القانون 10 وسرقة عقاراتِ السوريين

القانون 10 وسرقة عقاراتِ السوريين

أثار إصدار الرئيس السوري بشار الأسد للقانون 10، المتعلق بإحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، استهجاناً واسعاً، كونه تزامن مع سيطرة النظام على الغوطة الشرقية، بعد إخلائها من المعارضين. وقبله صدرت عدة مراسيم عقارية تفوقه خطورة، ويمكن اعتباره ناظماً لها، ومكملاً، كونه يشمل كامل الأراضي السورية.

القانون سيوفر إطاراً رسمياً لإحالة ملكية الأراضي إلى الحكومة السورية، التي تتمتع بسلطة منح العقود وإعادة الإعمار والتطوير لشركات أو مستثمرين، مجهولي الجنسية، وتعويض المواطنين على شكل حصص في المناطق التنظيمية.

قد يكون صدور مراسيم بإحداث مناطق تنظيمية أمراً طبيعياً في بلد لا يشهد حرباً ونزوحاً جماعياً، وصراعات بين احتلالات متعددة، لكن النظام السوري يستغل غياب أكثر من ثمانية ملايين من السوريين المهجّرين في الخارج، وأغلبهم في تركيا وألمانيا، وهم من سكان المناطق التي دمّرها النظام، وهي التي ستستهدفها المراسيم التي تحدَّث عنها القانون 10، ومنهم مطلوبون للنظام، ومنهم مغيبون في السجون، وبالتالي هم محرومون من تسيير المعاملات في مؤسسات الدولة؛ حيث أعطى القانون مدة لا تزيد عن الشهرين لتثبيت الملكية، وهي غير كافية للمقيمين في الخارج، حيث تتطلب إجراءات الوكالة وقتاً طويلاً لتصديقها من السفارات والقنصليات، وكلفة مالية أيضاً، وسط تعقيدات مقصودة تفرضها الأجهزة الأمنية على تصديق الوكالات الخارجية.

في تركيا لا يمكن عمل الوكالة دون امتلاك الموكِّل جواز سفر، وتكاليف الوكالة تبلغ 150 ليرة تركية/ 36 دولار لحجز موعد لدى القنصلية السورية، بالإضافة إلى رسومٍ تصل إلى 125 دولاراً. أما استخراج جواز السفر لدى القنصلية فيكلف 425 دولاراً ويحتاج 3 أشهر، وإذا كان مستعجَلاً فيصدر خلال شهر واحد بكلفة 925 دولاراً، هذا لمن تجاوز عمره ال42 سنة! أما إذا كان عمر صاحب العلاقة بين 18-42 سنة فيتطلب منه إحضار دفتر خدمة العلم، أو شهادة تأدية الخدمة في حال إنهائها. وفي حال كان صاحب العلاقة مطلوباً فيمكنه عمل الطلب، لكن لا ضمانات لقبولها لدى الحكومة السورية في دمشق. وإجراء معاملة تسوية الوضع تتطلب موعداً مع القنصلية بقيمة 150 ليرة تركية/ 36 دولاراً، وانتظار الموافقة تتراوح بين 3-6 أشهر(1).

يتوجب على مالك العقارات المقيم في تركيا دفع كل تلك المبالغ لمحاولة تثبيت ملكيته لعقاره، وقد يعود الرد بالرفض. لكن هذه المبالغ بالنظر للعدد الكبير للاجئين، ستشكل مبالغ مهمة ستعود إلى خزينة حكومة النظام، وبالتالي قد تشكل لوحدها هدفاً يسهم في إنقاذ الوضع المتآكل لاقتصاد النظام، والذي باتت العائدات الضريبية المتزايدة باستمرار تشكّل مورده الأساسي. إن أي عملية بيع أو توكيل أو إثبات ملكية أو تسجيل العقار في مديرية المالية يحتاج إلى براءة ذمة مالية للمالك، وهي تشمل كل ما عليه من فواتير أو مخالفات سير أو ضرائب لم يقم بتسديدها.

وفي ألمانيا لا يستطيع اللاجئ السوري دخول السفارة السورية، لأنه سيُعدُّ بنظر الحكومة الألمانية غير مطلوب للنظام، وبالتالي قد يتوجب عليه العودة (2). وحسب المجلس النرويجي للاجئين فإن 70 بالمئة من اللاجئين يفتقرون إلى وثائق التعريف الأساسية.

المشكلة في القانون 10 ليست في توقيته فقط، بل في تفاصيله أيضاً. يمكن وصف القانون بأنه فوقي، فالمخططات التنظيمية تُفرض من السلطات العليا، عبر اقتراح وزارة الإدارة المحلية والبيئة في الحكومة المعينة من قبل الرئيس، حسب المادة الأولى منه (3)، ولا دور للمجالس المحلية فيه أو مديريات الخدمات الفنية وقراراتها المتعلقة بأسس التخطيط العمراني. وهذا بعكس ما كان معمولاً به سابقاً؛ فقد كان المجلس المحلي المنتخب من الأهالي، باعتباره أعلى سلطة، هو من يقوم باقتراح تعديل مخطط تنظيمي للمنطقة، وغالباً بسبب الحاجة إلى توسيعها. وكان يُعرض المخطط على أهالي المنطقة للاطلاع عليه، ويتاح لهم تقديم اعتراضاتهم للجنة مؤلفة من 11 عضواً من عدة وزارات وإدارات لدراسة الطعون؛ والقانون لم يلحظ هذه اللجنة كليةً. وبالتالي هو ليس في مصلحة السكان، وسيتضرر منه المؤيدون أيضاً.

المادة 22/12 من القانون تحوّل المالكين الأصليين المستقلين في السجل العقاري إلى مالكين لحصص سهمية تنظيمية شائعة؛ و حسب المادة 29/17، عليه إما التخصص بمقاسم، أو أن يكون جزءاً من شركة مساهمة بصفة شريك على الشيوع، وفي حال الرفض تقوم الوحدة الإدارية، ببيع أسهمه في المزاد العلني، والمستفيد طبعاً سيكون شركات مختصة اعتبارية، مجهولة حتى الآن.

القانون تعامل مع الملكية على أساس الملكية الثابتة في السجل العقاري (4)، والواقع أن الكثير من الأملاك، تقع في مناطق المخالفات، حيث تراكَمَ تقاعس الحكومة لسنوات عن تنظيمها عقارياً، ولا تتعدى الوثائق الموجودة لدى المالكين عقوداً شخصية أو إيصالات اشتراك بالكهرباء والماء، أو وثيقة “وضع يد”، ما يصعّب عملية إثبات الملكية.

المادة 21/11 من القانون تتيح اقتطاع ملكيات خاصة من أجل المنفعة العامة دون تعويض مالي، وهذا مخالف للدستور السوري الذي ينصّ على تعويض مالي عادل في حال انتزاع ملكيات فردية للمصلحة العامة (5).

المرسوم 66 لعام 2012 كان يستهدف منطقتي بساتين الرازي وتنظيم كفرسوسة، ضمن ما سمّيَ “ماروتا ستي”، وتتحدث الحكومة عن مشروع مشابه في بابا عمرو بحمص، وفي حلب الشرقية. أما داريا، التي لم يُسمح بتاتاً بعودة السكان إليها، فالاقتراحات تقول بمشاريع أبراج، وبضمها إلى محافظة دمشق. في حين أن الترجيحات في مجلس محافظة دمشق  تقترح أنّ عمليات تجهيز مدخل العاصمة ستبدأ بالقابون وحي تشرين (6).

هذا القانون وما سبقه من مراسيم يفتح الأبواب أمام اللصوص، ممن دعموا النظام، لاستملاك عقارات السوريين؛ فهو يتيح دخول شركات تطويرعقاري، وشركات مساهمة مغفلة، دون أي ذكر لطبيعة هذه الشركات المجهولة وجنسياتها، والتي ستملك حصصاً ونسباً ومقاسم عن التنظيم، وتؤسس كيانها داخل هذه المناطق التنفيذية، بحجة تنفيذ المرافق العامة والبنى التحتية.

وقد تشهد الأشهر القادمة صراعات بين الحليفين الروسي والإيراني حول حصص كلّ طرف، مع توقعات بتراجع نصيب الطرف الإيراني بعد القرار الأمريكي الإسرائيلي الأخير بإخراجها من سوريا. فالنظام هدفه الانتقام من معارضيه، وروسيا تريد ضرب التجانس الشعبي في المناطق التي ثارت، حتى لا تتمكن من تجديد الاعتراضات على ما ستفرضه من سياسات تفقيرية مستقبلاً، وإيران تتطلع إلى مخيم اليرموك المحاذي لمنطقة السيدة زينب، بعد السيطرة عليه، لتوسيع السياحة الدينية، وهي تريد زيادة نفوذها في سورية عبر البوابة الطائفية.

الحكومة الألمانية عبّرت عن استيائها من القانون، ووصفته “بالغدر”. فألمانيا أكثر القلقين من تلك الإجراءات التي ستقلل فرص عودة المهاجرين، خاصة أنها تدرس إعادة 200 ألف لاجئ سوري كخطوة أولى.

الأمم المتحدة، التي لم تتخذ أي خطوات لإيقاف المجازر ضد الشعب السوري، مازالت تعترف بالنظام الذي يشغل مقعداً لديها، ويصدر المراسيم والقوانين في مناطق وجوده، وبالتالي هي تعترف بشرعيته. رغم ذلك يرى بعض الحقوقيين المعارضين أنّ أي خطوات يقوم بها مواطنون سوريون، لإثبات ملكيتهم، ستعني الاعتراف بشرعية القانون، وأنّه من الأفضل التحرك والقيام بحملات قانونية ودولية وحقوقية وشعبية ضد هذه القوانين (7). فبموجب القانون الدولي، حق السكان في السكن الملائم خاضع للحماية، وهذا يجب أن يشمل ضمانات الحماية من الإخلاء القسري (8).

الموقف الرسمي للنظام يدافع عن القانون في وجه الحملات والانتقادات التي تشن ضده، وأن هدفه المساعدة في إعادة تنظيم المناطق المدمرة والمناطق العشوائية، وأن ذلك سيكون عبر الإدارة المحلية المنتخبة في تلك المناطق، حسب تصريح الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة مع جريدة “كاثيمرني” اليونانية. في حين أن إعلام النظام ينفي ما يقال عن مصادرة أملاك المعارضين. وهذه المصادرة تمت بالفعل عبر المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012، والذي يمكن وزارة المالية من الاستيلاء على أصول وممتلكات الأشخاص الخاضعين لقانون مكافحة الإرهاب لعام 2012 ونقلها إلى الحكومة السورية. حيث يقدم قانون مكافحة الإرهاب تفسيراً فضفاضاً للإرهاب، ويجرم عدداً كبيراً من السوريين دون محاكمة عادلة.

والمفارقة أن أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، زعيم تنظيم القاعدة في سورية، ما زال يملك منزلاً في المزة بدمشق، وبقالة والده هناك أيضاً (9). ما يعني أن قانون مكافحة الإرهاب الذي شمل معارضين سلميين ونشطاء رأي، لا يشمله!

المراجع

  1. حسب مقالة للكاتب قصي عبد الباري في موقع اقتصاد.

https://www.eqtsad.net/news/article/19667/

  1. حسب تصريح لأحمد كاظم الهنداوي مسؤول الهجرة واللجوء في أوروبا لدى المنظمة العربية لحقوق الإنسان، لموقع اقتصاد في الرابط السابق.
  2. نص المرسوم حسب ما نشر في وكالة سانا السورية للأنباء.

https://www.sana.sy/?p=733959

  1. حسب تقرير لهيومان رايتس ووتش، فإن 50 بالمئة فقط من العقارات مسجلة رسمياً حتى قبل الحرب.
  2. حسب تحقيق لجريدة عنب بلدي السورية
  3. أعلن وزير الإدارة المحلية التابعة للحكومة السورية، حسين خلوف، عن إعداد دراسات لتنظيم بعض المناطق في المحافظات بموجب القانون الجديد، منها مدخل دمشق من مبنى البانوراما حتى ضاحية حرستا. وتدرس محافظة دمشق إدراج المنطقة الصناعية في القابون إضافة لكل من جوبر والتضامن والمزة 86 لإعادة تنظيمها ضمن القانون 10.
  4. حسب تصريح الهنداوي لموقع اقتصاد المذكور أعلاه: “ضرورة عدم الانجرار وراء القانون الصادر من جانب النظام، ذلك سيعطيه شرعية. بقاء الأسد يعني عدم استرجاع أي من الحقوق المسلوبة”.
  5. حسب التقرير السابق ذكره لهيومن رايتس ووتش.
  6. حسب ما ورد في مقالة لفراس الشوفي في جريدة الأخبار اللبنانية، للبرهان على أن النظام لا يصادر عقارات معارضيه.
1 عندما كنتُ في جوف الوحش في مدينة الرقة

1 عندما كنتُ في جوف الوحش في مدينة الرقة

يقدم صالون سوريا هذه القصة على جزئين. حوار مع شمة، امرأة عاشت الأجواء الداخلية لداعش ونقلت شهادة عينية عن حياة نساء داعش. أجري الكاتب الحوار مع شمة في عدة أمكنة متفرقة واستكمل قسماً منه عن طريق السكايب.


الجزء الأول

بصعوبة تشق السيارة طريقها في طريق زراعي ضيق جداً امتلأت حفره بماء المطر، محملة دواليب السيارة بوحله. هنا قاطع السائق تأملاتي: وصلنا!

ثلاث خيم يغطيها بلاستيك أزرق تحت شحوب سماء تشرين الثاني، تحيط بها وعلى مد النظر حقولٌ واسعةٌ من القطن والذرة الصفراء في سهل حرَّان، جنوبي ولاية شانلي أورفة التركية، التي لا تبعد أكثر من 30 كماً عن الحدود السورية.

التف جمهرة من الصبية والفتيات الصغيرات حول عجوز تجلس على كرسي على باب الخيمة الأولى تسند يدها إلى ذقنها، تقبض بها على عصاة تساعدها على المشي على ما يبدو. حفر الدهر على وجهها أخاديد عميقة توحي ملامحها بقصص الساحرات، فيما تغطي عينيها نظارة طبية سميكة. بادرتني بالحديث عندما رأت دفتري “أنتم جماعة المعينة*! يابا والله ما جعد نشوف منهم شي”*. لا خالتي أنا أتيت إلى هنا عندي موعد مع “أبو شمة”. لوت شفتيها الغائرتين داخل فمها لعدم وجود الأسنان متبرمة غير راضية، وأشارت بظهر يدها: آخر خيمة “أبو دحام… صار أبو شمة.. زماااان”؛ بربرت بكلمات أخرى لم أفهم جلها.

زفني الأطفال وأنا أكاد أتعثر بالصغار منهم وهم يتدحرجون بجزمات بلاستيكية ذات ساق، على شورتات لا تتناسب والطقس البارد، بحيث سبقوني جميعاً واصطفوا أمام باب الخيمة تاركين لي مجالاً للدخول. أنوفهم محمرة يتقاطر منها المخاط على أكمامهم وهم يحاولون مسحه، وينقلون أنظارهم بين داخل عمق الخيمة وبيني.

ناديت بصوت عال كعادة أهل الرقة: “أهل البيت.. يا أهل البيت!” فجاءني صوت واهن ضعيف من عمق الخيمة “فوت.. تفضل ما بي حدا.. فوت.. فوت.”

الوحل متراكم من آثار الدخول والخروج على مدخل الخيمة. انحنيت داخلاً خيمة طولها ربما ستة أمتار بعرض ثلاثة، تفوح منها رائحة “العصفير”*، ورائحة أعقاب سكائر نتنة نتجت عن إحكام إغلاق الخيمة. جاءني من عمقها بعد قليل صوت واهن: “تعال هين بجنبي”*. مد يده من تحت دثار مكون من أغطية “هي عبارة عن ملابس بالية خيطت مع بعضها وألبست قماشة واسعة كوجه لها”، وبطانيات عليها أسماء المنظمات الداعمة. مد يده مسلماً، فأخذت يده بكلتا يديَّ، يده التي لم تكن إلا عبارة عن عظام يغطيها جلد وعروق. كانت عروق اليد نافرة وواضحة بحيث يمكن أن تتبعها إلى القلب. جرني وأجلسني إلى جانبه.

يقول أبو شمة أنه في بداية الستين، وكان يعمل حارساً في معمل تجفيف الذرة الصفراء التابع للمؤسسة العامة للأعلاف في الرقة. انقطع راتبه عام 2012 إثر تقرير اتهم فيه بالمشاركة في اعتصام للأهالي بتاريخ 25 حزيران 2012 أمام المحكمة في الرقة، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين لدى فروع الأمن في الرقة. يشرح: مروري كان بالمصادفة، عندما رأيت امرأة من أقاربي، فوقفت أستفهم منها ما الموضوع، ويبدو “أن أحدهم عباني”*. بعد يومين اعتقلت لمدة 17 يوماً، لأخرج وقد تم فصلي من الوظيفة. عندي أربعة أبناء، وثلاث بنات، ونسكن حي شمال السكة، أكبر عشوائيات الرقة، والمحاذية تماماً لمقر الفرقة العسكرية 17 شمال المدينة.

ابني الأكبر متزوج ويعيش في لبنان منذ عشر سنوات، ولحقه في بداية الثورة أحد أخويه، وإحدى أختيه المتزوجتين، بينما رفض أخوه وأخته الآخران المتزوجان، وكذلك البنت والابن غير المتزوجين الخروج من الرقة. شمّة هي الوحيدة التي بقيت عندي في البيت، وكانت تعمل ممرضة. أمّا حسان، العازب الأخير من الأبناء، فيعمل في محل تصليح دواليب خاص به.

آخر نزوح لنا كان منذ أربعة أشهر إلى تركيا. وها نحن نعيش هنا، 19 شخصاً ما بين صغير وكبير، بمن فيهم ابني وابنتي المتزوجين وعائلاتهم.

“شوف! آني مو شبيح”*، بس لازم نسمي كل شي باسمو، السيطرة الفعلية للفصائل على الرقة بعد 4 آذار 2013 كانت لجبهة النصرة وأحرار الشام. بس، والباقي فراطه*، وهذول… تنهد وصمت طويلاً.. دفع لي بعلبة دخان معدنية دخانها يلف باليد: تعرف تلف، فهززت رأسي أن لا. ساعدته لكي ينهض قليلاً. الملعون تمكن من كل مكان بجسمي. والملعون هذا “زاد”* ما أقدر أتركه. الملعون الأول هو السرطان الذي غزا معظم جسمه، والملعون الثاني الدخان.

بيتي بجانب معمل تجفيف الذرة الصفراء، وهو أكبر معمل تجفيف في في سوريا. جاء أحرار الشام وهجرونا من بيوتنا بحجة أنهم سيضربون الفرقة 17، وأنهم قلقون علينا. هجروا أغلب العالم من  بيوتها، لكنني رفضت. بدي أموت هنا. عند المساء، تم البدء بنهب 35 ألف طن ذرة مجففة، ولم يحاربوا الفرقة.

أنا لم آتِ من أجل أحرار الشام والنصرة، أو حتى الجيش الحر. قلت له: فهذه الصفحة ستفتح بعد انتصار الثورة.

أدري.. أدري.. أنتم زاد* ضحك عليكم بشار… مو بس عليكم، عالدنيا كلها، تركها تتلهى بداعش، وهو قام يسرح ويمرح بكيفو*. جاب إيران وحزب الله والعراقيين، يا رجال حتى الأفغان والروس، وضحك عليكم. داعش.. داعش.. داعش سوت.. داعش عملت.. داعش ذبحت… لو أن العالم داعم الجيش الحر كان سواهم صندويشات.. منو جابهم، جابهم النظام.. منو سواهم، سواهم النظام.. والعالم مطرقعين* وراه.. ما شافم* الكيماوي.. ما شافم السجون واللي يصير بيها.. ما شافم البراميل.. ما شافم الجوع والحصار.

أنهكه الكلام والسعال.. التفت إلي قائلاً: إذا تشرب شاي قوم وحط الإبريق على الغاز.. أووووووه! نسيت، قصدي عالنار. ما رح حدا يجي قبل 5 المسا، كلهم بالشغل يحوشون قطن*، إش* بدنا نسوي، بدنا نعيش. شكرت كرم ضيافته، ولكنه أحرجني: يابا لا تشوف حالنا هين، الله وكيلك هناك عندنا بيت ونظيف، واحنا والله نظاف من الداخل والخارج، لا تشوف حالنا هيك يلعن أبو الظروف اللي (…).

لا، لا، ياعم، والله بس مو مشتهي الشاي حالياً. لا تكذب “قالها مموناً نفسه عليَّ “ما بي مدخن ما يشتهي الشاي، أو القهوة.” دلني الأولاد على مكان إشعال النار، ومكان الشاي.

وفي الخامسة مساء من الشهر الثاني من فصل “الصفري* 2015″، حسب التوقيت المحلي للمخيم.

جمهرة نساء وأطفال شباب ورجال هدهم التعب بعد يوم عمل يمتد من الخامسة صباحاً حتى الخامسة مساء في قطاف القطن. يعتمد النظام الزراعي التركي على المكننة في قطاف القطن، ولكن مع توفر العمالة الزراعية السورية الماهرة والخبيرة، ورخص أجورها، اعتمدت بدل المكننة لنظافة قطاف القطن، وعدم خلطه مع الأوراق الجافة، والعيدان، مما يعطي منتجاً من الخيوط، وبالتالي يكون النسيج ذا مواصفات عالية.

أشعلت نيران المخيم وتحلق حولها كل الموجودين، المهمة الأول العجن والخبز ثم الطبخ، ومن ثم تسخين الماء للغسيل والحمام لمن يرغب.

يحمل الأطفال العيدان غير مكتملة الاحتراق وفي رأسها جمرة يرسمون بها أشكالاً عبر تحريك أيديهم بسرعة على شكل دوائر: هذا صاروخ.. لا شوف طيارتي.. هذا دوشكا.. شوووووفو عندي الآربجي.. أنا داعش بدي أذبحكم.. مام حرقني.. الله لا يوفقك هيج حرقت بيجمتك.. بعد عن الدخان… ليش حرقت جزمتك.. أنتم شياطين ما تنامون.. نوم الظالم عبادة.. ولكنهم لا ينامون. إنهم في انتظار العرانيس “أكواز الذرة” التي دمسوها في النار.

يتلفن لي السائق فيصمت الجميع على رنة الموبايل.. بلهجة عرب أورفة “أصوبك ياو… أجيك خلصت شغلك؟ لا ما خلصت بس تعال خذني، بكرا نرجع مرة ثانية، ولكن الجميع أصر أن أنام عندهم. والله! عندنا بطانيات نظيفة. حتى الأطفال قالوا: خليك عندنا أمانة.. أمانة .. يا جماعة والله ما بدي أضيق عليكم، وشرف لي أن أنام عندكم. نادى أبو شمة من داخل الخيمة بصوت قوي تعالى به على مرضه، ما تروح يعني ما تروح. رح تنام جنبي خليني أخلص من شخير أم شمة. تحول الجو إلى مرح ومونولوج تعليقات بين أم شمة وزوجها، وانقسم الجمع فريقين بين مؤيد لها، أو له.

انتقلت وأغلب الحاضرين إلى خيمة أبو شمة، حيث الحديث في الشأن العام والبلد والحرب والسياسة اللجوء بتركيا وأوروبا. الفساد في المعارضة  والنظام.. تشتت الفصائل.. المنظمات الإغاثية ونهبها على اسم اللاجئين، سعر كيلو قطاف القطن، وهكذا.

بطارية السيارة التي تنير الخيمة تبدأ بالنفاد. هنا تتفاجأ بمستوى الوعي الذي يتمتع به هؤلاء البسطاء. كل هذا ونحن نتحلق حول النار الموضوعة بصاج الخبز*، وأغلبنا يحمل أعواداً نحرك بها الرماد لنستخرج بقايا الجمرات نلتمس دفئها الذي بدأ يخبو أيضاً.

انفض الجمع كل إلى خيمته. نباح كلب بعيد، وصفير الهواء خارج الخيمة. نام الجميع مباشرة، وكأنهم تخدروا، وبدأت سيمفونية الشخير، وما يصدر من النيام، حيث لا خصوصية هنا لأحد، حتى في العلاقات الحميمة للمتزوجين التي أعتقد أنهم يمارسونها خلسة في الحقول.

يبدأ الصباح كالمساء.. بالنار. وبداية قصتنا تبدأ من هنا.

شمة

شمة، سمراء فراتية في السابعة والعشرين، خريجة معهد التمريض في الرقة، ومارست عملها في المشفى الوطني صباحاً، وفي عيادات أطباء خاصة مساء، حتى قرر تنظيم داعش الاستغناء عن خدمات الممرضات والطبيبات الإناث، حارماً المئات منهن من دخل كان يساعدهن وعائلاتهن على مواجهة أعباء الحياة، دون أن يقدم التنظيم أي جهد للتعويض عليهن.

تعتذر شمة وأخوها خلدون من “شاويش الورشة”، رئيس الورشة، لأن عندهم ضيف الذي هو أنا.

تقول شمة: كانوا يستنجدون بنا فقط عندما يكون عدد الجرحى والقتلى كبيراً نتيجة قصف أو معركة، وكانت الأولوية دائماً لعناصر التنظيم في عمليات الإسعاف. وهناك رأيته.

كان واضحاً أنه مهم، من خلال اهتمام الجميع به. كانت إصابته سطحية، وأغلبها رضوض نتيجة طيرانه وسقوطه على الأرض إثر سقوط صاروخ بجانب سيارته في تدمر.

الكيمياء في هذه الحالات لا يمكن التحكم به، لم أنتبه لكيميائه بداية، فقد كنت مشغولة بعملي وخائفة منهم. ولكنني بحس الأنثى أحسست بنظراته تخترق تفاصيل جسدي. أصر أن أهتم بجراحه وحده.

أحببته، نعم أحببته! فلم يبقَ من شباب الرقة أحد، بعد أن هاجر قسم منهم، وشرد قسماً منهم النظام، ومن بقي شردتهم داعش. عمري كان ستة وعشرين سنة. وفي عرف أهل مدينتنا، أصبحت من العوانس. وفي ظل هذه الظروف، لابد للأنثى من رجل يحميها. أنا لا أدافع عن قراري بحبي له “يقولون لك الحرة لا ترضع من ثدييها”، ويقولون الحرة لا تزني”. نعم، ولكن ما الذي دعم ذلك؟

اكتشفت لاحقاً أنه ليس خطأ وحسب، بل كفر، وعلى رأي الدواعش هو كفر بواح، ولكن قل لي بالله عليك عندما وضعنا نحن والضباع في قفص واحد، وقالوا لنا احذرن الضباع لكي لا تأكلكن، ماذا قدم العالم لصمودنا في وجه الضباع، وأغلب من بقي في الرقة هم نساء وأطفال ومن كبار السن.

بعض الأوروبيات من مقطع فيديو لا يتجاوز الدقيقة والدقيقتين يفتن بالتنظيم  ويقطعن آلاف الكيلومترات للالتحاق بهذا الطويل الفارع الذي يحكي لثامه قصة غموض ومغامرة، فما المطلوب منا ونحن نعيش معهم ليس لدقائق وساعات، بل لأيام طوال “كل يوم بطول سنة الجوع”*، وربما لسنين. أعرف أن هذ الكلام لا يعجب الكثيرين، لكن هذا منطق الأمر.

تزوجته “…”، بداية كان عاشقاً، ويعرف كيف يدلل الأنثى، يعرف كيف يقول كلام الحب، أي والله، ويحفظ نزار قباني، وشاعراً فرنسياً. تعرف؟ حتى على الموصل أخذني.

لم يدم هذا طويلاً، ربما لشهر، ثم منعني بداية من زيارة أهلي، وحول البيت إلى سجن. التلفزيون ممنوع، النت ممنوع، رغم أنه متوفر في بيتنا. الواتساب، وكل وسائل الاتصال، ممنوعة. فقط كميات كبيرة من الحبوب، وبحكم خبرتي وعملي عرفتها مباشرة “كابتكون”. عندما سألته عنها قال هي أدوية للمجاهدين. كان عنده عشرات آلاف منها، عثرت عليها مصادفة وأنا أنظف سقيفة البيت. وهناك في تلك السقيفة عثرت على تسليتي التي أبقيتها سراً عليه. ذكريات أهل البيت الأساسيين، حيث كان لأحد نشطاء الثورة قبل أن يستولي عليه “محمود عقارات”، أمير ديوان العقارات لصالح التنظيم.

في السقيفة، عثرت على صور عرس، صور أطفال، سجلات مدرسية، شهادات جامعية، منشورات من بداية الثورة تحض على التظاهر، وسندات ملكية لأراض وبيوت لأسماء تتشابه الكنية فيها، وألعاب أطفال، وبنطال جينز عليه بقع دم، دفاتر مدرسية لبداية تعلم الكتابة، مرحات، شهادات تفوق. في هذه السقيفة، عشت حياة العائلة بكل تفاصيلها، وفي هذه السقيفة تعرفت على الثورة في خطواتها الأولى، وفيها عرفت كذب الدواعش عندما كفروا هؤلاء الشباب واستولوا على بيوتهم، وفيها عرفت أي منزلق أدخلت نفسي فيه. بدأت أرتب ذكريات تلك العائلة، وأرتب نفسي، عندما بات يأكلني الإحساس بالخجل، خجلة أنا منهم، من ذكرياتهم، من ألعاب أطفالهم، من صور أعراسهم. خجلة أنا منهم ومن نفسي.

تغيرت معاملته معي عندما اكتشفت أنه متزوج ثلاث نساء أخريات، آخرهن “سبية” يزيدية اشتراها من الموصل، وزوجته التونسية الأم لأطفال ثلاثة، وأخرى لم أرها، ولكن زوجتيه الأخريين اللتين جاء بهما إلى بيتي مرة واحدة قالتا إنها تونسية فرنسية.

عندما تغوص في مجتمعهم تكتشف حجم الكذب، تكتشف أن لا دين ولا مبدأ لهم. وبالنسبة لنساء التنظيم، هنالك مافيا تديرها “أم سياف”. تصدق بالله العظيم تشبه إدارة عمليات الدعارة، فما أن يموت الزوج حتى تسارع أم سياف إلى ما يشبه البيع إلى شخص آخر من التنظيم، غير مراعية حتى للعدة الشرعية، أو رأي الأرملة، فجميع من تزوجن عناصر من التنظيم ربطن حياتهن ومصيرهن بهذا التنظيم. سبعة أشهر قضيتها معه قبل أن تقضي عليه طائرات التحالف في مدينة الطبقة غربي الرقة المدينة 50 كم، عرفت ذلك عندما اقتحم عليّ البيت عناصر ملثمون من المكتب الأمني، ترافقهم ثلاث مقاتلات من كتيبة الخنساء، فجمعوا بهدوء وبدقة كل متعلقات زوجي، ثيابه وكل النقود إضافة إلى مجوهراتي وحليي، فقط لباسي تركوه، وعندما انتهوا قالوا لي إن زوجي قد “استشهد”.

اعتقدت أني تحررت عندما مات، ولكن ككل نساء التنظيم جاءت أم “منتصر الجزراويه” التي استلمت المهمة بعد أن خطف الأمريكان “أم سياف” من حقل العمر إثر مقتل زوجها، جاءت تعرض علي الزواج من “أبو عمر الحمصي”، المسؤول عن تجهيز كل السيارات المفخخة، قالتها بفخر، وكأنها ميزة تميزه. قالت ذلك في محاولة لإقناعي، وكنت أعرفه لأنه كان يزور زوجي، ولكنه أخرس أبكم. قالت: ولك أحسنلك.. ترتاحي من كلامه وأوامره.. وهذيك الشغلة ما بدها حكي.

طلبتُ مهلة للتفكير، وأبديت حزني على زوجي الأول، فاقتنعت وأمهلتني أسبوعين، رتبت خلالها ذكريات العائلة التي كان زوجي الأول يحتل بيتهم باسم التنظيم، وقمت بوضعها في مغلفات وكأنها لعائلتي، واتفقت مع أخي على هجر البلد إلى تركيا.

وهنا، تواصلت مع من بقي من تلك العائلة التي تشرد أفرادها في ثلاث دول. طلبت منهم أن يسامحوني من قلوبهم، كما طلبت السماح من آخرين، ولو أنني لم أسامح نفسي.

كان البنطال لأحد شباب العائلة ممن استشهدوا في مجزرة الساعة التي ارتكبها النظام قبل تحرير الرقة.

هيئة تحرير الشام، وحرب المعابر التجارية

هيئة تحرير الشام، وحرب المعابر التجارية

في دراسة عن التجارة البينية داخل سوريا في زمن الحرب، أَعدّها سمير عيطة وشاركتُه التقصّي عن بعض جوانبها، كان من الواضح حجم التبادل التجاري والنقل البيني بين مناطق النفوذ والسيطرة في الداخل السوري، بالإضافة إلى الواردات التركية الضخمة التي أغرقت الشمال السوري عبر معبر “باب الهوى” الحدودي، سواء تلك التي تدخل بقصد التجارة، أو عبر طريق المنظمات الإغاثية التي تتخذ من تركيا مقراً لها، حتى أن المنتجات التركية تصل بيسر وسهولة إلى كافة مناطق سيطرة النظام السوري كما لاحظنا في مدن حلب وحماه وحمص ودمشق والساحل. كما تصل  هذه الواردات إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بينما تأتي مواد البنزين والمازوت، وأسطوانات الغاز، بوفرة ودون انقطاع من مناطق النظام إلى مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة “قسد” أيضاً، بالإضافة إلى بعض المواد التموينية والملابس، وفي المقابل يتم نقل القمح والكثير من المنتجات الزراعية بالإضافة إلى اللحوم والحليب من مناطق المعارضة إلى مناطق سيطرة النظام بكل سلاسة.

هذه التجارة البينية، تتم عبر “معابِر” معروفة، يشرف عليها من كلا الجانبين، خصوم الحرب، يأخذون عليها “أتاوة” العبور بما يضمن بقاؤُهم مع استمرار الحرب. ولكي نستوضح الأمر أكثر، يكفي أن نعلم بأن معبراً صغيراً في بلدة “مورك” الواقعة في ريف حماة الشمالي، يدرّ على القائمين عليه ما قيمته ٣٠ – ٥٠ ألف دولار يومياً، فما بالك بمعبر “باب الهوى” الحدودي مع الدولة التركية، إذا علمنا بأن صادرات تركيا إلى سوريا بلغت عام ٢٠١٧ أعلى معدلاتها مقارنة بما قبل عام ٢٠١١.

منذ بداية تشكيلها، سعت أغلب فصائل المعارضة السورية المسلحة للبحث عن مصدر تمويلٍ خاص بها بعيداً عن إرادة الممول، فمن بيع السلاح المُستولَى عليه من المعارك ومن ثكنات الجيش السوري، إلى سرقة الآثار والإتجار بها، وطلب فديةٍ مقابل إطلاق سراح بعض المختطفين، إلى الاستيلاء على آبار النفط (داعش وقوات قسد) وتوزيعه بعد تكريره بشكل بدائي، ليصل إلى كافة المناطق السورية بما فيها مناطق النظام، وأخيراً المعابر التجارية، التي تبيّن بأنّ دخلها المادي جيّد ومُستدام، وخاصّة بعد اتفاقيات “خفض التصعيد الأخيرة”، مع حرص أربابها – من كلا الجانبين – على إبقاء الوضع على ما هو عليه.

إنّ وصول بعض الجهات الراديكالية إلى التمويل الذاتي يُشكّل خطراً أكبر على مستقبل سوريا والمنطقة، من تحرّرها عن أجندة المُموّل الخارجي، لأنّ ذلك يُمكّنها من العمل لأجل تحقيق مشروعها الخاص، كما لاحظنا عند تنظيم داعش (الدولة الإسلامية)، فما إن تمكّن هذا التنظيم المتطرف من السيطرة على مدينة الموصل في العراق في العاشر من حزيران ٢٠١٤، ووضع يده على الأموال المُودَعة في فروع مصارفها، ليستولي بعدها بأيام قليلة على أكبر حقول النفط في العراق وسوريا (٧ حقول للنفط ومصفاتين في شمال العراق، و٦ حقول نفط، من أصل ١٠ في سوريا متواجدة جميعها في محافظتي الحسكة ودير الزور)، حتى أعلن في ٢٩ حزيران ٢٠١٤ عن قيام دولة خلافته “دولة الإسلام في العراق والشام” وعاصمتها مدينة الرقة السورية. ليبدأ محطة جديدة من الإرهاب المحلي والعالمي، وما تبعه من تدخل عسكري خارجي لا زال يهدد وحدة الأراضي السورية حتى الآن، على الرغم من القضاء على التنظيم الإرهابي عسكرياً.

أما تنظيم “جبهة النصرة” فلم يَنعَم بالنفط السوري كثيراً سواء من محافظة الحسكة، حيث استطاعت وحدات “حماية الشعب الكردي” إخراجه من هناك في نهاية عام ٢٠١٣، أو من محافظة دير الزور، حين أخرجه تنظيم داعش منها قُبَيل أيام من إعلان دولة خلافته. وبالتالي تقهقرت جبهة النصرة باتجاه محافظة إدلب وبقي تمويلها كغيرها من باقي الفصائل المعارضة مع ميزاتٍ إضافية تتعلق بخبرة التنظيم والقتال بسبب وجود قادة متمرسين من تنظيم القاعدة الأم وعدد منتسبين وحلفاء جعلت منها القوة الأكبر في محافظة إدلب ومحيطها، ناهيك عن ارتباطها المشبوه بالأموال والمخابرات القطرية ومن هم في حلفها منذ بداية نشأتها.

حالياً، وبعد أن وصل تنظيم جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) إلى هذه المرحلة المتقدمة في الوضع السوري بعد غربلة الكثير من الفصائل المعارضة ومع وجود اتفاقيات “خفض التصعيد” التي أدّت إلى تثبيت الجبهات خاصة في محافظة إدلب ومحيطها، تفرّغت هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل للتناحر فيما بينها من أجل السيطرة على المعابر التجارية والصراع على مصدر الدخل الأكبر المتاح حالياً. ويكفي  تسليط الضوء على بعض ما جرى مؤخراً في محافظة إدلب وريف حلب الغربي للوقوف على أهمية المعابر كمصدرٍ لاقتصاد الحرب.

في ١٨ تموز ٢٠١٧ قامت “هيئة تحرير الشام” ومن معها بمحاصرة معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، وذلك بعد سيطرتها منفردةً على مدينة إدلب ومعظم بلدات الشمال السوري في المحافظة (أكثر من ٣٠ بلدة وقرية كانت تحت سيطرة أحرار الشام)، لتحاصر من بداخله من قيادات الصف الأول ومقاتلي “حركة أحرار الشام الإسلامية”. وبعد ثلاثة أيام من القتال والحصار، ومع قيام السلطات التركية بإغلاق المعبر من جهتها، اضطر قادة الحركة للجلوس والتفاوض مع الهيئة التي أصرّت على تَسَلُّم السلاح الثقيل والذخيرة مقابل وقف إطلاق النار، ثم إطلاق سراح المعتقلين لدى الطرفين، وانسحاب قادة وعناصر الحركة من المعبر وتسليمه إلى إدارة مدنية، بحسب ما جاء في بيان للحركة.

وهكذا أصبح معبر باب الهوى الحدودي – بتوافق مع الإدارة التركية – تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الفعلية، ولكن من خلف ستار إدارة مدنية. طبعاً لم يكتف زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني ومن معه بالسيطرة على معبر باب الهوى بعد إضعاف أحرار الشام وإبعادهم نحو الجنوب، بل سار إلى معبر أطمة وخربة الجوز، وزحف على مناطق ومستودعات الأحرار في ريف إدلب الشمالي تباعاً، ليصبح وحلفاؤه في الهيئة الجهة الأقوى في الشمال السوري، وبالتالي تفرّغ تماماً للسيطرة على المؤسسات المدنية وفرض “إدارته المدنية” ثم “حكومة الإنقاذ” مؤخراً.

في ١٢ تشرين الثاني ٢٠١٧ جرى الاتفاق بين هيئة تحرير الشام والنظام السوري لفتح “معبر بلدة مورِك” على طريق دمشق – حلب الدولي المقطوع منذ منتصف ٢٠١٤، ليصبح بعد ذلك أهم معبر تجاري (مخصص للحركة التجارية فقط) بين مناطق النظام والمعارضة. وجاءت عملية فتح الأوتوستراد من جهة بلدة مورِك عقب سيطرة “هيئة تحرير الشام” مطلع تشرين الأول ٢٠١٧ على قرية “أبو دالي” شمال شرقي حماة والتي كانت بمثابة معبر بين النظام والمعارضة وخط تهريب رئيسي بيد عشائر موالية للنظام، كما جاءت بعد إغلاق النظام لمعبر “باب المضيق” إثر استهداف فصائل المعارضة لمدينة السقيلبية (شمال غربي مدينة حماة) ونزوح أكثر من ٣٥ ألف نسمة منها.

خلال الأسابيع الأولى من بداية عام ٢٠١٨ قام الجيش السوري بحملة عسكرية ضخمة تستهدف المناطق الشرقية لمحافظة إدلب، استعاد خلالها عدداً كبيراً من البلدات والقرى التي كانت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها. وعند محاولته التقدم غرباً باتجاه مدينتي سراقب ومعرة النعمان في وسط إدلب، بعد عمليات قصفٍ شديدة، تدخّل الجانب التركي بسرعة وزرع نقطة مراقبة (كما هو مقرر في اتفاقية خفض التصعيد الخاصة بمحافظة إدلب) في منطقة “تل العيس” ثم نقطة أخرى جنوباً في منطقة “تل طوقان” بالقرب من مطار “أبو الضهور” العسكري الذي أصبح تحت سيطرة الجيش السوري.  ومع إنشاء نقاط المراقبة التركية توقفت المعارك فجأة، وبعدها بأيامٍ غادرت قوات العقيد سهيل الحسن محافظة إدلب إلى تخوم الغوطة الشرقية، حيث كانت المعارك على أشدها بين فصائل المعارضة والنظام السوري على جبهة حرستا. أثناء ذلك اندمجت حركة أحرار الشام الإسلامية وحركة نور الدين الزنكي في فصيلٍ واحد تحت مسمى “جبهة تحرير سوريا”، وبعد أيام من الاندماج، تحديداً في ٢٠ شباط، شنّ الفصيل الجديد هجمات متفرقة على مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في وسط وجنوب إدلب، كان نتيجتها سيطرة الجبهة على مواقع الهيئة في بلدة “ترملا” في ريف إدلب الجنوبي، وعلى مدينة “أريحا” وعدة بلدات صغيرة بعد انسحاب مقاتلي الهيئة منها. الأهم كانت سيطرة “جبهة تحرير سوريا” مع فصيل “جيش العزة” على إدارة معبر بلدة مورِك التجاري الهام، وبعد أقل من أسبوعين توقفت المعارك فجأة في محافظة إدلب، لتنقل الهيئة معركتها مباشرة إلى مناطق سيطرة الزنكي في ريف حلب الغربي مستهدفةً معبر قرية “العزاوية” الذي يصل ريف حلب الغربي مع مدينة عفرين، والتي أصبحت لاحقاً تحت سيطرة قوات “غصن الزيتون” المدعومة تركياً، مما يعني فتح الطريق بين ريف حلب الشمالي وإدلب دون المرور في الأراضي التركية.

استمرت المعارك الشرسة هناك في بلدة ”بسرطون“ ومحيطها شمال الأتارب لأكثر من شهرين، وخسرت فيها الهيئة الكثير من عناصرها وعتادها الثقيل، ويعود ذلك إلى تصدي الأهالي والكتائب المحلية لأرتال الهيئة، وتحصّن الزنكي في مناطقه المرتفعة في عنجارة وقبتان الجبل وجبل الشيخ بركات، ومن غير المستبعد أن يكون حصل على دعم ومؤازرة من قوات غصن الزيتون التي سيطرت على مدينة عفرين من خلفه.

في السابع من نيسان أُعلن عن التوصل الى هدنة بين “هيئة تحرير الشام“ و”جبهة تحرير سوريا“، على أن يستمر وقف إطلاق النار بين الطرفين بحسب الهدنة الموقعة أسبوعاً كاملاً ليتم بحث الملفات العالقة بين الطرفين. ولكن في منتصف نيسان وبعد انقضاء هدنة الأسبوع، سارعت الهيئة للانقضاض على مناطق سيطرة أحرار الشام في محافظة إدلب واندلعت الاشتباكات بين الطرفين على طول الطريق الدولي من مدينة معرة النعمان جنوب إدلب، حتى بلدة مورِك شمال محافظة حماة، مما أدى إلى قطع الطريق الدولي. واستطاعت هيئة تحرير الشام السيطرة على بلدة مورِك ومعبرها التجاري، وعلى مدينة خان شيخون والكثير من البلدات والقرى الواقعة جنوب إدلب، ومنها ”تلة العِيس“ التي يُتوقّع أن تكون معبراً تجارباً جديداً بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة في محافظة إدلب. أثناء ذلك، استعادت حركة أحرار الشام القرى الواقعة على طول الأوتوستراد بين مدينة إدلب ومعبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، ربما في محاولة منها لاستعادة المعبر من سيطرة الهيئة.

لكن في ٢٤ نيسان توصلت “هيئة تحرير الشام” و”جبهة تحرير سوريا” بالاشتراك مع “ألوية صقور الشام” (حلفاء الجبهة في معاركها ضد الهيئة)، إلى اتفاقٍ يقضي بوقف إطلاق نار دائم بين الطرفين، وإطلاق سراح المعتقلين خلال جدول زمني، وفتح الطرقات، ورفع الحواجز، وتشكيل ”لجنة” من كليهما إلى جانب “لجنة الوساطة” لمتابعة تنفيذ الاتفاق، والعمل على بدء مشاورات موسعة ومستمرة للوصول إلى حل شامل على الصعيد ”العسكري، والسياسي، والإداري، والقضائي.”

لم يكن هذا الاتفاق هو الأول من نوعه بين الهيئة والأحرار، وربما لن يكون الأخير، فكم من الاتفاقات بينهما تم خرقها، وكم من المعارك تم خوضها. في حين تبقى محافظة إدلب والشمال السوري عموماً رهناً لسياسات دولية وإقليمية وتوازن قوى بين جيوش أمريكية، تركية وروسية في الداخل السوري. ومؤخراً دعت فرنسا – العائدة بقوة إلى التدخل المباشر في الملف السوري – على لسان وزير خارجيتها جان إيف لودريان إلى ” تقرير مصير إدلب من خلال عملية سياسية تتضمّن نزع سلاح الميليشيات” وذلك تجنباً لوقوع كارثة إنسانية في مدينة إدلب، والتي قد تكون الهدف التالي للنظام، كما جاء في كلامه.

يُذكر بأن محافظة إدلب تعتبر سجناً كبيراً، يقطنها حوالي مليوني نسمة، بينهم عشرات الآلاف من السوريين الذين تمّ إجلاؤهم من مناطق استعادها النظام السوري، وهي مغلقة تماماً أمام عبور المواطنين السوريين من خلال أبراج مراقبة ودوريات لقوات حدودية تركية، وجدار اسمنتي أنهت بناؤه الحكومة التركية في نهاية عام ٢٠١٧ ويمتد على طول الحدود بين تركيا وسوريا، ويُعَد ثالث أطول جدار حدودي في العالم بطول ٦٨٨ كم، بعد سور الصين العظيم والجدار الفاصل بين المكسيك وأمريكا. بالإضافة إلى معارك الفصائل وقتالها فيما بينها، ما زال قصف طيران النظام السوري وبراميله المتفجرة مستمراً – رغم اتفاقية خفض التصعيد – بحجة تواجد عناصر جبهة النصرة هناك.

لماذا سوريا خارج تصنيف جودة التعليم العالمي؟

لماذا سوريا خارج تصنيف جودة التعليم العالمي؟

في سنغافورة التي بلغت نسبة الأمية فيها أكثر من 60 بالمئة سبعينيات القرن الماضي أصبحت الآن تضاهي في تقدمها العلمي والاجتماعي نظيراتها في العالم الغربي. لقد تنبهت حكوماتها المتعاقبة لحقيقة أن التعليم عامل حاسم في تطوير الإنسان. ولعبت الحاجات الاقتصادية في سنغافورة دورًا هاماً في تحديد مسارات سياسات التعليم. وأطلقت مبادرة “مدارس التفكير، تعلُّم الأمة” قائمة على أربعة مبادئ: إعادة النظر في أجور المعلمين, إعطاء مدراء المدارس مزيداً من الاستقلالية، استحداث التميز المدرسي، إشراف موجهين مختصون في استحداث برامج جديدة. حالياً سنغافورة حاضرة معروفة على مستوى العالم, واحتلت المركز الأول في مؤشر جودة التعليم العالمي للعام الدراسي الحالي.

شمل مؤشر جودة التعليم العالمي الذي صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) لعام الدراسي 2017-2018، حوالي 140 دولة. يرتب هذا المؤشر دول العالم وفق 12 معياراً رئيسياً وحوالي 40 معياراً فرعياً. هذه المعايير معايير دقيقة ومحددة بأسس علمية وتربوية وتعليمية رصينة، وهي ذات أهمية كبيرة، إذ أنها تُقدم معلومات تفصيلية ودقيقة عن واقع سير العملية التعليمية في البلدان التي يغطيها المؤشر، وتشمل: المؤسسات، البنية التحتية، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، بيئة الاقتصاد الكلي، كفاءة سوق العمل، تطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، الابتكار، تطور الأعمال، كفاءة أسواق السلع.

أظهرت بيانات هذا المؤشر للعام الدراسي الحالي نتائج صادمة، وطبعاً نتائج هذا المؤشر ليست الوحيدة، إذ إن هناك العديد من المؤشرات العالمية والدراسات التي تبين وللأسف أن الواقع التعليمي المحلي السوري غارق في المشاكل، لذلك من السخرية أن ننسب هذه الدراسات والمؤشرات ومنها مؤشر دافوس إلى نظرية المؤامرة التي عودنا عليها المطبلون في الإعلام السوري الرسمي. هذا واقع أليم وعلينا أن نكون جريئين في الاعتراف بحقيقة تدني مستوى التعليم في سوريا فالأرقام لاتكذب، ولا تتموه. وهناك من الدلائل الواضحة التي نراها في حياتنا اليومية يمكن أن تؤكد صحة هذه المؤشرات، مثلاً أعداد الطلاب الهائلة في الصف الواحد، التسيب المدرسي، الغش الممنهج في الامتحانات، سوية الحالة المادية والمعنوية المتدنية للمعلمين، الضعف التكنولوجي وغيرها الكثير من المسائل. ومن نتيجة هذا التردي قامت معظم الأسر السورية على حساب قوتها ورفاهيتها بمحاولة سد التراجع التعليمي في المدارس، بطرق متعددة أوسعها انتشاراً الاعتماد على الدروس الخصوصية التي أصبحت حالياً ثقافة أسروية سورية عامة وهذا مكمن خطرها.

وفيما تسعى دول العالم بكل طاقاتها لتحقيق أفضل عملية تعليمية، لم نرى من المؤسسات التعليمية التشريعية أو التنفيذية في سوريا سوى الطابع الاستعراضي من قبيل شعارات التطوير والتحديث، والتقوقع في ايديولوجيات متصحرة مازالت تهيمن على البرامج والخطط وفق نظرية الرأي الواحد، يقودها مختصون من لون سياسي واحد معظمهم من منظومة إدارية شديدة الفساد والبيروقراطية. إن الهدف ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻰ للتعليم ﻫﻮ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ وتقدمه، وليس ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺃﻭ تطبيق الإيديولوجيا سواء كانت سياسية ام دينية، أو بناء المناهج وإنجازها وفق رؤية السلطة التي هي في سوريا تتبع حزب البعث، فالسلطة فانية أما الوطن فباق. النظام السياسي للاتحاد السوفياتي ذهب بينما المنهج التعليمي والعلمي لمؤسساته بقيت وحافظت من خلالها روسيا الحالية على تفوقها العسكري والفضائي ومجالات أخرى عديدة، أما في سوريا فالواقع  مزري ولم يتم النظر يوماً إلى التعليم كمحور من محاور التنمية. وفي الوقت الذي تُعتَبر دولة (عدوة) لسوريا كإسرائيل وزارة التعليم فيها على أنها واحدة من الوزارات الأربع السيادية، لم تنظر الحكومات البعثية المتعاقبة لأهمية هذه الوزارة، حتى أخصائيو التربية والتعليم المنوط بهم معالجة هذه المهمات، لم ينظروا بشكل جدي للمشاكل المتعددة الموجودة في النظام التعليمي المحلي.

والحقيقة أن المواطن السوري لم ير سوى أكذوبات التطوير والتحديث، إذ مازالت العملية التعليمية قائمة على الحفظ والتلقين لا على التفاعل والإبداع. فالعلم هو “طريقة وأسلوب للتفكير أكثر من مجرد كمية من المعلومات” على ما يقول المفكر كارل ساغان. والعلم حيادي ولا يمكن أدلجته، لكن في سوريا بدت المناهج مقيدة بالمنظور الإيديولوجي البعثي من جهة وبمفاهيم إخوانية إسلامية من جهة أخرى، فقد أدخلت وزارة التربية هذا العام ولأول مرة في تاريخ سوريا مادة “التربية الدينية” لطلاب الصف الأول الابتدائي، مع ملاحظة أن صورة الأم المحجبة تطغى على مناهج المرحلة الإبتدائية. حتى الكتب التعليمية العلمية لم تنج من هذه التأثيرات. مثلا في مادة العلوم للصف الثالث الثانوي العالمي نجد عبارة “سقطت نظرية داروين بينما ثبتت نظرية محمد.” وفي مادة الفيزياء للصف الثاني الإعدادي نجد عبارة “تمت التجربة بإذن الله.” ويطبع التأثير الديني سير الحياة المدرسية بشكل قوي، مثلاً نلاحظ على الأقل خلال العشر سنوات الماضية شلل المدارس في اليوم الذي يسبق والذي يلي عيد الأضحى، كما يُختصر الدوام المدرسي خلال شهر رمضان.

ويبدو أن النظام السوري قد أدرك أهمية التربية والتعليم في تكريس سلطته فقط، حيث ومنذ بداية الألفية الجديدة وسحقْ ماسمي وقتها “ربيع دمشق”، لاحظنا استمرارية في سياسة القمع لكل ماهو يساري أو قومي علماني في مقابل تسهيل تمدد الفكر الديني. لاحقاً وخلال الأزمة السورية تعرض النظام لضغوط كبيرة فأصبح مجبراً على تلبية مطالب الإسلام الرسمي (المعتدل) لأنه يحارب الإسلام المتطرف المُمَثل بشكل رئيسي في “تنظيم الدولة الإسلامية” والتنظيمات المقربة من “تنظيم القاعدة” في سوريا. ويعتقد النظام أن استعداء الإسلام المعتدل لايصب في الوقت الحالي في مصلحته، لذلك ارتأى الدعم الكبير له، وهذا يفسر لماذا ميزانية وزارة الأوقاف كبيرة جداً وهي تعادل أقل بقليل مجموع ميزانيتي وزارة الصحة والتعليم العالي! ولماذا هذا التدخل الكبير لهذه الوزارة في إقرار المناهج. في المقابل طالما استخدم النظام الذي يُعد فيه حزب البعث واقعيا قائداً للدولة والمجتمع، الخطاب الثقافي واحتكار التعليم لخدمة قضيته الايديولوجية العربية عبر تضخيم الدلائل التاريخية، لابل تزييفها أحياناً، فمثلا نجد في مادة الثقافة للسنة الأولى في كلية الترجمة الصياغة (البعثية) للتاريخ العربي. تتحدث الفصول الأولى عن سيرة نبي الإسلام، بينما يتحدث الفصل الثاني عن التخلف الذي كان يعيشه الغرب وفساد الكنائس في العصور الوسطى وكيف ساهم الإسلام في نهضة الغرب وإنقاذه من الظلمات. في الفصل الثالث نقرأ كيف أخذ الغرب العلم والفلسفة من الدولة العربية الإسلامية. وفي القسم الأخير نجد ماقيل عن محمد من أقوال لكتاب وعلماء من الغرب. مثال آخر نجده في كتاب التاريخ للخامس الابتدائي -وهو تزوير صريح للتاريخ- عبارة: “أقبلت القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية على شكل موجات واستقرت في بلاد الشام والعراق وأنشأوا الحضارات الأكادية والبابلية والآشورية.” وبالرغم من محاولات وزارة التربية في سوريا خلال الفترة الأخيرة إبراز النزعة الوطنية في المناهج بتوليفة عربية إسلامية وإخفاء النزعة القومية البعثية التقليدية التي كانت سائدة سابقاً، إلا أن تأثير هذه المحاولات بقيت محدودة ولم تستطع أن تلامس الرموز القهرية للنظام والحاكمة للمجتمع السوري.

لقد أكملت الحرب على مستقبل العملية التعليمية في سوريا، إذ بينت المذكرة الإخبارية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” أن عام 2016 هو الأسوأ لأطفال سوريا، وقالت إن نحو 2.7 مليون طفل بين سن الخامسة والسابعة عشر لايذهبون إلى المدارس، بينهم 600 ألف طفل لاجئ، وأن 1.3 مليون طفل آخرين معرضون لخطر التسرب. وقالت منظمة “أنقذوا الطفولة” أن أضرار قطاع المباني المدرسية لوحده تُقدر بنحو 3 مليارات دولار، وأدت الى انخفاض معدل التعليم في سوريا بمقدار 50% عن مستوياته قبل اندلاع الحرب السورية عام 2011. وبينت تقارير محلية لعام 2017 تعرض المرافق التعليمية على مستوى سوريا إلى نحو 4000 هجوم أدت إلى أضرار جزئية أو كلية لـ 2445 مدرسة. وأكثر المنشآت التعليمية ضرراً كانت المدارس الثانوية بنسبة 14.7% من مجمل المرافق التعليمية المتضررة كلياً، تليها المعاهد المهنية بنسبة 14.5%. كما أدت الحرب الى تحويل العديد من المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين أو مراكز عسكرية. وبحسب معلومات صادرة عن وزارة التربية السورية تحولت حوالي 243 مدرسة من أصل 21 ألف مدرسة حكومية في أرجاء البلاد إلى مراكز إيواء، فيما قدرت وزارة التربية تكلفة الخسائر المادية لقطاع التعليم في سورية حتى عام 2015 بحوالي 50 مليار ليرة (حوالي 105 مليون دولار). وحيث أن التعليم هو استثمار مستقبلي قُدرت الخسارة المستقبلية بـنحو 5.4% من الناتج المحلي نتيجة حرمان الأطفال السوريين من التعليم. ويذكر تقرير “جيل سوريا الضائع” أنه: “وبالنظر إلى تجارب الدول الأخرى التي تأثرت بالنزاعات يمكننا التنبؤ بأن النزاع الحالي قد يؤدي إلى انخفاض معدل سنوات الدراسة بنصف عام على المدى الطويل. وعندما يطبق على امتداد التعداد السكاني فإنه يزيد من التكلفة السنوية على الاقتصاد السوري الى مافوق 1.26 مليار دولار أمريكي, أي 3.1% من إجمالي الناتج المحلي.”

من منتصف الثمانينات حتى بداية التسعينات، لعبت سوريا دوراً يعادل عشرة أضعاف حجمها على الساحة الدولية بحسب صحيفة دير شبيغل الألمانية عام 1985، وسميت بأنها أكبر دولة صغيرة في العالم كما قال أحد الدبلوماسيين الكبار في البيت الأبيض. من أسس لهذا الدور؟ طبعاً هي مجموعة من العوامل لكن أهمها كان الاهتمام بالعملية التعليمية والتدريب وتأهيل الكوادر. للأسف الشديد سوريا والعراق ومصر التي قادت التعليم عربياً منذ خمسينات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة نجدها قد سقطت. مصر جاءت بالمركز قبل الأخير في مؤشر دافوس لعام2017، في حين لم تدخل سوريا والعراق في الترتيب أصلاً وذلك لافتقارهما بحسب التقرير: (لأبسط معايير الجودة في التعليم).

مرة أخرى لنكن جريئين ونقرأ مؤشر دافوس بواقعية بدلاً من الاستهزاء به، وإلهاء المواطنين بنظرية المؤامرة، وأن نقول صراحة أن هناك ضرورة قصوى ولا تقبل التأجيل لمراجعة السياسات الحكومية في سوريا في مجال التعليم, ووضع أسس اكثر انفتاحاً على العالم الذي بات يسبقنا كل يوم بخطوة. فالتعليم والعلم بالنسبة للمجتمعات هو أساس التقدم الحضاري وهذه بديهية. ولا يأتي العلم بدون التعليم الذي هو المحرّك الأساسي لتطور أي أمة. لذلك نرى بوضوح أن أحد أهم الفوارق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة هو نسبة التعليم وجودته، ولا تبتعد القوة الاقتصادية والعسكرية وقوة العدالة وقوة النسيج المجتمعي كثيراً عن هذه المقارنة. وفيما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته الأخيرة للشعب الروسي قبيل انتخابه للمرة الرابعة أن “التخلف العلمي يحمل مخاطر فقدان السيادة” نجد أن صور حليفه في دمشق قد تصدرت قاعات الجامعات الحكومية وجدران المدارس وبوابات المعاهد وقاعات التعليم وأروقة المختبرات في وقت أصبحت سوريا متخمة بالقواعد العسكرية الأجنبية الحليفة والعدوة.

اللباس علامة اجتماعية

اللباس علامة اجتماعية

 يوميات سورية

عندما تجاوز عدد العمالة السورية  في الخليج وخاصة في السعودية أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات   عشرات الآلاف كعمالٍ وافدين ومئات الآلاف كعائلات، بدأت العباءة السعودية تعود مع العائلات عند كل إجازةٍ صيفيةٍ لتصبح مظهراً اجتماعياً لافتاً إلى أن سادت تدريجياً وأزاحت كل ما سبقها من أنماط اللباس المحلية كالمانطو، والطقم  بجاكيت طويل وتنورة طويلة “تصل لتحت الركبة بشبر” كما كانت تصفها النساء اللاتي درجن على ارتدائها. كان الطقم يومها ينتمي للحجاب “المديني”، فأي سيدةٍ محجبة وترتدي طقماً يعني أنها حكماً مدينية وليست ابنة ريفٍ أو حيٍ شعبيٍ، حيث ترتدي نساء تلك المناطق مانطو يتبدل صيفاً وشتاءً ليغطي كل ما تحته من ملابس بسيطة أو رقيقة، وغالباً ما ترتدي السيدات وخاصة المتقدمات بالعمر قمصان النوم تحت المانطو للتمتع براحة كاملة.

خلال الحرب السورية ارتدت بعض السيدات الحجاب في بعض المناطق ذات الصبغة الدينية تحت ذريعة الخوف، سيداتٌ يبدو جلياً أنهن غير محجبات أصلاً لابل يرفضنه كنمطٍ للباسهن، يبدو ذلك من طريقة ربطه، من المكياج الظاهر، من الضيق الظاهر بالتعامل مع زائرٍ جديدٍ وثقيلٍ وقسريٍ حسب توصيف بعضهن.

إلا أنّ المظهر الغالب هو تحرّر الكثير من الفتيات من حجابهن بعد الانتقال من أماكن سكنهن جراء التهجير والنزوح، فتياتٌ انقلبت أحوالهن بصورةٍ جذريةٍ وإن كان يصح القول بأنّ الانتقال كان عاصفاً ومتطرفاً لدرجةٍ لحظنا التحول من وضعية المحجبة إلى المغامرة، بأقراطٍ عديدة في الأذنين وقصة شعر صبيانية أو غريبة، بملابس ضيقة وبلا أكمام.

يبدو التغير أو الانعطاف الجذري في المضمون والشكل حالةً طبيعيةً في الحروب، حالةً مبررةً لكنها تحتاج وقتاً للقبول. السمة الأساسية في الانقلابات الجذرية في عمر المجتمعات هي حرق الوقت، أي تقبّل التغيرات بزمنِ قياسيِ يكاد أن يكون غير ملحوظ أو غير جدير بالتوقف عنده أصلاً.

***

سهى شابة بعمر الخامسة والعشرين، كانت تسكن في زملكا، لم تقتنع يوما بالحجاب، لكن أمها قدّمت لها كل التنازلات الممكنة لتقبل بالحجاب، وافقت معها على ارتداء الجينز لكن مع كنزة طويلة، ومع الوقت تحايلت سهى حتى على الكنزة الطويلة بكنزة داخلية قصيرة ومفصلة تغطيها بجاكيتٍ طويلٍ وواسعٍ.

في شوارع دمشق الآن صبايا بأحجبة ملونة ٍوصاخبةٍ، وبات للأحجبة موديلات وفي كل وقت نجد موجةً جديدةً كاسحةً تعمم موديلاً محدداً للحجاب. ثمة محال خاصة ببيع الحجاب وبإمكانك هناك الاطلاع على  موديلاتٍ متعددةٍ بألبوماتٍ موجودةٍ خصيصاً لتجربي ،لتشتري، لتقرري أيهما الأنسب لوجهك ولونك، وطبعاً يدخل عامل التسويق والمبالغة في خضم عملية البيع المربحة.

في شوارع دمشق صبايا محجباتٍ وفي أقدامهن أحذية رياضية خفيفة وملونة وبعضها مذهب أو مألمس كلونٍ وليس كحجر ثمين طبعاً، أربطةٌ  ملونة ٌوصاخبةٌ ولكلّ فردة حذاءٍ رباطٌ بلونٍ مختلفٍ. في شوارع دمشق فتياتٌ محجباتٌ بحواجب مصقولة بحرفة التاتو الدارجة بقوة رغم قسوة الحرب، بمكياجٍ ثقيلٍ أو خفيفٍ، لكنّ الكحل شرطٌ أساسيٌ، بخواتم  معدنية كبيرة وبستراس لامع على الأنف، بزيركونة لامعة على الأسنان و بعقودٍ حجريةٍ ضخمةٍ تهتز مع خطوات الصبايا المفعمات بالحيوية والشوق للجنس الآخر.

في شوارع دمشق أيضاً نساءٌ ببزاتٍ عسكريةٍ ليلاً ونهاراً، أي لا وقت محدد لعملهن، فهنّ واقفاتٍ على الحواجز ويفتشن حقائب النساء في الأماكن العامة. مظهرٌ عسكريٌ جديدٌ شمل عامة النساء، أي أنهن لسن خريجات الكلية العسكرية للبنات،  يعكس باب عملٍ جديداً انخرطت فيه النساء بصورة واضحة للعيان، نساءٌ من أهل الحي أو معروفات في الأماكن حيت يعملن.

كما أنّ موضة الملابس العسكرية أو على وجه الدقة الزي المبرقع قد غزت صناعة الملابس الجاهزة، حيث تنتشر السراويل والبيجامات والكنزات والجواكيت المبرقعة وهي مطلوبة خاصة لدى الشابات المتموضات. يحاول البعض تعميم فرضية أنّ الحجاب قد تكاثر أيضاً، لكنّ هذا التعميم غير دقيق بحسب مشاهداتي اليومية. صحيحٌ أنّ حفلات التحجيب والهدايا باتت ظاهرةً ومعلنةً وخاصة للفتيات الصغيرات لكنها قليلة، وقد تناقل السوريون مؤخراً تسجيلاً مصوراً لحفلةٍ باذخة تجاوزت كلفتها الملايين بمناسبة ارتداء ابنة رجل أعمالٍ كبير للحجاب، حفلة ارتدت فيها حتى قطع الشوكولا والحلويات الحجاب في استعراضٍ استهلاكي لا يمت للإيمان بصلة.

تخففّت بعض السوريات من ثقل المانطو في زمن الحرب لأسبابٍ مختلفة، فبعضهن تخففن منه لارتفاع أثمانه أولاً ولأنه بات علامةً فارقة توصم صاحبته بالتطرف في أمكنة بات فيها رهاب التطرف رعباً خالصاً وباتت كل محجبة أو مجلببة أو ترتدي المانطو متهمة بأنها داعشية. لم يعد ممنوعاً أن تتجرأ سيدة أو فتاة على الجلوس ملاصقة ً لرجلٍ على مقعدٍ حديديٍ جانبيٍ في السرفيس وذلك تدبيراً لأزمة النقل الخانقة، لابل قد تجلس زركاً ملاصقةً لرجل في مقعدٍ يتسع بالكاد لثلاثة ركاب لكنها تكون الرابعة وربما الخامسة أيضاً فلا ضير في ذلك.

تقول رجاء: “أصعب شيء هو انتظار المانطو ليجف على حافة  الكرسي لأننا نعيش في غرفةٍ بلا شرفةٍ أو حبل غسيلٍ، وحياتنا بهدلة ولا يمكن الركون إلى المانطو كزيٍ، وحياتنا لا تؤمن أدنى شروط النظافة، وأقل مانطو بديل يتجاوز سعره العشرة آلاف ليرة وهو مبلغٌ صعب التحصيل والتوفر.”

سيداتٌ أيضاً خلعن الحجاب بقناعةِ، تقول أسماء: “لم أقتنع به يوماً واليوم بات يشكل ضغطاً على حضوري في الأماكن العامة وخاصة في العمل نظراً لأني مهندسة ومطلوب تواجدي في اجتماعات عملٍ ومراكز إشراف” وتكمل “لقد تغيّر تعامل الناس معي بعد تبدل هويتي، وكأني أصبحت امرأةً أخرى! أجل إنّ خلع الحجاب أو ارتداءه بمثابة هوية تعريفٍ جديدة فرضتها الحرب والخوف من علامات التطرف وجراء تعميمٍ ظالمٍ وموجهٍ ومقصودٍ يصنّف كل المحجبات على أساس الشكل وليس المضمون مع أن القوانين تكفل حرية  الممارسات والمظاهر الدينية والإيمانية.”

على الحواجز ثمة تصنيفٌ نمطي للمرأة حسب مظهرها العام، تصنيفٌ مضللٌ لكنّه شبه معممٍ يصل لدرجة أنّ عنصر الحاجز قد يقول للمرأة السافرة بأنك “من جماعتنا!” ويا للويل من معنى هذه الكلمة ومدلولها المنافي للمواطنة والشراكة في بلدٍ واحدٍ تمزق الحرب أبناءه جميعاً بغض النظر عن الطائفة والجماعة.

على المقلب الآخر ثمة من تبالغ بالتخفف من الملابس معتبرةً هذا التخفف وكأنّه تحدٍ للمتعصب والمتطرف، تصحو هويتها ما-قبل الوطنية والمغرقة في طائفيتها لتعلن أنها باقية هنا وأنّ حضورها هكذا يقلع عين كل متطرفٍ وكل معتدٍ ومتخلفٍ! هنا الوجه الآخر للتطرف! أجل إنه تطرّف أجوف وعدائي، ثبتته قوى الهيمنة  والتمييز المقصود تحت ذريعة التوصيف الشكلاني الأجوف، فكلّ محجبة داعشية وكل مجلببة قنبلة موقوتة! يا للحيف ويا للتسطيح الذي سيدفعنا بعيداً في مهاوي الشقاق والحقد.

سميرة فتاة جميلة الوجه، ممشوقة الجسد ترعى أخوتها الصغار بعد غياب أمها وأبيها، الأم تزوجت والأب مات. نزحت هي وخمسة أخوة مع جدتهم من دير الزور ويعيشون في غرفةٍ على الهيكل، وباتت مضطرة للعمل عند أحد أصحاب محال صناعة الحلوى. كان شرط الجدة هو ارتداء الحجاب وبنطال وبلوزة طويلة وفضفاضة، تبدو سميرة بزيها هذا وظهرها المنحني من شقاء العمل وقوفاً وهي تدهن قطع البريوش بالبيض. سميرة ابنة الخمسة عشر عاماً تبدو من الخلف وكأنها عجوزٌ، لدرجةٍ قد تناديها بـ”يا خالة” قبل أن ترى وجهها الطفولي البريء!

في السلم كما في الحرب اللباس هو صورة مجتمعية وليس شكلية فقط، لكن الحرب تطحن الأجساد والعقول وتصبح الألبسة مجرد أغطية من ورق، لا تحمي ولا ترد  الانتهاكات، لا هوية للباس إلا بعين الحرب، حيث تصبح الحرب هي الهوية وهي الشكل والمضمون وهي اللغة الناطقة السائرة على أقدام النساء.

السوريون والسياسة: عندما سلّمنا غدنا إلى ماضينا

السوريون والسياسة: عندما سلّمنا غدنا إلى ماضينا

الجميع يتحدث عن الحلّ السياسي، جارتي وابنة خالي وبائع الشاورما والصيدلانية، المحلّل والمغنّية ولاعب كرة القدم. عندما كانت البيوت تنهار على رؤوس قاطنيها والقذائف المتفجّرة تمزج الاسمنت البارد باللحم الحي، قالوا: الحلّ سياسي. عندما دخلت المجاميع الطائفية من كل مرتفعٍ ومنحدرٍ لتتناحر على سنتمترات مقدسةٍ أو مراقد غامضة لموتى غامضين، قالوا: الحلّ سياسي. عندما انتقل الصديق الإيراني بفيض أعلامه وشعاراته، عندما أرسل الحليف الروسي الرصين طائرات السوخوي، عندما اقتطع حصّة لجنده يقيمون فيها ملاعبهم وباراتهم، قالوا: الحل سياسيّ. عندما أطلقت أميركا صواريخها المعدودة جيداً، عندما تدخّلت إسرائيل، عندما ارتعدت، عندما دخل الذئب التركي باتفاق سرّي، عندما تأمل الكرد، عندما هُزموا، عندما اتفقت ضباع الخليج، عندما اختلفت، عندما نمنا على حرير الــ (خلصت) واستيقظنا على صوف المؤامرة، عندما أصبحنا نشتري بالدولار خضارنا المزروعة على الشرفات وعلى أسطح عارية ونبيع أطفالنا وأخوتنا بالفرنك، عندما متنا خفافاً على مذبح الحرب الأهلية قالوا: لا حلّ إلا بالسياسة.

حسناً ما هي هذه السياسة التي صدعوا رأسنا فيها؟ وما هو هذا الحلّ السياسي الذي يقتنع الجميع بجدوى تناوله ساخناً ولا يفعل شيئاً لوضعه على الطاولة؟

بل ما هو العمل السياسي لشعبٍ يخاف من التلفظ بكلمات مثل رأي وحرية تعبير؟

في مُنْتَزَعٍ من صفحات التاريخ السوري، صفحة أو صفحة ونصف تدعى الوحدة السورية المصرية، ويطيب لمؤرخي العنجهية والتعنّت القومي وضع ما قاله الرئيس السوري شكري القوتلي آنذاك للزعيم المصري عبد الناصر، موضع الفخر والتبجّح: “أنت لا تعرف ماذا أخذت ياسيادة الرئيس؟ أنت أخذت شعبا يعتقد كلّ من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المائة من ناسه أنهم زعماء. ويعتقد 25 في المائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة في المائة على الأقل أنهم آلهة.”

وفي مُنْتَزَعٍ آخر، غير بعيدٍ عن التاريخ الحالي، راجت تلك المقولة التي دوّخت الطيور في السماء والأسماك في البحر، المقنوصة من فيض الإيمان والمرفوعة على أنقاض الثقة بالنفس: “سوريا الله حاميها”.

إذن، لقد عرفنا ماذا تعني السياسة للحكّام، لكن لم نعرف بعد ماذا تعني للسوريين؟

اعتزل السوريون السياسة منذ أن قرّر النظام الوليد في 1963 أنها من أهم أسباب وجع الرأس وأن ممارستها تُورث أمراضا مستعصية أقلّها ألم المفاصل والسل وباقي الأمراض المرتبطة بالأقبية المعتمة والكرسي الألماني والدولاب وأنّ من الأفضل والحال كذلك أن يبتعد عنها السوريون إنقاذا لأعمارهم، ودخلت عندها القفص المحرّم وأصبحت ثالثة الأثافي.

السياسة في سوريا تعني ببساطة معاداة إسرائيل وأميركا والإيمان بأن الوحدة العربية حلّ مثالي لكوارث مثالية؛ وترديد الشعار كل صباح، الشعار الذي يعني أن لا أحد في المنزل وعلى الحبيب الإسراع لاقتناص الفرصة؛ ومعاداة الإمبريالية على المنابر والتحالف مع معطياتها سرّا، والتلويح بالاشتراكية في الأغاني وتوزيع الحصص على الشركاء المخلصين.

كان الحزبي بمرتبة عضو عامل يعتبر سياسياً، فما بالك بمن يصبح أمين شعبة حزبية. كانت قراءة الصحف الوطنية اليتيمة ومتابعة الأخبار اليومية تحيط المرء بشبهة (المعرفة) وهي تهمة جاهزة لوطن يتجهّز. كنت أعْتبر شيوعياً لأن لدي صديقات إناث، ومعارضاً لأني أخرج مع أختي إلى السوق ولا أركل قطط الشارع. هذه هي السياسة في سوريا، سياسة خلف السياسة بمئات الأميال، سياسة منتزعة من السياسة، معقمة منها، سياسة تحيي إنجازات الحكومة وتلعن أعداءها المختلفين حسب الظرف. كانت القرارات تصنع بعيداً، في كوكب آخر، في دمشق التي هي أبعد من المشتري؛ فشكّلت لنا التلفزيونات اللبنانية صدمة لغوية ثم اجتماعية فسياسية: كيف يتحدثون بملء الفم عن الحرية والطائفة والجنس، عن المظاهرات والإضرابات، كيف يعارضون الرؤساء بل ويشتمونهم والشتائم الوحيدة التي نستطيع تحمّل كلفتها هي الموجهة ضد الأهل والرب. وحتى اليوم ما زلنا بمنأى عن السياسة، متطهرين من دنسها، بالرغم من اندفاع مئات الآلاف من السوريين في حرب طاحنة وتشكيل تحالفات سياسية المخبر نفعية الجوهر، محلية وإقليمية، وانغماس الجميع حتى قحف رؤوسهم في الشأن العام إلا أنهم بعيدون عن السياسة بعد السلاحف عن سباقات (الفورمولا وان)، وأكثرهم بعداً عن السياسة هو أكثرهم تعاطياً واستخداماً لها في لهاثه اليومي.

الدين والسياسة، الثورة والسياسة، الدين والثورة

في الأحداث التي رافقت الحراك الشعبي السوري بداية 2011 بدا وكأن السوريين قد اهتدوا إلى اللعبة التي غابت عنهم قرابة أربعة عقود، وبدأوا بتحسّس مواطئ أقدامهم إيذاناً بدخولهم معتركاً كان ممنوعاً عليهم الدنوّ منه. بدا وأنهم قد فطنوا إلى طريق المصنع الذي تخرج منه مصائرهم مغلفة وتحوي مدة الصلاحية الممنوحة، لكنها أيام فحسب فصلتهم عن إعادة تسليم ما ظنّوا أنه حيواتهم ومستقبلهم، مستقبل الأولاد والأحفاد ربما، إلى الخطاب الإسلامي المتشنّج والخارج أصلاً للمفارقة-من رحم السلطة، أعادوا بيمين الزهد ما أخذوه بيمين الاعتراض، ووجدوا أنفسهم في معضلة صعبة التحليل والتركيب. كان النظام لعقود خلت يتحكّم بأرواحهم، يضع الكلام، جاهزاً على ألسنتهم، والمشاعر منجزة في أفئدتهم، فآثروا تسليم مصائرهم إلى الشيوخ وارتاحوا من عبء السياسة المقيت. فاجأتهم الحرية واحتاروا ماذا يفعلون بكلماتٍ مثل حكم محلي، حرية رأي، حقوق، مواطنة، فقاموا برميها في كثافة اللحى العفنة وارتاحوا. وكان النظام يدرك المآل الذي سيصلون إليه سريعاً، ربما كان يضحك في سرّه، إذ أنه يعرف ما الذي أنتجته معاهده لتحفيظ القرآن وتسميع الموت، يعرف ما وراء الأكمة وتحتها؛ فانتصر فوراً على مستوى الحجّة النظرية والرأي العام قبل أن يسحقهم على المستوى العسكري؛ فالمتمردون أصلاً حفروا قبورهم بآيات شيطانية وبقي على النظام أن يردمها فحسب.

وعندما بحث النظام عمن يشرح موقفه، عن سياسيين محترفين يتكلمون باسمه لم يجد؛ فاستعان بمتحذلقي الأخوة الأشقاء في لبنان ثم ببعض بقايا يساريي السبعينيات والثمانينيات ليكونوا ناطقين باسمه، لكن أولئك باللغة المتخشّبة الخارجة من مناشر الأخ الأكبر لم يستطيعوا شرح المشروح أصلاً؛ فاسْتُكمل الوقت المتبقي للعروض التلفزيونية بمطربين شعبيين وممثلين درجة عاشرة ولاعبي كرة قدم، وبقي فقط أن يأتي براقصات الملاهي الليلية ليتحدثن عن نظرية المؤامرة بشفاه البوتوكس وعلكة الشيكلتس.

سيمضي وقت قبل أن يفطن جمهور الموالاة للمأزق العميق الذي وضعوا أنفسهم فيه؛ فهم بدورهم سلّموا مصائرهم للعسكر، كان الخوف أكبر من أن ينكروه والتهديد بالذبح أعظم من أن يتغاضوا عنه؛ فسلّموا مستقبلهم ومستقبل أطفالهم للنجوم المرفوعة على الأكتاف. وأيضا ضيّعوا الفرصة التي جاءتهم لارتكاب فعل السياسة المكروه، ما أن شعروا بأنهم موضوعون في “الحسابات” حتى ارتعبوا وذهبوا إلى أقصى الاعتزال، اعتزال المستقبل وليس اعتزال مهنة الموالاة.

ربما سيتعلّم السوريون في نهاية المطاف أن لا أحد يبقى للأبد مشغولاً عن مصيره، لا أحد ينخطف إلى هذا الحد وينأى بروحه عن ترتيباتها، ربما سيقدّرون معنى الحوار والاختلاف، معنى الحقوق والواجبات. رغم أن لا شيء يوحي بذلك حتى الآن، إلا أنهم وإن تعلموها فسيكون بالثمن الأغلى في التاريخ.