دمشق مدنٌ في مدينة.. وبيوت تلفظك لأنك من مناطق الطائفة التي بدأت بـ”الشي”

دمشق مدنٌ في مدينة.. وبيوت تلفظك لأنك من مناطق الطائفة التي بدأت بـ”الشي”

“بخوف سألتني ابنة أختي الصغيرة همساً عندما جاءنا أحد الأشخاص باحثا عن سقف يؤويه: خالتو هاد من عنا؟!.. ما خطر ببالي يوما بأني سأتعرض لهكذا سؤال من طفل أو طفلة” تقول نيرمين محمد لـ”صالون سوريا”، وتتابع: “نزل سؤالُ الصغيرة على رأسي كصاعقة، أجبتها: إي خالتو هاد سوري، لم تقتنع، عاجلتني بعبارةٍ أخرى، قالت: بس بابا قال ما بدنا نأجر حدا مو من عنا”.

أخذتني كلمات نوارة بعيدا، لَحِظَتْ نيرمين ذلك، وعندما اصطدمت عيناي بعينيها، طأطأت رأسها أمامي خجلاً، وعادت لتحدثني “مازالت ابنة أختي في حيرة من أمرها تبحث عن أي معالم لهوية أو انتماء”.

تقول أسما التي نزحت من دير الزور، عن دمشق: “هذه المدينة منحتني الأمان بفترات كنت كتير بحاجتو، لكنها اليوم تلفظني لأني من الطائفة التي بدأت بـ(الشي)”.

تعيش أسما في حي المزة 86 وعنه تقول “كل المفاتيح هناك في الحي بيد العلويين، فصوتهم أعلى وامتيازاتهم أكبر، ودائما ما تُحسم أي مشكلة لشبابهم، ولا أعتقد أن هذا سيتغير في المستقبل، نحنا مكسور جناحنا.. فينا نعيش هون طالما نحنا أوادم”.

تغيير وجه دمشق

بجولة طويلة بين أحياء دمشق المختلفة٬ مشيت في الشوارع التي أعرفها وتعرفني، تحدثت مع قاطنين أصولهم من هنا، ومع وافدين قُدامي وجدد، عبر حكاياهم وما تحمله أرواحهم من انطباعاتٍ عن المدينة٬ حاولت رصد ماهية الأرض المشتركة التي تجمعهم أو تفرقهم٬ ما ملامحها كما يصفونها٬ وما إذا كانت هناك مساحة لانتمائهم لها أم لا.

كانت دمشق الممتلئة حُبا وصخبا وضجيجا وكذبا من يوم إنشائها ملجأ لكل المظلومين والمساكين والفقراء والمطرودين، أما اليوم فهناك وضعٌ جديد يُرسم على الأرض، وهو ما يحذر منه الباحث في علم الاجتماع السياسي فايز عدنان في حديثه لـ”صالون سوريا”، يؤكد فايز: “أن محاولات حثيثة تتم لإفراغ العاصمة السورية وما حولها من طائفةٍ بعينها، فقبل سنوات من الآن وتحديدا قبل اندلاع الحرب السورية كان من السهولة بمكان أن تجد مكانا يؤويك في دمشق أيا كانت منطقتك أو طائفتك، في تلك الأيام لم تكن بحاجة لأكثر من ورقة ممهورة باسمك وباسم صاحب العقار لتستأجر منزلا في العاصمة. أما اليوم فتشابكت الأمور كَكُرَة صوف مع تزايد الحاجة للمنازل في قلب دمشق الذي يشهد اختناقاً سكانياً وانتشار الخوف بين مكونات المجتمع السوري، ناهيكم عن العراقيل الأمنية التي توضع في وجه الباحثين من طائفةٍ أو مناطق معينة عن مسكن يُظلهُم تحت سقفه، ويزيد من الوضع مأساوية ما تقوم به المكاتب العقارية من تأجير البيوت وفق خريطةٍ طائفية”.

يتابع فايز عدنان حديثه قائلا: “يُمنع السَكَن مثالا لا حصرا في عش الورور, وهي منطقة تقع على أحد سفوح جبال قاسيون مُطِلة على منطقة برزة، إلا لمواليدها أو العاملين بها أو المالكين لعقاراتٍ فيها، كما يُمنع أيضا تجديد إيجار السكن في بعض المناطق الدمشقية كحي (المزة 86)، إلا للعلويين والشيعة وبعض الحالات الخاصة الأخرى”.

قدرٌ اختير لنا

في “الكيكية” على سفح قاسيون استقر سامر العشا في منزلٍ مستأجر هو عبارة عن غرفة صغيرة لا يصلها ماء ولا تُنيرها كهرباء، سامر النازح من الحجر الأسود جنوب العاصمة دمشق ما كان قادراً برغم ما عرضه من مال على تأمين منزل له ولأسرته في حي “المزة 86” الرخيص نسبيا مُقارنة بالمناطق المنظمة في العاصمة دمشق كحي “ركن الدين” الذي يصل فيه بدل الإيجار لمنزل تبلغ مساحته 120 متراً حوالي الـ600 ألف ليرة سورية شهريا، والسبب هو “طائفته.”

يروي سامر حكايته لـ”صالون سوريا”: “قالها السمسار لي علناً، لن تجد من يؤجرك منزله مهما دفعت من مال، فأنت غريب عن تركيبة الحي الطائفية للسكان، وقعت كلماته عليَّ كزلزال، زَعَقتُ في وجهه، يا أخي أنا لست إرهابياً ولا مطلوباً، فلماذا لا استطيع السكن وسط دمشق؟”.

وفي حي باب توما الدمشقي، تتحفظ نجاح طنوس، وهي صاحبة منزل في الحي الذي تسكنه غالبية مسيحية، عن استقبال بعض المستأجرين، تقول: “ما بدي مشاكل،  أخوتنا المسلمين عالعين والراس، لكنهم سيسببون المتاعب لي، وأنا لا أريد أي متاعب، هم أخوتنا ولم نكن نميز، لكن اليوم الحذر واجب”.

ويرى الباحث الاجتماعي فايز عدنان: “أن النزعة الطائفية التي يلمسها أي شخص في مناطق كعش الورور والمزة 86 ذات الغالبية العلوية، عند بعض السكان بعد الحرب هي نتيجة استفزاز الهوية المُعرَضة للخطر”.

ليست الطائفية وحدها مشكلة في السعي لاستئجار منزل في دمشق، بل المناطقية أيضاً. عمار الشيخ بكري نازح من “كفر بطنا”، وسمه أهل المنطقة بالـ”عوايني” أي جاسوس النظام، فخرج منها، إلا أن تعاونه مع الدولة لم يشفع له  عند السماسرة وأصحاب العقارات في حي “المزة 86” العشوائي.

فالجهة الأمنية المشرفة على المنطقة “المخابرات العامة” والتي قصدها تباعا لثلاث مرات متتاليات بصحبة ثلاثة من أصحاب المنازل التي حاول استئجارها في الحي، أخضعته “لسلسلة من الإهانات” بحسب قوله.

في النهاية رفضت المخابرات بعد الاطلاع على بطاقة عمار الشخصية منحه الموافقة الأمنية اللازمة لتوقيع عقد الإيجار، والسبب انتمائه لمنطقة تعتبرها دمشق حاضنة شعبية للمعارضة السورية المسلحة، و بات واضحا أنه في منطقة “المزة 86″، يستحيل أن يسكن من هو قادم من الغوطة الدمشقية.

الموافقات الأمنية تعزز الانقاسامات

يقول المحامي وسام طه لـ”صالون سوريا”: “إن عمليات إيجار البيوت والعقارات في مناطق النظام، تخضع إلى رقابة أمنيّة مشددة، إذ تفرض السلطات على المستأجر والمؤجر مراجعة مقارها الأمنية والحصول على موافقة خطيّة، قبل إبرام العقود أو عند تجديدها”.. وصدرت في عام 2014 أوامر أمنية تمنع منعا باتا الموافقة على تأجير منزل أو غرفة في دمشق دون الحصول مسبقا على الموافقة الأمنية.

ويقتضي الحصول على الموافقة الأمنية، أن يذهب المواطن ويملأ استمارة تفصيلية عن وضعه وعائلته وعمله وتوجهه السياسي، قبل أن يجري تصديقها من البلدية المعنية في المنطقة المراد السكن فيها، وانتظار أسبوع إلى 15 يوماً بل وربما شهراً ريثما تصل الأوامر بالموافقة أو الرفض. يأتي ذلك في ظل تشديد النظام السوري الإجراءات الأمنية في العاصمة خوفا من تسلل عناصر المعارضة.

يُتابع المحامي وسام حديثه بالقول: “يُنفّذ هذا الإجراء بصرامة خصوصا في العاصمة دمشق ومحافظة حلب، ويبدو أن النازحين من المناطق التي شكلت بيئة حاضنة لمعارضة النظام هم الأقل حظاً في الحصول على الموافقة”.

لا يواجه سماسرة العقارات مشاكل كبيرة في الحصول على الموافقة الأمنية إن كان المستأجر فتاة، حتى لو كانت من طائفة مختلفة وفقاً لسومر سلوم، وهو صاحب مكتب عقارات في حي المزة 86، يقول السمسار لـ”صالون سوريا”: “يحتاج الرجال للحصول على الموافقة الأمنية لواسطة كبيرة، في الواقع نحن لا نستطيع توقع النتيجة دائماً ولكن طلبات عديدة تُرفض، بما فيها طلبات تجديد عقد الإيجار، وذلك لاعتبارات أمنية أو طائفية”.

يتابع السمسار سومر حديثه بالقول: “كنا نتحايل ونلتف على الأمر لمساعدة المستأجرين بتنظيم العقد باسم أحد نساء العائلة التي تريد استئجار أحد المنازل وتقديم تفاصيل هوية المرأة للجهة الأمنية لتسهيل الحصول على الموافقة وتوقيع العقد، لكن المشكلة المستجدة التي منعتنا من الاستمرار في هذه الحيلة هي المداهمات الشهرية والتفتيش الأمني الدقيق الذي باتت تقوم به الجهات المختصة بين حينٍ وحين للمكاتب العقارية، وبشكل عشوائي للمنازل المُستأجرة للاطلاع على بيانات وأسماء المستأجرين في تلك المنازل”.

يختلف البعض مع ما ذهب إليه سومر عن معاملة أمنية مختلفة للنساء، اذ تروي أم حسن وهي أم لخمسة أطفال ما عاينته في أحد المراكز الأمنية، تقول: “كان عناصر الأمن يعاملون الجميع بدونية وكأننا مُجرمون، أما النسوة اللواتي كن يتشحن بالجلابيب أو بالخمار فكان لهن نصيب الأسد من الإهانات”، وتُردف: “أن الضابط تحرّى عن اسمي واسم زوجي المتوفى بحادث سير، وكذلك عن اسم أبي وإخوتي وأمي وحتى جدي وجدتي، بعدها سألني الضابط عن حادثة زوجي الأمر الذي استغربته، قبل أن يطلب مني الإنصراف مصحوبةً بتحذير شديد من استضافة أياً كان في منزلي المُستأجر”.

فوبيا أصحاب العقارات الأمنية

يتملك الخوف أصحاب العقارات من عدم الامتثال للإجراءات الأمنية، فقد تم استدعاء عدد من أصحاب البيوت لفرع الأمن العسكري حتى أن بعضهم اعتُقل بتهمة إيواء مطلوبين

وفي هذا السياق يشير حيان علي، وهو مالك لأحد العقارات في “حي تشرين” الدمشقي، في حديثه لـ”صالون سوريا”: “لا يمكنني تحمل مسؤولية تأجير المنزل من دون الموافقة الأمنية، لا أحد مستعدٌ لتحمل مسؤولية وجود مطلوبين، أو حتى من يتعاطف مع المسلحين في منزله، هذه مسؤولية كبيرة”.

ويشير متطوع إغاثي في دمشق، يوسف بلاط (اسم مستعار) إلى أن “الجهات الأمنية تُعاقب عدداً كبيراً من المطلوبين لإجبارهم على تسليم أنفسهم من خلال اعتقال أقاربهم ممن يتوجهون إلى المقرات الأمنية للاستحصال على موافقة تخولهم استئجار منزل في العاصمة دمشق”، ويضيف: “حتى في مراكز الإيواء التي عملت فيها ومنها مركز الحرجلة في الريف الدمشقي، كان علينا كفرق إغاثية تقديم بيانات مفصلة عن النازحين إليها، وطرد بعض النازحين بالفعل بسبب خلفياتهم المناطقية وأحيانا الطائفية”.

هيئة تحرير الشام تساهم في تهاوي القطاع التعليمي في إدلب

هيئة تحرير الشام تساهم في تهاوي القطاع التعليمي في إدلب

اضطرت الطالبة صفا العلوش (١٥ عاماً) للتوقف عن تلقي الدورات التعليمية المجانية في مركز “اشراقة الغد” التعليمي، العامل في إدلب، بعد اعتذار إدارته للطلاب والطالبات المُسجلين في دوراته التعليمية المجانية، إثر رفض “حكومة الإنقاذ” الذراع المدنية لـ”هيئة تحرير الشام”، ترخيص المركز بحجة “إيقاف تراخيص المراكز التعليمية خارج إطار المدارس”.

 تنتمي صفا لعائلة نازحة من مدينة معرة النعمان ومقيمة في مدينة إدلب منذ قرابة الثلاث سنوات، دفعها ضعف قدرات أهلها المادية لاغتنام أية فرصة للحصول على تعليم مجاني في المنطقة، وهو ما تعيقه حكومة الإنقاذ، بعد إعاقتها لعمل تلك المشاريع التعليمية المجانية الهادفة.

تقول صفا أن التعليم في إدلب بات محارباً بشكل كبير بعد أن أصبح حكراً على أبناء الميسورين القادرين على دفع رسوم وتكاليف المدارس الخاصة المنتشرة في المنطقة، فيما أصبح الطلاب الفقراء في ”مهب الريح والضياع“ بحسب تعبيرها.

وأكدت أن مركز ”إشراقة الغد“ يعمل منذ خمس سنوات على تقديم دورات مهنية وتعليمية للطلاب، وخلال العام الحالي 2022 ، طُلب منه الترخيص من قبل حكومة الإنقاذ، والتي قابلت طلب المركز بالترخيص بإنه “لم يعد هناك ترخيص لأي معهد أو مركز بقرار من وزير التربية، وفي حال إقامة أي دورات سوف يتم إغلاق المركز، وهو ما حدث بالفعل حين أغلق المركز أبوابه في وجه مستقبل عشرات الطلاب الباحثين عن إكمال تعليمهم”.

وتعتمد هيئة تحرير الشام بشكل رئيسي على الرسوم في عملها بمحافظة إدلب، ويصفها البعض بأنها ”إتاوات“ حتى، والتعليم لم يكن استثناء، بل هو جزء أساسي من تلك الرسوم التي تفرض بشكل متكرر وكبير، في الوقت الذي تعاني فيه محافظة إدلب وشمال غربي سوريا، من ضعف شديد في القطاع التعليمي بسبب قلة الدعم المقدم من الجهات الدولية المانحة، بعد سيطرة ”هيئة تحرير الشام” على المنطقة.

وفريق “منسقو استجابة سوريا” أصدروا مؤخراً تقريراً تضمن تفاصيل حول ضعف الاستجابة في قطاع التعليم من قبل المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة، وأشار التقرير إلى أن نسبة العجز وصلت إلى 85 بالمئة.

وبحسب المعلم رضوان.أ، فإن ” تحرير الشام، فرضت منذ بداية العالم الماضي 2021 رسوماً مالية على جميع المدارس الخاصة، مقابل السماح لها بضم الطلاب وتقديم التعليم لهم، فيما وصلت بعض تلك الرسوم إلى أكثر من 2000 دولار عن كل مدرسة في مناطق شمال غرب سوريا، وهو ما ساهم بشكل واضح في زيادة الرسوم على الطلاب وتسرب المئات من المدارس”.

ويضيف المعلم رضوان “وحتى الامتحانات التي جرت مؤخراً، كان لهيئة تحرير الشام نصيب كبير من الأموال، حيث فرضت رسوم مالية على كل طالب أقدم على إجراء تلك الامتحانات، حيث بلغ رسوم الطالب الواحد 10 دولار أمريكي، ووصل عدد المتقدمين إلى أكثر من 30 ألف طالب وطالبة من صف الثالث الثانوي، والصف التاسع”.

ويرى المعلم رضوان.أ أن هيئة تحرير الشام تسعى إلى السيطرة الكاملة على القطاع التعليمي في إدلب، ”وبث أفكارها ومعتقداتها في عقول الطلاب، من خلال استقطابهم إلى المدارس الدينية التابعة لها، وتقديم امتيازات عدة لهم، فيما راحت تحارب المدارس الأخرى وتعمل على التضييق عليها بشتى السبل والوسائل“.

الطفل عثمان (١٢ عاماً) متسرب عن المدرسة، ويعمل في إحدى ورش تصليح السيارات في إدلب، يشير إلى أنه لم يعد يرغب بالدراسة بعد أن لاحظ مؤخراً تدهور القطاع التعليمي العام.

ويقول عثمان “المعلمون لا يحصلون على رواتب، وبالتالي يأتون للمدرسة ليوم، ويتغيبون لعشرة أيام، من أجل البحث عن أعمال أخرى يعيلون بها أسرهم، أما نحن الطلاب فنذهب للمدرسة فقط من أجل اللعب والتسلية بعد أن امتنع المعلمين عن إعطاء الدروس في كثير من الأحيان”.

عدم جدوى الدراسة المجانية دفع بعثمان كما المئات من الطلاب إلى التسرب الدراسي والبحث عن عمل يساعدهم في الحصول على قوت يومهم.

وفي بيان مشترك للمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية مهند هادي، والمدير الإقليمي لـ”يونيسف” للشرق الأوسط وشمال أفريقيا تيد شيبان، صدر عام 2021، ورد فيه أن نظام التعليم في سورية يعاني إرهاقاً كبيراً، ونقصاً في التمويل، وهو نظام مجزأ وغير قادر على توفير خدمات آمنة وعادلة ومستدامة لملايين الأطفال.

أضاف البيان أنه يوجد أكثر من 2.4 مليون طفل خارج المدرسة، حوالي 40 في المائة منهم من الفتيات، كما أن واحدة من كل ثلاث مدارس خرجت عن الخدمة داخل سورية لأنها دمرت أو تضررت أو تستخدم لأغراض عسكرية.

“الشيخة”.. تمارس الطب الشعبي 

“الشيخة”.. تمارس الطب الشعبي 

عمار، أحد زملاء الدراسة الإعدادية، بقي طيلة عام دراسي يعلّق يده إلى رقبته بسبب عدة كسور نتجت عن حادث مروري، لم تُجبر كسوره رغم تعدد العمليات الجراحية التي خضع لها لزراعة صفائح معدنية تثبت العظم، وفي نهاية المطاف جُبرت يده مع اعوجاج في العظم، ولم يكن قادراً على استخدامها كما قبل الحادث.

وبعد عدة أيام من فك الجبيرة، عاد معلقاً يده، لنعرف أنه زار امرأة توصف بـ “شيخة”، وهي سيدة تمارس “الطب الشعبي”، أو ما يسميه سكان الشرقية بـ “طب العرب”، في إشارة إلى أنه نوع خاص من المعالجات الطبية المتوارث بين القبائل العربية التي تسكن المنطقة -ولقب “شيخ – شيخة”، لا يرتبط هنا بالمعنى الديني للكلمة- وقد علمنا حينها أن “الشيخة”، قد أعادت كسر يد “عمار”، من حيث اعوجاجها، وأعادت تجبيرها بطريقتها الخاصة، لتعود يد صديقنا القديم إلى حالها ما قبل الكسر، مع تحذيرات مكررة من الشيخة ألا يحمل أوزاناً كبيرة ولا يجهد يده بعد الجبر.

علاج الحالات المستعصية

تردد ماهر لعدة أشهر إلى عيادات الأطباء بسبب معاناته مع ألم في أسفل ظهره وبطنه، تكررت الوصفات الطبية وتعددت، ووصل إلى يأس يقنعه بضرورة التعايش مع الألم، أو السفر من الحسكة إلى دمشق لمراجعة الأطباء فيها علّهم يجدون له حلاً. يقول الرجل الخمسيني لـ “صالون سوريا“: “نصحني أحد الأقارب بالتوجه لمنزل الشيخة عمشة، وبعد تردد قبلت بالفكرة، وحين وصلنا طلبت السيدة أن تنفرد بي، سألتني عن مكان الألم، وحين عرفت بمكانه طلبت مني أن أستلقي على بطني مع نزع بنطالي، ثم قامت بإدخال أصابعها عبر منطقة الشرج لتمسك بآخر عامودي الفقري، وضغطت عليه، وبعد صوت طقطقة ترافق بصرخة ألم مني غبت عن الوعي، لأفيق بعد حوالي ساعة وقد زال الألم، أخبرتني لاحقاً أن ما فعله هو (طق الصرّة) حتى يرتاح العرق وهي جملة غير مفهومة في أي قاموس طبي، لكنها جاءت بنبرة مريحة نفسياً“.

ولا يختلف حال خلود كثيراً، فاليأس من علاج مرض “الثعلبة” الذي أصاب رأسها، دفعها في آخر الأمر للبحث عن “شيخة”، تمتلك حلاً لمشكلتها، فالأطباء الذين راجعتهم جربوا عليها كل العقارات الطبية دون أن تنفع أي منها معها. تقول خلود: ”وصلت لقرية الشيخة لواقعة على طريق قديمة بين بلدتي الصور – البصيرة،  وطلبت مني أن أخلع حجابي وأجثو أمامها، وبدأت بتفريد شعري لتعرف أين (الثعلبة الأم، وما إن ميّزتها حتى قالت: (لقيتها الملعونة)، وبدأت بحكها بقطعة من قماش الجوخ بقسوة أحسست بأن غرضها اقتلاع طبقة الجلد المصابة، ثم وبعد حين شعرت بحرارة نفور الدم، أمسكت بفص ثوم، وراحت تدعكه فوق المكان ذاته، ومع إحساسي بسخونة الدمع على خدي من الألم، وضعت قطرات من الخل، ثم كررت الأمر على كل البقع المتضررة من الرأس باعتبار أنها (بنات الثعلبة الأم)، وطلبت مني أن أراجعها في اليوم التالي“.

فعلت خلود ذلك واستمرت ذات المعالجة لأسبوع ثم قالت لها الشيخة: “تعالي بعد شهر”، وعندما راجعتها بعد المدة المتفق عليها، أخبرتها الشيخة: “بلش يطلع الشعر.. طابت يا بنيتي”، لم تتقاضى أجراً كبيراً، ولم تقبل بأخذ أي ليرة سورية إلا بعد أن تأكدت من الشفاء، وكل ما أخذته حينها هو مئة ليرة سورية عن كل جلسة، يعني سبع مئة ليرة فقط ”حين قالتها شعرت بالصدمة، حيث توقعت أن تطلب رقماً لا يقل عن عشرة آلاف، فقد صنعت ما عجز عنه الأطباء: تختم خلود.

عادت عند الحاجة..

في منطقة “الكسرة”، الواقعة شرق الرقة، تعيش أم جاسم، مع من تبقى من أبنائها في البلاد، سيدة سبعينية، ولأن التواصل معها شبه مستحيل لعدم معرفتها بطريقة إمساك الهاتف كان من الضروري أن يكون التواصل مع حفيدها محمد، الذي يقول لـ “صالون سوريا“: ”قبل الحرب، لم تمارس جدتي ما ورثته عن أمها من فنون الطب إلا في نطاق الأسرة، فغالباً ما يلجأ السكان المحليون إلى الرقة أولاً، ومن ثم دمشق للاستطباب، ولكن ظروف ما بعد العام ٢٠١٣، ودخول ريف الرقة الشرقي ضمن خارطة الحرب، جعل من تحرك السكان فيه خطراً، ومع انتشار تنظيم داعش في المنطقة باتت الحركة على الطرقات خطيرة أيضاً، ولهذا السبب كان بعض سكان المنطقة يلجؤون لجدتي لتقدم لهم الخدمات العلاجية التي تعرفها، مثل تجبير الكسور وعلاج الحروق، وحبة حلب (اللشمانيا)، وكانت بعض النسوة يلجأن لها بشكايات نسائية وتقدم لهنّ العلاج، كأعشاب وخلطات طبيعية تقوي المناعة والخصوبة“.

كذلك مارست بعض النساء مهنة التوليد دون دراسة القبالة القانونية وقدمن الخدمات العلاجية للنساء، تقول عبير المحمد، أنها وضعت مولودين على يد أم علي، المرأة المسنة التي تعيش ضمن خيمة نزوح عشوائي بالقرب من مدينة ”هجين“.

وتوضح عبير التي دخلت عقدها الثالث من العمر قبل فترة بسيطة، خلال حديثها لـ “صالون سوريا“: ”حين اقترب موعد الولادة الأولى لي والذي تزامن مع معارك عنيفة شهدتها هجين في العام ٢٠١٨، توجه زوجي بسيارته إلى حيث تقطن أم علي، ليحضرها، فالسيدة التي سمعنا عنها بأنها شاطرة بطب العرب، كانت الحل الأخير في انعدام إمكانية الوصول لمشفى أو قابلة قانونية، كانت ولادتي متعسرة لكون الجنين في وضع غير مناسب للولادة الطبيعية، ومن خلال حركات تدليك متقنة بيديها ودون أي أداة تمكنت من وضعه في صورة طبيعية سهلت خروجه من الرحم، وفي الولادة الثانية وعلى الرغم من إمكانية التنقل بسهولة، كنت أنا من طلبت من زوجي أن يحضر أم علي، فهي أفهم من الدكتورة”.

بالإضافة للنساء اللواتي يعملن بـ “الطب العربي”، هناك عدد لا بأس به من الرجال الذين يمارسون هذا النوع من المعالجة أيضاً، وقد زاد نشاطهم بشكل كبير في المنطقة الشرقية خلال فترة وجود داعش وانقطاع الطرقات.

ويثق الأهالي في مناطق حوض الفرات بـ”الطب العربي”، لعدم وجود كوادر طبية كافية في المنطقة الشرقية، كما أن الوصفات العلاجية التي تمنح لهم والمكونة من “أعشاب – بذور – ثمار”، لا تدخل فيها مركبات كيميائية يمكن أن تصاب بالتلف نتيجة لسوء التخزين، ناهيك عن قلة الثقة بمصدر الأدوية التي تباع في الصيدليات المنتشرة، لكونها تأتي مهربة، من داخل أو خارج سورية، وبالتالي هي قليلة الموثوقية بالنسبة للسكان المحليين.

صالات الفن التشكيلي في سوريا: تعافي بطيء ومبيعات متدنية

صالات الفن التشكيلي في سوريا: تعافي بطيء ومبيعات متدنية

توجد علاقة توثيقية وطيدة بين الفن والحرب، فلوحات شهيرة كلوحة معركة الإسكندر الأكبر للفنان الألماني ألبرخت ألتدورفر (1480-1538) سجلت لنا ذكرى أحداث حربية هامة في تاريخ البشرية. ولكن بالرغم من الأهمية البارزة للفن التشكيلي بالتعبير عن معاناة البشر زمن النزاعات المسلحة، نجد أنه يتأثر بشدة بآثار الحرب مثل انكفاء الرسامين عن العمل، أو إغلاق المعارض ودمارها، أو نهب الإنتاجات الإبداعية. وفي الوقت الذي ترتهن حركة شراء اللوحات الفنية بالقدرة الشرائية لمواطني البلاد، نلاحظ تراجعها عندما تشهد الأخيرة انهيار اقتصادي وعقوبات الاقتصادية كما حصل في سوريا. في هذا التقرير، أسلط الضوء على واقع بيع اللوحات الفنية في دمشق في الزمن الراهن وبالمقارنة مع الفترة التي سبقت سنة ٢٠١١ وأحداث “الربيع العربي.” وأستعرض الأسباب والظروف التي أدت إلى استرداد عافية بعض صالات العرض الفنية في سوريا، وكيف تؤثر تسعيرة الدولار على السوق المحلي وعلى السعي إلى إيجاد سوق للبيع في دول الخليج العربي. أختتم التقرير بمناقشة البيع الإلكتروني ومستقبل الفن التشكيلي. 

واقع بيع اللوحات الفنية في دمشق 

يشرح الرسام عصام درويش صاحب غالوري “عشتار” و”فاتح المدرس” وضع صالات العرض في سوريا: “اضطرت عدة صالات عرض إلى إغلاق أبوابها خلال سنوات الحرب، وذلك بسبب غياب عنصر الأمان وسقوط القذائف المستمرة الذي يهدد وجودها”. ويضيف: “تعد صالة عشتار من أكثر الصالات التي صمدت تقريباً، ومع ذلك أجُبرت على إغلاقها لمدة سبع سنوات بسبب انعدام حالة الأمان وتداعيات الحرب، فقد كانت القذائف تسقط من كل حدب وصوب نظراً لموقع الصالة في العدوي بالقرب من جوبر التي كانت تدور فيها المعارك، كما أن الجو العام لم يكن يسمح بإقامة المعارض نتيجة المناخ المشحون والمليء بالموت والدماء”. 

وفيما يتعلق بأعماله الفنية، فيشير درويش إلى تغير ملموس وواضح في مسارها من أجواء تصور الحياة بشكل رومانسي قبل الحرب إلى تحولات جذرية في السنوات الأخيرة  تركز على واقع الحرب والتشوهات النفسية والجسدية مثل إنتاجات تُركز على رسم “البورتريهات” والوجوه البائسة والمعذبة والرافضة والمحتجة والخائفة.

استرداد عافية صالات العرض

بدأت صالات الفن التشكيلي تسترد عافيتها مع حلول عام 2019، عند إعلان انتهاء المعارك العسكرية في دمشق وعودة الاستقرار نسبياً إلى العاصمة، يقول درويش:” في السابق كانت معارضي التي كنت أنظمها تتراوح بين 12-20 معرضاً في السنة الواحدة، استضيف فيها أعمال الفنانين، لكني انقطعتُ سبع سنوات متواصلة، وتزامن ذلك مع انخفاض عدد المعارض ومراكز الفنون، إضافة إلى انكماش أعداد مقتني اللوحات وخفوت حضور الفنانين العرب والأجانب بشكل كبير خلال سنوات الحرب”.

وللصدفة في اليوم الذي أعيد فيه فتح صالة “فاتح المدرس” الموجودة في نادي الشرق (منتصف دمشق) سقطت بجوارها على بعد 200 متر آخر قذيفة وكأنها إعلان غير رسمي لانتهاء العمليات العسكرية. ويعلق درويش: “بدأت صالات العرض باستعادة نشاطها منذ 3 سنوات، لكنه تراجع عند وصول جائحة كورونا التي تركت أثرها على حراك الفن التشكيلي شأنها شأن القطاعات الأخرى، المميز أن جمهور المعرض كان كبيراً ومحتشداً وكأنه كان متعطشاً لرشفة فن”. ويوضح أن حركة الشراء في عام 2019 ومنتصف 2020 كانت نشطة وقوية جداً لدرجة أنها من أكثر المراحل التي زادت فيها مبيعات درويش، لكنها حركة الشراء انتكست من جديد بسبب جائحة كورونا. 

ومن جهة أخرى، فقد استعادت “غالوري جورج كامل” نشاطها في وقت أبكر من سابقتها. ويتحدث جورج كامل عن حركة المبيع لصالته التي تأسست عام 2008: “أقمتُ في شهر كانون الأول عام 2021 معرضاً جماعياً يضم قرابة 75 عملاً فنياً والعديد من الفنانين الرواد والكبار من أجيال مختلفة، كنذير نبعة وليلي نصير والياس زياد وأدهم إسماعيل ونعيم إسماعيل ومصطفى الحلاج وفاتح المدرس.” ويشير كامل إلى توقف نشاط الصالة كلياً بسبب الأوضاع الأمنية بين عامي 2012 ـ 2015، ليعود نشاط الصالة إلى العمل بعد هذا العام مكملاً لغاية الوقت الراهن بمعدل ما يقارب 6ـ8 معارض سنوياً”.

يلفت كامل إلى أن معرضه قبل سنوات الحرب كان يعيش مرحلة ذهبية لغاية عام 2012، حيث كان يحتضن حوالي 8 معارض في الفترة الممتدة بين أيلول وحزيران، بينما تُنطم في بقية الشهور ورش عمل ودورات رسم ونحت وعرض مقتنيات للزوار الأجانب والعرب المقيمين خارج سوريا.

وتجدر الإشارة إلى أن إقامة المعارض بعد فترة الانقطاع لا تعني بالضرورة حصول حركة شراء، وعن ذلك يوضح كامل: “نسبة المبيعات قليلة جداً وتقارب حوالي 1%، حركة الشراء كانت تقتصر على تغطية أجور الصالة التي تصل إلى 35% ورواتب الموظفين والنفقات الأساسية، هناك أولويات تحكم الناس كالطعام والشراب قبل اقتناء اللوحات، أما البيع عبر الإنترنت فلم يتجاوز نسبة 1 من الألف، والمشاركات السورية خارج البلاد كانت محدودة.”

تسعيرة الدولار

تخضع تسعيرة لوحات الفن التشكيلي لعملة الدولار الأمريكية المتداولة في معظم أنحاء العالم، وذلك وفقاً للجهد والوقت المبذولين لإنتاج العمل الفني، إلى جانب تكلفة المواد المستخدمة، ويشرح درويش: “البيع خارج سورية غير ميسر على الدوام، ولو كان متوفر، لفضله غالبية الفنانين على البيع في الداخل، وذلك بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، فحين يحدد صاحب العمل الفني سعر لوحته لبيعها خارج البلاد بقيمة تصل إلى 6 آلاف دولار، لا يمكنه وضع التسعيرة ذاتها في سوريا خاصة بعد انهيار الليرة السورية. مما يضطر الفنان إلى تقليص التسعيرة إلى النصف أو أقل، فيقع الفنان بين خيارين شديدا الصعوبة.” ويوضح كامل أن تحديد سعر اللوحة يتم بالليرة السورية حصراً، وتصل أسعار اللوحات في صالته بين 200 ـ 800 ألف ليرة سورية.

سوق الخليج الرائج

يلفت درويش إلى تناقص أعداد صالات العرض جراء الحرب، فلم يبق منها الآن إلا ما يقارب 10 صالات فقط، نتيجة توقف نشاط البعض منها كلياً أو تعرضها للتدمير. كما هاجر العديد من المسؤولين عن هذه الصالات والفنانين منذ بداية النزاع بسبب الوضع الأمني والاقتصادي وندرة المعارض وتراجع عدد مقتني الأعمال الفنية، فقرروا الاستقرار في الخارج، حيث حركة الشراء أكبر ومنسوب الأمان والاستقرار أعلى، ولتوفر جهات ممولة لنفقات المعارض.

لطالما اتجهت أنظار الفنانين السوريين نحو سوق الخليج لبيع أعمالهم الفنية، وذلك بسبب استثمار الأثرياء العرب في سوق اللوحات الفنية بمبالغ طائلة، لكن هذا التوجه تضاعف بشدة خلال سنوات الحرب للتعويض عن حجم الخسارة وإنعاش حراك الفن التشكيلي، ويوضح درويش: “أنتج حوالي عشرة أعمال فنية في العام الواحد، ويُعد سوق الخليج ودبي بالتحديد أحد أهم قنوات التصريف ونافذة بيع أساسية وهامة.” ويلفت صاحب غاليري “عشتار” النظر إلى انتشار ظاهرة “المقتنيات الفنية” قبل 2011 واستمرارها خلال سنوات الحرب. وتشير هذه الظاهرة إلى استضافة الرسامين المشهورين في أحد الملتقيات الثقافية من قبل أحد ذواقي الفن ممن يملك ثروة كبيرة. ويقوم هذا الذواق عادةً بدعوة الفنانين إلى إنجاز أعمال فنية منفردة مقابل مبلغ مالي رمزي، ثم يجمعها ويحتفظ بها انطلاقاً من الإيمان بدور الفن في الحياة وبهدف نشر ثقافة الفن التشكيلي.

البيع الإلكتروني

أثرت جائحة “كورونا” على حركة البيع والتجارة عموماً وتوقف نشاط المعارض بسبب إغلاق الحدود وإيقاف الرحلات الجوية، فكان خيار التسويق الإلكتروني أحد البدائل الجيدة للحد من الأثار الاقتصادية للجائحة. وكمثال على البيع الالكتروني، اتخذ الفنان التشكيلي علي داغر من مواقع التواصل الاجتماعي منصة للتسويق، لا سيما بعد انتقاله إلى بيروت، ويقول عن تجربته: “لجأتُ إلى إقامة معارض أون لاين، للأهمية الكبيرة التي تتمتع بها السوشال ميديا خاصة زمن جائحة كورونا وفترة الحظر، ولقدرة هذه الوسائل على الوصول إلى شرائح واسعة وبكلفة أقل توفر تكاليف حجز المعارض المكلفة”.

هذه المادة منشورة في جدلية

المسبح المتنقل .. ملاذ الأطفال النازحين من حر الصيف

المسبح المتنقل .. ملاذ الأطفال النازحين من حر الصيف

ضحكات الأطفال وصيحاتهم تبدد كآبة المخيم وأهله، الذين يشاهدونهم وهم يسبحون ويتراشقون بالمياه داخل سيارة “المسبح المتنقل” التي تزورهم بين الحين والآخر، لتخفف عنهم لهيب حر الصيف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة وانعدام كافة المرافق الترفيهية.

وأطلق عدد من أصحاب السيارات مبادرة “المسبح المتنقل” في المخيمات بإدلب بهدف إسعاد الأطفال وتسليتهم، والترويح عن أنفسهم، في ظل الحر الشديد، ومعاناة أهالي المخيمات من قلة المياه وافتقارهم لكافة وسائل التبريد .

عبد الحميد الابراهيم (45 عاماً) نازح من مدينة معرة النعمان إلى مخيم كفرعروق بريف إدلب الشمالي، أحد أصحاب مبادرة المسبح المتنقل، يتحدث عنها بالقول: “تفتقر المخيمات للنشاطات التي تخص الأطفال، لذلك قررت أن أساهم في زرع الابتسامة على وجوههم، وخاصة أنني أمتلك سيارة شحن هي مصدر الرزق الوحيد بالنسبة لي، ولكنني أخصصها للأطفال في أيام العطل وأوقات الفراغ، حيث أعمل على وضع عازل من النايلون في صندوق السيارة الخلفي، ثم أعمل على تعبئتها بالمياه، وأركنها في ساحة المخيم ليتسنى للأطفال السباحة فيها.”

ويؤكد الابراهيم أنه يشتري المياه على نفقته الخاصة، لكنه لا يتقاضى من الأطفال أي أجر مادي مقابل السباحة، وحول ذلك يضيف: ” تكفيني رؤية الفرح والسعادة على وجوه الأطفال الذين حرمتهم الحرب من كافة حقوقهم، وفرض عليهم النزوح واقعاً معيشياً صعباً يفتقد كافة مقومات العيش الكريم .”

من جانبه يقصد مروان العلوش (26 عاماً) وهو نازح من مدينة سراقب إلى مدينة إدلب، بسيارته التي حولها إلى مسبح متنقل، المخيمات القريبة من مكان إقامته لتسلية الأطفال، وعن ذلك يقول: “في مثل هذه الأيام من كل عام يقصد أهالي إدلب المنتزهات والمسابح بغرض الترويح عن النفس والاستجمام، ولكن ارتفاع الأسعار يمنع أصحاب الدخل المحدود ومعظم النازحين من ارتيادها، لذا قررت المساهمة في هذه المبادرة بدافع إنساني، يدفعني إلى ذلك حبي للأطفال.”

ويشير مروان إلى أنه ينظم دور السباحة للأطفال، ويتيح لهم المشاركة بمسابقات وتحديات لإسعادهم وتحفيزهم .

ويلفت العلوش أن هذه المسابح تعفي الأطفال من عناء التنقل، وتحميهم من مخاطر السباحة في المسطحات المائية الملوثة التي تشكل خطراً على حياتهم.

يستعد الطفل أحمد العوني(10 سنوات) للسباحة مع أصدقائه، وما إن تصل السيارة المسبح حتى يهرع إليها مع العديد من الأطفال بكثير من البهجة والحماسة.

يتحدث الطفل أحمد لـ“صالون سوريا “عن فرحته بالسباحة قائلا: “نعيش في هذا المخيم العشوائي الذي تنعدم فيه وسائل التسلية والترفيه، ولا قدرة لنا على ارتياد المسابح الخاصة خلال فصل الصيف بسبب ارتفاع أجرة السباحة فيها، إلى جانب خوفنا من الغرق، والحاجة لوسيلة نقل تزيد التكاليف علينا، لذا وجدنا في المسابح المتنقلة فكرة جيدة وممتعة، تخرجنا ولو قليلاً من الملل وتنسينا قسوة واقعنا .”

الطفل سالم الصالح (12 عاماً) النازح من بلدة تلمنس إلى مخيم السكة في بلدة حربنوش، يؤكد صعوبة تحمل الحر داخل الخيام، وعن ذلك يقول: “في أوقات الظهيرة أقصد مع أخوتي ظلال الأشجار القريبة من المخيم هرباً من الحر، ونضع المناشف المبللة على رؤوسنا، لذا نكون في غاية السعادة حين نشاهد سيارة المسبح المتنقل، ونقضي فيها أجمل الأوقات، كما تتيح لي الفرصة لممارسة هواية السباحة المحببة إلى قلبي .”

ويشكو سكان المخيمات من الحرارة الخانقة التي تؤثر على الأطفال بشكل خاص، لذا تساهم مبادرة المسابح المتنقل التطوعية بإدخال الفرح والسرور إلى قلوبهم، واستيعاب الأطفال الراغبين بممارسة رياضة السباحة، والتخفيف من وطأة حرّ الصيف.

للمرة الأولى، سندات الخزينة في سوق دمشق للأوراق المالية 

للمرة الأولى، سندات الخزينة في سوق دمشق للأوراق المالية 

سمحت وزارة المالية يوم الثامن من آب/أغسطس 2022 للمرة الأولى بتداول الأوراق المالية الحكومية في سوق دمشق للأوراق المالية للاكتتاب على سندات خزينة بأجل لمدة سنتين، وبنطاق إصدار مستهدف بقيمة 300 مليار ل.س (قرابة 119 مليون دولار أمريكي).

ويحق لشركات الوساطة المالية المشاركة بالمزادات والمصارف العاملة والمؤهلة للاكتتاب على هذه السندات وللأفراد الطبيعيين والاعتباريين المشاركة في المزاد من خلال فتح حساب لدى أي من الشركات أو المصارف المذكورة، بحسب بيان وزاري نقلته وكالة “سانا” للأنباء.

ووفقاً لقانون الأوراق المالية الحكومية الصادر بموجب المرسوم التشريعي 60 لعام 2007، فإن الأوراق المالية الحكومية هي أذونات وسندات الخزينة والأدوات المالية الإسلامية الصادرة عن وزارة المالية التي تسجل قيمتها الاسمية باسم المالك في السجل. ‏

وتعرّف أذونات الخزينة على أنها أوراق دين حكومية قصيرة الأجل لا يتجاوز تاريخ استحقاقها السنة، ‏في حين أن سندات الخزينة هي أوراق دين حكومية متوسطة وطويلة الأجل مدة استحقاقها أطول من سنة، ولا تتجاوز 30 سنة. ‏

وبحسب المادة العاشرة من القانون ذاته، يقتصر الاقتراض الحكومي بواسطة الأوراق المالية الحكومية على أغراض ‏تمويل عجز الموازنة العامة، وتمويل المشاريع ذات الأولوية الوطنية المدرجة في الخطط العامة للدولة، وتوفير التمويل اللازم لمواجهة الكوارث وحالات الطوارئ، ‏ وتسديد ديون مستحقة على الحكومة؛ بما فيها استبدال الدين العام القائم بأوراق مالية حكومية قابلة للتداول، ‏وإدارة السيولة الحكومية قصيرة الأجل. ‏

من جهتها، رأت وزيرة الاقتصاد والتجارة السابقة الدكتورة لمياء عاصي في تصريح لصحيفة “تشرين” المحلية أن لجوء وزارة المالية إلى استعمال أدوات الدين الحكومي، وإقامة مزادات لسندات أو أذونات خزينة، هو لتمويل المشاريع الإنمائية أو الإنفاق الاستثماري للموازنة العامة للدولة على أسس حقيقية وغير تضخمية، وكذلك لمعالجة عجز الموازنة لعام 2022، الذي بلغ 4,118 مليار ل.س

وأضافت عاصي أن السماح بتداول سندات الخزينة في سوق الأوراق المالية، “يسهل تسييلها وبيعها حسب احتياجات المستثمرين المالية وعدم انتظار موعد استحقاق هذه السندات، ما شأنه أن يحسن مرونة اقتناءها”، لكن الخطر الرئيس للاستثمار بالسندات هو المعدل المرتفع للتضخم، الذي قد يستطيع أن يأكل العائدات، ولن يحتفظ بالقوة الشرائية نفسها التي كانت للأموال وقت شراء السند.

وكانت “وزارة المالية” السورية أعلنت في كانون الأول/ديسمبر 2021 عن روزنامة إصداراتها للأوراق المالية الحكومية (سندات الخزينة) للعام 2022، بقيمة إجمالية 600 مليار ل.س (238,9 مليون دولار حسب سعر الصرف الرسمي المحدد بـ 2512 ل.س) عبر أربعة مزادات، بهدف تمويل المشاريع الاستثمارية للقطاع العام، وذلك من خلال التمويل المتوافر لدى المصارف العاملة في سورية، أو لدى الأفراد عن طرق فتح حسابات لدى هذه المصارف، بحسب بيان الوزارة على “فيسبوك”.

وفي هذا السياق، يبيّن أستاذ الاقتصاد د. مهيب صالحة، عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة العربية الدولية سابقاً، لـ”صالون سوريا” أن الاقتصاد السوري يعاني حالياً من التضخم الركودي؛ أي الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار مصحوباً بالركود الذي هو تدهور المؤشرات الاقتصادية الإنتاجية، وتراجع مؤشرات الاستثمار وارتفاع معدلات البطالة”.

كما يعاني الاقتصاد السوري أيضاً من استهلاك احتياطي الدولة من العملات الأجنبية مع توقف التصدير، وزيادة الاستيراد خصوصاً للطاقة والسلع الأساسية، بحسب د.صالحة.

ويوضح د. صالحة أن هذه المزادات ستسحب أكثر من نصف تريليون ل. س من السوق؛ ما قد يخفف من حدة التضخم فيها على المدى غير القريب، وربما تكون آثاره محدودة للغاية لأن عوامل التضخم في سورية لا تتوقف فقط على فائض الكتلة النقدية عن الكتلة السلعية في السوق؛ إنما على عوامل أخرى كتدهور سعر صرف الليرة والاحتكار، والتصدير من تحت الفائض لتأمين القطع الأجنبي. 

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحزمة من الإصدارات للأوراق المالية الحكومية هي التجربة الثالثة في تاريخ وزارة المالية بعد تجربة عام 2010، حيث أُجري فيها سبعة إصدارات للأوراق المالية الحكومية وتجربة عام 2020، ونُفذ فيها إصداران لسندات الخزينة استناداً إلى المرسوم 60 لعام 2007 الناظم لإصدار الأوراق المالية الحكومية في سورية، طبقاً لبيان “المالية”.

ويؤكد الخبير الاقتصادي أن طرح سندات حكومية في الوقت الحاضر من دون أن تصاحبه سياسات اقتصادية تحفّز الاستثمار وترشّد الانفاق العام، وتخفّض هدر الموارد وبخاصة البشرية والرأسمالية يؤدي إلى إضعاف الائتمان المصرفي وتمويل المشروعات الاستثمارية؛ علاوة على الآثار السلبية على أسعار الفائدة بالنسبة للأنواع الأخرى من الأصول المالية لأن الاستثمار في السندات الحكومية أقل خطراً، ما يترك ضغوطات على التراكم الرأسمالي، ومن ثم المزيد من الركود الاقتصادي من دون كبح جماح التضخم.

ولمواجهة الآثار السلبية المحتملة، يقترح أستاذ الاقتصاد د. مهيب صالحة إدارة الدين العام بطريقة اقتصادية، وإدارة ضريبية فعالة من جهة، وتنشيط الاستثمار في القطاع الخاص ونقل عبء التنمية إليه، “فمن دون ذلك سيتفاقم الدين العام، وسيدفع الاقتصاد والمواطنون ثمن عواقبه طويلة الأجل”.