حكاية فرح

حكاية فرح

كان يا ما كان، كان المجتمع السوري مجتمعاً يملؤه فرح خفيف، كان الناس يذهبون ويجيئون حتى تغيرت أحوال البلاد والعباد، ما عادت سورية كما كانت، جاء ألعن الأزمان وأبشع الأزمان وأكثرها قسوة وتوحشاً؛ فأرهق الحزن السوريين ومثَّل بهم واستولى على أجسادهم، فتعودوا امتصاص مدامعهم ومواجعهم حتى أنساهم هذا الزمن الأسود حليب أُمهاتهم الأبيض، صاروا يعيشون ظروفا تجعل الحياة لا الموت هي الأصعب على الاحتمال. أطفال سورية اليوم تحت السكين تترنح طفولتهم بين كافة أنواع البشاعة من اعتقال واغتصاب وقتل وتعذيب. برغم وجود عشرات الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تحميهم في النزاعات المسلحة. أوضاع الأطفال السوريين صعبة ولاتبشر بالخير، فالأمر لا يحتاج إلى بلورة سحرية للتنبؤ بهذه النتيجة المأساوية.

“لا مكان للأطفال”، جملة تختصر تقريرا مطوَّلا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، حول معاناة الأطفال السوريين في ظل الحرب التي تعصف بالبلاد منذ العام 2011 وحتى الآن.

يقول المدير الإقليمي لليونيسيف في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خيرت كابالاري، إن “عمق معاناة أطفال سورية لم يسبق لها مثيل فملايين الأطفال فيها يتعرضون للهجوم بشكل يومي، وقد انقلبت حياتهم رأسا على عقب.”

الأرقام صادمة، والحرب لم تترك مكاناً للأطفال.

في تقريرها الأخير الذي أصدرته في النصف الثاني من العام الماضي، تقول اليونيسيف أن ما يُقارب ٨.٤ مليون طفل سوري تأثروا بسبب النزاع الدائر في بلادهم ما يعني نحو ٨٠ بالمئة من مجموع الأطفال في سورية. وتشير اليونيسيف في تقريرها إلى أن الأطفال يشكلون نصف أعداد اللاجئين في دول الجوار السوري، بينهم أكثر من ١٥ ألفا عبروا الحدود من دون ذويهم. ويلفت التقرير إلى أن هنالك نحو ٢.١ مليون طفل سوري في داخل البلاد و٧٠٠ ألف طفل في الدول المجاورة لم يلتحقوا بالمدارس. كما تكشف أرقام اليونيسيف عن وجود مليون طفل سوري “يتيم” فقدوا أحد والديهما أو كليهما بسبب الصراع الدائر في البلاد منذ بدء الأزمة السورية وحتى الآن. حيث تعتبر سورية بحسب اليونيسيف بؤرة خطر على الأطفال، يلاحقهم الموت فيها فهنالك العديد من الأطفال فقدوا حياتهم في الصراع الدائر في البلاد.

هو الموت عينه الذي لاحق فرح تلك الصغيرة التي يئن قلبها شوقاً إلى والدتها وخربشاتها على جدران بيتها. فرح ذات السنوات الست تخاف أحلامها التي ترى فيها دوما مسلحين يصوبون قذائفهم إلى منزلها.

كان يوماً صيفياً دافئاً لكن المطر لم يعد مقتصراً على فصل الشتاء. في ذلك اليوم رأت فرح تلك الأشياء الغريبة تتساقط من السماء، أزاح صوت القذائف عن السماء أصوات العصافير وضحكات الأطفال. انهمرت قذائف الهاون، رحلت عائلة فرح لكن فرح كانت محظوظة بأن تعيش لموعد آخر. في زمن الموت، فرح ما زالت على قيد الحياة فيا لها من نعمة.

حكاية فرح

فرح طفلةٌ وديعةٌ شُجاعةٌ جميلةٌ ذاتُ ذكاءٍ خارق، وعينينِ من عسَلٍ وغمازة، من شُرفَةِ منزِلِ عمِها في حي المشتَل بدمشق، والذي انتقلت إليه بعد أن حصد الموت جميعَ أفرادِ أُسرَتِها، تُشاهِدُ فرَح القذائِفَ المُنقضَّةَ على الأهالي والمنازِل، فرَح لم تكُن خائفة من هذهِ الصاروخات، هكذا كانت تُسَميها.

تحدثت فرح مرةً كيفَ جاءَتِ الشمسُ كَفراشةٍ ووقفَت على نافِذتِها، أمسكًتْها فرح بِكَفِها الصغيرةِ البيضاء، قالت لها إن “كُنتِ تُحبينني أيتُها الشمس، فاذهبي إلى البحر ونامي طويلاً حتى لا تأتي الصاروخات وتضرِب الأطفال تحتَ ضَوئِكِ.”

إنَهُ زمنُ النارِ والقتل، وزمنُ الأهوال، يُفطِرُ السوريونَ في الصباح القذائِف وفي الظهيرة يتَغذونَ القنابِل وفي المساء يتعشَّون بالسياراتِ المُفخخة.

رَحلَتْ فرح عِندَما اخترقَت قذيفةُ هاوِن شُرفةَ غُرفَتِها، عادَت فرَح إلى الرَحِمِ التي خرَجَت منها. هل راودتها فِكرَةُ الموت؟ هل خطرَت ببالِها؟ تِلكَ الصغيرةُ التي كانت وردَةً لم تتفتَح، مليئةً بالحياة، هل أشاحَ الموت بوجهِهِ عنها وهوَ ذاهِبٌ إليها حتى لا يتألَم وهوَ يقطِفُ روحَها؟

سوريةُ اليوم تنزِفُ أكبدةً وأمعاء، في سورية صارَتِ الشوارِعُ والأرصفةُ حمراء، في سورية ما أكثرَ الواقفين اليوم أمامَ حجرَينِ منَ الرُخام يقرؤونَ الفاتِحَة، يقرؤونَ أبانا الذي في السماء. كم تُشبهينَ الوطنَ يا فرَح وكَم يُشبِهُكِ الوطن، يُقال إنَ الموتَ رفيقُ الجمال وجميلةٌ أنتِ حتى في موتِكِ، فحتى الموت اكتمِلَ بِكِ.

هذي حِكايَةُ فرَح.

وتستمرُ الحكاية فنرى ونسمعُ ونقرأُ كُلَ يومٍ عن فرحٍ جديدةٍ ترحلُ مع الراحلين.

ولكِن لو سُئِلنا يوماً عندما كانت فرَح تحت السكين عندما تشظّى لحمُها الحي، ماذا كُنا نفعل فبماذا سنُجيب ؟ بماذا سنُجيب؟

نيابة عن فرح وعن أطفال سورية وجهت اليونيسف نداء للعالم لتحقيق الآتي:

  • حل سياسي وفوري للنزاع.
  • وضع حد لجميع الانتهاكات.
  • الوصول غير المشروط والمستمر لجميع الأطفال المحتاجين، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون تحت الحصار.
  • توفير الدعم المستدام للحكومات والمجتمعات المضيفة للاجئين من أجل الأطفال المعرضين للخطر، بغض النظر عن وضعهم.
  • استمرار الدعم المالي لمواصلة تقديم المساعدة للأطفال المحتاجين داخل سورية وفي الدول المجاورة.

نحن لا نكتشف قارة جديدة إذا قلنا إن الأطفال في سورية يعيشون أزهى عصور الانحطاط في هذا الزمن الموحش.. هو قدر سورية ألا تنزف سماؤها عرقا ومطرا بل أكبدة وأمعاء، وقدر بعض المدن ألا تنبت الأرض فيها أشجاراً بل شقائق نعمان حمراء قانية وابتسامات وزهرات جميلة من دم أطفال شهداء، تقول الوثائق بأنهم ميتون، لكن الله يقول هم أحياء عند ربهم يرزقون.. فتوقفوا عن تشبيك أذرعكم والنظر إلى سورية تحترق، فبإمكانكم أن تمدوا إلى أطفالها أيديكم، فالطفل السوري مازال يموت، فلنجعل من حمايته هدفاً عاجلاً لنبقى ويبقى الأطفال السوريون على قيد حياة وقيد أمل، فيبدو أن هؤلاء الأطفال لايملكون خيارا سوى الانتظار.. الأمر ينجح أحياناً.

السوريّون يَشْهقون الموت ويُزَفّرون الحياة

السوريّون يَشْهقون الموت ويُزَفّرون الحياة

القامشلي، سورية

“نَوباتُ الرّبو الحـــادّة يمكن أنْ تُهدد حياتك، هذا ماقالهُ لي طبيب الصدرية المُناوب في مشفى (الرحمة) حين أسعفني زوجي بعد منتصف الليل قبل حوالي الأسبوع وقد كنتُ في حالة يُرثى لها، وفقدتُ الأمل في البقاء على قيد الحياة.” بكلماتٍ مخنوقة بصفير سُعال مُتكرر تسرُد «بتول» ــ سيدة ثلاثينية وأم لأربع بنات ــ معاناتها من هجمات الرّبو المُزمنة بعد تركيب مُولد الكهرباء في حارتها المعروفة بــ ” الآشورية ” قبالة بيتها في مدينة (القامشلي) شمال شرقي سورية قبل خمس سنوات. وتُضيف: “كنتُ أعاني من حساسية الرّبو لكنها تحولت إلى ربو مُزمن بعد تركيب المولدة التي تنفثُ غازات سامة تخنقني إلى درجة الغثيان والإغماء أحيانـــاً.”

الحـالة باتتْ خطراً مَحتوماً على حياة سميرة ادريس المراهقة التي شُخّص مرضها بسرطان الدم، فبحسب دراسة أعدّتها الجامعة الأميركية في بيروت فإن استخدام مولدات الديزل لمدة تصل إلى٣ ساعات يومياً، ترفع من نسب التعرض اليومي للسرطان بنسبة ٣٣ % أمّا في المناطق التي تعمل فيها المولدات لمدة ٨ إلى ١٢ ساعة في اليوم، فيمكن للجرعات المُستنشقة من البنزوبيرين  ــ مُركّبات مُسببة للسرطانات محمولة جواً ــ أنْ تُعادل ١٠ سجائر في اليوم.

سميرة واحدة من ٣٠٠ ألف شخص من سكان (القامشلي) ممّن يُعانون من الاضطرابات النفسية والصحية جراء التلوث وضجيج مولدات الديزل “عصب الطاقة” البديلة للكهرباء النظامية التي تمدّ شوارع وبيوت وأسواق المدينة بالكهرباء لثماني ساعات في اليوم، والتي تجاوز عددها ٣٨٠ مولدة بحسب إحصائية بلدية الشعب المركزية في القامشلي بعد انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه نهائي منذ عام٢٠١٢.

١٠ آلاف مُصاب بالسرطان سنوياً

يستقبل مشفى البيروني في العاصمة دمشق سنوياً سبعة آلاف إصابة جديدة بأمراض السرطان كَمُعدل وسطي حسب إحصائيات المشفى، في حين قَدرت مصادر طبية أنه في كل عام هناك نحو ١٠ آلاف إصابة جديدة في البلاد.

وهي أرقام يعتبرها دانيش إبراهيم أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة مُخيفة وهي تعادل الــ٦٠ إصابة يومياً لأسباب يُرجّح الطبيب إرتفاعها إلى سوء التغذية والأسلحة المحظورة دولياً، والمُبيدات الحشرية والكيماوية التي يعتبرها الإختصاصي إبراهيم من العوامل المؤهلة والمحرضة للإصابة بالمرض، والتي تعمل على تغيير الشفرات الوراثية التي تؤثر بدورها على انتقال الأمراض وراثياً إلى الأجيال القادمة. وأشار إلى انتشار السرطان بنسب كبيرة بين مختلف الفئات العمرية لاسيّما في منطقة الجزيرة محافظة الحسكة بسبب انتشار المولدات الكهربائية والحَرّاقات.

صورة رقم 1: الدكتور «دانيش إبراهيم» أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة.

أكثر من ٣٥٠٠ حالة جديدة سنوياً بسرطان الثدي في سورية، وحسب تقديرات بلندا عبد الرحمن طبيبة مُشرفة سابقاً في مشفى البيروني والاختصاصية في علم الأورام أنّ أكثر السرطانات النسائية الشائعة في دول العالم الثالث هي سرطان الثدي حيث إن ١ من أصل كل ٧ نساء تُصاب بسرطان الثدي. بينما ١ من كل ١٢٨ امرأة سَتُصاب بسرطان عنق الرحم. وعلى الرغم من قلّة الإصابة بسرطان عنق الرحم إلا أنّ أكثر من نصف النساء المصابات به يَمُتنَ بسببه؛ فهو أخطر من سرطان الثدي وتكون طرق الوقاية منه بإجراء لُطاخة عنق الرحم. وارتفعت مؤخراً معدلات الإصابة بالسرطان بنسب كبيرة بين السوريات لا سيما سرطان الثدي.

صورة رقم 2: الطبيبة «بلندا عبد الرحمن» المُشرفة سابقاً في مشفى (البيروني) والاختصاصية في علم الأورام.

انهيار النظام الصحي

الحرب الدائرة رحاها في سوريا لعامها الثامن تسببت بهجرة ٥٠٪ من الأطباء الاختصاصيين إلى خارج البلاد، وخلّفت أمراضاً كثيرة لاسيّما بين أنقاض المدن المدمرة. فَبسبب تلوث الطعام والمياه وحتى الهواء وتراكم أكوام القمامة الملقاة في كل مكان، وانحلال الجثث التي يصعب انتشالها من تحت الأبنية المُنهارة، عدا عن الجرب وشلل الأطفال والحصبة والتهاب الكبد الوبائي، والكوليرا، وحمّى التيفوئيد.

وتُرجّح الطبيبة «سحر جميل» أخصائية الأمراض الجلدية أسباب تزايد انتشار اللايشمانيا وغيرها من الأمراض الجلدية المُعدية إلى ظروف النزوح وتجمع أعداد كبيرة من المواطنين في أماكن محصورة وغير نظيفة (كمخيمات اللاجئين ومراكز الإيواء) واستخدامهم مرافق الخدمات المشتركة وتداعيات الحرب على البيئة. إضافةً لوجود مواد غذائية وطبية كـ اللقاحات دخلت سوريا بطرق غير شرعية وغير مراقبة طبياً ومجهولة المصدر وتاريخ الصلاحية.

أشار بيان منظمة الصحة العالمية لعام ٢٠١٧ إلى تدهور الخدمات الصحية وتأثر وصول المدنيين إليها، وكشفت إليزابيث هوف مُمثلة المنظمة في سوريا، عن أنّ أكثر من ٥٠٪ من المرافق الصحية بما في ذلك المستشفيات والمراكز الصحية لا تعمل. وبالإضافة إلى ذلك فإن ٧٥٪ من المِهنيين في مجال الصحة، بمن فيهم المتخصصون في اختصاصات عالية مثل أطباء البَنْج والجراحين غادروا البلاد. وتؤكد هوف أن سوريا قبل الحرب كانت تتمتع بأفضل مؤشر صحة في منطقة الشرق الأوسط، وما رأيناه الآن يُوضّح أنّ تغطية عمليات التطعيم قد انخفضت من ٩٥٪ إلى أقل من ٦٠٪، وهذا يُؤثر بشكل خاص على المناطق التي يصعب الوصول إليها والمناطق المحاصرة.

الأسلحة الحارقة

تصاعدت الهجمات بالأسلحة الحارقة في سوريا بشكل كبير منذ بدأت روسيا عمليتها العسكرية المشتركة مع الحكومة السورية في٣٠ سبتمبر/أيلول ٢٠١٥ ضد الفصائل المسلحة المعارضة في غوطة دمشق وإدلب وحماة وسراقب وغيرها. ولم تتوانَ الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة السورية والمدعومة من تركيا في استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين في حيّي (الأشرفية وشيخ مقصود) في مدينة حلب وفي مدينة منبج وريفها.

وتوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقاً مُؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها.

صورة رقم 3: الصاروخ الذي ضرب بيت «فهد الناصر».

كان بيت عائلة «فهد الناصر» من قرية الدندلية في ريف مدينة منبج في مرمى القنابل الحارقة والصواريخ التي أطلقها مقاتلو درع الفرات الفصيل المسلح التابع للمعارضة السورية على قريته قبل حوالي عامين وتعرض طفله مصطفى ذو ثلاث سنوات وزوجة أخيه وأخته لحروق أدّت إلى تشوّهات خُلقية.

يُؤكد الناصر تعرض أخته وزوجة أخيه وطفله إلى حالة غثيان وسُعال شديدتين نتيجة استنشاقهم لغازات ذات روائح كريهة كما قال، إضافة لمواد سائلة انبعثت من الصاروخ الذي قُصف به منزله أدّت إلى احتراق أقدامهم وتشوّه جلدها.

صور رقم 4  و 5: تُظهر الطفل «فهد الناصر» وتشوه قدميه نتيجة المواد سائلة المنبعثة من الصاروخ الذي قُصف به منزله.

وتُوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقا مؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها، وتُشعل الأسلحة أيضاً حرائق يصعب إطفاؤها، وتُدمّر الأحياء المدنية والبنية التحتية.

منظمة هيومن رايتس ووتش سجلت استخدام ٤ أنواع من الأسلحة الحارقة في سوريا منذ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٢، جميعها من نوع “زاب”، وهي قنابل حارقة.

صورة رقم 6: مادة سائلة ناتجة عن الصاروخ الحارق.

السلاح الكيماوي

خلال الحرب السورية وُثّقت عدة حالات تم خلالها استخدام السلاح الكيماوي كان أبرزها الهجوم الكيماوي الذي استهدف منطقة الغوطة (غوطة دمشق) في ٢١ آب ٢٠١٣. فقد اتّهمتْ المعارضة السورية قوات النظام بإلقاء سلاح كيماوي من غاز السّارين على منطقة الغوطة في حادثةٍ أدّت إلى مقتل ما لا يقل عن١٥٠٠ شخص في زملكا وكفربطنا والمعضمية وجوبر وعربين وسقبا وحمورية وحرستا وعين ترما. كان معظم الضحايا من المدنيين بينهم نساء وأطفال وبلغ عدد المصابين أكثر من ٦٠٠٠ حسب إحصاءات المشافي والنقاط الطبية في المنطقة. وكانت بعثة الأمم المتحدة للتحقيق حول استخدام الأسلحة الكميائية في سوريا قد أجرت تحقيقاً في العام ٢٠١٣  لتقصي مزاعم استخدام الأسلحة المحظورة في ٧ من أصل ١٦ حالات: خان العسل، وسراقب، وشيخ مقصود، الغوطة، البحارية، جوبر، وأشرفية صحنايا.

واعترفتْ احدى فصائل “جيش الإسلام” التابعة للمعارضة السورية، في السابع من أبريل/نيسان ٢٠١٦، باستخدامها أسلحة محظورة خلال الإشتباكات مع وحدات حماية الشعب الكردية في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب والتي تسببت بحالات اختناق في صفوف المقاتلين والمدنيين في الحي.

كما اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات النظام السوري باستخدام غاز الأعصاب في ثلاث هجمات على خان شيخون، وتحدثت المنظمة في تقرير نشرته في أيار/ مايو ٢٠١٧ عن “نمط واضح وممنهج” في استخدام الأسلحة الكيماوية قد يصنف في خانة “جرائم ضد الإنسانية”.

ووفقاً لمجلة فورين بوليسي فقد استخدم الجيش الأمريكي الكيماوي رغم تعهده بعدم استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في ساحات المعارك في العراق وسوريا، إلا أنّ عدداً من المسؤولين أكّدوا أنّ الجيش الأمريكي قد أطلق آلاف القنابل التي تحتوي على هذه المادة خلال غارتين على شاحنات النفط في سوريا في مناطق كان يُسيطر عليها تنظيم داعش في أواخر سنة ٢٠١٥. وتُعتبر هذه الهجمات بمثابة أول استخدام مُؤكُد للجيش الأمريكي لليورانيوم منذ غزو العراق سنة ٢٠٠٣، عندما استُخدمت هذه المادة السامة لمرات عديدة، الأمر الذي أثار موجة غضب داخل المجتمعات المحلية التي زعمت أنّ هذه المواد السامة من شأنها أن تتسبب في أمراض سرطانية فضلاً عن جملة من التشوهات الخُلقية.

تُحذّر عبير حصّاف رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية الكردية في القامشلي من النتائج الكارثية على الصحة البشرية والحيوانية والبيئية جرّاء استخدام الأسلحة الكيماوية وتضيف: “استخدام الأسلحة المحظورة دولياً تُشكل تهديداً خطيراً على الأمن الصحي في سورية، نتيجة شيوع الأمراض السرطانية، وازدياد التشوهات الجينية التي تخلقها الأسلحة والمواد الكيميائية، ممّا يؤدي إلى تعقيد الواقع الصحي بارتفاع عدد المرضى وضرورة توفير الرعاية اللازمة لهم.”

صورة رقم 7: «عبير حصّاف» رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية (الكردية) في القامشلي.

ونوّهت حصّاف إلى أضرار استخدامها على الثروة الحيوانية والزراعية، كون الأسلحة الكيميائية تُؤدي إلى تلوث خطير في التربة والنباتات. وقد تتسبب الخضار والمحاصيل الزراعية والفاكهة المصدرة محلياً بين المحافظات والمزروعة في الأماكن التي تعرضت لتلك الأسلحة إلى خطر انتقال أضرارها إلى المدنيين الذين سيتناولون تلك المحاصيل الملوثة ممّا سَيزيد من خطورة الكارثة، وانتقال خطورتها مستقبلاً أيضاً.”

انهيار القطاع الدوائي

تتوزع معامل الأدوية بشكل رئيسي بين ثلاث محافظات هي: حلب فمعاملها تنتج حوالي ٥٥٪ من إنتاج الدواء السوري، ودمشق وريفها ٤٠٪ وحمص ٢٠٪ ، وبحسب تقديرات الصناعات الدوائية، فقد انخفض انتاج الدواء في سوريا إلى ٦٠٪ نتيجة تضرُّر العديد من المعامل.

أرجع الصيدلاني جلال مراد سبب تراجع جودة الدواء المتوافر حالياُ في سوريا إلى انخفاض جودة المواد الأولية المستوردة من الصين والهند وإيران. وأشار إلى أنّ الغياب شبه التام لرقابة المؤسسات المعنية كان سبباً في قيام مُنتجي هذه الأدوية بتخفيض النسبة الدوائية الفعالة فيها. ناهيكَ عن رَواجْ تجارة الأدوية المُهربة والمخدرات والأدوية المُهدئة والتي تحتوي على نسب عالية من المواد المخدرة، وانتشرت بعض الأصناف الدوائية عديمة الفعالية كأدوية الالتهابات وبعض المسكنات.

صورة رقم 8: الصيدلاني «جلال مراد».

وأضاف مراد إنّ انقطاع طرق النقل والمواصلات بين المحافظات تسبب بدوره بصعوبات في نقل وإيصال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى الأسواق. ناهيك عن تعامل المنظمات الصحية العالمية فقط مع السلطات المركزية السورية، وهذا بدوره انعكس سلباً على الواقع الصحي في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري.

استمرار الحرب السورية منذ منتصف آذار ٢٠١١ والتي تسببت بمقتل وإصابة الآلاف وتشريد عشرات الآلاف في مخيمات النزوح واللجوء. فاق واقع الصحة في سورية النتائج الكارثية للحرب التي أنهكت كاهل السوريين منذ قرابة الثماني سنوات. هذا الواقع يُحتم على الجهات المعنية الإسراع في إجراء تقييم شامل للقطاع الصحي والرعاية الصحية في البلاد وتأمين الأدوية للمصابين بالأمراض المزمنة. يجب أن يتم هذا تقييم من خلال دراسات تشمل إلى جانب القطاع الصحي الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم وضع السياسات اللازمة لتحسينها مع استكمال ترميم المشافي والمراكز الطبية المتضررة وتأمين المعدات الطبية اللازمة لعملها، وذلك بالتعاون مع منظمات الصحة العالمية.

يدفنون أنفسهم’ في الغوطة … وخائفون في دمشق’

يدفنون أنفسهم’ في الغوطة … وخائفون في دمشق’

منذ أيام، لم يذق سكان الغوطة الشرقية وأطفالهم المذعورون طعم الأمان، يلازمون الطوابق السفلية والملاجئ خشية قصف الطائرات التي لا تفارق أجواء منطقتهم، فيما خفّت الحركة في بعض أحياء دمشق جراء القذائف التي تطلقها الفصائل المعارضة، حسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية من دوما شرق دمشق.

في الغوطة الشرقية القريبة من دمشق والمحاصرة منذ سنوات، قُتل نحو ٤٠٠ مدني منذ الأحد الماضي، ولم تخفف ردّات الفعل المستهجنة من الدول والمنظمات غير الحكومية من حدة هذا القصف الذي دمر ١٣ مستشفى ومركزا طبياً.

وانتقل الخوف أيضاً إلى سكان أحياء دمشق القديمة القريبة من الغوطة، بعد تكرار سقوط قذائف عشوائية تطلقها الفصائل في الغوطة وتسببت في وقوع عشرات القتلى والجرحى.

ويقول أبو محمد العفا (٣٩ عاماً) من أحد الأقبية التي يتخذها ملجأ له في مدينة دوما لوكالة الصحافة الفرنسية: «هناك تخوف كبير من دخول النظام، لم يبقَ أمامنا مخرج ولا بلد نلجأ إليه، لم يبق لدينا سوى الأقبية». ويضيف: «الخوف كله يتجسد هنا في الملجأ أو القبو» حيث يتجمع عشرات الأشخاص بين ٤ جدران، مضيفاً: «الخوف عظيم والعالم كله يتفرج علينا».

ومع أن الغوطة الشرقية تتعرض منذ سيطرة الفصائل المعارضة عليها في عام ٢٠١٢ لقصف عنيف من قوات النظام، ولاحقاً من حليفته روسيا، فإن الوضع أكثر تعقيداً، بعدما استكملت قوات النظام السوري تعزيزاتها العسكرية في محيط المنطقة، ما يُنذر بهجوم بري وشيك عليها.

وتلخص أمل الوهيبي (35 عاماً) من دوما، معاناة السكان، بالقول: «ننزل إلى هذا القبر (في إشارة إلى الملجأ الذي تختبئ فيه) نقبر أنفسنا قبل أن نموت». وتضيف: «ما نذوقه اليوم أصعب من أن يدخلوا (قوات النظام). قد يكون من الأفضل إذا دخلوا (…) فنحن نتساءل: متى سنموت؟».

بعد سنوات من المعاناة، بات أهالي الغوطة الشرقية تواقين إلى الأمان فحسب، وفق ما تقول أم محمد، المدرّسة في دوما. وتوضح الشابة النحيلة التي ترتدي معطفاً أسود اللون وتضع حجاباً فوق رأسها: «يقول بعض الأهالي إنه ليست هناك من مشكلة في دخول النظام، المهم أن يبقى ابني وزوجي بأمان، المهم أن أعيش بأمان».

وتضيف: «يقول آخرون العكس، أيْ حاربنا ٧ سنوات لنسلم الآن الأرض؟ ونسلم الصغير والكبير والشيخ للذبح؟ لا». وتقول: «الناس محتارون»، بعد ورود أنباء عن تعزيزات تُمهد لهجوم بري: «اليوم، من أول طلقة، يهرع الناس إلى الملاجئ، أو المقابر الجماعية أي الملاجئ غير المهيأة».

وتقصف قوات النظام منذ ليل الأحد الماضي، بالطائرات والمدفعية والصواريخ، الغوطة الشرقية التي تحاصرها بشكل محكم منذ ٢٠١٣ ما تسبب بمقتل أكثر من نحو ٤٠٠ مدني بينهم أكثر من عشرات الاطفال.

وتبدو شوارع مدن وبلدات الغوطة الشرقية خالية إلا من الأبنية المدمرة والركام المتناثر في الشوارع، والدخان المتصاعد من القصف والحيوانات المشردة. وبادر سكان لا ملجأ لديهم يؤويهم إلى حفر غرف تحت منازلهم للاحتماء من القصف الذي طال أيضاً مستشفيات عدة، وفق ما شاهد مراسل وكالة الصحافة الفرنسية.

في ملجأ تحت الأرض في دوما، تقول خديجة (٥٣ عاماً) بتوتر شديد: «لا نتجرأ على الخروج، لا نتجرأ على الصعود من هذا الملجأ، الوضع مأساوي جداً». وتضيف المرأة بصوت يرتجف وقد تجمع حولها عدد من الأطفال في غرفة مظلمة: «الطيران من فوقنا والقذائف من حولنا (…) أين نذهب بأطفالنا؟».

وعلى غرار خديجة، انتقل الكثيرون من سكان الغوطة الشرقية إلى الملاجئ والأقبية تحت الأرض لتفادي غارات ومدافع قوات النظام التي تستهدف أحيائهم وأسواقهم ومنازلهم.

وأدان العديد من المنظمات الإنسانية الدولية التصعيد على الغوطة الشرقية، وحذرت الأمم المتحدة من أثره «المدمر»، فيما يبدو المجتمع الدولي عاجزاً عن تبني موقف موحد يضع حداً للقصف، وسط محاولات لتمرير قرار في مجلس الأمن لهدنة انسانية لثلاثين يوماً.

ورغم التصعيد الشديد، يقول صالح أبو دقة (٤٧ عاماً)، أحد سكان دوما: «الناس اعتادوا. والقصف لم يهدأ على الغوطة منذ 6 سنوات، يأتينا موجات خلف موجات».

والى جانب الخسائر البشرية، أدى القصف المكثّف من النظام إلى دمار كبير في الأبنية وممتلكات مواطنين والبنى التحتية، وإلى تفاقم المأساة الإنسانية وتردّي الوضع الصحي والطبي والغذائي الذي بلغ أسوأ حالاته منذ بداية الحصار على الغوطة قبل ٥ سنوات. وأعلن الناشط في الغوطة الشرقية عبد الملك عبود لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوضع الإنساني مأساوي للغاية». ولفت إلى أن «أغلب المشافي والنقاط الطبية استُهدفت وخرجت من الخدمة نهائياً»، مشيراً إلى أن «الأطباء انتقلوا إلى المنازل والأقبية لإجراء العمليات الجراحية للمصابين، وهم يعانون من نقص حاد في المستلزمات الطبية»، لافتاً إلى أن «المجالس المحلية شكّلت لجان طوارئ في كل المدن والبلدات المنكوبة، لتجهيز الأقبية ونقل المدنيين إليها، في ظل استحالة السكن فوق الأرض».

على بُعد بضعة كيلومترات فقط، يعتري الخوف أيضاً سكان دمشق مع اشتداد وتيرة سقوط القذائف التي تطلقها الفصائل المعارضة المنتشرة في الغوطة الشرقية، وتستهدف بشكل أساسي المدينة القديمة.

وغداة مقتل ١٣ مدنياً أول من أمس (الثلاثاء)، في دمشق، وفق الإعلام السوري الرسمي، فضّل كثيرون التزام منازلهم ومتابعة آخر التطورات على نشرات الأخبار، بينما تُسمع أصوات الطائرات المحلقة فوق الغوطة الشرقية وضرباتها الجوية. وامتنع الكثير من الأهالي عن إرسال أولادهم إلى المدارس، وأعلنت مدارس في الأحياء التي تستهدفها القذائف إقفال أبوابها.

يقول إبراهيم (٥١ عاماً) في أثناء تفقده الأضرار التي خلّفتها إحدى القذائف في منطقة باب شرقي، لوكالة الصحافة الفرنسية: «نريد من الجيش أن يخلّصنا من هذا الوضع بأي حل يراه مناسباً، لقد مللنا القذائف التي تسقط ليلاً ونهاراً». ويضيف: «لم نعد نتجرأ على إرسال أبنائنا إلى المدارس. بات الخوف هو المسيطر»، موضحاً: «سنتحمّل قليلاً لنرتاح لاحقاً».

وبعد بدء التصعيد، ووسط أنباء عن هجوم وشيك على الغوطة، قال سكان في دمشق إنهم بدأوا التفكير في حلول تبعدهم عن القذائف على غرار «كريم» الذي قرر الانتقال مع عائلته إلى مسقط رأسه على الساحل السوري «حتى عودة الهدوء».

وبدا حي باب توما في دمشق القديمة، حيث تنتشر المقاهي والحانات، شبه خالٍ إلا من بضعة «مُغامرين بحياتهم»، كما وصفهم أحد المارة.

ولم تمنع القذائف فهد بركيل (٥٤ عاماً) من التوجه إلى عمله في ورشة تصليح السيارات في شرق دمشق، ويقول: «سكني وعملي في منطقة مستهدفة بالقذائف، لكن إمكاناتي المادية لا تسمح لي بالذهاب إلى مكان آخر». ويضيف: «ليس لديّ خيار آخر، سأبقى وليساعدنا الله».

نقلا عن “الشرق الآوسط” و فرانس برس ونشطاء

الشمال السوري وقصة منطقة ”خفض التصعيد“ الرابعة

الشمال السوري وقصة منطقة ”خفض التصعيد“ الرابعة

تُعتبر منطقة الشمال السوري من أصعب المناطق التي يمكن التكلم عنها والبحث فيها، بسبب صراع المصالح الداخلية والخارجية وتوزع أماكن السيطرة والنفوذ، والذي أدّى في النهاية إلى تدخلات عسكرية خارجية سواء في وسط محافظة إدلب أو في مدينة عفرين شمال سوريا، صحيح بأن مدينة عفرين لم تدخل في مناطق” خفض التصعيد” إلا أنها متّصلة بشكل مباشر بما يحدث فيها، كونها جزءاً أساسياً في مثلث صراع المصالح الروسي – التركي – الأمريكي، والذي زاد من حدّته في الآونة الأخيرة.

تمت تسمية محافظة إدلب وبعض من امتداداتها داخل محافظتي حماه واللاذقية بمنطقة ”خفض تصعيد“ رابعة في سوريا، وجرى الاتفاق عليها في لقاء ”أستانة – ٦” بين الدول الثلاث الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، وهي في معطياتها تشبه مناطق خفض التصعيد السابقة كما وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “إذا أقيمت منطقة تخفيف التصعيد، فحينئذ لن يحلّق فوقها الطيران شرط ألا يسجَّل أي نشاط عسكري في تلك المناطق“ وأضاف ”إنّ محاربة التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم “داعش” أو “جبهة فتح الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، ستتواصل رغم احتمال إقرار المناطق الآمنة“.

تحمل منطقة ”خفض التصعيد“ في محافظة إدلب صفتين خاصتين، أولهما أنها تشمل المنطقة الجغرافية المعنية وتستثني فصائل المعارضة المتواجدة فيها، حيث أن الاتفاق تم توقيعه بين الدول الثلاث الراعية لمؤتمر أستانة، وثانيهما أنه سيتم نشر قوات تركية في ١٢ نقطة مراقبة من جانب مناطق سيطرة فصائل المعارضة المسلحة، فيما سيتم نشر قوات مراقبة روسية وإيرانية من جانب سيطرة النظام السوري. وفعلاً بدأت عناصر القوات المسلحة التركية بإنشاء مراكز مراقبة اعتباراً من ١٢ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٧، حيث أقيمت ثلاث منها على محور إدلب – عفرين، قرب قرية صولة وقلعة سمعان، وتلة الشيخ عقيل، ومع وصول الجيش السوري وسيطرته على مطار ”أبو الضهور“ العسكري مؤخراً، وصلت قوة عسكرية تركية إلى ”تلة العيس“ لإنشاء نقطة مراقبة رابعة ملاصقة لأماكن تواجد الجيش السوري، كذلك أجرى وفد عسكري للقوات التركية مساء الثلاثاء الفائت، جولة استطلاعية داخل مطار تفتناز العسكري شمال شرق إدلب، تمهيداً لإقامة نقطة مراقبة خامسة في المنطقة. ورجّحت بعض المصادر التركية – بحسب وسائل إعلامية تركية – بأن تُنهي القوات التركية انتشارها في جميع النقاط الـ١٢ المُتفق عليها، في إدلب وأرياف حلب وحماة والساحل خلال عشرة أيام فقط، مما يعني تسريعاً في تنفيذ العملية وانتقاء نقاط المراقبة بالتزامن مع تقدم الجيش السوري والقوات الحليفة نحو سراقب ومعرة النعمان من الجهة الشرقية. مما يوحي بأنها تحديد لمناطق النفوذ أكثر منها للمراقبة، فلا معنى لمراقبة انتهاكات خفض التصعيد – التي كنّا نتطلّع إليها – مع كل هذا التصعيد في المنطقة.

لقد أصبحت تركيا حليفاً مهماً لروسيا في الشمال السوري، وبدونها لما استطاعت روسيا تحقيق نجاح عسكري في مدينة حلب، ولا إنتاج مناطق خفض التصعيد في سوريا، والتي كان من أهم نتائجها تحجيم مناطق سيطرة تنظيم داعش في دير الزور، وإنهاء تواجدها تماماً في البادية السورية (ضمن حصّة روسيا والجيش السوري في قتال داعش)، بالإضافة إلى حصر تواجد عناصر جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) في منطقة إدلب وريفها، بعد اتفاقيات وعمليات نقلهم من مناطق الصراع المختلفة (عرسال لبنان وجبال القلمون غرب العاصمة دمشق، الغوطة الشرقية، مخيم اليرموك ومناطق جنوب دمشق، درعا). كما نتج من التعاون التركي الروسي عملية فصل لفصائل المعارضة المُصنفة معتدلة عن هيئة تحرير الشام، والتي طالبت بها روسيا كثيراً، ولم تستطِع أو ترغب القيادة الأمريكية في تحقيقها، ولكن تركيا استطاعت فعل ذلك، من خلال سحب فصائل معارضة من شرقي مدينة حلب وجعلهم إلى جانبها في عملية ”درع الفرات“ التي انطلقت إلى جرابلس لطرد تنظيم داعش، ثم توسعت لتشمل إبعاد المقاتلين الأكراد إلى شرق نهر الفرات، ومرة أخرى في سحب فصائل معارضة من محافظة إدلب وانخراطهم معها في عملية ”غصن الزيتون“ ضد وحدات حماية الشعب الكردي في مدينة عفرين، بالإضافة إلى تحييدها فصيل ”حركة أحرار الشام“ الذي شارك بصورة متأخرة في اجتماعات أستانة، ووافق على مخرجاتها بعد أن انقسم شاقولياً بين متشدّد انضم إلى هيئة تحرير الشام، ومعتدل اتّخذ من منطقة الغاب في الريف الحموي وبعض مناطق الريف الإدلبي مكاناً ثابتاً له.

كما هو ملاحظ، حققت تركيا الكثير من أهدافها من خلال هذا التعاون، فقد أصبحت تملك أكثر من قاعدة عسكرية في الشمال السوري حيث مناطق سيطرتها مع حلفائها من المعارضة، ونقاط مراقبة خفض تصعيد منتشرة في محافظة إدلب تحدد وتحمي مناطق نفوذها، بالإضافة إلى دخول جوي للأجواء السورية كان محظوراً عليها في السابق، مما مكّنها من التوغل في الأراضي السورية وحماية أمنها القومي كما تدّعي.

لكن هذا التعاون والتنسيق يحمل الكثير من تباين الرؤى بين الطرفين، فروسيا تنظر إلى الحل السوري بشكل كامل وشامل، ولكن من زاوية محدّدة تقتضي دعم الحليف ”النظام السوري“ وإقصاء جميع معارضيه، بينما تنظر تركيا إلى مصالحها من زاوية الطموح الكردي في الشمال السوري، إضافة لأطماع ومكاسب أصبح بالإمكان تحقيقها، وهذا خلق نوع من الندّية وبعض التصادم سياسياً وعسكرياً، وإن كان بطريقة غير مباشرة. فمثلاً استنكرت تركيا دعوة روسيا لممثلين من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب الكردية لحضور مؤتمر ”الحوار الوطني“ في سوتشي، وعند دخول الجيش السوري المدعوم بالطيران الروسي إلى ريف إدلب وسيطرته على العديد من القرى والبلدات هناك، تصدّت بعض فصائل المعارضة الصغيرة لهذا التقدم السريع واستطاعت أن تحدّ منه وتسترجع الكثير من المناطق التي خسرتها، كانت كما يبدو بدعم وتسليح تركي، حتى أن صور المدرّعات التركية التي استخدمتها قوات المعارضة كانت واضحة في وسائل الإعلام وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، ناهيك عن عملية استهداف الرتل العسكري التركي المتوجه إلى ”تلة العيس“ من مناطق سيطرة الجيش السوري والرد التركي عليها، ثم مؤخراً بعد بدء عملية ”غصن الزيتون“ بأيام قام الجيش السوري بنشر وحدات دفاع جوي جديدة وصواريخ مضادة للطائرات في الخطوط الأمامية في ريفي حلب وإدلب لتُغطّي كامل المجال الجوي في شمال سوريا.

أما بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية، فكما تبَيّن بأنهم منقسمون إلى فريقين، فريق يميل إلى التنسيق والدخول في الرؤية الروسية للحل مع توفّر ضمانات يجب تحقيقها ضمن الدولة السورية، وهذا كان واضحاً في تصريحات الرئيس المشترك لـ ”قوات سوريا الديمقراطية“ السيد رياض درار حول أن هذه القوات ستنضم للجيش السوري الذي سيتكفل بتسليحها عندما تتحقق التسوية السورية، وفريق – أكثر ترجيحاً – يميل نحو الانخراط في المشروع الأمريكي المأمول تحقيقه شرق الفرات، والذي أدى إلى رفض الطرح الروسي الذي يقترح دخول الجيش السوري إلى مدينة عفرين لوقف العملية العسكرية التركية فيها. رغم ذلك من الملاحظ بأن عملية ”غصن الزيتون“ لازالت في محيط المدينة، والجيش التركي – الذي دخل المعركة بالتنسيق مع الروس – غير منخرط فيها بشكل مباشر على الأرض، بل تقوم فصائل المعارضة السورية بالدور الأكبر في الهجوم البري، مع مساندة للمدفعية والمروحيات التركية، بالإضافة إلى الطيران الحربي، وهذا يدل بأن هناك متّسعاً من الوقت لتحقيق مخرج سياسي ما، وأن روسيا – التي لم تسحب كامل جنودها من عفرين – لا تزال متمسكة بالورقة الكردية في محاولة منها لإبعادهم عن المشروع الأمريكي الذي سوف يؤدي حتماً إلى تقسيم سوريا، وهذا يتناغم بشدة مع مصالح كل من تركيا وإيران اللتين تعملان جنباً إلى جنب مع الروس لمنع تحقيقه، رغم تضارب المصالح فيما بينهم. لكن يبدو أن ”الماكينة“ الروسية تعمل في أفضل حالاتها، فعين على المشروع الأمريكي شرق الفرات والقضية الكردية، وأخرى على مخاوف وطموح تركيا، ومتابعة التنسيق معها لأجل القضاء على هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في إدلب وريفها، بالإضافة إلى متابعة تطور الوضع في الجنوب السوري وما يجري بين الايرانيين والإسرائيليين، كل ذلك ضمن سعيها لتطبيق الحل وفق رؤيتها، وبما يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤ الخاص بسوريا.

لكن – رغم ذلك – تظهر بعض الأمور غير المتوقعة، فمع قدوم العام الجديد، وفي السادس من يناير/كانون الثاني، تعرّضت قاعدة حميميم الجوية العسكرية التابعة للقوات الروسية في سوريا، إلى هجوم هو الأول من نوعه، بعدما حلَّقت ١٣ طائرة من دون طيار مزودة بقنابل يدوية الصنع هاجمت القاعدة الجوية الروسية في حميميم والقاعدة البحرية الروسية في طرطوس، ولكن الهجوم فشل، بعد تصدي الدفاعات الأرضية لها، صحيح بأنه لم يعلن أي طرف مسؤوليته عن الهجوم، لكن بحسب وزارة الدفاع الروسية فإن الطائرات المسيّرة بدون طيار ”الدرونات“ انطلقت من جنوب غرب منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، ولاحقاً مع التصعيد العسكري الأخير واشتداد القصف على مدينة سراقب في ريف إدلب، تمّ اسقاط طائرة سوخوي روسية بمضاد طيران محمول على الكتف، وهو سلاح محرّم على فصائل المعارضة امتلاكه منذ بداية الأزمة. لم تخرج روسيا حتى الآن بأي تصريح اتهامي، ولكنها طالبت بأجزاء طائرتها المحطمة لفحصها بغاية الكشف عن مصدر الصاروخ الذي أسقطها ونوعه، وأخيراً كان التصعيد الإسرائيلي في الجنوب بعد إسقاط مقاتلة F16 الإسرائيلية بمضادات طيران سورية، و ما تلاه من توعّد اسرائيلي لتواجد ايران في الجنوب السوري، ناهيك عن التصعيد الأمريكي – الغربي في مجلس الأمن ضد النظام السوري لاستخدامه غاز الكلور في الغوطة الشرقية وريف إدلب ضد معارضيه.

كل ذلك يرسم الكثير من علامات الاستفهام والقليل من الدلالات، فمن له مصلحة بقصف قاعدة حميميم ويملك هذه التقنية المتطورة؟ ومن سرّب لعناصر هيئة تحرير الشام مضاد الطيران المحمول على الكتف؟
هي أسئلة لا يمكن الإجابة عنها، ومن الصعب الجزم بها، لكن يمكن تبيّن بعض من ملامحها من خلال من يريد تعطيل الحل الذي تقترحه وتنفذه روسيا في ظل تضارب وتجاذب مثلث المصالح في الشمال السوري، طبعاً دون أن ننسى من استثمر كثيراً في” هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وغاب عن المشهد مؤخراً لأسباب خارجة عن إرادته.

إن ما نلاحظه ونعمل على متابعته اليوم في الشمال السوري، قد نرى مثله في الجنوب مع اختلاف اللاعبين وتشابه المصالح وتشابكها، هي أيام عسيرة على سوريا والسوريين، لا يمكن التنبؤ بها، لكن ما هو واضح بأن من يدفع الثمن هو الشعب السوري وحده، بعيداً حتى عن التعاطف الكاذب الذي كان في بداية الأزمة، فمنظر الأطفال والنساء الذين يتم استخراجهم من تحت الركام لم يعد يحرّك مشاعر أحد، بل بات الأمر أكثر وقاحة في استثمار الدم السوري لتحقيق مصالح أكثر.

الدواء… شكل آخر للموت السوري

الدواء… شكل آخر للموت السوري

دمشق

ليس بالرصاص وحده يموت السوريون، فغياب الدواء الفعال لانخفاض فعالية المواد الداخلة في تركيبته الكيميائية بسبب الحصار الاقتصادي أولاً وبسبب ارتفاع سعر صرف الدولار في مقابل الليرة السورية ثانياً، سبب أساسي لموت كثير من السوريين حالياً.

ويذكر هنا مثال شركة دوائية تكتسب أدويتها مصداقية عالية في الجودة والفعالية لدى السوريين وللعلم مازالت تنتج بعض أصنافها الدوائية بمراقبة من الشركة الأم صاحبة الترخيص، إلا أن الشركة الأم كشفت بأن الشركة المحلية قد تجاوزت حدود الأمانة العلمية والمصداقية العملية. فقد أنتجت أضعاف العبوات من دواء محدد ومشهور ومطلوب وهو صاد حيوي. بدليل أن المادة الدوائية المسلمة من قبل الشركة الأم للشركة المحلية تكفي لتصنيع أربعة آلاف عبوة تحديداً بينما الموجود في الأسواق يتجاوز ذلك بأضعاف وليس ضعفاً واحداً أو اثنين من المنتج المذكور. كما أن غالبية معامل الأدوية والشركات المنتجة باتت تستخدم المواد الأولية المستوردة من الهند والباكستان لرخص أسعارها في محاولة لسد الفجوة بين الكلفة الحقيقية للمنتجات وبين السعر الرسمي المحدد من وزارة الصحة. مما يقلل وبصورة واضحة فعالية تلك الأدوية.

وتتعاظم حاجة المرضى لشراء إما دواء داعم لتوفير قيم العلاج المحددة والمطلوبة للتعافي أو مضاعفة الكمية مما يرهق الجيب والقلب، أو اللجوء للدواء الأجنبي وهو بحد ذاته قضية تستحق التوقف عندها ملياً بسبب الغش والتزوير الذي قد يحصل من قبل مزورين محترفين والدواء المستجلب من لبنان أكبر دليل على ذلك نظراً لارتفاع ثمنه وكلفة نقله إلى داخل سورية.

هذا وقد أثر ارتفاع أسعار الأدوية عالمياً وانخفاض الأرصدة المخصصة لدعم السوريين من قبل المنظمات الدولية بما فيها منظمة الصحة العالمية لاسيما بعد أن تعاظمت الحاجة إليه لزيادة عدد المرضى والمصابين وانعدام الأمن الدوائي وخروج عدد كبير من المنشآت الصحية التي كانت تقدم دواء مجانياً عن الخدمة؛ كل هذه الأمور دفعت حتى المنظمات الدولية لإرسال الأقل سعراً إلى السوريين. وأبلغ مثال على ذلك هو لقاح الشلل الذي تتضارب الأقوال حول مصدره فيما يقول البعض بأنه هندي بينما يقول البعض الآخر بأنه كوبي وقد أثار هذا اللقاح والذي تتم عملياته التنفيذية الآن بحملة تحت وطنية (أي ليس على كامل الجغرافية السورية) لخمس محافظات فقط نتيجة اكتشاف أربع وسبعين حالة شلل جديدة بينها سبع وأربعون حالة في دير الزور وحدها. أثار هذا اللقاح ارتكاسات مضاعفة عند الأطفال تراوحت ما بين ارتفاع الحرارة الشديد والوهن العام وقلة الشهية وثقل في مرونة الساق الملقحة. وهي رد فعل طبيعي لكنها مضاعفة وظاهرة بوضوح جلي بعد استعمال هذا المنتج.

كما أن رفع أسعار الدواء وبقرار حكومي رسمي والذي تكرر ثلاث مرات متتالية، ضاعف من حدة الأزمة. فمثلاً وعبر هذه الارتفاعات ارتفع المنتج الدوائي الذي يوصف لعلاج قصور الغدة الدرقية (الثيروكسين) من ١٨٠ ليرة إلى ٩٠٠ ليرة مع الإشارة إلى أنه مرض منتشر بكثرة وقد أجرت منظمة الصحة العالمية اختبارات ومسوح خاصة به نظراً لارتفاع نسبة السوريين الذين يعانون منه ويحتاجه المرضى بصورة يومية ودائمة.

هذا عدا عن ارتفاع أسعار أدوية الصرع حوالي الستة أضعاف وبعض أدوية الضغط والسكري مع الإشارة إلى أن الحكومة ما زالت ملتزمة بتوزيع أدوية السكري والمحاقن الخاصة بها وهنا المقصود حقن الأنسولين وليس الحبوب.  لكن بات من الضروري إبراز إخراج قيد أو ورقة من المختار أو فاتورة كهرباء أو ما يثبت ملكية البيت أو عقد الإيجار للتأكد من وجود المريض الفعلي في نفس المنطقة الجغرافية للمركز المسؤول عن التوزيع. وذلك حصل بفعل زيادة عدد المرضى وبسبب أعداد الوافدين والنازحين لمدينة دمشق وأيضاً بسبب قلة الكمية المرصودة أو المرسلة من منظمة الصحة العالمية والتي قد تتأخر إرسالياتها لشهور مما يوقع المرضى في دوامة الدواء المهرب أو الاقتراض أو التحايل.

لابد من الإشارة إلى أن خروج عدد كبير من المعامل الدوائية وخاصة في مدينة حلب قد ضاعف الفاقد الدوائي وقد وافقت الحكومة على ترخيص ثلاثة وعشرين معملاً دوائياً جديداً إلا أن عدداً كبيراً منها لم يصل طور الإنتاج حتى الآن. ومازالت معاناة السوريين تشتد خاصة في ظل التعامل غير المنضبط من قبل مستودعات الأدوية التي تكاثر عددها ولكنها تتحكم في عملية التوزيع وتفرض على الصيادلة أنواعاً أخرى غير رائجة أو مطلوبة مثل معاجين الأسنان الطبية والتي باتت ترفاً بالغاً لا يملكه الكثير من السوريون إذ يصل ثمن العبوة الواحدة منه إلى ٩٢٥ ليرة. وكمثال يوجد دواء لمرضى تسرع القلب الاشتدادي اسمه Inderal وموجود بعيارين ١٠ ملغ و ٤٠ ملغ. ونظراً لارتفاع كلفة المستحضر لارتفاع ثمن المادة الأولية الأساسية الداخلة في تركيبته وهي مستوردة مما يعيق إنتاج كمية كافية تغطي حاجة جميع المرضى خاصة وأن الدواء المذكور لا يعوض كلفته الحقيقية حتى بالأسعار الجديدة بعد عملية الرفع  فإن مستودعات الأدوية تفرض على الصيادلة شراء أربع عبوات معجون أسنان مع كل عشر قطع من هذا الدواء مما يضاعف كلفته الحقيقية على الصيدلاني الذي يرفض شراءه أصلاً وقد يلجأ بعض الصيادلة إلى شرح الواقع للمرضى فمن قبل منهم بشراء معجون الأسنان كان الدواء له.

كما أنه لابد من ضرورة الإشارة إلى ارتفاع كلفة نقل الأدوية بسبب ارتفاع ثمن المحروقات والإتاوات على الحواجز التي قد تصل إلى صندوق  كامل من شراب للسعال مثلاً أو آلاف الليرات، كما أن الحالة النفسية وخاصة للشباب دفعت بهم لشراء الأدوية المنومة أو المخدرة مما دفع لظهور ما يشبه السوق السوداء لهذه الأدوية عدا عن أن وصفة الطبيب غير كافية لتجاوب الصيدلاني فمثلاً اللكسوتان (lexotan) بات حاجة يومية للمكلومات والموجوعين والمعذبين ولكنه وإن توفرت الوصفة فبعض الصيادلة يبيع الظرف الواحد بألف ليرة بينما سعر العلبة المكونة من ظرفين لا يتجاوز المائتي ليرة. كما أن حوادث السطو وتهديد الصيادلة من قبل بعض المدمنين بات خطراً حقيقياً على سلامة الصيادلة والمرضى في الوقت ذاته.

هذا غيض من فيض. لا الأرقام كافية لتبيان الوضع الدوائي المزري والخانق ولا القلق الدولي قد يتحول إلى جرعات من الأمل بسلامة المرضى ولا التقارير الإخبارية التي تصوّر الموت بالرصاص وحسب تمارس مصداقية رصد أسباب الموت بكافة تعييناته وتفاصيله. بات الموت الدموي والناري جرعة عنف مطلوبة ومدفوع لها بسخاء، لكن الموت اليومي بفعل الحاجة لحبة دواء وإن وجدت فلا يوجد في الجيب ثمناً لها وإن وجد الثمن فأبسط حقوق الفعالية والسلامة غائبة.

أجل ليس بالرصاص وحده يموت السوريون.

خلفية الهجوم التركي على الخاصرة الكردية

خلفية الهجوم التركي على الخاصرة الكردية

رغم القصف والدمار الذي خلفه الهجوم التركي على قرى مدينة عفرين، وبعد ستة عشر يوماً خرج الآلاف من أهالي المدينة بالغناء والموسيقا يتحدون المدفعية والطيران التركي منددين بهذا العدوان الهمجي على الأهالي.

تكاتف عرب المدينة وكردها يداً بيد لمواجهة هذه الهجمة البربرية التي استهدفت منازل المدنيين ومحلاتهم. هناك يقين أنّ هذا الهجوم بتعاون فصائل تدعمها تركيا ليس فقط ضد حزبٍ بعينه كما تزعم أجهزة اعلام تركية وأنصارها؛ وإنما هو امتداد لمشروعٍ عثماني جديد بالتحالف مع جماعات كالإخوان المسلمين في سوريا لاستهداف مواطني عفرين وكردها. اذ ان تاريخ هذه الهجمة لم يكن مفاجئاً لأهل عفرين الذين كانوا شهود عيان على هجوم فصائل معارضة (كجبهة النصرة وغرباء الشام) في بداية الثورة السورية بقيادة نواف البشيرالعائد لحضن نظام الأسد مؤخراًعلى مدينة رأس العين في محافظة الحسكة. رسخت تلك الهجمة بالنسبة لأهالي المنطقة أنّ تركيا صاحبة مشروع توسعي يستهدف الكيان الكردي بغض النظر عن تواجد ميليشيات كردية في المنطقة.

ربما كان أغلب السياسيين والمثقفين الكرد على دراية كاملة بأن روسيا ستعقد الصفقة الملائمة لها آجلاً أم عاجلاً مع أي طرف للاستغناء عن عفرين التي كانت من حصتها مقابل انتشار القوات الأمريكية في كوباني (عين العرب) والقامشلي، وبذلك لم يكن انسحاب النقطة العسكرية الروسية من كفرجنة/عفرين أمراً غريباً، وخاصة أن الروس لم يكونوا يوماً ما حلفاءً جديين للأكراد في الشرق الأوسط، وبذلك كان الضوء الأخضر الروسي والرمادي الأمريكي للتركي كافياً بتوريطه بمقتلة محتومة في عفرين، تلك الخاصرة الرخوة دولياً جغرافيا التي لجأت تركيا لضربها بتحالف مع مقاتلين سوريين. من هنا كانت المعادلة واضحة بالنسبة لأهالي عفرين ونظرتهم وموقفهم من الهجمة التركية بالبقاء والمقاومة، حيث أن جنديرس، الناحية التي تقع على بعد ما يقارب ١٥ كلم من مركز المدينة، كانت لهاحصة الأسد” من هذا الاستهداف العشوائي التركي، حيث دمر الطيران والمدفعية التركية أجزاء كبيرة من الناحية، وكان الاستهداف بشكل عشوائي ينطلق من المركز أو النقطة التي خصصت بين روسيا وتركيا لخفض التصعيد في مناطق التوتر، وهي النقطة المطلة على جنديرس من طرف جبل الزاوية، حيث استخدمت لقصف الأهالي بالمدفعية وتدمير ما يقارب ٤٠ في المئة من ناحية جنديرس الخالية من المقرات العسكرية.

رغم ذلك أصرّ بعض أهالي المنطقة على الصمود والبقاء في أقبية منازلهم هرباً من القصف العشوائي، هنا يقول أحد سكان جنديرس من المكون العربي: “كنا نعيش بسلام مع أهالي المنطقة من السكان الأصليين والنازحين إليها من ريف حلب، لكن المدفعية التركية ولا أدري لماذا كل هذا الحقد استهدفتنا بشكل قبيح فدمرت كل منازلنا ومحلاتنا، رغم ذلك لم نغادر بيوتنا لأننا سكانها وأهلها، ولن تستطيع المدفعية التركية أن تنزع منا حق الحياة فيها، سندافع عنها بأشجارنا وزيتوناتنا، ونقول لكل العالم أننا طلاب حرية وسلام، ولسنا طلاب القتل والإجرام.”

تزامنت الهجمة التركية الشنيعة مع حصارٍ كامل على المدينة، فبالإضافة إلى حصار فصائل معارضة والجيش التركي للمدينة، لم يسمح النظام لأهالي عفرين بالعبور باتجاه محافظة حلب عبر الممر الوحيد الذي يربط عفرين بحلب، فكان شريكاً للتركي بذلك في قمع الأهالي ودفعهم إلى الهلاك والموت. إلا أن إرادة الحياة كانت أقوى لدى هؤلاء، ففتحت المنازل وأقبية المحلات في مركز عفرين لتستقبل النازحين من القرى التي تتعرض للقصف، وقامت المشافي والعيادات الطبية باستقبال الجرحى والضحايا من المدنيين بإمكاناتهم المتواضعة، وليصل عدد الجرحى في مشافي عفرين حتى تاريخ ٥ شباط\فبراير إلى ما يُقارب ١٧٠ جريحاً و٧٠ قتيلاً، هذا كله وسط كادر طبي قليل كان يداوم ٢٤ ساعة. ورغم عدم توفر المعدات الطبية اللازمة بسبب الحصار المفروض عليها وتخاذل منظمات الإغاثة الدولية، يقول الدكتور خليل صبري، مدير مشفى عفرين: “اكتظ مشفى آفرين بالجرحى والمصابين، ووصل بنا الحال أن نستخدم كل مرافق المشفى لمداواة الجرحى وتأمين العلاج اللازم لهم، ولكن رغم مناشداتنا منذ أول عدة أيام من الهجمة للمنظمات الطبية الدولية بالتدخل وتقديم المعونة لم يتعاون أحد معنا، واستطعنا بقدراتنا البسيطة علاج ما يزيد عن ١٥٠ جريحاً ماعدا الذين قتلوا في هذه الهجمة على المدينة.”

بعد مرور ستة عشر يوما على الهجوم خرج أهالي المدينة إلى شوارع عفرين المركز حاملين آلة البزق والطبول يغنون منددين بالهجوم التركي، ورافعين شعار الزيتون سلاماً لكل أهالي المنطقة، يقول أحمد أحد المشاركين المستقلين في مظاهرة عفرين: “نحن خرجنا اليوم لنرفع صوتنا عالياً بأن أصوات قذائف الدبابات التركية وشعارات الإسلاميين المهاجمين على منازلنا لن تخيفنا، لقد دخلوا القرى الآمنة الخالية من المواقع العسكرية ونهبوا منازلها واحتجزوا أهلها، وكل ذلك يمدنا بالكثير من المقاومة والعزيمة للدفاع عن كرامتنا وأرضنا كرداً وعرباً، نحن أهالي عفرين ولن نسمح لبعض المرتزقة بدعم جوي تركي هدم منازلنا وهدر المزيد من الدماء.”

في الواقع مستوى التكافل الاجتماعي الموجود حالياً في عفرين ليس له علاقة بطبيعة الكرد أو سكان المنطقة، بل هي قناعة راسخة بأن المحتل التركي والمرتزقة من الكتائب السورية المتحالفة معهم لن يجلبوا سوى الدم والقتل لأهل عفرين بكافة طوائفهم ومشاربهم الدينية والحزبية، وخاصة مع تزامن ذلك مع تصرفات المهاجمين في القرى التي احتلوها في الأيام الأولى من الهجمة، باحتجاز الشباب وتكسير محلات الكحول ونهب معاصر الزيتون، كان كافياً لتشكيل صورة بأن القادم ليس لديه نية سوى القضاء على المنطقة بمن فيها، فكانت المقاومة من العسكر والمدنيين.

الأيام القادمة ستكون كفيلة بتوضيح الصورة بشكل أكبر، ولا سيما أن الضغط الروسي –  التركي يركز على تسليم المنطقة لقوات النظام لو بشكل جزئي من خلال الدوائر الرسمية ورفع علم النظام في المنطقة، لكن من المؤكد أن أهالي عفرين لن يسمحوا باحتلال التركي لأراضيهم التي زرعت منذ مئات الأعوام بأشجار الزيتون رمزاً للحب والسلام فيها.