سورية: الجغرافيا والأطراف المبتورة

سورية: الجغرافيا والأطراف المبتورة

في دمشق المدينة ناجون مضوا إليها تاركين خلفهم ترسانة الحرب وهمجيتها بحكم الغريزة البشرية التي تقود الإنسان حيث البقاع الأقل فتكاً ودموية. دمشق العاصمة المساحة الأقل مواجهةً واحتداماً ولكنها الأكثر رعباً وانهزاماً من حيث التفاصيل المحشوة بها ستثقل كاهل كل الضعفاء الفاقدين لأدوات النجاة والبقاء وتصنفهم ليبقوا خارجها ويرتادوا الأرصفة والشوارع الملوثة بالبلادة واللامبالاة.

لجأوا إليها نجاةً من مناجم الذبح والموت الرخيص فحاوطتهم بالأسلاك وبالأسياخ المعدنية التي لم تعد حكراً على بطانة جدرانها وأعمدتها وسقف سمائها أيضاً. أقدام أبنائها الذين يعرفونها جيداً مجنزرة بأسلاكٍ خفيةٍ تحصي أعداد الخطوات والوجهات التي باتت لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وها هي اليوم تنقل عدوى أسلاكها وقيودها إلى الأجساد التي ستؤسس قواعدها وتحصّنها بالمعدن والخوف استكمالاً لوظيفة العيش. فكثرة الأحمال التي كبّلت أرواح أصحابها لن يعيقها المشي الآن وهي مربوطة بالعكاكيز والأسلاك المتداخلة مع اللحم والعظم المتفتت.

شارع الثورة (في وسط المدينة) بأرصفته البشرية يلخص المأساة كاملة، حيث يمكن للعابر أن يصطدم بمرآبٍ كاملٍ تصطف داخله كراسٍ متحركة يقودها شبانٌ قد فقدوا أطرافهم بمختلف مسمياتها، يبسطون رقعة ًمهترئة على أرض محشوة بالقمامة والروائح الكريهة. تحتل الرقعة في واحدةٍ من زواياها جلدات لأسطوانة الغاز، علب كبريتٍ، أقلام الريم الزرقاء، مطاط أبيض، إبر خيوط متسخة، جرابات قديمة جداً… الجميع هنا في انسجامٍ تام. الصورة مكتملة فالبسطة بكافة محتوياتها فاقدةٌ للزمن حيث لا يمكن للحاضر الآن أن يعيد استخدام كل ما نبت فيها، وكذلك الأمر أيضاً لمن يدير عجلاتها فالحياة بالنسبة له قد توقفت هناك عند عتبات ذاك الزمن.

نساءٌ ورجالٌ في نهاية أعمارهم يضعون عند عتبات أقدامهم أطفالاً فجرت الحرب أطرافهم الصغيرة يجلسونهم بجانبهم ليس كمتكأ لهم، بل كمصدر رزقٍ يلبي حاجة الجوع التي جعلتهم يتناسون خطوط الزمن المحفورة في وجوههم ويركضون نحو لقمةٍ واحدةٍ أو مبلغٍ وضيع ٍيجلب لهم حبة الضغط أو مميعاً للدم. والبعض الآخر يجلس متكئاً على حائط ٍبالٍ يحتاج من يسنده، بينما يفترش آخرٌ الليل مأواه ببطانيةٍ ورصيف ليستيقظ عقبها متابعاً حيثيات يومياته بين جدار وسياج معدني تعددت استعمالاتهما بين مصدر للحياة ومبولة.  في هذه البقعة الصغيرة تستطيع الحرب أن تلخص كل بنودها وتفتك بكل الاتفاقيات والحقوق الإنسانية الخاصة بضحايا الحرب.

سوقٌ كامل ممثلٌ  بأجسادٍ تمضي إلى حياتها بعكاكيز فضية ملبسة بالبلاستيك، النسبة الأكبر منها تنهشها الأسياخ المعدنية في كل من الأقدام واليدين. العيون باتت تألف مشهد الأرجل المبتورة، بنطلونات مموهة ولكنها فارغة لا يحشوها شيء من مخصصات الجسد، يغطى منتصفها إلى الأسفل قليلاً لتنتهي بعكفة عند الركبة كي لا تعيق حركة العكاكيز، أرجل المرحلة الحالية لكل السوريين. أيادٍ مختزلة ممدودة تجمع ما أمكنها من نقود كي تعوض بعضاً من مفقوداتها.

الحدائق هنا باتت مزروعة بأجساد اعتادت حرارة الصيف وبرودة الشتاء القاسي، بعضنا يحمد السماء على انقطاع نعمة المطر ويرجو الهواء أن يبق محافظاً على دفئه كي لا يزيد من برودة هذه الأجساد التي باتت منافذها مشرّعة أبوابها للطبيعة والقهر.

وإذا ما لجأنا إلى تعداد الإحصائيات، المنظور الكمي الذي يرانا العالم من خلال عدسته، نقرأ مثلاً في تقريرٍ لمنظمة الصحة العالمية والمنظمة الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة،  صدر في 13 كانون الأول (ديسمبر) 2017، أنّ: “هناك ثلاثين ألف مصاب كل شهر بسبب الحرب في سوريا، وأن الحرب خلّفت مليوناً ونصف المليون مصاب بإعاقة دائمة من أصل ثلاثة ملايين شخص أصيبوا منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من ست سنوات.” وأوضح التقرير أنّ  1.5مليون شخص يعيشون مع إعاقات مستديمة، منهم 86 ألف شخص أفضت إصابتهم إلى بتر أطرافهم، مشيرة إلى أن الصراع الدائر هناك يحتدم باستخدام أسلحة متفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، واستمرار المخاطر المرتبطة بارتفاع مستوى التلوث بالمتفجرات ارتفاعاً كبيراً في جميع أنحاء البلاد.

تبقى منزلة هذه الإحصائيات قيد المرحلة، فعدّاد استنزاف الأرواح لا زال في تصاعد، وفي وقتٍ لازلنا نشهد فيه قيامةً لم تتوقف حتى اللحظة عن ابتلاع الإنسان السوري وعلى مدار سبع سنوات كاملة. ومع الإشارة إلى أن معدلات هذه الأرقام خاضعة للتصنيف بين منطقة وأخرى، فلا يمكن المقارنة بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وتلك الخاضعة لسيطرة المعارضة حيث يعتبر تحديد إحصائية دقيقة للإصابات فيها مهمة شاقة، فآلة الحرب لا تخمد هنا. ولابد من الأخذ بعين الاعتبار بأنه كان من الممكن الوقاية من تلك الاعتلالات لو حصل هؤلاء الأشخاص على الرعاية الملائمة في الوقت المناسب، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ شح المستلزمات الطبية في هذه المناطق تجعل المسارعة إلى اتخاذ القرار الحاسم ببتر الطرف المصاب هو الطريق الأقصر للنجاة والظفر بحياة لا تشبه تلك الحياة الأولى.

سعاد (اسم مستعار)، إحدى النساء اللواتي عايشتهن في دمشق، تعمل الآن في إحدى الدوائر الحكومية وتقوم بأعمالٍ مهلكةٍ من التنظيف وإعداد القهوة والشاي، تعاني من أمراض في المفاصل والعمود الفقري. اضطرت للعمل بعد تعرّض زوجها لإصابة في نخاعه الشوكي. زوجها الآن حبيس الفراش منذ ما يقارب الخمس سنوات تعمل بحبٍ ولا تمل، فلديها ابنة وشابان  كنت اسمع أصوات ضحكاتهم عندما تخبرهم بأنها ستجلب لهم سندويش البطاطا في بداية أول كل شهر. استطاعت ابنتها دخول كلية الهندسة الزراعية وهذا ضمن الطبيعي حسب توقعاتها، أما المفاجأة بالنسبة لها كانت لدى نجاح أكبر ابنائها ليحالفه الحظ ويدخل كلية الآداب. كان خبر تخرجه لعنةً زجّت به إلى الجيش ليعود بعد مضي فترة قصيرة ويتمدد أمام والده، فلقد بتروا له قدمه نتيجة تعرضه لإصابة حادة بها.

في واحدةٍ من الحواجز المنصوبة في مركز المدينة (في منطقة الفحامة) تمتلأ العينين في كل صباح بأجسادٍ منكوبةٍ تحمل ما أمكنها من كراتين بسكويت وعلكة تتسلل عبر ممرات السيارات العمياء. عند واحدة منها رجلٌ خمسيني بيدٍ واحدة يمسح زجاجها، وعندما تمشي السيارة قليلاً بفعل الزحام يتبعها بخطوة فتتحرك إلى الأمام؛ تمسح يداه ما تسعفه من أجزاءٍ، تغلق السيارة زجاجها، تفتحه لتغلقه مرة أخرى ممعنةً في إذلاله وهو يتابع النظر إليهم مستجدياً إياهم ولكن دون جدوى.

استطاع العالم أن يقدّم هديةً للبشرية تتيح للمتضرر دمج اللحم بأطراف غريبة عن الجسد، المقصود هنا الإشارة إلى عمليات تركيب الأطراف الصناعية. فالبشرية عبر تاريخها عودتنا أن تقدم حلولاً مبتورة لكل القضايا الخاصة بالإنسان، استطاعت أن تستعيض عن إنهاء كارثة الحروب وهمجيتها بزرعٍ جديد للإنسان لكي تلزمه بذاكرة الحدث، الذي سيصبح جزءاً منه وشيئاً ملموساً طيلة حياته القادمة. وكما عبّر الفنان النمساوي راؤول هاوسمان Raoul” Hausmann” فإنّ الأطراف الصناعية الجديدة لا يمكن اعتبارها كرمزٍ للتقدم العلمي، ولكن يجب القول إنها علامة واضحة على نزع الإنسانية من البشر.  فقد أجبرت أعداد مبتوري الأطراف خلال الحرب الأهلية الأمريكية وضحايا الحرب العالمية الأولى العالم إلى ابتكار الطرف الصناعي كبديل عن الجزء المفقود، الحقيقي. (1)

وبالعودة إلى مأساتنا السورية فلا بد من الاشارة بأنّ “تكاليف تركيب طرف صناعي بدائي يتجاوز 1500 دولار، في حين يبلغ تركيب طرف صناعي ذكي ستين ألف دولار إلى جانب تكاليف العلاج الفيزيائي الطويل الأمد لكي  يتعرف الجسد على العضو الجديد. وهي أرقام مرتفعة جداً قياساً إلى عدد المحتاجين إليها وأوضاعهم المعيشية”. وبحسب رئيس رابطة الأطباء الدوليين، الدكتور “مولود يورت سَفَن”: إن نسب إصابات الساق وبتر الأذرع بسوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.”

ولهذه الأسباب كان من الضروري افتتاح مراكز للأطراف الصناعية والتي توزعت داخل سوريا في مركزين رئيسين في كل من (حمص- دمشق)،  لكن “هناك شروطاً معينة يجب توافرها هنا في المرشح لنيل الطرف،” وفي دول الجوار لبنان وتركيا والأردن. ففي تركيا افتتح مركز “خطوات الإرادة  WSO”  للأطراف الصناعية في مدينة غازي عينتاب، وبحسب القائمين عليه فإن المركز يسعى للوصول إلى جميع من أصيبوا بإعاقات من السوريين.  وحسب الدكتور “حمزة دياب” رئيس قسم العظمية ومدير المركز بأن المركز متعاقد مع شركة “أوتوبوك الألمانية ” العالمية التي تنتج الأطراف الصناعية منذ أكثر من مئة عام، ولها فروع في أكثر من 110 دول حول العالم.(2)

مكّنت الأطراف الصناعية الذين فقدوا أحد أطرافهم من متابعة حياتهم، وهذا ما يشعر به العديد من الذين خضعوا لعملية تركيبه. فهناك بعض الأعمال التي يستطيع الشخص القيام بها دون تعرضه للخطر. ففي إحدى المرات خضت حديثاً مع سائق تكسي عرّف عن نفسه بأنه عنصرٌ في الجيش تمت عملية تسريحه من قطعته نتيجة تعرضه لبتر قدمه اليسرى مستعيضاً عنها بطرف صناعي. لم أميز لحظتها وجود هذا الطرف لولا نقاشنا عن النسب التي تحدّد بها إجازة التسريح المستندة إلى إصابةٍ فادحة للشخص يخرج منها بنصف جسدٍ أو يفقد جزءاً منه.

وهذا الطرح يجعلنا أمام أرقام مضاعفة للأشخاص الذين نراهم أمامنا مجردين على حقيقتهم، غير قادرين على الأقل على إخفاء عجزهم المعنوي تجاه كل هذا الخراب النفسي بداخلهم والمادي الذي لا يخول لهم أن يبنوا جسدهم من جديد. فنحن نعيش مع أرقامٍ مرعبةٍ من هذه الحالات والتي لا يمكننا معاينتها كونها وجدت من يعينها على اقتناء طرف استطاعت به مقاومة مصاعب الحياة. فالإحساس بأنك تقوم بالقليل يعطيك الكثير من الدوافع والقوة، دون إعطاء فرصةٍ للآخرين لاستغلالك وإلزامك بأعمالٍ تفاقم من شعورك بالعجز والقهر. فهناك العشرات من الذين أصيبوا بإصابات بالغة وهم الآن عرضة للاستغلال من قبل كافة الأطراف. لكنهم يبررون استمرارهم بالقيام بهذه الأعمال بأنها وسيلة بقاء وحيدة وهي حقيقة لا مفر منها بأنها “وحيدة،” فطالما أنهم منفيون ويعيشون في شوارع بلادٍ لا تأبه بهم ولا تنظر إليهم إلا من منظورها الفقير الذي يبخسهم حقهم، لا يحق لأي منا أن يقيّم ما يقومون به من طرق تجلب لهم قوت يومهم، بلاد لا مكان حتى للعقول في جنباتها.

الفكرة الأخيرة والأهم بالنسبة للسوريين ولكل المناطق التي عششت فيها الحروب تعنونه “مخلفات الحرب غير المنفجرة والألغام”. بالنسبة للألغام يأتي دورها في نهاية الحروب، حيث بات بروتوكول الحرب يحفز الأطراف على زرعها عقب خروجها من كل منطقة، وكالعادة المدنيين هم النسبة الأكبر بين الضحايا.

فمثلاً نقلت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن إحصائيات للأمم المتحدة ومنظمات دولية، أن عدد ضحايا القنابل والأجسام غير المنفجرة من مخلفات الحروب، والتي تعرف بـ”يو إكس إوز UXOs” يتجاوز 20 ألف شخص سنويًا. حيث تصبح مخلفات الحروب أقل استقراراً مع مرور الزمن عليها بسبب التفاعلات الميكانيكية والكيميائية التي تجري عليها. بيد أن تخوفاتٍ دوليةٍ وأمميةٍ من مخلفات الحروب باتت أكثر فيما يخص سوريا وتحديداً منطقة الرقة التي سيطر عليها تنظيم داعش، “الدولة الإسلامية”، وبعد خروجه منها أنبت مساحاتها بالألغام والمواد المميتة.

هذا وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة سكان الرقة من العودة إليها بسبب مخلفات الحرب مشيرة إلى أن ما بين 50 إلى 70 شخص يموتون أسبوعياً إثر ذلك وهو بنحو العدد الذى تشهده أفغانستان في العام. وفي مؤتمر صحفي عقده مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية في سوريا “بانوس مومتريس”  الأربعاء 7 شباط 2017: صرّح أنّ البيانات تشير إلى أنّ كماً هائلاً من الألغام لم تنفجر بعد، وتابع “لم نرَ مطلقاً كمية ذخائر لم تنفجر مثلما يوجد في الرقة، كمياتٍ هائلة مزروعة في كل منزل وكل غرفةٍ وكل شبرٍ بالمدينة”.

وفي مدينة نصيبين المدينة الحدودية بين سوريا وتركيا ما يشبه واقع الرقة المأساوي، حيث يذهب الأطفال في أوقات حظر التجول إلى المنطقة المهدمة كي يجمعوا قطع الخردة ثم يقومون ببيعها. وفي أحد الأيام استطاع بعض الأطفال العثور على قطعٍ بيضوية الشكل، صفراء اللون، من بقايا الاشتباكات التي جرت في هذه المنطقة. لم يعلموا أنّ هذه القطع ما هي إلا قنابل لم تنفجر عند إلقائها. كان هؤلاء الأطفال يمسكون بها، ويقلبونها بين أيديهم، ثم يلقون بها بعيدًا عندما يدركون أنها ليست مصنوعة من الحديد. لم يدركوا في هذه المرة أن هذه القطع ستخلف هذا القدر من الانفجار الضخم بمجرد ملامستها الأرض. رأوا أمام أعينهم الأطفال الآخرين وقد مزقتهم هذه القنبلة إرباً إربّاً. هناك العشرات بل المئات من النماذج المشابهة التي استمرت طيلة الأعوام الخمسة عشر الأخيرة حيث مات من مات جراء ما يشبه هذه الانفجارات.

الغالبية العظمى في المناطق الريفية ممن يسوقون الحيوانات للرعي في تلك الأماكن، ولم يكن أحدٌ يعلم بأمر وفاتهم في تلك الأثناء. لقد أُضيفت مشكلة الألغام ومخلفات الصدامات والحروب إلى مشكلة حظر التجوال المفروضة منذ العام 2015 حيث يتضمن اتفاق حقوق الإنسان الذي وَقَّعَتْ عليه تركيا بنودًا واضحة لا غموض فيها بهذا الشأن والتي بمقتضاها: تلتزم الأطراف المتنازعة بإزالة مخلفات الحرب أو الصدامات المسلحة التي تركتها. وينص الاتفاق كذلك على المسؤوليات الخاصة بالألغام بشكلٍ لا لبس فيه. نعلم أن تركيا وَقَّعَتْ في عام 2003 على اتفاقية أوتاوا وتعهدت بمقتضاها بإزالة الألغام حتى عام 2014 وأنها ستتخذ كل ما يلزم تجاه ضحايا مخلفات هذه الصدامات، وعلى الرغم من هذا لم تتخذ تركيا أية خطوات جدية باستثناء بعض المحاولات الضعيفة، من أجل إزالة الألغام الموجودة على الحدود مع سوريا.

وبحسب منظمة (الهانديكاب) التي تعنى بشؤون ذوي الاعاقة والتوعية بمخاطر الألغام ومخلفات الحروب، فقد لقي أكثر من (350) شخصاً، أكثر من ثلثهم من الأطفال، مصرعهم جراء استخدام القنابل العنقودية المحرمة دولياً في الحربين الدائرتين في كل من سوريا واليمن خلال 2015 ونهاية 2016. وشكل المدنيون 97% من ضحايا هذه القنابل 36% منهم أطفال وحسب التقرير عدد الضحايا الأكبر كان في سوريا.

ختاماً،  لابدّ من التنويه بأنّ الأشخاص ممن يعانون من فقدان أطرافهم أو من أشكالٍ أخرى من الإصابات لهم ميثاق خاص في الأمم المتحدة يتألف من 50 مادة، لكن يبدو بأنّ مناطقنا لم تكن يوماً مشمولة به.

بالنسبة للسوريين لا يزال الحديث مبكراً عن  الدخول في دهاليز الاتفاقيات والمواثيق الدولية، فنحن لا زلنا نتنفس الحرب ونعيش تأثير أسلحتها الحيّة التي لازالت مستيقظة. جلّ أمنياتنا الحالية أن تُعقر أرحام هذه الآلات عن ولادة الملايين من الكتل المميتة أو المخلفة للعطب عندها يحق لنا الدخول والتوقيع على الاتفاقيات الخاصة بنزع الألغام وتفكيك القنابل غير المتفجرة. المكان الآن تحكمه الترسانات المتنوعة الجنسيات التي لازالت تحصد وتعطب ملايين الأرواح التي بات مشهد نهايتها بمختلف الطرق يمرق كلسعة نحلة تحقن أجساد العالم.

الهوامش:

1- وفيما يخص مسيرة تركيب الطرف الصناعي عبر التاريخ هناك كتيب أعده الكاتب Douglas C.” McMurtrie” معنون بـ ”  Reconstructing the Crippled Soldier” والذي كتبه سنة 1918 وكان متفائلاً بعملية الزرع وعبر عن ذلك بقوله ” لا يوجد المزيد من المقعدين”.

2- تأسست جمعية “خطوات الإرادة” في غازي عينتاب ضمن بنية جمعية إعانة المرضى الدولية، وتعرف الجمعية نفسها بأنها خيرية تسعى للوصول إلى جميع من فقدوا أحد أطرافهم من الشعب السوري لتقدم لهم خدمة تركيب طرف صناعي عالي الجودة ومتابعتهم نفسياً وفيزيائياً حتى عودتهم إلى حياتهم دون أي عوائق. 
يتم قبول الطلبات عبر الانترنيت على الرابط التالي.

يوميات سورية: الضربة المحتملة، ماذا نحن فاعلون؟

يوميات سورية: الضربة المحتملة، ماذا نحن فاعلون؟

على شاشة شام FM  السورية الرسمية أغاني فيروز الصباحية اللطيفة وأخبار تكريم الممثلة الكوميدية شكران مرتجى من قبل منظمة اليونسكو، لا مارشات عسكرية ولا محللون سياسيون، وبعد قليل سيأتي موعد فقرة الأبراج والتوقعات والشريط الدعائي في أسفل الشاشة يتنقل بخفة ما بين تحيات وتعازي للشهداء وذويهم وما بين نشاطات إعلانية لعيادات ومراكز لشفط الدهون وتلميع الأسنان  والدورات التعليمية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية ومشاهد طبيعية خلابة من مناطق سورية الجميلة.

هي الحرب في وجهها الآخر حيث يستنفر العالم على شاشات الفضائيات راصداً تحرك القطع العسكرية للأسطول الأمريكي براً وبحراً، محللون سياسيون وعسكريون بوجوهٍ هزليةٍ وكلماتٍ رخوةٍ وضحكاتٍ لا مبرر لوجودها تستثير حنقنا وسخريتنا المرة، محللون يرطنون بعربية ثقيلة يتباهون بخبرتهم القتالية وبأرقامهم المتحصلة من عدد الضحايا والقوة التدميرية للأسلحة  الفتاكة. أحد المحللين العسكريين اللبنانيين على شاشة العربية الحدث وفي مسار استعراضه لاحتمالية أن يلحق ببلده لبنان بعض الأذى أو أن تتضرر بعض المواقع محددة الأهداف يسمح لنفسه بالقول “أتمنى من كل قلبي ألا يحصل للبنان أي واقع عسكري جديد يتسبب بخسائر للبنان ،” ويؤكد بعبارة “لا سمح الله.” وكأنه من بداهة العيش أن تعاني سورية خطراً جديداً، وكأنه بات من طبيعة الأشياء اليومية الاعتداء على سورية ولكن بوجهٍ مختلف، بعنوانٍ مختلف لكنه مقبول! هنا تبدو بداهة المقتلة السورية مفزعة وخانقة ومرفوضة حتى النخاع. الأهم هو قلق الأمم المتحدة المستمر عبر تصريحات السيد غوتيريس الأمين العام للمنظمة الأممية والذي يناشد مجلس الأمن بألا يكون الاعتداء هذه المرة مدمراً للشعب السوري. قلقٌ بات علامةً تجاريةً حصرية ًللترويج وتسويق المواقف الرخوة والمتأرجحة ما بين شجبٍ وتوقعٍ واستنكارٍ.

***

على الجهة الأخرى، الجهة المقابلة تماماً للمنظمات الدولية ومراكز التحليل السياسي ودعاة تصعيد الحرب واستمرارها تحت ذرائع متنوعة، يشهر السوريون سكان العراء والحدائق والبيوت التي مازالت على الهيكل ملابسهم الرطبة وأغطيتهم الصوفية التي غمرها مطر سريع لكنه سخي بالأمس ،علّها تجف سريعاً فيلتجئون إليها لبث الدفء واستجلاب بضعة أحلام بأن تكون الضربة مجرد هراء، أو أن تكون بعيدة جداً في الصحراء كي لا ينوب طمأنينتهم الراسخة أي طارئ مقلق. فيتورطون في دورٍ أكبر منهم بكثير وليس من اختصاصهم أبداً.

على بوابة أحد الأفران ازدحامٌ كبيرٌ، حيث يعود رغيف الخبز دوماً للمربع الأول في أهميته، ربطة الخبز تعني أماناً خاصاً، تتوفر بغزارة في زوايا الثلاجات والغرف وفي علب بلاستيكية قاسية كي لا تصل إليها الفئران الجائعة والمعتدية، هو الرغيف عامل الأمان الأول ومصدر كل القوة، في الحضن موجود ومستقر وأنت جالس في بيتك وعلى الأقدام موجود وأنت تحمله بسعادة جالسا في الحافلة المهترئة، يكاد أن يكون شعار المرحلة والتميمة الحافظة من الحسد والعيون الطامعة .

تقول فريال “لن أنتظر، ربما ستكون الضربة فرصةً لننهي المونة المتبقية في الثلاجة، سأذهب للف ورق العنب. سألف كيلو رز كامل وطبعا دون لحمة مجرد نكهة الماجي وبهارات. سأقول لأولادي غداً كُلوا بدون خبز وعمره ما حدا يرث. ميتين ميتين.” و بالفعل تخلت فريال عن دورها وذهبت دون أن تنتظر الخبز.

***

على شاشة الفيس بوك الزرقاء تكتب سيدة ساخرة “اليوم جابوا المي قبل موعدها بخمس ساعات، ربما كي نغتسل ونموت بكامل نظافتنا.” وتكتب سيدة أخرى التالي أنّ ترامب ألغى زيارة رسمية له لبلد آخر وتتساءل “لماذا؟ بإمكانك متابعة الضربة من أي مكان”. وآخر يكتب ساخراً: “يا ترامب ويا جبان ويا عميل الأمريكان.” السخرية المرة تبدو وسيلةً للتخفيف من وطأة المجهول، فبعد انتشار الأخبار أنّ فرنسا تنوي المشاركة في الضربة، انتشرت نكتة مفادها أنّ فرنسا تنوي قصف حارة الضبع من مسلسل باب الحارة لكترة ما قتلوا من الجنود الفرنسيين.

في الشوارع اليوم حيوية بشرية فائقة، أمٌ تقول لابنها “شايف الطقس شو حلو؟” يضحكان بلهفة المشتاق للاسترخاء. لكنّ سيدةً تتدخل وتقول لها “وهذا الأخوت ترامب سيجعل الطقس خانقاً سنرى جهنم بشكل شخصي”. تتدخل ثالثة وبيقينية  شبه مطلقة تقول: “لهذا خرجنا من بيوتنا اليوم لأن أمريكا تضرب في الليل وحينها سنكون في بيوتنا نياماً وإن متنا سنموت بكرامةٍ في بيوتنا وبين ناسنا وليس هنا في الشارع حيث يرعبنا بوق سيارة الإسعاف.”

***

تبدو مخاوف السوريين المتبقين في الداخل بلا أدنى قيمة، فلا أحد يكترث بهم وبمخاوفهم وبينما تتفاوت درجات الخوف ما بين غنيٍ يتابع أخبار الدولار وقيمته التصاعدية ويتردد في الاقتناء أم التصريف! أو في من غادر إلى بيروت أو حضّر جوازات السفر وترتيبات المغادرة مستفيداً من إقامته أو جنسيته الأجنبية غير المعلنة ومن حسابه المصرفي في الخارج، وآخرون عادوا إلى قراهم وخاصة الزوجات والأبناء تلمساً لأمانٍ خاصٍ، أمانٍ مرتبطٍ بالحاضنة الطبيعية وبالانتقال الفوري من مكانٍ مشكوكٍ بإمكانية تعرضه للخطر وما بين مكانٍ هو في الوجدان وفي الهوية ما قبل الوطنية والمواطنية  مساحة أمان متحقق فعلاً بفعل عامل البيئة الخاصة أولاً وتوفر مقومات الحماية الذاتية ثانياً.

سمعت البعض يُعبّر عن ندمه على عدم مغادرة البلاد يوم غادر كثيرون، لكنّ السفر ليس متاحاً للجميع والبعض لايملك شيئاً لبيعه أصلاً.  ثمة تخوف ممزوج بالسخرية، حيث أنّ الحرب الطويلة فرضت على السوريين العيش في أماكن لاتشبه البيوت: جحور، غرف تحت الدرج، ومداخل الأبنية، كلها تبدلاتٌ أطاحت بمفهوم الحماية العامة كحضورٍ مادي او معنوي. لم يُفكر أحد بالملاجئ من أصله لأن الحماية الواجبة باتت نكتة سمجة بحكم التخلي العام والمتعدد الواسع والممعن في قسوته.

أجل هنا يظهر الفرق الشاسع ما بين خوف الفقراء وخوف الأغنياء والمسؤولين المهمين أو أصحاب النفوذ والمال، تبدو الحرب في حسابات الفقراء مجرّد تغير في شكل الميتة وتفاصيلها ليس إلا، بينما تبدو للمتنفذين وتجار الحروب فرصة للاغتناء أو لخسارات مؤقتة يجب تعويضها وبسرعة ومهما كانت الأساليب والمبررات.

على المقلب الآخر ثمة وجود واضح  للمهللين والداعين للإسراع بتوجيه الضربة وجعلها قوية ونافذة  وكأنهم مقتنعون بأنها ستكون خشبة الخلاص لسورية وشعبها! لكلٍ تبريراته ورؤيته التي لا يمكن الركون إليها ولا اعتبارها صورة للرأي العام، أمريكا في وجدان العديد من السوريين عدوة دائمة ومزمنة لذلك تظهر علامات التهديد والوعيد عند البعض الذي يخوّن كل مرحب محتمل بالضربة الأمريكية والتي قد تكون مشتركة من قبل دول أخرى، دعوات مثل “على كل مرحب  بالضربة الأمريكية مغادرة صفحتي فوراً”، وكأنّ الفيس بوك بات هو مساحة العمل الوطني الأبرز!

بياناتٌ قليلة صدرت ترفض الضربة المحتملة وتصفها بالعدوان، لا أحد يستنهض الروح القوية للشعب في مواجهة الغزاة، مجرد بيانات تطهرية توضح موقفاً شبه غائم وشبه مائع لأنه كلامٌ بلا فعلٍ أو استعدادتٌ ميدانية حقيقية لمثقفين تخندقوا بتشكيلاتٍ غير سياسية وغير حزبية لها ماهية توضيح الصورة أو وضع النقاط على الحروف حسب ما يقولون، أي تلميع الكلام والمواقف وحسب. ثمة تحذيرات خفية وتوجس من الترحيب العلني في مساحات الحضور العامة خوفاً من تدابير أمنية حيال أصحابها، انشقاقاتٌ ضمن الأسر ذاتها وخاصة بين من بقي في سورية لأن القبول والتصريح هو خط أحمر وما بين من صاروا خارج سورية وتتوفر لهم حرية الإعلان والتعبير بصورة مطلقة. لكن السمة العامة تكاد أن تكون هي المماطلة، خفة المواقف شبه الساخرة وشبه المتيقنة من كلامها بلا معنى وبلا أدنى قيمة، بداهة الدور الملغي أو المؤجل أو المغيب لعامة  الأفراد مما خلّف استنكافاً طوعياً تحول إلى سلوك مزمن اكتسب صفة الطبيعي والمعمم.

في الحروب الطويلة ومتعددة الأوجه وفي ظل غياب التشاركية وفقدان أولويات الحماية والعيش الكريم تكون السمة العامة للحالة الوطنية هي إصابتها برضٍ قاس ومشوش. أجل باتت الوطنية مهزوزة ومشوشة ومؤجلة إلى وقت ترحيل كل المشاكل الوضعية اليومية وإعادة الاعتبار للكائن كمواطن أو شريك في الوطن. يقول الفقراء وبماذا ستؤثر مواقفنا الرافضة والشاجبة؟  ويتساءلون عن حقيقة وجودهم وجدواه أصلا ويقولون “أكلينها أكلينها هي موتة وبالله المستعان!”

الأكثر ألماً أننا لا نملك حق الرفض، وإن ملكناه فهو مجرد ابتهالات لا تنجي من غرقٍ بمستنقعٍ جديدٍ وموتٍ أكثر.

كوني بخير سورية! كوني بخير! وليكن كل الفقراء بخير.

السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

دمشق

في ساعات الصباح الأولى، كان العشرات متجمهرين أمام إحدى الجمعيات الخيرية في مناطق سيطرة الحكومة بريف العاصمة دمشق، ينتظرون على أحر من الجمر تسلم «السلة الغذائيّة» (الإعانة). لكن نبأ إطالة فترة تسليمها لشهر إضافي وقع كالصاعقة على الكثير منهم، لأن ذلك سيزيد من طين معاناتهم المعيشية “بلة” في ظل الفقر المدقع الذي باتت أغلب الأسر تعاني منه بسبب الحرب المستمرة في البلاد. ردود فعل المتجمعين على ما أفادهم به أحد موظفي الجمعية، بأن تسليم “السلة الغذائية” بات مرة واحدة كل ثلاثة أشهر بسبب العجز المالي لدى “برنامج الغذاء العالمي”، تنوعت وعسكت مدى التأثيرات السلبية التي ستترتب على كل عائلة من جراء ذلك القرار.

عوز ولطم

امراة بدت في العقد الخامس من العمر وترتدي ثوباً رثاً وحذاء ممزقاً، وبينما لم يكد الموظف إنهاء كلامه، لطمت بكفيها على خديها، وصاحت بصوت عال  مع محاولات لحبس دموعها: “منين بدنا نوكل (نأكل)”، على حين بادرت أخرى تقف إلى جانبها للتخفيف عنها، وأوضحت أنها “نازحة من جنوب البلاد ولديها خمسة أطفال ولا معيل لهم بعد أن قضى زوجها خلال الحرب.”

أكثر تماسكا، كان عجوز يجلس على الرصيف بمحاذاة باب الجميعة بسبب عدم قدرته على الوقوف واكتفى بالتعليق على الأمر بترديد عبارة: “حسبي الله ونعم الوكيل… إلنا الله” لعدة مرات.

ومنذ بدء الحرب في البلاد قبل نحو سبع سنوات شهدت أسعار المواد الغذائية والخضروات ومختلف الحاجات المنزلية في عموم البلاد، ارتفاعاً تدريجيا ، ووصلت الى حد غير مسبوق، بسبب انخفاض مستوى سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية (الدولار الأميركي يساوي حاليا نحو ٤٥٠ ليرة)، وتضاعفت غالبية الأسعار عشر مرات عما كانت عليه قبل الحرب عندما كان سعر صرف الدولار لا يتجاوز ٥٠ ليرة.

وانعكس ذلك سلباً على الحالة المعيشية للمواطنين، مع بقاء سقف المعاشات الشهرية للموظفين على ما هو عليه، فالموظف الذي كان مرتبه ٣٠ ألف ليرة قبل الأزمة، أي ما يعادل ٦٠٠ دولار، أصبح مرتبه اليوم يساوي أقل من ٧٥ دولاراً، على حين يقدر اقتصاديون حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أفراد حاليا إلى 800 دولار شهريا لتستطيع مواصلة حياتها بشكل وسطي.

وكشفت دراسة أعدها في مايو (أيار) ٢٠١٦ “مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات”، وهو مركز موال للحكومة، أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى ٨٧.٤ في المئة، وفقا لمعيار البنك الدولي.

ووفق مكتب التنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشوا)، في سورية ٧.٥ مليون شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، إضافة الى أكثر من خمسة ملايين لاجئ خارج البلاد.

من جانبه، أكد “برنامج الغذاء العالمي” مؤخرا، أن ١٣.١ مليون سوري في حاجة للمساعدات الإنسانية، وأن  ٦.٥ مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي وتوقع ارتفاع هذا الرقم مع استمرار الصراع لـ١٠ ملايين شخص وهو تقريباً ضعف عدد الأشخاص المحتاجين للغذاء في العام الماضي.

ومع تردي الوضع المعيشي للسوريين، أطلقت جمعيات خيرية في السنة الثانية للحرب مشروعاً لتوزيع “سلل غذائية”، وغالباً يكون مصدر تلك السلل”برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة، والمنظمة الدولية للصليب الأحمر، وجمعيات خيرية. كما تقوم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة أيضاً للأمم المتحدة، بتوزيع سلل غذائية على اللاجئين الفلسطينيين.

وبعد أن كان يتم توزيع السلال الغذائية مرة واحدة كل شهرين على كل عائلة،  بات توزيعها منذ مطلع العام الجاري مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.

وتحتوي السلة الواحدة على مواد أساسية قابلة للتخزين ولا تحتاج إلى التبريد لضمان إمكان حفظها لأطول فترة ممكنة. وفي كل سلة، فول (٦ – ١٢ علبة) وعدس حب (٣ – ٥ كلغ) وبرغل (٢ – ٤ كلغ) وأرز (١٠ كلغ) ومعكرونة (١ – ٥ كلغ) وزيت نباتي (٥ – ٦ ليتر) وسكر (٢ – ٥ كلغ) وملح (١ كلغ) وحمص حب (٢ – ٤ كلغ) وطحين ( ٥/٧ كلغ). كما يتم أحياناً، توزيع أدوات مطبخ ومنظفات وفرش وأغطية إضافة الى السلة الغذائية.

مصدر رئيسي للعيش

في ظل تراجع الوضع المعيشي  بشكل عام، باتت أغلب الأسر السورية في داخل البلاد وخصوصا النازحة تعتمد بشكل رئيس على محتويات السلة الغذائية، التي “تكاد لا تكفي لسد رمق أفردها”، بحسب ما يقول أب لأربعة أطفال، ويوضح أن مرتبه يكفي فقط لدفع بدل إيجار الشقة الشهري وثمن الخبر، ويعتبر أن إطالة فترة تسليم هذه السلة سيتسبب بمشكلة له في كيفية “تأمين معيشة” أفراد عائلته و”لو على الكفاف” في الشهر الإضافي.

وأعلنت الأمم المتحدة في ابريل (نيسان) الجاري، أنه وبحلول يناير (كانون الثاني) الماضي، بلغ عدد من يتلقون مساعدات “برنامج الأغذية العالمي” ثلاثة ملايين سوري، بعد أن كان أربعة ملايين في أغسطس (أب) الماضي، وذلك بسبب نقص التمويل، من دون أن توضح إن كان هذا الرقم يشمل اللاجئين السوريين في دول الجوار أم لا.

وبحسب المنظمة يحتاج البرنامج إلى ١٥٩ مليون دولار للحفاظ على تشغيل عملياته، حتى بنسب منخفضة، إلى شهر يوليه (تموز) المقبل.

محسوبيات

تشترط الحكومة السورية على المنظمات الدولية، أن تتم عملية الإغاثة بالتنسيق معها، وتمنع أي منظمة دولية تُعنى بالإغاثة من العمل على الأراضي السورية من دون موافقتها. كما تحصر عملية تمويل المساعدات وتسليمها في جمعيات خيرية سورية مرخصة بقائمة أشرفت على وضعها وزارة الخارجية. كما تشترط أن تتم عملية توزيع المساعدات من المنظمات الدولية بالتنسيق معها، عبر “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري.”

ويتم تسجيل أسماء العائلات المحتاجة لدى مخاتير الأحياء أو مراكز التوزيع، التي غالباً ما تقوم عليها شخصيات من الأحياء ذاتها بموجب البطاقات العائلية.

وبحسب النشرات المرفقة مع “السلة الغذائية” والإعلانات الملصقة في مراكز التوزيع، فإن من يحق لهم التسجيل للحصول على “السلة الغذائية” هم العائلات النازحة، والعائلات الفقيرة جدا، والعائلات التي فقدت المعيل على أن تقدم تلك العائلات أوراق تثبت ذلك.

وتقول ربة منزل، وهي أم لثلاث فتيات، ونزحت من منزلها في ريف دمشق إلى إحدى ضواحي دمشق الآمنة: أنه “رغم أن شروط الاستحقاق تنطبق على عائلتي، فإنني لم أتمكن من التسجيل، إلا بشق النفس، بسبب المماطلة وحجج القائمين على مراكز التوزي”، في حين يؤكد أب لطفلين وعاطل عن العمل بسبب قلة فرص العمل في البلاد، أنه “لم يتمكن حتى الآن من التسجيل بسبب المحسوبيات المتبعة من المسؤولين” في المراكز ويضيف: “العملية إذلال بإذلال.”

مكافأة للموالين

والمفارقة بحسب تأكيد العديد من الأهالي، أن من يأخذون “المعونة” معظهم من أهالي الأحياء الأصليين على رغم أنهم يسكنون في بيوتهم، كما يحصل في أحياء  معينة في العاصمة.

كما تشاهد سيارات فارهة أمام مراكز التوزيع يترجل منها أصحابها ويستلمون سلالاً غذائية من دون أدنى وجل أو حياء، لا بل تبدو عليهم ملامح الابتهاج بعد عملية الاستلام، على حين يمنع النظام المواد الإغاثية في شكل كامل أو جزئي عن مناطق سيطرة المعارضة.

ووفق الكثير من الأهالي، فإن مرد ذلك إلى عمليات تلاعب تحصل في عمليات التسجيل، والتي غالبا  ما تجري بالتواطؤ مع المخاتير والقائمين على مراكز التوزيع، عبر تقديم الكثير من الأسر أوراقاً تثبت أن لها بيتاً في إحدى المناطق المتوتّرة وبيتاً آخر في الحي الآمن الذي تعيش فيه.

ويلاحظ أن كثيراً ممن يقفون أمام المراكز للاستلام هم من عناصر جيش النظام والأمن ومليشيا “قوات الدفاع الوطني” الموالية له رغم أنهم قاطنون في بيوتهم، وغالبا ما يعمد هؤلاء إلى عدم الوقوف على الدور لاستلام “السلة الغذائية” بل يتجاوزونه، وعلى رغم ذلك يلقون كل الترحيب من القائمين على عملية التوزيع، بينما عندما يأتي دور شخص محتاج ملتزم بدوره يتأففون ويمنون عليه وكأنهم يعطونه من مالهم الخاص.

 تجارة وإقرار

وبينما تشهد مراكز التوزيع خلال أيام العمل، تجمهر العديد من التجار لشراء “السلة الغذائية” أو جزء مما تحتويه ممن يرغب، باتت شوارع الأحياء الرئيسية في العاصمة تشهد الكثير من البسطات التي تتضمن محتويات السلة الغذائية لبيعها.

وبينما يقوم الكثير من المستلمين ببيعها فورا للتجار في مؤشر على أنهم غير محتاجين، يعمد بعض المحتاجين إلى بيع جزء منها لا يرغبون به، ويشترون بثمنه مواد يرغبون بها، بينما تقوم بعض الأسر الفقيرة النازحة ممن يعمل أرباب أسرها ببيعها كاملة لتأمين بدل إيجار المنازل.    

وغالباً ما تباع محتويات السلة الغذائية بأسعار أقل مما هي عليه المادة في الأسواق والمحلات التجارية. وبينما يباع سعر الليتر من الزيت النباتي الموجود ضمن السلة على بسطات الرصيف بـ٦٥٠ ليرة سورية، يباع في المحلات بـ٨٠٠ على رغم أن الاثنين من النوعية ذاتها.

وفيما يباع كيلوغرام البرغل الموجود في السلة على البسطات بمئة ليرة، يباع النوع ذاته في الأسواق بـ ٢٠٠ ليرة. ويصل سعر مجمل ما تحتويه السلة الغذائية الى ما بين ١٢ الى ١٥ آلاف ليرة سورية.

وبات الغالبية العظمى من سكان مناطق سيطرة الحكومة بدمشق يقرون باستلامهم سللاً غذائية ومواد تنظيف وأدوات مطبخ وفرشات وبطانيات، ويبررون ذلك بأن “الغالبية العظمى من السوريين باتت في حاجة إلى المساعدات في ظل الارتفاع الكبير للأسعار لعموم المواد الغذائية والخضار والفاكهة والأدوات المنزلية.”

مدينة دوما، بين الحرب والسلام

مدينة دوما، بين الحرب والسلام

(اعتمد هذا المقال على العديد من المصادر القريبة من مجريات الأحداث الأخيرة في مدينة دوما)

انتهت أزمة المدنيين في مدينة دوما، وتوصّل طرفا القتال إلى اتفاقٍ يقضي بخروج عناصر جيش الإسلام إلى مدينة جرابلس، الخاضعة لسيطرة قوات درع الفرات، وبقاء من يرغب من المدنيين تحت شروط مشابهة لأقرانهم في مدينة حرستا والقطاع الأوسط في الغوطة الشرقية، حيث تشمل الاتفاقية تسوية أوضاع الراغبين في البقاء من خلال لجنة تسوية مع ضمان عدم الملاحقة، ويُمنَح الفارّون والمتخلفون عن خدمة العلم مدة ستة أشهر قبل سوقهم والتحاقهم. وبالنسبة لطلاب الجامعات والمدارس، يستطيعون الالتحاق بأماكن دراستهم وكلياتهم بعد تسوية وضعهم الدراسي أصولاً، وأيضاً ستدخل الشرطة العسكرية الروسية (كتيبة شيشانية) كضامنٍ لعدم دخول قوات الجيش السوري وقوات الأمن الرديفة، وتدخل لجنة من محافظة ريف دمشق لتسوية جميع القضايا المدنية بالتعاون مع لجنة مدنية محلية من مدينة دوما، ويُفتح المعبر أمام الحركة التجارية بمجرد دخول الشرطة العسكرية الروسية.

تُظهِر الشروط المتعلقة بالمدنيين بأنها شروط عادية لا تختلف كثيراً عن أي من شروط تسوية المناطق الأخرى، وبالتالي كان بالإمكان الحصول عليها دون دفع فاتورة كل هذا الدم، وخاصة إبان التصعيد الأخير في السادس من نيسان حين حصل انتكاس في المفاوضات أدى إلى تصعيدٍ عسكري شديد من طرف النظام السوري وحليفه الروسي، راح ضحيته أكثر من ١٩٠ مدنياً في مدينة دوما، مع شبهةٍ واضحة لاستخدام مادة كيميائية محرمة دولياً خلال القصف.

 في الرابع من نيسان، وبعد مفاوضاتٍ مكثفة، قدّم الكولونيل الروسي ألكسندر زورين ورقةً لمدير المكتب السياسي في جيش الإسلام ”ياسر دلوان“، تم تسريبها للإعلام لاحقاً، كان أبرز بنودها تسليم سلاح ”جيش الإسلام“ الثقيل خلال ثلاثة أيام، والسلاح الخفيف خلال أسبوع، ثم بعد تسوية أوضاع عناصر جيش الإسلام يتم تشكيل شرطة مدنية في المدينة تتبع لوزارة الداخلية، وكتيبة ”جيش الإسلام“ يكون تسليحها من الجيش الروسي، ومهامها محصورة في محاربة تنظيم ”داعش“ وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وتأتي لجنة من محافظة ريف دمشق لحل جميع مشاكل المدينة، ويكون الضامن لذلك دولة روسيا الاتحادية.

يبدو أن قيادة جيش الإسلام أساءت تقدير موقف المفاوِض الروسي، وظنّت بأنها تملك أوراق تفاوضية تُمكّنها من طلب المزيد، خاصة وأنه خلال جلسات التفاوض، أرسل مكتب اللواء علي مملوك (الأمن الوطني) رسائل عدة إلى قادة جيش الإسلام، في محاولة للتواصل وبحث اتفاقٍ ما بمعزل عن الجانب الروسي، فكان أن دخل نائب قائد جيش الإسلام (أبو قصي الديراني) على خط التفاوض، واجتمع مع الكولونيل زورين في مكتبه عند مدخل معبر الوافدين في الخامس من نيسان، واقترح عليه تسويةً جديدةً، تحمل في طياتها ”تشكيل لجنة مشتركة من الشرطة العسكرية الروسية وجيش الإسلام مهمتها جرد السلاح الثقيل وتثبيت أماكن تواجده والقائمين عليه، على أن يبقى في مكانه“ وأن ”يرتبط تسليم السلاح النهائي وبشكل كامل بالحل السياسي الشامل في كل سوريا“ بالإضافة إلى تشكيل شرطة مدنية من عناصر الشرطة المدنية الموجودة حالياً، على أن تتبع لوزارة الداخلية بالرواتب والقوانين، واعتماد محاكم دوما بعد أن تتبع لوزارة العدل، والمصادقة على العمليات المدنية التي تمت خلال الفترة السابقة بما يتوافق مع قوانين الدولة، وفتح المعبر بشكل حر وآمن للأشخاص والبضائع، وأيضاً ”ضمان حق جيش الإسلام في العمل السياسي المعارض، وحرية حركة سياسييه داخل وخارج سوريا“، وذلك بوجود ضمانات دولية لمنع دخول قوات النظام والأمن إلى داخل المدينة.

يبدو أن طرح ”جيش الإسلام“ الجديد أزعج الجانب الروسي، ودخول نائب قائد جيش الإسلام وكلامه المتعالي، أعطى إشارة إلى المفاوِض الروسي بأن انقلاباً ما قد حدث داخل جيش الإسلام، حتى أن وكالات الأنباء الروسية والسورية والإيرانية في صباح السادس من نيسان نقلت تأكيداً لعملية الانقلاب، وتلميحاً حول اغتيالٍ حدث لقائد جيش الإسلام ”عصام البويضاني“ في عملية الانقلاب المزعوم، وأتبع ذلك اتهامات غير صحيحة بأنّ جيش الإسلام قام بقصف ضاحية الأسد (ضاحية حرستا)، وفي حوالي الساعة الرابعة عصراً بدأ الطيران الحربي السوري بقصف مدينة دوما دون سابق إنذار، موقعاً في الربع الساعة الأولى أكثر من ٣٠ ضحية من المدنيين (يبلغ تعداد من بقي في دوما حوالي مائة ألف) الذين فاجأهم القصف بعد عشرة أيام من الهدوء. استمر الأمر بشكلٍ تصاعدي ٍمع استخدام ٍلراجمات الصواريخ والبراميل المتفجرة، أدّى إلى وقوع العشرات من الضحايا بين صفوف المدنيين. استمر القصف بدون توقف حتى اليوم التالي، في محاولة للضغط على قادة جيش الإسلام لأجل العودة إلى بنود المقترح الروسي، وكان الكولونيل زورين قد أرسل لهم عدة رسائل يحثهم فيها على العودة إلى الورقة التي قدمها سابقاً ”خطتكم تقود إلى الحرب، لأن الأسلحة تبقى لدى الجميع، خطتي تقود إلى السلام، عليكم ان تخبروني قراركم حول خطتي بسرعة، أنتظر ردكم حتى الثامنة مساءً. خطتكم في الأساس غير مقبولة، بدون نزع السلاح لن يكون هناك سلام، انتظر اليوم حتى الثامنة مساءً، بعدها أوقف التفاوض“

لم يكن هناك رد من جيش الإسلام، رغم الضغوطات التي مُورِست عليه، وفي مساء يوم السبت، ذكر مشفى ريف دمشق التخصصي، في بيان له “في تمام الساعة ٧،٤٥ دقيقة من مساء السبت، ومع القصف المستمر على الأحياء السكنية في مدينة دوما، وردت العديد من الحالات تصل إلى ٥٠٠ حالة إلى النقاط الطبّية، أغلبهم من النساء والأطفال، بأعراض زلّة تنفسية وزرقة مركزية، وخروج زبَد من الفم، وانبعاث رائحة واخزة تشبه رائحة الكلور، لوحظ لديهم حروق قرنيّة بالفحص السريري، خراخر قصبية خشنة ووزيز،“ وأكد على أنّ “المعطيات السابقة تشير إلى حالات اختناق بغاز سام.“ بعدها بعدة ساعات، اتصل قائد جيش الإسلام بالكولونيل زورين وأبلغه استعدادهم للتراجع عن مطالبهم الأخيرة، مع تسليم السلاح الثقيل فوراً، وطلب أن يكون هناك اجتماع في صباح اليوم التالي لترتيب الاتفاق وتوقيعه. على الرغم من ذلك، لم يتوقف القصف طوال الليل، وإن أصبح بوتيرة أقل، وكذلك الحال في صباح اليوم التالي، مع أن جميع رسائل جيش الإسلام كانت تؤكد بأنه يتجاوب تماماً مع شروط الجانب الروسي، ولن يغامر مرة أخرى، لكن كان واضحاً بأن المفاوِض الروسي كان يريد أن يُلقّن ”جيش الإسلام“ درساً لن ينساه، وهو الذي قال لمفاوضيهم مرةً “أنا أُمثّل دولة روسيا الاتحادية، التي أطلقت محطة فضاء منذ ٤٠ عاماً، كما أنني أستطيع أن أتحكم بعشرات الأقمار الصناعية من هنا، أنتم من تُمثّلون؟“ وبالتالي استمر القصف على المدينة دون توقف، مع تراخي واضح من الطرف الروسي لعقد الاجتماع المقرر مع مدير المكتب السياسي لجيش الإسلام حتى تمام الساعة الواحدة ظهراً، وذلك على الرغم من إلحاح جيش الإسلام لعقد هذا الاجتماع بغية وقف القصف، وترتيب اتفاق يُرضي الجانب الروسي.

أخيراً، وبعد إلحاح شديد توقف القصف، وانتهى الاجتماع بتوقيع الطرفين على اتفاقية تقضي بتسليم السلاح الثقيل فوراً، وخروج من يرغب من المقاتلين نحو جبل الزاوية في محافظة إدلب، حيث لواء صقور الشام بقيادة أبو عيسى الشيخ، الحليف السابق لجيش الإسلام، وخروج من يرغب من المدنيين نحو مدينة جرابلس.

ولكن خلال أقل من ساعتين تغيرت وجهة مقاتلي جيش الإسلام فجأة نحو مدينة جرابلس بدلاً عن جبل الزاوية، وكما يبدو بأن الحكومة التركية لم ترغب في أن تتغير تركيبة توازن الفصائل في محافظة إدلب، بعد وصول أكثر من ٤٠٠٠ مقاتل من جيش الإسلام إلى هناك، وخاصةً بأنه معروف بعدائه الشديد لهيئة تحرير الشام، وبالتالي سارعت لاستضافته في مناطق درع الفرات في مدينة جرابلس، حيث يكون تحت عينها وفي عهدتها، وبالتالي من السهل التحكم بقيادته أو تغييرها كما حدث مع قادة أحرار الشام والزنكي وباقي الفصائل في الشمال السوري.

فور إعلان بنود الاتفاق، دخلت عشرات الحافلات مدينة دوما، استعداداً لنقل قادة جيش الإسلام وعناصرهم ومن يرغب من المدنيين نحو الشمال السوري، وتسلّم الجانب الروسي السلاح الثقيل مباشرة، على الرغم من قيام عناصر جيش الإسلام بحرق مدرعتين وتصويرهما بغاية التغطية على تسليم السلاح الثقيل، وحفظ القليل من ماء الوجه. كان من الواضح أن الجانب الروسي يريد الإسراع بتنفيذ بنود الاتفاق قدر المستطاع، خاصةً في ظل التطورات الجديدة على الساحة الدولية والمتعلقة بقصة (الكيماوي) الأخيرة في مدينة دوما، وتخوفه من عودة قادة جيش الإسلام عن تنفيذ الاتفاق بتحريض من جهة ما.

من ناحيةٍ أخرى، عادت قضية المختطفين للواجهة، بعد خروج العشرات من مختطفي عدرا العمالية (منذ نهاية  ٢٠١٣) لدى جيش الإسلام على دفعات، مع سخط واضح من أهالي باقي المفقودين والمغيبين في الحرب السورية لعدم الكشف عن مصير باقي أبنائهم. علماً بأن القصف على مدينة دوما أدى إلى وفاة ٢٩ محتجزاً كانوا في سجن ”التوبة“ التابع لجيش الإسلام، وذلك بتاريخ ٢١ آذار ٢٠١٨، وفي سياقٍ متصل، تبقى قضية الناشطين الأربعة المختطفين من مقر إقامتهم وعملهم في مدينة دوما، رزان زيتونة وسميرة ووائل وناظم، بعيدة عن الحل، ومحفوظة في حوزة من يملك المعلومات الحقيقية من النافذين في تلكم الفصائل التي حكمت الغوطة الشرقية وأهلها ردحاً من الزمن.

 

الأشجار ضحية اخرى

الأشجار ضحية اخرى

الموارد الطبيعة هي ملك جميع البشر القاطنين في تلك المنطقة والذين سيولدون لاحقاً لذا من حق الأجيال القديمة علينا الإبقاء على الغطاء الأخضر على كامل التراب السوري إضافةً الى المياه الجوفية هذا إذا استثنينا بقية الموارد من نفطٍ  وغيره. سأتحدث في هذا المقال عن  الغطاء الأخضر وما يتعلق به .

التطور يكون دائما بمراكمة الأشياء والمعلومات وتطوير المهارات والحفاظ على الثروات واستهلاكها بحكمة وبحساب. في سوريا كان هناك قصر نظر في استهلاك الموارد منذ نهاية القرن التاسع عشر ونهاية الدولة العثمانية حيث بدأت الفوضى بقطع الأشجار من أجل تسيير القطارات ولم يكن هناك من رقابة على قطع الأشجار بل كان هناك تشجيعٌ وإعفاء من الخدمة العسكرية مقابل كمية معينة من الحطب، الأمر الذي قاد على المدى البعيد، وخاصة بالتوازي مع موجات الجفاف التي ضربت المنطقة، إلى زيادة التصحر على مساحة سوريا وخاصة في المناطق التي تعتبر ذات معدل هطول مطري منخفص. 

أعيد تأهيل بعض المناطق لاحقاً بزراعة مناطق واسعة من الغابات من مختلف صنوف الأشجار الحراجية المثمرة وغير المثمرة وخصوصاً من الأشجار المعمرة كالصنوبر وبدرجة ثانية من أشجار الكستناء في المناطق الباردة كما هي الحال بمنطقتي ضهر القصير بجبل الحلو في الريف الغربي لحمص ومنطقة النبي متى شرقي الدريكيش. وتم تشكيل شرطة حراجية ترافق  تلك الغابات وظيفتها حماية الغابات والحد من أعمال التعدي عليها على مساحة البلد كاملاً . في سنوات ماقبل الحرب بقيت هناك حالات اعتداء على ثمار تلك الحراج وأحياناً على الأشجار، ولكن كان هناك متابعة وملاحقة المعتدين إن لم يكونوا من “المدعومين”.

خلال السنوات الأخيرة ومع انتشار فوضى السلاح وترافق الجهل مع القوة، وتفاقم الحاجات الاقتصادية، بدأ قطع الأشجار بغية التدفئة بدايةً مع غياب مادة المازوت الخاص بالتدفئة ولكن على نحوٍ طفيف، ولكن مالبث أن انتشر القطع العشوائي  وبيع الحطب دون تدخل الشرطة الحراجية خوفاً على نفسها، لأنّ الذي يقطع الأشجار لديه من القوة أكبر بكثير من شرطة الحراج ومستعدٌ للقتل، وهو تسلّح للقتل والخراب أساساً رغم مايطلقه من شعارات مغايرة، ولن يتوانى عن إطلاق الرصاص على أحد. هؤلاء المسلحون الذين لا يقيمون اعتباراً للمستقبل استطاعوا حرمان حتى أولادهم من ثروات البلد معتقدين أنّ تلك الثروات حكرٌ عليهم. من حقنا الاستمتاع بالأشجار (أو  ماتبقى منها) لكن من واجبنا استهلاكها وفق حصتنا وحاجتنا ولنترك للجيل القادم ثروات هذه الطبيعة بما يستحق. كل استهلاكٍ يجب أن يكون باعتدال سواءٌ كان مياهاً جوفية أم بترولاً أم فوسفاتاً وغازاً.

خلال زياراتي الدورية في مناطق سوريا الداخلية والساحلية، لاحظت أنّ منطقة كاملة من أشجار الصنوبر قد تم قطعها بالقرب من ناحية عين حلاقيم، التابعة إدارياً لمنطقة مصياف في محافظة حماة، وعندما تدخل اثنان من شرطة الحراج خرج لهم ثمانية رجالٍ مسلحين ببنادق ليتراجعوا تاركين كل شيء حفاظا على حياتهم.

 في الجزء التابع لمحافظة حماة من الغابة الجميلة في ضهر القصير أيضاً هناك حالات احتطاب  كبيرة جداً في منطقة برشين للأشجار وكادت تقضي عليها (الصورة رقم 1). أسوأ الممارسات كانت في منطقة البادية شرقي السلمية حيث كان المقاتلين يعودون محملين بأشجار اللوز والزيتون بكاملها من مناطق القتال بحجة أنّ ملكيتها تعود لمسلحين معادين. فقدت هذه المنطقة غابات كبيرة في منطقة البلعاس في بداية القرن العشرين،  ثم شهدت عودة تدريجية بعد حملات التشجير وزراعة بعض الأشجار التي تتلاءم مع تلك البيئة والتي تحتاج الى متابعة ومصاريف ليست بالقليلة حتى تستطيع النمو بدون حاجة لدعمٍ مائي غير طبيعي. كان ذلك مع مطلع ثمانينات القرن الماضي وبدعم ٍأوروبي للتقليل من التصحر بالتعاون مع وزارة الزراعة.

الصورة رقم 1: الاحتطاب العشوائي الذي قضى على أشجار الكستناء في منطقة غابات ضهر القصير المصدر، أرشيف الكاتب

على الطريق الواصل بين طرطوس وحمص والذي كان مظللاً بأشجار الكينا العملاقة، يمكن للمرء أن يرى كيف تم مسح بعضها تماماً عن وجه الأرض. تلتقي أحيانا مع هؤلاء وهم يحملون المناشر الآلية علناً ويسحقون تلك الأشجار.كما تمّ التعدي على أشجار طريق تدمر الجديد والذي يحوي على الصنوبر بشكل أساسي وأغلبه من الصنوبر الثمري وإن كان هذا التعدي بصورة أقل بشاعة من الحالات السابقة. أما غابات الساحل والحرائق المفتعلة فيها فليست جديدة ولكن الحرب زادت منها، وتؤلمني رؤية جبال مصياف حيث السواد يلتهم المساحات الخضراء التي أعرفها بمساحاتٍ هائلة. قدّر مدير الحراج في وزارة الزراعة السورية عدد الحرائق الحراجية خلال العام 2016 لوحده بـ 819 حريقاً حراجياً، و2285حريقاً زراعياً في مساحة بلغت 2000 هكتار.

تصدمك رؤية العمليات التخريبية المنهجية التي تعمل على إنهاء الحياة في هذه المساحات الخضراء ولمصلحة من؟ لمصلحة الخراب وزيادة ألم السوريين جراء هذه الأعمال التي تقتل كل حياة ولا تقيم اعتباراً لمستقبل الأجيال القادمة، وكأنّ الحرب تقتصر على الاشتباكات المسلحة والقصف. تلك هي النقطة الأساسية في كل شيء المستقبل واحترام الحياة وبالتالي العمل على مقومات الحياة والتقنين باستهلاك الموارد حفاظا على الأجيال المقبلة. تستطيع الكثير من الغابات ببعض الاهتمام تجديد نفسها وقسم ٌ منها بدأ هذا الربيع بالنمو من جديد في المناطق القريبة من جبال الساحل (الصورة رقم 2). وتبقى المشكلة الأساسية في تلك الأشجار المثمرة التي كانت تغطي مساحات لابأس بها في المناطق القليلة الأمطار، حيث تحتاج إلى سنوات طويلة ومشاريع مستديمة لاستعادة ماخسرناه في بضعة أعوام.

الصورة رقم 2: أشجار الكينا تعود للنمو مجدداً على الطريق الواصل بين حمص وطرطوس بالقرب من قرية خربة الحمام المصدر، أرشيف الكاتب

التعايش الطائفي في الساحل بارقة أمل

التعايش الطائفي في الساحل بارقة أمل

قدرت الأمم المتحدة عدد المهجرين السوريين في داخل سوريا ب 6.5 مليون مهجر بحلول عام 2016. سنوات عديدة من الحرب الطاحنة دفعت الملايين لترك مناطقهم الواقعة تحت رحمة المعارك والسعي إلى الانتقال إلى المناطق الأكثر أمنا في الساحل السوري. بغض النظر عن الأسباب والظروف التي أسهمت في جعل الساحل أحد أكثر المناطق أمنا في بلد مزقته الحرب وهجرت أبناءه سلسلة لا تنتهي من الدمار والدماء، فهذا نقاش ليوم آخر.

غني عن البيان أن الغالبية العظمى من هؤلاء المهجرين ينتمون للطائفة السنية، حيثما تغلب الطائفة العلوية على الساحل و مدنه. ومثله أن الحرب السورية أصبحت ذات طابع طائفي لا ريبة فيه. هنا نرى أن هذه الحرب تدور رحاها بين معارضة سنية مدعومة من القوى الإقليمية السنية، و حكومة تديرها قلة من العلويين والتي تبنت دور حماية الأقليات رغم اعتمادها المتزايد على إيران-القوة الشيعية الوحيدة في المنطقة- والتي إليها ينسب العلويون رغم الاختلافات الثيولوجية المتجذرة.

لا ريب إذا أن اطلاق صفة الحرب الأهلية/الطائفية على الحرب السورية ليس بالخيال المحض ولا بالادعاء صعب الإثبات. هنا وقد أدركنا هذا فإنه من الضرورة إدراك المسببات، الظروف، والنتائج المنبثقة عن هذه الصبغة الطائفية، وهذا بدوره موضوع يطول نقاشه و تتشعب أفكاره.

ما يكفي أن يقال هنا، أن التعايش الطائفي في الساحل السوري هو حالة مثيرة للدهشة كما للتفاؤل، وهو بدوره أيضا مؤشر أن الطابع الطائفي للحرب ما هو إلا غطاء يخفي تلاعب الأطراف المختلفة للنزاع في عقول السوريين و ،بدرجة أكبر، إرادة الأطراف المتحاربة لتعبئة الطائفتين في هذا الخندق أو ذاك.

استقبلت مدن الساحل مئات الآلاف من المهجرين السنة في سنوات الحرب التي خلت، المدن نفسها التي يغلب عليها العلويون و المدن نفسها التي تشكل المنبع الرئيسي لقوات الحكومة السورية والتي بدورها ترسل لقتال المعارضة السنية في الشرق والجنوب. فكيف نفسر إذا الهدوء الملحوظ في مدن الساحل والتي لم تشهد أي اقتتال يذكر بين الطائفتين على أراضيها؟

هنالك روايتان رئيسيتان لتفسير هذه الظاهرة، واللتان يستخدمهما المهتمون بالشأن السوري. الأولى أن هذا التعايش ما هو إلا نتيجة لسيطرة النظام الكاملة على الساحل و فرضه النظام بالقوة. الثانية أن العلويين يؤمنون أن السنة القاطنين في الساحل، على عكس هؤلاء الذين اختاروا الحياة وراء الحدود، ما هم إلا “مؤيدون” للنظام وما كانوا ليسكنوا بين العلويين لو لم يكونو كذلك، و لذلك يعاملون بالحسنى.

لوجهتا النظر مسببات وجيهة تدعو للأخذ بهما، و لكنني هنا أنوي تبيان اعتقادي أن هنالك مسببا أكثر أهمية، وإن بدا مناقضا للاعتقاد الشائع، وهو أن النسيج الطائفي في سوريا ليس بالتهتك الذي نظنه.

نقاشي لهذا المفهوم يبدأ من تقدير القيمة الحقيقية لوجهتي النظر السابق ذكرهما أعلاه:

ليس هناك شك أن الحكومة السورية لا تزال ممسكة بزمام الأمور في الساحل السوري، وأن الأجهزة الأمنية و قوات  الشرطة تبقى المهيمنة على الوضع الأمني على عكس المناطق الاكثر اضطرابا في الشرق والجنوب حيث يلعب الجيش و الميليشيات دورا رئيسيا في فرض السيطرة على المناطق التي زعزعت استقرارها عمليات القتال. ولكنه من الضرورة إدراك أن حاجز الخوف في الساحل لم يعد بالقوة التي كان عليها ما قبل آذار 2011. سكان الساحل أصبحوا أكثر ميلا لانتقاد أجهزة الدولة وتقصيرها في مختلف الأوجه، باستثناء بعض الخطوط الحمراء المعروفة جيدا.  وجه آخر يعكس حقيقة أن الحكومة لا تتمتع بنفس القدر من السيطرة كالسابق، ألا وهو حقيقة ارتفاع معدلات الجريمة في السنوات الأخيرة، فالعصابات الإجرامية تقوم، وبشكل متكرر، بعمليات الخطف والقتل وسرقة السيارات. عمليات يقع ضحيتها الجميع بغض النظر عن الطائفة والانتماء. على العموم فإنه من المفيد إدراك أن الحكومة السورية لم تعد تطبق سيطرتها بالشكل الذي كان ما قبل الصراع. المثال الاكبر على ذلك ما حدث في عام 2015 عندما تظاهر المئات في حي الزراعة ذو الغالبية العلوية مطالبين بمحاكمة سليمان الأسد إثر قتل المذكور لضابط في الجيش، بدم بارد و أمام عائلته، جراء خلاف مروري. مظاهرة من هذا النوع كانت الأولى على الاطلاق، وإنها لتشكل تحولا جذريا و دليلا مهما على تقلص الخوف لدى علويي المدينة تجاه أي قمع أمني.

الرواية الثانية المعنية بتفسير هذا التعايش على أنه تفاهم طبيعي ناتج عن كون المهجرين السنة في الساحل مؤيدين للنظام بطبيعتهم ما يحتم قبولهم بين العلويين بدرجة أكبر. وجهة النظر هذه إنما هي لأبعد من الحقيقة من الرواية الأولى، فهي تتجاهل أن السنة المهجرين من مناطقهم الممزقة بالحرب لا يمتلكون العديد من الحلول البديلة لمآسيهم. فتركيا تفرض عليهم قيود اللغة ومعيشة أكثر تكلفة من الساحل، ناهيك عن القيود القانونية و البيروقراطية و العملية. الأردن هو الآخر ليس بالحل الأفضل رغم اللغة المشتركة والثقافة القريبة من تلك السورية. إن افتراض أن جميع الآلاف العديدين من المهجرين السنة ما هم إلا قد صوتوا بأقدامهم حينما قدموا إلى مناطق النظام ما هو إلا جهل بالواقع على الارض، استخفاف بالعقول، و سوء تقدير يعكس بعدا جذريا عن حيثيات الواقع اليوم الذي يعيشه السوريون. ما سبق بدوره يدركه علويو الساحل جيدا إذ لا يمكن لعاقل أن يؤمن أن العلويين مقتنعون بأن جيرانهم السنة ما تركوا مناطقهم إلا انطلاقا من قناعاتهم السياسية الإيجابية تجاه النظام. هذا بدوره لا ينكر أن هناك ربما نسبة لا بأس بها من المؤيدين السنة، سواء في الساحل أو خارجه، كما أن هناك معارضين علويين بنفس الدرجة.

بغض النظر عن مدى دقة الروايتين السابقتين أو تسيد أحدهما على الأخرى، فإنه يبدو واضحا أنهما ليستا بالكافيتين لتفسير التعايش الطائفي المثير للدهشة في الساحل. هنا يمكن القول بأن التفسير الثالث والعامل المكمل إنما هو قناعة متجذرة لدى أفراد الطائفتين بضرورة  قبول العيش المشترك:

هذه القناعة تشكل العامل الثالث الذي لا يقل تأثيرا عن العاملين الآخرين، وهو مكمل لهذين العاملين إذ يملأ الفراغ الذي تفشل هذان النظريتان في ملئه. القناعة هنا هي إيمان غير ملموس بأن الحرب السورية أصبحت  حرباً بالوكالة تخوضها دول إقليمية و قوى عالمية على الأراضي السورية، حرباً أصبحت طوائف سورية باختلافها وقودا و مطية لها. ويرى العلويون أن السنة في مناطقهم لم يأتوا إلا سعيا لحياة آمنة و مستقرة، أما السنة المصرون على قتال النظام فالبقاء في مناطق المعارضة هو خيارهم الوحيد.

سكان الساحل، سنة هم أم علويين، هم خير مثال على أن النسيج الاجتماعي السوري لا زال قابلا للشفاء والتعافي من سنين طويلة من التعبئة الطائفية و المجازر الوحشية. ما سبق يشكل مفهوما مرشدا شديد الأهمية عند اعتبار أي عملية إعادة بناء أو عدالة انتقالية. كل ما ينقص هو حكم القانون و توقف العنف، ولعلنا هنا نحلم بالكثير في هذه المرحلة، للأسف.