، والعاملين في قطاع الصحة ضمن مشافيها، وأئمة الجوامع والمدرسين والقائمين على المعاهد الشرعية.

كذلك تقوم الحكومة التركية بصيانة وترميم المؤسسات العامة والمدارس والبنى التحتية، وبناء المشافي، و تقدم مادة الطحين مجاناً، وتدعم قطاع الزراعة، وذلك يتم عبر المؤسسات الحكومية التركية، وبإشراف مباشر من ولاية ”كلّس“ جنوب تركيا.

وبالنسبة لقطاع الأمن العام، فهناك “شرطة حرة” تم تدريبها في مدينة مرسين التركية، في آذار/مارس ٢٠١٧ لتُخرّج ١٣٠٠ شرطي في الدفعة الأولى، تلتها ثلاث دفعات، في كل منها ٦٠٠ شرطي. تم توزيع العناصر المتخرجين في مناطق درع الفرات والإشراف المباشر على أقسامهم تتم من قبل ضباط أتراك وسوريين.

وتم تقسيم عمل الشرطة إلى مكاتب بحسب الاختصاص: شرطة مرور، شرطة مخافر، مخابرات، مكافحة الإرهاب، كما يوجد محكمتان مدنية وعسكرية، تابعتان للشرطة الحرة، ويقوم عليها قضاة سوريون، تم اعتمادهم من الحكومة التركية لتطبيق القوانين السورية قوانين الأصول، والقانون المدني والعقوبات بما لا يخالف أحكام الدستور السوري لعام ١٩٥٠. وقد اعترض على ذلك”مجلس القضاء الأعلى“ المُشكّل في ١٩ تموز/يوليلو ٢٠١٧ من اتفاق أهم المؤسسات القضائية المعارضة وهم الهيئة الإسلامية للقضاء، ومجلس القضاء الأعلى في حلب، ومجلس القضاء الأعلى في الغوطة الشرقية، ودار العدل في حوران، فقد اعتمد هذا المجلس على ”القانون العربي الموحد“ وتعديلاته كمرجعية قانونية يتم العمل بها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

أما بالنسبة للصحة، فلقد أسست وزارة الصحة التركية العديد من المشافي التابعة لها داخل مناطق درع الفرات كالمشفى الأهلي في اعزاز، ومشفى جرابلس، ومشفى الحكمة في مدينة الباب، بالإضافة إلى العديد من النقاط الطبية والمشافي المدعومة من المنظمات الدولية المانحة، بينما يتم نقل الحالات الطبية المستعصية، والتي لا يتوفر لها علاج، إلى داخل الأراضي التركية.

قطاع التعليم، من جهته يتبع بشكل كامل لنظام التعليم التركي وبإشراف من مؤسسة ”وقف المعارف“ التركية وهي مؤسسة حكومية تتبع لرئاسة الوزراء، وظهرت كبديل لمدارس ”غولن“ المتهم بدعم محاولة الانقلاب في تركيا. إلا أن المنهاج السوري بقي نفسه مع التعديلات الأخيرة التي أجرتها وزارة التربية في الحكومة السورية في دمشق عام ٢٠١٧وتبنّته الحكومة المؤقتة، مع إدخال تعديلات طفيفة على المواد العلمية، وتعديلات وإضافات أخرى لحقت كتب التاريخ والقراءة والتربية الوطنية.

كما تم أيضاً إدخال اللغة التركية لـ٥ ساعات أسبوعياً على حساب تخفيض ساعات اللغة الإنكليزية، حيث يخضع المعلِّمون لدورة تأهيل تربوي إجبارية برعاية وزارة التعليم الوطني التركي، وذلك أسوة بالمدارس السورية الموجودة في تركيا. كذلك عيّنت رئاسة ”الشؤون الدينية التركية“ مجموعة من المُفتين لتنسيق أعمالها وتأهيل أئمّة سوريين في مناطق سيطرة درع الفرات، كما أشرفت على ترميم أكثر من ٦٠ مسجدًا، وبناء مساجد أخرى في المنطقة، بالإضافة إلى مدارس تعليم القرآن والمعاهد الشرعية بالتعاون مع رابطة العلماء السوريين.

بالنسبة للسجل المدني، بدأت أمانة السجل المدني منذ منتصف شباط/فبراير ٢٠١٨ بمنح وثائق رسمية من دفاتر عائلة وإخراجات قيد وشهادة ميلاد، إضافة إلى تسجيل وقائع الزواج والوفاة وغيرها، سواء للمواطنين المحليين أو النازحين دون تمييز، وذلك بعد أن قام مكتب الإحصاء بعملية إحصاء شاملة للمواطنين والنازحين، ووضع بيانات كاملة لتأسيس دائرة الأحوال المدنية في مراكز المدن الرئيسية، والتي باشرت بإصدار هويات تعريفية جديدة متوافقة مع النظام المعمول به في تركيا، حيث تكون باللغتين العربية والتركية، كما تحتوي على صورة الشخص وتحمل رقماً وطنياً وبصمة إلكترونية وشيفرة.

بما يتعلق بالاتصالات والانترنت، قامت الحكومة التركية بتقوية شبكة الاتّصالات التركية في الشمال السوري بالتزامن مع دخول قواتها إلى المنطقة، كما تم تشييد أبراج تغطية إضافية لتقوية شبكة الاتّصالات الخليوية التركية والانترنت المرافق لها.

وأغرقت مناطق درع الفرات وعفرين بالبضائع التركية، عبر معابر رسمية تم افتتاحها من جانب الحكومة التركية، وهي معبر جرابلس، ومعبر الراعي شمال مدينة الباب، ومعبر باب السلامة بالقرب من مدينة اعزاز، أضيف لها معبر في قرية حمام الحدودية التي تتبع لقضاء “قوملو” شرقي ولاية هاتاي لربطها مع عفرين، وبذلك تحولت مدن جرابلس والباب وعزاز وعفرين إلى مراكز تجارية كبيرة للبضائع التركية، كما شهدت المنطقة حركة بناء وإعمار كبيرة وواسعة، وأيضاً تم إنشاء مدينة صناعية كبيرة في مدينة الباب بالتعاون بين مجلس المدينة والحكومة التركية، وبمشاركة بعض الصناعيين المحليين.

يُذكر أن جميع العاملين في القطاعات والمؤسسات المدعومة من الحكومة التركية بالإضافة إلى الجنود الأتراك ومن هم بحكمهم من السوريين، يتلقون أجورهم من الحكومة التركية بالليرة التركية، ولتسهيل الحركة المالية تم افتتاح ثلاثة مراكز لمؤسسة البريد والبرق التركية “PTT”  في كل من مدن الباب والراعي وجرابلس، بالإضافة إلى عشرات أجهزة الصراف الآلي المنتشرة في المنطقة.

وبشكل واضح يُرفع العلم التركي إلى جانب علم الثورة الأخضر في كل المؤسسات العامة والمخافر وأجهزة الأمن والمدارس والمشافي في مناطق درع الفرات، وكذلك الأمر بالنسبة لصور الرئيس التركي أردوغان، وليس من المستغرب أن تجد ذلك أيضاً في المحال التجارية وعلى الزجاج الخلفي للسيارات الخاصة، وغرافيتي على الحوائط والجدران تحت شعار ”التآخي لا حدود له“، كما تخرج بشكل يومي مسيرات مؤيدة للعمليات العسكرية التركية في الشمال السوري – بتحريك من الأمن العام، وبعض التجمعات الثورية المحلية – تحمل الأعلام التركية وتهتف للرئيس التركي وللثورة وللوطن.

ثلاثة أسئلة قبل إعادة إعمار سوريا

ثلاثة أسئلة قبل إعادة إعمار سوريا

ترك أبو غازي ذو الأربعين عاماً والأب لأربعة أطفال خلفه في حي كرم الزيتون في حمص، بيتاً مؤلفاً من ثلاث غرف يكاد يكون كل ما ملكه يوماً في سوريا ليساق نحو اعتقال دام خمسة أعوام. “جدران عارية بثقوب كبيرة وسط شارع رمادي مهشم ومهجور”، هكذا وصف له بعض المعارف حال البيت بعد خروجه من المعتقل، وقد علم أيضاً أن زيارته له الآن تتطلب موافقة أمنية يصعب على أمثاله ممن عارضوا النظام الحصول عليها، وهو ما أكده تقرير هيومان رايتش واتش الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. يقول أبو غازي “من ثلاثة أجيال من عائلتي لم يتبق لنا في سوريا سوى ابنة عم واحدة، الجميع بات خارج البلاد، لقد فعل النظام المستحيل لتهجيرنا، هل تصدق أنه سيعيد إعمار بيوتنا ويسمح لنا بالعودة بهذه بساطة؟”.

إعادة إعمار دون حل سياسي؟

وكانت حكومة النظام السوري أعلنت أنها خصصت ٥٠ مليار ليرة سورية لإعادة الاعمار، ضمن موازنة الدولة لعام ٢٠١٩، وذلك في سياق دعاياتها المكثفة لأن “الحرب انتهت و بدأ وقت إعادة الإعمار”. ويعادل المبلغ المذكور حوالي مئة مليون دولار أمريكي تقريباً، وهو نسبة لا تكاد تذكر من الرقم المقدر لتكاليف إعادة إعمار البلاد، والذي يتجاوز ٢٥٠ مليار دولار، وفق تصريح المبعوث الخاص السابق لسوريا ستيفان دي مستورا قبل نحو عام من الآن، وبالتالي فإن “إعادة الإعمار بالموارد الذاتية” التي تروج لها أوساط السلطة وإعلامها، دون تدفق أموال إعادة الاعمار، وتدخل الاستثمارات الخارجية، سوف يستغرق مئات الأعوام.

وبحسب الباحث والخبير الاقتصادي السوري سمير سعيفان فإن دراسة البنك الدولي الصادرة في آذار/مارس قدرت حجم الركام الناتج عن القصف في حلب وحدها بـ ١٤.٩مليون طن، وهي تحتاج لـ ٢٦ مليون كم تقطعها الشاحنات للتخلص من الركام، وتستغرق نحو ٦ سنوات، وستبلغ التكاليف مئات ملايين الدولارات.

“إذاً فالمبلغ المرصود في الموازنة لن يكفي لأكثر من إزالة جزء من ركام مدينة حلب، فما بالك ببقية المحافظات كحمص وحماه وإدلب ودير الزور ودرعا وريف دمشق، وعشرات المدن والبلدات السورية الأخرى المدمرة كلياً أو جزئياً، كل ما سبق بند واحد فقط بين مئات البنود الأخرى التي تتطلبها إعادة الإعمار” يقول سعيفان.

ويحدد سعيفان مصادر تمويل إعادة الإعمار نظريا بأربعة وهي: المنح والمساعدات من الدول الغنية كالخليج والاتحاد الأوروبي ومنظمات أممية، القروض التي يمكن أن تحصل عليها الدولة السورية من دول أو من مؤسسات دولية، الاستثمارات السورية وغير السورية، وأخيراً إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد السوري مرة أخرى.  مشيراً إلى أن “النوعين الأول والثاني من المصادر يصطدمان بتعثر الحل السياسي العادل، الذي تعده الدول الغربية وحلفاؤها شرطاً للمساهمة في إعادة الإعمار، في وقت يعاني حليفا النظام روسيا وإيران من عقوبات وأزمات اقتصادية ضاغطة تمنعهما من تقديم هكذا مساهمات، لو رغبوا في ذاك أصلاً”. وبرأي سعيفان فالاستثمار بدوره يتطلب أولاً إزالة العقوبات عن البلاد، ثم حداً أدنى من البنى التحتية والاستقرار والقدرة الشرائية في السوق المحلية، “وكلها عوامل غير متوفرة” بحسب تعبيره.

ولا مصلحة للغرب في تقديم مساعدات لروسيا وإنقاذها من ورطة إعادة إعمار سوريا، ومنحها فرصة لإعادة تدوير مكاسبها العسكرية سياسياً، وبالطبع لا يسعى الغرب إلى أن تنتهي أمواله المدفوعة لإعادة إعمار سوريا في جيوب المسؤولين عن تدميرها أو أن تساهم في إعادة إنتاج جملة الأسباب نفسها التي أدت لنشوب الصراع من الأصل.

العيش مع الدمار أم تجزئة إعادة الإعمار؟

وصل أبو غازي حديثاً إلى لبنان حيث عائلته، وجد عملاً في فرن للحلويات، ويتقاضى مرتباً بالكاد يكفي لدفع إيجار منزله وسد رمق أسرته، وفضيلة لبنان بالنسبة له هي عدم تعرضه للملاحقة والاعتقال مرة أخرى، لحين إيجاد فرصة للهجرة إلى بلد آخر. قد يجد أبو غازي فرصته وقد لا يفعل، لكن ماذا عن من بقوا في سوريا؟ دمرت الحرب ثلث المساكن في البلاد بشكل كلي أو جزئي، بالإضافة لنصف المرافق الصحية والتعليمية حسب تقرير للبنك الدولي صدر منتصف 2017، فهل يحكم عليهم بالعيش مع الدمار؟ الإجابة المرجحة هي نعم، مع تعذر إطلاق عملية إعادة إعمار على المستوى الوطني، لكن على المستوى المحلي الأمر بدأ يختلف، تركيا تنفذ مشاريع بنى تحتية وخدمات ضخمة في مدن الباب وجرابلس وغيرها من مناطق النفوذ التركي المرشحة للاتساع شمال البلاد. وكذلك السعودية والإمارات ودول غربية، أعلنت منحاً بحوالي مئتي مليون دولار لدعم استقرار المناطق المحررة من تنظيم الدولة في شمال شرق سوريا الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي حتى الآن. على ذلك يبدو أن المناطق الأقل حظاً من الموارد هي مناطق سيطرة النظام، حيث الكتلة البشرية الأكبر وكتلة الدمار الأكبر.

قد يكون لأنشطة إعادة الإعمار المحلية تلك أثر إيجابي في تحسين شروط حياة بعض السوريين في المناطق المذكورة، لكنها على المدى المتوسط والبعيد قد تنتج بنى اقتصادية مختلفة ومنفصلة في سوريا. خاصة إذا طال الاستعصاء السياسي في البلاد أكثر، وحلت أنشطة إعادة الإعمار المحلية، وإن بشكل غير مقصود، مكان عملية إعادة الإعمار الواحدة المفترضة على المستوى الوطني.

هل يمكن استمرار الوضع القائم؟

يبدو الانتقال السياسي اليوم أبعد مما كان عليه في أي وقت مضى، مع استعادة النظام السوري قوته، فهل سينجح فعلاً حل الصراع من خلال سحق أحد أطرافه؟ يقول سمير سعيفان إن “مرحلة ما بعد الحرب سوف تكون أصعب وأخطر على النظام من مرحلة الحرب ذاتها، لأنه سيكون في مواجهة القواعد الاجتماعية التي دعمته والتي تطالبه الآن بالفرص وبتحسين حياتها، وبالنسبة للروس أيضاً، عدم إطلاق عملية لإعادة الإعمار سيجعل (نصرهم) في سوريا أسوأ من الهزيمة ذاتها”. ويقول محمد صبرا بشيء من التفاؤل “نحن ذاهبون نحو صيغة من الانتقال السياسي قد تنجح خلال سنة أو سنتين وقد تفشل، لا نعلم، لكن المؤكد هو أن المشهد بتركيبته الحالية لن يستمر طويلاً”.

وبينما نترقب تفاهمات الدول الإقليمية حول مستقبل سوريا، المزيد من السوريين يفقدون الأمل، أبو غازي يقول: “لقد تركت لهم البلاد ليفعلوا بها ما يشاؤون ولن أفكر بالعودة أبداً”، مُذكراً بأن الدمار في سوريا لم يقتصر على الاقتصاد والبنى التحتية، بل امتد ليكون دماراً بشرياً واجتماعياً، طال علاقة الفرد بموطنه والمفاهيم والقيم المؤسسة للدولة.