الموسيقى السورية في الحرب…لا بيئة حاضنة ولا حضن وطن

الموسيقى السورية في الحرب…لا بيئة حاضنة ولا حضن وطن

هجرة كبيرة شهدتها سوريا لفرق “الموسيقى الجديدة” التي عرفت فورتها في تنوع اتجاهاتها؛ واختلاف تيارات ملحنيها، والشكل أو القالب الموسيقي الذي عملت عليه كل من هذه الفرق؛ فمنذ عام 1998 كان العديد من المجموعات الموسيقية لشباب وشابات قد درسوا كل أنماط الغناء والعزف على آلات شرقية وغربية في المعهد العالي للموسيقى بدمشق؛ لتظهر فرقة  “كلنا سوا” كأولى هذه التجمعات وأكثرها حضورا؛ وكموسيقى اشتغل أصحابها على فلكلور البلاد؛ من حيث بناء قوالبه اللحنية، واستعاراتها لأنماط الروك والجاز والبوب، والفنك؛ وسواها من الاتجاهات الموسيقية الغربية.

“نوطة، توكسيدو؛ شام إم سيز؛ زودياك؛ إطار شمع، جين، فتت لعبت، أنس أند فريندز، ماظوط، حرارة عالية، مرمر، طويس، حوار” أسماء لفرق سورية تشتت شملها اليوم في ظل حرب دخلت عامها الثامن؛ تاركةً ذكريات تلك الأيام التي كانت تغص بها حدائق دمشق وساحاتها العامة بحفلات ما عرف وقتها  بـ”موسيقى على الطريق” التظاهرة الأضخم التي كانت ترعاها محافظة دمشق.

من حديقة “القشلة” بباب توما، وصولاً إلى ساحة “المسكية” قبالة الجامع الأموي الكبير، ومسرح قلعة دمشق؛ وصولاً إلى حديقة “النعناع” في قلب العاصمة السورية، كان برنامج هذه الفرق يزدهر عاماً بعد عام؛ عاكساً رخاءً ثقافياً وفنياً واجتماعياً؛ وصعوداً مطرداً لنخب موسيقية شابة، أرادت التعبير عن نفسها؛ وبكل حرية؛ ليشتهر عبر هذا الحضور الكثيف العديد من الأصوات من مثل الثنائي ” لينا شاماميان، وباسل رجوب” اللذين أصدرا مبكراً ألبومات مشتركة كان أولها “خمير” و”شآميات” وسواها من الأسطوانات التي راجت بين أوساط الشباب؛ محققةً حضوراً لموسيقى دمجت بين فلكلور المنطقة من أغانٍ ومقطوعات أرمنية وسورية بتوزيع جديد أفاد من قالب الجاز التجريبي؛ أو ما يسمى “الجاز أورينتال”.

وقتها تقدمت أيضاً إلى الواجهة فرقة “نوتة” التي تكونت من عروة صالح- عود، مصعب تركماني- نزار عمران ترومبيت، باسل رجوب – ساكسفون؛ يزن هزيم درامز وعلى الغيتار قصي الدقر الذي يروي عن هذه الفرقة وغيرها من فرق الموسيقى الجديدة في بلاده فيقول لـ(صالون سوريا): “ليست (نوتة) هي الفرقة الوحيدة التي قمنا بتشكيلها فهناك فرقة  (فتت لعبت) التي عزفتُ معها برفقة مؤسسها هانيبال سعد؛ حيث كانت مشروعاً غير ربحياً، وقتها لم نصدر ألبوماً.”

كنا نعزف دون مقابل مادي؛ فقط كان مجرد تأمين عدة صوت ومسرح كافياً لأن نذهب ونعزف في أبعد قرية سورية؛ (فتت لعبت)- يتابع الدقر- كان تعمل على شخصية الموسيقى الفلكلورية مع تماسك للموسيقى الغربية عبر إيقاعات فردية واضحة، أستطيع القول أنها كانت بمثابة الحالة التقدمية من الموسيقى الفلكلورية ولكن بشكل ثيمة ميلودي جديدة.”

اليوم تشتت شمل فرقتنا مثلما تشتت شمل الكثير من الفرق الأخرى- يقول الدقر ويتابع: فرقة (مازوط) التي أسسها رشوان ظاظا مع داني شكري هاجر معظم أفرادها، وفرقة (توكسيدو) التي عملت على نمط (الفنك)- موسيقى الخمسينيات أيضاً لقيت المصير نفسه؛ حيث كانت أول تجمع لرباعي نفخي على كل من آلات الترومبون والترومبيت والساكسفون؛ ورافقتهم على الغيتار أيضاً؛ فيما غنت معنا نور عرقسوسي.”

مغنيات ومغنيون سوريون رافقوا هذه الفرق ولمع نجمهم معها، لكن اليوم لينا شماميان تغني في تركيا، ولبانة قنطار في أميركا؛ و ورشا رزق وأنس أبو قوس ووعد بو حسون وشادي علي في الخارج أيضاً؛ كما توقف مع الحرب فعاليات مهرجان الجاز الذي كان يقام كل صيف على مسرح قلعة دمشق؛ إضافةً لتوقف العديد من الفعاليات التي كانت تحتفي بالموسيقى وجمهورها، لاسيما يوم الموسيقى العالمي الذي كان حدثاً ثقافياً استثنائياً للفرق الجديدة.

هجرة كثيفة ومتوالية حتى لطلاب المعهد العالي للموسيقى؛ تجاوز عددهم مؤخراً الثلاثين طالباً وطالبة، منهم ثمانية في معهد (فاينر) بألمانيا كما يخبرنا مدرّس رفض ذكر اسمه؛ فالأكاديمية الأشهر في سورية والتي تأسست بعد صدور المرسوم التشريعي رقم (28) لعام 1990؛ وهو مرسوم أعطى فكرة جيدة عن اهتمام الدولة بالفن الموسيقي، حيث جاء في نص مادته الثانية “تعليم أصول الغناء الفردي والجماعي، العربي والعالمي وإعداد باحثين موسيقيين وخاصة في الموسيقا العربية.”

الهجرة لم تتوقف على العازفين والمغنيين والطلاب، بل تجاوزتها لتشمل أهم الأساتذة هناك، وأبرزهم الروسي فيكتور بابينكو الذي وافاه الأجل منذ فترة بعد سفره من دمشق؛ وعسكر علي أكبر أستاذ العود الأذربيجاني، ولبانة قنطار مديرة قسم الغناء الشرقي التي تقيم اليوم في أميركا، وأراكس شيكيجيان مدرسة أصول الغناء الأوبرالي؛ مما ترك أثره واضحاً على الحركة الموسيقية الجديدة التي عرفت أول بزوغها على المسارح السورية بتيار “الموسيقى البديلة.”

بالمقابل هناك فِرق لا زالت تصر على حضورها في عز زمن الدم والعبث؛ فالموسيقى والحرب نقيضان لا يمكن أن يعيش الأول في ظل الآخر؛ ومن يستطيع خلق موسيقى لا يقدر أن يكون شريراً . الموسيقى هي تجسيد للغة الحب – يقول الفنان سيمون مريش مؤسس فرقة “زركشة” التي آثرت تقديم حفلاتها اليوم داخل البلاد ويضيف: “المتابع اليوم لحفلات دار الأوبرا يعلم أننا باقون؛ أجل لقد هاجر الكثير من الموسيقيين السوريين ولأسباب متعددة؛ ربما بحثاً عن لقمة عيش؛ أو مكان مناسب لإطلاق مشروع فني؛ أو هرباً من الحرب واللا استقرار؛ وفي حالات أخرى لمتابعة دراستهم.”

تستمر قائمة الأسباب- يعقب الفنان مريش ويضيف: “لا شك أن العمل في حقل الموسيقى في الظرف الذي نعيشه اليوم صعب جداً؛ إن لم يكن مستحيلاً بالنسبة للبعض. لكنني أعتبر نفسي محظوظاً؛ كوني ما زلت أعمل في الموسيقى حتى في هذا الظرف الصعب. دوماً نقول إن الحياة و الأرض التي نعيش عليها أعطتنا الكثير والآن حان الوقت لنردَّ الجميل و نصنع الفرق.”

الفنان رعد خلف ما زال يعمل أيضاً على مشروعه “أوركسترا ماري” والتي قدم سيمون مريش معها مؤخراً حفلين موسيقيين بدار الأوبرا؛ و هو عمل جدير بالمتابعة كون البرنامج القادم سيكون من تحقيق مجموعة من المؤلفات الموسيقية التي استوحاها رعد من الحضارات القديمة مثل حضارة أوغاريت وإيبلا وماري ولكن مكتوبة بقالب جديد.

Coma هو اسم الفرقة التي أسسها كل من قصي الدقر وناريك عبجيان، برفقة المغني ليفون عبجيان؛ والتي استمدت اسمها من ترجمتها الحرفية إلى العربية “الغيبوبة” لكنها أيضاً كما يخبرنا قصي الدقر مدرّس قسم الصوت والتقنيات في المعهد العالي للفنون المسرحية: “Coma ليست فقط غيبوبة؛ بل هي التسمية الحرفية لربع الصوت، أو ربع البعد الذي نشتغل عليه؛ سواء كان هذا الربع بعد أرمني أو بيزنطي أو سرياني أو تركي أو مصري.”

لفرقة ” الغيبوبة” هذه إنجاز لافت على صعيد التعويض في النقص الفادح بعدد العازفين معها، وندرة الحصول على عازفين اليوم في سورية لديهم الخبرة الكافية- يحدثنا الدقر شارحاً عن طبيعة عمل فرقته وتغلبها على هذه الصعاب: “صحيح الحرب أوقفت كل مشاريعنا، طلابي يقولون لي إنهم لم يحضروا حفلاً موسيقياً واحداً منذ دخولهم إلى المعهد؛ لكننا استطعنا في (كوما) أن نعوّض عن ذلك، وذلك عبر لجوئنا إلى نظام برمجي إلكتروني نتعامل معه بشكل تفاعلي حسب الحالة التفاعلية للجمهور؛ فهذا النظام عوضنا عن أربعين دوراً لعازف أو عازفة، متجهين بذلك نحو آلة الغيتار بدون خانات ربع الصوت الشرقي، وبصحبة الفنان ناريك عبجيان على آلة الدودوك الأرمنية، وصوت شقيقه عازف القانون أيضاً الفنان ليفون عبجيان.”

هذا الاشتغال قادنا إلى العمل على رباعيات الخيام – يتابع الدقر ويضيف: ” عملنا أقرب إلى التصويري منه إلى الموسيقي التقليدي، حيث نعتمد على إدخال المستمع أو من يحضر حفلاتنا في عالم من التأمل الخالص، دون أن يكون هناك في عملنا صدمة تجعل هذا الجمهور يستيقظ من حالة التكرار التي نعمل عليها ونطورها طوال فترة الأداء؛ مقتربين من أسلوب الحضرة الصوفية، والتطريب وحلقات الذكر، جنباً إلى جنب مع عرض بصري لأعمال (الفيديو آرت) التي ترافق أدائنا نحن الثلاثة على شاشات عرض حية؛ بينما نغيب على المسرح كحضور؛ أسلوبنا أقرب إلى مدرسة ( سايكا ديليك) إنه يا صديقي السفر عبر الموسيقى، أو قل الطيران دون توقف.”

“الموسيقى في وجه المجزرة” عبارة أطلقها موسيقيون سوريون في سنوات الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث بزغت في بعض المدن السورية تجمعات فنية أقامت العديد من الحفلات. المغنية والشاعرة علا حسامو تسرد قصتها هنا بعد إطلاقها لألبوم (صرخة إنسان) احتجاجاً على القتل العبثي؛ والذي وضعت كلماته ولحنتها وغنتها. تقول حسامو: “نعم ربّما توقف الموسيقى المجزرة…أو ربّما على الأقلّ توقف الحقد المتدفّق في العروق؛ ليمرّ بدلاً عنه نهرُ الحبّ ولو للحظات. أو ربّما توقف الموسيقى الرّغبةَ في القتل أمامَ اشتعال الرّغبةِ في الرّقص وفي البكاءِ ومعانقةِ من نحبّ.” وتضيف حسامو: “فكرة ألبوم (صرخة إنسان)  ولدت من هنا تماماً، من قلب الوجع الّذي في أعلى إنسانيّتنا؛ حين نزلت به السياسة وملحقاتها إلى أدنى مستوياته؛ وذلك إثر تجربةٍ عِشتُها ضمن عملي مع شبكة (مبادرون) ومن صلب احتياجٍ عاينتهُ مع زملاءٍ لي في العمل الأهلي، إذ كنت أشارك في ورشة (بناء جسور السلام والتعايش السلمي)، وهي أحد ورشات شبكة (مبادرون التّنموية) الّتي يلتقي فيها ناشطون من مختلف الأطياف والانتماءات السياسية ،الدينية والفكرية؛ يتبادلون قصصهم وجهات نظرهم خلافاتهم واختلافاتهم، يتجادلون ويتبادلون الاتهامات فيظهر الشّرخ الكبير؛ في هذه اللحظة أذكر أنّ مَن كان يتهم الآخر صار يمسح دمعه وبلحظةٍ من الوجع المشترك والإحباط، أمسكنا بأيدي بعضنا وغنّينا وكأن الأغنية لفّتنا بذراع من حبّ وأمل، تحوّلت الاتهامات المتبادلة إلى رقصٍ وودّ، أذكر أننّا صرنا نبحث عن أغنيةٍ تمسّنا وترفع معنوياتنا دون أن تمجّد اسماً أو حزباً أو ديناً. ولم نجد سوى اثنين أو ثلاثة. حينها ارتجلتُ مقطعاً وغنّيته ومذ تلك اللحظة انطلقت بألبوم (صرخة إنسان)، وبتشجيع ودعم (مبادرون) ومنتدى التنمية والثقافة والحوار بدأتُ العمل كتابةً وتلحيناً.”

لكن هل حققت المغنية (حسامو) رغبتها في أن تجعل موسيقاها صرخة في مواجهة الحرب؟ تجيب  المغنية السورية: “لم تصل مبادرتي هذه إلى هدفها الكبير بعد، لكنّها حقّقت أحد أهدافها بأن تتردّد الأغاني على ألسنةِ المؤّيد والمعارض من الشباب السوري… سواء انتمى إلى موالاة أو معارضة، وأن يحسّ كلّ منهما بأنّ أغنياتي تخصّه وتعنيه وتعبّر عنه، وأن يشعر ولو جزئيّاً أنّ على عاتقه مسؤوليّة وقف المجزرة”.

حاجز موسيقي   

الفرق الموسيقية تراجع نشاطها في ظل الحرب، إذ شهدت السنوات السبع الماضية هجرة كبيرة للموسيقيين والمغنيين السوريين، لكنها وبعد مضي الحرب لإتمام دورتها الدموية الكبرى عادت الموسيقى لتقف في وجه الخراب. فرقة (حاجز موسيقي) كانت أبرز هذه الفرق التي أسسها شباب وشابات قدموا حفلاتهم على العديد من مسارح العاصمة، كان آخرها حفلتهم التي قدموها في (دارة الفنون بحي القنوات الدمشقي)  تحت شعار “نحن أحياء وباقون” حيث اشتهرت (حاجز موسيقي) باسمها المشتق من الحواجز العسكرية والأمنية المنتشرة على طول الجغرافيا لطرفي النزاع السوري. الفرقة التي حملت على عاتقها إعادة صياغة التراث وفق تركيبة ما يسمى بموسيقى “الأورينتال جاز” لتقدم أغنيات من قبيل: “هالأسمر اللون” فوق النخل “وين على رام الله” ووفق الاشتغال على مفردات الحرب السورية سواء في الكلمات أو القالب اللحني. مدير الفرقة مجد الزغير قال: “إن (حاجز موسيقي) تهتم بتجديد الأغاني والإضافة عليها؛ فضلاً عن التلحين والتأليف؛ فالفرقة كانت تكتفي بتقديم الحفلات الموسيقية؛ لكنها مؤخراً أضافت فقرات غناء السولو بناء على طلب الجمهور الذي تفاعل مع فريقنا حفلةً بعد حفلة؛ واستمرار (حاجز موسيقي) خاصة في هذه الظروف يؤكد أن الحرب لا بد لها  أن تنتهي و الموسيقى والحياة ستستمر رغم أنف الموت.”

ظاهرة موسيقية لافتة قدمتها الحرب في شوارع دمشق؛ تجلت في (مشروع ومضة) وهو عبارة عن تجمع من الموسيقيين والمسرحيين والمغنين الذين بادروا إلى أسلوب “المسرح الخفي” ودون أي دعم يذكر لهذا المشروع. أعضاء فرقة (ومضة) التقوا على هدف انتشال السوريين من حالة الحرب والموت ولو لدقائق قليلة، حيث قررت الفرقة بمبادرة ذاتية أن تواجه حالة الحرب التي تعيشها بلادهم بالموسيقى والرقص والمسرح والتمثيل، فما تقدمه هذه الفرقة هو شكل من أشكال المسرح التفاعلي، والذي يعتمد نجاحه على المؤدّين والمتلقين في آن معاً، واتكأ مشروع “ومضة” على التجمع الخاطف الذي يقوم على ظهور مجموعة موسيقيين بشكل مفاجئ في مكان عام من مدينة دمشق لتقديم عرض يكون غالباً غير اعتيادي. هنا كان يظهر أعضاء الفريق فجأة في أحد الشوارع أو في مكان ما غير متوقع، في ساعات الذروة ليفاجِئ السوريين ويرسم الأمل على وجوههم، في ظل التفجيرات وقذائف الموت وحصار المدن. اعتمد  فريق (ومضة) على أنواع متعددة من آلات الموسيقى كالقانون والإيقاع، الترومبيت، والغناء. تقول نغم ناعسة وهي من مؤسسي (مشروع ومضة) وأبرز أعضائه: “لطالما كانت القنبلة ومضة، والمدفع ومضة، والتفجير ومضة، والقتل والموت يحدث في ومضة؛ ولطالما كانت هذه الومضات مجتمعة تشكل أبرز مشاهد حياتنا نحن السوريين اليوم، لذا قررنا أن نصنع ونقدّم ومضة إيجابية تجابه وتواجه ما سبق من ومضات شريرة؛ فقررنا أن نصنع ومضة حب، أو ومضة حلم وأمل، أو ومضة فن وموسيقى، وسمينا مشروعنا ومضة؛ ومضة دون بطاقات دعوة، دون مواعيد، نظهر في شوارع المدينة، نغني، نعزف، نرقص، وأحياناً نبكي…” وتضيف ناعسة: “استمر مشروع ومضة في سنوات الحرب الأولى دون داعم مالي أو حتى راع إعلامي، لقد تلقينا وعوداً من كثيرين بتقديم الدعم قبل انطلاق المشروع؛ لكن أحداً لم يفِ بما وعدنا به فتوقفنا اليوم، عندما تحين ساعة العمل والشروع بالتنفيذ ينفض من حولك مَن كانوا يقدمون أنفسهم كرعاة أو ممولين، لكن مشروعنا اعتمد فقط على جهود وخبرات المشاركين فيه وإيمانهم بأهمية ونُبل ما يقدمونه للسوريين كافة.”

إبادة جماعية موسيقية

مقطوعات موسيقية وغنائية كان قد قدمها أيضاً المغني معتز عويتي وفرقته مع نخبة من الموسيقيين السوريين الذين واظبوا على تقديم روائع من أغنيات موسيقى الجاز؛ حيث ساند الفنان عويتي في أمسياته هذه  كل من رفاقه الموسيقيين: “طارق سكيكر؛ مهند السمان ، بلال حمور ، دلامة شهاب، سيمون مريش.” يقول عويتي عن حفلاته: “نحب أنا وفريقي أن نقدم في هذه الظروف نوعاً غنائياً و موسيقياً جديداً و لأول مرة للجمهور؛ إنها مجموعة أغانٍ كان أغلبها لمغني عالمي و جديد اسمه Gregory Porter والمميز بموسيقاه وأغانيه هي المزج بين موسيقى الجاز و البلوز والغاسبل بنفس الوقت؛ وبطريقة جميلة لاقت رواجاً كبيراً في الساحة العالمية؛ إذ أردنا نقل هذا النمط الجديد للجمهور السوري من محبي هذه الموسيقى بدلاً من تقديم موسيقى جاز تقليدية معروفة بالنسبة له.” وأضاف عويتي: “استمرارنا اليوم هو استمرار للحياة التي لا نريد لها أن ترحل عن مسارحنا وشوارعنا؛ فالفرقة الموسيقية التي أعمل معها هم من أفضل الموسيقيين المحترفين ومن القلة القادرين على عزف نمط الجاز الموسيقي المعتمد على أسلوب الارتجال في العزف حيث يتضمن برنامج أمسياتنا عادةً العديد من الفقرات أبرزها أغنية قمت بأدائها وكانت بعنوان: “إبادة جماعية موسيقية.”

فرق كثيرة ما زالت تزاول موسيقاها على الأرض السورية أبرزها اليوم هي فرقة “التخت  الشرقي النسائي” والتي قدمت حفلاتها على مسرح الحمراء، معيدةً الاشتغال على الفلكلور والطرب الشعبي؛ إضافةً لموشحات سيد درويش وصباح فخري وآخرين؛ حيث تتألف هذه الفرقة من خريجات المعهد العالي للموسيقى في الغناء والعزف، واللاتي عملن منذ عام 2003 على تأصيل الغناء والعزف النسائيين؛ معتمداتٍ اليوم على حساسية المرأة إزاء ما يحدث من قتل عبثي وتهجير لآلاف العائلات المشردة؛ حيث تعتبر أعضاء هذه الفرقة الموسيقى بمثابة رحم لحماية ما تبقى من العائلة السورية الهائمة على وجهها في مشرق الأرض ومغربها.

في الحرب أيضاً تتالت الأمسيات الموسيقية والغنائية الشعرية التي تحتفي بمدينة حلب على مسارح دار الأوبرا السورية؛ فاستعادة التراث الحلبي عبر أمسيات الأوبرا، جاء في وقتٍ شهدت فيه عاصمة البلاد الاقتصادية مهرجانات مطوّلة من الدم والاقتتال المتواصل؛ وسقوط يومي لضحايا من المدنيين جراء إمطار القوى المتشددة لمدينة الموشحات بعشرات قذائف الهاون والصواريخ ومدافع جهنم؛ مخلفةً وراءها عشرات الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال؛ في وقتٍ بات الغناء كبيرة الكبائر في عُرف قوى تكفيرية سيطرت في سنوات الحرب المنصرمة على أجزاء كبيرة من أحياء المدينة.

الحفلات التي أحيتها كل من فرق صفوان العابد و  ميادة بسيليس و سمير كويفاتي و(دهب) لعمر سرميني” إضافةً لفرقة (شادي جميل) كانت استثنائية من جهة شمولها لمعجم الطرب الحلبي الأصيل؛ حيث استعاد فيها الجمهور روائع “السماعي من مقام النهاوند” لـ علي الدرويش وصبري المدلل وعمر البطش وصباح فخري أبرز شيوخ الطرب في المدينة.

مهرجان (قوس قزح سوريا) احتفى بدوره بالموسيقى الإثنية والعرقية مقدّماً فرق كردية وآشورية وعربية وأرمنية وشركسية وسريانية على مسرح دار الأوبرا، كان أبرزها فرقة (بارمايا) التي احتفت بأعياد الميلاد ومراسيم الزواج السريانية القديمة، بمصاحبة آلاتها الضاربة في القدم من (زُرنة وطبل وعود) إذ تعتمد على المراسم المؤداة فيها أو الأغنية التي تقوم الرقصة عليها، والتي تأتي هنا كوريث لفنون الميثيولوجيا المتعاقبة من سومرية وفينيقية وأكادية وكلدانية وبابلية وآشورية وآرامية، تمتد بجذورها التاريخية إلى أكثر من خمسة آلاف عام.

المهرجان الذي أنتجته (وزارة الثقافة) وثب خطاه في الحرب بعد ضغط ميزانيته التي بلغت (ثلاثة ملايين وستمائة ألف ليرة سورية- ما يعادل سبعة آلاف دولار$) معظمها ذهب كأجور لإقامة الفرق والإطعام والتنقلات الداخلية لأكثر من مائتين وخمسة وعشرين مشاركاً ومشاركة، حيث استطاعت هذه التظاهرة أن تبلور حضوراً متجدداً لفرق موسيقية شعبية، جاءت إلى عاصمة بلادها من عفرين وحلب والقامشلي والسويداء واللاذقية متحديةً صعوبات ومخاطر تشهدها طرق السفر الداخلية بين المدن السورية.

في ظروف الحرب تراجعت أجور الموسيقيين السوريين مما أثر في قرار مغادرتهم للبلاد واحداً تلو الآخر، فالعازفون داخل سوريا يعيشون من أجورهم لقاء الساعات التدريسية في المعاهد الموسيقية أو العزف مع الفرق المحترفة، فالعازف الواحد يتقاضى على المشاركة في حفل واحد مبلغ وقدره: (25 ألف ليرة سورية- ما يعادل خمسين دولاراً) أما أجور التدريس، فهي ليست أفضل حالاً، ففي المعهد العالي للموسيقى يتقاضى أستاذ الآلة الموسيقية على الساعة الواحدة مبلغاً وقدره: ( 450 ليرة سورية- ما يعادل دولاراً واحداً) و( 120 ليرة- ما يعادل ربع دولار) للساعة في معهد صلحي الوادي. ولغير الخريج ( 80 ليرة- أقل من ربع دولار). المطالبات بزيادة الأجور كانت دائماً تعود لمدراء المعاهد بترشيد الإنفاق وهذا ما عرقل أي أمل أمام موسيقيين يبحثون عن عيش كريم وإنساني.

عفرين: الأهداف التركية والدور الروسي والمقاومة المحليّة

عفرين: الأهداف التركية والدور الروسي والمقاومة المحليّة

(تحاول هذه الورقة تحليل العوامل السياسية والجيوسياسية التي أحاطت بمعركة عفرين والأهداف التركية وراء العملية والدور الروسي الكبير فيها، ورهانات القوى الكردية أثناء مواجهة الهجوم التركي انتهاءً بوقوع المنطقة تحت الاحتلال التركي المباشر. كما تقدم الورقة من خلال موضوعها مثالاً متجدداً عن تعقيدات الصراع السوري وحجم التداخل والتضارب بين الأطراف الداخلية والخارجية بما فيها الأطراف التي تبدو في جبهة واحدة، إذ تبدو متحالفةً تارةً ومتنافسةً تارةً أخرى. تستند هذه الورقة إلى متابعة الكاتب المفصّلة والحثيثة للحدث، وإن كانت من الخارج، ولا تزعم بالطبع صحة التقديرات الواردة مع صعوبة التحقق الميداني في ظروف الحرب)

عملية “غصن الزيتون”

تحت هذا المسمّى المناقض تماماً لدلالة غصن الزيتون في التراث والثقافة كرمز للسلام والأمان، شنّ الجيش التركي ومعه 25 ألفاً من مقاتلي المعارضة السورية المسلحة المدعومة من أنقرة حملةً عسكرية ضخمة ضد منطقة عفرين الكردية السورية شمال غرب حلب، في العشرين من شهر كانون الثاني 2018، في خرقٍ للقانون الدولي بالهجوم على أراضي دولة أخرى، دون تفويض من السلطات الرسمية، تحت مزاعم تهديد أمنها القومي من القوات الكردية المتواجدة في عفرين. لم تقدّم الحكومة التركية أي أدلة وقرائن ملموسة حول حقيقة وجود أي تهديدات، فقد التزمت وحدات الحماية الشعبية YPG بعدم تشكيل تهديد مباشر أو غير مباشر للأراضي التركية المجاورة طيلة السنوات الماضية بقرارٍ مركزيٍ من قيادة الوحدات. وأظهرت ضبطاً للنفس رغم الاستفزازات التركية المتكررة للوحدات كي ترد عليها، بما فيها تسهيل مرور أو التغاضي عن آلاف الجهاديين إلى سوريا الذين عبروا حدودها، والذين شكلوا أكبر تهديد أمني للسكان في مناطق شمال سوريا، كما حملت على كاهلها مسؤولية الحفاظ على أمن المنطقة وسط الفوضى السورية وتهديدات الجماعات المسلحة التي يغلب عليها الطابع الجهادي الإخواني والمدعومة بمعظمها من قبل تركيا.  فكانت بذلك منطقة آمنة ومستقرة لجأ عليها عشرات الآلاف الهاربين من جحيم العنف في ريف حلب وإدلب وتقول التقديرات أن عدد النازحين إليها ما يقارب 400 ألف نازح.

الدوافع التركية

تطمح الحكومة التركية ومن منطلقٍ توسعيٍ في المنطقة يستند إلى مخيلة تاريخية فضفاضة وذرائع أمنية إلى السيطرة على مناطق واسعة من شمال سوريا والعراق، وخصوصاً الكردية منها، لمحاربة النهوض الكردي في الداخل التركي أو خارجه بحسب زعمهم. تكتسب منطقة عفرين أهميةً خاصةً لدى تركيا وذلك لقربها من لواء إسكندرون (يحدّ عفرين من الغرب سهل العمق التابع للواء) ذي الأهمية البالغة والذي احتلته تركيا عام 1939 إبان الانتداب الفرنسي على سوريا وبالتواطؤ مع السلطات الفرنسية. يُشكّل المكوّن الكردي غالبيةً مطلقة في المنطقة بنسبة أكثر من 95% حسب تقديرات الكثيرين من سكان المنطقة والباحثين.1  وكانت تسمى في العهد العثماني بـ”كرداغ” (جبل الأكراد باللغة التركية) وبقيت هذه التسمية إلى بدايات العهد الوطني في سوريا ثم استبدلت بتسمية قضاء جبل الأكراد. وتتميز المنطقة بتضاريسها الجبلية الصعبة التي ضاعفت من الفوبيا التركية إزاء وضع هذه المنطقة.

نشر الإعلام التركي مواداً كثيرة حول هذه الجزئية وجرى تضخيمها بناءاً على تصوراتٍ تزعم أنّ هناك دولة كردية تتشكل وسيكون لها منفذٌ بحري على المتوسط عبر الساحل السوري، أو عبر ميناء إسكندرون “التركي” على البحر المتوسط وتطمح لبيع النفط مباشرة عبر هذا الميناء.2  ففي 8  تشرين الأول/ أكتوبر 2017 صرّح الرئيس التركي أردوغان بوضوح: ”لن نسمح أبدا بممر إرهابي يبدأ في عفرين ويمتد حتى البحر المتوسط.“ (علماً أنّ هناك مسافة حوالي 150 كيلومتر تفصل عفرين عن الساحل السوري، تتوسطها محافظة إدلب وريف اللاذقية الشمالي التي تخلو من سكانٍ أكراد).

وباعتقادي أنّ حجة ارتباط مقاتلي وحدات الحماية الكردية بحزب العمال الكردستاني ورفع صور زعيمه المعتقل في تركيا “عبدالله أوجلان،” أو سيطرة وحدات الحماية الكردية على مناطق ذات غالبية عربية ومختلطة في شمال سوريا بعد تحريرها من “الدولة الإسلامية- داعش” والانتهاكات التي ارتكبتها، ليست إلا دافعاً ثانوياً بعكس ما تروّج الحكومة التركية. فلو كانت المنطقة تحت إدارة أية قوة كردية أخرى وبصبغة كردية لاتبعت تركيا نفس السياسة كي لا تصبح الإدارة الذاتية في شمال سوريا أمراً واقعاً ومعترفاً به في التسوية السياسية القادمة في سوريا، كما في حالة فيدرالية كردستان العراق التي ترسّخت دون إرادة تركيا، واضطرت للتعامل معها تالياً وفق هذه الحقيقة السياسية والدستورية في العراق.

إنّ حلم الهيمنة على شمال سوريا ليس ردّة فعل على الأحداث التي شهدها الشمال السوري. (إقامة إدارة ذاتية كردية، أو الارتباط المفترض لوحدات الحماية الكردية بحزب العمال الكردستاني) وحسب، بل كان في صلب السياسة التركية منذ الأيام الأولى للأزمة في سوريا وعلى نحو استباقي.  ففي كتابه «قطار الرافدين السريع» المنشور عام 2012 (ترجمة الراحل عبد القادر عبد اللي) وكذلك في مقابلة له مع قناة «بي بي سي» بتاريخ 19 أبريل (نيسان) 2017،  يروي جنكيز تشاندر الصحافي التركي المخضرم وأحد أقرب مستشاري الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، أنه قبل مرور أسبوعين من انطلاق أحداث درعا في سورية كان ضمن وفد إعلامي في الطائرة الخاصة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في 27 آذار (مارس) 2011 بعد زيارة للعراق (بغداد وأربيل). بادر تشاندر إلى سؤال أردوغان عن الوضع في سورية. طلب أردوغان من الصحفيين أن يضعوا أقلامهم في جيوبهم ويغلقوا المسجّلات الصوتية ولا يدونوا حديثه. وبعد كلام عن عمق صداقته الشخصية والعائلية مع الرئيس السوري بشار الأسد وعائلته، قال أردوغان أن “سورية ليست سوريةً فقط… بالنسبة إلي تعني حلب، وحلب تعني هاتاي (أنطاكية) وعنتاب، المدينتان التركيتان على الحدود السورية، وسورية تعني القامشلي أيضاً، ولا ضرورة للقول ماذا تعني القامشلي. والقامشلي ليست القامشلي لوحدها… بل هي أشياء كثيرة أخرى. (كان يشير للقضية الكردية وآثارها على الداخل التركي). وأضاف أنه لا يمكن السماح بموجة هجرة من سورية الى تركيا كما حصل في شمال العراق بعد 1991. ويجب أن نؤسس خطوط دفاعنا الأولى خارج أراضينا وليس داخل أراضينا، ملمّحاً إلى فرض منطقة عازلة داخل الأراضي السورية.” يضيف تشاندر في مقابلته، وهو العارف بدهاليز السياسة التركية ومن المفترض ألا يُصدَم، أن حديث أردوغان في ذلك الوقت المبكر من أحداث سورية، أي بعد مرور أثني عشر يوماً فقط من شرارة درعا، كان بمثابة قنبلة له!

يُضاف لهذا البعد الكردي الذي شكل ذريعة أساسية للهجوم التركي أهدافٌ وغاياتٌ تتعلق بالأزمة السورية عامةً وحجز نفوذٍ تركي قويٍ في سوريا الجريحة خاصةً في المناطق الشمالية ومنطقة حلب وجوارها، عبر تعزيز نفوذ الجماعات الإسلامية المسلّحة، سيما تلك التابعة لشبكة جماعة الإخوان المسلمين التي تتخفّى وراء تسمياتٍ عديدة ضمن الأطر السياسية والفصائل المسلحة وحتى بعض الهيئات والمنظمات الحقوقية والإغاثية في سوريا التي تحظى بدعم تركيّ- قَطَريٍ غير محدود. يضاف إلى ما سبق سعي الحكومة التركية لتحقيق أهدافٍ تتعلق بالشأن الداخلي لسنا بصدد التطرق إليها الآن.    

خريطة رقم ١: مناطق السيطرة في سوريا حتى تاريخ ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٨، تُشير الأسهم إلى جبهات التقدم [المصدر مركز كارتر]

صفقة روسية – تركية وتنافس أمريكيّ -روسيّ على كسب تركيا

تتحمّل حكومة روسيا الاتحادية، ذات النفوذ في منطقة حلب وريفها، قسطاً كبيراً من مسؤولية احتلال تركيا لمنطقة عفرين لأنها أفسحت المجال الجويّ السوري الخاضع لها للدولة التركية كي تشنّ حملتها العسكرية جواً وبراً. بل ومنعت الحكومة السورية من تقديم أية مساعدة جديّة للقوات المقاومة في عفرين بعد أن تخلّت عن ممارسة حقها وواجبها في الحفاظ على سيادتها وحدودها ضد العدوان الخارجي وفق القانون الدولي. كما التزمت الولايات المتحدة ذات النفوذ في مناطق سورية أخرى (منبج وشرق الفرات) الصمت تجاه العدوان التركي بحكم علاقاتها مع الدولة التركيا في إطار حلف الناتو. كما لم يتبلور تنديد الاتحاد الأوربي من العدوان التركي إلى أي موقف سياسي فاعل، سوى الموقف الفرنسي الخجول وهو في الأساس لا يملك أوراق قوة في سوريا. أما عربياً فلم تبدي سوى جمهورية مصر العربية تنديداً واضحاً بالعدوان التركي على منطقة عفرين تطور لاحقاً إلى موقفٍ إعلاميٍ عام للجامعة العربية، تحفظت عليه دولة قطر الحليفة لتركيا والداعمة لشبكات الإسلام السياسي في المنطقة كلها والتي وقفت في صف العدوان منذ اليوم الأول وسخّرت إمبراطوريتها الإعلامية (شبكة الجزيرة الإعلامية) للترويج ومساندة العدوان وتضليل الرأي العام العربي والإسلامي.

وكان من الملاحظ أيضاً أنّ “إسرائيل” لم تدلي بأي تصريحٍ رسمي حول العمليات العسكرية التركية في عفرين، وهي لا تكاد تفوت مناسبة لتظهر صورتها كدولة “إنسانية” و”ديمقراطية”  تستفظع ممارسات الأنظمة العربية وقتلها لشعوبها، رغم كونها دولة احتلال قائمة على التطهير العرقي وتهجير أهل فلسطين. ويعود سبب الموقف الإسرائيلي إلى موقف حليفتيها روسيا والولايات المتحدة من جهة، وإلى تحسن العلاقات التركية الاسرائيلية بعد المصالحة التي تمت عام 2016 بعد سلسلةٍ من الأحداث التي أدت إلى توتر العلاقات بين الدولتين خاصة بعد حادثة سفينة “مافي مرمرة” في أيار 2010، وكذلك التعاون العسكري والأمني بين تركيا وإسرائيل (تتضمن الترسانة العسكرية التركية أسلحةً إسرائيلية خصوصاً في مجال الطائرات دون طيار) .وكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد التقى خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول (سبتمبر) 2017، بممثلي الجمعيات اليهودية وطلب، كما يُفهَم من خطاب له تطرّق فيه لمضمون اللقاء، دعمهم لتركيا ضد استفتاء كردستان العراق وضد التجربة الكردية في سوريا، وإقناع حكومة إسرائيل بذلك.

لم تُعر الحكومة التركية أي اهتمام لأية انتقاداتٍ دولية تعارض سياساتها ولا لهيئات الأمم المتحدة بما فيها مجلس الأمن الدولي الذي أقرّ وقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية، بقراره رقم (رقم 2401) الصادر بتاريخ  24/2/2018، والذي لم يلتزم به أي طرف بما فيه الحكومة التركية.

ثمة لومٌ من جانب بعض الأوساط الكرديّة وكذلك أوساط النظام ومواليه، مفادهُ أنه كان على الإدارة الذاتية في عفرين تسليمها للجيش النظامي السوري قبل بدء العدوان، الأمر الذي كان سيجنّب المنطقة الاحتلال والكارثة الإنسانية التي نجمت عنه. في الواقع لم تنقطع المفاوضات بين الإدارة الذاتية والنظام قبل وأثناء الحملة، غير أن الروس منعوا أي تفاهم بين الطرفين، بحسب قيادات سياسية وعسكرية كردية، أكدّ ذلك أيضاً تقرير مطلع لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 11 آذار (مارس) يقول فيه: “وكانت دمشق تريد العودة إلى عفرين سواء فعلياً أو رمزياً، لكن موسكو رفضت، لأن التفاهمات مع أنقرة أكبر بكثير من عفرين”، بحسب قول مسؤول روسي. بعدها، أرسلت دمشق «قوات شعبية» إلى عفرين وريفها، قوبلت بقصف تركي أوقع عشرات القتلى. وكان هذا تطبيقاً لما أبلغه قائد المركز الروسي إلى حمو وعليا في اجتماع حلب، منه أن موسكو “لن تدعم الاتفاق بين الوحدات والجيش، بل إن تنفيذ هذا الاتفاق خطوة خطرة جداً.” كما أنه تطبيق فعلي لما سمعه حمو من رئيس الأركان الروسي في موسكو عشية بدء عملية «غضن الزيتون» من أن لتركيا “الحق في الدفاع عن أمنها القومي”، وأن الجيش الروسي “لن يعرقل استخدام الطائرات التركية في الهجوم على عفرين.”

وهذا لا يعني أن النظام كان راغباً أو متحمساً أو لديه القدرة العسكرية للدخول إلى عفرين ووضعها تحت سيطرته الكلية وحمايتها بالتالي من العدوان التركي والدخول في مواجهة خطيرة مع الجيش التركي، على افتراض أن تركيا كانت ستحجم عن غزو المنطقة لو كانت تحت سيطرة الحكومة السورية المركزية. صحيح أن النظام أيضاً يريد (تأديب) الأكراد إلا أنه بنفس الوقت يُقدّر خطورة تقدم مسلحي المعارضة مجدداً نحو مدينة حلب بعد أن كاد يخسر مدينة حلب بالكامل بكل مكانتها وثقلها بالإضافة لريفها الشمالي ولم يتمكن من استعادتها إلا بمساعدة الطيران الروسي جواً والمشاركة الإيرانية براً. وكان بالإمكان أن يُقدّم الجيش النظامي السوري مساهمةً عسكريةً متطورةً من حيث العتاد ويبقى المقاتلون الأكراد هم القوة الأساسية في الميدان، بيدَ أن الأمر لم يكن بهذه البساطة. فقد أسرّ لي مصدرٌ موثوق شارك في المفاوضات مع الروس قُبيل بدء العدوان على عفرين، أنّ الجانب الروسيّ كان واضحاً في مطالبه التعجيزية للإدارة الذاتية، التي تمثلت برفض مناقشة الوضع في عفرين بمعزل عن جميع مناطق الإدارة الذاتية في شمال سوريا، كما طلبوا منهم فكّ الارتباط كلياً مع قوات الولايات المتحدة المتواجدة في شرق الفرات، والاندراج في الأجندة الروسية المناهضة للنفوذ الأمريكي في سوريا، وأن يكون بترول المنطقة الشرقية من حصة الروس، وبعد تلبية هذه الشروط يمكن مناقشة وضع عفرين!

بالطبع لم يكن ممكناً للجانب الكردي تلبية هذه المطالب والاشتراطات الروسية حتى لو أراد. وبالفعل أوضح سير المفاوضات بعد بدء العدوان على عفرين حقيقة الموقف الروسي هذا، فتلك المطالب لم تكن سوى محاولةٍ من الروس لوضع اللوم على الإدارة الذاتية فيما كانت الصفقة الروسية التركية حول عفرين قد أبرمت وتنتظر التنفيذ على الأرض. وباءت كافة محاولات إدارة كانتون عفرين مع النظام والجيش النظامي بالفشل نتيجة صلابة الموقف الروسي. وأثناء الحملة أخبر الضباط الروس المتواجدون في سوريا قيادات الوحدات الكردية أن قضية عفرين بيد الرئيس الروسي بوتين حصراً، وليس قاعدة “حميميم” العسكرية الروسية في سوريا.  وكلّما توصلت الإدارة الذاتية إلى اتفاقٍ مع الجيش النظامي، تدخل الروس لإجهاض الاتفاق. في المحصلة، وبعد مرور أكثر من شهر على العدوان التركي، تمكنت دمشق من الإفلات من الموقف الروسي الصارم بإرسال “وحداتٍ شعبيةٍ ” رديفة للجيش النظامي بدلاً من الوحدات النظامية، لكنها كانت قليلة العدد والعتاد ومن دون مضاداتٍ للطيران التركيّ. وحتى حينما تعرّض هؤلاء لغارةٍ جويةٍ تركيةٍ في معسكر “كفر جنة”  على مشارف عفرين في منطقةٍ خاضعة للنفوذ الحكومي والروسي ويرتفع فوقها العلم السوري الرسمي وقتل منها ما لا يقل عن 36 مقاتلاً دفعة واحدة،  لم تستطع دمشق إعلاء صوتها وتقديم بيان احتجاجٍ رسميٍ على القصف التركي. ولا يستبعد أن يكون قصف الموقع قد تمّ بعلم الروس. وفي دلالةٍ على أنّ تركيا مصمّمة على احتلال جميع الأراضي التابعة لمنطقة عفرين بغضّ النظر عما إذا كانت تحت سيطرة الوحدات الكردية أو الجيش النظامي السوري، كان هناك عشرات القرى الكردية التابعة جنوب منطقة عفرين قد سُلّمت للجيش النظامي ورفع فوقها العلم السوري وذات تواجد روسي بعد انسحابٍ كاملٍ للوحدات من منطقة عفرين، ورغم ذلك قصفت تركيا المواقع العسكرية هناك وأجبرت وحدات الجيش السوري على الانسحاب منها، لتحتل أراضي منطقة عفرين بالكامل بقراها ومركزها. وتتبع الحكومة التركية حالياً  نفس السياسة الآن مع مدينة “تل رفعت” العربية المجاورة، رغم أنّها واقعة رسمياً تحت سيطرة الجيش النظامي السوري بعد انسحاب وحدات الحماية وجيش الثوار(المتحالفين في إطار “قوات سورية الديمقراطية”) منها.

ومن المرجح أنّ هناك اتفاقاً روسياً-تركياً بخصوص هذه المدينة أيضاً، لذا من غير المستغرب أن تتنازل روسيا عن هذه المدينة أيضاً لتركيا. وهناك ممانعة إيرانية سورية قوية حتى الآن لهذا الاتفاق التركي الروسي بخصوص ” تل رفعت”. والمفارقة هنا أنّ من طرد قوات المعارضة السورية المسلحة من “تل رفعت” وجوارها وهجّر أهلها وسمح لفصيل” جيش الثوار” المتحالف مع الوحدات الكردية في إطار (قسد) بالسيطرة عليها، لم يكن سوى الطيران الروسي نفسه في شباط 2016، والآن تسمح روسيا  لنفس الفصائل بالعودة والتمدد واحتلال منطقة عفرين، كمرافقين للجيش التركي.

أرادت روسيا بفسحها المجال الجوي لتركيا الانتقام من تحالف الوحدات الكردية مع الولايات المتحدة شرق الفرات، رغم أن الوحدات الكردية تعاونت مع روسيا أيضاً في حلب وريفها وهناك نقاط عسكرية روسية في مناطق سيطرة الوحدات في حلب. وقبل بدء الحملة العسكرية التركية التي أطلق عليها عملية “غصن الزيتون”، كان هناك نقطة عسكرية روسية في مدخل عفرين أخلاها العسكريون الروس قبيل الهجوم التركي.

اللاعبَان الأساسيان في سوريا إذاً الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية يتصارعان على كسب تركيا. فالولايات المتحدة في طور تحسين علاقتها مع تركيا، الحليف التاريخي والقوي في حلف الأطلسي (الناتو)، بعد تدهورها إثر اتهامات لغولن المقيم في الولايات المتحدة بالتخطيط للانقلاب. كما تعمل روسيا على كسب تركيا في صراعها مع الغرب والناتو ومن أجل أجندتها في سوريا (إدلب والغوطة للنظام وروسيا مقابل عفرين لتركيا)، ولأجل مصالح اقتصادية خارج سوريا (في مجال الطاقة خصوصاً) وصفقات تسليح بينهما (صفقة بيع المنظومة الدفاعية الصاروخية الروسيةS400   لتركيا).

أما الإيرانيون، اللاعب الثاني النافذ في سوريا والداعم للنظام السوري، فله تفاهماته العديدة مع تركيا حول الملف الكردي تحديداً وقد تجلى ذلك بوضوح في مواجهة استفتاء كردستان العراق العام الفائت. وبالنسبة لللاعب الإيراني، فلا يشكل الشمال السوري أولوية له ومنهمك بمناطق أخرى. ورغم ذلك ونظراً لحساسية موقع عفرين وقربها من حلب وتحديداً بلدتي النبل والزهراء، اللتان ينحدر سكانهما من الطائفة الشيعيّة، ومخاوف الإيرانيين من تهديدات مسلّحي المعارضة السورية المدعومة من أنقرة، فإنه من المحتمل بأنّ الوحدات الشعبية الرديفة للجيش النظامي، وهم في غالبيتهم من أبناء البلدتين المذكورتين أعلاه، قد شاركت في مقاومة عفرين بموافقة من الضباط الإيرانيين في سوريا. هذا وقد سبق أن خضعت البلدتان لحصارٍ من قبل المعارضة وقامت الوحدات الكردية في عفرين بالتخفيف منه، ونالت بسبب ذلك غضباً إضافياً من فصائل المعارضة المسلّحة.

لكنّ صرامة الموقف التركي حيال أي دعمٍ للمقاتلين الأكراد في عفرين، والتفاهمات المسبقة بين تركيا وإيران، أجبرت مقاتلي الوحدات الشعبية الرديفة إلى الانسحاب سريعاً من عفرين والعودة لمحيط بلدتي نبل والزهراء. ومن المرجّح أن تركيا قد تعهدت لإيران وروسيا بعدم اقتراب مسلحي المعارضة السورية من البلدتين.

هكذا أساءت الإدارة الذاتية تقدير الموقف وتعقيداته باعتتقادها أنه بوسعها التنسيق مع أطرافٍ مختلفةٍ ومتنافسةٍ ولاعبين كبار في سوريا (أمريكا في منبج وشرق الفرات، وروسيا في حلب وعفرين)، فأصبحت ضحية صراعات الطرفين من جهة، ومصالح كل لاعبٍ مع تركيا من جهةٍ أخرى. كما أثّر التوتر الأمريكي-الروسي بحدّةٍ على الموقف إزاء الحملة التركية على عفرين، فعدا الأسباب الخاصة بكلا الدولتين، حصلت مواجهة كبيرة بين الطرفين أثناء الحملة التركية الأمر الذي منع أي تفاهم بينهما في سوريا يمكن أن يحدّ من الهجوم التركي على طرفٍ يمكن أن يُعتبر حليفاً للإثنين، أو يوقفه عند حد معين .نعني هنا حادثة يوم 7 شباط/ فبراير 2018 في ديرالزور حين قتلت القوات الأمريكية المئات من جنود روس من شركة أمنية خاصة تُعرف بـ “فاغنر” وهي مقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،  وكانوا بمهمة مساندة للجيش السوري هناك، الأمر الذي اعتبر بمثابة أول مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا بهذا الحجم ينجم عنها قتلى، ولم يحصل لها مثيل في أوج الحرب الباردة.

بعيداً عن البروباغندا الروسية التي ردّدت مراراً شعار “حماية الدولة السورية” من التفتت والتقسيم كأحد أبرز أهداف تدخلها العسكري المباشر في سوريا في 2015، فها هي تُسلّم مناطق سورية عديدة في شمال سوريا لتركيا، كما تفسح المجال لإسرائيل لتضرب مواقع حكومية سورية أو مواقع إيرانية/حزب الله ضمن الأراضي السورية، وهذا موضوع آخر خارج إطار البحث. وكما تنازلت روسيا عن مناطق جرابلس وإعزاز والباب في شمال سوريا لتركيا، تنازلت أيضاً عن منطقة “عفرين”. ويمكن مقارنة السلوك الروسي، الذي  تدخل في الصراع بناءاً على تفويضٍ رسمي من حكومة الدولة السورية ليقيم قاعدةً على أراضيها بموجب اتفاقٍ عسكريٍ أشبه بانتداب ٍغير مقونن، بسلوك فرنسا إبان انتدابها على سوريا حين أعطت لواء اسكندرون لتركيا في ثلاثينات القرن الماضي. لكن بعد تملّص الانتداب الفرنسي من “التزاماته” كانت هناك نقاشاتٌ وجلساتٌ مطولة في عصبة الأمم، وكانت بعض القيادات السورية تناقش وتطالب بحقوقِ سورية الوطنية مستندةً إلى ما ورد في صك الانتداب لجهة عدم جواز التخلي عن أراضي الدولة المنتدبة من قبل الانتداب لأي دولة أخرى. أما الآن فإن روسيا وإيران تقرران نيابة عن الحكومة في دمشق الكثير من القرارات السيادية والمصيرية. ولا نقاشات في الأمم المتحدة وهيئاتها عن هذا الانتهاك الصارخ لسيادة الدولة السورية المنتهكة من عدة دول (أمريكا، روسيا، تركيا، إيران، إسرائيل) ولا صكوك انتداب!

على ماذا كانت تراهن المقاومة في عفرين إذاً؟

كانت  المقاومة تراهن  بقوّة على تحصيناتها القوية في محيط منطقة عفرين، تلك التحصينات التي تمكنت بفضلها الوحدات الكردية من صدّ المحاولات المتكررة لاقتحام عفرين من قبل الفصائل الإسلامية وحلفائها المدعومة من أنقرة في محيط عفرين، وأنّ المقاومة على الأرض ستغيّر المواقف الدولية بالتدريج ، وأنّ المخطط التركي قد يتوقف بعد تحقيق تركيا لحزامٍ أمنيٍ على امتداد حدودها دون التوغّل في العمق، وكانت بعض التصريحات التركية نفسها تلمح إلى ذلك، وأنّ الولايات المتحدة بوصفها حليفةً للقوات الكردية في شرق الفرات خلال المعارك ضد تنظيم داعش (الدولة الإسلامية) لن تقف متفرجة على سحق تركيا لحلفائها في عفرين، وأنها ستمارس ضغوطاً من نوع ما لوقف العدوان. كما كانت هناك مراهنة على أنّ النظام في دمشق قد يتخذ موقفاً عملياً داعماً بالتدريج، أو أنّ المجتمع الدولي سيتخذ موقفاً يُجبر تركيا على التراجع أو وقف التوغل، أو أنّ الداخل التركي-الكردي نفسه قد يتحرك (عبر تنظيم مظاهراتٍ شعبيةٍ، أو عملياتٍ نوعيةٍ لحزب العمال الكردستاني) لنصرة عفرين ليجبر الحكومة التركية على التراجع. لا تتوافر معلومات فيما إذا كان هناك مراهناتٌ على وعودٍ من أطرافٍ ودولٍ بتزويد المقاومة سرّاً بأسلحةٍ متطورةٍ (صواريخ مضادة للطيران مثلاً).

المقاومة أو الترحيب بالغزو؟

كان من البديهي ألّا يحظى هذا الهجوم بأي ترحيٍب من قبل السكان والقوى السياسية والفعاليات الاجتماعية في المنطقة، وكان من المشروع تماماً أن يبادر شباب وبنات عفرين إلى الدفاع عن أرضهم وأهلهم في وجه عدوانٍ خارجيٍ وغزوٍ يستهدفهم ولا يخفي غاياته في ضرب استقرار وأمن منطقة عفرين وسكّانها، ويضمر تهديداً لوجود الأكراد وحقوقهم المشروعة في سوريا والمنطقة.  

كان أمام القيادات الكردية في عفرين خياران لا غير بعد تصميم الحكومة التركية على عدوانها وانسداد جميع الحلول السياسية والدبلوماسية مع الجانب الروسي وتلكؤ الجانب الحكومي السوري وتردّده. الأول هو الترحيب بالجيش التركي، الذي لا يُخفي أهدافه العدوانية والعنصرية، واستقباله بالورود، وهذه كانت ستسجل كواقعةٍ سوداء في تاريخ القوى السياسية والاجتماعية في عفرين. ولم يكن ممكناً لأي جهة كردية أن ترضى بهذا الموقف الذي لا يُغفَر تاريخياً، سيما وأنّ وحدات الحماية الشعبية كانت قد حصّنت منطقة عفرين عسكرياً بشكل جيد تحسّباً لهذا اليوم المتوقع وكانت القيادات الكردية تدرك أن المخطط التركي واسع جداً ويتجاوز عفرين، والمعركة تستحق أن تُخاض بكل الإمكانات لوقف المخطط في عفرين.  فكان الخيار الثاني وهو ممارسة حقّ الدفاع المشروع عن النفس ضد غزوٍ خارجي غير مشروع. بهذا لم يمارس أهل عفرين سوى حقهم المشروع والمبدئيّ في ردّ العدوان الخارجي وغير المشروع بكافة المعايير الحقوقية والإنسانية، وليسوا السبب في إطلاق العدوان وشنّ الحرب، بل كانوا هدفاً وضحايا لحرب ظالمة عدوانية من خارج الحدود.

في الواقع كانت التحصينات العسكرية في محيط منطقة عفرين على التلال والمرتفعات (أنفاق طويلة مفتوحة على بعضها في مناطق جبلية صعبة ووعرة، وخنادق عسكرية) مُحكمةً للغاية، وقد جرى التحضير جيداً في السنوات السابقة لهذا الهجوم المتوقع. وقد تكرّر على لسان القوات التركية والجماعات السورية المهاجمة أنها تحصينات هندسية عسكرية متطورة جداً لا يمكن أن تقوم بها إلا دول وليس ميليشيات وأحزاب. بالمقارنة مع أنفاق غزة مثلاً يقول تقرير: ” وبينما يجري الحديث عن أنفاق في غزة بطول كيلومترات عدة وبعمق يتراوح بين 10 إلى 30 متراً تحت الأرض، تتحدث المصادر التركية عن أنفاق موصولة بعمق وصل إلى 150 متراً وبطول وصل إلى عشرات الكيلومترات، غطيت جميعها بالإسمنت المسلح، يتسع عرض بعضها لدخول شاحنة كاملة في داخلها، لتكون بذلك أشبه بمدينة كبيرة أخرى بنيت أسفل عفرين.”

لكن الطيران الحربي التركي وطائرات المراقبة التي لم تفارق سماء المنطقة والتقنية العالية الحديثة للقوات التركية لم تترك مجالاً فعلياً لأية مواجهات بريّة مباشرة. وسلاح الجو التركي يعدّ الأكثر تطوراً في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية. أعلن وزير الدفاع التركي والصحافة التركية عن أسلحة حديثة في معركة عفرين تستخدم لأول مرة من قبل الجيش التركي، منها طائرة تجسس بدون طيار (درون) صغيرة للغاية بحجم أكبر قليلاً من “النحلة” (تسمى بطائرة النحلة) تستطيع كشف المخابئ والكهوف في التلال والجبال ولا تصدر أصواتاً وغير قابلة للكشف، كما تستطيع التحليق والتصوير لعدة أيام. وهذه الطائرات الحديثة أمريكية في الأصل، تعتمد تقنية النانو، وتٌغير مسارها دون أن ترتطم بأي عائق.

أما الوحدات الكردية فاعتمدت على تكتيك الانسحاب والكمائن والتفخيخ ومضادات الدروع. وقد قالت لي مصادر في الوحدات الكردية أنه لشدة القصف الجوي والمراقبة الجوية لم تتمكن المقاومة من استخدام ما لديها من أسلحة خفيفة ومتوسطة، ففي معظم الأحيان ما إن يُوضع صاروخ على منصةٍ أو عربة إطلاقٍ أو يتحرك مقاتلون من الكهوف تسبقهم ضربة جوية بفعل المراقبة الجوية الحثيثة. وكانت خسائر القوات المدافعة في غالبيتها العظمى عن طريق القصف الجوي والمدفعي من بعيد وليست الاشتباكات المباشرة. ورغم غياب التوازن العسكري لصالح الجيش التركي، فقد وقعت خسائر غير قليلة في صفوف القوات المهاجمة، بينهم عشرات الجنود والضباط من القوات الخاصة التركية عبر كمائن، وأعلنت تركيا عن إسقاط مروحية هجومية تركية في عفرين ومقتل طاقمها.

حظيت مقاومة وحدات حماية الشعب YPG ووحدات حماية المرأة  YPJوحلفائها من قوات سورية الديمقراطية ( قسد) بالتفافٍ شعبيّ منقطع النظير وبمساندة أبناء عفرين الذين تطوعوا في صفوف المقاومة أو قدّموا المساعدة في الخطوط الخلفية وأعمال الإغاثة والدعم الطبي والإعلامي. وعلى مدار 58 يوماً تكبّدت القوات المهاجمة خسائر كبيرة قياساً لفارق التقنية والتسليح. وقد عبّرت المقاومة الميدانية والاحتضان الشعبي عن رفضٍ للعدوان وعن وحدة حال بين أهل عفرين بجميع توجهاتهم وتضامناً بين الأكراد ورافضي العدوان والغزو من المواطنين العرب والسريان من منطقة “منبج” وحتى منطقة “ديرك” في أقصى الشمال الشرقي السوري، وكذلك الجاليات الكردية في الخارج والمهجر، وأكراد تركيا والعراق وإيران.

بعد انهيار الدفاعات الأمامية للمقاومة بعد أكثر من شهر تقريباً من الهجوم، تقدّمت القوات التركية وحلفائها من كتائب المعارضة المسلحة السورية بشكلٍ متسارع ٍ وباشرت حصارها لمركز مدينة عفرين وقطعت المياه بعد استهداف سد بحيرة “ميدانكي.” كما اشتدّ القصف المُركز على المدنيين فيها الأمر الذي أسفر عن وقوع الكثير من الضحايا في يومي 16-17/3/2018 واستهدافٍ للمشافي والمرافق المدنية والخدميّة الأمر الذي اضطر المقاومة لاتخاذ قرارٍ مؤلمٍ، لا يقل شجاعة عن قرار الدفاع، وهو الانسحاب من المدينة لتجنيب المدينة المكتظة بما يزيد عن نصف مليون إنسان مصيراً مأساوياً، سيما وأنّ الميزان العسكري كان لصالح الجيش التركي بفارق ٍلا يقارن، وكان هناك صمتٌ دوليٌ كامل أعطى مزيداً من التشجيع لتركيا للمضي بمشروعها الاحتلالي.

ما اعتمده الجانب الكردي في عفرين منذ لحظة بدء العدوان حتى احتلال مركز المدينة كان حصيلة الموازنة بين ممارسة حقٍ مشروعٍ بالدفاع عن النفس والممكنات والحسابات المتأتية من استمرار المقاومة في معركة مدينة عفرين-المركز في ظل موازين القوى العسكرية والسياسية وتصاعد وحشية القصف التركي على المراكز المدنية. ورغم ذلك فقد سيطر الارتباك والتشوش على موقف وحدات الحماية وإدارة كانتون عفرين في الأيام الأخيرة للمقاومة، الأمر نجم عنه تخبط في إدارة الأزمة وعدم مصارحة الأهالي بقرار الانسحاب الذي اتخذ شكل الانهيار وليس الانسحاب المدروس، مما أدى الى حالة سخط بين الأهالي بسبب تلك الطريقة الغامضة، والتي بدت وكأنّ مسؤولي الإدارة في عفرين تركوا الأهالي لمصيرهم لا يعرفون ماذا يفعلون، خاصةّ وأنّ الحواجز الأمنية للإدارة كانت تمنع خروج السكان من المدينة في الأيام السابقة، بحسب بعض التقارير والمصادر.

خريطة رقم ٢: تُظهر الوضع في شمال غرب سوريا حتى تاريخ ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٨ [المصدر مركز كارتر]

المأساة الإنسانيّة في عفرين تتحملها دولة الاحتلال التركي

سقط نتيجة هذا العدوان مئات الضحايا بين المدنيين بين شهداء وجرحى بينهم أطفال ونساء وشيوخ وكذلك بين صفوف المقاومين. وبحسب المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يانز لاركي فقد نزح ما لا يقل عن  167 ألف شخص جراء الأعمال العدائية باتجاه أطراف منطقة عفرين المتاخمة لمدينتي نبل والزهراء وتل رفعت في ريف حلب  الشمالي وفي ظروف صعبة وقاسية للغاية. حيث منعتهم مثلاً حواجز النظام من التوجه إلى مدينة حلب حيث يملك الكثير منهم منازل هناك، إلا بدفع رشوة تبلغ حوالي ألف دولار للشخص الواحد ولا يملك هذا المبلغ الضخم إلا عددٌ محدود جداً من النازحين.

وقعت مدينة عفرين ونواحيها وقراها (نحو 400 قرية) تحت الاحتلال التركي المباشر ورُفعت فيها الأعلام التركية والأناشيد القومية التركية. أما الجهاديون السوريون (وهم مكون أساسي بين الكتائب المسلحة السورية المرافقة للجيش التركي تحت ستار اسمٍ جديد “الجيش الوطني السوري”) فيواصلون التعامل مع سكان عفرين المتنوعين عقائدياً والمتعايشين بسلام وهدوء ودون تمييز  كـ” ملاحدة وكفار،” ويعبثون بالرموز الدينية العائدة للكرد الإيزديين ويستهترون بهم وعقيدتهم، ويختبرون إيمان الناس علناً في الشوارع بالسؤال عن عدد الركعات في كل صلاة، لمعرفة فيما إذا كان الشخص ملتزماً دينياً أم لا ، كما ظهر في فيديوات بثها مقاتلو المعارضة أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه ظاهرة شاذة عند أهل المنطقة وتشكل تهديداً مباشراً للنسيج الاجتماعي المتآلف والمتعايش في منطقة عفرين الذي تميّز بغياب التوترات الإثنية والدينية والطائفية ونمطٍ متسامحٍ إزاء التعبيرات الدينية المختلفة. ومن المرجح بأن يؤثر نمط السلطة الجديد على هذا النموذج الاجتماعي المنفتح والمندمج على المدى البعيد.

سبقت الحملة العسكرية على عفرين حملة مكثفة موازية بين أوساط المعارضة السورية في إعلامها تتهم وحدات الحماية وحزب الاتحاد الديمقراطي بالعلمانية الحاقدة أو إلالحاد والكفر…والشيوعية!3  وتبرعت أوساط كرديّة وعلمانيّة باتهام قياداتها بأنها “عَلويّة “! كما روجت بعض وسائل الإعلام المعارضة أنّ إدارة “صالح مسلم الذاتي” تغازل الأسد وتفتتح مركزاً للعلويين في عفرين كما ورد في أحد تقارير الأورينت المعارضة.

كما أصبحت مدينة عفرين منذ اللحظة الأولى لاحتلالها ( 18/3/2018) مدينةً مفتوحةً لنهبٍ منظّمٍ ومقصودٍ من قبل المئات من مقاتلي المعارضة الذين ارتضوا العمل تحت راية العلم التركي بحيث لم يتركوا منزلاً أو محلاً تجارياً أو مسجداً إلاّ ونهبوه تماماً.4

في الواقع فإنّ كافة الفصائل المسلحة في سوريا دون استثناء مارست النهب والسرقة عند سيطرتها على أي منطقة، لكنها فاقت جميع التصورات في حالة عفرين بسبب التحشيد الديني ضد المنطقة من قبل الجهات السورية المدعومة من أنقرة بإطلاق أوصاف تكفيرية على أهل عفرين واستباحة دمائهم وممتلكاتهم بموجب فتاوى معلنة وأخرى غير معلنة. فمثلاً أصدر “المجلس الإسلامي السوري” المعارض ومقره اسطنبول، فتوىً مؤيدة للعمليات العسكرية التركي بتاريخ 26  شباط /فبراير2018 واصفاً قتال “قوات سورية الديمقراطية” بالجهاد في سبيل الله، وتضمنت الفتوى حديثاً عن “الغنائم.”  

وفي أعقاب احتلال مركز مدينة عفرين هُدم نصب تذكاري للشخصية الأسطورية ” كاوا الحداد” القائم في مدخل المدينة في مشهد احتفالي كبير، وهو رمز للشعوب المحتفلة بالنوروز ومنهم الكرد، الذين يشغل عندهم شخصية كاوا معنى نضاليّاً ضد الطغيان ورمزاً للحرية. كما تم حرق جميع الرموز والأعلام الكردية والدوس عليها بصرف النظر لأي حزب أو جهة تعود. و يبدو جلياً سلوك الانتقام من خصوصية المنطقة الإثنية في ممارسات الجيش التركي والفصائل السورية التي تقاتل معه في عفرين.

منذ 18  آذار 2018، أصبحت منطقة عفرين تحت الاحتلال التركي المباشر الذي خرق الحدود الدولية مع  سوريا، وخرق القانون الدولي، وهجّر أهل عفرين من قراهم ومدنهم الآمنة التي كانت تحتضن عشرات الآلاف من النازحين (العرب) من ريف حلب وإدلب، و أشعل فتنة بين الكرد والعرب المتآخين في مناطق شمال سوريا، هذا بالإضافة لجرائم واسعة ارتكبت بحق المدنيين من أهالي منطقة عفرين منذ بدء العدوان، وتخريب وتدمير للبنية التحتية، سيما في بلدتي جنديرس وراجو، ومنشآتٍ خدميةٍ كثيرة ومواقع أثرية عديدة كمعبد عين دارة الشهير وموقع براد الأثري (الذي يضم ضريح مار مارون) والمسجل على لائحة مواقع التراث العالمي (اليونيسكو) منذ عام 2011.

يتعيّن على كرد سوريا وجميع السوريين المعارضين للاحتلال التركي وأنصار السلم والديمقراطية ومناهضي الفاشية حول العالم، العمل المكثّف مع هيئات الأمم المتحدة والدول ذات النفوذ في الأزمة السورية لإعادة النازحين والمهجرين من مناطق عفرين وضمان عودة آمنة وسريعة وكريمة إلى قراهم وبلداتهم وتقديم مساعدات إغاثية وطبية عاجلة لجميع الأهالي، ومنع أي تغييرٍ ديمغرافي أو إخلالٍ بالتركيبة السكانية قد تمارسه تركيا أو الجماعات السورية المؤتمرة بأمرها تحت أي حجج. ما هو مؤكد على المدى القريب، أنّ العودة إلى عفرين غير ممكنة حالياً بالنسبة للعديد من السكان الذين شاركوا في الإدارة السابقة في كافة قطاعاتها العسكرية والأمنية والخدمية والصحية والإعلامية والتعليمية، وعوائل شهداء المقاومة ومناصري حزب الاتحاد الديمقراطي وقيادات القوى السياسية والاجتماعية التي تعاونت مع الإدارة السابقة وعارضت الاحتلال أو آزرت المقاومة بأي شكل من الأشكال. نتحدث إذاً عن مئات العوائل العفرينية الممنوعة من العودة.

وبالتوازي مع هذا المحور الإنساني الملح والعاجل ينبغي العمل على المسار القانوني بالعمل على تثبيت صفة الاحتلال على الوجود التركي في عفرين والتصرّف بموجب ذلك، أي الدعوة للخروج الفوري للقوات الأجنبية ومن رافقها إلى خارج الحدود الدولية السابقة للعدوان، وتحميل الدولة التركية مسؤولية المنطقة دون أن تكتسب صفة السيادة على هذا الجزء المقتطع من أراضي الدولة السورية، لأنها أصبحت فعلياً تحت سيطرة الجيش التركي ورفع العلم التركي في كثير من المقرات والمباني الإدارية. وبالتالي تتحمل حكومة أنقرة كامل المسؤولية وفق القانون الإنساني الدولي.  وحتى جلاء هذه القوات عن أرض عفرين وعودتها إلى أهلها تحت السيادة السورية، فإنّ تركيا مسؤولة عن كافة الجرائم والانتهاكات والأضرار التي وقعت منذ بدء حملتها العسكرية في 20 كانون الثاني الماضي. وواجبات سلطة الاحتلال محددة بشكل واضح في لائحة لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة بالإضافة إلى بعض أحكام البروتوكول الإضافي الأول والقانون الدولي الإنساني العرفي، وسوى ذلك من مواثيق وقوانين دولية ذات صلة.

الهوامش:
1- بحسب الباحث محمد عبدو علي ” يشكل الأكراد غالبية السكان في منطقة عفرين، وهم يقطنونها منذ القدم، ولم يشاركهم أحد في استيطانهم لها على مدى قرون عديدة وحتى القرن التاسع عش، وهي تتوزع على سبع نواح، يشكل الأكراد في خمس منها نسبة تقارب 100 %، وهي نواحي: شيخ الحديد، راجو، بلبل، شران، معبطلي. أما العرب والفئات الأخرى القاطنة في المنطقة فينحصر وجودهم في ناحيتي “جنديرس والمركز – عفرين.” (جبل الكرد (عفرين): دراسة تاريخية اجتماعية توثيقية. المديرية العامة للصحافة والطبع والنشر. السليمانية. العراق. 2009، ص 161)
2تكررت مثل هذه المزاعم مراراً في جريدة “يني شفق” المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم وكتابات رئيس تحريرها إبراهيم قره غول خصوصاً. ففي مقابلة مع موقع تركيا الآن، صرّح قره غول “أنّ تركيا بقيامها بعملية تحرير “عفرين” قد أغلقت الطريق أمام ممرّ البحر الأبيض المتوسط، الذي يهدف الإرهابيّون إقامته” . وفي تسجيلٍ مصور أدلى نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم  Hamza Dağ بتصريحاتٍ مشابهة أن عملية عفرين اقتصادية أيضاً، وقطعت محاولات مد انبوب بترول بديل من اقليم كردستان عبر المناطق الكردية في سوريا إلى البحر المتوسط بدل المرور بتركيا.
3-هناك فتاوى عديدة لـ “المجلس الإسلامي السوري” المعارض بهذا الخصوص. انظر مثلاً الفتوى المعنونة بـ “حكم الإقامة في مناطق تحت حكم ميليشيات PYD” (10 حزيران /يونيو، 2016) حيث تصف القوات الكردية بالـ “ميليشيات PYD العلمانية الحاقدة.”  كذلك الفتوى الصادرة بتاريخ 31 أيار/مايو، 2016، بعنوان “حكم القتال بين تنظيم الدولة والميلشيات الكردية” والتي جاء فيها يرد فيها (بالنسبة للسؤال عن موقف المسلم من القتال الواقع بين تنظيم الدولة في الرقة والميليشيات الكردية العلمانية التي تتخذ من اسم قوات سورية الديمقراطية ستاراً لها، فإننا نرى أن كلا الفصيلين فاسد ومنحرف).
4-صرّح Bulent Kilic  وهو مصور تركي كان يغطي الوضع في عفرين لوكالة فرانس برس، التي نشرت صور السرقة والنهب في عفرين لشبكة سي إن إن CNN:
” عمليات النهب كانت واسعة النطاق ومنظّمة. المئات من مقاتلي المعارضة كانوا يركزون على النهب أكثر من الاحتفال بانتصارهم…كانوا ينهبون كل شيء؛ سلع وحيوانات وماعز وحتى طيور الحمام”.  وتابع قائلاً “كنت في مناطق حروب لسنوات عديدة. يحدث أن اثنان أو ثلاثة أشخاص ينهبون…لم ألاحظ الكثير بداية. ولكن بعد ذلك رأيت أنهم على عجلة من أمرهم لأخذ كل شيء من هذه المدينة “. وقال “إن بعض الكتائب صبغت أسماءها على متاجر معينة كأسلوب لحجز النهب في المستقبل. “…”سكان عفرين غاضبون من نطاق السطو ويحاول كثيرون العودة لحماية منازلهم ومتاجرهم.”
تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية
يوميات سورية: الأطفال والتسول

يوميات سورية: الأطفال والتسول

في كل البلاد جياعٌ ومتسولون، المشكلة تبدأ عندما يربط الجمهور مشكلة الجوع بتقصير الأفراد عن تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش فتتحول المسؤولية المباشرة من الجهات المسؤولة إلى من يحتاج الدعم، وتصير الفئات الأكثر ضعفاً مدانةً ومتهمةً فيزيد الحيف وتهرب الحلول.

عندما يتعامل الجميع مع الجوع والتسول وكأنهما متلازمتان قطعيتان يتداخل السبب والنتيجة في عمقٍ إقصائيٍ يُبرّر الهروب من مسؤولية التصدي للمشكلة بشكلٍ عميقٍ ومتوازن وليس من مجرد باب الإحصاء والأرقام والسخرية، بل إن دراساتٍ كثيرة يوافق عليها أغلب الجمهور تجعل من هؤلاء المستضعفين سبباً بارزاً للتخلف وتراجع جدوى الخطط الوطنية للنهوض بأحوال الأفراد .

على زاوية حديقة العدوي تقف طفلة متسولة، آثار خرمشةٍ قاطعةٍ ونازفةٍ على رقبتها، بشعرٍ صبيانيٍ وعيونٍ شبه ميتة وبنطالٍ مهترئٍ وجاكيت رياضية تشد على تفاصيل جسدها الأنثوي. أسألها عن اسمها؟ فتقول “أحمد” وتشد سترتها الضيقة لتخفي ظلال برعمين يتفتحان على صدرها، هكذا طلب منها والدها: “أن تقدّم نفسها كصبيٍ درءاً للتحرش”! من قال أن التحرّش بالصبية نادر، فهو متفشٍ وبغزارة دنيئة لا تفرّق بين جسدٍ وآخر إلا بغريزة الفريسة والمفترس.

***

على باب أحد المولات الكبيرة في حيٍ غني وآمنٍ تمنح إحدى السيدات سُكرةً طريةً لطفلةٍ بعمر السنتين بحضن أمها المتسولة وبجانبها أختها ذات الأعوام الأربعة. السكرة كبيرة الحجم على الفم الطفولي، تسقط منه مبللةً بلعابٍ مشتاقٍ لنكهة السكر، فتغتنم الطفلة الأكبر فرصة السقوط وتلتقطها معفرة بالتراب وتدسها في فمٍ يتسع لها ويستطعم بنكهتها. تبكي الأصغر، تضرب الأم الابنة الكبرى ضربة قوية على ظهرها، تخرج السكرة من فمها. تبكي البنت وتقول: “والله كنت عم غسلها ياها من التراب!”

أجل ثمة اختناقٌ يحرمُ الفم الطفولي من التنعّم بقطعة حلوى، صراعُ حقوقٍ هنا، والكل خاسر، والأم غير عابئة بحزن الطفلتين ولا ببكائهما، تتركهما وتغيّر مكانها إلى الزاوية الأخرى فغلة اليوم خاوية حتى الآن.

***

يتلبس التسول ألف وجهٍ، باعة ُمحارمٍ عند إشارات المرور، ماسحو زجاج السيارات، باعة علكٍة وحمالون بأجسادٍ ضئيلة وظهور منحنية، تتفاوت الشفقة ما بين مانحٍ أو شاتمٍ للأهل أو للحرب والفقر معاً. وأكثر المظاهر تناقضا كشكلٍ احتياليٍ على التسول هو بيع الآيات القرآنية على إشارات المرور وعلى أبواب الحدائق والمولات الكبيرة. ذات مرة رفض متسولٌ صغير أجبروه على تلبّس حالة الإيمان خمسمائة ليرة دفعة كاملة من قبل سيدة فقط لأنها قالت “يا لطيف على هذا الاحتيال!” لابل لاحقها بشتائمه وقال لها “لا أريد نقوداً من كافرةٍ مثلك.”

في حيّ قريبٍ جداً اسمه “الرز”، يتجمع عددٌ كبيرٌ من المتسولين الأطفال لينطلقوا إلى عملهم اليومي، تقودهم تراتبية عالية الاحتراف. الزعيمة بحدود الخامسة عشرة أو أكثر بقليل من عمرها بكحلٍ أسودٍ في عينيها وبأساورٍ وخواتم معدنية في أصابعها ويديها، هي الصندوق  أو الخزنة بالمعنى الفعلي، تجلس جانبا تراقب الجميع وتحمل حقيبةً جلديةً تعلّقها على صدرها بشكل متصالبٍ كي تأمن من النشالين. تتلهى “الزعيمة” بدعوة بعض النساء المغمورات بالخيبة أو الهجران لقراءة الطالع والتحايل على أحزانهن ببعض الوعود الكاذبة لتحتفظ بغلّة التنجيم لها شخصيا بعيدا عن عيون الأكبر سناً والمراقبين والمحصلين ضمن البنية التراتبية ذاتها. بين المتسولين طفلة بجاكيتٍ جميلٍ، لكنها وحين تصل إلى ساحة العمل للبدء بالتسول، ترميه جانباً كما تخلع جوربيها وجزمتها لترتدي شحاطة بلاستيكية عتيقة توحي بالبرد وتثير الشفقة وتستدر العطاء من الجيوب.

***

يُحكى أنّ طفلتين متسولتين قد عبرتا بأسمالهما البالية وجسديهما النحيلين مكاناً أهله أغنياء، فنادتهما امرأة من شرفتها واعدةً إياهما بفطورٍ صباحيٍ غنيٍ ومشبعٍ وشهيٍ. صعدتا إلى الطابق الثامن في بناءٍ برجيٍ سيراً على الأقدام لأنهما تخشيان استعمال المصعد كما أنهما وحينما حاولتا استخدامه ذات مرة صفعهما ناطور البناء لأنهما غير جديرتين باستخدامه أصلاً. المهم وصلت الطفلتان إلى عتبة منزل السيدة المضيفة التي وقفت بانتظارهما مع ابنتها، لتقول لابنتها: “شفتي هيك يللي ما بياكول موز وما بيشرب حليب بيصير نحيف ووسخ وشحاد!”

***

على أبواب المشافي ثمة أطفال يحملون بأيديهم المرتجفة وصفاتٍ طبيةٍ وقد تكون محمولة بالمقلوب لجهلهم بالكتابة أصلاً. يثبتون الوصفة في  وجه العابرين مكررين ديباجة فارغة وكاذبة: “هادا الدوا لأمي، هي جوا بالمشفى وما معنا حق الدوا”. لا تحاول التدقيق في أسماء الأدوية فهي حكما ليست للحالة المذكورة، ولا تحاول تكذيب الرواية أو الاكتفاء بعبارة “الله يشفيها،” لأنك حينها ستتلقى صفعةً كلاميةً على شاكلة: “الله لا يعافيك، أو انشا الله بتمرض وما بتلاقي حق حبة دوا بجيبتك.” وقد تكون الرواية صحيحةً وحقيقيةً لكن فرص التأكد واهيةٌ جداً وما عليك سوى الدفع كي لا تقع في شراك الندم.

***

بالقرب من إحدى إشارات المرور وعند زاوية الرصيف طفلةٌ يافعةٌ وفي حضنها رضيعٌ يبكي، تسعى جاهدةً لإسكاته بدسّ اللهاية أو رضاعة الحليب في فمه لكنه لا يتوقف عن البكاء. تمطر فجأة، يشتد المشهد حلكة، لا الطفلة اليافعة مدربة بخبرة الأم للهرب أو النجاة ولا الجو الماطر يحتمل البقاء، تمنحها إحدى السيدات العابرات ألف ليرةٍ كاملة وتقول لها باكية: “هذه غلّة اليوم!خذي أخاكِ وانصرفي!” وتعقب “لم تعد قلوبنا تحتمل كل هذا الظلم،” لكنّ مرافقة السيدة تعترض بشدة على تصرفها وتحاججها بأنها بذلك تكرّس عملية استغلال الرضع لجني المال. أتركهما غارقتين في نقاشٍ بلا أدنى توافق، فكل التحليلات صحيحة لكنها دون جدوى، والحل لا يكمن في آلاف الليرات ولا في توفر التعاطف أو غيابه، القصة أكبر من مسألةٍ قابلةٍ للتحليل والتوصيف وحسب، هي نتاجٌ منسجمٌ ومتوافقٌ مع غياب كافة آليات الحماية للطفلات والأمهات والرجال من التسول. فآليات الحماية يجب أن تكون مجتمعية التوجه ومجتمعية المحصلة النهائية للحلول أو غيابها.

إنّ التعوّد البصري على الأعداد الكبيرة من المتسولين هي قضيةٌ مؤسفةٌ وتُعمّق جذور المشكلة، فالاعتياد بداية التجاهل، وبداية التجاهل هي بداية لوم الآخر (الأضعف)، وبداية لومه هي إعفاء للجميع من المسؤولية أفراداً ومؤسساتٍ وحكوماتٍ.

جرّبتُ ذات يوم ٍأن أكون حكماً بين طفلين متسولين يتشاجران على أحقيتهما بسيارة سباقٍ معدنيةٍ صغيرةٍ سوداء اللون، لكن عبثاً. بل نابني بعض الشتائم وركلة ودعوات للانصراف من قبل الحاضرين حفاظاً على سلامتي الشخصية واصفين عملي بالحالم والأحمق.

***

تتعرّف إلى المتسول الجائع فوراً من طريقة تعامله مع السندويشة أو الفطيرة التي تمنحها له، لكن ماذا أنت بفاعل إن قال  لك: “بدّي كمان لأختي! أو لأمي.”ّ

موجودون بكثرة، ينامون من شدة التعب والجوع، يتشاجرون، ينشلون ويسرقون، ويتلقون الصفعات والشتائم كما الليرات وسقط الطعام أو المتاع.

المتسولون الأطفال أكبر من مشكلة وأقل من خطة للمعالجة أو التجاوز نحو الخطوة التالية ،لا خطواتٌ  تلوح في الأفق، لا خطط ولا إحصاءات، مجرد ترحيل للأزمة كما كل التدابير، والكلام أقل من أن يكون ذا معنى، هذا عن الكلام أما الأفعال فغائبة تماما كما كل الآمال.

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

مع سيطرة الجيش السوري على أغلب مساحة الغوطة الشرقية بعد خروج فصيلي ”أحرار الشام“ من حرستا، و“فيلق الرحمن“ من زملكا وجوبر وحزة وعربين، وهي المناطق التي بقيت تحت سيطرته في القطاع الأوسط، أصبح واضحاً بأن الوجود المسلح لفصائل المعارضة السورية أصبح محسوماً في تلك المنطقة، والتي شهدت أعنف حملة عسكرية عليها منذ بداية حصارها في نهاية عام ٢٠١٢.

لكن يبقى السؤال الأهم، ما هو مصير فصيل ”جيش الإسلام“ المحاصر في مثلث دوما، وبعهدته ما يقارب ١٤٠ ألف مدني؟

بدأت مفاوضات جيش الإسلام مع الجانب الروسي منذ بداية الحملة العسكرية على الغوطة في منتصف شباط ٢٠١٨، ومع استمرار تقدم الجيش السوري في مزارع الغوطة، من الناحية الشرقية، حيث الخاصرة الرخوة للمحاصرين، ثم محاصرة كل فصيل على حدة، بعد تراجعه إلى مركز سيطرته (جيش الاسلام في مدينة دوما مع امتداد حتى بلدة الريحان في الشمال الشرقي للغوطة، وأحرار الشام في مدينة حرستا، بينما تآكلت مناطق فيلق الرحمن وتصالحت مدنه مع ما فيها من مدنيين ومقاتلين مع النظام بشكل منفرد، وبالتالي أضحى محاصراً في مدن زملكا وجوبر وحزة وعربين) تقدَّم جيش الاسلام بعرض إلى الجانب الروسي، وكما رشح من بنود هذا العرض، والمحفوظة ضمن دائرة ضيقة في قيادته، أن يتحول جيش الإسلام إلى شرطة مدنية (بدل خدمة العلم الإلزامية في الجيش السوري) في مدينة دوما وما حولها، مع تسليم السلاح الثقيل، ودخول رمزي لمؤسسات الدولة، ورفع العلم السوري على الدوائر الحكومية، ودخول كتيبة شيشانية لتأمين المنطقة بدل دخول الجيش السوري وقوات النظام الرديفة.

ومع الحديث عن تواجد وساطة مصرية في دمشق تسعى للحفاظ على جيش الإسلام ومدينة دوما، كما تسرب من الصحافة، يبدو أن الجانب الروسي تعاطى بشكل ايجابي مع عرض جيش الإسلام في البداية، حيث دخلت المساعدات الإنسانية إلى مدينة دوما وحدها دون غيرها عدة مرات، وخرجت الكثير من الحالات المرضية والإصابات بالغة الخطورة من داخل مدينة دوما لتلقي العلاج في العاصمة دمشق، وأيضاً أعلن الجانب الروسي عن وقف إطلاق النار من جانب واحد على مدينة دوما فقط، وهذا أعطى جيش الإسلام قناعة بأنه يملك أوراق تفاوضية قوية ومختلفة عن فيلق الرحمن أو أحرار الشام، فهو لم يُخِل باتفاقية ”خفض التصعيد“ التي وقعها مع الجانب الروسي في ٢٢ تموز ٢٠١٧، على عكس فيلق الرحمن الذي ساند بشكل واضح أحرار الشام في معركة ”بأنهم ظلموا“ على إدارة المركبات في مدينة حرستا، ولم يقم أيضاً بقصف العاصمة دمشق كما كان يفعل سابقاً في مثل هذه الظروف، في حين أن فيلق الرحمن أمطرها بوابل من القذائف والصواريخ، مما أوقع العشرات من الإصابات والضحايا في صفوف المدنيين، وأيضاً يتباهى جيش الإسلام بأنه أول من حارب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”داعش“ وذلك بعد أشهر من إعلان التنظيم عن قيام دولة خلافته، حيث اقتلعه تماماً من الغوطة الشرقية وقضى على وجوده فيها، ثم قاتله في جنوب دمشق، وفي جبال القلمون بالتعاون مع قوات أحمد العبدو المحلية هناك، وكذلك حربه ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) حيث دخل مراكز قيادتها في ٢٨ نيسان ٢٠١٧ بعد أن قتل وأسر العديد من قادتها وعناصرها، ولولا تدخّل فيلق الرحمن المتأخّر لحماية من تبقى منهم، لكان أنهى وجودها بشكل كامل في الغوطة الشرقية.

لكن يبدو بأن الجانب الروسي كان يملك اليد العليا في إدارة المعركة على الأرض ومن خلال التفاوض أيضاً، فهو أعطى نوعاً من الاطمئنان لقادة جيش الإسلام في رده على مطالبهم، ومن ثم بعد أن دخل الجيش السوري إلى القطاع الأوسط وبدأت مدنه وبلداته تُصالح منفردة، ومع تحوّل صمود أحرار الشام في حرستا إلى تفاوض بفعل ضغط الأهالي، تغير موقف الجانب الروسي فجأة، وقيل بأنه انسحب من تعهداته التي قدمها لجيش الإسلام، وهذا ظهر واضحاً من خلال تصرفات جيش الإسلام الذي حاول التلويح بأوراق تفاوضية جديدة، فاستعمل منظومة صواريخ الأوسا (9K33 Osa منظومة قاذفة، تحمل ستة صواريخ دفاع جوي محمولة على سيارات نقل بستة عجلات، ومدمج بها رادار في سيارة واحدة، وكان جيش الإسلام قد استولى عليها من قاعدة دفاع جوي بالقرب من دمشق في نهاية ٢٠١٢) للمرة الأولى خلال هذه الحملة، وأطلق صاروخين اثنين في اتجاه مروحييتين للجيش السوري دون إصابة أي منهما، وذلك في ١٧ آذار الماضي، وأيضاً قام باستعراض لبعض دباباته في وسط دوما، ثم فتح معركتين في مساء اليوم التالي، واحدة باتجاه حرستا بالتعاون مع أحرار الشام فيها، حيث قيل بأنه تسلّم سلاحهم الثقيل قبل إبرام اتفاقهم النهائي مع النظام السوري، وأخرى أحرز من خلالها تقدماً في مزارع بلدة مسرابا، فعاد القصف من جديد على مدينة دوما موقعاً العديد من الضحايا، وكان أشدها في ٢٣ آذار حين تم قصف المدينة بالنابالم والفوسفور الحارق.

مع عودة الهدوء النسبي وتوقف القصف على مدينة دوما، عاد جيش الإسلام إلى التفاوض من جديد، ولكن هذه المرة كان من خلال لجنة مدنية (تم انتقاء معظم أفرادها من المقربين منه) وعبر خط تفاوض جديد موازٍ لخط العسكر التفاوضي، ومع ذلك لم يتم تحقيق أي شئ يُذكر، فالموقف الروسي ثابت، خروج من دوما إلى محافظة إدلب أو جبال القلمون الشرقي، مع تسليم السلاح الثقيل، وتسوية أوضاع الراغبين في البقاء، مع إعطاء مهلة سنة كاملة قبل الالتحاق بالجيش للمتخلفين أو الفارين من خدمة العلم، وأن تكون الخدمة الإلزامية في الفرقة الخامسة (وهي فرقة ميكانيكية، تتموضع في الجنوب السوري ومسؤولة عن الجبهة الجنوبية، شاركت في حرب تشرين في ٧٣ وكانت أكثر الفرق نجاحا حيث وصلت إلى مشارف بحيرة طبريا) وكذلك أبدى الجانب الروسي استعداده للتفكير في إرسال كتيبة شيشانية إلى دوما، بدلاً من الجيش السوري وقوات النظام الرديفة، وبالتالي بقي الوضع معلّقاً مع جولات من التفاوض شبه اليومية وبحضور ممثل عن الأمم المتحدة المتواجدة في دمشق.

يعلم الجميع بأن ”جيش الإسلام“ قد انتهى، وهو يعلم ذلك، فخروجه إلى محافظة إدلب، يعني بأنه سيكون في مواجهة غير متكافئة مع هيئة تحرير الشام، على الرغم من تأكيد قيادة أحرار الشام في الشمال بتأمين الحماية اللازمة والكاملة لجيش الإسلام إن رغب في التوجه إلى محافظة إدلب، والجانب الأمريكي يرفض تماماً فكرة  توجه جيش الإسلام نحو الجنوب إلى درعا، والجانب التركي كذلك يرفض بشكل قاطع دخول أي مدني أو مسلّح إلى مناطق سيطرة درع الفرات، حتى أنه ومن معه من فصائل المعارضة السورية وضعوا ”فيتو“ على دخول ”فيلق الرحمن“ للقتال إلى جانبهم سواء في قيادة الأركان أو في درع الفرات، ويبدو أن جيش الإسلام قد أغضب الأتراك حين قبل بالوساطة المصرية عند توقيع اتفاقية خفض التصعيد، وبالتالي لم يبقَ أمام جيش الإسلام إلا منطقة جبال القلمون الشرقي، وهي منطقة مُحاصَرة بشكل أكثر سوءاً من مدينة دوما الآن، ناهيك عن عدم أهليتها لاستقبال هذا العدد من المقاتلين وعائلاتهم.

مع كثرة الشائعات والأقاويل، يتحرك الشارع المدني – المُغيّب تماماً عن تقرير مصيره – في دوما بشكل تصاعدي يوماً بعد يوم، مقابل خطاب خشبي يدعو إلى الصمود والمبايعة على الموت من قادة جيش الإسلام وشرعييهم، واستخدام ظالم للغة التخوين مع استدعاءات الأجهزة الأمنية لمن يخالفهم الرأي. لقد خرج من دوما حتى الآن أكثر من ٢٠ ألف مدني عبر معبر مخيم الوافدين إلى مراكز الإيواء الجماعية التي أعدّها النظام السوري لاستقبالهم، مجازفين بأنفسهم ودون وجود أي اتفاق يضمن مصيرهم، لكن يبدو أن جيش الإسلام لا زال يكابر مُعوّلاً على حظوظه في نجاح المفاوضات، دون أن يشرح على ماذا يستند ويراهن، متحدياً بذلك المنطق الذي يقول بأنّه لا يملك في المفاوضات ما يُعطيه مقابل ما يطلبه لنفسه، ربما يكون تعليل ذلك بأنّه مُحاصر في خياراته، ولا يملك سوى الصمود بقدر ما يستطيع. لكن هذا الصمود المستند على الخطاب الحماسي، سوف يدفعه في النهاية إلى تكرار ما حدث مع ”فيلق الرحمن“ حين خرجت المظاهرات مندّدة به، ثم انشقت جماعات متفرقة من عناصره، وتحولت إلى ”قوات دفاع وطني“ من خلال مصالحات مباشرة مع النظام.

في المقابل، يبقى الجانب الروسي متعنتاً في موقفه، وهو يعلم بأن ”جيش الإسلام“ لا يملك خياراً سوى التمسك بأرضه والمواجهة لأجل البقاء، وبالتالي من المفيد تقديم نموذج حميد نحو تحوّل بعض من فصائل المعارضة السورية – الأكثر اعتدالاً – إلى شرطة محلية (مكان خدمة العلم)، بدل تركها لتكون تابعة لمصالح وغايات دولية وإقليمية، أو الدخول في معارك معها سوف تُخلّف الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين، مع دمار أصبح سمة رئيسية للمدن والبلدات السورية. ربما يكون النظام السوري هو المعطل لذلك كما تناقلت بعض الصحف، وربما لذلك يسعى الروس لكسب تأييد الأتراك في قبول صفقة ما لترحيل جيش الإسلام إلى جرابلس أو منبج، ويبدو أن مساعي الروس قد نجحت في تحقيق ذلك خلال الساعات الماضية، وبالتالي نبقى في انتظار الرد من جيش الإسلام على هذا الخيار الأخير.

على جانب آخر، تغيب مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة عن المشهد الحاصل في الغوطة الشرقية، وعندما تحضر تكون بطريقة ”رفع العتب“ دون تدخّل أو تأثير مباشر، فمجلس الأمن – وبعد تأجيل التصويت مرتين بسبب الاعتراض الروسي على صيغة القرار – يُخرج في ٢٤ شباط ٢٠١٨  القرار رقم ٢٤٠١ والقاضي بوقف الأعمال العدائية لمدة ٣٠ يوماً متتالية في جميع أنحاء سوريا، مستثنياً من ذلك تنظيم ”داعش“ و ”جبهة النصرة“ والكيانات الإرهابية كما حددها مجلس الأمن، مما أعطى روسيا والنظام السوري غطاءً دولياً ليفعلوا ما يشاؤون، بحجة وجود عناصر جبهة النصرة هناك، والذين لا يتجاوز عددهم الـ ٣٠٠ عنصر في القطاع الأوسط، وحين أعربت الفصائل الثلاث في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وللرئیس الدوري لمجلس الأمن السفير الكويتي منصور العتيبي عن “التزامنا التام بإخراج مسلحي تنظيم هيئة تحرير الشام، وجبهة النصرة والقاعدة، وكل من ينتمي لهم وذويهم من الغوطة الشرقية لمدينة دمشق خلال ١٥ يوماً من بدء دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ الفعلي“ لم تتحرك الأمم المتحدة لايجاد آلية للتنفيذ، مما اضطر جيش الإسلام إلى الاتفاق بشكل مباشر مع وفد الأمم المتحدة الذي دخل مع القافلة الإغاثية في الخامس من آذار لأجل ترحيل الدفعة الأولى من عناصر هيئة تحرير الشام الموجودين في سجونه إلى محافظة إدلب، وأيضاً لم تُحرّك الأمم المتحدة ساكناً عندما قامت قوات أمن النظام السوري باستبعاد نحو ٧٠٪ من المساعدات الإنسانية ومن بينها المواد الطبية من قافلة المساعدات التي دخلت دوما يومها، ولا عندما اضطرت تلك القافلة للخروج مسرعة دون أن تفرغ تسع شاحنات من حمولتها، بسبب القصف المتواصل على المدينة أثناء عملية التفريغ، وأيضاً لم تتحرك مؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية لتقديم المساعدة للمدنيين العالقين في مراكز الإيواء المؤقت في مناطق سيطرة النظام.

في النهاية، يبقى المدنيون هم المتضررون الأساسيون، فهم نقطة ضغط للمهاجمين، ودرع واق للمدافعين، حيث تسقط الإنسانية، ويُصادِر السلاح رغبة العاقل في الكلام، وتبقى معظم الاتفاقات والاعتبارات محصورة في السلاح ومن يحمله، وفي ذيل القائمة تجد بنداً يتحدث عن تأمين المدنيين، ومن سخرية الأحداث أن يُنقل بعض من عناصر ”هيئة تحرير الشام“ بأمان إلى محافظة إدلب، في حين يرفض الجانب الروسي أي اتفاقية تشمل خروج من يرغب من المدنيين نحو إدلب، إلا بعد الاتفاق مع فصيل جيش الإسلام.

*مصدر الصورة المرافقة للمقال: REUTERS/Omar Sanadiki

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

“ماتزال صورة والدي المختطف على يد تنظيم داعش متمترسة بجدار ذاكرتي، أحاول مراراً وتكراراً أن أرسمه في لوحاتي، وأتخيل أنه عاد مع شقيقتي وأشقائي وأولادهم وزوجاتهم إلى البيت.” بصدى أنة مقهورة تدخل “سهيلة دخيل تعلو” الناجية الإيزيدية في تفاصيل أسرها مع عائلتها من قبل مقاتلي تنظيم داعش في الثالث من شهر آب/أغسطس 2014، حيث مايزال بعضهم مجهولي المصير.

سكبت “سهيلة” في لوحاتها ألوان عذاباتها، وترجمت بريشتها رحلة ألم عاشتها خلال فترة اختطافها لسنتين من قبل التنظيم بعد سيطرة مقاتليه على بلدتها شنكال (120 كم غرب الموصل) في العراق قبل نحو أربع سنوات.

صورة رقم 1: تظهر “سهيلة” في مرسمها

لحظات موجعة لم تبرح مخيلة الشابة الصغيرة بعد تحريرها من الأسر، وعودتها لأحضان من تبقى من عائلتها، لتعيش في مخيم “شاريا” بدهوك في كردستان العراق مع أخيها “ساهر” وشقيتيها “سهار” و”شيماء” الناجية مع والدتها “عمشي” من براثن داعش.

نمّت سهيلة موهبتها في الرسم بعد عودتها لعائلتها والتحقت بدورة لتعلّم فنون إتقان الرسم على يد الرسام الكردي الشهير “بيار محمد عمر” من مدينة دهوك مع مجموعة مؤلفة من “12” ناجية إيزيدية تحررن وعشن في المخيم.

عرضت مؤخراً الرسامة الناجية لوحاتها في أول معرض للرسم في مجمع “شاريا” للنازحين الإيزيديين والذي لاقى حضوراً كبيراً فعشقها لفن الرسم كان اللبنة الأولى في طريق تغلبها على محنتها.

15 رهينة من العائلة

سُبيت “سهيلة” في عامها الثالث عشر مع 14 فرداً من عائلتها، الأب “دخيل”، والشقيقتين “ألماسة” و”شيماء” والأشقاء “سعد” و”آزاد” و”خلف” وزوجاتهم وأطفالهم مع العمة “ليلى” وطفليها.

واجهت “تعلو” كغيرها من المختطفين والمختطفات الإيزيديات حقبة سوداوية مقيتة عاشتها بعد نقلها مع المئات ممن أسرهم داعش في حافلات إلى دائرة نفوس “شنكال”، ومنها لقضاء “بعاج”، فسجن “بادوش” قرب مدينة الموصل، ومنها إلى قضاء “تل عفر” حيث فصلت عن عائلتها وانتهى بها المطاف في قاعة “كالاكسي” في الموصل برفقة شقيقتيها “ألماسة” و”شيماء”.

عدة مرات تعرضت الشقيقات الثلاث للاغتصاب اليومي، ولأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي والبيع والجوع والضرب المبرح.

وقد تمّ فصل الأخوات عن بعضهن فـ”شيماء” الصغرى نُقلت إلى سورية، وبقيت “سهيلة” في الموصل، أما “ألماسة” فلم يتسن للعائلة الحصول على معلومات عنها حتى اليوم.

بُيعت “سهيلة” الشابة الصغيرة أكثر من ثماني مرات، ناهيك عن تبادلها من قبل عناصر داعش بين بعضهم كسلعة تباع وتشترى.

 أخذت عملية تحرير “تعلو” وقتاً طويلاً، فقد استغرقت أكثر من سنة كما حدثنا عمها الكاتب الإيزيدي “خالد تعلو”. حيث قال: “تتبعنا أخبار سهيلة عن طريق بعض الناجيات اللواتي استطعن الهرب من سجون داعش، وعلمنا أنها أقدمت على الانتحار قبل أن يغتصبها جنود الدولة الإسلامية، غير أن محاولتها في قطع شريانها باءت بالفشل، وبعدها تمكنا من شرائها عن طريق وسطاء بيننا وبين داعش بمبلغ 6800دولار.”

صورة رقم 2: “سهيلة” بالزي الايزيدي الشعبي

فوجئنا أننا عبيد!

سُيقت الشابة الإيزيدية “سهيلة” إلى أسواق الرق بين تلعفر والقيارة والبعاج وحمام العليل والحويجة والموصل لأكثر من ثماني مرات وتذكر “سهيلة”: ” فوجئنا أننا أصبحنا عبيداً، نُباع ونُشترى كسلع رخيصة لا حول لنا ولا قوة، ناهيك عن أن عناصر التنظيم كانوا يتبادلوننا فيما بينهم، بعد إجبارنا على اعتناق الإسلام وتهديدنا بالضرب والحرق والتشويه.” وتضيف: “بعد فصلنا عن عوائلنا كنا نتعرض للاغتصاب الجماعي أنا والعشرات من الفتيات مع شقيقتي “ألماسة” التي لا نعرف عنها حتى الآن شيئاً هي ووالدي وأشقائي الثلاثة مع زوجات وأولاد اثنين منهم. تم تحرري في الموصل وأما شقيقتي شيماء فقد تحررت في مدينة الرقة السورية قبل حوالي سبعة أشهر، فشيماء التي تم بيعها لأكثر من 10مرات وهي لم تبلغ الثماني سنوات حين أختطفت وبيعت لأحد أمراء التنظيم في الرقة وكان سعودي الجنسية واغتصبت بشكل يومي بعد ربطها بالسرير.”

صورة رقم 3: “شيماء” مع أسرتها بعد عملية التحرير

 تحرير الرهائن مغامرة:

تحرير الناجيات عملية معقدة جداً، حيث تتم حسبما يتحدث “خالد تعلو” بعيداً عن أنظار داعش وبسرية تامة جداً، ويضيف: “يتم عرض صور المختطفات الإيزيديات والأطفال على موقع النخاسة الإلكتروني الذي يديره داعش.” موضحاً: “بعض الوسطاء يدخلون المزاد في هيئة موالين لتنظيم داعش ويشترون بناتنا بعد اتفاقهم مع أهالي الأسيرات على قيمة المبلغ الباهظ، ويجب على أهالي المخطوفين تأمين المبلغ المحدد قبل تحريرهم.” ويتابع: “صفقات التحرير مغامرة تواجهها صعوبات جمة، أهمها أن العديد من أهالي الضحايا يعجزون عن تأمين المبلغ المطلوب في التوقيت المحدد فتفشل عملية التحرير.”

شراء الرهائن بمبالغ خيالية

يشتري الإيزيديون أسراهم لقاء مبالغ مالية كبيرة، تُنهك قدرة عوائلهم، فيدفعهم ذلك إلى بيع ممتلكاتهم والاستدانة لشراء حرية أحبتهم.

 أكد “شُكُرْ شَنكالي” مسؤول المجلس الإيزيدي في “شنكال” أنه لم يحرر أسير واحد دون مقابل مادي إلا مرة واحدة قبل حوالي عامين، حيث حرر53 إيزيدياً في عملية مقايضة مع امرأة داعشية كانت من مدينة “حلب السورية” تدعى “عزيزة” والتي تزوجت من أربعة أمراء للتنظيم واعتقلت من قبل وحدات حماية “شنكال” صيف 2016 في طريق عودتها إلى الموصل مع مجموعة من عناصر التنظيم”.

تحدث “خالد تعلو” عن تحرير “عمشي” والدة سهيلة من مدينة الرقة في الرابع من نيسان 2017 بمبلغ 11500دولار، وزوجة ابنها تحررت مع بناتها الثلاث في 24نيسان 2016 من مدينة طبقة السورية بميلغ 29ألف دولار.

ويضيف تعلو: “اشترينا حرية شقيقتي ليلى وطفلتيها ’سالار وسارة‘ بمبلغ 27ألف دولار من مدينة الرقة في نيسان2017.

صورة رقم 4:”سهيلة” مع عمها الكاتب “خالد تعلو”

ناجيات ورهائن

كشفت مديرية الشؤون الإيزيدية في إقليم كردستان الشهر الماضي عن آخر إحصائية لأعداد الفتيات والنساء والأطفال الرهائن لدى تنظيم داعش، فضلاً عن الناجين من سجونه.

ونقلت وسائل إعلامية في تصريح صحفي لمدير مديرية الشؤون الإيزيدية في دهوك، “عيدان الشيخ كالو” (في4 شباط 2018) قوله أن: “العدد الكلي للناجيات والناجين الإيزيديين الذين اقتادهم تنظيم داعش في مطلع آب 2014، بلغ (3259) شخصاً.” وأضاف: “وأما عدد الرهائن لدى التنظيم كان قد بلغ (6417) شخصاً، وهناك أكثر من 3158 مايزال أسيراً لدى داعش في الأراضي السورية والتركية، بينهم 1472 من الإناث.”

ووفقاً لإحصائيات غير رسمية، يقدرعدد الإيزيديين بنحو 600 ألف نسمة في العراق، يقطن غالبيتهم في محافظتي نينوى ودهوك، فضلاً عن وجود أعداد غير معروفة في سورية وتركيا وجورجيا وأرمينيا، وأعداد أخرى من المغتربين في دول أوربية أبرزها ألمانيا والسويد.

وتعرض الإيزيدون إلى 74 مجزرة وكان آخرها في 3 آب/ أغسطس 2014 في “شنكال” موطنهم الأصلي في العراق بعد اجتياح مقاتلي داعش، وسيطرتهم على محافظة نينوى شمال العراق، وقتلهم لمئات الإيزيديين في قضاء “شنكال” وقرى غرب الموصل وسبيهم آلاف النساء والأطفال، وارتكابهم أبشع جرائم ضد الإنسانية جمعاء.

حول الوضع في سوريا

حول الوضع في سوريا

مع دخول الانتفاضة السورية في هذا الشهر عامها الثامن قُتل أكثر من أربعمائة ألف سوري ودُمِّر أكثر من ثلث البنية التحتية للبلاد، وهُجِّر نصف السكان من منازلهم وعانت بلدان أخرى من الضغط الناجم عن لجوء ملايين السوريين الهاربين من القتال إليها كما يقول بسام حداد، مضيفاً أن ما بدأ كتمرد ضد الدكتاتورية في٢٠١١ صار مرجلاً للتدخل الإقليمي والدولي. فإلى جانب الولايات المتحدة، انخرطت روسيا وإيران والعراق وتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية وحزب الله في دعم طرف أو آخر. وسيطر تنظيم الدولة الإسلامية على أكثر من ٤٠٪ من مساحة البلاد. وقد طُرِدَ تنظيم الدولة أخيراً من معظم معاقله على يد تحالفات عسكرية مختلفة بعد معارك شرسة  في خريف ٢٠١٧.

وفي العام الثامن من الصراع على سوريا، والذي يذكّر بأهداف مشابهة قبل عقود، ما تزال البلاد تعاني من الاضطراب السياسي الداخلي والتدخلات الخارجية والمعارك بين تركيا والأكراد وتقع على عاتقها مهمة هائلة لإعادة بناء ما دمرته الحرب.

أما الهجوم القائم والمتواصل على الغوطة، الذي يشنه النظام وروسيا، فينذر بمزيد من الأهوال القادمة على صعيد خطط النظام السوري حيال الأجزاء الأخرى من البلاد التي ليست تحت سيطرته.

يتحدث بسام حداد ل”سبيكترم” عن كلّ هذه المسائل، ويضع الصراع في سياقه التاريخي منذ بداية الانتفاضات، ويناقش التحديات الحالية التي تواجه سوريا والسوريين.

بسام حداد باحث وأستاذ جامعي ومؤلف ومخرج أفلام وثائقية. ويحمل كتابه الثاني العنوان المؤقت فهم المأساة السورية: النظام، المعارضة واللاعبون الخارجيون، والذي سيصدر عن مطبعة جامعة ستانفورد. كما كان بسام منتجاً مشتركاً ومخرجاً للفيلم الوثائقي الحاصل علي جوائز ويحمل عنوان عن بغداد، كما أخرج الفيلم المعروف والمشاد به، “العرب والإرهاب.”

توم هودسون: أهلاً بك في سبيكترم. تبث سبيكترم محادثات مع مجموعة مختارة من الأشخاص، بعضهم مشهور وبعضهم الآخر غير مشهور. واليوم نتحدث مع بسام حداد، مدير برنامج الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة جورج ميسون. وهو عضو أساسي في الهيئة التدريسية في هذه الجامعة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد. ويعمل على كتابه الثاني عن سوريا وصراعاتها الداخلية.

يحدثنا الدكتور حداد عن الصراعات المسلحة في سوريا وخاصة منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية والصراعات المتواصلة في البلاد التي مزقتها الحرب.

نص الحوار

توم هدسون: هل يمكن أن تشرح لنا لماذا الوضع في سوريا غامض ومحيّر لأي شخص من الخارج؟

بسام حداد: أولاً، شكراً لكم لاستضافتي. ويسرّني أن أتحدث عن هذا الموضوع، وأود أن أجيب عم سألتني عنه من خلال قول شيء مختلف قليلاً وهو أنه إذا كنت تتابع الأخبار عن سوريا، أو كلما تابعتها في الحقيقة، أَصْبَحْتَ أكثر تشوشاً. وهكذا إذا كنتَ مُشوَّشاً فلربما كان السبب هو أنك تتابع الأخبار. أما الذين لا يتابعون الأخبار فيمتلكون على الأرجح وجهة نظر كلاسيكية عن الوضع، أي أنهم يفهمون أن هناك انتفاضة في سوريا ضد الدكتاتورية، وهذا صحيحٌ من زاوية السرد الأساسي. لكن  الأمر تجاوز هذا في الحقيقة. ويمكن أن يتفاجأ الناس من أن مسار الانتفاضة السورية هو في الواقع أحد المسارات الأكثر تعقيداً بين الانتفاضات والثورات. لا أعني هنا أن الانتفاضة تفتقر للشرعية، فقد كانت شرعية بشكل كامل ومتأخرة نوعاً ما نظراً للأربعين عاماً أو أكثر من الدكتاتورية، لكنني أقول هذا بسبب ما حدث للانتفاضة نتيجة تدخل لاعبين إقليميين ودوليين مختلفين على الجانبين، وقد نجحت هذه التدخلات في خطف الانتفاضة وتحويلها إلى حرب بالوكالة تخدم مصالح جهات فاعلة حكومية وغير حكومية تدعم أحد الطرفين، أي النظام من ناحية والمعارضة أو المعارضات من ناحية أخرى. وبالطبع هناك اللاعب الثالث في حلبة الملاكمة، والذي جعل الأمور أكثر تعقيداً، وأعني تنظيم الدولة الإسلامية، وهو تنظيم لم تكن تهمه ثورة ضد الدكتاتورية أو أهداف الديمقراطية بل كسب الأراضي والتوسع الإقليمي في كلٍّ من العراق وسوريا كي يشيد نسخته من دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية.

توم هودسون: إذاً دخل تنظيم الدولة في حوالى ٢٠١٣، هل كان هذا هو التاريخ؟

بسام حداد: كان للتنظيم حضور في العراق بشكل أساسي، وحدثت عدة تطورات أيضاً، فقد سمحت الحدود السورية (التي يسهل اختراقها) بدخول ما يُدعى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق إلى  سوريا، والذي عقد تحالفاً في البداية مع جبهة النصرة، والتي هي فرع للقاعدة في سوريا. لكن الأمر لم يسر جيداً. ثم نشأ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ضمن هذا السياق بين ٢٠١٣ و٢٠١٤.

توم هدسون: كان هدف تنظيم الدولة في سوريا إذاً هو الاستيلاء على الأراضي والتوسع الإقليمي، أي لم يكن فقط حركة إيديولوجية، بل حركة تهدف للاستيلاء على الأراضي.

بسام حداد: تماماً، وهذا ما ميز تنظيم الدولة الإسلامية عن القاعدة. كان هدف تنظيم الدولة بالفعل هو التوسع الإقليمي، وقد أراد أن يؤسس دولة من نوع ما بجماعات وتحتوي على متكآت الدولة من قضاء وبيروقراطية وجيش وهلمجرا. وهدفَ التنظيم إلى تأسيس دولته في كلّ من سوريا والعراق، والواقع أنه سيطر في نقطة ما على ٣٠٪ من العراق وعلى ما يقارب ٤٥٪ من مساحة سوريا. ونتحدث هنا بشكل رئيسي عن المدن غير الحضرية لأن تنظيم الدولة الإسلامية كان مجهزاً بشكل أفضل كي يستولي ويسيطر على المدن غير الحضرية نظراً أيضاً لوجود جيوش أكثر تجهيزاً في المدن الحضرية لكن البنية الاجتماعية في المناطق الأكثر ريفية كانت ملائمة أكثر كي تسيطر عليها مجموعة كتنظيم الدولة بإيديولوجيتها ونزعتها المحافظة اجتماعياً وغير ذلك.

توم هدسون: وصارت الموصل محوراً، بؤرة لتنظيم الدولة، أليس كذلك؟

بسام حداد: في الحقيقة كانت الموصل المدينة الحضرية الوحيدة في كلا البلدين التي تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة عليها. وقد سيطر عليها بطريقة مريبة، لأنه لم تحدث  معركة في الموصل، بل دخل إليها عناصر التنظيم فحسب، وكان السبب هو السخط الشعبي في الموصل من الحكومة من ناحية والافتقار للجاهزية لدى القوات الحكومية أو للوجود الرسمي للحكومة العراقية في الموصل من ناحية أخرى. حدث هذا في ٢٠١٤، وكان هذا هو التوسع الإقليمي (كسب الأراضي) الأكثر أهمية لتنظيم الدولة في المناطق الحضرية، أضف إلى ذلك ولايتها أو دويلتها في الرقة في شمال سوريا الريفي.

توم هدسون: لنلخّص الأمور حتى هذه النقطة التي وصلنا إليها، ثم يمكنك أن تواصل. لدينا نظام الأسد الذي يحاول البقاء في السلطة ضد مجموعات مختلفة من المتمردين الذين لم يندمجوا في قوة واحدة. ثم لدينا دخول تنظيم الدولة الإسلامية، الذي قاطع المعركة بين الطرفين، ودخل طرف ثالث في هذا الصراع. والآن يُقال إن تنظيم الدولة طُردَ. هل أخرجه نوع من الهدنة أو كيف تم طرد تنظيم الدولة والطرفان الآخران ما يزالان يتقاتلان؟

بسام حداد: اسمح لي أن أعود إلى البداية، حين يتحدث المرء عن سوريا يواجه كثيراً من التفاصيل الغنية والمثيرة ثم بعد ذلك عليه أن يعود إلى البداية. إن السرد عن سوريا مثير للجدل دوماً، ولا يوجد سرديات عن سوريا لم تُجادَل. ما أريد قوله لك هو بعض السرديات الأساسية التي يصعب جداً مجادلتها، حتى من قِبل آراء مختلفة، لكنها ستبقى قيد الجدل إلى حد ما. أعتقد أن الأمر الأكثر أهمية الذي يجب أن نعرفه عن الوضع السوري هو أن سوريا حكمتها دكتاتورية منذ ١٩٧٠ أو ١٩٦٣ بحسب التاريخ الذي تريده، لكننا نستطيع القول من أربعة إلى خمسة عقود. لا يعني هذا أن الفترة السابقة للدكتاتورية كانت وردية، إنما يعني أنه كان لدينا فقط نوع خاص من الدكتاتورية في ظل حزب معين حكم منذ ١٩٦٣ ثم واصل حكمه في ١٩٧٠ حين استولى الأسد الأب على السلطة. إن هذه الخلفية من وجهة نظري هي السياق الذي يحدث فيه كل شيء. فبعد ٤٠ سنة من الدكتاتورية لا نستطيع توقع انتفاضة تقوم بها الملائكة، كما لا نستطيع توقع وقوف حلفاء الدكتاتورية مكتوفي الأيدي. ولا نستطيع توقع أن معارضة هذه الدكتاتورية ستدعمها جهات فاعلة حكومية أو غير حكومية ملائكية. وهكذا رُتِّب الموقف منذ البداية لجذب حلفاء وداعمين إشكاليين ومقاتلين أجانب كما هو الحال لدى تنظيم الدولة ومجموعات أخرى. وهكذا لدينا موقف حدثت فيه انتفاضة شرعية في سوريا في ٢٠١١، أثارتها الانتفاضات الأخرى وإلى حد ما النتائج السريعة في تونس ومصر، وكانت هذه الانتفاضة مدنية الطابع وسلمية، لكن تطورات مختلفة عرقلتْها. وكان التطور الأول الذي عرقل هذه الانتفاضة ضد الدكتاتورية، والتي تحولت كما قلتُ إلى حرب بالوكالة، هو تسليحها وعسْكرتها. وهذا غيَّر طبيعة الموقف وقدّم للنظام المتوحش الذي سحق حتى أصوات الاحتجاج المدني الذريعة كي يصبح أكثر تعمداً في فعله لهذا وصعّد من عنفه بحجة أن الانتفاضة ليست متمدنة أو مدنية، وبدأ هذا يغيّر طبيعة الانتفاضة وحوّل الصراع من انتفاضة ضد الدكتاتورية إلى نوع من الحرب، وقام عدد كبير من الأشخاص الداعمين للانتفاضة بتشكيل مجموعات مختلفة دُعمت بسرعة لا عسكرياً فحسب بل سياسياً أيضاً من الخارج. وأنشأ هذا موقفاً كالحرب منح ضوءاً أخضر، من منظور النظام، للهجوم بشكل أكثر وحشية على المحتجين وكذلك على جيوش المتمردين. وأدى هذا إلى تغيير السياق من انتفاضة ضد الدكتاتورية إلى حرب بالوكالة حاولتْ فيها مجموعات مختلفة تقوم بدعم الطرفين استخدام سياق الانتفاضة لتحويل المنطقة أو لإعادة رسم خريطتها بشكل يتناسب مع مصالحها، وافترض كلُّ طرف أنه سيكون المنتصر.

إن مأساة الوضع السوري هي أنه لا يوجد منتصرون ولعدة سنوات الآن. هناك ضحايا فقط، والمحزن أن الضحايا هم أغلبية السكان السوريين الذين استنفدهم كل ما يجري. وهم لا يدعمون بالضروروة المنطقة أو القيادة التي يعيشون في كنفها لأنهم على مستوى الأرض مُحْتَجزون في منطقة معينة. وأنتَ سترضخ للمكان الذي أنت فيه في معظم الأحيان إلا إذا كنت قادراً على الهرب، أو أصبحت لاجئاً كغالبية السوريين. وما أريد قوله هنا هو أن إعياء غالبية السوريين جعلهم ينسحبون من الصراع، لكن ليس بطريقة حيادية. وأعتقد أن غالبية السوريين، الغالبية الساحقة منهم، يريدون تغييراً في سوريا، ويريدون زوال هذا النظام. وما صار أكثر تعقيداً (وهذا ما لا يفهمه كثيرون) هو أن الرغبة بالبدائل ضعفت. ولا يعني هذا أن النظام صار أكثر جاذبية، بل أن البدائل، نظراً لما يحدث على الأرض، ولطبيعة قوة التمرد، تغيرت من قوة عسكرية مدنية أرادت بديلاً أكثر تقدمية إلى قوة تمردية تستند إلى صيغ لا تلبي بالضرورة تطلعات الثوريين، وأعني هنا الثوريين الأصليين في سوريا. وفي هذا السياق، حاولت جهات فاعلة مختلفة حكومية وغير حكومية ومحلية وإقليمية ودولية الاستفادة من هذا الخلل كي تصفّي حسابات وتخدم مصالحها الخاصة، سواء كانت هذه الجهات المعسكر المؤيد للمعارضة متمثلاً بدول كالسعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة، أو المعسكر المؤيد للنظام متمثلاً بإيران وروسيا وحزب الله، والصين حين يتعلق الأمر بالعلاقات الدبلوماسية. وهذا أدى في نهاية المطاف إلى تحرر من الوهم لدى معظم السوريين حيال من يدعمون، وأكرر أن هذا ليس بسبب الافتقار لإيمانهم بضرورة رحيل النظام، لكن بسبب افتقارهم لليقين بأن البديل الموجود على الأرض هو الأمثل.

توم هدسون: صارت الانتفاضة المدنية صراعاً دولياً، وجعل هذا التدخل العالمي الناس يتسآلون: أية مصالح ستسود وأية بلدان ستتدخل، صحيح؟

بسام حداد: صحيح، وهذه هي المأساة التي نصادفها بالفعل سنة بعد أخرى واليوم. وهكذا إذا كنت تريد النظر إلى السياق الأكبر، إذا أردت بناء نظرة شاملة ستجد أن الانتفاضة السورية التي بدأت في آذار ٢٠١١ مرت في طورين ينطوي كلٌّ منهما على مراحل مختلفة. كانت المرحلة الأولى، كما قلتُ، هي انتفاضة مدنية تحولت إلى انتفاضة عسكرية ثم إلى حرب بالوكالة. وهكذا فإنها مثلت مراحل داخل الطور الأول انتهت في كانون الأول\ديسمبر حين تمكّن النظام من إعادة السيطرة على مدينة حلب كلها مما أدّى إلى استيلاء النظام على كل المدن الحضرية أو إعادة الاستيلاء عليها، وهنا لا تهم اللغة التي يستخدمها المرء، لأن النظام سيطر عليها في الحقيقة سلفاً. والنقطة هنا هي أن هذا أنهى الحرب في سوريا من وجهة نظري. بتعبير آخر، إن الذين أرادوا إسقاط النظام، سواء كانت نواياهم جيدة أو سيئة، وسواء كانوا يكترثون بالشعب السوري أم لا، أو كانوا يريدون الإطاحة بالنظام لسبب أو آخر، فإن هذا الهدف انتهى، لأن النظام نجح في السيطرة على معظم ما يُدْعى بسوريا المفيدة في كانون الأول\ديسمبر ٢٠١٦. أما الطور الثاني فهو ما بدأ بعد هذه السيرورة، وأعني الانتقال من حرب على سوريا إلى عدد من الحروب الصغيرة داخل سوريا جسّدت على الأقل هدفين: إما تحقيق أهداف بلدان معينة كتركيا في حربها ضد الكرد، أو الاستيلاء على ما تبقى من سوريا من قبل النظام، وهاتان هما الديناميتان الرئيسيتان في سوريا اليوم، بصرف النظر عن ديناميات أخرى تعمل. وما جعل هاتين الديناميتين مهيمنتين خاصة اليوم في ٢٠١٨هو التراجع الدرامي لتنظيم الدولة الإسلامية في العام الماضي، والذي أعتق معظم اللاعبين الذين تعاونوا بالفعل معاً، بالرغم من أنهم كانوا يعارضون بعضهم في كل شيء آخر لكنهم في الحقيقة عملوا معاً وربما يحب ألا أقول إنهم عملوا معاً بل كان لهم هدف مشترك هو إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية.

توم هدسون: كان هذا هو العدو المشترك.

بسام حداد: كان تنظيم الدولة الإسلامية عدواً مشتركاً وكانت له معارضة متشابهة سواء أكانت الولايات المتحدة، النظام السوري، الإيرانيون والروس أو المعارضة، وعلى الأقل  في بعض الحالات، هناك نوع من الفائدة في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة لكن دون القضاء عليه نهائياً لأن هذا يمكن أن يُسْتخدم كورقة في مواقف مختلفة في المستقبل. وهذا نوع من التخمين لكن هناك ما يكفي من الأسباب للاعتقاد أنه لا توجد نية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية بشكل كامل في الأجزاء الصغيرة المتبقية في سوريا. وهنا ندخل في الطور الثاني من الانتفاضة السورية،  حيث لم يعد لدينا حرب للاستيلاء على الحكومة المركزية في سوريا، على الأقل لا يوجد شيء من هذا القبيل، وصار لدينا حروب أكثر صغراً وتبعثراً تمثل مصالح بلدان مختلفة تستخدم سوريا لتصفية حسابات أو لمنع تطور صراع أو تهديد كما في حالة تركيا والأكراد.

إن الغزو التركي داخل سوريا، والذي يحدث اليوم في مدينة عفرين السورية، يهدف إلى هزيمة وتفكيك وحدات حماية الشعب، وهي تنظيم كردي متهم بامتلاك صلات مع حزب العمال الكردستاني، الحزب الانفصالي الذي حاربه الأتراك لسنوات. وتتهم تركيا الحزبين بأنهما إرهابيان. وتحاول تركيا القيام بهذا لأنها تريد تأمين حدودها الجنوبية وهي في صراع الآن مع مجموعات وجهات فاعلة أخرى تنظر إلى هذا كانتهاك للسيادة، بما فيه النظام السوري، الذي تشارك ميلشياته، أو الميلشيات المؤيدة له، في القتال. وهكذا لدينا موقف معقد جداً في هذا الخصوص، وتتكشف الأحداث في الحقيقة عن خسائر كبيرة جداً مني بها الأكراد في عفرين، ومني بها الأتراك أيضاً الذين لم يتمكنوا من التقدم بسرعة كما أرادوا. ومن ناحية أخرى يحاول النظام إعادة السيطرة على أجزاء مختلفة من سوريا استولى عليها المتمردون في السنوات السبع الماضية. ونرى المأساة تتكشّف اليوم في شرق دمشق، في منطقة الغوطة، حيث يهاجم النظام والروس منطقة فيها ٣٨٠٠٠٠ نسمة حُوصروا لسنوات بذريعة مهاجمة دمشق بالصواريخ ومزاعم انتشار الجماعات الإرهابية في الداخل. وبالطبع تُسمى كل الجماعات إرهابية لأنها عدو، أو يصبح العدو إرهابياً بصرف النظر عن دقة التسمية. وهذه المحاولة الأولى الآن بعد حلب لاستعادة إحدى المناطق الاستراتيجية الرئيسية. وقُتل في الغوطة حتى الآن من ٦٠٠٧٠٠ مدني، رغم أن النظام يزعم أن معظمهم عسكريون أو مقاتلو ميليشيات، ويبدو أن الخطوة التالية في هذه الحملة ستكون مرتع المعارضة المتمردة الذي تسيطر عليه هيئة تحرير الشام في الشمال، وأعني محافظة إدلب. ويُشاع أن الغوطة هي إما أرض التدريب أو الخطوة الأولى للدخول إلى تلك المنطقة، ولأن هذا هو المعقل الرئيسي الوحيد للمعارضة المجهزة جيداً بالمعنى العسكري. وبالطبع يضع النظام نصب عينيه أجزاء أخرى من البلاد بما فيه الجنوب، والذي هو مستقر كثيراً بسبب عدم وجود سلطة عسكرية واحدة تسيطر على ذلك الإقليم، رغم أنه تحالف محصور أو مقيد باتفاقيات عديدة وقعتها سوريا والأردن وإسرائيل ويحدد هذا أي نوع من التحركات التي يمكن أن تحدث هناك. وبالطبع لدينا مسألة مهمة وهي الصراع السياسي الكامن المحتمل بين النظام السوري والأكراد، وقد تدرجت علاقة الطرفين بين الصداقة والعداوة. كان الطرفان صديقين في نقطة معينة وقاتلا نفس الأعداء رغم أنهما في الحقيقة متعارضان بنيوياً وإيديولوجياً. لكن الطرفين لم يدخلا في حرب كاملة. وأحد الأسباب يتعلق بالاقتصاديات، بما أن الأكراد يسيطرون على أكثر من ٦٠٪ من حقول النفط في سوريا.

توم هدسون: ما قلته يساعدنا في فهم ما يجري في المنطقة هناك والديناميات التاريخية. لكن يبدو لشخص من الخارج أن السياسة الأميركية الخارجية إزاء سوريا كانت في حال تغير دائم، ومشوشة وغير متناسقة. هل هذا تشخيص صحيح؟

بسام حداد: من وجهة نظر أشخاص يعيشون في الولايات المتحدة مثلك ومثلي، يمكن أن يبدو كأن هناك تردداً. وقد يبدو أن هناك نوعاً من التشوش فيما يتعلق بما يمكن أن يُفْعل في سوريا. لكن في الحقيقة، ليس التشوش كبيراً. إن مظهر التشوش واضح وملموس لكن الولايات المتحدة شهدت في ظل إدارة أوباما، وعلى نحو مثير للفضول في ظل إدارة ترمب، تغيراً درامياً في السياسة إزاء سوريا.  وسُمع كلام عن خلاف لكن في الحقيقة إن الولايات المتحدة تعمل على أساس مصالحها القومية عادة، التي هي بالأحرى مستقرة. وكانت النقطة الوحيدة الأكثر أهمية للإدارة الأميركية دوماً هي أن الجائزة في سوريا ليست عالية. بالتالي نحن لسنا أمام صراعٍ عائداتُه وجوائزه واضحةٌ ويمكن الحدّ من تكاليفه. وكان هذا عنصراً محورياً في الموقف الأميركي حيال سوريا. ويتعلق العنصر الآخر بمدى رغبة الجمهور الأميركي والجيش الأميركي والحكومة الأميركية بالدخول في حرب شاملة في سوريا بشكل عام. وهذا يرشح بالطبع بالمشكلات التي حدثت في العراق. وحين نتحدث عن مشكلاتنا لا نعترف بالكارثة التي حلت بالعراقيين، لكن ما مرّت به الولايات المتحدة في العراق خفّف من رغبتنا بالحرب، سواء في سوريا في ٢٠٠٥ حين كان البعض يدعون لضربها أو الرغبة القائمة للحرب مع إيران حيث يوجد وسيكون هنا دوماً دعوات، لكن أنت تعرف الإدارة، حتى هذه الإدارة رغم لغتها المتشددة فإنها تقارب مسألة الحرب بحذر شديد. وهكذا فإن الرغبة بالحرب في المنطقة أو الحرب الشاملة ليست مرتفعة. إن العامل الثالث الذي يسمح لنا بفهم السياسة الخارجية الأميركية بعيداً عن الحركة اللولبية أو البلاغة هو المزج بين الاثنتين لمعرفة السياق في سوريا. إن أحد أسباب عدم نجاح الانتفاضة، هو أن جميع الداعمين للانتفاضة السورية، انتفاضة الديمقراطية، إن لم يكن معظمهم، ليسوا داعمين حقيقيين لانتفاضة من أجل الديمقراطية، وإنما كانوا يراهنون على إسقاط النظام من أجل مآرب تخدم مصالحهم. وأنشأ تزامن الرغبة بالإطاحة بالدكتاتورية مع تطلعات الغالبية الساحقة للسوريين تحالفاً كان هشاً جداً بين الانتفاضة، إن شئت، والقوى الخارجية. وعلى أي حال، ما عرفته الإدارة الأميركية السابقة هو أن هذا القتال، أو الصراع، بالنسبة للنظام وحلفائه، هو صراع وجود، بينما هو بالنسبة لداعمي المعارضة صراع استراتيجي يستطيعون الانسحاب منه في أية لحظة حين يصبح التهديد أو الخطر أعلى من عتبة معينة، وهذا ما حدث في حالة قطر والسعودية اللتين كانتا مؤخراً تتجادلان بين بعضهما حول من أخطأ في التعامل مع سوريا والمتمردين السوريين ومن سلّح أية جماعات ورَدْكل الوضع في سوريا أو الانتفاضة.

توم هدسون: صارت هذه نقطة خلاف بين الطرفين.

بسام حداد: صحيح. وسحب البلدان الدعم الوفير إلى حد كبير لكن ليس بشكل كامل. ولم تعد تركيا ترغب بجعل حدودها مفتوحة وسهلة الاختراق للمقاتلين والمتسللين بعد أن دخل عبرها آلاف المقاتلين كي يخوضوا حرب الخير، وتورطت في مشاكل مع الإسلاميين أو تنظيم الدولة الإسلامية الذين بدأوا بالتفجيرات في تركيا. وبالتالي ضغطت تركيا على المكابح في لغتها ضد النظام السوري وتسهيلاتها لقوى مختلفة تقاتل النظام وللجهات الحكومية واللاحكومية الفاعلة وكذلك للمقاتلين الأفراد الأجانب. وصارت تركيا أكثر انخراطاً في المسألة الكردية. أما الولايات المتحدة فلا مصلحة لها بالمقارنة مع إيران وحزب الله والروس الذين دخلوا بقوتهم الكاملة وفعلوا ما لم تكن الولايات المتحدة بالضرورة راغبة بفعله وأعني وضع كل طاقتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، بالرغم من أن الروس فعلوا هذا أيضاً كغطاء لمساعدة النظام في استئصال المتمردين المتبقين باسم محاربة الإرهابيين دون التمييز بين المجموعات الإرهابية المعارضة للنظام والمجموعات التي لا تحب تنظيم الدولة الإسلامية.

توم هدسون: سواء كنت من تنظيم الدولة أو متمرداً فأنت عدو للدولة وهكذا لا فرق بينكما

بسام حداد: وحدث نوع من التلاعب من قبل الروس بحيث أنهم صنّفوا هذه الحركات في خانة واحدة مثل جبهة النصرة والتي هي في معظمها سورية وتقاتل النظام، بخلاف تنظيم الدولة الإسلامية والذي هو غير سوري وغير مهتم بالثورة في سوريا، بل أكثر اهتماماً بالتوسع الإقليمي وكسب الأراضي في العراق وسوريا وإنشاء دولة خاصة به تعارض كل ما يريده المتمردون، بما فيه الذين يقاتلون. وبطريقة ما، كان استعداد الولايات المتحدة للقيام بفعل ما كإنشاء منطقة حظر طيران والالتزام بإرسال قوات برية (هناك بعض القوات على الأرض) منخفضاً جداً لدى إدارة أوباما، لتلك الأسباب الثلاثة التي ذكرتها وواصلت انخفاضها في إدارة ترامب باستثناء واحد وهو: هل سيحدث حدث يدفع الأمور للخروج من السيطرة في سوريا؟من المرجح أكثر أن ترد إدارة ترامب بطرق لن ترد بها إدارة أوباما.

توم هدسون: إذا نظرنا إلى البلاد، على الأقل في الصور التي ترافق نشرات الأخبار سنرى أن سوريا مدمرة، فقد دُمرت البنى التحتية والأبنية والخراب واسع الانتشار، على الأقل في بعض المدن والمناطق التي يقاتلون فيها. كيف سيُبْنى هذا؟ ومن سيساعد في دفع فاتورة إعادة الإعمار؟

بسام حداد: ألقيتُ مؤخراً محاضرة في جامعة كاليفورينا بلوس أنجلوس وفي جامعة جورج تاون تناولت هذا الموضوع بالتحديد، وأعني مسألة إعادة الإعمار والمصالحة واحتمال السلام. إن الحقيقة المؤسفة والمخيفة هي أن المشكلة في سوريا، على عكس ما يظنه كثيرون، خاصة في المجموعة الدولية التي تبحث عن نقاط دخول مربحة إلى سوريا، هي أن المشكلة في سوريا ليست مشكلة الدمار. بالطبع الدمار عنصر في المشكلة، لكن الأمور مغلفة بخصومات سياسية عميقة وعقود من القمع وعوامل أخرى متعددة بالتالي فإن الحل ليس مجرد إعادة بناء.

إن الدمار جلي، وفضلاً عن الأربعمائة ألف سوري الذين قُتلوا، لدينا بالطبع مليون شخص أصيبوا بإصابات خطيرة، ولدينا مئات الآلاف من العاجزين، ودُمر على الأقل ثلث البنية التحتية، ودُمرت المدارس المختلفة، والمراكز صحية والمستشفيات، وذلك بسبب القصف الذي قام به النظام والروس إلى حد كبير وفي مناطق المتمردين. وهُجِّر أكثر من نصف السكان السوريين الذين يبلغ عددهم ٢٤ مليوناً. وهُجِّر حوالى النصف أو أقل من النصف بقليل من سوريا إلى بلدان أخرى كلبنان وتركيا والأردن وبلدان مختلفة كمصر وأوربا، وهلمجرا. ثم هُجِّر البقية في الداخل. ولدينا أيضاً كمية معتبرة من الأذى الذي ليس مرئياً، والذي يتحدث كثير من الناس عنه، وهذا تطور خطير جداً في سوريا، وأعني المسائل السيكولوجية، وكما تعرف نحن نتحدث هنا عن مآسينا الخاصة، مآسينا الصغيرة كمثل إطلاق النار في المدارس. ويمكن أن تتخيل الصدمة التي تصيب بعض الأشخاص الذين لم يشهدوا مباشرة ما حدث. لكننا نقلق عليهم ونضع صورهم على شاشة السي إن إن، ونتحدث مع الأشخاص الذين صُدموا لمجرد وجودهم على أرض المدرسة حين حدثت الجريمة. وهكذا تستطيع أن تتخيل بعد سبع سنوات من الموت والدمار مدى الصدمة في سوريا. ثم هناك عواقب تنموية. لم يحصل الناس طيلة سبع سنوات على التعليم الملائم  في بلاد معتادة على وجود تعليم كامل. وهكذا لدينا سبع سنوات معتمة في حياة كثير من الناس، ليس الكل، لأن التعليم تواصل في أمكنة متفرقة. أما بالنسبة للقوة العاملة فقد فقدت سوريا قوة عمل هائلة تمتع بمهارات وتقوم بأعمال جيدة الآن في ألمانيا وأمكنة أخرى بما أنها قادرة على استخدام مهاراتها. وقد جُردت سوريا من جميع أنواع الكرامة والموارد. وحصل أذى عميق.

إن إعادة الإعمار لا يمكن أن تتواصل أو أن تبدأ بشكل ملائم دون صيغة ما لتحقيق لا السلام فحسب، بل وحدة الأراضي. فهناك على الأقل أربعة أقسام رئيسية مستقلة أو شبه مستقلة في سوريا: النظام الذي يملك القسم الأكبر الآن، والأكراد الذين يملكون ثاني أكبر قسم في معظم شمال وشمال شرق سوريا، ثم بالطبع المعارضة التي تمتلك بعض المعاقل في الشمال في إدلب وحول دمشق وبعضها في الجنوب، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي يتركز في شرق سوريا في بقع أصغر من الأرض ويحاول الآن إنهاء أعماله وتهريب الأسلحة والأشخاص والنقود. إن إعادة البناء دون وحدة أراضي ستكون إعادة بناء مبعثرة ولن تخدم الإنسان السوري العادي. وقد بدأت إعادة البناء في الحقيقة في سوريا، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، حيث باشروا بالفعل في إعادة بناء معتبرة. لكن إعادة البناء هذه لا تهدف كما يرى أفضل المحللين والباحثين الميدانيين إلى خدمة السوريين الذين فقدا حيواتهم ومنازلهم، بل تهدف أكثر إلى تدعيم الدولة وتقدم السكن للناس الذين يستطيعون الدفع مقابله. وإنه لمأساوي أن معظم الناس الذين فقدوا منازلهم وهُجروا داخل وخارج  سوريا لن يكونوا قادرين على العودة إلى تلك المناطق. وإذا كانت هناك خطة لإعادة بناء سوريا، سواء بدعم من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو من الصينيين أو الإيرانيين أو الروس أو الولايات المتحدة أو المؤسسات الدولية المختلفة كمثل الأمم المتحدة أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهلمجرا، فإن السؤال هو: مع من سيعقدون هذه الصفقات؟ إذا كانوا سيعقدونها مع النظام فإن إعادة البناء ستحدث إذاً بحسب مصلحة النظام وشركائه المباشرين، وليس لمصلحة معظم السوريين الذين فقدوا حيواتهم ومنازلهم. وإذا كانوا سيعقدونها مع آخرين فإن المرء لا يعرف كم سيبقى هؤلاء في مواقعهم. إن متمردين مثل هيئة تحرير الشام في شمال سوريا، التنظيم الذي لا يحبه معظم السوريين غير قابلين للدعم. أما الأكراد فمستقبلهم متزعزع، وبالطبع تنظيم الدولة الإسلامية ليس منافساً، وهكذا فإن أفضل سيناريو هو: يقدم النظام نتائج غير مرغوبة وتنطلق من هنا.

توم هدسون:سيصدر لك كتاب جديد قريباً، الكتاب الثاني عن هذه المنطقة.

بسام حداد: لا أستطيع القول إنني أنهيتُ الكتاب، كلما حاولتُ أن أنهي جزءاً تطورت الأمور وحدثت أشياء ليست قليلة أيضاً. وحين حاولت في ٢٠١٣ أن أنهيه بزغ تنظيم الدولة الإسلامية. وقد كنتُ مشغولاً بما يكفي ومحظوظاً بما يكفي أنني لم أنهه.  والآن أنا أعمل عليه. كان كتابي الأول حول التواطؤ بين النظام وأقطاب الأعمال الكبار في سوريا، هذا التواطؤ الذي قاد بالفعل إلى تدهور الاقتصاد السوري وإلى الاستقطاب الاجتماعي الدرامي في سوريا والذي شكل خلفية الانتفاضة. يواصل كتابي الثاني القصة التي بدأت في الأعوام العشرة الأولى من حكم بشار الأسد الذي بدأ في عام ٢٠٠٠ ويبين إلى أي مدى فاقمَ حكمهُ السخط الشعبي ونصب خشبة المسرح لانتفاضة تأخرت كثيراً. ويعالج الكتاب ديناميات الانتفاضة السورية من خلال دراسة تعقيدها الشديد، ولماذا هي أكثر تعقيداً من الانتفاضات الأخرى في المنطقة نفسها، في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين. ويدرس الكتاب الدور الإقليمي المحوري لسوريا وكيف هو في محور صراعات مختلفة متزامنة: محلية وإقليمية ودولية. ثم يعالج تحول الانتفاضة إلى شيء لم يعد يشبه العواطف الأصلية للانتفاضة و محاولات تطويل الانتفاضة بما فيه ما دُعي بالحرب الاقتصاديةالتي استفاد منها جميع المتمردين والمقاتلين والدول. ويفسر الكتاب نوعاً ما وإلى حد ما لماذا هناك اهتمام قليل إقليمياً ودولياً بإنهاء الحرب، لأن هذا الاقتصاد أفاد لاعبين مختلفين غير مهتمين في الحقيقة بالثورة من كل الأطراف. ويعالج الكتاب ديناميات الانتفاضة بمعنى أنه يساعدنا في فهم تشكل وإعادة تشكل وتقوّض تحالفات ومجموعات مختلفة في المعارضة. وبدلاً من فعل ما تفعله الكثير من أبحاث مؤسسات الأبحاث أو التحليل أحياناً أو الأنباء التي تتبع هذه المجموعة أو تلك وكيف بزغت وكيف تحالفت وكيف تقوضت، حاولتُ أن أضع إطاراً لفهم ما يحكم هذه السيرورات، بحيث نستطيع أن نربط سوريا ما قبل ٢٠١١ مع ديناميات الانتفاضة محلياً، لمصلحة لاعبين إقليميين ودوليين عملوا معاً وقدموا البنية التحفيزية لتقوض هذه المجموعات المتحالفة المختلفة بعد تشكلها. ثم أختتم الكتاب بمناقشة إعادة الإعمار التي أعتبرها مهزلة. وفي الوقت نفسه لا تستطيع ألا تعيد الإعمار، أليس كذلك؟ وهكذا أنا لا أنقد إعادة البناء الهادفة إلى إعادة إعمار مستشفيات ومدارس ومنازل. ما أريد قوله هو أن هذا صار فرصة لكسب رأس المال، فرصة لزيادة أرباح فاعلين مختلفين ولإغناء خزائن الدولة بطرق ما ودعم حلفاء وأعداء دوليين مختلفين من خلال تقديم قطعة من الكعكة لهم.

توم هدسون: وأعتقد أن الغش والفساد متفشيان.

بسام حداد: هذا متواصل لسوء الحظ. والمحصلة النهائية هي أنه بعد هذه المأساة التي تواصلت أكثر من سبع سنوات لن تحدث الأمور من أجل خدمة الشعب السوري، بعد كل هذا الخراب. إن إعادة البناء يمكن ألا تخدم غالبية السوريين، بل ستطيل حياة وأمن المنتصرين المفترضين.

توم هدسون: شكراً لك على مساعدتنا في فهم هذه المنطقة المعقدة جداً من العالم.

بسام حداد: شكراً لك لاستضافتي وتقديري لكم ولأسئلتكم.

مقابلة أجرتها شركة WOUB Public Media التابعة لـ NPR، وترجمها إلى العربية أسامة إسبر.