طباعة عملة سورية جديدة: الجدل والتحديّات

طباعة عملة سورية جديدة: الجدل والتحديّات

خرجت تسريبات كثيرة حول نية الحكومة السورية طباعة عملة جديدة تلبيةً لمتطلبات السوق، رغم ما يعانيه هذا السوق من تضخم ركودي كبير غير مصرح عن حجمه بأرقام حقيقية.

فحسب صحيفة الوطن (9 أيار 2018)  فقد تم إعداد مشروع قانون أحيل إلى مجلس الشعب ويسمح بإصدار أوراق نقدية من فئة الليرة وحتى خمسة آلاف ليرة سورية، في حين صرّحت مصادر وزارية عن اقتراب طرح مسكوكات معدنية من فئة الـ 50 ليرة وكان د. دريد ضرغام، حاكم مصرف سورية المركزي، قد صرح سابقاً على صفحته الشخصية على الفيس بوك حول دراسة سيناريوهات سك وتصنيع قطعة معدنية من فئة خمسين ليرة.

ويقدم أنصار طرح فئة الخمسة آلاف والخمسين ليرة تحليلاته الخاصة حول أهمية وجهة نظره النقدية والاقتصادية، لذا كان من المهم تسليط الضوء على وجهة النظر الإقتصادية حول قدرة الحكومة على طباعة أو صك أيٍّ من هذه الفئات النقدية وماهي السيناريوهات المتوفرة للنظام السوري.

العملة من فئة 5000 هي عملة تم التخطيط لطباعتها منذ منتصف 2008 عندما كان د. أديب ميالة حاكما للمصرف المركزي مدفوعاً من سياسات التخطيط الاقتصادية-الاستراتيجية للدولة بهدف إيجاد دولارٍ محلي يجعل من أي مستثمرٍ يرغب بدخول السوق السورية الواعدة  قبل اندلاع الانتفاضة السورية والحرب التي تلتها، وذلك من خلال تحويل مبالغ الاستثمار من العملات الاجنبية إلى الفئة الجديدة والتي كانت قيمتها آنذاك تعادل فئة 100 دولار مستفيدين من قانون منع التعامل بالعملات الأجنبية.

لكن نتيجةً لاندلاع الثورة وإحجام المطابع الأوروبية (النمسا) عن طباعة الفئات النقدية الورقية السورية، لجأ مصرف سورية المركزي عام 2012 إلى المطابع الروسية التي قامت بطباعة الكمية التي تحتاجها الحكومة السورية لتلبية سوق الصرف والتي تمّ ضخها على مراحل حسب ما تقتضيه ضرورات تمويل آلة الحرب. فقد كان المصرف المركزي يتحكم بسوق الصرف بعيداً عن دوره المهني النقدي وذلك  لتوفير الأوراق النقدية اللازمة لدفع رواتب الموظفين في مؤسسات الدولة والذين سيق جزءٌ كبيرٌ منهم الى خدمة العلم، بالإضافة إلى دفع رواتب المنخرطين في ميليشيات جيش الدفاع الوطني، وتلبية احتياجات السوق بالسيولة المالية دون أن ننسى أنّ هذه الدور كان يمثل أحد الجوانب الاقتصادية للحرب على معارضي النظام السوري.

لكن بعد التدخل الروسي المباشر بالملف السوري بكل قضاياه منذ العام 2015، عزفت المطابع الروسية عن تلبية احتياجات البنك المركزي السوري وخاصةً مع انتهاء مناطق خفض التصعيد التي كانت قبلة التدفقات النقدية من العملات الأجنبية عن طريق الإغاثات الدولية، الأمر الذي أجبر المصرف المركزي بالتلويح للشارع التجاري عبر وسائل الإعلام عن نيته إصدار فئة الـ 5000  تلافياً لأزمة السيولة التي بدأت تتعمق في السوق معتمداً على المخزون القديم المطبوع.

فمع خروج الآلاف من المهجرين من مناطقهم مصطحبين معهم أموالهم التي أفقد السوق جزءاً كبيراً من السيولة النقدية، إضافة إلى صعوبة التبادلات التجارية بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والمعارضة بسبب نقاط المراقبة الدولية، الأمر الذي جعل السيولة النقدية في موقفٍ حرج، ذلك لأن النظام يحتاج لأموالٍ تلبي النفقات الجارية من رواتب وأجور وسلع وبات مضطراً للعمل على خفض الأسعار كضريبةٍ لإعلان الإنتصار أمام المؤيدين المنهكين من الحرب والغلاء. وكل ذلك يتم بالتوازي مع منع التعامل بالدولار داخلياً ومترافقاً مع إصدار تشريعات إعادة الإعمار التي بدأت تصدر بشكل مراسيم وهو ما يعني الحاجة الى سيولة مضاعفة، مما دفع النظام الى محاولة تسريب مشروعه القديم للأفق.

لكن الوضع اليوم قد تغير فالـ 5000 ليرة لم تعد تساوي 100 $ محلياً، وهي غير مقنعة للمستثمرين كما أن حجم الإصدار من هذه الفئة محدود ويعتمد على الكمية المطبوعة عام 2012 مما يجعل أثرها على السوق إعلامياً لا أكثر وسيقود نتيجةً لمحدوديته الى العرقلة التجارية ثم  الضغط على السلع.

إضافة إلى ما سبق فإن ترويج هذه الفئة سيكون عبر رواتب الموظفين  التي سيشكل 6 أوراق من فئة الـ 5000 ليرة راتب موظفٍ بالمتوسط، وبالتالي فإنّ وجود هذه الفئة مع نقص السيولة المطبوعة بالسوق يجعل هذا المواطن يشتري سلعاً لا يحتاجها بسبب عدم وجود الفكة مما يعني طلباً على السلع الاساسية ذات قابلية التخزين، ومع زيادة الطلب وصعوبة الاستيراد نتيجة العقوبات الدولية من جهة وانخفاض الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي من جهةٍ أخرى فإنّ ذلك كله سيتسبب بتفاقم التضخم الركودي.

وعلى ضوء ما سبق، نجد أن نشر هذه الفئة لن يكون له أي تأثير على السيولة النقدية إنما ستعمل بشكل معاكس من خلال الضغط على السلع مدفوعاً بالجانب النفسي مما يقود الى ارتفاعها واحتكارها.

أما الداعين لطباعة الفئات النقدية الصغيرة فهم يرون أنّ استخدام فئة الـ 5000 ليرة هو تعميق للمشكلة ويساهم في تفاقمها. فكان خيارهم هو الصك النقدي من فئة 50 ليرة والسبب في ذلك كونها معدنية فإنها لا تحتاج الى إجراءات أمان عالية وتكلفة طباعتها أرخص بالمقارنة مع العملة الورقية، وهي ممكنة حسب جريدة الوحدة الصادرة 4 حزيران 2018، في كل من الصين والهند وكوريا الديمقراطية لكنها ستعتمد على خليط معدني من الحديد والألمنيوم.

ومن وجهة نظر اقتصادية لهذه الفئة من العملة السورية مساوئ عدة نذكر منها:

  1. الوزن الثقيل للفئة الواحدة بسبب استخدام الحديد والمنيوم، مما سيجعل الأفراد غير راغبين باستخدامها في تعاملاتهم اليومية.

  2. قابلة للتآكل والتشوه نتيجة الإحتكاك وتعرضها للمؤثرات الجوية كالماء والهواء والتعرق وذلك بسبب استخدام الألمنيوم في صناعتها.

  3. تتحدد قيمة العملة  من قوة النظام الاقتصادية، فإذا ما تم استخدام معدن الفضة او نيكل فإن تكلفتها الاقتصادية تكون أعلى، إلاّ أنّ المتداولين للعملة يثقون بالنظام الاقتصادي أكثر. أما في الحالة الراهنة فإن المعدن المستخدم هو معدن رخيص الثمن في سورية، وهنا تكمن المشكلة إذ أن النقود لم تعد قيمتها مرتبطة بالوضع الاقتصادي للبلد بل بالوضع العسكري الذي يفرض على المتداولين التعامل بها.

  4. قيمتها منخفضة لدرجة أنه لا يمكن استخدامها في أي عملية شرائية ذات ثمن كبير ولو على مستوى الحاجات اليومية الأساسية.

حتى لو قرر مصرف سورية المركزي طباعة هذه الفئة فلن يكون قادراً بسبب ارتفاع تكاليف الطباعة الاجمالية، لأن قانون طباعة العملات من حيث الجانب النفسي يشير الى أن العملة المطبوعة حديثاً سوف تنسق الطبعات القديمة من التداول، وهنا لابد من الاشارة إلى أن عدد القطع النقدية من فئة 50 ليرة حتى عام 2010 بلغت 2748 مليون قطعة حسب المجموعة الاحصائية السورية 2010، ونتيجة العقوبات الاقتصادية فإنّ تكلفة طباعة وحدة الواحدة تتراوح بين 25/ 35 سنت (كل دولار أمريكي يعادل مئة سنت) حسب أوراق بحثية مسربة من البنك المركزي، كما أن جريدة الثورة بعددها 29-6-2018 ذكرت أن كلفة الورقة الواحدة تتجاوزالمرة والنصف من قيمتها المطبوعة أي تتراوح قيمة الاستبدال الكلية بحدود 687 مليون دولار بالحد الأدنى وهي تكلفة مرتفعة لا يملكها النظام.

أخيراً القانون الاقتصادي يقول أن العملة القوية تطرد الضعيفة من التداول، ففي حين أنّ النظام مضطر للبحث عن حلول لطباعة المزيد من العملات الورقية من فئة 1000 و2000 فإن طباعة العملة النقدية من فئة 50 ليرة لن يكون له أي دور بسبب التضخم المتزايد.

إذاً لن يكون بوسع النظام الاستفادة من أثر طباعة 50 ليرة على حركة الاقتصاد وتلبية حاجة المواطنين للعملة بغرض عمليات التبادل اليومية.

لذا أعتقد أن النظام سيسلك الطريق الصعب في ضوء هذه الوقائع وسيعمد الى طباعة 100 و 200 معدنية وسيكون المواطنون مجبرين على التعامل بها مما سيدفعهم، ولا سيما التجار، إلى إيجاد وسائل أخرى للتبادل كالمقايضة أو استخدام العملات الذهبية. أما على صعيد الاستثمار فان الدلورة (تحويل العملة المحلية إلى دولار) ستكون هي الطريق والخيار الوحيد للنظام او أي حكومة مستقبلية تتولى إعادة الإعمار ريثما يتم ترتيب الوضع الاقتصادي من جديد إن كانت الحكومة مهتمة بذلك.

“وادي الفرات بعد سقوط “الدولة الإسلامية

“وادي الفرات بعد سقوط “الدولة الإسلامية

نهر الفرات هو الشريان الحيوي الأهم في سوريا، يدخل أراضيها من مدينة جرابلس في الشمال السوري عند الحدود التركية ويخرج من مدينة البوكمال عند الحدود العراقية. يبلغ طول القطاع السوري من هذا النهر 680 كم. يعتبر القطاع السوري من وادي الفرات مهد الزراعة في العالم، ووجدت أقدم آثار لها في تل أبي هريرة المغمور. ترجع تسمية النهر إلى كلمة “فرت” في الآرامية القديمة، وتعني الخصب والنمو.

أقيم على نهر الفرات ٣٤ سداً ٢٢ منها في تركيا و٧ في العراق و٥ في سوريا. أهم السدود السورية سد الثورة والمعروف بسد الفرات، يقع في محافظة الرقة ويحتجز خلفه بحيرة ضخمة تجمع حوالي ١١.٦ مليار متر مكعب من المياه العذبة. يعتبر قطاع وادي الفرات الواقع بين “بحيرة الأسد” ومدينة البوكمال منطقة قاحلة لا يمكن فيها الزراعة دون ري، بسبب معدل الهطول المطري المنخفض الذي لايتجاوز عادة ٢٥٠ ملم/سنة.

بلغ عدد سكان محافظتي دير الزور والرقة بحسب آخر إحصاء رسمي عام ٢٠١١ حوالي ٢ مليون نسمة، وانخفض لاحقاً بسبب الحرب. بحسب آخر إحصاء للحكومة السورية الصادر عام ٢٠٠٤ يعمل القسم الأكبر من سكان هاتين المحافظتين في الزراعة ويشكلون ٤٦% و٤٣% من عدد السكان على التوالي، طبعاً لايشمل هذا الإحصاء موظفي الحكومة الذين يعملون أيضاً بشكل جزئي في الزراعة.

قضايا المياه خلال حكم البعث

خلال حقبة الحكومات البعثية فرضت وزارة الري في سوريا ضبطاً واسعاً لموارد المياه، وتم توفيرها بشكل مجاني وفق جداول زمنية مرتبطة بمساحة الأرض ونوع المنتج، وبشكل غير مباشر بمصالحية العلاقة بين موظفي الحكومة وأبناء العشائر في تلك المنطقة.

وعلى النمط الاشتراكي، فرضت الحكومات المتعاقبة قيوداً صارمة على خطط الإنتاج الزراعية عبر برامج إلزامية لزراعة محاصيل بعينها هي غالباً القطن والحبوب والشمندر. وأشرفت بشكل لايخلو من البيروقراطية المركزية على الدورة الاقتصادية لهذه المحاصيل، بدءاً من توزيع البذور وحتى تسويق المنتج.

خلال السنوات العشر التي سبقت الحرب السورية تدهورت بشكل متسارع الأوضاع المعيشية والاقتصادية لأبناء وادي الفرات، تآكلت الأراضي الزراعية نتيجة النمو السكاني، فيما بقيت خطط الإنتاج وتوسيع الأراضي المروية في الوادي تعاني من ضعف التمويل، بسبب السياسات الاقتصادية للحكومة المركزية في دمشق، التي ركزت استثماراتها في المدن الكبيرة والسوق السياحي والريعي.

وكما في جميع قطاعات الدولة السورية دخل الفساد بنية الاقتصاد الزراعي، هكذا مثلاً عبر الرشوة تضاعفت عدد الآبار غير النظامية للري ما سبب لاحقاً بتضرر الحوامل المائية للوادي بشكل كبير.

عقب أحداث الحسكة عام ٢٠٠٤ استمر النهج السلبي للدولة وتمنهجت السياسات الزراعية عنصرياً ضد الكرد. ففي الوقت التي كانت تقدم التسهيلات غير القانونية لأبناء العشائر في وادي الفرات، مثل السماح بعمليات الضخ غير القانوني، تم تخفيض المساحات المروية في محافظة الحسكة والقامشلي للكرد السوريين.

بعد حرب تموز وخروج الجيش السوري من لبنان، ومع تحسن العلاقة بين النظام السوري والاتحاد الأوروبي، والتي توجت بزيارة للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لدمشق في أيلول من عام ٢٠٠٨ دخل الشرق السوري نقطة اللاعودة عندما تبنى النظام السوري مسار (إصلاح) اقتصادي جديد سُمي وقتها اقتصاد السوق الاجتماعي طرحه نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية السابق عبدالله الدردري، وتبناه الرئيس السوري شخصياً، وهو لم يكن في الحقيقة سوى شكل آخر أكثر وحشية من أشكال السياسات الاقتصادية التحريرية.

خلال هذا (الإصلاح) الجديد تم تخفيض الدعم عن الديزل وزاد سعره ثلاثة أضعاف، ما جعل عمليات الري للأفراد في الوادي مكلفة للغاية، كما تم فرض إجراءات إدارية تم بموجبها تقييد استهلاك المياه في الزراعة، ونتيجة انتشار الفساد فشلت هذه الإجراءات فشلاً ذريعاً، وأصبحت إجراءات تقييد الاستهلاك مطبّقة فقط على أولئك المزارعين الذين ليست لهم قدرة على دفع الرشوة أو ليسوا من وجهاء العشائر.

في الإطار العام وككل المجالات الاقتصادية وقَعَت وزارة الري تحت وطأة الفساد الممنهج وسوء الإدارة، فبينما زادت الخدمات اللوجستية للمدراء ورؤساء الأفرع والأقسام من سيارات ورحلات خارجية وأجهزة حواسيب وغيرها، غاب البحث العلمي وتطوير الكوادر المتخصصة عن متطلبات النشاط الزراعي، وغابت معها خطط واقعية للتطوير. شبكة الري في وادي الفرات المنشأة بمعظمها منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي تُسبِب هدراً كبيراً للمياه، ولا يسمح تصميمها الكلاسيكي باستخدام أساليب الري الحديثة. إن أنظمة الري الحديثة مُكلفة، وعزوف الدولة عن تأمينها للمزارعين دفعهم إلى الاستثمار في حفر الآبار أو الاستمرار في استخدام جر المياه التقليدي، وبدلاً من التمويل في تطوير شبكات الري ذهبت الاستثمارات الحكومية إلى قطاع الخدمات العقارية والسياحية.

بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١٠ تعرض الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً لموجة جفاف وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ خلال العقود الأربعة الماضية، بحلول عام ٢٠١٠، أدت هذه الموجة إلى تآكل مساحات واسعة من الأراضي البعلية والمروية على حد سواء، ولأول مرة منذ منتصف تسعينات القرن الماضي اضطرت سوريا لاستيراد القمح، وأُجبر مايقرب من مليون مزارع وعائلاتهم على ترك أراضيهم والهجرة إلى أطراف المدن (العشوائيات) التي تفتقر إلى الكثير من الخدمات.

شكّل السكان النازحون في هذه العشوائيات متضمنين ١،٢ إلى ١،٥ مليون عراقي حوالي ٢٠% من سكان المدن في سوريا، بتعداد يقارب ١٣،٨ مليون (إحصائية عام ٢٠١٠) مقابل ٨،٩ مليون عام ٢٠٠٢ أي بزيادة حوالى ٥٠%. هنا “لا يمكن للمرء أن يفهم الانتفاضات التي تشتعل في المنطقة العربية أو حتى الحلول التي يعرضونها للخروج من مشكلاتهم من دون أن يأخذ الضغوط البيئية والمناخية والسكانية في الاعتبار” كما يقول الباحث توماس فريدمان.

هكذا نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة والعوامل الطبيعية أضحى وادي الفرات جاهزاً لتقبل أي تغييرات سياسية أو أمنية كأحد السبل للخروج من الأوضاع الصعبة التي يعيشها، وشاءت الأقدار أن يكون البديل أسوأ مما كان، وهو حكم تنظيم الدولة الإسلامية.

وادي الفرات تحت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”

خلال عام ٢٠١٤ سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” على البادية السورية ووادي الفرات بسرعة كبيرة، وأسس عاصمة لدولته في مدينة الرقة، ومارس نظام حكم تقليدياً بيروقراطياً قاسياً. خلال فترة حكمه القصيرة أنشأ وزارة للزراعة، مهمة هذه الوزارة تحديد نوع المحصول الذي يجب زراعته، تحديد برامج الري وغيرها من المسائل الحقلية، في أداء لم يختلف كثيراً عن الأداء البيروقراطي لوزارتي الري والزراعة السابقتين في حكم البعث.

ونتيجة لقيام “الدولة الإسلامية” على مبدأ الحرب، بقيت هذه الوزارة مُهمَلة، وتدهورت الخدمات الزراعية ونُظم الري بشكل كبير. ونتيجة نقص الخبرة لدى موظفي “الدولة الإسلامية” فُتح الباب على مصراعيه لحفر الآبار الذي دمر بشكل كبير الحوامل المائية في الوادي. وبسبب تضرر شبكات الطرق وانعدام الأمن عليها لم يعد يتوفر الوقود اللازم لعمل المضخات وأصبح تأمين الأسمدة والبذور الجيدة صعباً للغاية، ما أدى الى تراجع كبير في الإنتاج.

وأدت المعارك العنيفة على امتداد وادي الفرات إلى استخدام أطراف الصراع للمياه مرات عدة كسلاح ضد الخصم. في العام الماضي عمدت حملة “غضب الفرات” التابعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” في حربها ضد “الدولة الإسلامية” إلى إغراق الأجزاء الشمالية الغربية من مدينة الرقة عبر فتح الماء بشكل عشوائي من قناة البليخ، وهي قناة رّي رئيسية تقع إلى الشمال من سد الفرات، وأدت الى تضرر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ومواسم القمح والشعير فيها.

كما أدت الفوضى العامة في البلاد إلى إطلاق يد تركيا على مياه نهر الفرات، ولم تعد تأبه للقوانين الدولية، وبدأت بتخفيض حصص المياه لكل من العراق وسوريا، ففي فبراير شباط ٢٠١٨ خفضت أنقرة معدل الدفق المائي لنهر الفرات إلى ٣٢١ درجة (مايعادل ٤٥٠ متراً مكعباً/ثانية)، وهددت بشكل جدي إمدادات مياه الشرب لحوالي ٢ مليون نسمة من سكان محافظة حلب، وسط صمت من قبل الحكومة السورية وسكوت غير مبرر.

منذ عام ٢٠١٦ زاد نشاط التحركات العسكرية في شرق سوريا من قبل كل من “التحالف الدولي لضرب داعش” والقوات الكردية من جهة، والجيش السوري وحلفائه بمساعدة الطيران الروسي من جهة أخرى للقضاء على وجود تنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة. وفعلاً  تقدم الجيش السوري نحو مدينتي البوكمال ودير الزور، في حين تقدمت “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة من الشمال باتجاه الرقة وحوض الخابور.

مستقبل وادي الفرات

تآكلت “الدولة الإسلامية” ولم يبق من المساحة التي شغلتها أكثر من ٣%. هذا العام أصبح وادي الفرات كاملاً تقريباً بيد الجيش السوري والقوات الكردية. لقد حان الوقت للتفكير بالقضايا البيئية والاقتصادية-الزراعية لمنطقة حوض الفرات التي من شأنها أن تؤسس لتنمية مستدامة، واستقرار اجتماعي. تعرضت المنطقة نتيجة الحروب لتدهور بيئي وزراعي واسع النطاق. وبغض النظر عن المسؤول، فإن النظام الذي سيحكم دمشق ستكون عليه مسؤوليات كبرى في هذا الشأن، أهمها على الإطلاق موضوع وفرة المياه المرتبطة بشكل أو بآخر بديناميات إقليمية سياسية وقانونية دولية، أيضاً اقتصادية واستثمارية وأخرى تقنية وبحثية.

لم تستطع الحكومات السورية في زمن الاستقرار التعامل مع موجة الجفاف السابقة ٢٠٠٧-٢٠١٠، فما هو الوضع إذا ضربت موجة جديدة من الجفاف الأراضي السورية في الوقت الحالي، حيث دمرت الحرب السورية معظم البنية التحتية في وادي الفرات؟

حقيقة لا تحتمل الشك، مياه الفرات آخذة بالتضاؤل بسبب تناقص الإيرادات المائية من تركيا، وتناقص المعدل العام المطري. هذه مشكلة هي ليست وليدة اليوم ولا الأمس، الحلول في الوضع الراهن تكاد تكون معدومة، بينما الواقع الزراعي نحو الأسوأ.

حوض الفرات هو مصدر معظم ثروات سوريا وكان سلة غذائها واستقرارها الاقتصادي. إن ماخلفه حكم “الدولة الإسلامية” كذلك السياسات الفاشلة للحكومات البعثية جعلت وادي الفرات في وضع اقتصادي واجتماعي مأساوي. الآن بعد سقوط “الدولة الإسلامية” وعودة الحياة تدريجياً، يترتب على الدولة السورية مهمات صعبة لأنها ستواجه سلسلة من المشاكل المعقدة: محدودية الموارد المائية، أنظمة الري المتهالكة، العدالة في توزيع الثروة المائية، أساليب الزراعة البدائية، إعادة توطين مهجري الحرب، متابعة تطبيق القوانين الدولية المتعلقة بالمياه النهرية بعدما أصبحت تمثل فتيلاً يهدد بظهور صراعات محلية وإقليمية مستقبلية.

الأهم من كل ذلك هي التعبيرات السياسية التي يمكن أن تقود مرحلة إعادة الاستقرار في الوادي، إذ لا يمكن مواجهة معضلات الوادي العميقة في ظل حكم نظام بيروقراطي وممنهج بالفساد كالذي كان ومازال موجوداً في دمشق.

فحوى هذا المقال موجه للنخب السياسية والحزبية للقوتين العسكريتين الأساسيتين في وادي الفرات: “قوات سوريا الديمقراطية” والجيش السوري، هو أن لا تتحاربا ابداً من أجل السيطرة على وادٍ قد يشهد في أي وقت كارثة بيئية وإنسانية جديدة. لابد وأن تتعاون هاتان القوتان على إعادة صياغة للعقد السياسي بين مكونات المجتمع المحلي، والمضي في تكريس الاستقرار في وادي الفرات بدلاً من تدميره.

أخيراً لايمكننا إلا أن نسأل نفس السؤال الذي سأله جو روم، مدير موقع (Climate Progress) سابقاً: “من الذي سيمد يد المساعدة في المستقبل لدولة مثل سوريا عندما تدمرها موجة الجفاف التالية، بينما نعيش في عالم يظهر فيه كل فرد كما لو كان يتعامل مع الإعصار ساندي؟” سؤال كنت أتمنى أن أسمع له جواباً عند أحدٍ من النخب السياسية في سوريا قبل أن أكتب هذه السطور.

تسول الأطفال وإرث الحرب السورية

تسول الأطفال وإرث الحرب السورية

لكل منا  حصته من إرث الحرب، أو بالأحرى فواتير باهظة دفعها ومايزال يدفعها السوريون نقداً على موائد الحرب الطاحنة، فأضحت حياتهم ترزح تحت هدير طاحونتها التي لا ينقطع دورانها.

شبان في ريعان العمر دفعوا حياتهم كفاتورة فورية لاتقبل التسديد على دفعات. وهناك من أودع أكثر من سبع  سنوات من عمره كسلفة في خزينتها منتظراً حدوث أعجوبة؛ في حين يسدد الأطفال القسط الأكبر من هذه الفاتورة لاسيما أولئك الذين يعيشون على هامش شوارع الحياة.

أطفال تصادف تسجيلهم في دفتر نفوس بلادهم وقد فتكت بهم أنياب الحرب  والقوانين المهملة، فتجار الحرب من جهة وأقصى أنواع الاستغلال الإنساني والاجتماعي من جهة ثانية. ولا يمكن أن ننسى تقصير الجهات المعنية، فيما تقف لوحدها المبادرات الفردية ذات الإمكانيات المادية واللوجستية المتواضعة في وجه هذه الظاهرة السلبية التي كرستها سنوات الحرب،  كمشروع “سيار” الذي شق طريقه عام 2014 عبر فرق جوالة متطوعة تجول شوارع دمشق وبعض المحافظات السورية بحثاّ عن الأطفال المتسولين مستهدفاً أماكن تواجدهم في حدائق السبكي والمدفع في الشعلان وأخرى في المزة لإيوائهم لمدة ساعتين فقط أسبوعياً في أحد المراكز الثقافية.

الحرب كرست ظاهرة تسول الأطفال في المدن الأكثر أمناً

يتلقى مشروع “سيار” التبرعات العينية عبر نشر إعلانات على صفحته الفيسبوك عما يحتاجه الأطفال من قرطاسية وألوان وورق مقوى ولوازم أخرى. وتقول لمى النحاس إحدى مؤسسي المشروع : “يستهدف سيار  ظاهرة تسول الأطفال بشقيه التقليدي والمقنّع إذ يركز على هذه الفئة المنبوذة والمعرضة للانتهاك الجسدي والتعنيف النفسي محاولاً لفت الأنظار إلى حقوقهم واحتياجاتهم المهدورة، خاصة أن أعدادهم  تفاقمت خلال سنوات الحرب السورية إثر نزوح وتهجير مئات العائلات من دير الزور وحمص وحلب والسويداء ودرعا وإدلب وريف دمشق وتوجههم إلى المدن الأكثر أمناً نسبياً كمدينة دمشق أو الساحل السوري كاللاذقية وطرطوس، كما أن أعدادهم مرشحة للارتفاع.”

وتشير النحاس إلى أن محو الأمية يشكل الحصة الأكبر من المشروع، فيما يوزع الوقت المتبقي على الأنشطة الفنية وحلقات توعية حول ضرورة تقدير وحماية أجسادهم وصونها من أي انتهاك جسدي ونفسي والعمل على إعادة تشكيل نظرتهم حيال أجسادهم واحترامها على نحو إيجابي وذلك عبر الحكواتي والقصاص واستخدام دمى العرائس.

لا يقتصر تسول الأطفال فقط على بسط أيديهم واستجداء المال والتماس كرم المارة بل يتنكر على هيئة بائع ورود وعلكة ومسح السيارات الذي يندرج تحت التسول المقنع وفقاً للنحاس التي تضيف: “كثيراً ما يستتر خلف هذه الظاهرة التي تكرست خلال الحرب مخاوف وأخطار تعرض هؤلاء المتشردين إلى الخطف والإتجار بهم وبيع أعضائهم واستدراجهم إلى أفخاخ الإدمان والاستغلال الجنسي مقابل حفنة من النقود.”

الأطفال المتسولون ماكينة بشرية تضخ الأموال لذويهم

الأمية هي القاسم المشترك لهؤلاء الأطفال فالكثير منهم لم يرتد المدارس أبداً وتترواح أعمارهم بين سنة وثمانية أعوام أي أنهم من عمر الحرب السورية.

أما البعض الآخر فهم أكبر سناً ( 10ـ 12) عاماً لكنهم توقفوا عن الالتحاق بالمدرسة منذ اندلاع الحرب نتيجة ظروف التهجير والنزوح حيناً، أو لأن أهاليهم وجدوا في أطفالهم ماكينة بشرية تدر عليهم الأموال حسب النحاس التي تتابع قائلة: “تصل غلة الطفلة/الطفل الواحد إلى سبعة آلاف ليرة سورية يومياً كمعدل وسطي أي (٢١٠،٠٠٠) شهريا، أما إذا حالفه الحظ ونال كرم المارة فتصل إلى تسعة آلاف ليرة في اليوم الواحد أي مايعادل (٢٧٠،٠٠٠) في الشهر الواحد هذا إذا كان طفل واحد فقط من العائلة نفسها يعمل في التسول فكلما ازداد عدد الأخوة في العمل التسولي ارتفع دخل عائلته التي تدفعه وتجبره على العمل وتحصيل الأموال لتسديد أجار الفندق الشعبي في البحصة لذلك لا يمكن أن توقف العائلة مصدر رزقها خاصة في ظل انتشار البطالة وصعوبة إيجاد عمل.”

“التسول” مهنة عن أبٍ وجد كالقرباط والنَوَرْ

تلفت النحاس إلى نوع قديم العهد من التسول الذي يورث عن الأجداد والآباء ليتحول إلى كار وأولئك الفئة يطلق عليهم “القرباط” أو مايعرف بـ “النور” بينما يطلق عليهم “الغجر” كتسمية عالمية وأكثر ما يميزهم أنهم ورثوا التسول عن آبائهم وأجدادهم إثر ترحالهم الدائم فيمتهنون التسول كأي عمل آخر يدر عليهم بالأموال ولا ينظرون إليه على أنه تسول وشحذ للعواطف والأموال.

وتعزي النحاس سبب توريث الأطفال “كار” التسول من هذه الفئة العرقية (القرباط) القادمين من ريف حماه وحلب وريف دمشق كونهم غير مسجلين (كعادتهم في ذلك)  في السجلات الرسمية للحكومة السورية فهم مكتومو القيد وكثيرٌ منهم يتخذ من هذه النقطة ذريعة لتعدد الزيجات والطلاقات الكثيرة خاصة وأنهم يتزوجون في عمر مبكر دون السن القانوني للزواج وبذلك يتجنبون المساءلة القانونية كونهم بالأساس غير موجودين أصلا في السجلات الحكومية.

وتلفت النحاس النظر إلى  وجود حالات زواج وطلاق عديدة في أعمار مبكرة جداً لطفل (١٤ عاماً) تزوج  للمرة الثانية بعد أن طلق الأولى، وحالة أخرى لفتاة (١٥ عاماً) مع رضيعتها.

استغلال جنسي

للطفل المتسول خصوصية تتطلب معاملة خاصة لاستيعابه وآلية للوصول إليه لمنحه الثقة ليتمكن من البوح والتعبير عن ذاته وما يتعرض له من إساءة سواء من الشارع أو المنزل.

تقول المشرفة على العلاج النفسي عبر الفن  سامية النحاس أنها تمكنت عبر تحليل رسوم إحدى الطفلات المتسولات (٩ أعوام) من معرفة أنها تعرضت للتحرش الجنسي من قبل امرأة وذلك لتهيئتها نفسياً لاحقاً لتقبل سلوكيات مشابهة في حال طلب منها خدمة جنسية مقابل المال، مضيفة “طفلة أخرى (١٠ أعوام) يعاشرها والدها جنسياً بعد حفلة سكر فيما والدتها لا تحرك ساكناً.”

عرض أجسادهم الغضة على المارة مقابل المال أمرٌ شائع بين الأطفال المتسولين خاصة الفتيات، تعقب النحاس بقولها “أحد الشبان المتطوعين في  سيار أخبرنا أن طفلة ذات تسع سنوات عرضت عليه خدماتها الجنسية المحدودة بعد أن كشفت عن صدرها أمامه مقابل ٢٠٠ ليرة سورية، كما أنها عرضت عليه شقيقتها الكبرى إن لم تنل إعجابه.

وتؤكد النحاس أن هؤلاء  الأطفال تفتح لهم أبواب الدعارة بسهولة إن لم يتم إيواؤهم في مراكز إعادة تأهيل تقوم على رعايتهم الجسدية والنفسية.

طالبت النحاس وزارة الشؤون الاجتماعية والجهات المعنية بتوفير مراكز إعادة تأهيل للأطفال المشردين بنظام مدرسة داخلية يتلقون فيها الخدمات التعليمية والصحية والمهارات اليدوية ليوظفونها في المستقبل كحرفة تساعدهم في تأمين رزقهم بدل التسول.

وقالت إن “الخيمة التي تقدمها المراكز الثقافية لمدة ساعتين أسبوعياً لا تكفي أبدا لانتشالهم من دائرة التسول والخوف من الوقوع في أفخاخ الدعارة وأن يكونوا نهباً لتجار الأعضاء البشرية.” معربةً عن أملها بإحداث مراكز لإعادة تأهيلهم بدل أن يساقوا إلى الإحداثية حيث ينخرطون هناك مع  المجرمين.

غياب التمويل والمقر حجرتا عثرة أمام “سيار”

تشير النحاس إلى أن عوائق العمل أمام “سيار” تتمثل بـ “عدم امتلاك مقر ثابت وكيان مستقل وهذا حجرة العثرة الأساسية في طريقنا، فيما نعمل حالياً للحصول على رخصة وتحويلنا إلى مؤسسة ذات شكل قانوني الأمر الذي يمكننا من استقطاب تبرعات مالية وعينية من جمعيات ومنظمات دولية خاصة أن الأخيرة تنسق فقط  مع وزارة الشؤون الاجتماعية.”

وتضيف أن “سيار” يطمح لتأسيس مقر إيواء أساسي مجهز بكافة الخدمات التعليمية والصحية والنفسية واللوجستية للأطفال المتسولين وضمان عدم خروجهم إلى الشارع والتسول من جديد وصولاً إلى تأمين مشروع صغير لهم يكسبون لقمة عيشتهم بالتنسيق مع جمعيات ممولة لمشاريعهم.  

يعد التمويل العائق الثاني أمام “سيار” فوفقاً للنحاس “جميع المتطوعين يعملون بدون أجر ولغاية اللحظة لم نتلق أي تمويل من أي جهة، لاسيما أن أغلب الأطفال يعانون من أمراض جلدية وعينية وتسوس في الأسنان تتطلب أجوراً للأطباء إلا إذا تطوعوا بالعمل.”

وأضافت أن وزارة الشؤون الاجتماعية تكتفي حالياً فقط بالدعم المعنوي وتقديم التسهيلات لإقامة الفعاليات والاحتفاليات الاجتماعية، أما فيما يتعلق بالملابس فتتم عبر الأفراد وتسليمها للأطفال مباشرة أو عبر الجمعيات الأهلية بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية.

تؤكد المتطوعة رنا غزالة أن جلسات التوعية التي قام بها “سيار” تركت آثارها على الأطفال، إذ ترك عدد منهم التسول واستبدلوه بأعمال بسيطة كصبي أركيلة أو توصيل، قائلة “أنه بالرغم أن هذا الأمر يندرج تحت عمالة الأطفال لكن يبقى أفضل حالاً من التسول شرط أن لا يشكل عملهم خطراً على صحتهم.”

غالبا ما ينتحل أطفال الشوارع أسماء حركية حتى يخفون معلوماتهم الشخصية خوفاً من الوقوع في قبضة الشرطة وفق تأكيدات غزالة.

وتشير المتطوعة الشابة إلى نوعين من الأطفال اللذان يتصدران المشهد التسولي منهم من ورثوا هذه المهنة وموجودون قبل اندلاع الحرب السورية، ومنهم من ظهر خلال الحرب واضطرتهم ظروفهم للنزوح إلى مناطق أكثر أمناً حيث اضطهدوا وأرغموا على التسول من قبل ذويهم أو أقربائهم كالعم والخال في حال غياب الوالدين، بالإضافة إلى أطفال خطفوا في المناطق الساخنة بعد أن فقدوا ذويهم في الحرب سواء بالموت أو الاختفاء وأجبروا على العمل في شبكة تسول يرأسها مُشغل يوفر لهم السكن والطعام والشراب مقابل المال.

تضيف المتطوعة رنا غزالة أن العديد من هؤلاء الأطفال يتعرضون للإغراءات المادية مقابل تقديم خدماتهم الجنسية وكثيرا ما يتم استدراجهم إلى دائرة إدمان المخدرات لضمان خضوعهم للمُشغل وبقائهم تحت سيطرته والاستمرار في استغلالهم ماديا عبر التسول. وتشير إلى أن بعض المشغلين يتمتعون بنفوذ واسع يمكنهم الخروج من السجن بكفالة مالية  كـ (فهد) الرجل السبعيني الذي ألقي القبض عليه على خلفية خطفه أطفال في درعا وإحضارهم إلى دمشق لإجبار قسم منهم على التسول ولبيع القسم الثاني لكن أفرج عنه لاحقاً لعدم توفر الدلائل الكافية لإدانته وفقاً لغزالة.

أطفال في مهب الحرب

تخرج بديعة حصيان (١٠ أعوام) إلى العمل منذ الصباح الباكر لمسح السيارات في منطقة الشعلان وسط دمشق لتعود مساء إلى منزلها في مساكن برزة، الخوف هو ما منع الطفلة من الإقرار أن والدها هو صاحب البناية، مدعية أنه يعمل في سوق الهال مقابل راتب ٦٠ ألف ليرة سورية شهرياً، وأنها تعمل بملء إرادتها دون أية ضغوط من والدها وتحتفظ بالنقود التي تجمعها يومياً في حصالة لديها من أجل شراء الملابس والألعاب.

الأمر الذي نفته تماما غزالة مؤكدة أن والدة الطفلة أقرت سابقا أن التسول مهنتها ومهنة أطفالها وأن أجار البناية التي يملكها زوجها لا يغطي مصروف العائلة الكبيرة ولا يسد الأفواه المفتوحة، وأن “المردود المالي وراء الشحاذة كبير جداً فكيف لنا أن  نهجره” حسب قول الوالدة نقلا عن غزالة.

بديعة التي تعتلي جبهتها ندبة إثر ضرب والدها المبرح لها أنكرت ذلك بشدة، معزية السبب إلى سقوطها من على الأرجوحة عندما كانت تلعب مع إحدى  شقيقتها في حمص. أما (هلا) شقيقة بديعة التي كانت تتردد إلى “سيار” بين الحين والآخر هربت من والدها واحتمت بسقف جامع “بدر” في الروضة خوفاً من بطشه وجوره غير أنه طاردها وتمكن من العثور عليها وإعادتها إلى التسول.

لا تفكر بديعة بالالتحاق بالمدرسة التي لم ترتدها مطلقاً فبرأيها أن المدرسة مكان لتعلم السباب والشتائم، فيما  تكتفي حاليا بالمجيء إلى “سيار” مرة أسبوعياً للرسم والتلوين وصنع بعض الأشغال اليدوية البسيطة.

يقول مصطفى علام (١٤ عاماً): “تركت المدرسة منذ الصف السادس عقب وفاة والدي لأسباب طبيعية في دير الزور منذ ستة سنوات.”

يقضي الطفل حوالي ١٢ ساعة يومياً في مسح  السيارات وأحيانا ببيع الورود والعلكة وقد عمل سابقاً في غسل أدراج الأبنية مقابل أجر مادي  ليعيل أخوته ووالدته التي تعمل في الخياطة بين الفينة والأخرى.

يظهر مصطفى (الطفل الذي يتردد إلى “سيار”) رغبته في إكمال تعليمه وعودته إلى مقاعد الدراسة حيث يقول “بهالأيام مابتفيد إلا المدرسة.” منذ شهرين وبالرغم من وصوله إلى الصف السادس ما يزال ضعيفاً بالقراءة والكتابة، الأمر الذي يحاول تجاوزه من خلال الساعات القليلة التي يقضيها هنا.

كل ما يجمعه الطفل من مسح السيارات يودعه عند والدته التي تدفعه أجار المنزل القابع في الدويلعة والذي يبلغ ٣٥ ألفاً شهرياً مع أخذ القليل منه لتسديد ثمن الدخان وسندويشة فلافل أو بطاطا يتناولها خلال يوم عمل شاق، كما تساعد المعونات المقدمة من الهلال الأحمر والمنظمات الدولية في سد جوع أخوته.

أحياناً يفر مصطفى هارباً من الحملات التي تشنها دوريات الشرطة لكن غالباً ما ينتهي الأمر بتركهم وشأنهم شريطة عدم إزعاج المارة، قائلاً  “وفي بعض الأحيان يمنعوننا من العمل وذلك حسب مزاج الشرطي ومرونته.”

عقوبة التسول في القانون السوري

عرف القانون السوري المتسول في مادته ٥٩٦ من قانون العقوبات السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ١٤٨ لعام ١٩٤٩ بأنه من كانت له موارد رزق أو كان يستطيع الحصول على موارد بالعمل واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان كان إما صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية ويعاقب بالسجن مع التشغيل لمدة شهر على الأقل وستة أشهر على الأكثر ويمكن فضلاً عن ذلك أن يوضع في دار للتشغيل في حال تكرار فعل التسول.

يوضح المحامي (ق ـ ش) أن جرم التسول يشكل جنحة بالنسبة لمرتكبيه من البالغين، فيما يكون بمثابة مخالفة بالنسبة للأطفال دون سن العشرة أعوام إذ يتم تسليمه إلى وليه وذلك بقرار من المحكمة، فقد نص قانون الأحداث الجانحين رقم ١٨ لعام ١٩٧٤في المادة الثانية المعدلة  بالمرسوم التشريعي رقم ٥٢ لعام ٢٠٠٣ بأنه لا يلاحق جزائياً الحدث الذي لم يتم العاشرة من عمره حين ارتكاب الفعل فتكون العبرة هنا هي تاريخ ارتكاب الفعل وليس المثول أمام القضاء، بينما يودع من بلغ العاشرة من العمر ولم يتم الثامنة عشر في مراكز توقيف ومعاهد إصلاحية خاصة بهم لمدة لا تتعدى الشهر، مؤكداً على ضرورة فرزهم في أجنحة خاصة بجرم التسول وفصلهم عن الأرذال والمتهمين بالسرقة والنشل.

ثمة حالة تراخي وتسيب أشار إليها المحامي فيما يتعلق بعقاب والد الطفل لإهمال رعاية طفله وإجباره على التسول وتسربه من المدرسة الأمر الذي يتعارض كلياً مع حقوق حماية الطفل الذي يكفل حقه بالتعليم والعيش الكريم والسلامة النفسية والبدنية، مشيراً إلى وجود حالات خارجة عن القانون كقيام بعض مشغلي شبكات التسول بدفع رشاوي لإخلاء سبيلهم دون الخوض بالمزيد من التفاصيل.

وفي حال لم يكن  بين ذوي الحدث من هو أهل لتربيته أمكن وضعه لدى مؤسسة أو طرف صالح لتربية الحدث وعلى مراقب السلوك أن يراقب تربية الحدث وأن يقدم للقائمين على تربيته الإرشادات اللازمة، فيما يحكم بوضع الحدث في معهد إصلاح الأحداث لمدة لا تقل عن ستة أشهر إذا تبين للمحكمة إن حالة الحدث تستدعي ذلك.

محاولات لتعميم الإسلام المعتدل في سوريا

محاولات لتعميم الإسلام المعتدل في سوريا

في دروس اللغة العربية البسيطة، للمبتدئين في اللغة، وفي السياسة عندما تصبح عمليات سرية وألعاباً خفية، ما يسمّى بالضمير المستتر، وهو فاعل رأى أنّ من الأسلم لمراميه التلطي خلف مقتطفات اللغة، فيفعل من خلف الستار ما لا يرغب بإظهاره للعلن. على سبيل المثال، بالقول أنّ “الحكومة ضيّعت البلاد” أو “إنّ الاتفاقيات تجري من تحت أنوفنا”، يقضي الفاعل المستتر هنا على البقية الباقية من الأنفاس في هواء البلاد لخدمة أهداف لا نرغب بمعرفتها أصلاً. ومن هذا أيضاً ما تناولته وسائل الإعلام مؤخراً عن عقد اتفاقية بين مديرية الأوقاف وجامعة البعث في حمص، وتهدف الاتفاقية كما جاء حرفياً على الموقع الرسمي لجامعة البعث “إلى تبادل الخبرات والمعلومات في جميع المجالات المشتركة وذلك انطلاقاً من المبادئ والقيم الإنسانية السامية من أجل النهوض بالمستوى الفكري للفرد خاصةً والمجتمع عامةً نحو الأفضل في ظل الظروف الراهنة التي تتعرض لها سورية.”

وأكد الدكتور بسام إبراهيم رئيس جامعة البعث على أهمية هذه الاتفاقية المشتركة والتي سيكون لها دور مهم في عملية بناء الإنسان من خلال تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية الصحيحة ودعوتهم إلى المحبة والتآخي والتسامح. ورغم أن لا شيء واضح في مندرجات الاتفاق، من يقف خلفه؟ وهل هو توجه عام أم تصرف فردي مثلا؟ لكن معرفتنا بطرق صنع القرار في وزاراتنا تجعلنا متيقنين أن الهدف المعلن هو نفسه الهدف المستتر، أي تخفيف حدة الخطاب الديني المتطرف وامتصاص الفكر الجهادي عبر تطويع الخطاب المعتدل وتمكينه لكن هذا الهدف وإن برئت مراميه لا يتم تحقيقه عبر دعاة / موظفين خارجين أصلاً من رحم نص مقدس لا يجوز المساس به.

نضيف إلى هذا أن الجامعات أصلاً ليست المكان المناسب لمكافحة التطرف إذ إنها ليست البيئة الحاضنة له إذا توفرت بيئة حاضنة، إنما معاهد تحفيظ القرآن والمعاهد الشرعية والجوامع وحلقات الدراسات القرآنية هي الأولى بذلك، أي من المفترض أن تتقدم الجامعة بهذا المشروع لتضع هذه المعاهد والمدارس الدعوية تحت سيطرتها لا العكس، ونستطيع التساؤل أيضا بكثير من حسن النية عن المشاريع المشتركة التي تجمع مديرية تعنى بالشؤون الدينية والدعاة والوعّاظ مع جامعة يجب أن يكون هدفها الوحيد القريب والبعيد هو البحث العلمي، إلا إذا كان الهدف هو تطويع الدراسات جميعها لصالح دراسة أثر الخالق في الاقتصاد والميكانيك والكهرباء!

لكن ما هي الخبرات والمعلومات التي تتمتع بها مديرية أوقاف في بلدٍ يتهاوى، أو في بلد يتعافى من هاوية حرب أهلية شكّل الخطاب الديني المتطرف جزءاً لا يستهان به من أسلحة خوضها، هل سيوزعون صكوك غفران جديدة؟ أم سيدرسون تأثير اللحى في الوقاية من سرطان الجلد؟

وهذا الاتفاق بحد ذاته لا يشكل فرقاً جوهرياً في الحقيقة إذ طالما تشابهت المؤسسات التعليمية في سوريا من حيث آلية التعليم أو قل التلقين فيها مع المعاهد الدينية، لكنه يبقى مؤشراً يدعو للقلق طالماً يتزامن مع انتصارٍ حقيقي أو شبه حقيقي للقوى الوطنية كما تصنّف هذه القوى نفسها في حرب وجود ضد الفكر الإقصائي؟ سبق هذا الاتفاق بلاغاً آخر  مثيرٌ للجدل وسبق تعميمه على المدينة الجامعية في جامعة حلب حذّر فيه أحد المسؤولين الطلابَ من مغبة الإجهار بالإفطار في رمضان ووجوب الالتزام باللباس المحتشم ومنع الخلوات غير الشرعية، وكأن الوزارات بأكملها أنجزت المهام الموكلة لها بحفظ أمن المواطن وضمان معيشته ولم يتبق إلا الأخلاق الحميدة لتوزعها عليه في أكياس صغيرة لتنقذه من العطب اليومي، أو كأنّ الحكومة رأت أن الفساد الأخلاقي والجهر بالإفطار في رمضان هو سبب الدماء الجارية في الشوارع فرأت أن تقضي على المشكلة من جذرها بالقضاء على الأخوة الطلاب.

لكن هناك خطباً ما ألا وهو أنّ هذا الاتفاق الغريب يأتي بعد أقل من سنة من إغلاق المدارس الدعوية التي تتبع مجمّع الرسول الأعظم (ثلاث مدارس) والذي كان يتلقى تمويله من هيئات دينية إيرانية، إضافة لهدوء غير مفهوم على الجبهات التي تشكل القوات التركية جزءاً منها، الأمر الذي يقود إلى التفكير بالهدف الآخر غير المعلن.

المستتر

ربّت أغلب الحكومات، ديمقراطية أم ديكتاتورية، متطرفين في الباحة الخلفية ليتم استخدامهم في مهمات مريبة لا تسمح لها ديمقراطيتها المعلنة أو خطابها العام إعلان مسؤوليتها عنها، وأحياناً قامت بهذا حكومات بوليسية الهوى لوضع المقارنة موضع الالتباس عند من يرغب بصنع تغيير ما، عبر المفاضلة بين السيئ والأسوأ، وهذا ما شهدناه بأم العين وأخت البصيرة في بلدان الشرق المسكينة. ذلك أن الدول أيضا اكتشفت التكلفة الكبيرة لاستيراد متطرفين عقائديين تواجه بهم متطرفين عقائديين آخرين، فآثرت والحال كذلك استيلادهم محلياً بتكلفة صنع أرخص، فعل ذلك الجميع بطرق متعددة، عبر اصطناع مشاكل كبيرة لا حل لها إلا باستقدام الوكيل الخاص بنا، حتى استقرّت المناقصة الكبرى على الإسلامي المتطرّف الذي يرغب بتدمير العالم بأكمله وعلى الحكم الوطني الذي لن يسمح له بفعل ذلك ولو كانت التكلفة تدمير الوطن على رؤوس سكّانه، فلماذا نشذّ نحن عن قواعد أرست مراسيها دول كبرى وحكومات برلمانية الواجهة وتعاطت بها بنفس الطريقة؟

لماذا نكون أكثر عدالة أو نصرة للحق الإنساني طالما أن سبل السياسة انحفرت بهذا المعول وعلى هدي هذه المطارق، والتغيرات الجديدة في الصفقات الكبرى تحفر مجاريها أيضاً، على فيضٍ من اتفاقياتٍ سريةٍ تجري جري السلاحف في الأكمات، اتفاقيات يُمنح بموجبها تيار الإسلاميين “المعتدلين” حصّة ما في أجهزة الحكم المدنية مقابل تخفيض لهجته الجهادية وتنزيل الأزمة إلى مستوى السيطرة العامة على دوائر صغيرة في الحكومة، الأمر الذي قد لمحنا براعمه في تمكين هذا التيار الموصوف بالمعتدل من وسائل إعلام جديدة وتجمعات شبابية دينية، على نية أن تأخذ الحكومات هذا المد إلى أمكنة يُعتقد أنها تحت السيطرة وهذا ما لن يحصل.

السوريون في فرنسا: الألزاس مثالاً

السوريون في فرنسا: الألزاس مثالاً

ستراسبورغ

تقع مدينة ستراسبورغ  في إقليم الألزاس الذي تم تغيير اسمه إلى إقليم الشرق الكبير بعد دمج عدة أقاليم معه لأسباب اقتصادية بحتة  هدفت لرفع مستوى تلك الأقاليم الضعيفة النمو الاقتصادي والناتج العام. وتُعتبر مدينة ستراسبورغ المدينة الثالثة  في فرنسا من حيث مستوى الدخل والرفاهية بعد مدينتي بوردو ورين .

قبل الحرب السورية كان  عدد السوريين في المدينة لا يتجاوز المائة شخص، وهم غالباً من الطلاب الذين أنهوا دراساتهم الجامعية العليا وتزوجوا من سيدات فرنسيات واستقروا فيها. وبعد العام 2014 بدأت العوائل السورية تتوافد إلى المدينة ليصل الرقم حالياً إلى ما بين ألفين وألفين وخمسمائة سوري، ويتضمن هذا الرقم عائلات وشابات وشباب عازبين يدرسون ويعملون. وتجدر الإشارة الى أن عدداً كبيراً من العائلات  قد قررت التجمع معاً في منطقة واحدة محددة بناء على ارتباطاتهم العائلية أو الأقلوية كالطائفة أو بلد المنشأ أو علاقات الصداقة المميزة بين تلك العائلات، المهم تلك القناعة أنّ وجودهم معاً هو علامة الأمان الأقوى والأكثر خيراً على الجميع.

لا يوجد رابطة رسمية للسوريين في المدينة، إلا أنّ الغالبية تعرف بعضها من الأسماء، فالأسماء والألقاب معروفة وإن غابت الوجوه عن مساحة المعرفة البصرية أو الذاكرة.

***

أحمد إيزولي مهندس ميكانيك حاصل على درجة الماجستير في تنقية المياه ومحطات المعالجة، يقيم في المدينة منذ عام 1993، زوجته سورية وناشطة في مسرح الهواة وقد حصلت الفرقة المسرحية التي تعتبر عضواً أساسياً من أعضائها على جوائز فنية عالية وبشكل متكرر. افتتح المهندس المذكور مطعماً أسماه “حبيبي” باللغة العربية، ويقدم ً  تبولة ومسبحة وبرغل ببندورة وفلافل وشاورما وكبة وبرك جبنة وسبانخ، وفي شهر رمضان يقدم وجبات خاصة للصائمين، يضيف إليها شوربة العدس والتمر وشراب التمر هندي والمشمش والليمون، مع الإشارة إلى أن غالبية زبائنه من الفرنسيين. وقد نافس مطعم أحمد من سبقه من أصحاب المطاعم اللبنانية، وكل متصفح لصفحة المطعم على الفيس بوك يتعرف إلى ما يقدمه المطعم وبالتالي يمكن عبر الموقع نفسه  التعرف على المستوى المميز والرفيع للمطعم ونوعية ما يقدمه وحسن تعامل صاحبيه مع الزبائن .

***

يتميز الطلبة السوريون بانتظامهم في المدارس فور وصولهم وسعيهم الحثيث للتعلم، ويبرعون في اختبارات الطب والفنون وهندسة المعلوماتية. حسن رب عائلة سورية قدمت إلى ستراسبورغ من حوالي السنتين، ابنه البكر كان في الصف العاشر الثانوي  وخلال سنته الدراسية الأولى تجاوز صعوبات تعلم لغة جديدة وهو الآن في الثانوية وقد قام باختيار العلوم الطبية للدراسة بعد ما خيرته إدارة المدرسة بين هذا الاختصاص واختصاص الهندسة المدنية نظراً لارتفاع معدل علاماته في الصف الحادي عشر.

السمة الغالبة للعائلات السورية في المدينة هي قدومها مجتمعة عبر برنامج اللجوء في منظمة الهجرة الدولية بمكتبها في بيروت، وبالتالي فإن عذابات الغربة جاءت أخف لأنّ الأسرة تقاسمت صدمة التعرف إلى بلد جديد وروتين إداري مقيت وطويل ومبالغ فيه، لدرجة أن أحدهم أعلمني بأن ما قدمه من الأوراق لدوائر الضمان الصحي واللجوء والإعانة والسكن يبلغ حجمها حقيبة بوزن أربعين كيلو غراماً.

لكن ثمة من قدم وحيداً واختبر مشقة الانتظار ولوعة الوحدة والقلق على من تبقى من أفراد عائلته في سورية أو في ما يخص موافقات لم الشمل وتوقيت الاجتماع بالعائلة مجدداً. يروي أحد السوريين أنه قد تعرف على لاجئٍ جديدٍ في المدينة، وقد شكا وبكى وندب حظه لدرجة دفعت الشاب المقيم منذ مدة للتوسط  لدى أحد الأصدقاء الفرنسيين لإيوائه كي يوفر عليه بدل الإيجار والخدمات حتى موعد حلول الوقت المناسب لتؤمن له الدوائر المختصة كل ذلك، ليكتشف الشاب المغيث والفرنسي صاحب النخوة أن السوري الميمون لديه حساب بنكي يتجاوز الخمسين ألف يورو!

لانا طفلة سورية عمرها خمسة أعوام قدمت الى المدينة منذ سبعة أشهر وهي الآن “بلبل بالفرنسي” (حسب التعبير الشائع  لدى السوريين الذين يعانون من نقص حاد في معارفهم اللغوية بالعربية فكيف باللغات الأخرى!). لانا متفوقة على كافة زملائها بالمدرسة وقد بدأت  بالانخراط بصف الرقص وتبدي نجاحاً مميزاً واندماجاً كبيراً ما بين أقرانها من الجيران وزملائها ومعلميها في المدرسة.

في نهاية كل عام دراسي تقيم المدارس حفلاً وداعياً لطلابها، غالباً ما يكون يرافقه نشاطات متنوعة وله صفة المرح فحسب، لكن بعد قدوم أستاذ موسيقا جديد وهو شاب سوري تغيرت نكهة الحفل وتفاصيله، خاصةً بعد إصراره ونجاحه في تشكيل أوركسترا وكورال من الطلاب أنفسهم بعد أن تحولت دروس الموسيقا إلى منجمٍ من ذهب لاكتشاف المواهب والميول الفنية  وتوظيفها وتطويرها، لدرجة أنّ الأهالي وإدارة المدارس طالبت المحافظة بلحظ رصيد مالي محدد وسنوي لتأمين تكاليف رعاية واستمرار وتطور الكورال والأوركسترا، واللافت أنّ بداية الحفل كانت بأغنية “لما بدا يتثنى” والتي أدّاها طلابٌ لا يوجد بينهم طالبٌ عربي واحد.

كما أنّ الأستاذ المذكور قد فاز بعقدي عمل مع المحافظة، الأول لورشات عمل تحت عنوان “العلاج بالموسيقا للأطفال أصحاب الاحتياجات الخاصة”، والثاني “ورشات عمل بمجال الموسيقا مع أطفال اللاجئين وحكايا اللجوء والنجاة”.

***

اللجوء أكثر من مكان جديد ومن حكايا شوقٍ وترقبٍ ونجاةٍ، اللجوء هو أماكن التسوق بلكنتك الغريبة وبحثك عن بائع خضار سوري أو مغاربي ليطمئن قلبك فتبالغ بالشراء، اللجوء هو التدقيق في ممتلكات الآخر شريكك في بلدك الأصلي وسؤال النفقات والمقدرة والخوف من العجز والإفلاس، اللجوء هو السؤال عن راتب اللجوء وهل لديك طبيب للوصفات الإضافية، ونميمة بأنّ فلاناً لديه أربعة أطفال مما يعني خمسمائة يورو إضافية عن راتبك الشهري والتعويضات، اللجوء هو أن تقرّش كل يورو حسب الليرة السورية وتقرّر حينها فقط هل تشتري تلك الحاجة أم لا.

يوقفني رجل فرنسي وأنا عائدة من سوق الخضار الشعبي ليقول بلكنة فرنسية خالصة “سيري Syrie؟”  أي سورية! ( وعندما أجيب بنعم يقول لي مشيراً إلى ربطات البقدونس التي أحملها (تبولة!)).

العلامة الفارقة هي براعة السوريين في التعرف إلى الأماكن العامة وخاصة مراكز التسوق بسرعة، وقلة الاختلاط بالفرنسيين مع أن جلّهم بادر بإقامة علاقات اجتماعية مع الجوار وخاصة الجيران في ذات المبنى، خاصة إذا كانوا من اللاجئين أو المهاجرين أمثالهم، لكنها باءت جميعها بالفشل. ولابد من الإشارة إلى أنّ علاقاتٍ مميزةٍ جمعت بعض العائلات السورية ببعضها البعض بعد أن تم التعارف في ستراسبورغ عبر أو بعد رحلة الاستقرار في الوطن الجديد.

أكثر الأسئلة مدعاةً للضياع كان “هل تشعر بأن فرنسا هي وطنك الثاني؟” سؤال استدعى معنى الوطن والحقوق والواجبات والحرب والغربة ومتاهات العزلة والاندماج، وظل معلقاً دونما جواب، كالأرواح الهائمة في عشق المكان وذكرياته وفي رحلة التعرف إلى جديد لا خيار في الامتثال لشروط العيش فيه وإن بدت عبارة الشروط مجرد تغيير طارئ سيعيد ترتيب نفسه هناك في المكان المعلق بين العودة أو عدمها! أما الزمان والتوقيت فمجرد هلام لا يُكمش ويتسرب كالحلم من بين أصابع الزمن.

Law 10 and the Theft of Syrian Property

Law 10 and the Theft of Syrian Property

Widespread criticism has followed Syrian President Bashar al-Assad’s issuance of Law 10, coinciding as it did with the regime regaining control of eastern Ghouta and the evacuation of the opposition. The law concerns the creation of one or more regulatory zones within the general regulatory plan for the administrative units. This law, which applies to the whole of Syria, completes and regulates several previous, more dangerous real estate decrees.

The law will provide a formal framework for the transfer of land ownership to the Syrian government, which has the power to award contracts for reconstruction and development to companies or investors, and to compensate citizens in the form of shares in regulatory zones.

Decentralization of regulatory zones may be normal in a country free from war, mass exodus, and conflicts between multiple occupational forces. However, the Syrian regime is using the decrees in Law 10 to exploit the absence of more than eight million Syrians displaced abroad, most of them in Turkey and Germany, who are residents of areas devastated by the regime. These residents include those wanted by and imprisoned by the regime. The law provides for a period of no more than two months to establish ownership. This is not sufficient for residents living abroad as embassies and consulates take a long time to approve the procedures for legal representation. Residents abroad also face other challenges such as financial costs and deliberate complications imposed by the security services on the accreditation of external legal representatives.

In Turkey, the legal agent cannot work without the owner’s passport. The cost of establishing a legal representative includes one hundred and fifty Turkish lira / thirty-six US dollars to book an appointment at the Syrian consulate, in addition to fees of up to one hundred and twenty-five dollars. Getting a passport issued at the consulate costs four hundred and twenty-five dollars and takes three months. There is a fast track service taking one month; however, this is only available for those over forty-two years old and costs nine hundred and twenty-five dollars! If the applicant is between eighteen and forty-two years old, he or she must bring a national service book or certificate of termination of service. If the applicant is wanted by the regime, he or she can still make the request, but there are no guarantees that the Syrian government in Damascus will accept it. A status adjustment requires a consular appointment of one hundred and fifty lira / thirty-six dollars, and the approval period is between three to six months (1).

The regime may still reject the claim despite the property owner paying all these sums to try to establish ownership. Given the large number of refugees, these fees will contribute a significant amount to the regime’s treasury. These payments alone may serve the goal of saving the regime’s eroded economy, whose primary source of income has become ever-increasing tax revenues. Any sale, proxy, proof of ownership, or registration of property in the Finance Directorate requires the owner to pay all outstanding dues, which include all invoices, traffic violations, or any unpaid taxes.

In Germany, Syrian refugees cannot enter the Syrian embassy or the German government will consider them as not wanted by the regime, and they may therefore have to return to Syria (2). According to the Norwegian Refugee Council, seventy percent of refugees lack basic identification documents.

The problem with Law 10 is not only its timing but also its details. The law is clearly top-down, as Article 1 allows the higher authorities to impose regulatory plans through the Ministry of Local Administration and Environment in the president’s appointed government (3). There is no role for the local councils or technical services directorates, and no reference to the essentials of urban planning. Previously, the local elected council, as the highest authority, was the one who proposed amendments to the regulatory chart of the region, often because of the need for expansion. The council presented the plan to the people of the region, and the residents could submit their objections to a committee of eleven members from several ministries and departments, who studied the appeals. This committee has not had full oversight of this law, which is therefore not in the interests of the population, and will also affect regime supporters.

Article 22/12 of the law turns original independent owners on the land registry into shareholders of common stock in the regulatory zone. In accordance with Article 29/17, they must register the sector in their names or form a joint-stock company to manage the investment and development of their shares. If the owners reject both of these options, the administrative unit will sell the shares in a public auction, and the beneficiary will, of course, be companies, the identity of which is as yet unknown.

The law deals with ownership on the basis of fixed ownership in the land registry (4). However, many properties are in informal areas, where the government has been failing for years to organize real estate, and the documents in the owners’ possession consist of personal contracts or electricity and water bills, so-called “hand-held documentation,” making verification of ownership difficult.

Article 21/11 of the law allows for the expropriation of private property for the public benefit without financial compensation. This is contrary to the Syrian constitution, which provides for fair financial compensation in case of expropriation of individual property for the public interest (5).

Decree No. 66 of 2012 targeted the areas of al-Razi and the organization of Kafarsousa, within the so-called “Marotta City.” The government is talking about a similar project in Baba Amr in Homs and in Eastern Aleppo. As for Darya, whose population has never been allowed to return, proposals suggest high-rise projects, and annexation to the province of Damascus while the heavy-weights in the Damascus Governorate Council suggest the entrance to the capital should begin in Qabun and the Tishreen district (6).

This new legislation and the previous decrees open doors to regime supporters to steal Syrians’ property. The law allows anonymous real estate development and joint-stock companies, regardless of their nature or nationality, to own shares in the regulatory zones, and establish themselves within these operational zones under the pretext of implementing public utilities and infrastructure projects.

Russian and Iranian allies are likely to come into conflict in the next four months regarding the quotas for each party, with the expectation that the Iranians’ share will decrease after the recent US-Israeli decision to remove it from Syria. The regime wants to strike at its opponents, and Russia wants to strike at the popular homogeneity in the opposition regions, so as to prevent objections to any future policies it may impose. Iran is looking to Yarmouk camp adjacent to the Sayyida Zeinab area to expand religious tourism and increase its influence in Syria through sectarianism.

The German government expressed its displeasure with the law, calling it “treacherous.” Germany is particularly concerned that these measures will reduce the chances of residents returning to Syria, as it is currently studying the return of two hundred thousand Syrian refugees as the first step in the process.

The United Nations has taken no steps to stop the massacres against the Syrian people. It also continues to recognize the legitimacy of the regime through allowing it to occupy its seat in the assembly and issue decrees and laws in its areas of concern. Some opposition lawyers believe that any steps taken by Syrian citizens to prove their ownership will mean recognizing the legitimacy of the law. They say that it is better to carry out international legal, human rights, and popular campaigns against these laws (7). International law protects the right of residents to adequate housing, and this must include guarantees of protection from forced eviction (8).

The official position of the regime in the face of widespread criticism is to defend the law. According to Syrian President Bashar al-Assad in an interview with the Greek newspaper Kathimerini, Law 10 aims to reorganize destroyed areas and slums, and the elected local administrations will implement the changes. At the same time, the regime denies the claims regarding the confiscation of its opponents’ property. However, this confiscation has already taken place through Legislative Decree No. 63 of 2012, which enables the Ministry of Finance to seize the assets and property of individuals subject to the Anti-Terrorism Act of 2012 and transfer these assets to the Syrian government. This anti-terrorism law provides a broad interpretation of terrorism and criminalizes a large number of Syrians without a fair trial.

Ironically, Ahmed al-Shara, Abu al-Julani, the leader of al-Qa’ida in Syria, still owns a home in Mezzeh, Damascus, and his father’s grocery store there – which are apparently not covered by the anti-terrorism law now affecting peaceful dissidents and activists!

 

References

1 – According to an article by Qusay Abdul Bari on the Eqtsad website

https://www.eqtsad.net/news/article/19667/

2- According to Ahmad Kazem al-Hindawi, the head of immigration and asylum in Europe at the Arab Organization for Human Rights, on the Eqtsad website in the previous link.

3 – The text of the decree, as published in the Syrian news agency SANA.

4- According to a Human Rights Watch report, only 50 percent of property was officially registered even before the war.

5- According to an investigation by the Syrian newspaper Anab.

6 – The Minister of Local Administration of the Syrian government, Hussein Khallouf, made a statement about the preparation of studies to organize some areas in the provinces under the new law, including the Damascus entrance from the Panorama building to the suburb of Harasta. The Damascus Governorate is considering the inclusion of the industrial zone in Qaboun, in addition to Joubar, Tadamon and Mezah 86, to be reorganized within the law.

7 – According to Hindawi’s statement to the Eqtsad website mentioned above: “We must not be dragged behind the law issued by the regime; that will give it legitimacy. The survival of Assad is based on not restoring any of the stolen rights.”

8 – According to the above report by Human Rights Watch.

 

Translated by Katie Jackson. The Arabic article can be found here.

[This article is published jointly in partnership with Jadaliyya.]