هل ستصبح سوريا بلد المُسنين؟ 

هل ستصبح سوريا بلد المُسنين؟ 

لطالما تغنَّت سوريا قبل الحرب بمجتمعها الفتي، إذ كان الشباب يُشكلون النسبة الأكبر من إجمالي عدد السكان. لكن تلك النسبة بدأت تتراجع منذ عام 2011 وحتى اليوم، على حساب تزايد نسبة كبار السن، وذلك نتيجة عوامل كثيرة أوجدتها ظروف الحرب الطويلة وتَبعاتها، وهو ما سيترك آثاره السلبية على مستقبل البلاد التي بدأت تعاني خللاً ديموغرافياً يتفاقم يوماً بعد يوم. 

حتى عام 2010 كانت معدلات الوفيات في سوريا لا تتجاوز 4،4 من كل ألف نسمة، وخلال سنوات الحرب ازدادت تلك المعدلات لتصل إلى 10،9. وقد شكلت فئات الشباب، خاصة من قتلوا في المعارك الحربية، النسبة الأكبر من حجم الوفيات. كما أدت الحرب وما خَلَّفته من نزوحٍ ودمارٍ إلى إحداث موجة هجرة كبيرة أفقدت البلاد ملايين الشباب، حيث ازدادت معدلات الهجرة بين عامي 2013 و 2017 لتصبح 70،5 من كل ألف نسمة، فيما كانت عام 2010 لا تشكل سوى 4 من كل ألف. وبحسب تقارير الأمم المتحدة لجأ، خلال سنوات الحرب، أكثر من خمسة ملايين سوري إلى دول الجوار، ثلثهم من الأطفال، فيما لجأ نحو مليون إلى بلدان أوروبا، هذا إلى جانب هجرة مئات الآلاف إلى أماكن مختلفة من العالم، حيث صُنفت سورية ضمن الدول الأكثر تصديراً للاجئين في العالم. ومن المعروف أن النسبة الأكبر من المهاجرين كانت من فئة الشباب، ومن الأُسر التي كان أبناؤها في عمر الطفولة أو المراهقة. 

ورغم توقف العمليات الحربية في معظم المحافظات السورية إلا أن هجرة الشباب  عادت خلال العامين الماضيين لتنشط بشكلٍ كبيرٍ، وذلك نتيجة تردي الواقع الاقتصادي والمعيشي – الذي جعل 90% من السوريين يعيشون تحت الفقر- وغياب أبسط متطلبات الحياة، وانعدام فرص العمل، وتراجع مستوى الدخل – في ظل التضخم الكبير الذي أدى لانهيار قيمة الليرة- وغياب أي مستقبلٍ واضح. وقد لوحظ خلال العام الماضي حجم الاقبال الكبير على فروع الهجرة والجوازات في مختلف المحافظات لاستخراج جوازات السفر،  حيث شهدت تلك الفترة سفر آلاف الشباب إلى بعض الدول، كالإمارات ومصر والعراق/ أربيل، لمجرد منحها بعض تسهيلات السفر للسوريين. وتتوقع الكثير من الدراسات هجرة مئات آلاف الشباب في السنوات القادمة إذا ما بقي الواقع على  حاله، حيث أصبح خيار السفر الحديث الشاغل بين الشباب والحلم الأول عند الكثير منهم، وقد باتت كثير من الأسر تُجهِّز أبناءها للسفر، فور انتهائهم من الدراسة، أو حتى لإكمال دراستهم في الخارج.   

تراجع معدلات الزواج  

سنوات الحرب الطويلة وانخراط نسبة كبيرة من الشبان في العمليات العسكرية، التي أبعدتهم عن الحياة المدنية وأشغلتهم عن التفكير في الزواج، ومن ثم تدهور الواقع الاقتصادي الذي أدى لارتفاع تكاليف الزواج  وصعوبة تأمين المسكن والشروط المعيشية التي يحتاجها بناء الأسرة. كل ذلك، إلى جانب الخلل الديموغرافي الذي أحدثته هجرة الشباب، أدى لانخفاض معدلات الزواج بشكلٍ غير مسبوق، فبينما تم تسجيل نحو 228 ألف عقد زواج في عام 2010، لم يُسَجل في عام 2017 سوى 100 ألف عقد. وبحسب ما نشرته صحيفة البعث الحكومية، قبل ثلاثة أعوام، فإن نسبة العنوسة وصلت إلى نحو70% ، وهو رقم يزداد يوماً بعد يوم، فيما تحدثت بعض الاحصائيات عن وجود ثلاثة ملايين امرأة تجاوزن الثلاثين عاماً دون أن يتزوجن. وقد شَكل تراجع أعداد الذكور في البلاد عبئاً ثقيلاً على الإناث اللواتي ازدادت نسبتهن خلال الحرب وباتت فرص زواجهن تتراجع يوماً بعد يوم، وهو ما دفع القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود معراوي لكي يُشجع – عبر تصريحٍ له عام 2017-  على خيار  تعدد الزوجات، كحلٍ وحيد للحد من تفشي ظاهرة العنوسة.   

وبما أن الزواج يُعتبر العامل الأساسي في زيادة نسبة الشباب مستقبلاً، كونه الطريقة الوحيدة للإنجاب في بلدٍ كسوريا، فإن تراجع معدلاته سيؤدي لتراجع معدلات إنجاب الأطفال/ شباب المستقبل.

وعن سبب عزوفه عن الزواج يحدثنا الشاب أسعد (38 عاماً) الموظف في شركةٍ للشحن والحوالات: “بات الأمر مستحيلاً، ويحتاج لملايين الليرات، بين تجهيزات منزل الزوجية وتكاليف العرس والمصاغ الذهبي. وإذا ما تم الزواج فسأعجز عن بناء أسرة في ظل هذا الظروف الاقتصادية المتردية، إذ كيف سأنجب طفلاً ودخلي المتدني لن يكفيه ثمن الحليب والحفاضات؟”. ويضيف”: إذا ما فكرت يوماً في الزواج فلن يكون في هذه البلاد التي سيتحول فيها إلى عبءٍ ثقيلٍ، في ظل فقدان  الشعور بالاستقرار والراحة النفسية، وغياب أي مستقبلٍ واضح أو أملٍ بأي فرج قريب”. 

يعيش أسعد مع الفتاة التي يحبها في شقةٍ صغيرة، يتقاسمان دفع إيجارها إلى جانب متطلبات المعيشة، حالهما كحال كثير من الشباب الذين لجؤوا لخيار المُساكنة كحلٍ بديلٍ عن الزواج الذي لا يستطيعون إليه سبيلاً. 

وإلى جانب العزوف عن الزواج ازدادت معدلات ارتفاع سن الزواج بشكل كبير، حتى ضمن المجتمعات التقليدية التي كان شبابها يتزوجون في أعمارٍ مبكرة، وهو ما سيقلل فرص المتزوجين في الإنجاب، خاصة النساء اللواتي ستتراجع معدلات خصوبتهن مع التقدم في العمر.

“كنت أحلم بإنجاب ثلاثة أطفال، لكن حلمي بات يقتصر على إنجاب طفلٍ واحدٍ، بعد أن تجاوزت سن الأربعين. في عام 2013 كنت في علاقةٍ عاطفيةٍ مع شابٍ سافر إلى أوروبا على أمل أن ألحق به لنتزوج هناك ونُشكل عائلة. انتظرته ثلاث سنوات، لكن الظروف حالت دون أن نلتقي مرة أخرى فافترقنا”. هذا ما تقوله المُدرسة رحاب (41 عاماً) التي تزوجت قبل نحو عام برجلٍ لا تربطها به أية علاقة عاطفية، لكنه كان خيارها الوحيد لكي تنجب طفلاً قبل أن يفوتها قطار الأمومة. رحاب التي ستضع جنينها بعد أربعة أشهر، تعاني ظروف حملٍ صعبة ومتعبة، وإن ولِدَ جنينها بخيرٍ فلن تفكر بالحمل مرة أخرى لأنه سيشكل مخاطر كبيرة على صحتها وسلامة الجنين. 

تراجع معدرلات الإنجاب 

رغم مرور ثماني سنواتٍ على زواج الفنان التشكيلي حازم (37 عاماً) لم يفكر وزوجته حتى اليوم في إنجاب طفل. ويوضح سبب ذلك بقوله:” تزوجنا خلال  الحرب، فكان الخطر والخوف من الموت يتربصان بنا في كل مكانٍ وزمان، ويجعلان خيار مغادرة البلاد يراودنا كل يوم، وهو ما منعنا من إنجاب طفلٍ قد تكون حياته مهددة في أي لحظة، وتنعدم فيها أبسط مقومات الرفاهية والصحة النفسية والشعور بالأمان”. ويضيف حازم:” اليوم، ورغم زوال خطر الحرب، يبقى خيار الإنجاب مستبعداً في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تجعلنا عاجزين عن تأمين حياةٍ مناسبة ومستقبل جيدٍ لطفلنا. وإذا ما فكرنا في الإنجاب فيما بعد فسنكتفي بطفلٍ واحدٍ فقط”.    

أسباب مشابهة تجعل الموظفة نورا (34 عاماً ) تعزف عن إنجاب الأطفال. تحدثنا عن بعضها: “رؤية الأطفال المتسولين والمشردين في الشوارع تؤلمني فأشعر بالذنب إذا ما فكرت في إنجاب طفلٍ إلى هذه الحياة، ليعيش منذ أيامه الأولى في ظل الفقر والحرمان والأذى النفسي، ولتقتصر أحلامه على الحصول على أبسط حقوقه الطبيعية التي يحتاجها أي إنسان”. وتضيف نورا المتزوجة منذ نحو أربع سنوات: “الضغوطات النفسية والمعاناة التي نعيشها يومياً تجعلني غير مهيئة جسدياً ونفسياً لكي أكون أماً. أعمل أنا وزوجي لنحو تسع ساعات يومياً لنتمكن من توفير قوت يومنا، وإذا ما أنجبنا طفلاً فلن يكون باستطاعتي حتى أن أحصل على إجازة أمومة”. ونتيجة لذلك يؤجل الزوجان فكرة الإنجاب إلى ما بعد سفرهما المنتظر إلى خارج البلاد.  

ربما يلخص كلام حازم ونورا واقع حال آلاف الأزواج الذين عدلوا عن فكرة إنجاب الأطفال نتيجة ظروف الحرب التي غيَّرت عادات الإنجاب لدى مختلف طبقات المجتمع، إذ تشير بعض الاحصائيات إلى تراجع معدلات الولادات  من 38،8 بالألف، في عام 2010، إلى 25،4 بالألف عام 2019، فيما تراجعت معدلات الخصوبة عند النساء المقيمات داخل سوريا إلى 60% ، فبحسب دراسة نشرتها صحيفة قاسيون السورية المحلية منتصف عام 2019، فإن نسبة إنجاب الأطفال عام 2010 كانت بمعدل 17 طفل لكل 100 امرأة في عمر الخصوبة، خلال العام الواحد، فيما تراجعت تلك النسبة لتصل إلى 6،6 طفل لكل 100 امرأة، وبالتالي فقد خسرت كل 100 امرأة أكثر من عشرة أطفال، كان من الممكن إنجابهم فيما لو بقي معدل الإنجاب كما كان قبل الحرب.

وإلى جانب ما سبق أسهم ارتفاع معدلات الطلاق خلال الحرب  في تراجع  معدلات الولادة، فبحسب صحيفة الوطن السورية المحلية، وصلت نسبة الطلاق عام 2017 إلى 31%، فيما سجلت المحكمة الشرعية في دمشق عام 2015 نحو 7028 حالة طلاق، مقابل تسجيل 5318 حالة في عام 2010. وتعود أسباب الطلاق لغياب كثيرٍ من الأزواج عن بيوتهم خلال الحرب لفترات طويلة – نتيجة انخراطهم في المعارك القتالية، أو فقدانهم وعدم معرفة مصيرهم- وتشتت كثير من العائلات والأسر السورية خلال ظروف النزوح، بالإضافة لتدهور الواقع المعيشي الذي جعل بعض الأزواج غير قادرين على إعالة أُسرهم أو تأمين المسكن المستقل، الذي يعتبر من أهم أركان الاستقرار الزوجي، هذا إلى جانب هجرة العديد من الأزواج دون زوجاتهم، وعدول بعضهم عن فكرة لم الشمل بعد مرور سنوات على سفرهم.    

ما ذُكر أعلاه قد يجعل سوريا مستقبلاً بلداً للعجائز، ويُضعف إمكانية تعويض النقص الحاصل في نسبة الشباب والفئات العمرية الصغيرة، ليصبح عدد من يحتاجون للإعالة يفوق عدد المعيلين المنتجين، كما سيؤدي إلى تراجع معدلات النمو السكاني في البلاد التي ستحتاج مستقبلاً لطاقات شبابها وأفكارهم ومشاريعهم أكثر من أي وقت مضى.

رحلة في مجاهل مدينة مغدورة

رحلة في مجاهل مدينة مغدورة

يغمرني فرح هائل، أستقل سرفيس جرمانا–باب توما من موقف فرعي، بالصدفة كان فارغاً ومن فرط سعادتي أقنعت نفسي بأنه توقف هنا خصيصاً من أجلي.لا أصدق أن ذلك قد حصل معي فقد ثبّتت أزمة المواصلات في أذهاننا استحالة تخيل أننا سنشغل يوماً ما مقعداً فارغاً ومريحاً ولو في حافلة متهالكة. كالعادة كان الباب الأمامي مقفلاً، المقعدان الأماميان محجوزان دوما للشقراوات، (حتى لو صبغة)، هو ليس تنمرا أبداً، لكنه سر تآلفنا معه مع جهلنا المطبق لأسبابه، يبدو أنه سر يرتبط بالمهنة وبشدة حتى تحوّل إلى عُرف.

أتعاطف مع السائق الخمسيني، وأقول له: “متأخر بالطلعة من البيت؟”. لا يرد على سؤالي، كان يرتدي ملابس صيفية وقبعة صوفية، أبتسم في سري، وأقول “وإذا؟” التنافر بات موضة العصر وهذه المدينة حائرة في مناخ أوقاتها، تعوق القبعة سمع السائق، ما يضطر الركاب لرفع أصواتهم عدة مرات ليتوقف حيث يريدون. فجأة ودون طلب من أحد يضغط على الفرامل ويتوقف، يصرخ جميع الركاب والمارة إلا امرأة تشرب المتة على الرصيف المقابل، تضحك ضحكة مجلجلة، وتقول لصاحب البسطة الذي توقفنا بقربه: “لو كانت الكاسة بإيدك كانت وقعت”!

 يشتري السائق عبوة زيت نباتي ويقول: “نفدنا”أي أنه قد تخلص من عقوبة زوجية مؤكدة في حال نسيانه لشراء عبوة الزيت. تصرخ تلك المرأة بصاحب البسطة وتطلب منه القدوم، يقول لها: “عم حاسب الزلمة، صبي لحالك.” إبريق الماء موضوع على غاز سفاري ملاصق للبسطة، والرجل يقطع الطريق مرات ومرات ليسقي المرأة مشروب المتة الساخن، يبدو أنهما يتبادلان الغرام عبر سفرات مكوكية ما بين رصيفين ترابيين مغبرين، تواصل الحافلة طريقها، يصرخ رجل يجلس في المقعد الأخير: “العمى ضرب الزلمة!!”

 تتحول أنظارنا إلى الجهة المقابلة لنجد أن شاباً صغيراً يقود سيارة مفيّمة قد صدم رجلا مسناً، لا يقوى الرجل على الوقوف، وجهه مغطى بالحصى الصغيرة والتراب والدم، يمسكون به محاولين إنهاضه، يطلب منهم مناولته كيس خضار صغير سقط منه بفعل الصدم، يجلسونه على كرسي أحضره صاحب محل لإصلاح الإطارات، يبكي بشدة ويقول: “ودوني ع البيت بدي أموت ببيتي”. يفر السائق طبعاً مع أنه كان في متناول اليد، أتساءل لماذا لم يفكر أحد في إيقافه أو في الحصول على رقم سيارته؟ تَركُ هؤلاء المعتوهين صار عرفاً سائداً أيضا في مدينة تتجاهل أنين أهلها ومتاعبهم.

أزالوا البسطات الشعبية من الشوارع، قرار غير مفهوم، يرحب البعض به حرصاً على رحابة المدينة، نسخر من تلك العبارة التي صارت سخيفة، أي رحابة؟ والأكثر ألماً، أي مدينة؟

تسير في سوق الحرامية الذي يبيع خضاراً وملابس وأغذية ومعلبات ومواد عتيقة من الستائر وحتى صحون فناجين القهوة، صمت موحش يلف المكان، أزالوا البسطات كلها، من أين سيشتري الفقراء تمر العيد أو الفول اليابس لفطور أيام الجمعة؟ من أين ستشتري الناس ستائر رخيصة أو صحونا مشكلة بعد خسارتها لممتلكاتها وعجزها عن شراء أي قطعة جديدة، يعلّق أحدهم حزينا وكأنه يردد حكمة بليغة: “راح السوق وبقيوا الحرامية”!

بات التعاطي مع القضايا اليومية مُنطلِقاً من موقع وحيد، من أين سيأتي أصحاب البسطات بالطعام لأطفالهم؟ صراع الحقوق بات قاعدة عامة، من حق الجميع أن يأكل ولو لم يشبع، ومن حق المدينة وسكانها مساحات أكثر رحابة وأكثر نظافة وأقل تلوثاً وخاصة من الضجيج. صراع حقوق يهدر حقوق الجميع، يُغرق المدينة في نشاطات مربكة وتبرير الخيارات السوداء بات عرفاً أيضاً. في منتصف شارع الثورة الرئيسي وبمرأى من الجميع يبيع بعض الشباب بنزيناً بالسعر الأسود. لا يسألهم أحد من أين لكم هذا ولا يعترض أي شخص على وجودهم هنا في منتصف الطريق وفي مشهد يفقأ العين وهم يلوحون بأقماع بلاستيكية تقول للسائقين بصمت: لدينا  بنزين أسود، منهوب، مسروق، متلاعب بطريق الحصول عليه لا يهم أبداً، بل ومرفق بخدمة تعبئته  فوراً وعلى العلن، والمتاجرون به حاضرون أمامنا بكامل جرأتهم وبكامل تلبسهم لفعل غير قانوني. الأجدى هو القول بأنهم وبفائض قوتهم يستبيحون الطريق والجيوب وحركة العابرين دونما أي تردد أو أدنى قلق.

لوحات إعلانية عملاقة لألواح طاقة شمسية، تجارة جديدة وباب رزق متوحش يغرف من جيوب السوريين دونما رقيب ويؤملهم بكهرباء قوية بديلة للغياب شبه التام لمصادر الطاقة النظامية، اللافت أن تجار الطاقة يلُمون جيداً بأولويات الأسر السورية، سيؤمنون لهم طاقة لتشغيل البرادات أولاً حفظاً لطعام بات تأمينه مكلفا جداً وصعباً، ولتشغيل الراوتر ثانية لأنه جهة الوصل الوحيدة بين الأهل وأولادهم أو أفراد عائلاتهم. يكمن الاحتيال هنا في تلبيته لاحتياجات حقيقية، فتصبح مشاريع تركيب ألواح الطاقة مشروعاً اقتصادياً للعائلات، هو بالحقيقة شر لابد منه، وستلجأ العائلات العاجزة عن تركيب أجهزة طاقة شمسية لتغيير نمط تخزينها لمونتها الاضطرارية بطرق أكثر بدائية، وربما تجد إحداهن مقعداً شاغراً في ثلاجةِ قريبةٍ لها لحفظ كيس أو كيسين من الفول للشتاء.

 إعلانات لمدارس خاصة تفوق أقساطها السنوية قدرة الغالبية من الطلاب وذويهم، إذ تتجاوز الملايين الستة سنوياً على أقل تقدير، والضمانة هنا مقابل كل هذا الاستفحال النقدي المسدد للتسجيل هو التفوق الأكيد والاستعداد لتعليم لغات جديدة كالألمانية. مؤسف أن الإعلانات المخصصة لهدف واضح واحد تشي بأهداف أخرى متسلسلة، يقول الإعلان ضمناً بأن كافة الطلبة المتفوقين والمتفوقات سيرحلون حكما إلى ألمانيا بعد حصولهم على الشهادة الثانوية أو بعد التخرج كمهندسين أو أطباء في أبعد تقدير، هي الخسارة مدفوعة الثمن مسبقاً.

تتداخل أصوات باعة الفول الأخضر مع باعة الملح على عربات خشبية تجرها البغال، مع أصواتٍ مُسجّلة تصدر من سيارات سوزوكي عتيقة، تعلن الاستعداد لشراء الخزانات البلاستيكية المكسورة والبطاريات العتيقة ومحركات البرادات التالفة من تذبذب شدة التيار الكهربائي، هنا تبرز النتيجة الفعلية لزحف البلاستيك الرديء وغير الصحي ولغياب الكهرباء ولصفقات البطاريات المغشوشة، كل ألواح الطاقة والبطاريات الأنبوبية غالية الثمن ستنجز دورة قصيرة الأجل محددة المدة مسبقاً لتصبح مواد عتيقة للبيع. الموضوع هنا ليس إعادة تدوير بل إعادة تفعيل لحلقات النهب المتجددة وليس للطاقة المتجددة كما يدّعون مع أنهم يعرفون حقيقة ريائهم وتغولهم.

والمدن المغدورة كثيرة، تمتد من الذاكرة وحتى لحظة الرواية، مدن تعج بالمغدورين كي ينطبق اسمها عليهم، لا تعترف بهم رغم جحودها ولا يطيقون الفرار منها، مسكونة بهم كي تتحول إلى مكب لأحلامهم، مسكونين بها حيث لا فكاك، لم تكتب الحكايات ولم يسجل التاريخ يوماً فكاك شعب بكامله عن مدنه المغدورة مهما أوغلت في القهر والإنكار.

الانتخابات في تركيا ووزن أصواتنا

الانتخابات في تركيا ووزن أصواتنا

ما تزال رحى المعركة الانتخابية دائرة في تركيا بين مرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو الذي أعلن تحالف الأمة المعارض عن تسميته مرشحاً له. يمكن أن يُقال الكثير عن هذه الانتخابات وأن تُسلّط الأضواء على تفاصيلها، ما خفيَ منها وما ظهر، واستعراض الرهانات والتوقعات الأوربية والأمريكية والعربية غير أنّ المشهد في حد ذاته، بالنسبة للناظرين إليه من الجغرافيا العربية، ساحرٌ إلى حد كبير، ذلك أن هناك أشخاصاً لهم أصوات، وهذه الأصوات مُحْترمة، يُحسب لها حساب، وتلعب دوراً في العملية السياسية، ولها خيار انتخابي بين شخصين يحملان برنامجين مختلفين. ومهما كان ضباب السياسة حاجباً للتفاصيل، وبصرف النظر عن إن كنتَ لا تحب أردوغان وحزبه إلا أن العملية الديمقراطية في حد ذاتها جديرة بالاحترام وتعني أن النخب والقوى السياسية والأحزاب وجماعات المصالح في تركيا تطورت وصارت تؤمن بتداول السلطة، وبأن الأفراد لهم حقوق أحدها هو حق التصويت والاختيار، وأن من يختارونه ممثلاً وحاكماً لهم يحصل على دوره هذا عن طريق عملية الاقتراع. قد يحدث تزويرٌ في الانتخابات، أو خطأٌ مُتعمَّد في فرز الأصوات أو قد يتم التلاعب بها، إلا أن كل هذه تفاصيل ثانوية وجوهر المسألة هو أن هناك  عملية انتخابية  ديمقراطية في هذا البلد فيها خاسر ورابح بحسب عدد الأصوات التي يحصل عليها، وأن أحدهما، إذا ما خسر، لن يفرض نفسه بالقوة ويدمر ويقتل كي يظل جالساً على الكرسي.

متى سنذهب إلى صناديق الاقتراع كي نُدْلي بأصواتنا؟ وهل سيحدث هذا قبل أن يموت جيلنا، الذي يسمع عن الانتخابات في العالم، وعن صناديق الاقتراع وفرز الأصوات والحملات الانتخابية، والخطابات الحماسية والمناظرات التلفزيونية التنافسية بين المرشحين، ويرى كل هذا على الشاشات؟ أم أنه مكتوب علينا أن نشعر بقيمة صوتنا في البلدان التي نهاجر إليها بعد أن نصبح من مواطنيها فقط؟ يأتيني الجواب المقيت على الفور من الواقع السياسي العربي والذي يُثبت يوماً بعد آخر أن تداول السلطة أمر غير وارد، وأن الديمقراطية لن يُفْتح لها الباب كي تدخل إلى عواصمنا، كما أن جيلنا المسكين عاش مثل الأجيال التي سبقته، محروماً من هذه النعمة، ولم يعاصر التجارب الديمقراطية الحقيقية في أي شكل من أشكالها، بل دفع ثمناً باهظاً في جحيم الحروب الأهلية والانقلابات الدموية والصراع العنيف على السلطة والتدهور الاقتصادي ولم يعش لحظة ديمقراطية حتى على مستوى بلدية أو مدرسة، وكم هي ضيقة وتعيسة حياة لا يَشْهد فيها المرء تحقّقَ الحلم الديمقراطي، لأنها ستمر كالكابوس وتدفعه إلى حضيض اليأس، غير أنني من الذين يؤمنون بأن اليأس مرحلة عابرة في تاريخ الشعوب، وأن تحولاً ديمقراطياً سيحدث يوماً ما تقوده الأجيال العربية الجديدة ولو في المستقبل البعيد يمنح لصوت الناس قيمة، كأفراد لهم خيارات سياسية في الحياة، وينبغي ألا نتجاهل هذا الحق الديمقراطي المقدس، أو أن نتنازل عنه قيد أنملة تحت أية ذريعة لأنه حق يعني بأن هويتنا الإنسانية كأفراد في المجتمع لها قيمة ومحترمة ويُصْغى إليها ولا تُلْغى برصاصة أو بدفنك حياً في السجون دون محاكمة. وهو حقّ يبني الأوطان ويحول السلطة إلى وسيلة لخدمة المواطن وليس إلى غاية. ورغم اللعب الانتخابي في الديمقراطيات والتزوير وكل المشاكل المرتبطة بالعملية إلا أن التنافس الشريف على كرسي الحكم، وعلى المسؤولية التاريخية الكبرى للجلوس عليه، يعني أن كل من انتخبوا يتحملونها جماعياً ويضعون ثقتهم بمن سيقودهم إلى بر الأمان، أو بمن لديه برنامج يخدمهم بطريقة وأخرى، ويَعِدُ بتحسين أوضاعهم المعيشية ورفع دخلهم وتأمين الضمان الاجتماعي والصحي لهم وإنارة ظلمة ليلهم بالكهرباء، وتشغيل محركات سياراتهم بالنفط، وتأجيج ألسنة لهب مدافئهم بالوقود حين يشتدّ برد الشتاء ومنحهم جواز سفر تفتح له كل المطارات أبوابها، إلا أن التجربة العربية، بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، فكراسي الحكم وراثية ومطوبة كما لو أنها حق مقدس للبعض بينما الغالبية محرومة منه، وكل من تسول له نفسه الاقتراب من الكرسي مصيره التحييد. 

من مستلزمات الديمقراطية توفّر المعلومات، والقدرة على الرؤية في ضباب القصف الإخباري المتواصل الذي يحجب الحقيقة، وأعني بتوفر المعلومات هنا ضرورة وجود معلومات دقيقة متاحة عن البرنامج الانتخابي وعن كل مرشح، وهذه المعلومات يجب أن تكون موثوقة وصحيحة لأنها تلعب دوراً جوهرياً في العملية، وتزداد أهمية دقة المعلومات في عصر الإعلام الرقمي الذي تتحول فيه الأخبار إلى حجاب على ما يجري، ويصبح من الضروري أن نرفع هذا الحجاب عبر جهد فردي وبحث عن المنابر الصادقة.

وها نحن نشهد عرساً ديمقراطياً في تركيا على الشاشات، وهو عرس تركي بامتياز، ولم يكن عربياً في أي وقت من الأوقات، ذلك أن الديمقراطية لم تدخل قواميسنا السياسية حتى الآن، وفي المشهد التركي نرى الجماهير، سواء المُعبَّأة أو الآتية طوعاً، تُدْلي بأصواتها بحرية، وهذا المشهد في حد ذاته تاريخي ومهيب، ويكفي أن نرى مشهد الانتخابات الذي حُرمنا منه كي نسكر بخمرته، غير أن الرهان على أحد الطرفين يعني أنه ليست لدينا إرادة، ونعيش سياسياً على خبز الوعود، وأننا سنواصل انتظار سفن القمح والنفط.

لن أدخل في تفاصيل ودهاليز الانتخابات التركية، ولكنني سأنظر إليها كصورة، وأقول إن هذه الانتخابات يجب أن نراها كمُلْهمة لنوع من الحل، أي أن مشاكلنا المستعصية قد تُحل من خلال تجربة انتخابات ديمقراطية حقيقية، لكن هذا يحتاج إلى جو من الحريات العامة واشتغال في السياسة وقوى سياسية فاعلة، ومعارضة حقيقية مستقلة وغير تابعة إقليمياً أو دولياً، وإلى الوقوف في وجه القوى الخارجية التي ستحاول وأد العملية الديمقراطية في مهدها، ذلك أن الغرب الذي يصوّر نفسه كحارس للديمقراطية وعراب لها وناطق باسمها لا يتردد في دعم الاستبداد والنزعات الفاشية حين تخدم مصالحه، خارج حدوده.

ومهما كانت سلبيات نظام الحكم في تركيا يجب الاعتراف أولاً بأن تركيا كدولة حققت إنجازات مهمة وأن المُتنافسَيْن في الانتخابات للفوز بكرسي الحكم يطرحان برنامجين انتخابيين واضحين تصب كل بنودهما في مشروع بناء الدولة التركية المتواصل، كما أن دخول الطرفين في العملية الانتخابية، مهما تنوعت التفاصيل، دليل على أن تركيا، تلعب اللعبة الديمقراطية على النقيض من المنطقة العربية برمتها. 

انحدرت شعبية أردوغان وتكشّفت ميوله التسلطية هو وحزبه حتى قبل أن يسدّد  زلزال كهرمان مرعش لكمته الموجعة والمؤسفة لتركيا، وأشار باحثون أتراك إلى تورط مسؤولين من حزب العدالة والتنمية في الفساد من خلال الفوز بعقود لبناء عدد كبير من الأبنية المغشوشة التي لا تتمتع بمواصفات الأمان وانهارت من الهزة الأولى، ولكن تركيا بنت اقتصاداً قوياً ومدناً حقيقية وشيدت مصانع أنتجت السيارات والطائرات المسيّرة وحاملات الطائرات وأسست جيشاً قوياً يمتلك عتاداً وسلاحاً جعله من أقوى الجيوش في المنطقة، كما أن تركيا صارت قبلة السائحين في وقت تبدد فيه الجيوش العربية ميزانيات الدول لشراء الأسلحة من الغرب أو الشرق وتستخدمها في حروب مدمرة.

يعرف القاصي والداني الوضع في البلدان العربية، التي يشهد بعضها صراعاً عنيفاً على السلطة كما يحدث في السودان مثلاً، حيث تدور حالياً رحى حرب ضروس بين الجيش وقوات الدعم السريع، ويبدو أن القرار والحسم فيها سيكون لفوهات المدافع وجنازير الدبابات والمنتصر سيدخل إلى القصر الجمهوري بدبابته ثم يجلس فوق الدبابة كي يظل مهيئاً نفسه لحماية الكرسي حتى لو قتل نصف شعبه، وها نحن نرى المدنيين في السودان وخاصة الأطفال والنساء والعجائز يدفعون ثمناً باهظاً ذلك أن من سيحكمهم لا يهمه إن نصّب نفسه فوق أشلائهم وأنقاض بيوتهم. 

وبصرف النظر عن النعرات العنصرية وكراهية الأجانب والظلم التاريخي الذي تعرض له الأكراد وتسهيل دخول الإرهابيين عبر الحدود مع سوريا إن منظر الحشود التي تتدفق في المدن التركية، للإدلاء بأصواتها في الانتخابات الديمقراطية في جو من الحرية والتمدن كفيل بأن يُلهم الروح المدنية كي تواصل نضالها إلى أن تتحقق الديمقراطية ويصبح لصوتنا كمواطنين وزن في المعادلة. 

عبد الكريم اليافيّ: عالم الفيزياء متصوِّفاً

عبد الكريم اليافيّ: عالم الفيزياء متصوِّفاً

    ولد عبد الكريم اليافي في مدينة حمص عام 1919 وتوفي مدينة دمشق عام 2008، وكانت حياته عبارة عن انبثاقات معرفيّة دائمة، سواء على المستوى الأكاديميّ أم المستوى الثقافيّ، فقد تتلمذ في بداية حياته على مشائخ اللغة والأدب والفقه في مدينة حمص إلى أن حصل على شهادة الثانوية العامة “فرع الرياضيات”، ثم التحق بكلية الطب في جامعة دمشق؛ إلا أنه لم يجد في علم الطب ضالته، فسافر في بعثة إلى فرنسا من أجل التخصص في دراسة علم الفيزياء، ونال درجة الإجازة في العلوم الرياضية والفيزيائية عام 1940 وهو في ريعان شبابه، ثم نال إجازة أخرى في الآداب، ثم حصل على دكتوراه في الفلسفة عام 1945، ثم حصل أيضاً على مجموعة مذهلة من الإجازات أو الشهادات الجامعيّة في تخصصات من قبيل: علم النفس العام، فلسفة الجمال، المنطق والميتافيزيقا، تاريخ العلم، علم الاجتماع وعلم الأخلاق. وكان اليافي يُسمّى بين زملائه وطلابه في جامعة دمشق بـ”الرجل الذي يعرف كلّ شيء”. علاوة على ما امتاز به من أخلاق رفيعة وهدوء وتواضع وترفّع على الصغائر. والحقيقة أنَّ اليافي شكّل تياراً خاصاً إزاء التيارات التي كانت سائدة آنذاك في قسم الفلسفة في جامعة دمشق في منتصف القرن العشرين فصاعداً: إذ كان كل من نايف بلوز وصادق جلال العظم وطيب تيزيني يمثلون التيار الماركسي بدرجات متفاوتة؛ وكان محمد بديع الكسم يمثّل اتجاهاً منطقيّاً صارماً، وعادل العوا يمثل نزعة دينية أخلاقية وإلى ما هنالك؛ غير أنَّ اليافي اختلف عنهم جميعاً بتأسيسه لموقف فكريّ علميّ-صوفيّ. وقد وضع مجموعة مهمة من الكتب جاء تسلسها التاريخي على النحو الآتي:

1-الفيزياء الحديثة والفلسفة-دمشق، 1951.

2-تمهيد في علم الاجتماع-دمشق، 1964.

3-شموع وقناديل في الشعر العربي-دمشق، 1964. 

4-تقدّم العلم-دمشق، 1964.

5-المجتمع العربي ومقاييس السكان-دمشق، 1966.

6-دراسات فنية في الأدب العربي-دمشق، 1972.

7-جدلية أبي تمام-بغداد، 1980.

8-معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية-دمشق، 1982.

9-بدائع الحكمة-دمشق، 1999.

10-معجم مصطلحات التنمية الاجتماعية والعلوم المتصلة بها –جامعة الدول العربية.

11-شجون فنية-دمشق، 2000.

    هذا، إلى أنه كان نشيطاً جداً على مستوى النشر في المجلات والدوريات، فكتب عدداً كبيراً من المقالات والأبحاث في مجلة المعرفة السورية ومجلة الآداب اللبنانية ومجلة تراث السورية التي عمل مدة رئيساً لتحريرها وإلى ما هنالك. وكان أول من أدخل علم السكان على أسس رياضية إحصائية إلى جامعة دمشق، علاوة على طرحه للنظرية الكوانتية على نحو مبكر في ما يتعلّق بفلسفة الفيزياء، كما اهتم بالأدب العربي اهتماماً كبيراً وكانت له آراء نقديّة مهمة في هذا الاتجاه. هذا إلى جانب ممارسته لمهنة التدريس في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق وفي أقسام أخرى من الجامعة.

      وبما أنَّ اليافي كان ضمن كادر قسم الفلسفة في جامعة دمشق منذ بدايات تأسيسه، إلا أنه لم يكن فيلسوفاً محترفاً، فلم يضعْ نظرياتٍ في الفروع الرئيسة للفلسفة، وأعني بها الأنطولوجيا أو علم الوجود، وهو علم يُعنى بتقديم إجابة نهائيّة عن معنى الوجود، والإبستمولوجيا أو (نظرية المعرفة) التي تُعنى بالكشف عن أصل المعرفة ومصادرها وقيمتها، والأكسيولوجيا (علم القيم) ويدرس أصل القيم وطبيعتها وأنواعها ومعاييرها؛ ما يعني أنَّ اليافي لم يكن ميّالاً إلى أن يكون فيلسوفاً نسقيّاً، أي واضعاً لنسقٍ فلسفيّ يقدّم تفسيراتٍ نهائيّة لمعنى وجود الإنسان لأنه لم يكن مقتنعاً بالدراسات الفلسفيّة البحتة التي تعتمد المناهج الاستقرائية والاستنباطيّة وتُغيّبُ الأبعاد الروحانيّة عن موضوعاتها، لذلك كان لا بدّ في رأيه من الجمع بين المناهج، سواء أكانت علمية أم فلسفيّة وبين ما يسمّيه المتصوفة طُرق العلم اللدنيّ، فاليافي كان شغوفاً إلى أقصى حدّ بإيجاد علاقة تركيبية بين العلم والتصوّف.

   إنّه يجمعُ في تفكيرهِ بين أكثر المناهجِ العلميّةِ دقّةً وأكثر الحدوس الصوفيّةِ الوجدانيّةِ تعالياً على مناهج العلم، فهو إن صحَّ وصفي عالمٌ وضعيٌّ متصوِّف، لذلك نكتشف في كتاباته علميّة التصوّف أو صوفيّة العلم. وها هنا وجه المفارقة في شخصيّة اليافي، فهو عالمٌ ملتزمٌ بمعايير البحث العلميّ ومناهجه، ولكنه في المقابل يركن إلى اللُّمَعِ والبوارق والسوانح الصوفيّة واجداً فيها الملاذ الأمين.  

  إنَّ ما يطلبه اليافي من هذا الحدْس الصوفيّ عينه، هو إعادة النظر في تاريخ الميتافيزيقا في الإسلام، ليثبت أنَّ الثقافة الإسلاميّة تنضوي في داخلها على عناصر تجديدها؛ بل انبثاقها الدائم على نحوٍ يخلّصها من القراءات الفقهيّة والسلفيّة المُغلقة كافةً التي أصبحَ الإسلام يقدّم بسببها اليوم بصفته ديانةً-إرهابيّة؛

  وقد كان اليافي واعياً وعياً عميقاً بالخطر الذي يهدّد الدِّين الإسلاميّ، واكتشف على نحوٍ مبكِّر ضرورة الإصلاح الدِّينيّ، ففي مقالة له نشرها في مجلة الآداب اللبنانية عام 1983 طرح سؤالاً هو: “من المؤهلون لتجديد التعبير الصحيح عن الفكر الدِّينيّ الأصيل والقيام بالإصلاح المنشود؟”.

    وهنا قدّم اليافي جواباً عن هذا السؤال هو وفق قوله: “لا شك أنَّ المؤهلين هم علماء الدِّين أكثر من غيرهم. ولكن القسم الأكبر من علماء الدِّين الإسلاميّ في الوقت الحاضر محتاجون أن يتجاوزوا مجرّد اطلاعهم على أصول الدِّين الإسلاميّ إلى التزوّد الواسع بالعلوم الإنسانيّة الحديثة بل العلوم الموضوعيّة لتُنشِئ لهم صحّةَ النظرِ في حاضرِ الأوضاعِ والتنظيمات العامّة الحديثة في مشكلاتِ الحضارة المعترضة”.      

     غير أنَّ اليافي-كما أفهم تجربتَه لم يجد في الموروث الفقهيّ أيّ إمكانية تساعد في الإصلاح الدِّينيّ المنشود، ولكنه وجد هذه الإمكانيّة في تراث المتصوفين المسلمين الذين رسّخوا الإسلام، بصفته ديناً كونيّاً، يقوم في جوهره على الحبّ. وكان اليافي يعرف أكثر من غيره أنَّ كبار المتصوّفين في الإسلام كانوا عُرضةً للاتهام بالزندقة والمروق والكفر؛ بل تعرّض الكثير منهم للقتل بأبشع الطرق من أمثال الحلاج (858-922م) والسُّهرورديّ (1155-1191م) وعين القضاة الهمداني وغيرهم!

     ولقد وجدَ أنَّ التصوّف الإسلامي لا يُلغي الذات الإنسانيّة في الذات الإلهية، أو لا يُغيِّبُ المتناهي في اللامتناهي؛ بل تدلُّ تجارب المتصوّفين الكبار على أنَّ هدفهم الرئيس هو توكيد الذات الإنسانيّة بطابعها النسبيّ المحدود إزاء الذات الإلهيّة بطابعها المطلق اللامحدود. وهذا يُفضي إلى تأسيس علاقةٍ جديدة بين الإلهيّ والإنسانيّ تقومُ على فهمٍ جديدٍ للإسلام يعطي للحياة الإنسانيّة قيمةً كبرى بعد أن صارت قيمتها مبتذلةً بسبب ما شهدناه وعايشناه من انتهاكاتٍ قامت بها الجماعات التكفيريّة التي يزعم فقهاؤها، أنهم ناطقون باسم الألوهيّة وأنَّ إسلامهم هو الإسلام الصحيح، أي إسلام السلف.

        لقد أرادَ اليافي التأسيس-إن صح التعبير-لعلمِ اجتماعٍ صوفيٍّ، أي لعلم اجتماع لا ينظر إلى الظاهرة الاجتماعيّة نظرةً وضعيّةً تسلبها قيمتها الرّوحيّة، بل يؤكدها بصفتها ظاهرةً اجتماعيّةً تتصفُ بالوضعيّةِ والرُّوحيّةِ في آن. وهنا استند اليافي كيما يؤكّد هذه النزعة الإنسانيّة في التصوّف إلى ما قاله ابن عربي في مُقَدَّمة كتابه “عنقاء مُغرب”: “فليس غرضي في كلّ ما أُصنّف في مثل هذا الفنّ معرفة ما ظهر في الكون وإنما الغرض معرفة ما ظهر في هذا العين الإنسانيّ والشخص الآدميّ”.

  وها هو اليافي يستجلي أسرار فكر ابن عربي الذي أسس لعلاقةٍ جدليّةٍ عميقة بين الله والإنسان، فالإنسان محلّ ظهور الألوهيّة، وهنا نجد سبقاً واضحاً عند ابن عربي لتعرّف المطلق على ذاته في الإنسان في فينومينولوجيا الفيلسوف الألماني هيغل. لقد كان اليافي ميّالاً إلى نظرية وحدة الوجود، وهي نظريّة فلسفيّة-صوفيّة ذات تأثير عميق في تاريخ الثقافة البشريّة بوجهٍ عامٍّ، أعني أنّه يفهم هذه النظريّة فهماً جديداً نابعاً من تفسير دقيق لنصوص الصوفيّة.

  وحاولُ اليافي أن يستندَ في هذا الاتجاه من أجل ترسيخ نظريته في وحدة الوجود إلى قول النبيّ محمد الذي يخبر فيه عن سبب خلق الله للخلق: “كنتُ كنزاً مخفيّاً فأَحببت أن أُعرف فخلقتُ الخلق فبي عرفوني”.

 ذهبَ مذهباً خاصّاً في تفسير معنى هذا القول، مستنداً في ذلك إلى علم الفيزياء، أي أنَّه أرادَ أن يُفسِّر الموروث الدِّينيّ في أُفق جديد تماماً يكون مستمداً من العلمِ الحديث، أعني من علم الفيزياء؛ لكن السؤال الجدير بالبحث عن إجابة شافية هو: أيمكن التوفيق بين الموروث الدِّينيّ تحديداً منه الحديث النبويّ والفيزياء المعاصرة؟

  ليس بمقدورنا الإجابة عن هذا السؤال، إلا بعد الفحص عن منهجيّة اليافي في تفسير حديث “كنتُ كنزاً مخفيّاً…” في ضوء علم الفيزياء.

    وهنا بيّن اليافي أنَّ “النّور الطبيعيّ هو غاية في الوضوح والإيضاح، به نرى الأشياء بأنواعها وألوانها وحجومها ومقاديرها وأشكالها. ولكن النور لا يُرى إن غابت عنه المادة. الفضاء الكونيّ ليل مظلم. إنَّه فراغٌ سماويٌّ لا يُقدّمُ للنّور نقطة ماديّة تنثره أو ينعكس عليها لتجعله مرئيّاً ولتصبح هي مرئيّة به، حتى إذا صادف الشُّعاعُ غير المرئيّ في مسراه ذرةً من الهواء أو الهباء في الجوّ المحيط بالأرض أمكن أن نرى الهباء متلألئاً والذرة براقةً. فوجود المادة وسيلة لرؤية النّور ورؤيتها به”. 

   يظهر هنا على نحوٍ واضحٍ أنَّ اليافي يُشبّه الله (الكنز المخفيّ) بالنّور الذي غابت عنه المادة، أي أنَّ الله لا يُعرف معرفةً حقّة، إلا عن طريق مخلوقاته، وعلى هذا الأساس تُعَدُّ عمليّة الخلق التي هي في أصلها عمليّة أنطولوجيّة أو وجوديّة شرطاً جوهريّاً لنظرية المعرفة، أي أنَّ هناك ترابطاً ماهويّاً في عمليّة الخلق بين الخالق ومخلوقاته، إذ إنَّ الحالةَ التي تكونُ فيها المخلوقات قبل خلقها لا تتيح للخالق أن يكون قابلاً للمعرفة، أي قابلاً لأن يُعرف. وبذا تحوز المخلوقات، أي الأَناسيّ بوجهٍ خاص قيمةً كبيرة، إذ هي أساسُ انكشافِ الألوهيّةِ لنفسها، وهذا هو التفسير الدقيق لعبارة “أحببتُ أن أُعرف”، فالله كوّن العوالم كلّها، بسبب حبّه لذاته، والمخلوقات أو الموجودات تشكّل لحمة هذا الحبّ وسدَاتِه، أي أنَّ عمليّة الخلق منسوجةٌ بحبِّ الله لذاته، لذلك المخلوقات نفسها تشكّل جزءاً مكوِّناً من حبِّ الله لذاته. والحقيقة أنَّ تفسير اليافي يحمل في طواياه عُمقاً كبيراً يستحق الإيضاح، إذ إنَّ الله لو لم يخلق الخلق لبقي الوجود في جملته الجامعة، مخفيّاً بما في ذلك الله ذاته، وهنا نكتشف نوعاً من التكامل بين الله والمخلوقات، وهذا يتضح تماماً في التعابير التي أوردها اليافي من قبيل “الفضاء الكونيّ ليل مظلم”، أو الـ”فراغ سماويّ”، بمعنى أنَّه لو لم يَقُم الله بخلق المخلوقات لكان الوجود صحراء قاحلةً لا مكان فيها لذي روح. إذن، الألوهيّة تحقق ذاتها في مخلوقاتها أعلى درجات التحقيق.

    وهنا اتجه اليافي من أجل تدعيم وجهة نظره إلى تفسير بعض آيات القرآن تفسيراً علميّاً، مؤكداً ضرورة فهم الآية القرآنية (الله نورُ السموات والأرض) [النور 35] على أساس أنَّ الله نور أصليّ لولاه لكان الكون كلّه ظلمة مُطبقة. إنَّ الله خلق الخلق ليتلقى نوره الغامر ويظهر، ويصبح النور مرئيّاً لمن كانت عنده بصيرة وليغدو الله معروفاً.   

      لقد حاول اليافي أن يجمع بين اللاهوت المُوحى وعلم الفيزياء، بمعنى أنّه يجد في مقولات الوحي تعبيراً عميقاً عن إعجازٍ علميّ. إذ تتسق هذه المقولات–في رأيه مع أحدث الاكتشافات الفيزيائيّة الحديثة. وبذا يسعى اليافي إلى جسر الهُوّة بين الدّين والعلم، قاصداً بذلك تكييف الدِّين مع العلم، وتهذيب العلم بالدِّين؛ لكن إلى أيّ مدى يستطيعُ السير في هذا الطريق؟

      وهنا يجب أن نذهب في التحليل إلى أبعد، فاليافي وفقاً للتحليلات السابقة لا ينظرُ إلى عالم الدِّين أو اللاهوت الموحى، بصفته عالماً مغلقاً على نحوٍ نهائيٍّ ومفصولاً عن عالم العلوم الوضعيّة؛ بل يمكن الاتصال مع ينابيعه ذاتها، أو بالأحرى يمكن منحه ينابيع جديدة، ليس بوساطة طرقه المعهودة المتعارف عليها؛ لكن بوساطة طُرق أخرى تُعَدُّ ذات صدقيّةٍ حقيقيّة في التعبير عن جوهرِ العلاقةِ بين الإلهيّ والإنسانيّ. وهو لا يقصد بهذه الطرق سوى طُرق المتصوّفة ونظراتهم في فهم حقيقة النبوّة، بمعنى أنَّ الحِكَم والإشراقات والحدوس الميتافيزيقية الصوفية تمثل وسائل معرفية لبلوغ المطلق والتعبيرِ عنه في آن مثلها مثل الوحي.

   والحقيقة أنَّ موقف اليافي من التصوّف يشابه موقف الفيلسوف الفرنسيّ هنري برغسون حينما قال: “وفي رأينا أنَّ غاية التصوّف اتصالٌ بالجهد المبدع الخالق الذي ينجلي عن الحياة، ومن ثمَّ اتحاد جزئيّ به. وهذا الجهدُ هو شيء من الله، إن لم يكن هو الله ذاته. والصوفيّ الكبير هو ذلك الإنسان الذي يتخطّى الحدود التي رسمتها للنوع البشريّ ماديته، ويكمل بهذا فعل الله”.   

    أرادَ اليافي يبني علاقةً جديدةً مع المقدَّس تقومُ على إعطاء قيمة كبرى لتجارب فرديّة لأفرادٍ ممتازين مرّوا في تاريخ الثقافةِ العربيّة الإسلاميّة، فكانوا مثلاً حيّاً على قدرةِ الإنسانِ العربيّ على تجاوز التقليد وتوكيد ذاته بإزاء المطلق.

   ووسّع اليافي دائرة الفهم الوجوديّ للأُلوهيّة، فيرى إلى الله مبثوثاً في الكون كلّه على نحوٍ ينشر الجمال في مختلف أنحاء الوجود؛ ذلك أنَّ الألوهيّة تعبّر عن ذاتها في الكون بصور الجمال المتنوّعة. وبما أنَّ الجمالَ منثورٌ في الكون، فلا بدّ من أن يثيرَ الحبَّ، فالجمال مطلوبٌ بصفته محبوباً. وهنا يجب التساؤل عن الغاية من هذا الحبّ؟

     لجأ اليافي هنا إلى الشيخ الأكبر، إذ قال: “الغائيّةُ في الحبّ تلك هي التي يدعوها الشيخ محيي الدّين بن عربي في “فتوحاته” حبّ الحبّ. ويريد أن يوضّح هذا المعنى، فيعرّفه بأنّــه “الشُّغلُ بالحبِّ عن متعلَّقه”.

     والحقيقة أنَّ هذا التعريف يسمو بالحبّ إلى أعلى درجاته على الإطلاق، فلم يعد موضوع الحبّ الماديّ هو شاغل المحبّ؛ بل صار المحبُّ مشغولاً بحبّه نفسِهِ عن محبوبه.

     ويجب هنا أنَّ نقول: لقد حاول اليافي تـأسيس فهمٍ جديد للدِّين الإسلاميّ في أُفق تأويله الصُّوفيّ للنصوص، فصار الدِّينُ الإسلاميّ وفقاً لهذا الفهم دين الحبّ الكونيّ الساري في الكائنات كلّها، أو بالأحرى صار الدِّينُ الإسلاميُّ ديناً مؤسّساً لوحدة الأديانِ كلّها، سماويّها ووضعيّها.

    يُعدّ اليافي حالةً فكريّةً خاصّةً في الفكر السوري في القرن العشرين، فلم يؤخذ بالتيارات الفلسفية الغربية من براغماتية وظاهراتيّة ووجوديّة ووضعيّة منطقيّة وغيرها رغم اطلاعه الكبير عليها؛ بل أراد أن يبقى مخلصاً لتراثه، تحديداً الصوفيّ منه، من أجل أن يؤسس لفهم خاصّ لمعنى الوجود، قد لا يلقى قبولاً من كثيرين الآن؛ ولكن مع ذلك يبقى فكر اليافي محاولة للقبض على ماهية المطلق في عصر اللا أدريّة المبتذل.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

الحواشي

١)اليافي، عبد الكريم، الدِّين والإحياء الرّوحي في الوطن العربيّ: تباعد أم لقاء مع أوروبة الغربية؟ مجلة الآداب، العدد رقم 4-5، 1 أبريل 1983.
٢) المصدر نفسه، المعطيات السابقة نفسها.
٣)اليافي، عبد الكريم، بدائع الحكمة، دار طلاس، دمشق، 1999، ص: 60.
٤)برجسون، هنري، منبعا الأخلاق والدِّين، ترجمة” سامي الدروبي؛ عبد الله عبد الدائم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971، ص:236.
٥) اليافي، بدائع الحكمة، مصدر سبق ذكره، ص: 60.

جامعات سوريا والمناهج الإلكترونية: تطوير أم تغطية فشل؟

جامعات سوريا والمناهج الإلكترونية: تطوير أم تغطية فشل؟

مناهج التعليم في جامعات سوريا، تسعى إلى استخدام الكتب الإلكترونيّة بدل الورقيّة، وكان هناك مبررات عدّة، مزعومة، أشارت إليها إحدى الصحف الرسميّة بدمشق نقلاً عن مسؤولين في وزارة التعليم العالي، مثلاً “يوجد ما تقارب كلفته الـ 1.2 مليار ليرة سورية؛ مبلغ مجمد لآلاف من الكتب المطبوعة منذ سنوات، لا تلقى أيَّ طلب عليها من الطّلاب”، والكلام السابق منسوب لمدير الكتب والمطبوعات في جامعة دمشق. 

وبدل أن تُعالج مشكلة كساد الكُتب، وقلّة خبرة الفريق الإداريّ في تلك المؤسسة، استُخدمت كواحدة من المبررات التي تعتبرها الوزارة المعنيّة؛ معالجة لكارثة يُفترض بها أن تصنف كقضية فساد إذا صحَّ ما قالته “د.مياسة علي ملحم” نائب عميد كلية الهندسة المدنية للشؤون الإدارية والطلابيّة في جامعة دمشق لذات الصحيفة: “لدينا هدر ورق كبير نحتفظ به بالمستودعات بأعداد هائلة ويصبح الكتاب قديماً وتالفاً قبل أن يُستخدم”.

ويشير الموقع الرسميّ لجامعة دمشق أن مديرية المطبعة تقوم “بطباعة كلّ ما تحتاجه جامعة دمشق وكلياتها من مطبوعات وخاصة بعد أن تمّ تحديث وشراء آلات جديدة للمطبعة العام 2007 أصبحت المطبعة تقوم بإنجاز طباعة كتب جامعة دمشق وكتب التعليم المفتوح بشكل كامل ومجلات الجامعة وجرائد الجامعة وأوراق الامتحانات وحاجات الكلّيات بما فيها فروع درعا والسويداء والقنيطرة ومن الجدير بالذكر أن كلّ مطبوعات الكلّيات والمديريات من ورق وكرتون وطباعة، مجانية على حساب جامعة دمشق كون المديرية خدميّة لصالح الجامعة” وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مصير تلك المديرية يبدو مجهولاً في ظلّ ظهور التحوّل إلى “الكتاب الإلكترونيّ” وكذلك  مصير تلك الآلات المختصّة بالطباعة بعد توقفها.

الاهتمام بالقشور

تعتبر ريم شعار (طالبة صيدلة في السنة الخامسة) من جامعة تشرين، أنّ هذا القرار يعطي انطباعاً جيداً للوهلة الأولى، وكأنّنا نتطوّر ونتقدم بخطوات حقيقية لتطوير العملية التعليميّة، وتسهيل الأمور على الطلاب للحصول على المعلومات مباشرة دون الاضطرار إلى استخدام المواصلات للذهاب إلى الجامعات أو إلى المكتبات للحصول على المحاضرات بشكلها الورقيّ. 

وتضيف ريم في حديثها لموقع صالون سوريا: “لكن بعد التفكير مليّاً والأخذ بعين الاعتبار عدّة أمور، وجدت أنّ تحويل جميع المقرّرات الجامعية لملفاتإلكترونية ليس بهذه البساطة أبداً على الطالب؛ وخاصة في دولة كسوريا عانت ما عانته خلال سنوات طويلة من القلّة وانعدام أدنى مقوّمات الحياة. فمثلاً أول ما يخطر لي ولكلّ طالب سوري هو الكهرباء وتوافرها المعدوم مع الأسف، فكيف لي أن أدرس للامتحان ساعات طويلة ومتواصلة على جهاز إلكترونيّ لا أعلم متى ستفرغ منه الطاقة! ومن الذي له قدرة ماديّة دائمة كي يقضي معظم وقته في المقاهي التي تتوفر الكهرباء فيها، حيث يلجأ إليها العديد من الطلبة الآن؟”.

وتعتقد ريم أن هذا التحوّل يحتاج إلى “بنية تحتيّة من الأجهزة الذكية الخاصّة والتي تدعم العديد من الميزات والتي من الصعب توافرها هنا، عدا عن أسعارها الباهظة في حال توافرت، إضافة إلى العقوبات أو ما يسمى “الجمركة” على إدخالها للبلاد ومشكلة توافر شبكة الانترنت التي ما زلنا حتى الآن نعاني أشد العناء منها”.

وتشير ريم إلى طبيعة الضرر العائد على الصحة من هذه الخطوة، بداية من آلام الظهر والأكتاف بسبب الجلوس الطويل على الأجهزة اللوحية أو الحواسيب ووصولاً إلى التأثير السلبيّ على صحة العيون: “إذا استُخدم الهاتف المحمول لمدة قليلة من الزمن ولاستخدامات عادية حقاً أشعر بانزعاج في عينيّ، فما بالك بدراسة لمدة طويلة!

في النهاية نحن كطلاب نتمنى حقاً أن يتم الاهتمام بالعملية التعليميّة وتطويرها والنظر بصدق ووعي لآلاف المشاكل التي تواجه وتعرقل الطالب السوري والتي لا يلتفت إليها أحد واقعياً وهذا القرار هو وصف لمن ينظر إلى القشور ليلهينا ويترك اللبّ” على حد تعبيرها. 

الهاتف بين يدي

تصف ميسون (طالبة في كلية الإعلام) جامعة دمشق، في حديثها لموقع صالون سوريا هذه الخطوة بـأنها “حسنة جدّاً لأنها تسير مواكبةً التطوّر في المجال الرقمي، وهي حقيقة لخطوة جريئة بقدر ما هي مفصلية، لأنّه وبلا شك ستتبعها تطوّرات أخرى في النظم التعليمية وطرق التعليم. وأفضل ما في الدراسة من الكتب الإلكترونية (وفي الواقع هو الأهمّ) أنّها توفّر علينا دفع مبالغ طائلة للحصول على الكتب الورقية، وهذه العملية جيّدة جدّاً ومفيدة في ظلّ تردي الوضع الاقتصادي. كما أنهّا ومن ناحية أخرى توفر الكثير من الوقت والجهد، فبضغطة زر تصبح متاحة على هواتفنا”.

وتستدرك ميسون، من ناحية أخرى، مخاطر هذه الخطوة معتبرة أنها “ليست مجرّدة من السلبيات، فاحتمال حدوث مشاكل صحية (كألم العين، ووجع الرأس.. إلخ..) عند المستخدمين يزيد أضعافاً لأنّ وقتهم يطول أمام شاشاتهم، ناهيك عن ميل أغلب الطلاب نحو الورقيّة منها واعتيادهم عليها، ما يصعّب عليهم التأقلم مع الالكترونيّة” على حد تعبيرها.

وتحبّذ ميسون بشكل شخصيّ الدراسة من الكتب الورقية “لأنها مريحة لعينيّ ونسبة تركيزي فيها تكون أعلى منها في الدراسة من الالكترونيّة، فما دام الهاتف بين يدّي، فإنني لن أقاوم إدماني على مواقع التواصل، وسأدخلها خاضعة” حسب قولها. 

وتضيف ميسون: “إنّ الوضع الذي نعيش فيه يفرض عليّ وعلى غيري من عشاق الكتب الورقية استخدام الالكترونيّة، لشحّ الكتب الورقية وصعوبة الحصول على نسخ منها بأسعار تناسب أوضاعنا المادية، وعلى أي حال لن نستغني عنها بالكامل، حتى لو توفرت الورقيّة، فهناك حالات اضطرارية يفضّل أن نقرأ من الهاتف خصوصاً أثناء التنقل في المواصلات، وأنا في بعض الأحيان يحكمني مزاجي، فيروق لي أن أدرس من هاتفي”.

تركيز مفقود

وبعيداً عن أجواء الاحتفال باللحاق بقطار التقنيات الحضاريّة في التعليم، وغض نظرها عن مشكلة جوهرية تشير إلى ثغرات إداريّة، وتبدو خطوة التحول إلى “الكتاب الإلكترونيّ” فرصة للاختباء من إيجاد حلول تناسب أوضاع الطلاب، ووقوفاً عن الجانب الصحيّ لتلك الخطوة، خلصت دراسات منشورة مؤخراً إلى أن استيعاب الطلاب يكون متدنياً أثناء التعلم والقراءة من الوسائل الإلكترونية وأن مستوى الفائدة يكون أقلّ مقارنة مع الوسائل المطبوعة. وبحسب الدراسات فإن الأجهزة اللوحيّة ترهق الأعين عند القراءة وتؤثر على مدى التركيز في المعلومات وتفهمها. إضافة إلى أن عدداً كبيراً من الناس يميلون إلى الاستيعاب أكثر عندما يكون مصدر المعلومة على صفحات حقيقية أكثر من وجودها في نص إلكتروني “ربما لأن تدفق النص يعرقل الانتباه البصري ويفقد القارئ مكان القراءة” حسب ما جاء في إحدى الدراسات عن جدوى التعليم عبر الأجهزة اللوحية. 

التجريب بالمواطن

يعتقد الصحفي السوري طارق علي أنه لن يكن هناك إقبال على شراء الكتب الورقية، إذ أن ذلك ليس وليد المرحل الحالية وهو أمر منذ سنوات طويلة فائتة، فالملخصات و”النوتات” هي الطاغية على الكتب الجامعيّة الضخمة، والتي بدورها-أي الملخصات- تحقّق ربحاً لدكتور/ة المادة وللمكتبة التي تطبع، وتريح الطالب من عناء قراءة كتاب تعداد ورقه بالمئات.

ويضيف طارق في حديثه لموقع صالون سوريا: ” هذا حال قديم ولا زال سارياً، وما ازدياد تلك المكتبات في محيط الجامعات إلاّ دليل على نبذ الكتب المطبوعة والاتجاه نحو حلول أكثر راحة للطالب، حتى أن دكتور/ة المادة ت/يلمّح سراً أو صراحةً إلى ضرورة شراء تلك النوتات”.

ويؤكد: يمكن ملاحظة انتشار الملخصات الإلكترونيّة -سلفاً والتي يتبادلها طلبة الجامعات لاسيما في الكليات العلمية، وتلك الملخصات المتداولة تريح الطالب أكثر لتوافره معه في هاتفه -مثلاً- طوال الوقت، وكذلك توفر عليه المال الذي سيدفعه ثمناً للمحاضرات الملخصة-وهي مبالغ كبيرة على الطلبة- لا شك أن الجامعات تخسر حين تطبع كتبا لكلياتها، ومن الجيد نسبيا تحويل التعليم إلى إلكترونيّ، ولكن بالمقابل، ألا يمكن اعتبار الأمر رفاهية مبكرة؟، فليس كلّ طلبة الجامعة يحملون أجهزة حديثة أو لديهم حواسيب محمولة أو حتى كهرباء (…) وبالتالي من الضرورة في مكان تأمين المقومات الأساسية التي تحقق الوفرة والاكتفاء للمواطن (الطالب) ثم البحث في إمكانية تعميم النموذج الإلكترونيّ في بلد كلّ شيء فيه مترابط ولا يمكن فصله عن الآخر.

ويختم طارق كلامه بالتساؤل: “هل هذا التحول سيشوبه نوع من الفساد والسمسرة؟ أم أنه قرار مدروس بشكل كاف وواف في بلد لا تصدر معظم قراراته سوى بهدف التجريب بالمواطن!”.

أخيراً..

أجمع عدد ممن تحدّثنا معهم ولم يوثقوا إجاباتهم أنها خطوة مفيدة فيما بعد، ولكن الآن هناك مشكلة كبيرة وهي توفر الكهرباء من جهة والتأثيرات الصحية من جهة أخرى، وذلك سوف يكون مصدر قلق لهم. في الوقت الذي لم تظهر فيه وزارة التعليم العالي في سوريا في أي تحقيق موثق عن سبب كساد الكتب وهدر المال العام الذي كان يمكن من خلاله تطوير وسائل أكثر تناسباً مع وضع الطلاب اليوم في الجامعات السورية.  

بحثاً عن الكرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى

بحثاً عن الكرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى

روزا ياسين حسن روائية وكاتبة سورية. درست الهندسة المعمارية، وتفرغت للكتابة. ألفت العديد من الروايات وكذلك الكثير من المقالات الثقافية والأدبية في العديد من الدوريات العربية والأجنبية. وهي ناشطة نسوية، وعملت كثيراً على قضايا النساء. أصبحت منذ العام 2015 عضوًا في نادي القلم الدولي PEN وتقيم منذ نهاية عام 2012 في ألمانيا.

عنوان الكتاب: بحثاً عن كرة الصوف ثلاثة أيام من متاهة المنفى.

الكاتبة: روزا ياسين حسن

الجنس الأدبي: رواية

الناشر: رياض الريس للكتب والنشر.

سنة النشر: 2022.

جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟

روزا ياسين حسن (ر.ي. ح): إنها أول رواية لي تدور حول عوالم المنفى. احتجت سنيناً طويلة كي أستطيع الكتابة عن المنفى، كمن علق في مستنقع، لم أستطع استيعاب غرقي القسري فيه، لا استيعاب الصدمة الأولى التي استطالت كثيراً، كما لم أستطيع الخروج منه ولا التنفس فيه! الفكرة معجونة بتجارب شائكة خضتها، كما خاضها آلاف اللاجئين/ اللاجئات في منافيهم اليوم والبارحة وغداً. منبعها الأساسي هو البرزخ الذي نعلق فيه كأرواح معاقبة، التروما العميقة في دواخلنا كلنا، وفي كل شخصية من الشخصيات العديدة المختلفة، وأحياناً المتناقضة، التي تحفل بها الرواية، والتمظهرات المختلفة كذلك للتروما. تطوّر الرواية يتلخّص في صراعنا الشخصي والعام مع تشعبات متاهة المنفى، كمن يبحث عن كرة الصوف/ خلاصه الفردي التي ستخرجه من المتاهة. وكلما مرّ الوقت راحت المصائر المختلفة للشخصيات تتعقّد وتتشعّب وتتفارق.

 (ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرواية؟

(ر.ي. ح): عوالم المنفيين/ المنفيات، العوالم الجديدة التي ألفوا أنفسهم فجأة في خضمّها، خيالاتهم، أحلامهم، الشروخ العميقة التي يقعون فيها، مآزق الحياة الجديدة، تحدّيات العيش، والبحث عن الذات في مكان يخلخل الهوية والانتماء الذي حملوه معهم، كمن يبحث عن ذاته وسط أكوام قش متراكمة، وكمن يحاول إعادة تعريف بديهياته، التي كانت حتى لحظة اندلاع المنفى بديهيات. أو كمن يحاول إعادة تعريف ذاته كما تعريف الآخر. هي رواية حافلة بالأسئلة.   

(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟

(ر.ي. ح): أنا روائية، والرواية هي العالم السحري الذي بنيته وسكنت فيه من زمان. ولولا ذاك العالم/ التخييل لما أمكنني إكمال العيش في هذا العالم/ الواقع. الرواية هي التاريخ السري الذي يمكننا نحن “المهزومون” كتابته، تاريخنا الحقيقي، فالتاريخ الرسمي لن يكتبه إلا المنتصر/ المستبد. وأعتقد أن الحكاية هي التي تجعل التاريخ الذي نريده موجوداً، تخلقه ببساطة، مما يعني أن الحكاية مع الزمن هي التي ستكوّن التاريخ الذي سيقرأه القادمون فيما بعد إلى هذه الحياة، لذلك فنحن عبر الرواية نشارك في كتابة تاريخنا. والتأثير الذي تتحدّث عنه لن يكون بالتأكيد تأثيراً آنياً مباشراً، وإنما حفر بطيء صعب ولكن عميق في وجدان البشر.    

(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟

(ر.ي. ح): الرواية عالم موازٍ تبنيه وتعيش فيه بلحمك ودمك، لذلك فهو تجربة عيش حقيقية. في هذه الرواية كنت “مريضة” تكتب عن “مرضى”، باختصار. شخصية من شخصيات الرواية عالقة في تلك المتاهة وتكتب عنها. يعني أن أكتب عوالم التروما وصراعات المنفيين مع أنفسهم والحياة الجديدة أمر ليس بالسهل إذا كنت بنفسي واحدة منهم. كضحية تعيد عيش تجربتها وألمها مرة تلو أخرى.

(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟

(ر.ي.ح): هذه هي روايتي السابعة، أول رواية كانت في العام 2004 “أبنوس”، مروراً بروايتي التوثيقية “نيغاتيف”، ثم “حراس الهواء”، “بروفا”، “الذين مسّهم السحر”، و”بين حبال الماء”، والآن رواية “بحثاً عن كرة الصوف”، بالإضافة إلى أكثر من كتاب مشترك.

(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟

(ر.ي. ح): بالتأكيد. حتى تتمكّن من فهم نفسك وفهم الشخصيات الأخرى من المنفيين/ المنفيات، وتمظهرات التروما المختلفة لدى كل منهم، يجب أن تفهم المعنى العميق للتروما، بالمعنى السيكولوجي والثقافي والاجتماعي، وأين تكمن في دواخلنا وكيف تظهر فجأة مدمّرة كل شيء حولها. تماماً كما يجب عليك أن تطّلع قدر الإمكان على التجارب الإبداعية الأخرى التي كتبها غيرك من المبدعين/ المبدعات حول تجارب المنافي. على كل حال أظن ان الرواية صديق فضّاح، يفضح ثقافة الكاتب/ الكاتبة وعوالمه المعرفية وبنيته الثقافية وقدرته على التحليل والفهم والإحاطة بالحدث، والأهم ديمقراطيته. بمعنى أن “الكتابة الديمقراطية”، إن صحّ التعبير، تمكّن الآراء المختلفة والتفاصيل الشخصية للشخصيات المتباينة من طرح نفسها بدون أحكام قيمة. 

(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول إنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟

(ر.ي.ح): لا توجد وصفة سحرية ومنجزة تجعلنا نقول، إذا تمّ تحقيقها، إن هذه الرواية إبداعية. الإبداع مفهوم شائك وخبيث ومخاتل، والرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية تملّصاً من التعريف أو التصنيف. ربما لذلك استطاعت أن تطوّر نفسها على طول الوقت، وتتجاوز أية قوالب جاهزة ومعدّة لها.

بالنسبة لي باختصار، الرواية التي تجعلني، بأية طريقة من الطرق، بعد قراءتها مختلفة عمّا كنت قبلها، سواء بالمعنى الثقافي المعرفي أو الإحساسي أو الجمالي، أو التي تهبني لحظات من المتعة، هي الرواية الإبداعية برأيي.

(ج): ما هو مشروعك القادم؟

(ر.ي. ح): أفكر بالتأكيد في مشروع جديد، خصوصاً وأن نشر رواية يجعلك تقتنع بأنها لم تعد تنتمي إليك، كأنك غادرت وطنك مجدداً، وأن عليك التفكير في شيء جديد تنتمي إليه. أي أن تبدأ بخلق ذلك العالم الموازي الذي حدّثتك عنه، والذي بدونه لا يمكن إكمال العيش.

مقطع من رواية “بحثاً عن كرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى”

غذّ “سرمد” السير مبتعداً فقد تأخّر عن موعده أكثر من نصف ساعة. سمع حديثاً بالعربية من قبل جماعة من الرجال مرّ بقربهم، لكنه لم يلتفت إليهم، فهو أمر مألوف في هذه البقعة من مدينة هامبورغ التي تمتلئ بالمهاجرين ومنهم الكثير من العرب. ثم أن حديثاً بالعربية لجمع من الرجال يرمقونه بقرف واستهجان يجعل السائل الحامض ذاته ينزل معدته حارقاً ما يمر في طريقه. لم يعد يتخيّل أن يقيم أية علاقة عاطفية مع أي رجل سيخاطبه بالعربية. كلمات الحب الحميمة بالعربية صارت بالنسبة له أقرب إلى شتائم، لا يقولها إلا زبائنه المقرفون ومتحرّشو الطرقات.

  • بشع كتير أن تتحوّل لغتك الأم إلى لغة تمارس عنفاً معك، تحتقرك وتذلّك!

قال “سرمد” ذات يوم لـ”مصطفى” في إحدى نوبات بكائه القاسية.

لكن الأخير كان قد اشترط سلفاً على “سرمد” أن يأتيه اليوم بملابس عادية، تناسب شاباً طبيعياً في مثل عمره، لا تلك الملابس التي تجعله يبدو أقرب إلى عاهرة غنجة ذاهبة لاصطياد الرجال. ببساطة بنطال جينز وبلوزة عادية مع الجاكيت. دون أي أثر لمساحيق التجميل على وجهه، ولا حتى لبعض الماسكارا السوداء على الرموش والتي تظهر واضحة جلية وصادمة حين تنعكس على زرقة عيون “سرمد”. لم يتعب نفسه ويذكر شيئاً عن كريم الشعر، الذي يضمّخ “سرمد” به شعره كي يصفّفه إلى الخلف ويبقى لمّاعاً حيوياً، فهو متأكد بأن صديقه لن يتحرّك خطوة من دونه.

وهو يغذّ السير، تذكّر “سرمد” لوهلة الكابوس الذي استيقظ عليه اليوم، هجمت عليه المشاهد كوحش جائع! كان في منطقة شبيهة للغاية بهذه المنطقة، وعيون الرجال في الكابوس، الذين كانوا يراقبونه وهو يُغتصب وسط الشارع، شبيهة للغاية بعيون هؤلاء الرجال، محتقرة هازئة ومليئة بالتشفّي. هو يصيح من الألم وهم يقهقهون.

نفض رأسه بقوة كي يطيّر الذكرى، لكن غصّة قلبه لم تغادره، وشعر برغبة عارمة في البكاء. حين سيرى “مصطفى” سيحكي له عن كوابيسه، وسيقول له إنه لم يعد يميّز بين كوابيسه وواقعه، لم يعد يعرف إن كان ما حدث معه الليلة الفائتة مثلاً هي حقيقة أم كابوس! وسيسأله “مصطفى”: ما الذي حدث؟! لكنه لن يخبره بشيء.  

في العمل لا يعرف أحد حقيقة “مصطفى” البتة، هم يعرفون فحسب بأنه شاب في الثلاثين من عمره، درس علوم الكيمياء في سوريا، وولد في إحدى ضواحي المدن السورية، تلك البلاد المنكوبة التي كانت تتصّدر نشرات الأخبار الألمانية كمثال عن المدن العريقة الأثرية التي تحطّمها يد الغوغاء. الغوغاء في نشرات الأخبار الألمانية غالباً لا شكل لهم ولا لون، هناك داعش والإسلام المتطرّف على الأرض، وهناك من يضرب من السماء على المدن ولكنه مجهول، لا اسم له في الغالب، إلا حينما يكون الأمر أوضح من أن يتمّ إغفاله، فيخرج اسم النظام السوري أو حليفه الروسي ضعيفاَ حيّياً كمسؤول عن إلقاء البراميل المتفجرة والغارات المتلاحقة على مناطق المتمردين.

  • Oh Syrien, arme, schade, es ist wirklich eine Katastrophe.

آه سوريا، مساكين، يا للخسارة، إنها حقاُ كارثة!

يتأوّه زميله الألماني في العمل كل صباح ويهزّ برأسه أسياناً، حتى أن “مصطفى” كان يشعر في بعض الأحيان بأن عليه مواساة ذلك الألماني على مصاب سوريا وليس العكس!

لكنه فجأة يقف نافضاً تلك الفكرة اللئيمة الساخرة من رأسه:

هل نكون قد تحوّلنا إلى تماسيح؟! صخور؟! أم أن الكوارث حين تتوالى لا يعود لمساحة التعاطف والحزن مكان، التعاطف حتى مع أنفسنا وأحبابنا! لا يعود هناك وقت لنبكي أو نندب، المكان والوقت كله مسخّر لنبقى على قيد الحياة، لنكمل السير في تفاصيل متشعبة للغاية في هذه الحياة التي ينبغي أن تستمر.

على الرغم من أن “مصطفى” كان ينتظر كل يوم خبراً مشؤوماً، خبراً صاعقاً يتوقّعه، وراحت روحه بكليتها تتقبّل قدومه، حتى أنه من الممكن أن يستمر في حياته هذه لو سمع بأن كامل عائلته رحلت في قصف ما قد يحدث في أية لحظة!

ألهذه الدرجة يمكن أن يعتاد المرء الكوارث والفقدان!

كان على “سرمد” أن يأتي لرؤية “مصطفى” اليوم، فالأخير أخبره قبل عدة أيام بأن صاحب البيت الألماني الذي يسكن فيه وافق أن يؤجّر “سرمد” غرفة في البيت مقابل أجار زهيد، وفي البداية دون أي أجار حتى تتحسّن أوضاعه الاقتصادية المتأزّمة، وذلك دعماً منه للشباب المثلي الشرقي، “ذاك الذي يخوض حرباً حقيقية ضد عاداته وتقاليده ومجتمعاته وذاكرته التي تضطهد المختلف وخصوصاً المثليين”، حسب تعبيره. يقولها هكذا وهو يضمّ قبضته ويدفعها في وجه الفراغ أمامه، كأنه يكيل ضربة قاضية لتلك التقاليد والعادات والمجتمعات والذاكرة! حتى أن “مصطفى” تمنى فعلاً لو أنها تتحوّل إلى كتلة مادية، لكان مزّقها نتفاً بأظافره وأسنانه ويديه ورجليه! 

تنحدر أصول صاحب البيت من قرية صغيرة قريبة من العاصمة “برلين”، لكنه يسكن في مدينة “هامبورغ” منذ مدة طويلة، وعلى الرغم من أن “برلين” تعتبر من أكثر المدن الصديقة للمثليين في العالم، إلا أنه اختار كمثليّ مدينة “هامبورغ”، المدينة البحرية المنفتحة، للعيش فيها، مدينة تقبل المختلف وتعتبر نسبة المثليين فيها من أعلى النسب في المدن الألمانية.

صاحب البيت يسكن مع شريكه، الذي يصغره بعشر سنوات، منذ أعوام طويلة. رغم أنهما لم يتزوجا إلا قبل مدة قليلة. وهو حريص أن يظلّ النادي الذي أسسه باسم: نادي قوس قزح Rainbow Club، فاعلاً ونشيطاً ومستقطباً للكثير من الشبان المثليين، خصوصاً الشرقيين منهم. يتفاخر أمام أصدقائه بأن هناك أكثر من سبعين شاباً سورياً من أعضاء النادي، لا يتأخرون عن حضور اجتماعاته وأنشطته وحفلاته، وكذا الخروج في مظاهراته المناهضة للعنصرية والهوموفوبيا. وهو إذا وافق على سكن “سرمد” في البيت فلأنه لا يمكن أن يقبل شخصاً في بيته لا يحترم ويفهم ماذا يعني أن يكون الرجل مثلياً، ويعيش مع زوجه الحبيب.

  • رغم أن المثليين في بلداننا يا ستيف لا يعيشون في سلام تام داخل مجتمعاتهم الصغيرة، إلا أن القوانين في النهاية تحميهم. أما أنتم فلا قوانين ولا دعم اجتماعي يقف إلى جانبكم.. مساكين. علينا أن نكون سوية فليس لنا إلا دعم بعضنا..

ثم غمز صاحب البيت “ستيف” وقهقه بألم وهو يجهّز سلطة خضراء لطعام العشاء.

“ستيف” هو اسم “مصطفى” الذي يعرفه كل الناس به في وطنه الجديد “ألمانيا”، إلا ابن بلده “سرمد”.

يبدو صاحب البيت الألماني وهو يكلّم “مصطفى” كأنه يهجّي كلماته في درس لغة، فيما يتكلّم مع زوجه بسرعة لا يكاد “مصطفى” يلتقط من حديثهما شيئاً!

“مصطفى” يشعر حقاً بأن هذا وطنه، هذا ما يكرّره دوماً أمام “سرمد”. على الرغم من أنه يعيش شخصيتين متناقضتين تماماً:

في النهار يعمل كأي رجل ملتحٍ و(شديد) في مستودع الأدوية، ولا يمكنه أن يسمح لأي تفصيل صغير يشي بحقيقته أن يظهر أمام زملاء العمل، حتى لو كانت ثياب صديقه الآتي ليزوره في العمل.

أما في الليل فيتحول إلى “ستيف”، يرتدي ثياب النساء وحليهنّ ومكياجهنّ ويذهب للسهرة في بارات المثليين والعابرين الجنسيين. يحرص على اختيار الثياب الأنثوية الملونة المليئة بالدانتيلا والشبك والتزيينات، التي تجعله يبدو بالفعل امرأة بكامل أنوثتها، ولولا تلك اللحية المشذّبة الناعمة لما شكّ أحد بأنه امرأة حقيقية، خصوصاً حين لا يخرج ليلاً إلا بستيانات محشوة بإسفنجات سميكة تظهره بثديين عارمين، تضفيان على مظهره أنوثة إضافية شهيّة.

“الأمر بيشبه وقت كنّا في سوريا قبل الحرب”.

 يقول لي “ستيف”، “كان ينبغي أن نكون بشخصيتين: شخصية المواطن البعثي المؤمن بالقائد وحزبه، واللي ما ممكن يعمل أي شيء فيه معارضة، وفي البيت وبين الأوساط المغلقة الموثوقة نشتم الرئيس وحزب البعث والقيادة الحكيمة والقدر الذي جعلنا في مثل هكذا بلد يحكمه مجموعة من الطغاة العرصات.. أرأيت؟! مو بس هيك، بل أكثر من شخصية اجتماعية متناقضة لذات الشخص أيضاً، أمام العائلة شيء، وفي المجتمع المحيط شيء آخر، وفي غرفتك أمام كومبيوترك والتشاتينغ شيء ثالث لا يشبه ما سبق. التناقض، الشخصيات المتناقضة المختبئة فيك، أمر معتاد في مجتمعاتنا. بل تربينا عليها.. صحيح؟! استتروا، داروا، خبّئوا.. وهكذا، أنا معتاد على الأمر، بل أستمتع به! يعني.. أممم.. أقصد أن أكون بشخصيتين متناقضتين أو أكثر، لا يمكن لأحداهما أن تشي بالأخرى أو تؤثر عليها أو تتأثر بها! عالمان متوازيان تماماً!”.

يمدّ “مصطفى” كفيه إلى الأمام بشكل متواز وهو يعيد الفكرة ذاتها مجدداً أمام صاحب البيت وهما يلتهمان عشاءهما.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع موقع جدلية.