لم يكن يخطر في بال الجموع التي هزَّت البلاد منذ سنوات أصبحت لا تُعَدُّ أنَّ الأشياء كلّها ستحصل على حرّيتها إلاّهم. الحرية تلك الكلمة الأثيرة التي اعتلت الحناجر والمنابر ولافتات الشوارع، تجتاحنا بلا رحمةٍ اليوم… الأشياء تتحرّر تباعاً.. كل صباح أستيقظُ لأترقّب جغرافيا الحرية، الخبز الحُرّ.. السكر الحُرّ.. الرز الحُرّ.. الزيت الحُرّ.. المازوت الحُرّ.. البنزين الحُرّ… والسقوط الحرّ للكرامة الإنسانيّة في هاوية سحيقة من الضلال السياسيّ والتمزّق الطائفيّ والانهيار الاقتصاديّ. نعم لقد أصبحت هذه السلع كلّها حرّة، ونحن نراقبها بصمت، عبيداً، أمام هذه الكثرة الكاثرة من الحريّات السِلعيّة.. ونصلي من أجل أن تخسر السلع حرياتها، وتعود إلى عبوديتها، ولكن السلعة الوحيدة التي لم تصبح حرة حتى الآن هي الإنسان!
الفرح لا فسحة للاكتئاب في ديارنا، الفرح يداهمنا كيفما توجهنا، كأن تستيقظ على صوت شحن بطاريات الطاقة مدركاً أن الكهرباء العزيزة في الدِّيار… ثم تخرج إلى عملك لتستقلّ إحدى وسائل النّقل العام، فتجد مقعداً دون أن تشعر أنك في يوم الحشر، وتدخل إلى إحدى الدوائر الرسمية لتجد موظفاً يقوم بعمله باحترام، وتُنجز معاملة في وقت مثاليٍّ، ثم تعود إلى المنزل لتشعر بمدى عظمتك عند إشعال المدفأة بالمازوت..! هذا الفرح مخاتل شجي، هذا الفرح عصيٌّ على غير السوريين، هذا الفرح خاصٌّ بنا، فوحده من ذاق عرف.. إلا أنه مثل كل غالٍ وثمين كالفينيق والعنقاء والخلّ الوفي. إنّه فرح ذاتي بالوجود ولو للحظة داخل عالم يتجه نحو التلاشي والزوال…إنّه فرح يوهم بالفرار إلى عالم آخر غير هذا العالم التعِس البائس…هذا ما قاله حسّان أستاذ اللغة الفرنسية، معبّراً عن فرحه داخل المأساة الكونية.
السويداء يُقال سويداء القلب : حبّته، عمقه، مهجته والآن هي الهامش: اقتُلِع من السويداء عمقها، رُفِعت اليد عنها، وتُركت تتقاذفها الأهواء في أقاصي الأزمة.. هذا بناء المحافظة اليوم يشهد كيف تقاذفت الأهواءُ النيران، تحوّل هذا البناء في الأيام الفائتة إلى أذن ثالثة التقطت الصوت من عمق السوق، حيث كانت تتحرك مجموعة من الجياع تنادي بحقها من قوت الحياة وتصرخ بالمتجمهرين: من لم يكن جائعاً لا يلحق بنا.. في زاوية أبعد توجد مجموعة أخرى من شبابٍ بلباسٍ مختلف يتأهبون لالتقاط اللحظة وخطف الزَّخم..بدؤوا الاتصالات لدعم حراك الجوع، وإطعامه بألون مختلفة من الإيديولوجيا.. أما حاتم بائع القماش بدأ يهمس لزبائنه بأن هناك رجالاً كانوا قد تضرّروا من قرارات ضريبية، فأرادوا بثَّ الفوضى في بناء المحافظة عسى أن تُحرق الأضابير الضريبية الخاصّة بهم، يجيبه هايل -الشاب الذي ينتظر تأشيرة نجاته بعد تخرجه من الجامعه وفشله في إيجاد عمل أفضل من عمله أجيراً لدى حاتم- بأنَّ في كلامه هذا تقليلاً من شأن ما يحدث (إنه نداء الجوع يا معلم). ولكنَّ حُساماً الخارج من السجن بعفوٍ عام علّق قائلاً: لابد أنها حركة من حركات الدولة لإطباق السيطرة على البلد. يقهقه حاتم قائلاً يبدو أنهم “برعوا في تأديبك”.. في البناء المجاور لمبنى المحافظة كانت همسات البعثيين القدامى تملأ المكان، بعد أن بدأ المحتجون باقتحام المبنى وتكسير أثاثه وإحراق أوراقه. إنهم المندسون أولئك الشباب المُتنفّعون مما يقدمه الخارج، بحجة دعم حراكهم ودفعهم وتوجيههم لفعل الأسوأ. لابد أنهم كذلك..من أين أتت تلك اللافتات المعنونة بالشعارات المبسترة المسيسة بالطريقة الغبية نفسها؟ من أولئك الذين يرتدون الأسود ويصورون الوقائع ويتكلمون على الهواتف الجوالة؟ هل يدرك هؤلاء أنهم ينتهكون رمزاً للوطن. ربيع يهاتف أصدقاءه المحامين ليخبرهم أن اللحظة التي مازلنا نحلم بها من أحد عشر عاماً قد حانت، إنه التغيير يقرع بابنا ولابد لنا من إعادة تنظيم أنفسنا من أجل هذا الحراك. تليق بنا دولة مواطنة، آن الأوان ليحكم الشعب نفسه حقاً.. الدولة كانت تحاول إطفاء النار دون أن تشعل حرائق أكثر. حضرت مجموعة من رجال الأمن لتفريق المحتجين بعد أن اخترق الرصاص القاتل جسد عنصرٍ من عناصر الأمن، وكذلك قُتِلَ شاب قاده القدر إلى المكان.. دون تأكيدٍ لهوية القتلة..
المركز الأول
نسيم معروف حارس مرمى نادي العربي الرياضي في السويداء، من قرية عتيل التي شهدت مؤخراً النزاعات الأهلية بين الفصائل المحلية، بُغية ضبط الأمن المحلي، كتب عن فعالية اجتماعية نجح في إقامتها في بلدته: الأرجنتين كسبت الكأس، ونحن في عتيل ربحنا المركز الأول أيضاً. فقد أطلق أبناء عتيل مبادرة اجتماعية رياضية لشراء بطاقة اشتراك تلفزيونية، واستئجار بعض المعدات، واستخدام الصالة الاجتماعية في البلدة لعرض مباريات مونديال قطر ٢٠٢٢. كما تم تحديد سعرها رمزياً بمبلغ قدْره خمسمئة ليرة سورية للدخول، الأمر الذي استقطب متابعي الرياضة من القرية ومن القرى المجاورة لها. ونشر نسيم معروف على تدوينته بياناً بالمبالغ المحصلة من هذه الفاعلية، والتي بلغت نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية، ليقول إنها ستُجيّر لصالح شراء الأدوية للأمراض المزمنة، وستقدم للمحتاجين. نعم لقد نجح في ظل كلّ هذا الفشل، يبدو أنّ النّجاح ممكن.
الرسالة “أمّةٌ عربيّةٌ واحدة ذاتُ رسالةٍ خالدة”، كانت الرسالة الأولى التي سمعت بها قبل أن أرسل رسالة عشقي الأول لـ”ناي” صديقتي في الصف الخامس، قال وفيق. وتابع: بعد ذلك أصبحتُ مطيّةً في أرض الرسالات..رسالة الدين، رسالة الأخلاق، رسالة الحزب، رسالة التخرج، رسالة الدبلوم لكن لم يخطر في بالي أبداً أن تكون رسالةٌ مثل رسالة تكامل (وهي الرسالة التي تصل للهاتف الجوال مبشرة بقدوم الدعم في ما يخص الغذاء والوقود) هي الرسالة الأثيرة لقلبي..أحس بمعنى كل الرسائل فيها، أتلمس الخلود والعشق والرحمة والأدب والعلم بأوضاع الحال، ينشرح صدري دون صلاة حين تقع في قلبي نغمتها المميزة عن كل نغمات العالمين، أقف ضد نفسي أنا الذي ظننت يوماً أني حرٌ فجوارحي تنتظر تلك الرسالة الخالدة التي تقف بكامل ألقها في وجه الخبز الحر والسكر الحر والرز الحر والغاز … تتحدى كل ماهو حر وهي تحتضن رجائي بدوام الدعم الحكومي. قلبي الصغير لم يعد يحتمل أكثر من تلك الرسالة الشقيّة العصيّة.
الأفق والضوء في آخر الصّورة كقصيدة شعرٍ تخبو لتتحول إلى صورة، كلحظةٍ يُراد بها تجميد المشهد، التقط ملهم الشاعر المسافر إلى دمشق آلة التصوير و رسم.. أسودٌ هو ذاك الجبل الذي يستقبلك حين الدخول إلى أرض البازلت؛ عزيزاً يطل على لؤم ما يحصل. لونٌ ناري يهبط على تلة جبل (قليب) عسى أن تُشعل النار التي كانت تُنذر أن خطراً محيقاً بأهل الجبل في الديار..لونٌ نبيذي شاحب يندلق من اللوحة يعلن انتهاء موسم النبيذ دون صخبٍ، دون سمر. وجوهٌ شاحبة مسمّرةٌ إلى ذاك الضوء في آخر الأفق.. وحين أخبره العسكري على الحاجز أن اسمه مطلوب للاحتياط وعليه النزول رسم قطاراً لا يُرى إلا ضوءه، يدهس الجميع.
الغواية للحياة غواية لا يدركها إلا من يناضل ليعيش، الآن أنا في السويداء؛ سويداء قلبي التي هُمِّشت وهُشِّمت، أتماهى مع بازِلتِها، أتشبث بالعيش كما العشب ينمو بين صخورها، تهدر روحي لترتقي من هاجس البقاء على قيد الحياة لهاجس الحياة، ها أنا أراها، أتلمسها، أطرق على جدار الخزان بكل قوتي، أريد أن أتبع شغفي، أركض خلف غواية الحياة فقد نجحت بالعيش في كلِّ هذا الموات. هذا ما قالته لبنى الفتاة الجميلة الموهوبة بكتابة القصة القصيرة.
أريكا هيلتون شاعرة وفنانة تشكيلية أميركية من أصول سورية ولبنانية، هاجرت عائلتها إلى تركياوولدتْ في مرسين، ثم هاجرت مع أمها حين كانت في سن السادسة إلى الولايات المتحدة الأمريكيةحيث استقرت نهائياً. نشرت في كثير من المجلات والصحف المرموقة مثل أوشن جيوغرافيك ماجازين،شيكاغو تربيون، توركواز ماجازين، أوثوريتي ماجازين ومجلات أخرى، وكانت مديرة سابقة لمركزالشعر في شيكاغو. يصدر ديوانها الأول في العربية قريباً. هذا الحوار أجري باللغة الإنكليزية معالشاعرة المقيمة في شيكاغو وتُرجم إلى العربية.
أسامة إسبر: أنت من أصل سوري ولبناني وتركي، وبعد ذلك أصبحت مواطنة أمريكية. كيف تؤثر قصتك كمهاجرة في تجربتك كشاعرة وفنانة تشكيلية؟
أريكا هيلتون: ولدتُ في تركيا لأبوين أحدهما سوري والآخر لبناني. كان أبي من أنطاكيا، وأمي من مرسين. في طفولتي كان جميع أفراد أسرتي يتحدثون التركية والعربية والفرنسية. وبعد أن انتقلنا إلى الولايات المتحدة لم أكن أنطق كلمة واحدة بالإنجليزية. لا أستطيع تذكر الوقت بين اللغات. في أحد الأيام بدأت أتحدث كما لو أنني كنت دوماً أتحدث الإنجليزية فحسب. وكما يحدث، نترك أحياناً شيئاً ما خلفنا حين نصل إلى شيء آخر، في هذه الحالة، كانت الخسارة هي خسارة اللغة العربية. ولأنني ولدتُ في تركيا كانت أمي تتحدث التركية معظم الوقت في البيت، وغالباً ما كانت مختلطة بالعربية، ولهذا ما يزال لدي فهم أولي حين أسمع كلمات معينة. لكن قدرتي على التفاعل مع العربية اختفت لأن رغبتي كانت شديدة للتفاهم مع أطفال آخرين، أردت أن أصبح أمريكية مثلهم وكنت أتضايق حين تنطق أمي باللغات التي وُلدتُ في جوها. أخيراً، أعتقد أنني وجدت نفسي ضائعة في عالمي الخاص أبحث دوماً عن جذوري. وهكذا وجدت نفسي أحاول أن أبتكر حقائقي.
أإ– ما الذي قدح لديك الشرارة الأولى لكتابة قصيدة؟
أ. هـ: أحببت دوماً المكتبات. في أوقات فراغي (قبل الإنترنت) كنت أذهب إلى المكتبات في معظم الأحيان وأسير في الممرات باحثة عن كتب يمكن أن تغريني. عثرت في إحدى المرات على كتاب ورقي صغير يدعى ”أركيولوجيا الروح“. أحببت الملمس المخملي لغلافه، والعنوان بالطبع. وهكذا اشتريته من دون أن تكون لدي فكرة عن محتواه. وجدت نفسي مأخوذة بمعنى الكلمات. داخل الصفحات، اكتشفتُ ريلكه وشعر جلال الدين الرومي وبابلو نيرودا وخاصة قصيدته التي سحرتني ويقول فيها: ثدياك كافيان لقلبي وجناحاي لحريتك. ما كان غافياً في روحك سيصعد من فمي إلى السماء…“. وهكذا بدأ ظمأي للرمزية الغنائية للكلمات التي تربط بين العوالم. بعد بضع سنوات، سجلت في مشغل يدعى ”كيف تعيش حياة أسطورية شعرية“، وكان المدرّس هو مؤلف الكتاب الذي أثر بي كثيراً، فيل كوسينيو. كانت ضربة حظ.
٣– تنحدرين من سلالة من الشعراء في شجرة نسبك العائلية. علمتُ أن ابن عربي هو أحدهم. ثمة خط من الشعراء الذين كتبوا في العربية يمتد الآن إلى الإنجليزية. كيف تتواصلين في شعرك مع هذا الخط؟
أ. هـ: هذا مدهش حقاً. حين كنتُ صغيرة لم أكن أعرف أنني أنحدر من أسماء مهمة كهذه في تاريخ الشعر والفلسفة. كان أبواي مطلّقين حين جئت إلى هذه الدنيا. تزوجت أمي شخصاً آخر وأحضرتني إلى أمريكا في سن السادسة. التقيتُ بوالدي للمرة الأولى بعد أن بلغت الأربعين من العمر. في ذلك الوقت كان لدي ولدان وكنت منخرطة بقوة في عالم الفن والشعر. والمدهش أن ابني البكر جيم أراد أن يصبح شاعراً وفي النهاية نال شهادة الماجستير في الفلسفة. أظن أن هذا يجري في دم العائلة. حين التقيت بأبي لأول مرة كانت تجربة سريالية. طلبتُ منه أن يحدثني عن العائلة التي لم ألتق بها أبداً فروى لي قصصاً كثيرة لكنه قدم لي في النهاية الهدية الأعظم وهي نسخة من خريطة النسب الخاصة بعائلتنا والتي حُفظت لقرون. لم أعتقد أن قائمة كهذه يمكن أن توجد ولم أكن أعرف أي شيء عن معظم الأسماء إلى أن أطلعت عليها أساتذتي الذين تعرفوا على محي الدين بن عربي وحاتم الطائي وامرئ القيس، وأسماء أخرى لم أسمع بها من قبل.
كان هذا سحرياً بطريقة ما. للحظة تشعر أنك تائه في عالم ضائع، كاليتيم الذي لا ينتمي إلى أي مكان، إلى أي عائلة، إلى أي ثقافة أو أي وطن. تعرف أنك مختلف، لكنك لا تفهم لماذا وكيف ومن أنت. ثم في تلك اللحظة السحرية تعرف من كان حياً في دمك، ثم تبدأ بفهم لماذا وكيف كما لو أن السماء تنفتح وضوء السماوات يُمْطر عليك ولا تعود تشعر بأنك وحيد. تمتلك الآن إحساساً بالانتماء. تبدأ بفهم لماذا أنت مركّب هكذا، ولماذا تفكر بالطريقة التي تفكر بها.
بوسعي القول إن الاطلاع على أسلاف كهؤلاء شهادة على قوة الحياة، فحين أقرأ شعر ابن عربي يبدو متقاطعاً مع شعر كتبته عن السماء والأرض، عن النجوم والتواشج مع الكون، عن الحب والضوء وكل ما هو موجود. والآن بعد أن عرفتُ من أين أنحدر يبدو من الطبيعي القول إنني عثرت أخيراً على جذوري، كما لو أن الضوء ظهر في نهاية النفق كي يضيء طريقي.
أ.إ: كفنانة تشكيلية وشاعرة كيف تعرّفين العلاقة بين الشعر والفن؟
أ.هـ: لا أظن أن هناك حدوداً فاصلة بين الفن والشعر. إنهما توسيع لحواسنا الخمس. يسألني الناس كثيراً كيف يمكن أن يفعل الإنسان أكثر من شيء واحد، وأن يكون أكثر من شيء واحد. بالنسبة لي، سيكون من المستحيل أن أكون بخلاف ذلك. أذكر أحبَّ الفنانين إلى قلبي وذائقتي في التاريخ ليورنادو دافينشي. كان مهندساً وعالم نبات وبالمصادفة صار رساماً. كل شيء مترابط.
أ.إ: أحد كتبك الشعرية سيصدر بالعربية قريباً. ستعودين إلى لغتك الأصلية المنسية لكن عبر الترجمة، ما الذي يعنيه هذا لك؟
أ.هـ: ثمة مفارقة عذبة في هذا. بصرف النظر عن المكان الذي نذهب إليه وعن المسافة، تعلمت أننا لا نستطيع أن نهرب مما يشكلنا. طلبتُ من الكون أن يساعدني في العثور على جذوري، وها أنذا هنا، أعود إلى البدء. إن لغتي الأصلية، ثقافتي الأصلية جذبتني كما يجذب نداء حوريات البحر. ليس هناك ما هو أفضل من هذا.
أ.إ: كرئيسة سابقة لمركز الشعر في شيكاغو ما الأنشطة التي قمت برعايتها، ما المميز في تلك التجربة؟
أ.هـ: كان عملي في منظمة تُعنى بفن الشعر وتروج له تجربة تكوينية بالنسبة لي. التقيت بأكثر الشعراء شهرة في العالم، وقمتُ بتسهيل ورشات الشعر واستمديت الإلهام من أفكار الآخرين وتجاربهم.
أ. إ: كراعية للفنون ما الذي يجعلك تختارين فناناً أو مصوراً لعرض أعماله؟
أ.هـ: بالنسبة لي الفن تمثيل بصري لجوهر الفنان وأفضّل أن أعمل مع فنانين يحدثون فرقاً بطريقة ما في العالم. أقدم فنانين يدعمون القضايا الإنسانية، مثل تأمين التمويل وتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على محيطاتنا وبيئتنا، وفنانين يساعدون في تأمين التمويل لأبحاث الأطفال المصابين بالسرطان ورفع الوعي بالأخطار التي تهدد أنواع الحيوانات ووضعنا الإنساني. كما قال أرسطو: ”إن هدف الفن ليس تمثيل المظهر الخارجي للأشياء بل دلالتها الباطنية“.
أ.إ: برأيك ما الذي يجعل قصيدة قصيدة بالمعنى الإبداعي الحقيقي؟ وكي أوسع هذا السؤال: ما الذين ترينه في لوحة إبداعية؟
أ.هـ: إن قصيدة أو لوحة إبداعية يمكن أن تكون أي شيء يلامس عاطفة في قلب وذهن المرء. قد تكون بسيطة ككلمة واحدة أو ضربة ريشة. إن القصيدة قصة مقطرة في بضع كلمات بينما اللوحة تمثيل بصري لقصة. وهذا متشابه إلى حد ما. كما قال الفنان مارسيل دوشامب: ”إذا دعوتُ هذا فناً فهو فن“.
أ.إ: هل تؤمنين بالقوة التحويلية للفن والشعر؟ كيف يقوم الشعر أو الفن بتغييرنا من الداخل؟
أ. هـ ـ: نعم أؤمن بها، ذلك أنه عبر الألفيات تعلم الناس عن أنفسهم وتاريخهم عن طريق قوة الفنون البصرية، وقوة الصوت. منذ التقاليد الشفهية التي تحولت إلى كلمة مكتوبة، ومنذ رسوم الكهوف إلى النهضة وحتى الأزمنة الحديثة، بحثنا عن معنى وهدف الحياة على الأرض. من دون فن لن يكون لدينا تاريخ. وثمة حاجة لدى البشر كي يصقلوا إحساسهم بالمكان في العالم، كي يتوحدوا مع الأرض والنجوم ومعنى وجودنا. نحن كبشر مستكشفون، لا يرضينا أن نكون موجودين فحسب بل نسعى، نبحث ونوسع حدودنا كي نتغلب على مخاوفنا، كي نحقق أحلامنا، ونذهب إلى حيث قيل لنا إننا يجب ألا نذهب. إن جمال كونك إنساناً هو أن تواصل البحث، أن تسافر إلى أراض بعيدة، أحياناً جسدياً وفي الغالب من خلال أذهان وتجارب الفنانين. نحب رحلات القلب.
أ.إ: حين تفكرين بجذورك، من منظور شعري وفني، ما الذي يتولد في ذهنك؟
أ.هـ: أفكر بزهر البرتقال والبحار التي بزرقة الياقوت، بعطر الياسمين، وببشر يتقاسمون الطعام، بعشاق يسيرون على الشاطئ، بالهيام والقوة وبأشجار الزيتون وخطوطها على الجبال، وبأشجار التين على طول الطريق وأشجار النخيل، برائحة الخبز من التنانير في الجبال وصوت الأذان والحرارة الحارقة لصيف البحر الأبيض المتوسط، النسيم في الجبال حيث بيت عمتي بوروده التي تتسلق إلى شرفة الطابق الثاني، أفكر أيضاً بأشجار الدراق في الصيف، وبساتين الليمون والبرتقال، وبالشمس تشرق على صوت المدينة المستيقظ، وهذا محزن ومفرح في آن، ويتضمن دوماً متعة قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء الذين يتقاسمون الطعام معاً. هذه هي ذكريات أرضي.
مختارات من شعر أريكا هيلتون
اللحظة الأخّاذة
The Magical Instant
-I-
وحدثَ أن بُعثْتُ حيةً
في تلك اللحظة الأخّاذة.
تسارعتْ دقاتُ قلبي
واخترقَ صدري حنينٌ هاجع
كنيزكٍ يندفع نحو الشمس.
وكما اشتهى بجماليون جالاتيا
جذبتْ نظرتُكَ المتوقدة النَفَس
إلى كون متعددٍ في الفضاء
وطوتْ نسيج الزمن
قبل أن يكون هناك
أي مفهوم للسماء…
وفيما كنتَ تُسرع عائداً عبْر الألفيات
بدت عناصرك كمعادلة
كنتُ أحاول حلها،
كقداسة سيميائية،
أشعلتْ لسانَيْ لهبٍ توأمين
يسعيان إلى مرآتهما في الضباب.
كيف حدث أن عشنا
فيما نصف حياتنا
يتدفق في اتجاه آخر؟
وأي جبالٍ من الحقيقة
تعلو صامتة في عناقك؟
-II-
أنا مكتبةٌ تزخر بالأفكار
لكن من يكتب بالضوء
هو أنتَ.
في أحد الأيام،
تزحلق كبير الملائكة جبريل
نازلاً على درابزين بيتي
فسألتهُ في دهشة:
لماذا ولدتُ في عالم كهذا،
مترع بالأسى والألم واليأس البشري؟
فزمّ شفتيه
وكان جوابه الصمت
فيما بدأت الكتب تتدفق
من فتحة في صدري
وظهرت معرفة ثرّة.
-III-
انفتح رتاجُ بوابة قديمة
وانكشف عالمٌ جديد
ينقّب عن جذوره.
آهٍ أيها القلب،
أنشدْ لي أشعارك
عن أول صوتٍ
عن أول ضوء كشف النور
فقد أبان التأمل المزهر للسماء
قبة متألقة كألماسة،
تنفث مزاميرها المقدسة في جلدي.
-IV-
حين أسبح في مضيق البوسفور
على أية يابسة أنزل؟
صارت ذراعاك جناحين
تطوقان تيارات المحيط.
لكن أي نهر حملك بعيداً
إلى ظلال نومي؟
كُنتَ الأفق الأزرق
لخيالي.
ولو كان بوسعي الرجوع،
لزحفتُ إلى صنجات قلبك
ورتّلتُ أنشودةً لمدك العالي.
-V-
هالتُكَ الذهبية امتزجت بهالتي
كعطر أزهار البرتقال
الفوّاح في الربيع.
انبعث انسجامنا العميق
من أرض ولادتنا.
دمك دمي.
وقفتك الطويلة،
تعكس ألق الوجود،
وأنا أخطو في الحياة
بين السماء والأرض
وكلي توقٌ
لأغتسل بشعاع أنفاسك.
ملاكٌ يتحدث إلى شيطان
Angel Speaks to a Demon
حسناً، تريدُ أن تختبرني.
تظنُّ أنني لن أقوى على الصمود،
أنك أشدّ بأساً مني،
وأنك سيّاف أمهر.
حسناً، ربما أنت كذلك
ربما ليس بإمكاني أن أستخدم نصلاً
بدقة مماثلة
أو أن أُحْدث الجرح نفسه.
فأنت تثير خوفاً يقطع الأنفاس
في عالم أحلامي.
في صحوةٍ أريد أن أكون
وليس في نومك المرتعش
حيث أخشى فكرةَ السقوط
خارج سماء امتلائي وانعتاقي
حيث أعيش.
إذا كنت تريد دمي خذْهُ
فأنا لا أحتاجه كي يخفق قلبي
لديّ طريقة مختلفة
ليس لكَ أن تعرفها
لأنك شيطان
والشياطين تجهل هذي الأمور.
لو عرفتَ ستذهب إلى
أول طبيب وتطلب منه قائلاً:
”أيها الطبيب، هبْني وجهاً جديداً
بعينين مفتوحتين
كي أستطيع أن أرى هذه الأشياء
التي تقول بأني لا أعرفها“.
”لماذا أشربُ دمها وأبصقه
كما لو أن غضارتها مدفونة في حلم؟“
”مثل ذي اللحية الزرقاء
التهمتُ مائة زوجة
ومع ذلك لساني ما يزال جافاً
وما من دم يروي ظمأي“.
ما زال عليّ أن أكتشف معجم الضوء
أم هو الحب؟
”ما الحب يا طبيب؟
ما هو وجه الحب؟“
وسيُجيب الطبيب:
”أيها الشيطان،
أستطيع أن أمنحك وجهاً جديداً
لكن لا يمكنني أن أمنحك عينين لتشعر
فأنت تلتهم ما تخافه.
إن ما يجفف لسانك
ويدفعك للجنون
ويسلبكَ روحَك
ويرميها في النسيان
هو الخوف،
فأنصت
أنصت إلى قلبها
وستلمح العديد من الوجوه
وستسمع أغنيتها الحزينة
حين يتوقف حبيبها عن العزف على نايِه
في غرفة أسرارها المخملية.
إذا اقتربتَ
واقتربت أكثر
يمكنك تذوق فخذيها
اللذين يقطران بلآلئ من زهر البرتقال
على لسانك
إلى أن تُنعّم نصلك
فيغدو ريشةً من نار حرارتها المستعرة
أشدّ من أن يحتويها عالم خوفك.
باختصار، يا صديقي الشيطان:
كفّ عن التربصّ في ظلامك
حدّق في مرآة عينيها
ستلمح نهراً
يسكب ضوءاً في ذلك المكان
لا يمكن إلا لقلبٍ من ياقوت أن يحمله.
(أجرى الحوار بالإنجليزية وترجمه إلى العربية مع القصائد: أسامة إسبر)
سبّب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا وكردستان في السادس من شباط 2023 خسائر بشرية كبيرة ودماراً مادياً غير مسبوق وفشلت الحكومة التركية فشلاً ذريعاً في احتواء الكارثة متخلية عن عشرات الآلاف من الناس كي يموتوا تحت الأنقاض وعن ملايين الناجين الذين تعرضوا للصدمة وتساءلوا يائسين: “أين الحكومة؟“. حتى بعد مرور اثنتين وستين ساعة فشلت هيئة إدارة الكوارث في تركيا (أفاد) في القيام بعمليات إنقاذ للعالقين تحت الأنقاض في محافظة هاتاي التي تعرضت للضربة الأقوى. وكان الموقف مشابهاً في تسع مدن أخرى وأكثر سوءاً في الأرياف. وأدى سوء إدارة الطوارئ الحكومية وصرخات الاستغاثة من المناطق التي استهدفها الزلزال في الإعلام الاجتماعي إلى تعبئة تلقائية وسريعة في أنحاء البلاد لمد يد العون للمنكوبين. ونظمتْ شبكات التضامن، ومنظمات المساعدة المتبادلة، والبلديات التي ترأسها المعارضة، التي فتح عليها الأردوغانيون طويلاً نار النقد ونعتوها بصفة ”إرهابية“، حملة كبيرة لإنقاذ الناس العالقين تحت الأنقاض ولتعبئة المساعدة التي يحتاج إليها ضحايا الزلزال. واستجابت الأسرة الدولية بسرعة لنداءات الاستغاثة وانبرت للمساعدة أيضاً كلٌّ من اليونان وأرمينيا وكردستان العراق (الدول التي تُشيطَن عادة كأعداء للدولة التركية) ومعها كثير من الدول الغربية التي اتهمتها الحكومة على نحو متكرر بالتآمر ضد وحدة تركيا وسلامة أراضيها. يمكن أن يذهب الظن بالمرء إلى أن الحكومة التركية رحّبت بجهود الإغاثة المجتمعية أثناء هذه الأزمة، وتحركت بسرعة كي تدمج هذه الجهود في إطار جهود استجابة الدولة المنظمة للكارثة إلا أن الحقيقة هي أن حكومة حزب العدالة والتنمية اعتبرت حملة التضامن التي قادتها المعارضة تهديداً وشنت حملة عدوانية لقمع الأفعال الجماعية التي هدفت إلى تقديم المساعدة لضحايا الزلزال. كيف نشرح العداء الشديد الذي تكنه حكومة حزب العدالة والتنمية لمنظمات المجتمع المدني التي تنظمت من أجل المساعدة المتبادلة بعد الزلزال؟ ما الذي يفسر رفض الحكومة التركية للعمل مع المجتمع المدني لتنظيم إغاثة المنكوبين في الكارثة ولجوءها إلى الذعر الأخلاقي العنصري ضد ”من يقومون بعمليات النهب“ والمهاجرين السوريين؟
طرأ على الدولة التركية تحوّل نحو الاستبداد في العقد الأخير، ذلك أن الحكومة ركزت بصورة رئيسة على دعم مؤسسات الدولة القسرية (الشرطة، الجيش، والاستخبارات) على حساب مؤسسات تقوم بوظائف غير قسرية (إدارة الكوارث، الصحة، والتربية)، وقد تكشفت هذه السيرورة من خلال سلسلة من الأحداث الجماعية المثيرة للجدل، شملت انتفاضتين في (2013-2014)، وحرب المدن (2015-2016) ومحاولة انقلاب (2016) في الوطن، بالإضافة إلى ثلاث عمليات عسكرية عابرة للحدود في سوريا (2016- 2019). وفي أثناء ذلك الوقت، أبدت الحكومة بشكل متزايد براعة في التعامل مع الطوارئ السياسية عن طريق إدارة حملات تهدئة. تغلّب أردوغان في هذه الأحداث المثيرة للجدل على التحديات التي واجهت حكمه عن طريق تعبئة القومية العرقية التركية لحشد الدعم الشعبي وتوحيد الجسم السياسي وتقويض المعارضة زاعماً أنه يقاتل ضد أعداء داخليين وخارجيين في آن واحد (١). من ناحية أخرى، حين نشأت الحاجة لمواجهة الطوارىء العامة كالوباء وحرائق الغابات، ومؤخراً الزلزال، لم تتمكن وكالات الدولة المعنية من مواجهة هذا التحدي بفعالية، ما أدى إلى غضب شعبي واسع النطاق وتجريم الأصوات المعارضة و\أو الأقليات. بصرف النظر عن السبب الكامن وراء طارئ، وظّفتْ الحكومة التركية حالات الطوارئ في إطار التنافس السياسي من أجل الشرعية. وتساوقَ رد فعل الحكومة على الزلزال الذي حدث مؤخراً مع تصورها المسيس بشكل مفرط لحالات الطوارئ. وبعد أن واجهتها أزمة شرعية نتيجة لفشلها في حماية حياة مواطنيها، لجأت الحكومة التركية إلى حملة تهدئة، مستغلة مشاعر العداء للسوريين التي انتشرت على نطاق واسع في محاولة لإضعاف حملة التضامن. وعوضاً عن مجرد استعادة الشرعية، هدفت جهود التهدئة الحكومية أيضاً إلى إنشاء أوضاع من أجل التمهيد لمشروع ضخم لإعادة بناء المناطق التي ضربها الزلزال في غضون سنة.
سوابق خطيرة وسياسة إدارة الكارثة
لا شك أن قوة الزلزال زادت من الدمار الذي نجم عن الكارثة. وقد كانت الديناميات البنيوية التي أسهمت مباشرة في التكاليف البشرية والمادية العالية، من ناحية أخرى، قيد التشكل منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في 2002. ذلك أن استراتيجية تراكم رأس المال لدى حزب العدالة والتنمية تعتمد بشكل كبير على النمو السريع في قطاع البناء والتسامح البيروقراطي مع الانتهاكات المنهجية للقواعد والقوانين على كل من المستويين الوطني والمحلي، وخاصة حين يمتلك المتعاقدون صلات مع الشبكات السياسية الصحيحة. وفي سياق كهذا، إن أي لجوء إلى مصطلح ”فساد“ تبسيطي ومضلل، ذلك أن تفشي هذه الانتهاكات المنهجية يبيّن أن المشكلة كامنة في نموذج النمو الخاص بحزب العدالة والتنمية وناجمة عنه. فبحسب تقرير أعده اتحاد غرف المهندسين، إن نصف الأبنية تقريباً التي انهارت أو تأذت بسبب الزلزال بُني بعد عام 2000. ثمة عامل آخر مهم أسهم في ارتفاع حصيلة القتلى هو فشل الحكومة في بناء وكالة لمواجهة الكوارث تعمل بفعالية بعد تفكيك البنية التحتية السابقة التي كان يقودها الجيش في 2009. فقد استند توجّه حزب العدالة والتنمية لمنع الجيش من استغلال حالات الطوارئ إلى مخاوف شرعية. منذ الستينيات حتى أوائل القرن الحادي والعشرين، كان الجيش التركي الوطني العلماني قادراً على إدارة البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق استغلال حالات طوارئ حقيقية أو مفبركة، وقد استتبع هذا إدراجاً دائماً لمبادئ مكافحة التمرد في هياكل الحكم. وأنتج مشروع حزب العدالة والتنمية لتمدين إدارة الكوارث وكالة أقل فعالية في التعامل مع الكوارث في الأعوام التالية. واندمجت جميع منظمات الإغاثة في حالات الكوارث التي كانت موجودة في 2009 تحت مظلة هيئة إدارة الكوارث التركية (أفاد). وبعد مدة وجيزة، تم تطويق إدارة الكوارث والطوارئ من قبل بيروقراطية تنسيقية متعددة الطبقات أخضعت الإغاثة في حالات الكوارث لسيطرة سياسية أكبر، وقُوضت بالتدريج سلطتها المستقلة في صناعة القرار كي تعمل بسرعة في حال حدوث كارثة. علاوة على ذلك، قامت هيئة ”أفاد“ الحكومية بإعادة هيكلة منظمات الإغاثة في أوقات الكوارث كالهلال الأحمر كي تولّد قوة ناعمة عن طريق إرسال مساعدة إنسانية إلى الخارج على حساب كوارث محلية. كان من أسباب عجز حكومة حزب العدالة والتنمية عن بناء بنية تحتية لمواجهة الكوارث أيضاً هو توجّه تركيا الاستبدادي واستثمارها الكبير في مؤسسات القسر الحكومية. فعلى مدى العقد الأخير، خصّصت الحكومة التركية على نحو متزايد قسماً كبيراً من مواردها لبناء دولة بوليسية لقمع الانشقاقات الداخلية وبناء جهاز صناعة حرب كي تعزز أجندتها الإمبريالية في كردستان وسوريا والعراق، والشرق الأوسط الأوسع. ومنذ 2009، ركزت ”أفاد“ في معظم الأحيان على إدارة معسكرات اللاجئين في تركيا والمناطق التي تحتلها تركيا في سوريا فجرّدها هذا من القدرة على مواجهة كارثة ”طبيعية“. وفي ظل غياب مؤسسات غير قسرية فعالة في الوطن، فاقم طموح النخب السياسية التركية لبناء قوة إقليمية في الشرق الأوسط التأثيرات المدمرة للزلازل. وعلى نحو مشابه، لا تزال استجابة الحكومة للكوارث المسيسة بشدة تتشكل من خلال الإيمان بهيمنة الدولة على المجتمع، علاوة على الدروس السياسية المستمدة من التاريخ الحديث للكوارث الكبرى.
الحكومة التي في جميع الأمكنة وليست في أي مكان
عجّلتْ أزمتان متعاقبتان صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة في 2002. كانت الأولى هي فشل حكومة الائتلاف في حماية حياة المواطنين وتقديم المساعدة الفعالة في أعقاب زلزال إزمير في 1999. وكان هذا ملفتاً للنظر على نحو خاص لأن الجيش التركي تصرف بسرعة في الساعات الاثنتين وسبعين الأولى كي ينظم الاستجابة للكارثة. وبسبب الإمكانية المحدودة للدولة، لم تكن جهود الإغاثة فعالة إلا جزئياً، بينما كان التأثير الاقتصادي للزلزال شديداً بعد أن ضُرب القلب الصناعي لتركيا. وأشارت أزمة 2001 الاقتصادية إلى نهاية ”تركيا القديمة“، التي كان يحكمها الجيش العلماني بشكل غير مباشر . ورغم أن الجيش هدف إلى شرعنة هيمنته القسرية أثناء التسعينيات عن طريق تصوير الحركتين الكردية والإسلامية بوصفهما تشكلان تهديداً للدولة والأمة، فإن هاتين الأزمتين مهّدتا الطريق لحزب العدالة والتنمية كي يفوز بانتخابات 2002. أوضح هذا التحول أيضاً كيف أن الكوارث التي تُدار على نحو سيء تدمر ثقة المجتمع بحكومة البلاد، ومؤسسات الدولة، والقيادة. وعلى نحو مشابه، كشف زلزال 2023 مسبقاً عجز الحكومة عن حماية مواطنيها بينما قدم أيضاً للمعارضة فرصة بنيوية كي تزيد من تقويضها لحكم أردوغان الاستبدادي. في ضوء ما قلناه، يتطلب فهم كيف أن الزلازل يمكن أن تعيد تشكيل المشهد السياسي في تركيا فحصاً أكثر شمولاً لمقاربة الحكومة لسياسة الطوارىء. كانت وكالات الدولة التركية غير موجودة تقريباً في المناطق الأكثر تضرراً في الأيام التي أعقبت الزلزال الأول في 2023 لكن هذا لا يعني أن الآلة الاستبدادية الأردوغانية كانت معطلة. فمنذ السادس من شباط 2023، ركزت الحكومة على إدارة التداعيات السياسية للأزمة وليس على الكارثة نفسها. وفي غياب مؤسسات فاعلة تستجيب بفعالية لكوارث كهذه، اتسمت قواعد اللعبة الأردوغانية الاستبدادية للتعامل مع الكوارث ”الطبيعية“ الخطيرة باللجوء إلى استراتيجية التهدئة، إلى سيرورة امتصاص الغضب الجماعي من الحكومة المنتشر على نطاق واسع عن طريق مزيج من التكتيكات القمعية العنفية واللاعنفية.
إن الهدف الجوهري لقواعد اللعبة الأردوغانية هو تخفيف التكاليف السياسية للاستجابة غير الملائمة للكوارث إلى الحد الأدنى. ويمكن أن تُدعى مقاربة أردوغان بأنها ”إدارة الكوارث كتهدئة“. ويمكن أن تكون استراتيجية كهذه فعالة إلى درجة أن الحكومة تصبح قادرة على أن تحمّل قوى خارجية المسؤولية عن تكاليف فشلها في حماية مواطنيها إلى درجة أنها يمكن أن تقمع شبكات التضامن والمجتمع المدني المعبأة من أجل الاستجابة المجتمعية للطوارئ. إن التهدئة في هذه النقطة شرط أساسي لأردوغان كي يتمكن من إطلاق مشروعه الضخم في المناطق المتضررة من الزلزال، والذي سيبدو مرة أخرى بأنه يمنح أولوية للسرعة على حساب الأمان. في هذا السياق، تهدف الحكومة إلى إبعاد شبكات التضامن من المدن المدمرة، وإسكات الأصوات المعارضة على المستوى الوطني، وأيضاً منع ازدياد محتمل في التعبئة السياسية في المستقبل القريب. إن محاولة ربح القلوب والعقول عن طريق مزيج من التكتيكات العنفية واللاعنفية ليست ظاهرة جديدة في تركيا. ذلك أن مؤسسات الدولة القسرية في تركيا هي امتداد لحملة التهدئة في شمال كردستان القائمة منذ 1984. بالتالي، تعتمد مؤسسات الدولة بشكل كبير على تكتيكات مكافحة التمرد كي تتغلب على أية تحديات رئيسة لشرعية الدولة، ليس فقط في إقليم كردستان بل في أنحاء تركيا. ولعبت ممارسات مكافحة التمرد دوراً مهماً في انتقال تركيا إلى الاستبداد بعد انتفاضة جيزي في 2013، خاصة بعد أن دخل حزب العدالة والتنمية في تحالف مع نخب مكافحة التمرد في التسعينيات فيما كان يوجه الضربة القاضية إلى عملية السلام الكردية (2009-2015). وعلى مدى العقد الأخير، أدى استخدام النخبة الحاكمة المستمر لتقنيات مكافحة التمرد إلى نعت نصف السكان تقريباً ب“الإرهابيين“. حين يحصل طارئ حقيقي في الدولة، يصبح مزج القسر بأنشطة بناء الشرعية محورياً لذخيرة التهدئة كما فعلت الحكومة منذ 2015. ويمكن أن تتنوع العمليات السيكولوجية للحكومة بحسب نوع الطارئ، لكن هدفها المحوري هو أن تسترضي الأغلبية التركية المهيمنة عن طريق تجريم مجموعات ثانوية تنتمي إلى الأقليات. وفي سياق الكوارث، صارت عملية التحويل الاستراتيجية التي تقوم بها الدولة لجماعات الأقليات إلى أكباش فداء استجابة إلهائية منهجية حين يُسلط الضوء على عدم كفاءة الحكومة. على سبيل المثال، بسبب الافتقار إلى طائرات مكافحة الحرائق، صارعت حكومة حزب العدالة والتنمية لأسابيع لإطفاء سلسلة من حرائق الغابات بدأت في آب (أغسطس) 2022 نتيجة لأزمة المناخ. وبدأ الإعلام الذي تسيطر عليه الحكومة على الفور بنشر نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة لائماً الحركة الكردية ومتهماً لها بالوقوف وراء حرائق الغابات من دون أي تبرير. أدى هذا السعار العنصري الكبير إلى سحل وقتل أكراد ولاجئين سوريين في المناطق المتضررة، بينما خفض أيضاً إلى درجة كبيرة التكلفة السياسية لفشل الحكومة في احتواء الكارثة. ولجأت الحكومة التركية إلى أفعال قمعية مشابهة في الأسبوع الأول بعد كارثة الزلزال، وتمت جهود التهدئة على حساب استجابة للكارثة أكثر فعالية كان يمكن أن تنقذ حياة آلاف الأشخاص الآخرين.
تهدئة شبكات التضامن
سعى أردوغان بعد الكارثة مباشرة إلى استرضاء قاعدته الدينية زاعماً أن الزلزال صنيعة القدر. وأدركت الحكومة بسرعة حدود هذا التوصيف، وركزت على الحجة القائلة بأن الزلزال كانا شديداً على نحو استثنائي وأن أية جهود للتخفيف من الكارثة عاجزة عن منع الدمار الذي لا مفر منه. إلا أن الحكومة التركية ارتبكت من السرعة التي قامت بها شبكات التضامن ومنظمات الإغاثة والبلديات التي تقودها المعارضة بحملة التعبئة الفعالة فشنت حملة تهدئة. وكان هذا جلياً في السابع من شباط (فبراير) 2023 حين أعلنت الحكومة ”حالة الطوارىء“ لثلاثة أشهر في المدن العشر التي تضررت من الزلزال كي تمنح المزيد من سلطة حرية التصرف للشرطة والجيش. (قامت الحكومة سابقاً بتحديد المناطق التي ضربها الزلزال بوصفها ”مناطق كوارث“ من أجل تقديم تمويل إغاثة خاص وكبير لمواجهة الكارثة). حاولت الحكومة التركية في الثامن من شباط (فبراير) أن تحجب تويتر وتيك توك اللذين كانا جوهريين لجهود الإغاثة المجتمعية. وفي اللحظة التي غصّ فيها تويتر التركي بالدعوات إلى الإنقاذ الفوري في مناطق معينة، لم تعكس عملية الحجب الوحشية هذه غياب الكفاءة لدى الحكومة فحسب بل عرّضتْ أيضاً جهود الإنقاذ لخطر شديد. ومن اللافت أن الحكومة أُجبرت على التراجع بعد تسع ساعات بسبب الغضب الشعبي الذي انتشر على نطاق واسع، ما أشار إلى عمق الأزمة التي بزغت في قلب استجابة حزب العدالة والتنمية للكارثة. وفي الأيام التالية، بدأت الشرطة التركية باعتقال المقاولين المشتبه في ارتكابهم انتهاكات للقواعد والقوانين في محاولة لتحميل آخرين مسؤولية الفشل في احتواء الكارثة والحد من تكاليفها. ورغم ذلك، وبالمقارنة مع حجم وإلحاحية الأزمة الإنسانية المتواصلة، لم يكن لأي من هذه الإجراءات الحكومية تأثير كبير على الغضب العام المستمر. فقد تفاقمت الأمور بسرعة وتم الإبلاغ عن عدد قليل نسبياً من عمليات النهب. لكن بينما برر الرئيس أردوغان الحاجة لسلطات طوارئ، بذر بذور الذعر الأخلاقي متعهداً بشن حملة على اللصوص والمجرمين في الأماكن المتضررة من الزلزال. وشُنت حملة تضليل قوية في الإعلام الاجتماعي لتضخيم ”تهديد النهب“ بالتعاون مع أحزاب ”المعارضة“ التي تتبنى أجندة عنصرية معادية للمهاجرين. وظهرت صُور ”اللصوص السوريين“ المزعومين الذين عذبتهم الشرطة التركية بشكل غامض وبدأت تنتشر بكثافة في الإعلام الاجتماعي. بعد أن واجهت الحكومة أزمة شرعية تعمّقت نتيجة استجابة للكارثة عُبئت بصورة مستقلة عن الدولة، اضطرت إلى اختراع ”الخطر“، (اللصوص) بينما زعمت أيضاً أنها ”الدرع“ (عنف الدولة) ضد التهديد كمحاولة لبناء الشرعية عن طريق سياسة القانون والنظام. ولم تشمل الهستريا العنصرية التي رعتها الدولة حول عمليات النهب تعذيب لصوص مزعومين فحسب بل أدت أيضاً إلى سحل ثلاثة أشخاص حتى الموت وإلى قتل شخص آخر على يد الجندرما (قوة الشرطة الريفية). وعَسْكرَ الإرهاب الذي رعته الدولة مسبقاً المناطق المتضررة من الزلزال، بهدف طرد شبكات التضامن في المستقبل القريب. كانت مصادرة المساعدات التي نظمتها حركة التضامن هدفاً محورياً لاستراتيجية التهدئة أيضاً. فقد ألحت الحكومة على أن كل مساعدات الإغاثة في حالات الكوارث يجب أن تُرسل للناجين من الزلزال عن طريق مراكز التنسيق التابعة لهيئة ”أفاد“. ولجأت الحكومة إلى قوات الشرطة لمصادرة المساعدات التي أمنتها منظمات المجتمع المدني الكردي وحزب الشعب الديمقراطي وعينت حاكم مقاطعة بوصفه ”وصياً“ على مركز منظمة إغاثة في منطقة بازارجيك، في كهرمان مرعش. وأفيد عن حوادث مشابهة في عرقلة وصول المساعدات في محافظة شرناق ومنطقة غوجلوكوناك وملاطية. وفي عملية تخدم الهدف نفسه، اعتقلت الشرطة عشرة عمال مساعدات من الحزب الشيوعي التركي، وكان هذا كما تبيّن جزءاً من محاولة لتخويف الناشطين في المناطق التي ضربها الزلزال. علاوة على ذلك، هدّد مسؤولو حزب العمل الوطني المتحالف مع الحكومة مراراً وتكراراً بالاستيلاء على التبرعات المقدمة لمجموعة ”أحباب“ وهي إحدى أبرز منظمات الإغاثة في أوقات الكوارث في تركيا. علاوة على ذلك، بعد أن رأت حكومة حزب العدالة والتنمية كيف نجح طلاب الجامعات في تنظيم مساعدات شاملة للأمة في الأسبوع الأخير، قامت باللجوء استباقياً إلى استراتيجية لمنع طلاب الجامعات من التنظيم والتعبئة في الحرم الجامعي معلنة أنه يجب إخلاء جميع الغرف الجامعية التي تديرها الدولة لإيواء ضحايا الزلزال، ما جعل التعليم من خلال الحضور الشخصي في الجامعة مستحيلاً في نهاية العام الجامعي. بدأت الاحتجاجات المتنامية في أنحاء البلاد ضد الحكومة تكشف لماذا لجأ أردوغان إلى الإجراءات الاستباقية. فقد طالب عشرات الآلاف من جماهير أكبر أندية كرة القدم في تركيا باستقالة الحكومة في 26 شباط في رد على الاستجابة للزلزال. وهوجم أكثر من مائة ناشط من حزب العمال التركي بشكل وحشي واحتُجزوا في اسطنبول بعد القيام بمسيرة للاحتجاج على عجز الحكومة عن تقديم الخيام لضحايا الزلزال. وبحسب الأدبيات المتنامية حول التهدئة، يشير المصطلح إلى ما هو أكثر من سحق المعارضة، فالتهدئة هي أيضاً نتاج القوة وتمكّن من إنشاء أجهزة شرطة جديدة، ومشاريع اقتصادية وأنظمة اجتماعية. وقد وعد أردوغان في الأسبوع الثاني من حملة التهدئة التي قادتها حكومته بأن يبني جميع المدن المدمرة خلال عام واحد. وبصرف النظر عن مسائل محتملة أخرى، يجب أن يتغلب أردوغان أولاً على تحدي جديد هائل يتمثل في صعود القوى الاجتماعية الجديدة من أسفل عن طريق جهود التضامن التي تدفع أحزاب المعارضة إلى توحّد أوثق ضد الائتلاف الحاكم.
هوامش
١- من أجل دراسة جديدة حول الطريقة التي لجأ إليها أردوغان لتعبئة القومية العرقية التركية لمواجهة الهزيمة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في ٢٠١٥ وصعود الحركة الكردية في روجافا، انظر: أنور غوناي وإردم يوروك: اضطرابات عرقية: الإسلام السي اسي والصراع الكردي في تركيا، منظورات جديدة حول تركيا ٦١ (تشرين الأول ٢٠١٩)، ص ٩-٤٣.
*هارون إركان عالم اجتماع سياسي متخصص في علم اجتماع الدولة، الحرب والصراع والاستبداد والحركات الاجتماعية والعرق، جامعة ولاية نيويورك.
“توقف الزمن، ما زلت عاجزة عن الكلام والتعبير، أشعر أنني لم أعد على قيد الحياة، أنا محض جثة نجت بأعجوبة، وليتها لم تنج”، تقول علا علي (19 عاماً) وتنهار بالبكاء خلال حديثها مع “صالون سوريا”.
كانت علا تدرس على طاولة الدراسة الجامعية الصغيرة في زاوية غرفتها في الطابق الثاني فجر الكارثة. بعد أن اطمأنت أنّ أهلها نائمون بأمان وسلام، ابتسمت في وجه المرآة ووعدت نفسها بمستقبل أفضل حالما تنهي سنواتها الجامعية، أعدت كوباً من القهوة الساخنة وبدأت تتصفح إحدى محاضراتها، شغلت أغنية لنجاة على هاتفها الصغير، كانت تحب نجاة كثيراً قبل الكارثة.
“لا أدري ماذا حصل، كان كل شيء جيداً، لا أذكر، لا أريد أن أتذكر، فجأة ارتج المنزل، هزة، هزتين، لحظات، ساعات، عمر بأكمله، صراخ شديد، صرت أسمع صراخاً من منزلنا، من الجوار، صرت أشعر بأصوات صرخات تحطم رأسي، لا أدري كم استغرق الأمر، ولكنني الآن أدرك أكثر ما حصل، أتعلم ما الذي حصل؟، أهلي توفوا، ومنزلي صار ركاماً ؟”.
شيء ما يبدو غريباً في علا، هل كلمة غريب مناسبة بعد ما عاشته؟، هي الآن عند أقاربها، يقولون إنّها ليست بخير، لا تنام ليلاً، تبكي طوال الليل، وإذا ما غفت فإنّها تستيقظ صارخةً.
في حديثي معها، بدا لدى علا طاقة كبيرة للكلام، أرادت أن تقول شيئاً لم تستطع التعبير عنه بأسلوب واضح، أفكارها مبعثرة للغاية، ذكرياتها مشتتة، لا يبدو أنّها قد استوعبت ما حصل بتمامه حتى الآن، وريثما تستوعب ما حصل، قد يكون فات الأوان على شابة كانت تتوسم خيراً رغم كل ما في بلادها من محن.
بسطاء يتقاسمون القهر
الأمر في سوريا مركب قليلاً، فالناس تجاوزت عقداً من الحرب، وحملت فيه ما حملت من هموم ومشاكل وآلام وخسارات نفسية ومعنوية ومادية زادها سوء الحال الاقتصادي تعقيداً واستنزافاً، فجاء الزلزال مكملاً على أحلام بسطاء يتقاسمون القهر من شمال إدلب إلى حلب والساحل وحماه وكل منطقة تضررت من الزلزال.
في جولة على حالات كثيرة نجت من الزلزال يبدو واضحاً اتحاد المشاعر التي تنحو نحو العدمية ويبدو من غير المنطقي “الطبطبة” على جراحهم، فجراحهم عميقة للغاية، عميقة إلى ذلك الحدّ الذي تحتاج فيها مرمماً طبياً من النوع الوجداني – المادي غير المتوفر حتى الآن لهؤلاء الضحايا.
إذا اعتبر أحدٌ ما أنّ الفقد يمكن تجاوزه مع مرور الوقت، معللاً ذلك بالسنن الكونية الناظمة لحياة البشر، فكيف سيمكن تعليل شكل الحياة لأناس كانوا يستظلون تحت سقف وصاروا في المأوى، والسقف في سوريا ليس اصطلاحاً من الترف، بل هو المعنى الحقيقي لـ “جنى العمر”، فهل تؤمن الحكومة لضحايا البلاد دفئاً من النوع الذي يحيطهم من خلال أربعة جدران؟، يبدو ذلك مستحيلاً في المدى المنظور، فلا الإمكانيات متوفرة ولا القدرة المادية والاقتصادية واللوجستية كفيلة بحل تلك الإشكالية التي كتبت على السوريين نزوحاً تلو نزوح في حياة واحدة.
لا تتوقف الأرض عن الاهتزاز
لم تتوقف الحياة عند علا فقط فجر السادس من شباط، كثر مثلها، وفاء حمدان (38 عاماً) من ناجي اللاذقية لا زالت تعيش آثاراً وتبعات لما بعد الزلزال، تقول: “شيء غريب يحصل في بدني حين تصير الساعة الرابعة وقليل فجراً منذ يوم الزلزال، أشعر ببدني كلّه يرتعد، دقات قلبي تتصاعد كثيراً، أشعر بدوار شديد، أشعر بالأرض تهتز من تحتي، أهرع لأوقظ أفراد أسرتي، أصيح بهم جميعهم، فيقفون من نومهم مرتعبين، أخبرهم بوجود زلزال، ولكن يبدو أنّ لا أحد يشعر به غيري”.
يؤكد منصور شقيق وفاء روايتها وبأنّهم في الأيام الأولى التي تلت الزلزال كانوا يستجيبون لصرخات أختهم وينزلون للشارع على الفور، لكنهم تبينوا مع الأيام اللاحقة أنّها حالة نفسية عصيبة، وعليهم أن يتعاملوا معها بهدوء وحذر كما أشار عليهم أحد الأطباء النفسيين الذين استشاروه دون وجود وفاء التي رفضت الذهاب إليه مؤكدةً أنّ أحاسيسها بالهزات الأرضية اليومية هي أحاسيس حقيقية.
يقول منصور: “لا أريد أن أقول هذا، ولكن الزلزال أثر على عقل وفاء، وأثر علينا جميعنا، نحن خائفون، نجونا من الزلزال بأقل الأضرار ولكن شدته وسقوط الأبنية من حولنا وصرخات الجوار كلها عالقة في أذهاننا حتى الآن مذكرةً إياناً بأقسى يوم مرّ على بلادنا”.
متلازمة ما بعد الزلزال
مئات الحالات وربما أكثر بدأت تشتكي من مخاوف وهلوسات وما فسره الأطباء النفسيون بمتلازمة ما بعد الزلزال، فالبعض بات لا شعورياً يشعر بهزات كل لحظة وهي غير موجودة حقيقة، وآخرون باتوا يخافون النوم، وغيرهم توقفت الحياة لديهم عند لحظة بعينها، لحظة وقوع الزلزال، لحظة سماع خبر وفاة أحد من الأهل تحت الأنقاض، لحظة استعصاء إنقاذ أحد، لحظة فقدان أيّاً كان نوعها.
يقول الأكاديمي بعلم النفس أحمد سميح لـ “صالون سوريا” إنّ متلازمة ما بعد الزلزال هي متلازمة مشخصة أساساً من قبل باحثين يابانيين في عام 2011، وتنضوي على اضطراب ما بعد الصدمة مركباً مع القلق والخوف والتوتر.
وبين سميح أنّ المتلازمة تتمثل بدوار واهتزاز وتأرجح يشعر به الشخص لمدة تتراوح ما بين ثوانٍ عدة ودقيقة ونصف في عموم الحالات المسجلة، إضافة لشعور بالحاجة للتقيؤ أحياناً وآلام في المعدة وتشوش في الرؤية، والسيء بالأمر بحسب سميح هو قابلية استمرار الظاهرة حتى ستة أشهر ما بعد التعرض للصدمة الأولى (الزلزال).
ويتابع المختص بعلم النفس أنّ المتلازمة تلك قابلة للعلاج عبر زيارة الطبيب النفسي الذي يكون مؤهلاً لوصف أدوية تخفف من وطأة المشكلة وتنظر في موضوع الاكتئاب والقلق والخوف المرافقين.
ويحذر سميح أنّه في بعض الحالات الشديدة التي لا يجري علاجها ومتابعتها أو لا تزول أعراضها من تلقاء نفسها فمن الممكن أن تتطور المشكلة للدخول في أطوار اكتئابيه ومشاكل نفسية أخرى تتطلب علاجاً أكثر تركيزاً: “الكثير من الحالات التي تصلنا ونتعامل معها، بعضها بسيط، والبعض الآخر لا ينذر بالخير ما لم يتم التعامل الطبي معه بشكل سريع، فثمة أناس يرزحون تحت تأثير الصدمة التي من الممكن أن تغير شكل كل حياتهم القادمة.”
الأمراض العضوية
لا يمكن القول إنّ عدد الضحايا هو نهائي رغم مرور قرابة شهر على الزلزال، فبحسب الرأي الطبي لا زال عدد الوفيات قابلاً للارتفاع ولو كان بنسبة بسيطة، الطبيب مهدي أحمد شرح لـ “صالون سوريا” الموضوع مبيناً أنّ الوفيات الأولى حصلت خلال الزلزال مباشرة، أما الموجة الثانية فكانت من خلال تسجيل وفيات بين المصابين الذين نجوا وأودعوا المستشفيات، أما الاحتمال القائم مستقبلياً فهو تسجيل وفيات بعد أشهر من الآن، والتي قد تكون ناتجة عن التهابات كامنة وفشل في أداء بعض وظائف الجسم.
وبين الطبيب أحمد أنّ الأثر الذي تمكن ملاحظته خلال الفترة القادمة قد يكون ناجماً عن التلوث الذي خلفه الزلزال الذي دمر جزءاً من منظومة الصرف الصحي ما سيشكل بيئة ملائمة لانتشار الأمراض المعدية وعلى رأسها تلك المعوية والتنفسية، وكذلك الكوليرا والملاريا وغيرهم من الأمراض المنقولة عبر القوارض أو الحشرات.
هل ظلّ ما يقال
ما بين أثر نفسي وآخر عضوي، يدفع السوريون ثمناً باهظاً، ولكن هذه المرة ثمن جاءهم من الطبيعة التي ما ظنوا يوماً أنّها ستخذلهم وهم المنتشون بابتعاد الحرب عن مراكز مدنهم وأرواحهم وأرزاقهم، ليأتيهم غضب من الطبيعة يحيل معه القهر لتسميات أخرى، تسميات أبعد وأشمل، كمثل الحلم بميتة طبيعية في بلد ما من شيء طبيعي فيه.
كان المنكوبون عشية الزلزال يفكرون كيف سيتدبرون غدهم بما يكفيهم خبز يومهم، الآن صاروا يفكرون كيف سيتدبرون غدهم وهم مرميون في مراكز الإيواء في أدنى شروط الخصوصية التي عرفوها يوماً، مرميون منتظرون تلك الجمعيات التي تأتيهم بالـ “ساندويش”، ثم يسأل سوريٌّ: “هل ظلّ ما يقال!”
ربما هو معتاد بالنسبة لبلد تتكرر فيه هذه الظاهرة، لكن هنا في سوريا كل ما يحدث هو إشارة لسوء الطالع. حرب، فيروس كورونا ومن ثم “حصار اقتصادي” ليتبعها أخيراً زلزال خيّب كل توقعاتنا بأنه عابر. فجيعتنا مضاعفة! وكأن السوري خُلق محظوراً عليه التنفس، مسرفاً في الفقد والعوز للأمان والطمأنينة؛ قلوبنا أضحت مأوىً للتشرد.
تمر الحياة مثل شريط سريع في لحظات الأزمة؛ وهذا ما حدث لي فجر الاثنين، فأثناء نومي شعرت وكأن قوة جبّارة تشدّني عن السرير وهدير مرعب خمّنت أنه بسبب العاصفة في الخارج، لكن ما علاقة ذلك باهتزاز الأرض من تحتنا؟ قفزت من سريري وأنا نصف نائمة متوجهة إلى غرفة العائلة لأجد أمي مذعورة تبتهل وأبي يهدّئ من روعنا. “إنها هزة أرضية!”.
في ذلك الصباح لم يعد بمقدورنا النوم؛ فكنّا رابضين في أسرّتنا مذعورين من هذا الحدث الجلل، ننتظر هول ما هو قادم، خاصة وأنّ الحادثة تزامنت مع عطل في كهرباء البلدة لتأتي الصدمة بانهيار بيوت وسقوط آلاف الضحايا وتشرّد السوريين من جديد وكأنّ كل ما مرّ بهم لم يكفِ.
يستحضرني أمام آلامنا المتكررة ما قاله أيوب بعد أن حلت به المصائب متعاقبة: “عرياناً خرجت من بطن أمي.. وعرياناً أعود إلى هناك”.
الحضن الدافئ
الاثنين، 6\2\2023، الرابعة صباحاً، استيقظ السوريون على زلزال لتتواصل الفواجع على سوريا. جرح مؤلم جديد. دمار في كثير من الأماكن، ذروته في حماه، حلب، اللاذقية وإدلب.
ولكن بالمقابل، كانت هناك عشرات القرى المجاورة انتفضت لإغاثة الأهالي واستضافت المحتاجين. ومن بين تلك القرى بلدتي كفربهم التابعة لمحافظة حماه، حيث أعيش، كنت أرى صور التآخي في أبرز تجلياتها عبر التعاون لإغاثة الملهوفين دون تفرقة.
فتحت البلدة ذراعيها كأمّ حنون منذ اليوم الأول بعد الزلزال؛ فبادر الأهالي بإرسال الحافلات الكبيرة من المحافظة لإحضار العوائل المنكوبة، حيث تكفلت الجمعيات الخيرية في البلدة بتزويد تلك الحافلات بالوقود ودفع أجرها. وبمجرد وصولهم اندفع الأهالي للمساعدة بفتح بيوتهم مستقبلين حوالي 162 عائلة؛ أي حوالي 550 فرداً، رافضين وبشدة أن يكون هناك مراكز إيواء في البلدة معتبرين ذلك عاراً بالنسبة لهم. تقول “فضة جوهر (67 سنة): “الصدر لهم والعتبة لنا، إن لم تسعهم عيوننا نضعهم في قلوبنا”. معظم المتضررين كانوا من حلب وما تبقى من اللاذقية وعوائل قليلة من إدلب.
وحسب ما رأيت هبّ شباب البلدة فأمّنوا الاحتياجات التي كانت مطلوبة من “بطانيات، اسفنجات، حليب أطفال، فوط للأطفال، وملابس” كما قام أهل البلدة بتجهيز الطعام للعائلات، إضافة لمدرسين وأطباء وصيادلة من البلدة قاموا بتقديم خدماتهم مجاناً.
أيقونة للعطاء
فاجأتني كمية المحبّة والتعاطف الاجتماعي في لهجة من حدّثتهم بهذا الخصوص. شعرت أن الجميع يحب ويساند الجميع، وكتف السوري ما كان يوماً إلا عكازاً لأخيه السوري المنكوب.
الدكتور “نزار نصار”، أخصائي أشعة، أبدى استعداده للتعاون في مساعدة المحتاجين من العائلات، حيث أعلن أنه على استعداد لإجراء الفحوصات الشعاعية للمتضررين من الزلزال مجاناً في عيادته، وأنه مستعد للتبرع بأجور المشفى التي نُقل إليها أحد المتضررين الذي عاين ساقه.
“رعد الديبان” من سكان بلدة كفربهم قال: “عرضت استضافة عائلة في بيت ثانٍ لي ولم يعجبهم لمشكلة فيه لم أستطع حلها، فعرضت أن يقيموا في منزلي ومرحِّباً بهم إلى أي وقت”.
ورغم أعمال الترميم التي كان يقوم بها، لم يتوانَ السيد “وجيه غانم” مالك منتجع كفربهم السياحي، عن تقديم العون والمساهمة إلى جانب أهل البلدة، حيث أخبرنا أنه أوقف جميع نشاطات المنتجع وأعمال بناء كان يقوم بها في منتجعه لاستقبال العائلات المتضررة، وقد قدم لهم الطعام والرعاية.
كان “واسكين قبانجيان” أحد المتضررين من حلب، وقد أخبرنا في حديثه عن شعوره بالأمان بين أهل البلدة كأنهم أهله، وعلى وجه الخصوص تلك الرعاية الكريمة التي قاموا بها لوالده السبعيني المريض حيث عرضوه على طبيب وقدّموا له العلاج المناسب.
الحياة مِنحة
أثناء حديثي مع “الأب فيلبس” وهو راعي كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، داهمتني الكثير من الأسئلة تجاه ما حدث في البلدة بهذا الخصوص فأخبرنا قائلاً: “صباح الاثنين أتتنا توجيهات من مطرانية حماه لنفتح الكنائس للمتضررين، وبما أنه ليس لدينا مراكز إيواء في البلدة فتحنا بيوتنا للعائلات بكل محبة وقدّم الناس كل ما يستطيعون لهم”.
وأضاف: في اليوم التالي قدِمت الجهات المعنية والهلال والصليب الأحمر إلى البلدة ليجدوا كل شيء على أكمل وجه. وقد كان التعاون بيننا وبينهم على قدم وساق، وبادر الكثير من الأشخاص القادرين مادياً والمغتربين إلى التبرع بمبالغ كبيرة للجمعيات الخيرية في البلدة، كما قدّمت صيدليتا أليسار وكفربو الأدوية مجاناً، وقد كان لشبابنا وقفة عظيمة ومختلفة، فبذلوا ما بوسعهم لإبعاد شبح الرعب عن قلوب الناس والمتضررين.
-هنا في كفربهم كل من يدخلها يغدو ابناً لها لا ضيفها-وشرح الأب فيلبس كيف أن العديد من العائلات عاد إلى حلب بعد هدوء العاصفة تاركين قدماً لهم في البلدة خوفاً من تكرار الحدث: “فالزلزال لم يستكن تماماً و الهزات الارتدادية قائمة. وهناك عائلات فضلت البقاء في البلدة بسبب دمار منازلهم، وسنكون سنداً حقيقياً لهم إلى أن تنتهي هذه الأزمة؛ أزمتنا جميعاً”.
مجدداً
فجر الثلاثاء 21\2\2023 ضرب زلزال ثانٍ لثوانٍ معدودة أتى كصدمة سمجة فما كان منّا إلا الاستهجان فقط، إذ بات الخطر حالة اعتيادية في حياة السوريين، فدائماً هناك الأمل الذي يهبط فجأة، لكن ليس الأمل الساذج وإنما إرادة الحياة التي تخلق نفسها بعد كل أزمة أو كارثة طبيعية.
إن الكوارث التي تعصف بالإنسان والبشرية جمعاء وتهدد الوجود الإنساني تجعلنا نخرج من دائرة الأنانية الضيّقة، لتصبح الحياة بكامل تفاصيلها اليومية، حياة تشاركية مبنية على المحبة والمساندة. إن سوريا اجتازت كل الآلام، حسب ما أشعر في كل مرة يدميها الدمار تنهض كطائر الفينيق، وشعبها غدا متصالحاً مع الموت الذي يقرع أبوابنا في كل حين.
يوم ٦ شباط من سنة ٢٠٢٣ زلزال كهرمان مرعش، لن ينسى أحد هذا التاريخ من سكان منطقة شرق المتوسط لعشرات الأجيال القادمة، سيروى مع حكايات أدب (الديستوبيا). إن ما فعلته مجموعة الزلازل التي حدثت ولاتزال تحدث في سوريا وتركيا هي شاهد أولاً على غضب الطبيعة الأم، وثانياً على تعرية الواقع الرهيب الذي أحدثته سنوات الحرب الطويلة في هذه المنطقة، والآثار الكارثية التي خلفها صراع مصالح القوى على الأرض، والإهمال الكبير للناس واحتياجاتهم الضرورية وأبسطها الحصول على سكن متين ولائق وآمن، إذ إن معظم الأبنية التي انهارت في معظم المناطق التي ضربها الزلزال المدمر وخاصةً التي كانت بعيدة عن مركز الزلزال كانت تفتقد إلى المعاييرالإنشائية السليمة ومواد البناء الجيدة، وقد أدلى خبير الزلازل الياباني يوشينوري موكوفوري بتصريح صادم لا يمكن أن ينسى في اليوم الأول لوقوع الزلزال إذ يقول: “وقت وقوع الكارثة يمكن للناس أن يشعروا بالندم ولكن من المستحيل أن تعفو الأبنية عن الأخطاء البشرية التي تحدث في عملية إعمارها، وبالتالي تتحول فوراً إلى قبور لنا.” فيما يلي محاولة لرسم صورة حول ماحدث في الأيام الأولى، وقد استعنت بشهادات حية لأشخاص متضررين وناشطين ومتطوعين على الأرض من مختلف المناطق التي ضربها الزلزال المدمر: تركيا أنطاكيا يقول أحد الناشطين القادمين لتقييم الوضع على الأرض إن الوضع في انطاكيا رهيب. جزء كبير من المدينة سوي بالأرض وهناك بنايات غاصت تحت الأرض تماماً، أنطاكيا المدينة الأكثر تضرراً وأيضاً نور داغ و مرعش. ويضيف: ما رأيناه في بلدة نارلجا يشيب شعر الرأس منه، من بقي على قيد الحياة سافر إلى أقاربه في أورفا أو مرسين أو غيرها من المدن، أوانتقل إلى الخيم ومراكز الإيواء التي استقبلت المتضررين لأن الأبنية التي لم تسقط أصبحت متصدعة وغير قابلة للسكن عدا عن حالة الهلع بين السكان بسبب الهزات الأرضية المتكررة، ويقول للأسف كان هناك تمييز في المعاملة بين المتضررين وكان الاهتمام موجهاً بالدرجة الأولى للأتراك على حساب السوريين، فقد فتحت المطارات وقدمت تذاكر طيران مجانية للمواطنين الأتراك لإجلائهم على وجه السرعة، وهذا لم يحدث مع السوريين.
اسكندرون وتقول السيدة روعة وهي من سكان اسكندرون “أكثر الولايات التركية تضررا هي أنطاكيا حيث تدمر 80% من المدينة ثم اسكندرون ثم كرخان وأُعلِنت إحدى عشرة ولاية تركية منكوبة جراء الزلازل المتلاحقة”، وتقول: “قامت السلطات التركية بترحيل سكان اسكندرون السوريين الذين فقدوا منازلهم إلى مرسين حيث تفاجأ الناس هناك أنهم سيقيمون في ملاعب رياضية دون تدفئة أو شروط إقامة مناسبة للعائلات، فعاد عدد كبير منهم إلى اسكندرون وانطاكيا ليقيموا في الخيم ومراكز الإيواء”.وعندما سألناها عن أصعب الحالات التي رأتها قالت:”عائلة جيراني، بقيت تحت الأنقاض لفترة، ثم عندما انقذوا أُخِذَ كلُ فردٍ منها إلى مستشفى مدينة، العائلة مشتتة في مشافي ثلاث مدن تركية الآن” و”هناك طفلة صديقة ابنتي بالصف توفي أهلها الأب والأم وأحد أخوتها وبقيت هي وأخ وأخت على قيد الحياة فقط، وأصبحت الآن هي مسؤولة عنهما”. في مدينة أديامان التي تقع جنوب شرق تركيا وهي ذات أغلبية كردية يقول أحد الناجين من الزلزال المدمر: “بقيت أنا وعائلتي 44 ساعة في العراء وفي ظروف جوية سيئة للغاية حتى تمكنا من مغادرة المدينة بعد أن انهار البناء الذي نقطن فيه”. الشمال السوري كارثة إنسانية وواقع شديد التعقيد
إدلب وجسر الشغور تقول السيدة نسرين وهي مدرسة لغة عربية من جسر الشغورو تقيم حالياً في بلدة ييلداغي على الحدود السورية التركية: “في جسر الشغور تضررت الأبنية التي كانت متصدعة أصلاً بسبب الحرب وتضررت من القرى التابعة للجسر القنية، والملند، لكن الأضرار الكبيرة وقعت في بلدتي حارم، وسلقين، وتقول أن المساعدات لا تصل لهذه القرى بسبب المحسوبيات فمن ليس لديه واسطة في إدلب لا يصله شيء من مستحقاته”.
جنديرس وعفرين الأهالي يدفعون الفاتورة الأغلى للمرة الألف، بأرواحهم ومنازلهم وأرزاقهم ومستقبل أطفالهم، جميع القوى المتصارعة على الأرض مسؤولة عن تأخر وصول المساعدات إلى ضحايا الزلزال المدمر، كما حدث في جنديرس وعفرين حيث حُرِمَ الأهالي ومعظمهم من المكون الكردي من المساعدات بينما وزعت المساعدات على المقيمين الجدد (وهم أيضاً ضحايا الصراع القائم على الأرض منذ سنوات) الذين جاءت بهم قوى الأمر الواقع السياسية والعسكرية أثناء الحرب لتقوم بعمليات تغيير ديمغرافي في مناطق الشمال ذات الغالبية الكردية، حتى المنظمات الإنسانية في الشمال تذهب في نشاطها أحياناً باتجاه سياسي وتهتم بفئات بعينها، وسبق أن تداول ناشطون فيديو صوره متضررون من الزلزال من عفرين وجنديرس وقرى عفرين لجأوا إلى قرية الأمل يقولون فيه إن إدارة قرية الأمل من منظمة (أنصر) تمنع المنظمات الإغاثية من الوصول للأهالي فقد مُنِعت منظمة شفق الإنسانية من الوصول لهم وكانت تحمل مشروع مساعدة مالية مؤلفة من 150$ لكل عائلة متضررة، كما يقول أحد المتضررين و يقول أيضاً نحن ندفع ثمن الماء هنا، على الرغم من أن هناك منظمات توزع الماء الصالح للشرب لكن منعوهم من الدخول إلى مشروع القرية مسبقة الصنع، ومُنِع وصول مساعدات عدة منظمات أخرى، ويقول الطعام الذي يوزعونه هنا لايكفي كل المتضررين، وهم يقومون عن قصد بهذا التضييق ليجبرونا على الرحيل من هنا ليستقبلوا متضررين من فئات أخرى، والمنطقة هنا جبل بعيد لايمكننا أن نؤمن أغراضنا من الخارج، إن لم تأت به المنظمات لنا ، ثم وجه نداء للمسؤولين والإدارة التركية للطوارئ وللمجلس المحلي و لمنظمة آفاد أن ينجدوهم بأسرع وقت ممكن”. وتقول ناشطة: “حتى المنظمات التي فيها أكراد مُنِعَ موظفوها من خدمة أهلهم في جنديرس وأُمروا بأخذ المساعدات إلى مخيمات ومناطق أخرى، ليُترك أهل جنديرس وعفرين ليواجهوا قدرهم لوحدهم عزلاً من كل مساعدة ممكنة من الآخرين، هذا ماقالته الناشطة الكردية المقيمة في ألمانيا السيدة أمينة مستو التي تقوم بتوثيق الانتهاكات في المنطقة الشمالية، وهي من قرية “كفر صفرة” قضاء جنديرس، تبعد عنها حوالي 5كم وجميع سكان قريتها ينزلون بشكل يومي إلى جنديرس لشراء حاجياتهم الضرورية. تقول تهدم 85% من بلدة جنديرس التابعة لعفرين، انهار 140 بناء بشكل كامل، ويوجد أربعة أبنية متصدعة كما يوجد أبنية متصدعة أيضاً في عفرين وقراها، وعندما سألناها من الحاكم على الأرض في هذه المناطق قالت: “الفصائل الإسلامية التي تحكم المنطقة هي أحرار الشرقية، وأحرار الشام، وفصيل سليمان شاه (أبو عمشة) متحكم ببلدة شيا وفصائل تركمانية فصيل السلطان مراد متحكم بنواحي راجو والبلبل. وتتابع السيدة أمينة: في جنديرس هناك عدد كبير من الأشخاص الذين بقوا على قيد الحياة فضلوا أن يبنوا خياماً فوق ركام بيوتهم وحاولوا سحب ما يمكن من أغراض منازلهم من تحت الركام، لأن الفصائل منعت عنهم المساعدة، الأهالي في حالة يرثى لها فوق مصابهم، وتقول: حتى المناطق التي حدث فيها الزلزال في تركيا غالبيتها أكراد لذلك كانت استجابة النظام التركي للكارثة التي حدثت هناك مخجلة ففي هاتاي ومرعش توفي عدد كبير من الضحايا بسبب بطء الاستجابة للكارثة وتُرِك السوريون تحت الأنقاض لفترة طويلة، لم تفتح الحدود حتى اليوم الرابع للزلزال. وتتابع حول ما جرى في جنديرس: “عانى السكان من التمييز العنصري فقد تُرِكَ الأهالي تحت الأنقاض وسحبت معظم الآليات التي كانت تقوم بعملية بناء في جنديرس إلى مناطق أخرى لإنقاذ الآخرين في إعزاز وإدلب في (حارم وسرمدا)(وأيضاً كان هناك أضرار في بلدات سنارة والنقلة وكاخرية). وتعقب: في منطقتناهناك خوف دائم من بناء مستوطنات جديدة أعمق وأكبر، و خوف من طرد الأهالي خارج قراهم. عندما سألناها عن موقف الإدارة الذاتية من ذلك أجابت أن الإدارة لا تهتم أبدا بالأهالي داخل عفرين وجنديرس. حلب تقول السيدة غفران المقيمة في مدينة حلب قامت المبادرات الفردية في الأيام العشرة الأولى على نجدة الناس وذلك من خلال تقديم الحاجات الضرورية الاسعافية من سلات غذائية وأدوية وتقديم مساعدات مالية لتأمين سكن مستأجر للعائلات، وقمت أنا وزوجي بمساعدة وتأمين 65 عائلة متضررة، المناطق التي تضررت في حلب (الفردوس، وصلاح الدين، والأعظمية، والعزيزية ) بعض البنايات التي انهارت كانت قد تصدعت منذ وقت الحرب ووصل عدد الوفيات في حلب لأكثر من 500 حالة وفاة ويوجد عدد كبير من المصابين. تقول السيدة ديمة وهي من العائلات التي نزحت من حلب بعد الزلزال باتجاه دمشق: “كنت أسكن في الأعظمية في حلب بعد أن نزحت من إدلب بسبب الحرب وهذه المرة أنزح للمرة الثانية بسبب الزلزال أنا وأمي وأخواتي وطفلة عمرها أربعة شهور من حلب لبيت أقاربي في حي “جبل الرز”في الشام. وتقول السيدة أم منى “نزحت بعد الزلزال من بستان القصر في حلب إلى بلدة “صحنايا” في دمشق، بعد أن تصدع منزلنا وكُسِرت يد زوجي من جراء الزلزال، أتيت أنا وزوجي وابنتي ونزلنا عند أقاربنا هنا”وكان قد نزح عدد كبير من العائلات من مدينة حلب باتجاه حماه و اللاذقية ودمشق بعد الزلزال.
حماه والسقيلبية والغاب يقول السيد باسل انهارت 10 أبنية في حي الأربعين وقسم من حي الفيحاء، وهذه الأبنية كانت متصدعة بالأصل بسبب خلل في الأساسات وتسرب في المياه، الوفيات حدثت في اليوم الأول للزلزال فقط بسبب انهيار هذه المباني. في السقيلبية كما يقول السيد منذر حنا الناس يعيشون حالة خوف وهلع حتى الآن حتى أنهم نصبوا بيوت شعر وخياماً في الخارج. وقالت لنا زوجته: “الناس لا تنام في الليل من الخوف” انهارت بعض البيوت في الحارة القديمة، لكن دون خسائر بشرية في قرى الغاب. في الشريعة انهارت البيوت التي بدون أعمدة في قرية عين الكروم انهارت بنايتان حديثتان وهناك حالتا وفاة و 16 إصابة وهناك أضرار في قرية الحوايق، وفُتحت مراكز إيواء في السقيلبية لمساعدة المتضررين وقامت الجمعيات الأهلية والأهالي بمساعدة كل شخص متضرر من الزلزال.
في اللاذقية وجبلة أكبر فاجعة صدمت أهل جبلة واللاذقية سقوط “بناء الأطباء” وسط مدينة جبلة حيث لقي مجموعة من نخبة أطباء المدينة حتفهم مع عائلاتهم، جراء الزلزال بسبب سوء البناء مع العلم بأن جميع الأبنية التي تحيط ببناء الأطباء لم تسقط، ووصل عدد ضحايا الزلزال من الأطباء والصيادلة فقط في مدينة اللاذقية وما حولها إلى 31 طبيباً وطبيبة. يقول عبدالله كنت أسكن في الرمل الجنوبي (الرمل الفلسطيني) لكن بيتي تصدع من جراء الزلزال خرجت أنا وزوجتي وأطفالي لنقيم عند والدة زوجتي مؤقتاً حتى نتمكن من استئجار منزل صغير خاص بنا. تقول بسمة وهي معلمة سابقة ومتطوعة في مدينة اللاذقية تنشط في تقديم المساعدات منذ الأيام الأولى من حدوث الزلزال، أنا أسكن في المساكن الجديدة في القنجرة الحمد الله لم يتأذ البناء الذي أسكن فيه ، وعندما سألناها أي الحالات التي قامت بمساعدتها وتأثرت بها أجابت: “أكثر الحالات التي أثرت بي هي عائلة في (روضو) مكونة من أب وأم و6 أطفال أخبروني أنهم كانوا يحتفلون قبل وقوع الزلزال بمرور أسبوع على تسديد آخر قسط لبيتهم وأنهم انهاروا من الحزن عندما تصدع البيت وسقط أمام أعينهم وهم في الأصل أتوا نازحين من حلب إلى اللاذقية أثناء الحرب، و حاولوا أن يشتروا هذا البيت في قرية روضو بالتقسيط وهم أناس بسطاء للغاية، وليس لديهم تلفون للتواصل” . يقول السيد محمد من مدينة جبلة “خرجت أنا و زوجتي وأطفالي السبعة من بيتنا المكون من طابقين والذي تصدع من جراء الزلزال في أول العسّالية في جبلة التي تهدم فيها مايقارب ال 14 بناء سوي بالأرض والتجأت إلى بيت أهلي في حميميم الذي التجأ له أيضاً أخي وعائلته، ولكن منزل أهلي أيضاً مهدد بالانهيار بسبب بعض الشقوق التي حدثت به بسبب الزلزال، لا ندري أين سنذهب إذا تصدع بيت أهلي أيضاً”. وعندما سألناه عن إمكانية استئجار بيت في جبلة أخبرني “أن عدداً كبيراً من الناس في مدينة جبلة تركتها وذهبت إلى القرى لأنهم يخافون من هزات قادمة وخاصة الأطفال الذين اختبروا هذا الرعب”. وعن المساعدات المقدمة قال: “أن الهلال الأحمر السوري يقدم بعض المساعدة المنظمة لكن بشكل عام هناك فوضى وعدم تنظيم بموضوع المساعدات و عدالة توزيعها”. ويقول أخ أحد الضحايا الذين قضوا في العسّالية: “لم يتمكن أخي الشاب وزوجته من النجاة بعد أن أنهارت البناية التي يسكنون بها. اتصلت بأخوتي وقدموا إلى مكان الردم وحاولوا الحفر بأيديهم لإخراجهم من تحت الأنقاض لساعتين دون جدوى لأنه لم توجد آليات هناك للحفر وللإنقاذ، فقدناهما” في جبلة تضررت مناطق الرميلة ، العسّالية، الفيض، الجندرية، العمرونية ، قبو العوام. في القرداحة تضررت مناطق الهنادي، وسطامو، فديو. تواصلنا مع بلدية قمين وقال لنا أحد موظفي البلدية إن “البلدية مسؤولة عن 7 قرى منها ثلاث قرى متضررة وهي اسطامو، ومرخو، والنبي ريح، وحرث الهوى عدد الوفيات وصل إلى 54 شخصاً في اسطامو، وانتشل من تحت الأنقاض 21 شخصاً أحياء وتضرر 100بيت ،وهناك 14 كتلة بناء متضررة” وفي قرى بستان الباشا وصل عدد الوفيات إلى 49 شخصاً.
تقول السيدة هيام سلمان وهي فنانة تشكيلية أسست مع زوجها النحات ماهر علاء الدين جمعية “أرسم حلمي” في 2010 في مدينة اللاذقية، وهي جمعية ثقافية فنية تشكيلية تعنى باكتشاف مواهب الأطفال: “بدأت بالعمل الإغاثي من ثاني يوم لحدوث الزلزال. تواصل معي أصدقاء من كل سوريا ومن الخارج كانوا يسألون عن كل ما يحدث هنا، اضطررت أنا وزوجي للنزول إلى الميدان، وكان مؤلماً جداً ما رأيناه، وماتعرضت له الأسر من جراء الزلزال، بيوت مدمرة بالكامل تحولت إلى ركام، وبيوت أخرى متصدعة متخلخلة، المأساة الأكبر كانت جموع الناس التي تشردت وفقدت بيوتها البيت الذي يعني الحماية والسكينة، حزَّ بنفسي الأطفال الذين تشردوا وفقدوا أهلهم والصبايا والشباب و الأشخاص الذين فقدوا كل شيء، نظمنا عملنا باتجاه العائلات التي استضافت عائلات منكوبة بينما اتّجه البعض للعناية بالمتضررين الذين التجأوا إلى مراكز الإيواء، نحن اتجهنا للعائلات التي استضافت عائلات أخرى منكوبة لمساعدتها في تحمل مسؤوليتها، وكان التواصل الكبير عن طريق الانترنت لتأمين الدعم للناس، قام المجتمع مدني بعمل جبار كأفراد وكمنظمات وكمؤسسات. الزلزال قرّب السوريين من بعضهم البعض، التواصل بين المجموعات على الأرض وبين المغتربين، والثقة المتبادلة في المجتمع الأهلي من أجل الدعم والمبادرات لتأمين أماكن سكن وجمع مبالغ لاستئجار بيوت للمتضررين، العمليات الجراحية التي تكفل بها أشخاص، الأطفال الذين أخرجوا من تحت الردم والدعوة لإقرار قانون للتبني وكفالة الأطفال اليتامى الذين فقدوا ذويهم، قدمنا المساعدة في اللاذقية ثم خرجنا إلى الريف لنرى كيف يمكننا أن نساعد المتضررين في القرى النائية في ريف اللاذقية وجبلة والتي لم تصلها مساعدات، والتي رغم فقرها الشديد تستضيف عائلات منكوبة. وعندما سألنا السيدة هيام كيف ترين مرحلة مابعد الحلول الأسعافية.أجابت: “للأسف لا أرى هناك شيئاً يبشر بالخير، هناك بطء بتقديم الخدمات للناس، والناس عندها حزن وعتب كبيرعندما نزورها تشتكي بألم. قالت لي إحدى العائلات في الريف لم يعزنا أحد أو يقدم لنا مساعدة حقيقية، ليس هناك عدالة في توزيع المساعدات، المبادرات الفردية جيدة جداً نتمنى أن تحدث إعادة إعمار سريعة وبناء بيوت للمتضررين لأن أماكن الإيواء يجب أن تكون حلاً مؤقتاً وليس دائماً ويجب أن ينتقل الناس إلى بيوت بأسرع وقت ممكن وتُقدم لهم تعويضات ليحدث استقرار. لايوجد تعويض عن الضحايا لكن تأمين المسكن مهم جدا. وعندما سألنا متطوعين ناشطين على الأرض حول أهم الصعوبات التي واجهتهم في الأيام الأولى للكارثة، أجابوا: “صعوبة إنقاذ الضحايا بسبب تأخر وصول الآليات إلى أماكن الردم بسبب عدم توفر المحروقات من بنزين ومازوت في البلاد، عدم وجود مختصين برفع الأنقاض، سوء الأحوال الجوية ليلة وقوع الزلزال، صعوبة إسعاف المصابين إلى المشافي، ثم واجهنا فيما بعد صعوبة في تأمين حليب الأطفال وأدوية مرضى السرطان وأمراض الكلى والأمراض المزمنة ذات التكاليف العالية جداً”، بعد الأيام الأولى من العمل التطوعي الاسعافي طلبت منا الجهات الرسمية الحصول على تراخيص للاستمرار في العمل التطوعي من تقديم مساعدات وغيرها، وجدنا صعوبة في ذلك لأن معظمنا يعمل بشكل تطوعي فردي وليس تحت غطاء جمعيات أو مؤسسات.
دور السوريين في الخارج في مساعدة أهلهم داخل الوطن أنشأت على وجه السرعة مجموعات دعم كبيرة من شبكات التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وواتس، وغيرها، لتنسيق عمليات المساعدة وتقديم الخدمات للمتضررين من الزلزال حيث قام عدد كبير من السوريين المقيمن في الخارج من مهاجرين ولاجئين بإرسال حوالات مالية بشكل مستمر لأهلهم وأصدقائهم في الداخل ليتمكنوا من تقديم المساعدة للمصابين ولعائلاتهم، وكان للنساء دور كبير في ذلك من جميع دول العالم قامت النساء بالمشاركة بالعمل الإغاثي. إحدى السيدات السوريات المقيمات في السويد كانت تهتم بأمور تنسيق وتوصيل المساعدات لأهالي مدينتها في سوريا بينما تنقل طفلتها المريضة باللوكيميا إلى المشفى، وهي (أي السيدة) تقاوم نوبات الشقيقة، بينما تفكر بأبناء بلدها المنكوب وتبكي بحرقة عجزها أمام مصابين كبيرين مصابها الشخصي ومصاب بلدها، أيضا سوريات مقيمات في فرنسا وإيطاليا والنمسا وبريطانيا وتركيا ومعظم دول العالم كن يعملن مع مجموعات الدعم على الأرض، يقمن بجمع التبرعات وإرسالها إلى المدن السورية المنكوبة، ويقمن بعمليات جمع المعلومات الإغاثية وأماكن توفر الدواء وحليب الأطفال ومساعدة المتطوعين على الأرض، وإرشاد المتضررين إلى مراكز الإيواء. بعض الملاحظات المشتركة بين جميع المناطق التي حدثت فيها الزلازل:
بطء الاستجابة الرسمية للكارثة الإنسانية إن كان في تركيا أو في مناطق نفوذ قوى وسلطات الأمر الواقع في الشمال السوري أو في مناطق سيطرة الدولة السورية، مقابل سرعة ونجدة المجتمع الأهلي لأهله المتضريين حيث قام الأهالي بمحاولات يائسة لنجدة عائلاتهم بحفرالأنقاض بأصابعهم وأيديهم لساعات وفي مناطق أخرى لأيام لإنقاذ الضحايا حدث هذا في أنطاكيا وجنديرس وحلب وجبلة، سمعنا القصص نفسها، لأن الآليات تأخرت لساعات في الوصول الى أماكن الكارثة.
أيضاً تأخر قرارات فتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية وفرق الطوارئ في الشمال.
البطء في تذليل الصعوبات للوصول للأماكن المنكوبة.
البطء بسبب الاعتبارات السياسية والقوى الحاكمة على الأرض وتحكم هذه القوى بمصائر الأهالي داخل مناطق نفوذها في الشمال.
وصول كميات كبيرة من المساعدات الدولية والأهلية، لكن كان هناك فارق كبير بين كمية المساعدات الواصلة وكمية المساعدات الموزعة على أرض الواقع وعدالة توزيعها على المتضررين في معظم المناطق، داخل سيطرة الدولة السورية وخارج سيطرتها، وهناك مناطق تم فيها الاستيلاء على المساعدات وتوزيعها لفئات تهم الفصيل المسلح الذي يحكم المنطقة.
قامت الكارثة الطبيعية بتعرية دور الفساد الهائل الذي انتشرعلى مستوى البلاد جميعها في العقد الأخير، وترهل مؤسسات الدولة وتخليها عن مسؤولياتها تجاه مواطنيها، إن كان في مناطق سيطرة الدولة الرسمية أو في المناطق التي أصبحت خارج سيطرتها وما اصطلح على تسميته سياسياً بالمناطق المحررة، والذي يقع تحت حكم قوى الأمر الواقع من فصائل عسكرية مسلحة تتبع سياسياً لقوى دولية وإقليمية مختلفة، يعاني الأهالي تحت حكمها الأمرين لولا بعض منظمات المجتمع المدني الإنسانية التي تقدم في بعض المناطق الشروط الدنيا للعيش.
معظم الأبنية التي انهارت في جميع المناطق غير مطابقة للمواصفات المعيارية للسكن، في جنديرس كل ما بني بعد عام 2011 انهار، وفي حلب الأبنية المتصدعة من جراء الحرب والمُنشأة بعد الحرب، وفي جبلة واللاذقية الأبنية التي انهارت كانت غير مطابقة للمواصفات بناها مقاولون تجاريون غير مهتمين بحياة الناس، حتى في الأبنية ذات الأسعارالمرتفعة جدا.
تواضع الحلول، فقد ذكرت وكالة سانا السورية الأخبارية الرسمية أن مصرف “الوطنية للتمويل الأصغر” أطلق قرض “ساند” المخصص لترميم وإعادة تأهيل المساكن المتضررة من الزلزال في محافظات حلب واللاذقية وحماة، دون فائدة وبقيمة تمويل تصل حتى 18مليون ليرة سورية، وعلى فترة سداد تمتد إلى ست سنوات، لكن معظم المتضررين لن يتمكنوا من الاستفادة منه بسبب شروطه المعقدة وثانياً لأن معظمهم لايمكنهم أن يقوموا بسداد الأقساط الشهرية بعد أن فقدوا كل ما يملكون وعدد كبير منهم يعيش على المساعدات المقدمة من الآخرين، أيضاً هذا المبلغ لا يمكن أن يفعل أي شيء حقيقي لمن فقد منزله بسبب انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي، الحل الحقيقي الذي يجب أن تقوم به الدولة هو بناء وحدات سكنية بشروط فنية صحيحة مُقاومة للزلازل للمتضررين، وكانت مؤسسة الهلال الأحمر الإماراتية قد أعلنت عن نيتها بناء 400 وحدة سكنية للمتضررين لكن غير معروف في أي مكان حتى الآن، وكانت قد أعلنت قطر عن نيتها إرسال غرف مسبقة الصنع كانت قد استخدمت في المونديال سابقاً لمتضرري الزلزال في الشمال.
في تركيا وعد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الأتراك بأنه خلال عام سيكون قد بنى وحدات سكنية تستوعب جميع المتضررين الأتراك من الزلزال، لكن هذا لن يشمل للأسف السوريين الموجودين في تركيا بشكل غير قانوني أو نظامي، ممن لا يملكون “الكملك” الرقم الوطني التركي.
حتى الآن لم يتلقَ المتضررون ( من غير المتواجدين ضمن مراكز الإيواء الرسمية) أي دعم نفسي لما بعد الصدمة، وخاصة الأطفال، في حين أُعلن عن خارطة خدمات الدعم النفسي الاجتماعي المجانية من قبل منظمة “مستقبل سوريا الزاهر” ويضم الملف عدداً من الجمعيات والفرق والمنصات الجاهزة لهذا الدعم لكن سيكون هناك عوائق كبيرة أمامها خاصة أن معظم هذه المنظمات ستقوم بعملها عن بعد، أي أنها بحاجة لخدمات وخطوط انترنت وهاتف سريعة لتتمكن من الوصول إلى المتضررين، وبالتالي سيكون هناك عدد كبير من المتضررين خارج شبكات الدعم هذه بسبب سوء خدمات الاتصالات في الكثير من المناطق المتضررة، في حين تقول السيدة ريتا أن الجمعية السورية للتنمية الاجتماعية في حلب تقدم الدعم النفسي بشكل مباشر للمتضررين المتواجدين في ستة مراكز للإيواء في حلب، منذ اليوم التالي لزلزال المدمر 7منذ شباط.
الزلزال جيولوجيا
سألنا الجيولوجي الأستاذ مضر سليمة بضعة أسئلة أولها لماذا وقع الزلزال وكيف؟ ثانيها ما التربة التي تأثرت بالزلزال بناءً على قراءتك الجيولوجية؟ ثالثها هل هناك إحصاء لعدد الأماكن المتضررة بالزلزال؟ رابعها كيف تتوقع أن يكون مستقبل المنطقة بالنسبة للزلازل، هل ستبقى مهددة؟ وكانت إجابته كالتالي: يقع الجزء الأكبر من سورية تكتونياً؛ شمال الصفيحة العربية، ويحد هذه الصفيحة من الشمال الغربي صفيحة الأناضول ومن الشرق والشمال الشرقي الصفيحة الآسيوية، في حين يحدها من الغرب الصفيحة الأفريقية التي يمثل الساحل السوري أطرافها الشمالية الشرقية. تتدافع الصفيحة العربية مع صفيحة الأناضول وفق فالق تنغرز أحداهما تحت الأخرى نتيجة حركة الصفيحة العربية نحو الشمال ويتفرع عن فالق التدافع فوالق انزلاق،هذه الحركة بطيئة وأحيانا متوقفة نتيجة المقاومة التي تبديها صفيحة الأناضول ولكن في اللحظة التي تتراكم فيها القوة وتصبح مقاومة صفيحة الأناضول أقل من قوة الدفع القادمة من الصفيحة العربية تحدث الهزات. وهذا بشكل عام ما حدث منذ أيام وماسبق أن حدث منذ أكثر من مئة عام، لكن التفاصيل في حدثنا الآني تحتاج الى دراسات ميدانية وسيزمية لتحدد بالضبط نوع الحركة ومدى تأثيرها وما قد ينجم عنها. لكن في الأيام الاولى: لا يستطع المختصون سوى تقدير ما حدث، من خلال قراءة البيانات المسجلة ومنها شدة الهزات ومدتها الزمنية وعدد الهزات ومناطق وقوعها وترتيب وقوعها، وهذا ما حاولت فعله شخصيا، الجميع شعر في اليوم الأول أن الهزات كانت كبيرة وطويلة وهذه صفات الهزات الناتجة عن التصادم أما لاحقاً فقد ظهرت هزات قصيرة وشديدة وهذه صفات الهزات الناجمة عن الانزلاق strike-slip وكان معظمها (أي الانزلاق) في الساحل السوري. لماذا تأثرت مناطق بعيدة عن الزلزال كجبلة أكثر من مناطق أخرى قريبة ككسب ورأس البسيط؟ هناك عوامل كثيرة يمكن ذكرها، ولكن ما يستحق الاهتمام (برأيي) هو نوع التربة أو الصخر الحامل فبالعودة إلى الخرائط الجيولوجية في المنطقة (حيث تثنى لي التحقق) نلاحظ الآتي:
منطقة دمسرخو وما حولها مناطق السهل الساحلي من اللاذقية إلى جبلة تقع فوق ترب لحقية.
الرمل الفلسطيني (تربة رملية). أما الأماكن التي لم تتضرر أو كان الضرر فيها محدوداً فكانت على سبيل المثال:
صلنفة وكسب، والتربة فيها كلس صخري.
برج اسلام ، كرسانا، القنجرة، سقوبين، عين البيضا، المشرفة والتربة في هذه المناطق كلس مارني.
وكنتيجة، وبغض النظر عن جودة البناء نجد أن أنواعاً من التربة، ساهمت في التقليل من أضرار الزلزال بعكس أتربة أخرى كان لها دور فاعل في انهيار كثير من المباني. الاحصاء هو مهمة تقوم بها المؤسسات المتخصصة وعلى هذه المؤسسات الأخذ بعين الاعتبار الدور الذي يلعبه الجيولوجيون في المساهمة بدراسات ناجحة. مستقبل المنطقة: وفق ما ذكرنا في بداية الحديث فإن الصفائح المكونة للقشرة الأرضية دائمة الحركة وهناك لحظة (قد تطول) ولكنها آتية آجلا أم عاجلاً تعجز فيها صفيحة ما عن مقاومة الأخرى. وسورية التي يقع جزءها الأكبر على الصفيحة العربية يقع بعضها على الصفيحة الأفريقية في حين يمثل شمال اللاذقية امتداداً لصفيحة الأناضول، أي أننا مزنرون بالفوالق المتحركة، وهي مناطق زلزالية نشطة دوماً.