ذاكرة الأمكنة

ذاكرة الأمكنة

*تتناول هذه المادة مشاهدات وذكريات الكاتبة عن مقهى الحجاز قبل البدء بهدم هذا الصرح التاريخي  في دمشق بداية الشهر الحالي.

يشغل مقهى الحجاز مكاناً مميزاً وكأنه عقدة الربط ما بين سوريا كلها، لدرجة تدعونا للاقتناع بأن كل ما حوله من أماكن عامة، رسمية وخاصة، قد صممت من أجله، من أجل شحنه بأعداد متجددة من البشر، بقصص لا تخفض صوتك حين تتلوها،عقدة الربط ليست مجرد بقعة محددة من الجغرافيا تتوسط المسافات، بل هي إيحاء عارم بأنك في مكانك، لا بل إن المكان ملك لك وأنت سيده وصاحبه.

 يتحول مقهى الحجاز إلى ما يتفق على تسميته بالطاحون، التي تخلط قمح الجميع بماء الحياة اليومية أملاً بالحصول على غلال مجزية، كل الدروب تؤدي إليه. وكل الأجساد تدب السير نحو هذه الملاذ الآمن بصخب وأنفاس الأعداد الكبيرة والمتنافرة من البشر، حين يكتظ المكان بالغرباء عن المدينة، تصير الغربة تفصيلاً طبيعياً. تقول لنفسك: كلنا غرباء هنا، وكأنك تقول كلنا متشابهون هنا، الغربة تجمعنا.

مقابل المقهى وزارتا الزراعة والإسكان ومؤسسة الاتصالات، وعلى امتداده القصر العدلي، ساحة المرجة، شارع خالد بن الوليد، زقاق أو شارع رامي، الإطفائية وسوق البالة وسوق الحميدية. إذن كل الدروب تؤدي الى مقهى الحجاز، وكل الدروب تبدأ منه.

يتفق المراجعون مع محاميهم على مواعيد في مقهى الحجاز، يرتبون تفاصيل الدعاوى المطلوبة، يقابلون وسطاء لإتمام معاملة الحصول على عقد آجار لأرض مستملكة أو من أملاك الدولة، ينتظرون وصول طرد بريدي أو اتصال قد تأخر.

 فقط هنا يمكنك المغادرة بعد أن منحت قدميك حصة من الراحة وبعد أن تقبلت راضياً مذعناً تأخر صاحب الموعد المزعوم دون أن تدفع ليرة واحدة.

يقابل الأصدقاء المفلسون بعضهم فيه، هنا فقط يمكنك أن تنتظر ساعة كاملة دون أن تطلب مشروباً، بذريعة أنك تنتظر صديقاً أو قريباً.

يتحول النادل في مقهى الحجاز إلى مرشد سياحي وقد يدلك على محام بارع أو معقب معاملات حاذق، وقد يدلك على عنوان فندق رخيص للإيجار.

في رحاب المكان، وأنت تمضي إلى عنوان ما في مدينتك التي تدعي أن تعرفها جيداً، تسمع صوتا يناديك مباشرة باسمك! هنا في مقهى الحجاز تتحول وأنت سائر إلى وجهتك إلى نقطة مكشوفة، لمن يجلس في عليائه على إحدى مناضد المقهى، ولو أنك لا تولي أي اهتمام برواد المقهى، تتحول مناضد المقهى إلى منصة عالية، شرفة مرتفعة تسمح للجالسين هناك بالإشراف على المشهد العام للمدينة. كل رواد المقهى منشغلون في متابعة حركة السائرين، من يجلس يراك ويناديك وكأنه في بيته، وكأنك مدعو الى بيته، لا تملك ترف الاعتذار. مقهى الحجاز هو المواعيد الدافئة غير المرتبة مسبقاً، المواعيد المقررة على عجل وبكامل اللهفة، لن يضيرك التلاعب بنصف ساعة من الوقت تقضيها مع صديق كان ينتظر عبورك، لتجددا تصاريف الصداقة المؤجلة.

 مقهى الحجاز هوالمكان الأول الذي تعرفت فيه إلى سيدة بلباس فولكلوري مميز تجلس إلى أحد كراسي المقهى بثقة عارمة. هي المرة الأولى التي أتعرف إلى آثار الحبر الأزرق موشوماً على ذقون النساء وأيديهن. المرة الأولى التي أتعرف فيها على امرأة تدخن وباكيت الدخان والقداحة مركونة في عبّها المنفلت على راحته دونما حمالة صدر. على كراسيه تعرفنا إلى لهجات دافئة، حزينة ومليئة بالأسئلة.

على كراسي المقهى تسمح لنفسك ببناء قصة لا تعرفها أصلاً، لكنك ترى شابة تبكي أو امرأة تشتم وتسعل وهي تنفث التنباك الأصلي من فمها، على مناضده تشتم القهوة الرخيصة وضيق ذات اليد والأحلام المطعونة، ترجع ظهرك إلى المسند الخشبي لكراسي الخيزران التراثية وقد تفوز بشرف كتابة سطرين أو أكثر، سترميهما لاحقاً لأنك تأكدت من سذاجة موهبتك الروائية، قد تعجب بمقطع خططته من قصة لم ولن تكتمل، قد تدقق مادتك الصحفية الأولى والأخيرة، وقد لا تفعل شيئاً إلا تمزيق الورق.

على جدرانه الخارجية يقف باعة متجولون، ملابس عتيقة، ديارة أطفال رخيصة، وكأنما ينبغي على كل خارج أو داخل إلى المقهى أن يشتري غرضاً يحتاجه، المفاصلة سهلة، والباعة كرماء، لكن على الجميع أن يشتروا ليثبتوا حضورهم في المكان، فأنت في مركز العالم، أنت في الشام الموعودة، وكل غرض منها مكسب وهدية ثمينة، ذرة مفرطة، حفارات كوسا وسكاكين هندسية لتقطيع الجزر والخيار والبطاطا.

باعة المحابس المعدنية الرخيصة، وتذكارات الحب الخشبية سيئة التنفيذ، وباعة حافظات الهوية الشخصية العادية والكريستال وحافظات شهادة السواقة وجواز السفر.

أنا في مقهى الحجاز! العنوان الأكثر إيجازاً والعصي عن أن تضيعه، الجميع سيدلك عليه، وعندما يسأل المتصل على الجهة الثانية من الخط السيدة المتصلة: (وين المقهى)؟ فتجيب بزهو وثقة:(بالشام يا ول)! وتردف: (معقول ما تعرف الشام)؟

اعتاد السوريون والسوريات على التفريط بذاكرة الأمكنة، ليس طواعية ولكن بحكم قوة الأمر الواقع، تحولوا منذ أيام الحرب الأولى ليسكنوا الحدائق العامة، في حديقة شارع الثورة أعداد غفيرة من النساء تفترش المقاعد الحجرية، حضّرن أنفسهن جيداً لمواجهة العراء بحرامات صوفية كبيرة، ذات يوم ستظن أن المكان معرض للأغطية الصوفية، إنهن مرافقات لأحفادهن المرضى أو أبناء أو أزواج يراجعون العاصمة من أجل فرصة للعلاج. هنا في نفس الحديقة وعلى أنقاض قذرة صنع أحدهم كافتيريا لبيع الشاي والقهوة، لا حوض لغسل الكؤوس مجرد وعاء بلاستيكي أو بدونه، حيث تغسل الكؤوس على عجل وبماء بلا صابون.

أرى المشهد بكل وضوح الآن، سيتحول رواد مقهى الحجاز إلى هذه المساحة الخربة، القذرة، يستبدلون الوطن المؤقت، الشام التي يعرفونها أو التي ظنوا أنهم ينتمون إليها بأماكن تتنكر للعابرين وتخنقهم في مجاهل الإهمال والغربة المتجددة.

لن يناديني أحد بإسمي وأنا أعبر من قرب ما كان اسمه مقهى الحجاز، نغرق في خنق الذاكرة ولن أستمتع بلعبة التخفي التي تمارسها القداحة في عب السيدة صاحبة اللهجة المحببة وعبارة كيفك يمه.

يفقد السوريون والسوريات فضاءهم، سيتم بناء فندق خمس نجوم هنا، قد لا نجد ممراً بعد اليوم، وستصبح التفاصيل شبحاً باهتاً للذاكرة التي تجف وتجف حتى تبلغ اليباس، وأتساءل عن سر هذا التنافر الذي سيملأ المكان، من سيسكن أو يشغل هذا الفندق سيكون غريباً أيضاً عنه وعنا.

لن نألف الوجوه الغريبة الجديدة، ولن نكون معاً في ذات المكان، تغرق الأمكنة في حالة القسوة العامة، حالة التنافر العاطفي والامتلاء بالإهمال والغربة.

 كل المراكز والأماكن التي تناغمت مع مقهى الحجاز ستفتقد معنى وجودها هنا، سيقول مراجعو القصر العدلي: لم يعد لنا مكان نجلس فيه وننتظر، تضيق مساحة الشراكة، الشام بات غريبة وموحشة، نعم! لم نعد نعرف الشام ولا تعرفنا، هي حقيقة تفرض نفسها كل يوم والشام تتنكر لنا وبقوة الأمر الواقع أيضاً.

عيادات الكترونية لتأمين المعاينات الطبية للسوريين مجاناً

عيادات الكترونية لتأمين المعاينات الطبية للسوريين مجاناً

باتت زيارة الطبيب رفاهية لا مكان لها في الوقت الراهن بسبب الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد؛ فبالتزامن مع تضاعف نفقات تشخيص الأمراض وأجور المعاينات الطبية التي وصلت عند بعض الأطباء إلى ما يعادل نصف راتب موظف حكومي، ارتفعت أيضاً أسعار الأدوية في الفترة الأخيرة إلى ما يقارب 500 %.

وفي نفس الوقت، ظهرت الكثير من المبادرات الطبية من قبل أطباء سوريين متطوعين من مختلف الاختصاصات على مواقع التواصل الاجتماعي وميدانياً، الغاية منها تقديم الاستشارة الطبية بصورة مجانية  وتوفير العلاج  لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن الناس. ومن هذه المبادرات مجموعة “صحتك نعمة”، منصة “سماعة حكيم”، ومبادرة “عقمها”، “Med Dose”منصة المجتمع الطبي.

مجوعة “صحتك نعمة”

قرر مجموعة من الأطباء إنشاء مجموعة “صحتك نعمة” وهي مجموعة مغلقة تضم حوالي 46 ألف متابع ومجموعة كبيرة من الأطباء المشرفين من مختلف الاختصاصات الطبية “جلدية، عامة، هضمية، صدرية، عينية، أطفال، بولية، نسائية، جراحية وغيرها من الاختصاصات”. تهدف المجموعة لتوفير الاستشارة الطبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي بصورة مجانية.

ويتم إرسال الحالة المرضية عبر منشور ومن ثم تتم الإجابة عليه من قبل الطبيب المختص. وكمثال على ذلك يقوم أحد الأعضاء بإرسال صورة تظهر البقع البنية التي ظهرت بصورة مفاجئة على الجلد ويطلب استشارة طبيب الجلدية، ليجيب أحد الأطباء المشرفين ويسأله عن الأعراض المرافقة لذلك ومن ثم يصف الدواء المناسب.

وعن الدور الإيجابي لهذه المجموعات، تصف ريم (26 عاماً وهي خريجة كلية التربية وتقيم في دمشق) تجربتها الإيجابية حيث وجدت من خلال المجموعة علاج لعدة مشاكل صحية تعرضت لها موضحة: “أغلب الناس أصبحت لا تستطيع الذهاب ومراجعة العيادات بسبب الفقر الذي يعم البلاد، فمن حوالي شهر كنت أعاني من التهاب في عيني اليسرى مع ظهور بقعة حمراء على بياض العين وألم، فقمت بنشر منشور شرح الحالة وما أشعر به مع إرفاق صورة لعيني، وعلى أساس ذلك قام الطبيب بتشخيص الحالة ووصف الدواء، والحمد لله في اليوم الثالث من تناول الدواء تحسنت.” وتضيف: “من فترة يومين سألت عن مشكلة جلدية لوالدتي المريضة وبدوره الطبيب المختص وصف لي الدواء المناسب وأيضاً استفدت كثيراً.”

من خلال تصفح المجموعة سوف تجد كم الجهد المبذول من قبل الأطباء لمساعدة الناس على علاج حالتهم بشكل مجاني وفي بعض الأحيان تأمين الدواء بصورة مجانية أيضاً.

وفي حال أراد المريض إرسال رسالة خاصة والاحتفاظ بسرية الحالة وخاصة إذا كانت تتضمن صوراً محرجة غير مناسب نشرها يمكن طلب الاستشارة عبر تطبيق خاص لذلك.

منصة المجتمع الطبي “Med Dose”

هي مجموعة مفتوحة تعرف عن نفسها كمنصة تهدف للنهضة بالمنظومة الصحية والطبية، وتشارك أحدث المعلومات الطبية حول العالم وتسعى لنشر الثقافة الطبية في المجتمع. تشترط المجموعة من الأطباء من المشرفين إرفاق المعلومات المنشورة بمصدر طبي موثوق مع إضافة اسم الطبيب أو الصيدلاني. وتضم المجموعة حوالي 72 ألف عضو بالإضافة إلى مجموعة من الأطباء المشرفين من مختلف الاختصاصات. تقوم المجموعة أيضاً بنشر تجارب الأطباء والصيادلة مع المرضى الذين يعانون من أمراض مختلفة وتزويد المتابع بالمعلومات الطبية الصحيحة ونفي الشائعات والمعلومات الخاطئة.

وكان الطبيب “محمد عمران” (أخصائي بالجراحة العظمية والتنظيرية وأحد الأطباء المشرفين في المنصة) قد نشر منشوراً رحب من خلاله بالمرضى في عيادته ومعاينتهم بصورة مجانية يوم الخميس من كل أسبوع  لمن لا يستطيع دفع المعاينة وأرفقه بعنوان العيادة ورقم الهاتف.

و تنشر المنصة في جانب آخر من نشاطها منشورات عن الحالات التي تحتاج لمساعدة مادية لتأمين تكلفة العلاج مثل مرضى السرطان أو مرضى كورونا بهدف جمع التبرعات اللازمة لتزويد المرضى المحتاجين بالأدوية والمعدات الطبية ضمن الظروف الصعبة من ارتفاع الأسعار التي طالت أسطوانات الأوكسجين والمواد الطبية بشكل جنوني وأدت إلى استغلال البعض لحاجة الناس لزيادة الاحتكار والأرباح.

سماعة حكيم

تعد هذه المنصة من المنصات الطبية الأشهر التي تقدم الاستشارة الطبية ويتابعها 412 ألف متابع. وبالإضافة إلى تقديم المعلومة الطبية، تنشر المنصة مقالات العلمية وأخبار أحدث التطورات الطبية. يدير هذه المجموعات فريق طبي تطوعي مكون من طلاب كلية الطب البشري وأطباء أخصائيين من مختلف القطاعات الطبية. يبلغ عدد المشرفين 150 طبيباً من مختلف المحافظات السورية. كما يهدف الفريق إلى دعم المبادرات الطبية ونشر الأخبار المتعلقة بالمشافي ونقل المعلومة الطبية الصحيحة في ظل انتشار المعلومات الطبية الخاطئة.

وأطلق مؤخراً الفريق تطبيق “سماعة حكيم” حيث يستطيع المريض طلب استشارة من طبيب مختص استناداً للأعراض الذي يشعر بها المريض ثم يتلقى أسئلة يمكن الإجابة عليها بشكل فردي، للحصول على تشخيص مشتبه به بناءً على إجابات المريض حول الأعراض التي يعانيها، وتزويده بالمعلومات الفردية التي يمكن أن يحتاجها ومراجعة الطبيب بشكل مباشر إذا استدعى الأمر. والهدف من التطبيق حسب القائمين على المجموعة هو تقديم الاستشارة الطبية مجاناً.

مبادرة “عقمها”

وهي المبادرة الأبرز في سوريا لمواجهة انتشار فايروس كورونا والتي بدأ نشاطها مع بداية انتشار فيروس كورونا في البلاد في آذار/ مارس من العام الماضي ٢٠٢٠. تسعى هذه المبادرة لتقديم الدعم الطبي والتوعية للناس من خلال شبكة من المتطوعين والمتبرعين، عبر نشر معلومات التوعية الصحية وتقديم الدعم الطبي الميداني.

بدأت الفكرة من خلال مجموعة على مواقع التواصل الاجتماعي واكتسبت شهرة واسعة في دمشق ومحيطها حيث وصل عدد متابعيها إلى ما يزيد عن 273500 عضوً. تضم المجموعة 11 مشرفاً و50 متطوعاً و20 طبيباً. وتقدم خدمة طبية هاتفية 24 ساعة، حيث يتوفر أطباء للإجابة الفورية على المرضى بما يتعلق بأعراض فيروس كورونا سواء بتقديم الاستشارة الطبية اللازمة أو تأمين طبيب يقوم بزيارة منزلية للمريض المحتاج بصورة مجانية. إضافة إلى ذلك يقوم الفريق بتأمين اسطوانات الأوكسجين للعالم المحتاجة وذلك وفق تقييم الأطباء المتواجد بالفريق، كما يتم تأمين فريق تعقيم لتعقيم المنازل التي كان لديها مصابون بفايروس كورونا.

تقدم المبادرة خدماتها عبر الساعة عبر شبكة من متطوعيها من مختلف الاختصاصات بإمكانيات محدودة وباستخدام ما توفر من تقنيات طبية بسيطة، وينوه الفريق بشكل مستمر أن الخدمات جميعها تقدم بصورة مجانية.

التسويق الهرمي في سوريا: شركات للنصب بحلة قانونية

التسويق الهرمي في سوريا: شركات للنصب بحلة قانونية

تنتشر اليوم العديد من الشركات التي تعتمد التسويق الهرمي في عملها، فما هي هذه الشركات وهل هي جديدة على السوق؟ وما مدى قانونيتها؟ هل تعتبر الاتهامات التي تطالها بأنها شركات نصب واحتيال صحيحة أم زائفة؟

يقوم مبدأ هذه الشركات على بيع مجموعة من المنتجات عبر اعتبار الزبون شريكاً في الشركة، حيث يشتري المنتج ويعمل أيضا على تسويقه؛ فالزبون بهذه الحالة هو فرد من فريق تحت اسم الشخص الذي أدخله على الشركة وبدوره يعمل الزبون لإنشاء فريقه الخاص ليكونوا تحت اسمه. وهكذا يتشكل هرم الشركة وتتوسع بنفس الطريقة، وكلما كان عدد المندرجين ضمن فريقك أو تحت اسمك كبيراً كلما ازدادت نسبة الأرباح.

يشرح لنا رائد (حلاق، 33 عاماً، وهو أحد المنتسبين لإحدى الشركات) كيفية قبول الشخص وطريقة العمل، فيقول: “إن مبدأ الشركة بسيط وواضح، أولاً لا بد للزبون الجديد من معرفة آلية العمل في الشركة والمنتجات التي تبيعها، حيث تُقام بشكل مستمر اجتماعات وندوات لتوضيح ماهية العمل، وبعد أن يقتنع بالفكرة يقوم بتحديد ما يريد شراءه من منتجات وبفتح حساب لدى الشركة ومن ثم وجب عليه أن يسوق المنتجات ويوسع دائرة العمل ويشكل فريقه الخاص حتى يحصل على نسبة من الأرباح. ويعتمد العمل بالدرجة الأولى على التسويق الالكتروني عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الشركة، وأيضاً عبر التسويق المباشر في دائرة معارف الشخص وأصدقائه أو زملاء عمله. وهذا النوع من الأعمال لا يتطلب جهداً ولا وقتاً ولا مواصفات خاصة، ويحقق أرباحاً جيدة بأقل قدر ممكن من التكاليف والتعب حتى أنه لا يعيق عن ممارسة أي وظيفة أو عمل آخر، فكل شرائح المجتمع يمكنها العمل معنا.” ويتابع قوله: “شركتنا لها فروع في الكثير من البلدان العربية والأجنبية ففكرة العمل تتعدى الحدود والدول ويمكن أن يتم تسويق المنتجات بأي بلد كان، عدا عن أن للشركة سجلات نظامية وتراخيص قانونية (لم يتسن لنا التحقق منها) وتعتمد على المصداقية في العمل والعدل في توزيع الأرباح، فكلما كان الجهد أكبر كانت النتائج أفضل”.

بالرغم من وجود مثل هذه الشركات في أغلب مدن سوريا إلا أنها تواجه حملة من الانتقادات تتهمها بأنها شركات للنصب والاحتيال تستغل جهل الناس وفقرهم لتوقع بهم وتطالب بإغلاقها ومحاسبة المسؤولين عنها.

بداية لا تعتبر الشركات الموجودة حالياً جديدة على الساحة السورية، فقد انتشرت الفكرة منذ بداية الألفية الجديدة تحت أسماء ونماذج مختلفة وإن اختلفت في بعض التفاصيل إلا أن مبدأ التسويق هو ذاته. ويجمع أغلبية من خبرها أو تورط بها بأن كل ما يمت للتسويق الهرمي يعتبر نصباً واحتيالاً دون شك من أيام الدولار الصاروخي بـ2003 حتى شركة الفينكس اليوم.

ويخبرنا أحد ضحايا هذه الشركات عن تجربته، فيقول عمر (خياط، 56 عاماً):  “تعرفت على إحدى الشركات من خلال أحد أقاربي حيث دعاني لحضور لقاء مع أحد المسؤولين في العمل للتوسع في شرح فكرة العمل والإجابة عن بعض الأسئلة. بدا المكان مرتباً وأنيقاً وكان الأثاث الفخم والموقع المميز وسط السوق يوحي بأن الشركة كبيرة وأرباحها عالية. كنا قرابة 10 أشخاص اجتمعنا مع أحد أعضائها  الذي بدا واثقاً من نفسه كثيراً. وقد أوهمنا بأسلوب جذاب ومخادع أننا سنصبح أثرياء خلال فترة قصيرة، وقام بعرض قصص وصور لأشخاص حققوا نجاحات كبيرة. كان كلامه مقنعاً حقاً وخصوصاً بعد أن عرفنا بأن الشركة مرخصة وتعمل وفق القانون وأن لها فروعاً في أكثر من بلد. وبالفعل فقد وافقت على الانضمام والعمل معهم وكان علي أن أدفع مبلغاً ما بين 100 إلى 1000 دولار حسب ما أريد شراءه من المنتجات التي يسوقونها. وبالطبع كلما كان المبلغ أكبر كلما كانت فرصة الربح أكثر. هذا ما بدا لنا في البداية دون أن ننتبه أنه فخ وعملية احتيال، فالبضاعة التي اشتريتها كانت من النوع الرديء جدا (ثياب، ساعات يد، أدوات تجميل) وكان سعرها الحقيقي في السوق أقل بما لا يقارن مع أسعار الشركة. الأمر الذي يجعل من تسويقها أمراً مستحيلاً، لذا يلجأ المسوقون أو من تورطوا في مثل هذه الأعمال إلى اختراع أي طريقة لتعويض خسائرهم كأن يورطوا أشخاصاً جدداً بالعمل أو يضيفوا قيماً كاذبة للبضاعة مثل الساعة التي تجلب الحظ أو قرص الطاقة العجيب المصنوع من مواد ثمينة وغيرها من الخرافات التي لا ينتبه لها عادة من يتورط بالدخول معهم، لأن هوس الربح والغنى السريع يكون قد أعمى بصره بالكامل.”

وفي محاولة لفهم الأبعاد القانونية والنفسية لمثل هذا النوع من الأعمال، وضح لنا نادر (37 عاماً، محامي) بعض النقاط حول ذلك قائلاً: “التسويق الهرمي ممنوع في أغلب الدول المتحضرة، فالربح مبني أساساً على خسارة الآخرين الذين غالباً ما يشكلون القاعدة العريضة لهذه الشركات، وبالتالي تنحصر الاستفادة برأس الهرم فقط، ولأنها ممنوعة ومحاربة قانونياً تلجأ هذه الشركات إلى التحايل على القانون لتغطية نشاطاتها وحقيقتها وتتوسع وتنتشر في الدول الفقيرة مستغلة الأزمات الاقتصادية وانتشار البطالة والفقر وحاجة الناس الملحة للعمل لتتصيد زبائنها. وهذا الوضع بالضبط ما جعلها تنتشر في سوريا تحت مسميات وأشكال مختلفة وخصوصاً في السنوات الأخيرة بالتزامن مع انهيار الاقتصاد وازدياد الفقر بين السوريين.” ويتابع نادر موضحاً أن: “الجهل وشدة الحاجة من أهم الأسباب التي تجعل الشخص يتورط في مثل هذه الأعمال، بالإضافة أن هذه الشركات تستخدم أساليب مدروسة في التسويق والإقناع تشتت ذهن الزبون وتحصر تفكيره بكيف سيصبح غنياً بين ليلة وضحاها، فالشخص المتورط في العمل سيسوّق للفكرة سواء من باب الاقتناع بها والسعي للربح أو لمحاولة إنقاذ نفسه بتوريط غيره ليخفف من عبء الصدمة والخسارة وإعطائها بعض المبررات بتحويلها إلى حالة مشتركة مع مجموعة بحيث يبرر الشخص لنفسه بأنه ليس وحده من تعرض للنصب إنما كثيرون غيره قد وقعوا بنفس الفخ، وهي آلية دفاعية نفسية يلجا إليها الشخص عندما يتعرض لمثل تلك الهزات العنيفة في تقييمه لنفسه بإعطائها بُعداً اجتماعياً وليس شخصياً، وهو تماماً ما تدركه هذه الشركات وتستغله لصالحها لزيادة دائرة المتورطين معها.” ويضيف نادر: “لا توجد في القانون السوري مادة واضحة تمنع أو تُجرم مثل هذه الشركات، وخصوصاً أنها تعتمد على حجج قانونية لعملها و تمارس تسويق البضائع علناً، وبموافقة وإقرار الزبون حيث العقد هو شريعة المتعاقدين كما يبرر أصحابها أو المدافعون عنها وأن لا أحد قد يجبر شخصاً على شراء شيء لا يريده.”

إذاً فهذه الشركات لا تهتم بتسويق المنتج بل بتسويق الفكرة وزيادة انتشارها وتبيع الناس أحلاماً وأوهاماً كاذبة، ومن بين الأساليب التي تستخدمها أيضاً هو ايهام الزبائن بخرافات العلوم الزائفة كالبرمجة اللغوية العصبية وقانون الجذب وغيرها وبأنها طرق ناجحة لإقناع الأشخاص بالانضمام للعمل. وحسب ادعاءاتهم فإن هذه العلوم الزائفة تجلب الحظ الجيد وتجعل نجاحك مضموناً إذا اتبعتها. ونتيجة لذلك تقوم هذه الشركات بإقامة دورات لتعليم هذه الخرافات وإعطائها هالة كبيرة باستقدام مدربين من دول أجنبية أو عربية وبذلك يتم استكمال فصول النصب والاحتيال على الزبائن وسلبهم أموالهم.

للأسف رغم افتضاح أمر التسويق الهرمي بشكل واسع وعلى مدى سنوات طويلة أيضاً، إلا أن السوريين ما يزالون يقعون في فخها إلى اليوم، ربما هو بحث دون وعي عن أي حل أو أي أمل يخرجهم من قسوة واقعهم حتى لو كانت وعوداً مستحيلة وأوهاماً كاذبة.

اللقاح والبحث عن طريقة توزيع شاملة

اللقاح والبحث عن طريقة توزيع شاملة

تساءلت منظمة “هيومان رايتس واتش – منظمة مراقبة حقوق الإنسان” في تقرير أصدرته في شهر شباط/فبراير، عن مصير اللقاح الذي يفترض أن يصل إلى سوريا، اللقاح المضاد لفايروس covid 19. ولخصت المنظمة تقريرها بعبارة: “ينبغي توسيع نطاق الوصول العادل إلى لقاح (كورونا)”، لتلحقه بجملة: “انعدام الوصول، والبنية التحتية التالفة، والتحيّز يهددون الحملة”.

تقرير المنظمة تضمن مخاوف من عدم إمكانية حصول الجميع على اللقاح، على قاعدة أنّه من حق كل شخص الحصول عليه، باعتبار أنّ الملف يخضع لاعتباري الطب والدواء، ومكافحة الوباء ضمن أطر الخطة الدولية العامة، بمعزل عن تفاصيل إضافية حاول التقرير عدم ذكرها بصورة مباشرة، على اعتبار أن جماعات كـ”النصرة”-و”تحرير الشام”، تسيطر على معظم إدلب وهي مصنفة على لائحة الإرهاب العالمي، فضلاً عن فصائل “درع الفرات” التي تعمل مع الجيش التركي في الشمال.

ما ورد في تقرير المنظمة يخلق تشابكاً في المعطيات والآليات والاستراتيجية الدوائية؛ فهناك على الساحة لاعبون دوليون في الإطارين العسكري والسياسي، ما يخلق التساؤل حول الشمال، فهل تركيا هي من تكفلت من خلف الستار طبياً بملف “درع الفرات” أولاً، وإدلب، ثانياً، على اعتبار أنّ ممثلة الصحة العالمية في دمشق أشارت بعدم إمكانية وجود اتفاقيات ثنائية مباشرة! وماذا عن مصير الأكراد تالياً والدور الذي قد تلعبه دمشق! وكل ذلك بعد الأخذ بعين الاعتبار أن موسكو تكفلت بمناطق سيطرة الحكومة السورية!

روسيا تمد سوريا بسبوتنيك VI

سجلت سوريا إلى جانب فلسطين والجزائر وتونس والإمارات، طلبها إلى موسكو بالحصول على لقاح “سبوتنيك” المعتمد منذ شهر آب/أغسطس من العام الفائت.

في الخامس والعشرين من شباط/فبراير الفائت تحدث وزير الصحة السوري “حسن غباش” عن أنّ بلاده طلبت من إحدى الدول الصديقة لقاحاً ليتم تطعيم السكان به، وجاء تصريح الوزير بعد ثلاثة أيام من إعلان مواقع صحفية روسية أن دمشق سجلت طلبها بالحصول على اللقاح. أضاف الوزير في تصريحه لوكالة الأنباء السورية أن التطعيم سيبدأ للكوادر التي تقف في الخطوط الأمامية، مشيراً أنه بحسب دراسات أثبتت أنه هناك 6.7 هي إصابات في حالات لا عرضية، وأنّ نسبة الإصابات بين الكوادر الطبية بلغت 3.6، ما يعطي انطباعاً حول مدى الانتشار بين العاملين في المجال الصحي من المعتنين بمرضى covid19.

وكانت قد أُجريت في دمشق دراسة استهدفت العاملين في القطاع الصحي بصورة مسحية شاملة، وخلصت الدراسة بالاستناد إلى معطيات البروتوكول العالمي أنّ تطعيم العاملين هو أولوية مرحلية، سيما أولئك الذين تخطوا 55 عاماً، فضلاً عن ذوي الأمراض المزمنة.

وأشارت مصادر مطلعة أنّ الحديث العام عن أرقام الإصابات وما تؤكده الوزارة مراراً لا يعتمد على الشروط المنطقية في ظل النقص الكبير في عدد المسحات، وبالتالي عدم منهجية البحث في المسح العام على مختلف الشرائح، إلا أنّ المسح للكوادر الطبية يبدو دقيقاً، بسبب حصر عدد العاملين والمستشفيات ومعرفة الواقع الصحي من ناحية القوى العاملة. وفي إطار متصل يتحدث مواطنون عن مخاوفهم من الانتقائية في توزيع اللقاح، في مرحلة ما بعد تطعيم الكوادر المستهدفة.

“أسترازينكا” الإنكليزي للشمال الغربي

تقدمت مناطق الشمال الغربي في سوريا، الخارجة عن سيطرة الحكومة، بطلب رسمي إلى مبادرة “كوفاكس”، التابعة لبرنامج “الصحة العالمي”، للحصول على لقاح covid19، بعد أن كانت قد سجلت مناطق إدلب تراجعاً ملحوظاً في تسجيل إصابات كورونا خلال الأسابيع الفائتة، في انتظار وصول لقاح “أكسفورد-أسترازينكا” الإنكليزي، في الأيام المقبلة.

و أجرت مناطق الشمال الغربي تنسيقاً حثيثاً مع كل من اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية للحصول على اللقاح، ولا زالت بانتظار الترتيب البروتوكولي مع مبادرة “كوفاكس”، بحسب تقارير صحفية. وسيستهدف اللقاح إدلب وريف حلب الشمالي، على أن يتم التطعيم على ثلاث دفعات، الأولى تستهدف نحو 20% من السكان على أربع دفعات أو أقل، وكذلك الحال فإنّ الأولوية ستكون للعاملين في القطاع الصحي وكبار العمر، وقد يصل عدد الجرعات إلى نحو مليوني جرعة، تكفي نحو 900 إلى 950 ألف نسمة.

ومن جانبها ترى دمشق أنّ العدد مبالغ به في إدلب، وترفع تساؤلاً حول إمكانية أنّ يكون التواصل شرعياً مع اليونيسيف ومنظمة الصحة على اعتبار أن النصرة تبسط سيطرتها بالقوة على الشمال الغربي.

وأشار مصدر مطلع في تصريح لنا أن اللقاح يجب أن يكون متاحاً لجميع المدنيين، وأنّ دمشق لن تدخر جهداً في حماية رعاياها، وتؤكد موقفها ذلك من خلال فتحها المستمر للمعابر لخروج العائلات والأفراد من مناطق سيطرة الفصائل إلى مناطق سيطرة الحكومة. وأضاف المصدر أنه: “بطبيعة الحال لا مشكلة لدينا مع أحد من سكان سوريا، بل إنّ السلطات مستعدة لاحتضان الجميع، وهذا ما نعول عليه منذ بداية الحرب، إذ لا مكان للأحقاد الشخصية في الملف السوري، وهذا يتضح من معاملتنا للهاربين من مناطق سيطرة المسلحين”.

“قسد” دون لقاح حتى الآن

تسيطر قوات سوريا الديمقراطية الكردية المعروفة بـ”قسد” على مناطق شمال، وشمال غرب سوريا، وتنتظر بدورها أي فرصةٍ للحصول على اللقاح، في ظل ضبابية تامةً للمشهد الدوائي المستقبلي هناك، ويتضح من التحركات الكردية أنّها تعول بالدرجة الأولى في الحصول عليه عبر مخاطبة منظمة الصحة العالمية، وفي هذا الحال فمن الممكن أن يمر اللقاح عبر دمشق، وهو الأمر الذي ما زال قيد المتابعة.

أكدت الدكتورة أكجمال ماجتيموفا (ممثلة منظمة الصحة العالمية في دمشق) في مقابلة سابقة مع “رويترز” أنها تأمل أن تبدأ حملة التلقيح في أبريل (نيسان)، لكنها نبهت أن الأمر قد يستغرق وقتاً أطول اعتماداً على عدة عوامل وامور مجهولة حالياً.

وأكدت ماجتيموفا في حديثها أنّ أي إمدادات لعدد أكبر من اللقاحات الآمنة والفعالة التي تستطيع سوريا الحصول عليها ستعتمد على اتفاقات ثنائية وليس لمنظمة الصحة العالمية أي دور في هكذا نوع من الاتفاقات.

حسان عباس في ذاته المغايرة

حسان عباس في ذاته المغايرة

نعتَ شاعرُنا العربي الكبير المتنبي الموتَ بالغدر، واعتبره أيضاً ضرباً من القتل، في بيته الشهير الذي يقول فيه:
إذا ما تأمَّلْتَ الزمانَ وصرفَه
تَيقَّنْتَ أن الموتَ ضربٌ من القتل
وهو فعلاً نوع من القتل حين يستهدفُ شخصيات فكرية وإبداعية لم تتوقف يوماً عن العمل من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل باذلة من أجل ذلك الغالي والرخيص، ومفضلة حياة المنفى على حياة الذل والخضوع. وإذا لم يمتلك المرء إيماناً دينياً من نوع ما سيبدو له الوجود لعبة ومسرحاً عبثياً لموت متواصل، فيما الحياة الحرة الكريمة، حياة الحقوق والمواطنة والاختيار، حياة التغيير والتجدد شبه منعدمة، والسبب في ذلك طبيعة النظام الاستبدادي السائد، وطبيعة جزء كبير من الفكر السياسي المعارض السائد والاثنان لا يكفان في منطقتنا عن الصدور عن بنية واحدة، أو بحسب الفكرة الألتوسيرية، عن البنية الإيديولوجية والتي يحدث فيها تواطؤ مريب: أي تتواطأ العائلة والمدرسة والإعلام والمسجد والنقابات والأحزاب التوفيقية والقوانين والمنظومات والعادات والتقاليد والأجهزة القمعية بمختلف أنواعها في تشكيلها، وبالتالي تسهم في ولادة الإنسان الممتثل والخاضع والخائف من التغيير والقابل للواقع السائد بكل إكراهاته، وهكذا يخرج الحاكم وكثير من معارضيه من المنظومة نفسها. إلا أن هذا يجب ألا يكون مدعاة للتشاؤم والسوداوية وموت الأمل، بل يجب أن نكون كما قال المسرحي السوري العظيم سعد الله ونوس محكومين بالأمل، وإذا كانت البنية تتحكم وتُنتج وتفرض نظرة الإنسان إلى الوجود والثقافة التي تحد من خياراته، وتدعوه للامتثال إلا أن وعيه لذاته وتمرده عليها، وبالتالي تمرده على البنية – الرحم يؤدي إلى ولادة ذاته المغايرة كإنسان حر رافض لذاته كنتاج للبنية، وبالتالي ولادته وانبعاثه من ذاته القديمة الموروثة في ذات جديدة، ذات الإنسان الرافض للواقع السائد والمنادي بتغييره. هذه الولادة الجديدة للذات السورية المغايرة حقّقها وجسّدها حسان عباس، الذي توفي أمس إثر صراع مع مرض عضال، مات لكنه وُلد في الفكر المتحول والذي لا يموت والذي هو وحده القادر على إنقاذ سوريا من الموت. فقد رفض أن يكون نتاج البنية التقليدية التي تصنع الإنسان الممتثل المهادن والقابل للأمر الواقع، وقرر أن يكون ذاتاً جديدة تنادي بالتغيير، وبالتالي كان صوت ذاته الجديدة والتي وضعتْهُ على المسار الفكري الصحيح، مسار نقد الأوضاع السائدة وتأصّلها في الثقافة الموروثة، وحين حدثت الانتفاضة السورية أعلن على الفور وقوفه مع خطها المدني لكنه لم يهادن الخطوط الأخرى التي التهمتها وحافظ على موقفه النقدي مشدداً على دور الكتاب والتربية والتعليم والإبداع الفكري والأدبي والفني الموسيقي والسينمائي والعمل الثقافي الدؤوب القائم على البحث المعرفي في خلق ثقافة تنويرية بديلة هي التي ستنقذ المنطقة من التهاوي المتواصل في ظلام الاستبداد والفكر الأصولي.

كانت معرفتي بحسان عباس جيدة جداً، وحين كان في المعهد الفرنسي، وجه لي دعوة مع بعض الشعراء الشباب الآخرين لإحياء أمسية شعرية ونقاش مفتوح مع الحضور، كانت هذه أول أمسية شعرية لي في دمشق، وبالتالي أن تكون الدعوة موجهة من حسان عباس فهذا يعني أن هناك سبباً وراءها والسبب هو أنه كان يؤمن بالعمل الثقافي والإبداعي وبضرورة دعم المواهب الشابة ووضعها في سياق ثقافي مختلف في وقت كانت فيه المراكز الثقافية الرسمية (باستثناء بعض المراكز التي لعبتْ فيها المبادرات الشخصية دوراً لافتاً) لا تعبر عن نبض الإبداع السوري، لا يعني هذا أن المعهد الفرنسي يجب أن يكون بديلاً، بل أنه قد يكون بديلاً مهماً حين تكون فيه قامة مهمة كقامة حسان عباس، تفهم ألاعيب القوة وتعرف كيف تفتح منافذ الاستقلالية والخصوصية. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد كان حسان عباس شعلة ثقافية حية استطاعت أن تؤسس لجو ثقافي بديل في وقت كانت فيه روح الشباب تبحث عن منافذ لها خارج التدجين الثقافي العام الذي سُلط عليه سيف الرقابة.
لم يكن حسان عباس في أيامه الأخيرة متفائلاً كما كان في ٢٠١١، لكنه حين رأى أن الحل الأمني سلك طرقاً شرسة وعنيفة أدت إلى وأد النزعة المدنية وتحويلها إلى تيار ديني متطرف، وبعد أن تحولت الصرخة المدنية إلى خطبة دينية، وانفتح باب العسكرة على مصراعيه، ووُلد التطرف الديني ودخل مالُ النفط الخليجي على الخط واشتُريت الذمم واستُلبت الإرادات، وأُفْسدت النفوس وتفككت الدولة وفقدت أراضيها وتجسدت في ميلشيات وتجسدت المعارضة في جماعات أصولية يقودها أشخاص على صلة بالقاعدة، وصار الحلفاء أصحاب القرار في البلد، لم ير حسان عباس المستقبل مشرقاً ومضيئاً، وتحدث في حوار أجراه معه منذ مدة قصيرة ”معهد حرمون للدراسات المعاصرة” عن ”مشهد عبثي“، ولم ير أية صورة مشرقة وردية لمستقبل سوريا القريب، وكان الشيء الوحيد الذي تخيله صورة كارثية تعكس بلداً ممزقاً دولته فاشلة وسيادته مُنتهكة ومجتمعه متصدّع طائفياً واقتصاده منهار ويواصل انهياره. غير أن حسان عباس لم يكن من النوع المتشائم وهذه ميزة المثقف العضوي التغييري المحب لشعبه، لهذا نوه في الحوار نفسه أن الصورة العبثية التي يتحدث عنها هي صورة سورية في المستقبل القريب، وليست سورية المستقبل، التي يجب أن يعمل السوريون الحقيقيون على أن تُعمَّر من جديد، وبإرادة سورية مستقلة، بعيداً عن الإملاءات الخارجية. ولهذا كان حسان عباس يرى منذ البداية، أي منذ بداية كتاباته حول الشأن السوري أن العمل الثقافي التنويري هو الجوهر الأساس في كل شيء، إذ لا يمكنك أن تغيّر مجتمعاً إذا لم تُغير رؤيته للعالم والحياة، إذا لم تُفْهمهُ أنه ما يزال تحت المجتمع، وأن عليه أن يكون مجتمعاً بالمعنى الحقيقي والمدني للكلمة. وكي تغير هذه الرؤية عليك أن تكون مخلصاً للمبدأ الفلسفي اليوناني: اعرفْ نفسك، و أن تفكر بكيفية ولادة ذوات جديدة، ذوات قادرة على أن تتمرد على نفسها كنتاج للبنية اللاشعورية، ذوات لا يمكن أن تعاود المنظومات القديمة إنتاج نفسها من خلالها وبالتالي هي ذوات تنويرية تمتلك رؤية جديدة للتغيير، تتمرد على نفسها وتتحرر وتُجسِّد أخلاق الحقيقة ومقاومة الاستبداد السياسي والتطرف الديني، ولا مستقبل لسوريا إلا بتحطيم هذه البنية والتي صارت في منطقتنا، نبع الاستبداد والتطرف سواء أكان يرتدي بدلة العلمانية أم عباءة دينية.
قضى حسان عباس لكن آراءه  لن تموت وهي التي أبدعتها ذات حقيقية مغايرة أنجبت نفسها في سياق البحث عن الحقيقة وفي تجسيدها للصوت المقاوم لكل أشكال الاستبداد والتخلف، وهي دوماً ستشكل زوادة لكل مُنْجبٍ لنفسهِ وصاقلٍ لها، ولكل رحالة على دروب التغيير السياسي، ولكل باحث عن الحقيقة خارج المسرح الإيديولوجي المليء بالأكاذيب والتشويهات، مسرح العبث السوري حيث الخريطة نفسها تبدو كما لو أن خطوطها تتحرك بشكل سريالي أو تدور كدواليب اليانصيب فلا نعرف على ماذا سيتوقف الرقم أو إذا كان سيتوقف في المستقبل القريب.
قضى حسان عباس من ورم خبيث غير أنه لم يكن رقماً عابراً، كان صوتاً منقذاً ومداوياً، هذا الصوت الحر الذي، في سيمفونية إبداعية وحرة مع أصوات سورية أخرى حرة مُنقذة، سيظل يعمل على مداواة الجسد السوري من ورم الاستبداد والتطرف.

شهادات أطباء متضاربة حول أداء المستشفيات خلال جائحة كوفيد-١٩

شهادات أطباء متضاربة حول أداء المستشفيات خلال جائحة كوفيد-١٩

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

في منتصف شهر آذار/2020 أعلنت وزارة الصحة السورية عن  أول حالة إصابة بفيروس كوفيد 19، تعود لشخص قادم من خارج البلاد، وسط إجراءات صارمة للوقاية من انتشار الفيروس المستجد. هذه الإجراءات هي ذاتها أصبحت موضع شك وقلة ثقة تحكمان الشارع السوري، خاصة في ظل بلاد خرجت للتو من حرب امتدت لـ 9 سنوات، خلفت وراءها رضوضاً في الجسم الطبي واستنزفت طاقته، بدءاً من هجرة العديد من الكفاءات الطبية وصولاً إلى تدمير الكثير من المشافي والمستوصفات والبنى التحتية، لتأتي بعدها العقوبات الأمريكية لتشد الخناق على عنق الاقتصاد السوري مما حال دون استيراد جملة من الأدوية والمواد الخام الداخلة في الصناعات الدوائية.

هناك شبه إجماع لدى السوريين على عدم كفاءة وجاهزية المستشفيات العامة للتعاطي مع فيروس كورونا. وفي هذا الإطار قمتُ باجراء لقاءات مع عدة أطباء تحدثوا بشكل متضارب حول إجراءات التعقيم ونقص الأدوية والأطباء ومستوى الجاهزية وفق مشاهداتهم اليومية خلال فترة الجائحة. وتقول سهيل (طبيبة ـ 28 عاما ) التي فضلت عدم الكشف عن اسم المشفى الحكومي الذي تعمل فيه: “في بداية الجائحة كان الاهتمام ملحوظاً ومكثفاً، إذ كانت المستشفى تخضع للتعقيم اليومي والمستمر كل أربع ساعات، وجميع الأطباء والممرضين كانوا متحمسين ويلتزمون بالكمامات والقفازات مع تبديلها باستمرار، كما كان يمنع على المرضى الدخول بدون وضع الكمامة”. غير أن هذا الاهتمام خف تدريجياً نتيجة إصابة الأطباء والمرضى معاً بالملل وفقدان الحماس وسلموا أمرهم للعناية الإلهية، بالإضافة الى ترديدهم الجملة المعتادة: “لقد أصبنا بالفيروس ونجونا منه، لدينا مناعة لأشهر عديدة”، وفقاً لكلام الطبيبة.

 تشير الطبيبة إلى مرور المستشفى بفترة من الفترات بمرحلة نقص في أعداد الكمامات، ما دفع الأطباء إلى شرائها على نفقتهم الخاصة، إذ تقول: “واجهت المستشفى نقصاً حاداً بكمامات نوع N95 كما كان يتم احتكارها من قبل الإداريين الذين هم أقل احتكاكاً مع المرضى، فيما وزعت الكمامات نوع 95 الأقل حماية على الأطباء ويسمح لنا بواحدة فقط مع أنه يتوجب علينا تبديلها كل 4 ساعات، وعندما اعترضنا على ذلك، كانوا يجيبون أن السبب هو وجود طلب كبير على الكمامات يقابلها عراقيل باستلام الكمامات جراء العقوبات الاقتصادية على البلاد”. أضافت أنها مرة  سمعت إدارة المستشفى تقدم النصح بالمواظبة على الكمامات العادية والاكتفاء بها حالياً، لتستخدم الكمامات الأعلى حماية عند ذروة الجائحة والحالات الطارئة، وذلك حسب كلامها.

ولا تنكر سهيل وجود تعقيم على الدوام في المستشفى التي تعمل فيها، حيث يتم تغيير ملاءات السرير وتنظيف أعمدته وذلك عقب تخريج  كل مريض(كورونا)، إلى جانب رمي كل الأدوات التي استعملها في القمامة. أما متابعة حالة المريض من قبل الأطباء فهذا أمر “نسبي”، إذ تقول: “هناك أطباء أنانيون كانوا يخشون على أنفسهم التقاط العدوى متجنبين الاحتكاك الكثير بالمصاب، فيكتفون بالاطمئنان عليه مرة واحدة يومياً، إلا إذا ساءت حالته، بالمقابل، يوجد أطباء يطمئنون على المريض كل ساعتين ومتأهبين طوال 24 ساعة”.

عانت معظم المستشفيات الحكومية لبرهة من الزمن من نقص في أدوية الالتهاب وفيتامين سي ودال الضروريين لرفع مناعة الجسم والكمامات والشاس المعقم وسيرومات (مَصل) طبية، إلى جانب أسطوانات أكسجين بمأخذين للهواء.

تتحدث نهاد عن تجربتها كطبيبة في مواجهة فيروس “كورونا” في مستشفى عام رفضتأيضاً الكشف عن اسمها، حيث تبدأ الشابة بالكوادر الطبية والضغط الشديد عليها، لاسيما في فترات الذروة التي شهدتها سوريا، وتقول: “في شهر 12 عام 2020، كانت الموجة الثالثةقد بدأت، فكنتُ وثلاثة أطباء في قسم العزل نواجه مشقات كبيرة من ناحية ارتفاع عدد المرضى مقابل عدد الأطباء، حيث كان لكل طبيب 5 مرضى وأكثر يتولى الإشراف عليهم، وهذا ضغط كبير علينا”، لافتة إلى قيام المستشفى في كثير من الأحيان باستدعاء أطباء من أقسام أخرى لتفادي حصول نقص في قسم عزل مرضى كورونا.

تحدي آخر واجه المستشفى عموماً، والطبيبة خاصة، هو التدهور المفاجئ لحالة المريض، ما يتطلب مهارة عالية في “التنبيب” وهو إجراء يتطلب مهارة عالية يتم من خلاله تأمين مجرى هوائي عبر إدخال أنبوب من الحنجرة إلى رئة المريض قبل وضعه واختيار إعدادات جهاز التنفس الاصطناعي المناسبة له، وتتابع حديثها: “أمر مرعب بالنسبة لنا كأطباء مواجهةمرض جديد ومجهول ومتحول، لا نعرف عنه شيئاً، خاصة في بلد كسورية ينتمي للبلدان النامية والتي خرجت  منهكة من حرب طويلة، فاختيار الإعدادات المناسبة وفقاً لحالة كل مريض ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى خبرة ودقة عاليتين”.

“لقد أصبنا بالفيروس ولا داعي للتعقيم الشديد”، هذا هو المبدأ السائد لدى العديد من الأطباء في غالبية المستشفيات الحكومية وربما الخاصة أيضاً، وتقول الطبيبة جورجيت التي تعمل في إحداها متحفظة عن ذكر الاسم: “انطلاقاً من أن الجسم البشري أصيب بالعدوى، ويحتوي على أجسام مضادة تحميه لأشهر قادمة، فلا ضرورة للمغالاة في إجراءات التعقيم بالرغم من توفرها، هذا هو ما يفكر به العديد من الأطباء هنا”. وعن وضع التعقيم في المستشفى، تجيب الطبيبة بأنه: “سابقاً كانت الاجراءات صارمة وتتسم بالالتزام، لكنها الآن أصبحت عادية، لا تليق بوضع وبائي، كأننا في أيام طبيعية، وأصبح يُسمح بزيارة المصابين في قسم العزل والاختلاط معهم في الآونة الأخيرة”.

هذا الواقع  الخدمي الطبي ليس معمماً بالضرورة، بل مازال شديد الصرامة لغاية الآن بالرغم من مرور عام على انتشار فيروس “كورونا”، إذ ينفي الطبيب باسل حصول إهمال وتقصير في المستشفى الذي يعمل فيه يومياً ويقول عن تجربته: “مازالت إدارة المستشفى تعاقب الكادر الطبي من غير الملتزمين بأساليب الوقاية، ويمنع منعا باتاً على الأطباء ممن يدخلون قسم العزل الاحتكاك مع زملائهم وعليهم التقيد بكافة وسائل التعقيم وعدم السماح للمصابين بمخالطة ذويهم وأقربائهم قبل شفائهم كلياً”.