مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

منذ منتصف مارس / آذار عام 2011، لم تفكّر الأصوات التي انطلقت في الشّوارع السوريّة، بحمل السّلاح من أجل التغيير، كان لدى أصحابها حلم بالحريّة. كانت أداة تعبيرهم الأبرز هي الهتاف ضدّ السلطة.

أصوات انطلقت من قهر العقود التي تسلّطت فيها عائلة واحدة على حكم البلاد، فانهمرت دون خوف، لتغير مسار التاريخ السوريّ والمنطقة. لم يكن ثمّة تخطيط للحالة التي وصلت إليها الأوضاع الأمنيّة لاحقاً، هذا ما يبدو، ولكنّ الجميع كان يدرك أنّ مصلحة النظام في سوريا هي أن تتسلّح الثورة، أن تتطرّف، أن تصبح شيئاً آخراً غير الثورة الشعبيّة.

وعلى مدى سنوات اكتسب فيها المجتمع وعيه السياسيّ الحرّ، كان يبدو ذلك بين حين وآخر في صور حراك شعبي هنا، ومظاهرات خجولة هناك.  بعد أن حصر النظام أغلب قوات المعارضة المسلّحة، في إدلب، شمال البلاد.

وعلى اختلاف تنوّع المناطق وتأثّرها بالحدث السوريّ، كانت حدّة التفاعل السياسيّ تظهر عبر منصّات التواصل الالكترونيّة، كردّ فعل على غياب العمل السياسيّ الميدانيّ على الأرض، بسبب القمع الأمنيّ والقتل العشوائيّ لكلّ من لا يؤيد أفعال النظام ضدّ معارضيه.

واليوم، هضم المجتمع في سوريا، كلّ أكاذيب السلطة وذرائعها لمنع التظاهر والثورة، وشهدت على ذلك مدينة السويداء، جنوب البلاد. إذ ومنذ أيام، لم يغادر أهل المدينة ساحات الاعتصام والتظاهر ضدّ النظام السوريّ، ورفع شعارات سياسية كانت هي السّيرة الأولى لثورة 15 آذار/ مارس 2011.

لقد استعاد الناس رغبتهم بالاحتجاج مجدداً ضد حكم النظام في سوريا، ترى ما الذي دفعهم للنزول مجدداً إلى الشارع في ظلّ الضغط الأمنيّ والاجتماعيّ الذي تعيشه البلاد؟

تواصل “موقع صالون سوريا” مع عدد من الناشطين في السويداء ومنهم شادي صعب، الذي أجابنا قائلاً: “نتيجة الاستعصاء الحاصل في العملية السياسية، وفشل اللجنة الدستورية في إيجاد مخرج للمسألة السورية. وقد ترافق ذلك بحالة خذلان عام بعد المبادرة العربية وانكفاء المجتمع الدولي عن إيجاد حلّ عادل للمقتلة السورية. كلّ ذلك ترافق مع حالة انهيار اقتصاديّ وقيميّ على المستوى المحليّ والوطنيّ في ظلّ انعدام أبسط مقومات الحياة والنجاة” بحسب رأيه.

ويضيف شادي خلال حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: “إن السّياسات الاقتصاديّة الخاطئة التي انتهجها النظام والتي فاقمت من معاناتنا وضيّقت علينا خيارات الحياة، حولت المجتمع السوريّ لطبقتين متمايزتين؛ الأولى، أقلية مستفيدة من فساد النظام وعابرة لكلّ الطوائف والجغرافيّات، تنعم برغد العيش، تستثمر بالفساد والدم، غير مكترثة بصرخات المقهورين. بينما الثانية، طبقة الأكثريّة المسحوقة، كذلك العابرة لكافة الطوائف والجغرافيّات، والتي دفعت الفاتورة الباهظة لفساد البطانة الحاكمة واتجارهم بدمائنا تحت ذريعة الحصار والعقوبات الأمميّة!” على حدّ قوله.

هي أسباب برأي شادي صعب “لم تجهض الأمل بالتغيير السلميّ، رغم مرور السنوات”. ويتوافق مع تلك النظرة، مرهف الشاعر، وهو مسؤول عن “مركز إعلام الانتفاضة” حيث يرى أن “هناك حالة قهر واستبداد منذ عقود، مضافاً إليها تهميش سياسيّ وتدمير لمستقبل الشباب وتهجيرهم” حسب ما وصف لـ “موقع صالون سوريا”.

بينما تعتبر أريج عامر (اسم مستعار)، وهي أحد الذين يشاركون اليوم في مظاهرات السويداء، أن دافعها للنزول إلى الشارع كان يقوم على “المطالبة برفع الرواتب في ظلّ رفع الدعم الحكوميّ عن الوقود” والذي “سوف يلعب دوراً كبيراً بارتفاع الأسعار، وعدم قدرة المواطن على شراء أبسط مستلزماته اليوميّة من طعام وأدوية وطبابة وكلفة اتصالات”.

وتؤكد أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا”: “أصبح راتب المواطن السوريّ لا يكفي أجرة مواصلات مع ارتفاع أسعار المازوت والبنزين. إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي، وانقطاع الماء بشكل كبير. أصبحت الحياة معجزة حقيقية بعد اثني عشر عاماً من النزاع، جميع شرائح المجتمع من معارضين وموالين، هي تحت خط الفقر” حسب تعبيرها.

أمّا رانيا ياسر (اسم مستعار)، وهي محامية وناشطة، تقول إنها نزلت إلى الشارع من أجل “إسقاط النظام” والمساهمة “كمحامية في ترسيخ العدالة وسيادة القانون وبناء الدولة الديموقراطية المتعددة”.

وتضيف خلال حديثها مع “موقع صالون سوريا”: “إننا ننادي دائماً بوطن حرّ، كريم، ومعافى لجميع السّوريين على اختلاف مشاربهم. لقد كانت انتفاضة السويداء وكنّا في الساحات نحلم بدولة ينال فيها السّوريون حقوقهم التي لن تتحقق إلا برحيل هذا النظام”.

طبيعة القوى

يروي شادي صعب بالتفاصيل كيف عادت المظاهرات إلى الشارع ومن كان خلفها، يقول: “اندلعت الانتفاضة في السويداء صباح الخميس 18 آب/أغسطس 2023، بشكل عفويّ، وذلك ردّاً على القرارات الجائرة التي اتخذتها الحكومة ليلاً برفع الدعم وزيادة أسعار المحروقات بنسبة 250% بشكل غير منطقي. وجاءت ردّة فعل المجتمع المحليّ في السويداء بقطع طريق دمشق السويداء في عدة قرى وبلدات، وتجمع المواطنون/ات بشكل عفويّ قبيل الظهر في ساحة الكرامة، للتعبير عن حالة الرفض ونفاذ الصبر لديهم، ووجهوا دعوة عامّة لكافة القوى الوطنيّة والاجتماعيّة للمشاركة في الإضراب العام صباح يوم الأحد 20 آب/أغسطس 2023، وسط ساحة الكرامة، موجهين دعوة للتجار في مدينة السويداء لإغلاق المتاجر ومشاركة أبناء مجتمعهم همّهم وحراكهم”.

ويضيف شادي في حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: لاقت دعوة الإضراب يوم الأحد قبولاً واسعاً لدى تجّار مدينة السويداء. أغلقت المحال التجارية بشكل كامل، كما شاركت مختلف الشرائح الاجتماعية في الوقفة الاحتجاجيّة وسط المدينة في صورة فريدة من نوعها”.

وفي إشارته لطبيعة القوى السياسية المشاركة، يقول شادي: “تعتبر القوى السياسيّة والديموقراطيّة للانتفاضة هي الحوامل الأساسية للحراك في السويداء، مثل “الهيئة الاجتماعيّة للعمل والوطنيّ” و “تجمّع القوى الوطنيّة” وغيرها من الكتل السياسية المعارضة. كذلك “تجمّع أحرار جبل العرب” بقيادة الشيخ “سليمان عبد الباقي”، و”قوات شيخ الكرامة” بقيادة ليث البلعوس، وعدد من منظمات المجتمع المدنيّ وتجمع المحامين الأحرار.

ويؤكد شادي أن الثقل الأكبر في الحراك كان بيان الرئيس الروحيّ لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري. حيث وصف موقفه بأنّه “غيّر كافة الموازين، حيث انهالت البيانات المؤيدة لمطالب المحتجين، ولعلّ أبرز تلك المواقف كان موقف حركة “رجال الكرامة” التي أكّدت دعهما ومشاركتها في الحراك وأعلنت جاهزيتها لحماية المنتفضين في الساحة”.

ولا تشك رانيا ياسر، أثناء حديثها لـ “موقع صالون سوريا” بأهمية مشاركة رجال الدين والمرجعية الدينية لها، لما لها من “احترام أمام الأهالي” لقد كانت أصوات المحتجين واضحة، ليست بحاجة إلى بيان، وإن استمرار وجود المشايخ بين الحشود “يكسب الحراك قوة، ودعم الرأي العام والذي ينعكس بشكل إيجابيّ على مستقبل الانتفاضة في السويداء، خصوصاً، وفي الثورة السورية، عموماً” على حد تعبيرها.

وكما تؤكد أريج عمار على تنوّع المشاركين في مظاهرات السويداء، وحسب ما قالته لـ “موقع صالون سوريا”: “كانت المشاركة جنباً إلى جنب بين عشائر الجبل ورجال الدين، وكذلك ثمّة مدنيون ونخب ثقافية إلى جانب فقراء الوطن. وظهرت أيضاً مشاركة ملفتة لحرائر السويداء، كانت ساحة الكرامة مليئة بكل الأطياف والأعمار، كباراً وصغاراً ونساءً وأطفالاً ويافعين”.

وتعتبر أريج أن مشاركة رجال الدين باحتجاجات السويداء هي جزء من قوّة الحراك “بعيداً عن الطائفية” لأن “لسان حالهم هو حال كلّ السّوريين، لسان الإنسانيّة، فكلّنا بشر. الدين لله والوطن للجميع، وهنا أذكر كيف ملأت السماء جملة واحد (واحد واحد الشعب السوري واحد)” على حد قولها.

ويرى مرهف الشاعر أن الانتفاضة الآن “شعبية جامعة” وفيها “قوى ناشئة كحركة الشبيبة الثورية” و “المحامين الأحرار” و “المهندسين الأحرار”.

ومع وجود طيف ديني في هذا الحراك، لا يخشى شادي صعب أن يكون هناك “تأثير سياسي” حسب ما قال لـ “موقع صالون سوريا”. إذ يؤكد أن “رجال الدين الداعمين للحراك هم يعبرون عن مطالبهم كمواطنين لهم حقوق ولا يتواجدون بصفتهم أصحاب مشروع دينيّ، ومشاركتهم المختلفة لها ثقلها وتأثيرها في تغيير المزاج العام للمجتمع المحليّ”.

وحول الانتقادات التي وجهت للحراك حول استخدام الرايات الدينية الخاصة بالطائفة الدرزية والمتمثلة براية التوحيد، فمن وجهة نظر شادي “أن ذلك لا يحمل أي بعد طائفي، هي هوية محلية تمثل أبناء المحافظة، لأنه من حق المجتمعات المحلية أن تعبر عن هويتها الخاصة وأن تنضوي تحتها في ظل العجز الحالي عن إنتاج مشروع وطني وهوية وطنية جامعة لكلّ السّوريين”.

ومن جهة أخرى، يرى مرهف الشاعر أن التأثير الديني في الحراك غير موجود “بمعناه المتطرف أو الإقصائيّ أو حتى الدينيّ التبشيري”.

وأكد مرهف لـ “موقع صالون سوريا” أن “رجال الدين يمارسون دوراً اجتماعياً مرتكزاً على مجموعة أعراف وعادات وتقاليد تدعم مطالب الناس، ولها تأثير إلى حد ما في ذهنية الناس، وبالأخص تلك اللحظات التي تتطلّب وقفات إنسانية” بحسب تعبيره.  

ومن هنا، يعتقد مرهف أن “رجال الدين المسلمين الدروز كان لهم دور في دعم الحراك المدني وجعلهم يتنفسون الصعداء، وذلك بعد أن كانت السلطة الحاكمة في سوريا تؤثر على تيار منهم وتحتكرهم تحت عباءتها”.

العُنف المنتظر

لا تخفي أريج عمار قلقها مع تجارب العنف التي شهدتها سوريا ضد المتظاهرين “خصوصاً إشاعات دخول تنظيم (داعش) الإسعافية للنظام، أو عمليات الاغتيال والتفجيرات المترافقة مع أي حراك داخل السويداء، لكن هذا لا يلغي إصرار المحتجين على النزول إلى الشارع في وقت ليس فيه ما يخسرونه سوى كرامتهم والتي هي خط أحمر”.

وتعتبر أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا” أن “خروج بقية المدن السورية إلى المظاهرات هو حافز لاستمرارية الحراك في السويداء”.

فيما يعوّل شادي صعب على ما سمّاه “خصوصية محافظة السويداء” وذلك خلال عقد من النزاع على آلية التعاطي من قبل سلطات الأمر الواقع، وخاصة مع الاحتجاجات وحالات العصيان. ونتيجة “المعادلات الصعبة في الجنوب وضبابية المواقف الدولية والإقليميّة، أعتقد أنه من الصعب استخدام القوة المفرطة من قبل النظام السوريّ في قمع التظاهر وإنهاء حالة الانتفاضة”.

ويؤكد شادي خلال حديثه لـ” موقع صالون سوريا”: “أن استمرارية الحراك وديمومته ليست مقتصرة على حالة عدم استخدام العنف فقط من قبل سلطات الأمر الواقع، دون رؤية استراتيجية واضحة للحراك، وفي ظلّ غياب تكتيكات جديدة ومتنوعة للمقاومة المدنية غير الاحتجاج اليومي في السّاحات، وفي حال عزوف باقي المدن السورية عن المشاركة، سيكون حراك السويداء معزولاً ويختنق داخل جغرافيته” على حدّ وصفه.

وترى أيضاً رانيا ياسر، أن هناك “خصوصية لمدينة السويداء وأن أي تصعيد من قبل النظام السوري سوف يقابله ردّ من قبل الفصائل التي كسبت في هذه الجولة تأييد رجال الدين مع التأكيد على سلمية الحراك منذ البداية”.

ظل ثورة 2011

تشكل “انتفاضة السويداء” حسب ما يسميها من قابلهم “موقع صالون سوريا”، امتداداً للثورة السورية التي انطلقت في 15 آذار / مارس عام 2011. والتي بدأت بمطالب إصلاحية شاملة ما لبث أن اتجهت إلى رفع سقف المطالب من الخدمية إلى السياسية.  

وهذا ما أكدّه شادي صعب، الذي أشار أنه في البداية كانت “المظاهرات عبارة عن احتجاج على قرارات الحكومة الأخيرة، ثمّ أصبحت تطالب باستعادة المال العام المنهوب ومحاسبة الفاسدين، لتنتقل في وقت قصير إلى إسقاط النظام والمطالبة برحيله، والمطالبة بجلاء كافة الاحتلالات عن الجغرافيا السورية” حسب تعبيره.

فيما كانت بعض المطالب “نوعية” كتطبيق القرار الأممي 2254، والمطالبة “بالانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، وإطلاق سراح المعتقلين”. وتطورت الشعارات لإسقاط “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المهيمن عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين وتركيا، والذين سرقوا حلم السوريين سابقاً” على حد قول شادي.

وإضافة إلى ذلك، قال مرهف الشاعر إن أحد المطالب كانت تتجه نحو “تطبيق لامركزية إدارية في محافظة السويداء، وفتح معبر باتجاه الأردن”.

كما أجمع كلّ ما تحدثوا لـ “موقع صالون سوريا” أن مظاهرات السويداء تجسيد جديد لثورة آذار/مارس 2011 من خلال طبيعة الشعارات والمطالب التي برزت في دوامة الاحتجاجات “كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة” حسب ما يقول شادي صعب. ومن خلال “نضوج الوعي السياسيّ” حسب ما تصف رانيا ياسر، وكذلك وجود بصمة جديدة من “رسائل التطمينات الجامعة مع رفع أعلام الثورة وعلم السلطة وراية التوحيد لنقول إننا نريد كلّ السوريين ضد هذه السلطة” حسب قول مرهف الشاعر.

لقد كانت الاثنا عشر عاماً الماضية “فرصة للنظام للإصلاح والتغيير ولإجاد الحلّ السياسيّ، ومحاربة الفساد ورفع مستوى المعيشة لكن ما حدث هو العكس تماماً، ونفذ صبر السّوريين وصار صوت الشارع هول الحلّ” حسب تعبير أريج عمار.  

وأخيراً يختم شادي صعب: “إن جلّ المشاركين في المظاهرات، هم من جيل الشباب الذين كبروا خلال عقد من النزاع “يصدحون بنفس الأهازيج والشعارات ويحييون باقي المدن السورية ويؤكدون على وحدة الدّم السوريّ في ظاهرة تؤكد أن النهايات المكتوبة بالدم وبسلب حقوق الشعوب هي بدايات مزهرة لجيلٍ جديد يرفض ما كتب وقرر أن يعيد البدايات كما يشتهي”.

يمكن مشاهدة عدة فيديوهات تغطي مظاهرات السويداء على قناة صالون سوريا على اليوتيوب هنا.

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

ذاكرة الناس تُباع في الأسواق السورية

 قبل عام 2011  كان الاقتصاد السوري من أكثر اقتصادات الدول النامية تنوعاً، حيث كانت سوريا تنتج أكثر من 80% من غذائها وأدويتها وتُصدر الفائض منها إلى أكثر من 60 دولة، كما كانت من بين البلدان الخمسة الأولى عالمياً في إنتاج القطن وتربية الأغنام والأبقار، ويترواح إنتاجها من الحبوب بين 3،5 إلى 6 ملايين طن سنوياً، وهو ما يزيد عن حاجة السوق المحلية، فيما يصل إنتاجها من النفط إلى حدود 45 ألف برميل يومياً، هذا إلى جانب أنها كانت قبلة لملايين السياح من حول العالم، إذ وصل عددهم عام 2010 إلى أكثر من 8 ملايين سائح. 

ذلك الاقتصاد، الذي لم تُبق منه الحرب وتبعاتها  أي شيء يُذكر، بات اليوم يحتاج إلى معجزة لكي يتعافى، وذلك في ظل تراجع حجم الإنتاج المحلي في شتى المجالات، خاصة الإنتاج الزراعي والصناعي، وتراجع حجم الصادرات بشكل كبير، وغياب الاستثمارات، هذا إلى جانب توقف مئات المصانع والمعامل عن العمل، وهجرة آلاف الصناعيين -الذين نقلوا أعمالهم إلى الخارج- وأهم الخبرات والكفاءات الاقتصادية ورجال الأعمال والأيدي العاملة الماهرة.

ورغم أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد مستمر منذ سنوات وبشكلٍ متصاعد، أدى لانحسار وجود الطبقة الوسطى وازدياد نسبة طبقة الفقراء، إلا أن ما جرى خلال الشهرين الماضيين كان الأشد قسوة على معيشة الناس، مقارنة بسنوات الحرب وما بعدها، حيث  تصاعد سعر صرف الدولار من 7 آلاف ليرة إلى أكثر من 14 ألفاً، علماً أن سعر الدولار  مقابل الليرة قد تضاعف بنحو 280 ضعفاً بين عامي 2011 و 3023، فيما وصلت معدلات التضخم، وفق بعض المصادر، إلى 16137،32 بالمئة مع بداية العام الحالي. وفي ظل ذلك كله، أصبح اليوم متوسط دخل الموظف الحكومي أقل من تسعة دولارات، وهو يكفي فقط لشراء ثلاثة كيلو لحم فروج، أو 6 كيلو أرز، أو 6 كيلو عدس، أو أربعة ليترات زيت نباتي من أسوأ الأنواع، فيما لا يكفي لشراء كيلو لحم خاروف.

وبحسب بعض الدراسات الحديثة باتت الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج اليوم إلى نحو 6.5 مليون ليرة  لشراء متطلبات المعيشة الأساسية، ووفق بعض التقديرات المتعلقة بمستويات المعيشة الحالية فإنه يجب أن يتجاوز دخل الموظف الحكومي الستة ملايين ليرة شهرياً لكي يقترب من حجم القوة الشرائية لعام 2010.  وبالنظر إلى حجم دخله الحالي سيحتاج الموظف الحكومي اليوم، إذ ما ادخر كامل دخله الشهري، إلى نحو 150 عاماً (قرن ونصف) ليتمكن من شراء بيتٍ في مناطق العشوائيات، فيما سيحتاج إلى أكثر من ست سنوات ليتمكن من شراء برّادٍ منزلي، علماً أن سعر البرّاد (متوسط الجودة) حالياً يعادل سعر ثلاثة شقق سكنية في ريف دمشق عام 2010. 

ورغم أن القدرة الشرائية معدومة أصلاً عند معظم الناس، بعد أن تضاعفت أغلب الأسعار نحو 161 ضعفاً  بين عام 2011 وبداية عام 2023، إلا أن قفزات أسعار السلع الأساسية تتالت خلال الأسابيع الماضية لترتفع إلى أكثر من 70 % وتزيد من مأساة وأوجاع الشعب المهدد بلقمة عيشه.

هذا الواقع جعل عائلة الموظف عدنان (45 عاماً)، التي لجأت لسياسة تقشف مالية قاسية، تتخلى عن معظم عاداتها المعيشية بما فيها طقس شرب الشاي، وعن ذلك يحدثنا عدنان: “منذ سنوات اعتدت وعائلتي شرب الشاي ثلاث مرات يومياً، لكن هذا الطقس بات يكلفنا اليوم كامل دخلي الشهري (115ألف ليرة) من وظيفتي الحكومية، فهو يحتاج شهرياً لأربعة كيلو سكر (حوالي 65 ألف ليرة) ونحو 400 غرام شاي (60ألف ليرة)، لذا تخلينا عنه واستبدلناه بشرب النعناع -الذي نزرعه على الشرفة مرة واحدة يومياً مع إضافة بضع ذراتٍ من السكر في حال توفره”.

وإلى جانب عمله الوظيفي يعمل عدنان في المساء ولنحو ثماني ساعات سائقاً لسيارة أجرة، لكن عمله هذا لا يلبي ربع الحاجات المعيشية لعائلته، حيث تراجع دخل تلك المهنة بشكلٍ كبير، نتيجة شراء الوقود من السوق السوداء وارتفاع تعرفة النقل التي بات معظم الناس يعجزون عن دفعها.

وبالإضافة لمشروب الشاي، أصبحت القهوة، التي تُعد من أهم المشروبات اليومية، تغيب عن بيوت كثير من الناس، الذين باتوا يشربونها بتقشفٍ شديد، ويشترونها بكمياتِ قليلة قد تقل عن 100 غرام، حيث وصل سعر كيلو القهوة الجيدة إلى ما بين 130 و 160 ألف ليرة. وقد انتشرت في الأسواق بعض أنواع القهوة المغشوشة التي يضاف إليها مواد أخرى، مثل نواة التمر والقضامة والخبز اليابس، وذلك في محاولة لتخفيض سعرها (سعر الكيلو أكثر من 80 ألف) الذي بقي مرتفعاً ولا يتماشى مع القدرة الشرائية للفقراء.

سوء التغذية يهدد صحة الناس 

بحسب أحدث تقارير برنامج الأغذية العالمي فإن أكثر من نصف سكان سوريا يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما وضعها في صدارة البلدان التي تواجه أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، ما يعني أن معظم الناس باتوا يعانون من سوء التغذية الحاد، الذي يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض مثل فقر الدم، الكساح، هشاشة العظام، الاكتئاب، تضخم الغدة الدرقية وضعف المناعة، كما يؤثر بشكل كبير على صحة النساء الحوامل والمُرضعات وعلى نمو الجنين، ويهدد الصحة الجسدية والنفسية للأطفال الذين سيكونون عرضة لأمراض الهزال والتقزم، إلى جانب الإعاقات العقلية وصعوبات التعلم.

ولأن 90 % من الناس يعيشون  اليوم تحت خط الفقر، فإن معظمهم باتوا محرومين من تناول أبسط الأطعمة الصحية، التي يحتاجها الجسم السليم، خاصة اللحوم الحمراء (كيلو لحم الخاروف 130 ألف ليرة) ولحم الفروج (الكيلو بين 30 و50 ألف ليرة)، وقد باتت محلات بيع اللحوم تقلل من حجم الكميات المعروضة للبيع خوفاً من تعرضها للتلف، بعد تراجع نسبة الإقبال على شرائها، فيما غاب الفروج المشوي عن معظم المطاعم، لينحسر بيعه في أماكن محددة بعد أن تجاوز سعره السبعين ألف ليرة. وبينما كان بعض الناس يستعيضون عن تناول الأسماك (سعر كيلو السمك البحري بين 70 و200 ألف ليرة) بتناول السردين المعلب، فإن هذا الأمر لم يعد متاحاً اليوم، بعد أن وصل سعر علبة السردين إلى10 آلاف ليرة، وعلبة التونة إلى 20 ألف ليرة.

وإذا كان بعض الفقراء قد استبدلوا اللحوم بالبقوليات والحبوب، التي تمد أجسادهم ببعض القيم الغذائية، فإن الكثير منهم باتوا اليوم عاجزين عن شرائها، حيث وصل سعر كيلو العدس إلى عشرين ألف ليرة، والبرغل إلى أكثر من 12 ألف ليرة، والحمص إلى 15 ألف ليرة، فيما تجاوز سعر كيلو الفاصولياء اليابسة الـ 25 ألف ليرة. وفي المطاعم الشعبية التي كانت قبلة الفقراء، وصل سعر صحن الفول أو الحمص إلى 10 آلاف ليرة، وسعر الكيلو من تلك المادتين (مع إضافة صلصة اللبن أو الليمون والثوم) إلى 20 ألف ليرة.

أما الخضار والفاكهة فقد غادر بعض أنواعها موائد الكثير من الفقراء، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الفاصولياء الخضراء والبامية إلى نحو 15 ألف ليرة، وتخطى سعر الليمون  حاجز العشرة آلاف ليرة، فيما تراوح سعر بعض أنواع الفاكهة، كالخوخ والإجاص والتفاح والعنب، بين 8 و12 ألف ليرة. أما الكرز والتين والموز، التي وصل سعرها إلى 20 ألف ليرة، فقد باتت تتواجد في الأسواق بكميات قليلة وتباع في بعض المحلات التي يرتادها الزبائن الأثرياء.

ويعود ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة غير المبرر، إلى مجموعة عوامل منها: ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وتكاليف النقل بين المحافظات، صعوبة توفير المحروقات وارتفاع أجور العمالة، وانتشار أزمة المياه، التي أجبرت كثيراً من الفلاحين على شراء صهاريج الماء بأسعار كبيرة، هذا إلى جانب فتح أبواب التصدير الذي ساهم بارتفاع الأسعار محلياً، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الثوم بعد تصديره إلى 25 ألف ليرة، وهو ما حرم معظم الناس من شرائه بغرض المؤونة.

بيع الممتلكات لتأمين لقمة العيش

” خلال العام الحالي بعتُ كل ما تملكه زوجتي من مصاغٍ ذهبي، في محاولة لمقاومة الفقر وتأمين لقمة عيشنا، فالبقالية التي أعمل بها منذ سنوات لم تعد تحقق أية أرباح تذكر ولا تعود عليَّ سوى بمزيدٍ من الخسائر، في ظل ارتفاع الأسعار- الذي قلص حجم رأس المال وتراجع القدرة الشرائية. وخلال الشهرين الماضيين، ومع تدهور الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق  وصعوبة إيجاد عملٍ بديل يحقق أبسط متطلبات المعيشة، أُجبرت على بيع خاتم زواجنا الذي لم يُغادر إصبع زوجتي طوال عشر سنوات”. هذا ما يقوله خليل (45 عام/ أب لثلاثة أبناء) عن واقعه المعيشي الذي استهلك جميع مدخراته، مضيفاً بحسرة وألم: ” في الأسبوع الماضي وبعد عجزي عن دفع إيجار البيت (400 ألف ليرة شهرياً) لمدة شهرين، اضطررت لإعطاء صاحب البيت  بعض الأثاث المنزلي (تلفاز، أسطوانة غاز، مروحة، خمسة كراسي بلاستيك) كتعويض عن مبلغ الإيجار”.

  خليل هو واحد من آلاف الناس الذين أجبرهم تردي الواقع المعيشي على بيع مدخراتهم وأثاث بيوتهم. ففي محلات بيع الأثاث المستعمل ستشاهد المفروشات والخزائن وأدوات المطبخ والقطع الكهربائية تتكدس فوق بعضها بشكل يفضح حجم الألم، وكأن ذاكرة الناس تباع في الأسواق. ويحدثنا أبو معتز (54 عام/ صاحب محل لبيع الآثاث المستعمل) عن طبيعة مهنته في ظل الظروف الحالية: “فيما مضى كان الناس يبيعون بعض الأثاث القديم (خزائن، أَسرَّة، كنبايات، برادات وغسالات) بغرض استبداله بأثاثٍ جديد، أما اليوم فقد بات الكثير منهم يبيعون كل ما يمكن بيعه، بما في ذلك الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها. فإلى جانب المفروشات والكراسي وأسطوانات الغاز والأدوات الكهربائية (خلاط، مكنسة ، مروحة ، مكواة.. الخ) يضطرون لبيع البطانيات والطناجر والصحون والفناجين وجميع أدوات المطبخ”. ويضيف “كل يوم يأتينا من يعرض أغراضاً يُمكن بيعها مباشرة أو وضعها برسم البيع، حتى ولو حصل على ثمنها بالتقسيط. وقد استغنى كثير من الناس عن بعض القطع الثمينة (أطباق القيشاني والخزف، النحاسيات، التحف والأنتيكا وغيرها) التي كانوا يفاخرون باقتنائها، كونها تحظى بقيمة فنية أو أثرية، ليبيعونها بأثمان بخسة لا تراعي قيمتها”.

 وإلى جانب بيع المدخرات والأثاث المنزلي يضطر بعض الناس لبيع ثيابهم وأحذيتهم، التي كانوا يوزعونها على الفقراء فيما مضى، إلى محلات البالة وبسطات بيع الألبسة، التي صار بعضها يعتمد على البضائع المحلية المستعملة، بعد ارتفاع تكاليف استيراد الثياب الأوربية وارتفاع أسعار بيعها في الأسواق وعجز كثير من الناس عن شرائها.

هل هناك حلول؟

عند سؤال البعض عن الحلول الاقتصادية الممكنة في سوريا وكيف ينظرون إلى المستقبل، أجاب معظمهم  بكلمات مقتضبة، سوداوية وتشاؤمية، أو تحمل طابع السخرية المفرطة. المهندسة المعمارية نسرين، التي عجزت عن تكوين تصور واضح لأي حلٍ يمكن أن يضع حداً لتردي الواقع المعيشي، اكتفت بتوصيف معاناتها طيلة السنوات الماضية: “حين بدأت الحرب في سوريا كنت في الخامسة والعشرين من عمري، اليوم أصبح عمري  37 عاماً، المرحلة الذهبية من شبابي ضاعت وأنا ألهث باحثةً عن فرصة عملٍ مناسبة وعن تأمين أبسط متطلبات المعيشة ومقومات الحياة البشرية. نفذ صبري في انتظار أمل ما أو حلٍ لا يبدو أنه سيأتي قريباً، حتى صرت أشعر بالكره تجاه هذه البلاد وأحقد عليها”.

من جهته يرى الفنان التشكيلي منيار (34عام) أن تحسن الواقع المعيشي بات مستحيلاً في الأمد القريب، وسيزداد سوءاً مع قادم الأيام، في ظل غياب جميع مقومات الاقتصاد. ويضيف: “يجب على العالم ومنظمات الأمم المتحدة إيجاد حلٍ يوقف مأساة  الشعب السوري، وهذا الأمر يحتاج إلى حل سياسي ينهي وجود القوى الخارجية في سوريا، ويتيح إمكانية البدء في إعادة الإعمار وترميم البنى التحتية و فتح أبواب الاستثمارات”.

منيار الذي حرمه واقعه المعيشي من تحقيق حلمه الفني، ينتظر وعائلته بيع بعض ممتلكاتهم(منزلٍ أو قطعة أرض) لجمع مبلغ مالي يساعدهم على السفر نحو الخارج.

قبل أيامٍ قام جاري ببيع منزله، الذي بناه وأثَّثه بعناية فائقة، بنصف سعره الحقيقي، ليسافر مع عائلته إلى أربيل على أمل مغادرتها فيما بعد نحو أوروبا. ورغم أن جاري يُعد من ميسوري الحال، إلا أنه عجز عن مواصلة العيش في هذه البلاد، التي رفض مغادرتها طوال سنوات الحرب، رغم الخطر والموت، إذ كان يعشق دمشق بشكل جنوني ويشعر بانتماءٍ كبير نحوها، لكنه غادرها اليوم، وهو على أبواب السبعين من عمره، دون أن يشعر بأي حزنٍ أو أسف.

وجوه أخرى للتحرش

وجوه أخرى للتحرش

عبر وسائط النقل وفي داخلها تحدث عمليات تحرش مباشرة وغير مباشرة، ويتم التعامل معها بالصمت غالباً، وكم اضطرت نساء وفتيات لمغادرة وسائط النقل لعجزهن عن لجم أو رد واقعات التحرش ومحاسبة المتحرشين. تخاف النساء من المواجهة غالباً، والأكثر مدعاة للأذى هو تحميل المجتمع والضحايا لأنفسهن المسؤولية الكاملة عن وقوع التحرش.

على أحد مواقف الحافلات تتوقف سيارة خاصة حديثة وبحالة جيدة، يشير السائق لسيدة داعياً إياها لتستقل سيارته، بات المشهد طبيعياً في ظل زحمة المواصلات الخانقة، حتى أنه صار دارجاً ومقبولاً (رغم تحفظ البعض) أن تطلب بعض النساء من أصحاب أو سائقي السيارات العابرة التوقف، وخاصة في بعض المناطق المزدحمة أو المقطوعة والتي تنعدم فيها حركة المواصلات، عدا عن ارتفاع كلفة أسعار سيارات الأجرة بصورة غير قابلة للدفع أو حتى للتقبّل.

 لم تتردد السيدة بالصعود، كانت المرأة الوحيدة على الموقف وقدرت أن صاحب السيارة قد تعاطف مع وقوفها طويلاً في منطقة مزدحمة جداً، كما أن تطابق وجهتيهما شكل دافعاً قوياً ومطمئناً لتشاركه رحلته.

فور صعودها، عرّف الرجل عن نفسه، منح نفسه لقب المهندس وصرّح باستعراض مبالغ به: بأنه صاحب مكتب سياحي للرحلات الداخلية والحجوزات الفندقية. كان التقديم سخياً، يوحي بالاكتفاء وبالنزاهة، لكن المرأة شعرت بأن هذه المقدمة كانت فخاً، هي وبشكل شخصي لا تحب المكاتب السياحية ولا أصحابها، تعرف تماماً أن نشاط بعضها يتجاوز وظيفته الحقيقية، والأهم أنها غير مضطرة للتصديق. عرفت عن نفسها وعن عملها أيضا، لكنه قام فوراً بطلب رقم هاتفها مؤملاً إياها باستعداده لأي خدمة تطلبها خاصة وأنها امرأة وحيدة، أعلنت أنها ليست وحيدة أبداً! باتت كلمة وحيدة مدخلاً للتطفل، لفرض طلبات تبدو للمساعدة أو المساندة، لكنها في الحقيقة فخ ينصب شراكه المتلاعبون.

لم يغيّر جوابها شيئاً، أصّر وبسرعة على طلب رقم الهاتف فاعتذرت، أوقف سيارته على يمين الطريق وقال لها تفضلي! كان يقصد تماماً طردها! سألته بغضب: هل كانت الدعوة لمرافقتك إلى ذات الوجهة من أجل المساعدة أم من أجل رقم الهاتف؟ رد صارخاً وهو يشير لها بالمغادرة: (أنا ما بحب النسوان يلي بتستشرف علي)!

ثمة صورة نمطية يساهم الرجال في تعميمها وهي أحقية الأغنياء بالتحرش، وأحقية الشباب أو الأصحاء بالتحرش، يبدو أن كبار العمر وأصحاب الاحتياجات الخاصة والفقراء لا يحق لهم جميعاً التحرش، فهم وببساطة لا يملكون ما يمنحونه، هكذا يميل الجميع للتعبير مع أن هذا يتعارض قيمياً مع رفض المتحرش مهما كان وضعه المادي أو سنه أو شكله.

على زاوية ساحة شهيرة يتلاعب سائق ميكرو قديم الصنع بالأضواء في عز النهار، كان يقصد سيدة بعينها تقف بانتظار واسطة نقل، سخر رجلان واقفان من هزالة الموقف، قالا لبعضهما: ميكرو مهتري وعم يغمّز كيف لو معه مرسيدس! كان للسيدة رأي مختلف ولكنه مهين أيضاً: “زمّك (يعني قصير ونحيل القامة) وختيار على عيبه”! ابتعد الجميع عن إدانة التحرش المباشر عبر الدعوة غير المبررة من السائق لسيدة لا يعرفها، اتفقوا جميعهم على تقزيم السائق المتحرش وكأنه خارج دائرة من يحق له التحرش، وكأن التحرش فعل قوة لا يملكه إلا الأكفاء على فعله. يبدو أن المجتمع يبارك علناً التحرش لكن لمن يملك حق التحرش، إنها لمصيبة كبرى! كان بودي سؤال السيدة المعترضة على شكل الرجل والرجلين الساخرين من الباص الذي يقوده ذاك المتحرش عن موقفهما من التحرش ومن الرجل ذاته إذا ما تغير شكله أو عمر ونوع الحافلة التي يقودها.

ثمة مصيبة أخرى تحمي المتحرشين، وهي اتهامهم جميعاً بأنهم مرضى نفسيين، أي وبصريح العبارة فهم لا يتحملون نتائج تحرشاتهم ولا اعتدائهم الواقع مباشرة على النساء دون أي تفكير أو رادع. إن تعميم نظرية المرض النفسي هي محاولة فاشلة لحماية المتحرشين وإفلاتهم من العقاب، فلماذا لا تقع آثار أمراضهم النفسية إلا على النساء! وعلنا وفي الأماكن العامة وكأن النساء مستباحات بمجرد وجودهن في الفضاء العام، وكأن الرجال وحدهم من يحق لهم التحكم بالفضاء العام وممارسة كل الانتهاكات القانونية والاجتماعية والأخلاقية فقط بسبب هويتهم الاجتماعية! إن فائض القوة الذي يتربى الذكور متسلحين به يمنحهم قوة ودافعاً للتحرش دونما أي توقع للردع أو للعقاب.

يجلس الرجل على المقعد الجانبي، يضع على ركبتيه كيساً من النايلون الأسود، لا يسمح ضيق الحافلة بالتخلص من احتكاك ركبتيه بركبتي السيدة المجاورة له، لكنها لوهلة شعرت أن ثمة ما هو أبعد من مجرد احتكاك فرضه ضيق المكان، بخفة حاسمة مدت يدها والتقطت يده التي يلامس بها فخذ السيدة متخفياً بكيس النايلون. أمسكت السيدة بيده الآثمة، حاول سحب يده لكنها شدت عليها وصفعت وجهه بيده، ثم صرخت بالسائق ليتوقف فلم يستجب، حاول الرجل اتهام السيدة بالجنون وبأن لها خيالاً مريضاً، قال لها بثقة: “استحي على عمرك.” كان يقصد أنها في سن تجاوزت فيه التحرش بها، وكأن التحرش فضيلة أو وسيلة لتثبت المرأة لنفسها أنها جميلة أو تستحق التحرش! تناقض مرعب تفرضه حزمة من المغالطات، كأن تقول امرأة لرجل يتحرش بها: “عيب عليك أنا في مثل عمر والدتك”، وكأن للتحرش سناً أو عتبة أو مبرراً! غضبت السيدة بشدة، صفعته بيديها الاثنتين وقالت له: “لن أسمح لك بلمسي، حتى لو كنت عجوزاً، من قال لك بأنني أنتظر شهادتك لتثبت بأني امرأة!”

يتحول الازدحام إلى مناسبة سانحة تسهّل التحرش، يستغله البعض لممارسة التحرش الجسدي المباشر خاصة وأن التهرب منه أو نفيه سهل ومبرر ويمكن عزوه إلى الازدحام لا غير. في الباص الكبير يمرر شاب متحرش كف يده على فخذ شابة واقفة أمامه، تشعر بذلك، يتضرج وجهها باللون الأحمر من شدة الخجل، تحاول تغيير وضعية وقوفها لكن الازدحام الشديد لا يسمح لها بذلك والمتحرش لا يتوقف عن التحرش، بل يمنحه ارتباك الصبية ومحاولة الدوران في المكان فرصة للالتصاق بمساحة أوسع من جسدها. تتدخل امرأة جالسة في مواجهة الشاب، لكن كل ما تفعله هو أن تنادي الشابة لتقف بجانبها. تدخّل هش وضعيف، لا يعاقب الشاب ولا يردعه ولا حتى يفضحه، بل يدعوه وبثقة بالغة لينتقل إلى ضحية أخرى بعد نصف متر من مكان واقعة التحرش الأولى، تصرخ الفتاة به، لكنه لا يتأثر أبداً، ولا يظهر أي استجابة وكأنه غير معني بتاتاً بما يفعله من اعتداء صارخ، تغادر الفتاة الباص مرغمة والصمت سيد الموقف.

تتحول وسائط النقل إلى بيئة خصبة للتحرش، تعاني النساء من التحرش ومن الصمت على المتحرشين، تفتقد النساء بشكل عام إلى كل وسائل الحماية والدعم في مواجهة المتحرشين. ويصل التحرش حدوده القصوى عندما يستغل سائقو وسائل النقل حتى العامة وظيفتهم لحجز أماكن محددة لنساء أو فتيات محددات، وربما يطلبون بعدها أرقام هواتفهن الخاصة وقد يعرضون عليهن خدمات خاصة مقابل تنازلات من النساء أيضاً.

وليس مستغرباً أبداً، أن يتدافع الركاب للفوز بمقعد في حافلة عامة بينما يقوم السائق بحجز المقعدين الأماميين لنساء لا يعرفهن من قبل أبداً، لكنه وبسبب الازدحام وصعوبة تأمين مقعد يبرر لنفسه دعوة نساء بعينهن للجلوس في هذه المقاعد دونا عن غيرهن، فقط لأنهن شقراوات مثلاً! و الطامّة الكبرى هي أن يتحول التحرش إلى امتياز، لا تعيه النساء وربما وإن وعينه يعتبرنه غير مكلف أبداً ولا ينتمي للتحرش كفعل اعتداء صريح وواضح لكنه مغلف بالصدفة أو بالرغبة بالمساعدة أو فعل الخير.

من المؤسف والضار جداً هو التعامل مع التحرش في وسائل النقل عامة أو خاصة وكأنه حل أو إجراء تلقائي وبسيط وبريء، وقد يخفف من سوء الأحوال العامة وخاصة أزمة النقل والمواصلات.

للتحرش وجه مباشر وصارخ وله آلاف الوجوه غير المباشرة والمتلاعب فيها وبالنساء من خلالها وخاصة التعامل معهن وكأنهن طرائد وقوعها محتم في حبائل المتحرشين، وجوه أخرى يتضافر فيها الاستخفاف مع ضعف النساء وخاصة في ظل سوء الأحوال العامة وغياب كل آليات الحماية والوقاية.

لوحة مفصلية في مسيرتي التشكيلية: الفنان وضاح السيد

لوحة مفصلية في مسيرتي التشكيلية: الفنان وضاح السيد

وضاح السيد فنان سوري تخرج من كلية الفنون الجميلة في دمشق سنة ١٩٩٠. أقام ٢٤ معرضاً فنياً وشارك في عدة معارض داخل سوريا وخارجها. أسس في دبي مركز وضاح السيد للفنون. ابتكر عجينة خاصة للنحت، وحصل على أربع جوائز آخرها جائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم للسلام. لوحاته مقتناة في ٢٨ دولة.

صالون سوريا: متى رسمتَ هذه اللوحة، ما الشرارة الأولى التي كشفت الطريق إليها، هل هناك فكرة أو إيحاء أو تأثير معين دفعك إلى رسمها؟

وضاح السيد: رسمتها منذ عشر سنوات. وكان المصدر الملهم لي في رسم لوحة ملاذ هي الثقافة الروحية وعلومها المختصة في طرق التطهير الروحي والتي تدعو جميعها لفكرة إيجاد الملاذ العقلي والروحي للنفس.

ص. س: ما موضوع هذه اللوحة، وما العوالم التي تشير إليها وما الذي تحاول إيصاله فنياً فيها؟

وضاح السيد: في لوحتي ملاذ… كانت عيناها الملاذ الذي يشفي الروح التائهة… ووجهها هو اختزال وانعكاس لتلك العوالم المستنيرة التي تغني للخير وللحب بصمت التعبير في وجهها.

ص. س: ما الذي تشكله هذه اللوحة في مسيرتك الفنية؟

وضاح السيد: ملاذ …هي الهوية الخاصة باسمي كفنان و هي المرآة  الصافيهة لفلسفتي الروحية.

ص. س: كيف تختلف هذه اللوحة عن لوحاتك السابقة؟

وضاح السيد: هي نقلة نوعية من التعبيرية المحلية كمدرسة فنية إلى التعبيرية الكونية التي تنتقل بالمتلقي إلى البعد الخامس روحياً.

ص.س: ما الذي يتوفر في هذه اللوحة كي نقول بأنها لوحة إبداعية؟

وضاح السيد: تتوفر فيها الجدة في الموضوع والطرح التشكيلي فهي محاولة ناضجة لتحويل تكنيك التطهير الروحي إلى مشهد بصري.

ص.س: ما الأدوات المستخدمة في اللوحة وكم استغرق إنجازها؟ استعملت في صناعتها ؟

وضاح السيد: تقنيات ألوان الإكريليك مع الريشات المروحية بكل قياساتها واستغرقت في رسمها عشرة أيام.

ص. س: هل كانت آراء النقاد والمشاهدين مطابقة لما ترمي إليه في هذه اللوحة؟

وضاح السيد: معظم المشاهدين من نقاد وذواقة اتفقوا على رأي واحد …أنها لوحة فيها إدهاش بصري وسحر تعبيري والروحانيون منهم استطاعوا أن يقرؤوا لغتها البصريه العلاجية.

ص.س: ما مصير هذه اللوحة؟

وضاح السيد: اللوحة تم اقتناؤها من سيدة إماراتية وقد طُبعت نسخ منها واستُعملت في عدد من المسلسلات السورية، منها بقعة ضوء.

ملف يعده: أسامة إسبر

سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

تزامنت موجات الحرارة المتتالية مع انقطاع التيار الكهربائي في عدة محافظات سورية أكثر من 20 ساعة يومياً، ما يحرم المواطنين/المواطنات من تشغيل وسائل التبريد أو التكييف إن توفرت، وما يزيد الطين بلة انقطاع الكهرباء بشكل كامل وعام نتيجة لتعطل إحدى محطات التوليد، مثلما حدث ذلك مرتين في شهر تموز الماضي.

وتتعرض البلاد لموجات حرارة قاسية، إذ سجلت (المديرية العامة للأرصاد الجوية) درجات حرارة مختلفة تجاوزت 40 درجة مئوية في عدة مناطق، ووصلت إلى أكثر من 45 درجة في بعض المحافظات خلال الأسابيع القليلة الماضية، بيد أن الحرارة الملموسة بلغت درجات أعلى بكثير.

ولمواجهة لهيب الصيف، تلجأ بعض الأسر إلى مصادر طاقة بديلة عن الكهرباء الحكومية لتشغيل المراوح؛ مثل “الأمبيرات” بمقابل أجر أسبوعي أو شهري ما يشكل عبئاً مادياً إضافياً، في حين يعتمد آخرون على البطاريات ذات السعات الكبيرة، لكن الفئات الأكثر هشاشة وفقراً قد لا تملك مثل هذه الخيارات عموماً.

ومن ناحية أخرى، يفضل مواطنون الذهاب إلى المسابح هرباً من القيظ، بينما تقصد عائلات سورية الحدائق العامة والمساحات الخضراء بدمشق مساء، ويلجأ أفراد للنوم على الأسطح أو شرفات منازلهم.

ومع فشل الثلاجات المنزلية في أداء وظائفها لانقطاع الكهرباء بشكل متواصل، يزداد الطلب على شراء قوالب المياه المجمدة من الدكاكين أو الباعة الجوالين بهدف تبريد ماء الشرب على الأقل، حيث وصل سعر القالب الواحد إلى 16 ألف ل.س في ريف دمشق.

الصحة

تعاني هناء (72 عاماً- ريف دمشق) من موجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي مثل غيرها من كبار السن، تقول هناء: “استحم بالماء البارد لتخفيف درجة حرارة الجسم، إنه الخيار الأفضل، لا يتوفر لدينا وسائل تبريد باستثناء مروحة صغيرة تعمل على الطاقة البديلة”.

وسجلت عدد من المراكز الصحية في ريف دمشق ودرعا مراجعات بسبب “ضربات الشمس”، وعلى الرغم من برامج التقنين الكهربائي إلا أن أغلب المراكز الصحية والمستشفيات تملك مصادر طاقة بديلة.

وفي زيارة لعدد من العيادات الطبية الخاصة في قلب العاصمة دمشق، يلاحظ أن المرضى يعانون من درجات الحرارة المرتفعة أثناء الانتظار ما إن يغيب التيار الكهربائي، وبشكل خاص في العيادات التي لا تحتوي على منافذ تهوية كافية أو لا تملك طاقة بديلة لتشغيل وسائل التبريد.

وذكرت مصادر طبية وإدارية في دمشق لـ “صالون سوريا” أن منظمات غير حكومية بدأت بتوفير مصادر طاقة بديلة لبعض المراكز الصحية في دمشق وغيرها بهدف استمرار تقديم الخدمات الطبية للمرضى، بينما يقول مواطنون في ريف درعا إن المشكلة لا تكمن بمصادر الطاقة دوماً، وإنما بخروج بعض المراكز عن الخدمة وقلة الكوادر الطبية والأدوية في القرى والبلدات النائية.

ضربة الحرارة!

وعن أضرار موجات الحر الشديد، يوضح الطبيب محمد الشعابين (داخلية- قلبية) في حديث مع “صالون سوريا” أن الحرارة المرتفعة تسبب ضغطاً استقلابياً وما يعرف بالإجهاد الحراري أو ضربة الحرارة، والسبب بذل الجسم جهداً لتخفيض حرارته.

وبحسب الطبيب المختص فإن أعراض ضربة الحرارة هي التعب الشديد، والتعرق المفرط، والدوار، وفقدان الشهية، والصداع، وتؤدي الضربة إلى اضطرابات النطق واختلاجات وتقيؤ وتشنجات عضلية، وقد تؤدي إلى الوفاة في حال لم تعالج بالسوائل الوريدية بشكل سريع.

ويحدد الشعابين الفئات الأكثر تأثراً بموجات الحر، وهم الأطفال والنساء الحوامل والعمال الذين يعملون تحت أشعة الشمس؛ فضلاً عن الرياضيين وكبار السن.

ويقول الطبيب: “يصاب مرضى السكري بالتجفاف ما يؤدي إلى حماضات سكرية ربما تفضي إلى الوفاة، كما أن التجفاف عامل مؤثر على مرضى القلب والكلى أيضاً، بينما يعاني مرضى (الربو) من صعوبة التنفس عموماً، وتسرع ضربات القلب”.

ويخلص أطباء سوريون مختصون في حديث مع “صالون سوريا” إلى أن عدم توفر وسائل تبريد كافية يؤثر على حفظ الأدوية، وقد يحتاج قسم منها للإتلاف سواء في الصيدليات أو في المنازل، وتتعرض الأغذية للتلوث ما يزيد من حالات الإسهال صيفاً، كذلك تسبب درجات الحرارة المرتفعة القلق والأرق ليلاً.

ويدعو الطبيب محمد الشعابين إلى تجنب التعرض لأشعة الشمس بشكل مباشر لمن يستطيعون ذلك، إلى جانب الإكثار من السوائل والأملاح لتعويض شوارد الصوديوم التي تُستنزف عن طريق التعرق كيلا تسبب اضطرابات قلبية أو عصبية، إلى جانب تغطية النوافذ، لكن فعالية هذه الإجراءات تبدو منخفضة في ظل غياب وسائل تبريد جيدة.

من جهتها، تنصح وزارة الصحة السورية عبر صفحة مكتبها الإعلامي على “فيسبوك” بعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس خصوصاً بين الساعة 10 صباحاً و4 عصراً، وتجنب المشروبات التي تحتوي الكافيين أو السكر لأنها تؤدي إلى فقدان السوائل من الجسم؛ علاوة على ارتداء ملابس قطنية خفيفة وفضفاضة، وفتح النوافذ لاسيما ليلاً عندما تنخفض درجة الحرارة، والاستحمام بالماء البارد.

تموز: الأكثر سخونة

وسبق أن حذّرت منظمات مختصة من ظاهرة الاحتباس الحراري. في السياق ذاته، وصلت مستويات الغلاف الجوي لغازات الدفيئة الرئيسية الثلاثة -وهي ثاني أكسيد الكربون، والميثان وأكسيد النيتروز إلى مستويات قياسية في عام 2021، وفقا لتقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO).

وكانت (المنظمة العالمية للأرصاد الجوية) بالاشتراك مع خدمة “كوبرنيكوس” لمراقبة تغير المناخ الممولة من الاتحاد الأوروبي أصدرت تقريراً عن درجات الحرارة المسجلة في شهر تموز. وأظهرت بيانات سجلتها خدمة “كوبرنيكوس” أن تموز في طريقه ليكون الأكثر سخونة على الإطلاق، طبقاً لما نقل موقع (أخبار الأمم المتحدة) الإلكتروني.

الذكاء الاصطناعي وحدوده: حوار مع الخبير والباحث السوري فراس محمد

الذكاء الاصطناعي وحدوده: حوار مع الخبير والباحث السوري فراس محمد

تعود صداقتي مع المهندس والباحث السوري في مجال الذكاء الاصطناعي والمتخصص في التكنولوجيا المبتكرة فراس محمد إلى أيام الطفولة، حيث كانت عائلتي وعائلته تسكنان في بيتين متقابلين في سوريا يفصل بينهما شارع كان مداراً لقصص ومشاكل تلقي ضوءاً على مرحلة مفصلية. جمعتنا الطفولة، ثم فرقتنا الظروف والانشغالات واجتمعنا مرة أخرى بعد مرور سنين كثيرة في كاليفورنيا حين كان فراس مدعواً إلى وادي السيليكون إلى طاولة مستديرة مع ٤ خبراء عالميين لمناقشة وتوصيف مستقبل حلول الذكاء الاصطناعي بالنسبة لصناعة أنصاف النواقل والدارات المتكاملة. أثناء هذه الزيارة حدث لقاء معه بعد انقطاع طويل، وتجددت النقاشات حول الأوضاع السياسية العامة في سوريا، وحول تخصصه واهتمامه نظرياً وتطبيقياً بالذكاء الاصطناعي. وبما أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ يغزو الإعلام وصار حديث الساعة في المدة الأخيرة، ارتأينا أن نجري في ”صالون سوريا“ حواراً مع المهندس والباحث والمُخْترع الذي سُجل له اختراعان في مجال الذكاء الصناعي فراس محمد، لإلقاء الضوء على نشاطه العلمي وعلى المصطلح نفسه وما الذي يجري على الصعيد العلمي في هذا المجال.
فراس محمد رائد سلسلة من المشاريع ويمتلك خبرة تجاوزت خمسة وعشرين عاماً في أشباه الموصلات وأتمتة التصميم الإلكتروني (إي دي إي). فاز في ٢٠٠٥ بالجائزة الوطنية الفرنسية في التقنيات الإبداعية ما دفعه إلى تأسيس شركة إنفينيسكيل إس. إي، وخدم كرئيس ومدير تنفيذي لها إلى أن استحوذت عليها سيلفاكو في ٢٠١٥ وشغل منصب المدير العام لشركة “سيلفاكو فرانس” Silvaco France ونائب الرئيس للبحث والتطوير المتقدم حتى بداية عام ٢٠٢٣.
بدأ عمله المهني في مينتور جرافيكز Mentor Graphics مع فريق محاكاة سبايس، حيث أشرف على بيئة النمذجة والتحسين في عام ٢٠٠٠، وتولى إدارة تطوير تقنية التصميم بمساعدة الحاسوب CAD في شركة ميمسكاب إس إي MEMSCAP SA وهي شركة مقرها فرنسا وتعمل في مجال توفير الحلول القائمة على الأنظمة الكهروميكانيكية الدقيقة.
كان المهندس فراس محمد من بين أوائل من أدخلوا الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلات إلى أتمتمة التصميم الإلكتروني في ١٩٩٣. وكان رئيساً مشاركاً في إس آي تو للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلات Si2 AI/ML، وهي مجموعة مصالح خاصة.
ألف وشارك في تأليف عشرات الأبحاث العلمية، ويحمل براءتي اختراع في تحسين تعلم الآلات من أجل حلول أتمتمة التصميم الإلكتروني. حصل على شهادة مهندس في علوم الحاسوب وعلى الدكتوراه في الإلكترونيات الدقيقة من المعهد العالي الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا في غرونبل، فرنسا. التقيناه في كاليفورنيا، حيث كانت بداية هذا الحوار.

صالون سوريا: من أين جاء مصطلح الذكاء الاصطناعي وكيف بدأ دخوله إلى عالمنا؟

فراس محمد: قبل الحديث عن مصطلح الذكاء الاصطناعي، أحبّ أن أذكّر بالخوارزمي العظيم الذي يُنْسب إليه علم الخوارزميات، ذلك أنه كتب أول خوارزمية بالعربية في ٨٣٠ م. وبالعودة إلى الذكاء الاصطناعي يمكن القول إنه بدأ مع آلان تورينغ وآلته الشهيرة التي اخترعها في ١٩٥٠. وفي ١٩٥٦، أطلق ماكارتي مصطلح الذكاء الاصطناعي وعرفه على أنه علم جعل الآلات ذكية. ثم في ١٩٥٩، أطلق لي صامويل مصطلح تعلم الآلات والذي يُعد جزءاً من الذكاء الاصطناعي.

ص.س: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتجاوز الذكاء البشري؟ متى يمكننا القول إن الذكاء الاصطناعي أعلى من الذكاء البشري؟

ف.م: بالنسبة للسؤال أراه مشروعا جداً، في رأيي إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتجاوز الإنسان في جميع الأعمال التي تتطلب قدرات حسابية عالية. يجب أن يذكرك هذا الأمر باختراع الآلة الحاسبة وتفوقها على البشر في سرعة ودقة العمليات الحسابية. إن الذكاء الاصطناعي خليط من برامج يطورها الإنسان وتجارب يعطيها له كي يجعل هذا البرنامج ذا قدرات استنتاجية. إن الذكاء الاصطناعي يبقى محدوداً ضمن نطاق ما نؤهله له من قدرات رياضية وتجارب. يمكن أن نتخيل أن الذكاء الاصطناعي يقوم بتطوير برامج وإجراء تجارب جديدة وبالتالي يحسن نفسه كالإنسان لكن تبقى هناك أسئلة مهمة: هل وصل إلى مرحلة يضاهي فيها ذكاء الإنسان؟ بالتأكيد لا.  هل وصل لمرحلة الإبداع؟ لا. هل يمكن أن نقارنه بالموهبة؟ لا..

كما قلتُ سابقاً، يعتمد الذكاء الاصطناعي على توابع رياضية ونماذج وبنى محددة وكذلك على المعطيات والتجارب التي تتوفر له. إن أي نقص أو خلل في هذه المكونات سيؤثر بالتأكيد على نجاحه. يخرج ذكاء الإنسان عن هذا النموذج ويتجاوزه بشكل يكون أحيانا غير واضح. إن الكثير من ذكائنا حسي تتخفى فيه الرياضيات ومعادلاتها وتوابعها وبناها ويظهر عوضاً عنها قدرات حسية تستطيع اتخاذ قرارات صائبة في ظروف شديدة التعقيد.

ص.س: كيف بدأ اهتمامك بهذا الموضوع، وما هو تخصصك الأساسي فيه؟

ف.م: في الحقيقة بدأ اهتمامي الفعلي بعد مجيئي إلى فرنسا من أجل تحضير رسالة الدكتوراه. كنت أبحث عن مواضيع جديدة بعيدة عن مواضيع المعلوماتية الكلاسيكية. وفعلا وقعت على موضوع مميز هو استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في فحص وتشخيص الأعطال في الدارات الإلكترونية وكان هذا سنة ١٩٩٣. بعد التخرج تابعت العمل في شركات تكنولوجية وكانت دائما تقنيات الذكاء الاصطناعي أدواتي المعتمدة.

في الحقيقة، كان مساراً طويلاً لإدخال وتطبيق تقنيات الذكاء في تطوير وتحسين تصميم وتصنيع الدارات المتكاملة.

ص.س: كما تعلم إن البلدان العربية تعيش في إطار الاستهلاك في عصر التكنولوجيا والتقدم، وهي طرف فيه له وجود من ناحية الاستهلاك لا من ناحية الإبداع، ورغم ذلك نجد بلداناً كثيرة تهتم بهذا الموضوع، كيف يمكن أن يخدم الذكاء الاصطناعي في بلدان تعتمد آليات السيطرة والإكراه والضبط وتوجيه الذكاء لخدمة السلطة؟ هل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي سيطيل من عمر البنى القمعية في المجتمع العربي؟

ف.م: للأسف، كما كانت أجهزة الأمن سبّاقة إلى اعتماد الأتمتة قبل الجامعات والمدارس والمشافي وكل مؤسسات الدولة الأخرى، ستكون سباقة في استخدام الذكاء الاصطناعي للأهداف نفسها.

بالتأكيد، توفر تقنيات الذكاء قدرة هائلة على تحليل الصور والأصوات والنصوص وبالتالي إمكانية متابعة الأفراد، وتمييز توجهاتهم، وتقييد حرياتهم وقمعهم. ويجب ألا يفوتنا التذكير أن استخدام هذه التقنيات لا يقتصر فقط على الدول الاستبدادية، نحن نشهد تقييداً للحريات في بعض الدول الديموقراطية أيضا وأوضح مثال على ذلك هو انتشار كاميرات المراقبة في الشوارع ومراقبة الأفراد ورصد تحركاتهم عن طريق تقنية التعرف على الوجوه.

أخشى أن يكون جوابي على سؤالك هو بنعم.

ص.س: نسمع الكثير عن الذكاء الاصطناعي، ولكننا نفتقر للرأي العلمي، برأيك إلى أين وصل هذا الذكاء؟ ما المجالات الأساسية التي يمكن أن يُستخدم فيها؟

ف.م: شهد الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية منذ بداية عام ٢٠٠٠ أعادت الثقة به وفتحت مجال الاستثمارات الضخمة والانفتاح على تطبيقاته الهائلة. معالجة الصور، معالجة النصوص، معالجة الأصوات، الترجمة التلقائية للغات هي من أكثر التقنيات المعروفة والناجحة، تطبيقاتها متعددة تشمل التعرف على الوجوه والأشكال وترجمة النصوص بطريقة ذكية والتعرف على الكلام وتنفيذ الأوامر والطلبات ولقد أصبحت هذه التطبيقات كلاسيكية ومستخدمة في حياتنا اليومية.

وأتاح التقدم في هذه التقنيات الإمكانية للتقدم في مجال العربات ذاتية القيادة أرضاً أو جواً والتقدم في درونات (الطائرات المسيرة) وروبوتات الخدمة وغيرها …

هذه التطبيقات تُعد محسوسة وسهلة الإدراك نسبياً. هناك تقنيات متقدمة جداً، ولكن تطبيقاتها أقل إدراكاً وهي نمذجة المعطيات والتي أتاحت النمذجة الرياضية لظواهر طبيعية وبالتالي تحسين الأداء، أو الإنتاجية، أو الفعالية أو الحصول على توقعات دقيقة. مثلا، تحسين أداء شركة أو تنظيم مشفى …. طبعاً، سمعنا جميعاً عن البدء بتطوير أدوية جديدة أو توقع تغييرات في البورصة.

مؤخراً، صار بمقدور شات جي بي تي التي نقلت مولدات البحث إلى مستويات جديدة ذكية فهم النصوص وإعادة تشكيلها. وقد يكون من المهم أن تجرب بنفسك هذه الأدوات وتطلب منها تأليف أشعار أو قصص. يمكنك أن تدربها على بعض من قصائدك وتطلب منها أن تؤلف شعراً على نمطها، وإنتاج فيديوهات، وابتكار ألعاب.

ص.س: ما هي المجالات الأساسية التي يمكن أن يفيدنا فيها الذكاء الاصطناعي كعرب إذا توفرت بيئة علمية حقيقية له على الصعد كافة؟ 

ف.م: إذا لم ينتبه الأفراد والمؤسسات والمنظمات أو الحكومات إلى المستوى الذي وصل إليه الذكاء الاصطناعي والفائدة التي يمكن أن تُجنى منه في كافة المجالات فسيجدون أنفسهم متأخرين جداً عن اللحاق بركب الآخرين. بدأ أثر الذكاء الاصطناعي يظهر في جميع المجالات الصناعية، والتكنولوجية والإدارية والثقافية والتعليمية، والخدمية والترفيهية وغيرها. 

بالنسبة للدول العربية ومثيلاتها يمكن أن تكون الفائدة أكبر وتساعد في تسريع تطورها (وهو ما أسميه ركوب الموجة) وذلك بسبب الهوة التكنولوجية العميقة التي تفصلها عن الدول المتقدمة.

ص.س: ثمة معلومات توجه الذكاء الاصطناعي بطريقة أو بأخرى؟ في بلدان تتسم بالثقافة الأصولية الغيبية وبالسياسة الاستبدادية وبحجب المعلومات، والتعتيم على الحقائق، هل تلعب طبيعة ”الزاد المعلوماتي” ، إذا صحت التسمية، دوراً في توجيه الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي قد يكون بطريقة ما أصولياً؟ ألا يحتاج إلى بيئة حرة وتتسم بدقة المعلومات ومواكبة العصر؟

ف.م: سؤال مهم جداً. إن الذكاء الاصطناعي كالذكاء الطبيعي يعتمد على المعطيات التي نوفرها له. فكما هو الحال بالنسبة للتلاعب بالمعلومات من أجل التحكم بقرار الإنسان أو توجهاته فكذلك هو الأمر بالنسبة للذكاء الاصطناعي. إن تحريف المعطيات أو التلاعب بها سيجعل ببساطة من إمكانات هذا الذكاء محدودة أو خاطئة. 

أعتقد أن الفكرة واضحة، إن دقة المعلومات وشموليتها، أقصد قدرتها على تغطية الفضاء المطلوب دراسته وكميتها عامل مهم في كفاءة الذكاء الاصطناعي. إدخال مفهوم الحرية في هذا السؤال أراه رائعاً. في الحقيقة، يمكنني أن أربط كفاءة وقدرة الذكاء الاصطناعي بالحرية التي نعطيها له. قدرته الإبداعية ستكون مرتبطة بشكل مباشر بالفضاء الذي سنبنيه فيه.

ص.س: يتجلى الذكاء الصناعي في صناعة الروبوتات، وهناك بعض العلماء وكان بينهم ستيفن هوكينغ خافوا من احتمال أن يتمرد الروبوت على صانعه، ومن أن يقتله في بعض الحالات وأن يعيث دماراً في الكون، ما دقة طروحات كهذه؟

ف.م: لست من أنصار هذه النظريات. أعتقد أننا نستطيع التحكم بالروبوت وتحركاته. طبعا من السهل أن نعلّم الروبوت التمرد أو أن يصبح قاتلًا. الروبوتات المقاتلة أصبحت جزءاً من تسليح الجيوش اليوم، ولكن قدرتها على تعلم التمرد والقتل لا يمكن أن تنجح إلا إذا قمنا بإعدادها لذلك. 

لنفكر في شيء من الخيال العلمي، إن تعريف الذكاء الاصطناعي يفترض أن يتعلم البرنامج تلقائياً وبالتالي فوضعه في بيئة مشوبة بالتجارب المنحرفة يفترض أيضاً أن تجعله قادراً على الانحراف. ومع ذلك أعتقد أننا نستطيع الحد من كل ذلك وتوجيهه بالاتجاه الذي نريده.

ص.س: ما هي العقبات التي تعرقل عملك في هذا المجال عربياً؟

ف.م: للأسف لم ندخل بعد بشكل حقيقي في مجال نشر الذكاء الاصطناعي وتعميمه في الدول العربية حتى نتكلم عن العراقيل بشكل موضوعي، ورغم ذلك أوضحت تجاربي المحدودة مؤخراً أن هناك عقبة كبيرة وأساسية هي الحصول على المعطيات والتي هي، وكما ذكرتُ سابقاً، عماد بناء الذكاء الاصطناعي. فقد وقعنا على حالات لم تكن المعطيات متوفرة فيها، أو متوفرة ولكنها و لسبب أو لآخر لا يمكن مشاركتها، أو متوفرة ويمكن مشاركتها ولكنها ليست جاهزة، أقصد أنها غير كاملة أو غير كافية. 

من المعروف أن بلداننا ما تزال متأخرة في مجال تنظيم وحفظ المعطيات وهذا يتطلب مرة أخرى معالجة قانونية وإدارية وتنظيمية وأعتقد أن هذه المعالجة هي طريق دخولنا إلى عالم الذكاء الاصطناعي هذا إذا افترضنا الإرادة الحقيقية لذلك.

ص.س: أطلقتَ مرة في سوريا مشروعاً صغيراً على المستوى المحلي لا علاقة له بالمؤسسات الرسمية، ماذا كانت حدود الحرية المتاحة لك كي تنطلق في هذا المجال، في ظل غياب المؤسسات العلمية والأكاديمية القادرة على احتضان مشاريع مستقبلية كهذه؟

ف.م: بدأت بإنشاء معهد خاص لتعليم الذكاء الاصطناعي في سورية. أعتقد أنه كان أول معهد متخصص في هذا المجال. وضعت له قواعد صارمة كي يكون تجربة علمية حقيقية بعيداً عن أي أهداف تجارية أو توظيف سياسي. كنت مقتنعا أنه بالرغم من الظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد فسيكون هناك الكثيرون من المتعطشين لإطلاق تجارب من هذا النوع. والتجربة أثبتت نجاحها بشكل كبير. هذا المشروع العلمي فتح لنا آفاقاً كبيرة من ناحية إقامة مشاريع بحث علمي متقدمة تقارع مشاريع أعمال أقوم بها في فرنسا ودول أخرى.  وفي الحقيقة بدأت هذا المشروع مدركاً بشكل كامل للصعوبات والمعوقات التي يمكن أن يواجهها، سواء كانت إدارية، علمية أو غيرها وبالتالي كل ما نحققه نراه إيجابياً ويعطينا دافعاً للاستمرار. نحاول التواصل مع المؤسسات العلمية المختلفة لإنشاء وتوسيع المنظومة والتواصل مع مؤسسات أخرى للحصول على معطيات واقعية يمكن استخدامها في مسائل محلية. يجب أن أعترف أن نجاحنا هنا مازال محدوداً، ولكن هذا لن يجعلنا نتوقف أو نتراجع.

ص.س: أين تنشط عربياً في هذا المجال، وما الذي تقوم به بالضبط؟

ف.م: أحاول توسيع الدائرة والنشاط خارجياً. طبعاً من البديهي أن أنشط في فرنسا بحكم وجودي فيها ولكنني اتجهتُ عربياً واكتشفت أن دول الخليج العربي تبنت مشاريع وخططاً كبيرة في هذا المجال. حتى الآن، استطعت التواصل مع السعودية والإمارات والحقيقة إن البداية مشجعة جدا وتدعو للتفاؤل.