بواسطة لامار اركندي | فبراير 26, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
القامشلي، سورية
“نَوباتُ الرّبو الحـــادّة يمكن أنْ تُهدد حياتك، هذا ماقالهُ لي طبيب الصدرية المُناوب في مشفى (الرحمة) حين أسعفني زوجي بعد منتصف الليل قبل حوالي الأسبوع وقد كنتُ في حالة يُرثى لها، وفقدتُ الأمل في البقاء على قيد الحياة.” بكلماتٍ مخنوقة بصفير سُعال مُتكرر تسرُد «بتول» ــ سيدة ثلاثينية وأم لأربع بنات ــ معاناتها من هجمات الرّبو المُزمنة بعد تركيب مُولد الكهرباء في حارتها المعروفة بــ ” الآشورية ” قبالة بيتها في مدينة (القامشلي) شمال شرقي سورية قبل خمس سنوات. وتُضيف: “كنتُ أعاني من حساسية الرّبو لكنها تحولت إلى ربو مُزمن بعد تركيب المولدة التي تنفثُ غازات سامة تخنقني إلى درجة الغثيان والإغماء أحيانـــاً.”
الحـالة باتتْ خطراً مَحتوماً على حياة سميرة ادريس المراهقة التي شُخّص مرضها بسرطان الدم، فبحسب دراسة أعدّتها الجامعة الأميركية في بيروت فإن استخدام مولدات الديزل لمدة تصل إلى٣ ساعات يومياً، ترفع من نسب التعرض اليومي للسرطان بنسبة ٣٣ % أمّا في المناطق التي تعمل فيها المولدات لمدة ٨ إلى ١٢ ساعة في اليوم، فيمكن للجرعات المُستنشقة من البنزوبيرين ــ مُركّبات مُسببة للسرطانات محمولة جواً ــ أنْ تُعادل ١٠ سجائر في اليوم.
سميرة واحدة من ٣٠٠ ألف شخص من سكان (القامشلي) ممّن يُعانون من الاضطرابات النفسية والصحية جراء التلوث وضجيج مولدات الديزل “عصب الطاقة” البديلة للكهرباء النظامية التي تمدّ شوارع وبيوت وأسواق المدينة بالكهرباء لثماني ساعات في اليوم، والتي تجاوز عددها ٣٨٠ مولدة بحسب إحصائية بلدية الشعب المركزية في القامشلي بعد انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه نهائي منذ عام٢٠١٢.
١٠ آلاف مُصاب بالسرطان سنوياً
يستقبل مشفى البيروني في العاصمة دمشق سنوياً سبعة آلاف إصابة جديدة بأمراض السرطان كَمُعدل وسطي حسب إحصائيات المشفى، في حين قَدرت مصادر طبية أنه في كل عام هناك نحو ١٠ آلاف إصابة جديدة في البلاد.
وهي أرقام يعتبرها دانيش إبراهيم أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة مُخيفة وهي تعادل الــ٦٠ إصابة يومياً لأسباب يُرجّح الطبيب إرتفاعها إلى سوء التغذية والأسلحة المحظورة دولياً، والمُبيدات الحشرية والكيماوية التي يعتبرها الإختصاصي إبراهيم من العوامل المؤهلة والمحرضة للإصابة بالمرض، والتي تعمل على تغيير الشفرات الوراثية التي تؤثر بدورها على انتقال الأمراض وراثياً إلى الأجيال القادمة. وأشار إلى انتشار السرطان بنسب كبيرة بين مختلف الفئات العمرية لاسيّما في منطقة الجزيرة محافظة الحسكة بسبب انتشار المولدات الكهربائية والحَرّاقات.
صورة رقم 1: الدكتور «دانيش إبراهيم» أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة.
أكثر من ٣٥٠٠ حالة جديدة سنوياً بسرطان الثدي في سورية، وحسب تقديرات بلندا عبد الرحمن طبيبة مُشرفة سابقاً في مشفى البيروني والاختصاصية في علم الأورام أنّ أكثر السرطانات النسائية الشائعة في دول العالم الثالث هي سرطان الثدي حيث إن ١ من أصل كل ٧ نساء تُصاب بسرطان الثدي. بينما ١ من كل ١٢٨ امرأة سَتُصاب بسرطان عنق الرحم. وعلى الرغم من قلّة الإصابة بسرطان عنق الرحم إلا أنّ أكثر من نصف النساء المصابات به يَمُتنَ بسببه؛ فهو أخطر من سرطان الثدي وتكون طرق الوقاية منه بإجراء لُطاخة عنق الرحم. وارتفعت مؤخراً معدلات الإصابة بالسرطان بنسب كبيرة بين السوريات لا سيما سرطان الثدي.
صورة رقم 2: الطبيبة «بلندا عبد الرحمن» المُشرفة سابقاً في مشفى (البيروني) والاختصاصية في علم الأورام.
انهيار النظام الصحي
الحرب الدائرة رحاها في سوريا لعامها الثامن تسببت بهجرة ٥٠٪ من الأطباء الاختصاصيين إلى خارج البلاد، وخلّفت أمراضاً كثيرة لاسيّما بين أنقاض المدن المدمرة. فَبسبب تلوث الطعام والمياه وحتى الهواء وتراكم أكوام القمامة الملقاة في كل مكان، وانحلال الجثث التي يصعب انتشالها من تحت الأبنية المُنهارة، عدا عن الجرب وشلل الأطفال والحصبة والتهاب الكبد الوبائي، والكوليرا، وحمّى التيفوئيد.
وتُرجّح الطبيبة «سحر جميل» أخصائية الأمراض الجلدية أسباب تزايد انتشار اللايشمانيا وغيرها من الأمراض الجلدية المُعدية إلى ظروف النزوح وتجمع أعداد كبيرة من المواطنين في أماكن محصورة وغير نظيفة (كمخيمات اللاجئين ومراكز الإيواء) واستخدامهم مرافق الخدمات المشتركة وتداعيات الحرب على البيئة. إضافةً لوجود مواد غذائية وطبية كـ اللقاحات دخلت سوريا بطرق غير شرعية وغير مراقبة طبياً ومجهولة المصدر وتاريخ الصلاحية.
أشار بيان منظمة الصحة العالمية لعام ٢٠١٧ إلى تدهور الخدمات الصحية وتأثر وصول المدنيين إليها، وكشفت إليزابيث هوف مُمثلة المنظمة في سوريا، عن أنّ أكثر من ٥٠٪ من المرافق الصحية بما في ذلك المستشفيات والمراكز الصحية لا تعمل. وبالإضافة إلى ذلك فإن ٧٥٪ من المِهنيين في مجال الصحة، بمن فيهم المتخصصون في اختصاصات عالية مثل أطباء البَنْج والجراحين غادروا البلاد. وتؤكد هوف أن سوريا قبل الحرب كانت تتمتع بأفضل مؤشر صحة في منطقة الشرق الأوسط، وما رأيناه الآن يُوضّح أنّ تغطية عمليات التطعيم قد انخفضت من ٩٥٪ إلى أقل من ٦٠٪، وهذا يُؤثر بشكل خاص على المناطق التي يصعب الوصول إليها والمناطق المحاصرة.
الأسلحة الحارقة
تصاعدت الهجمات بالأسلحة الحارقة في سوريا بشكل كبير منذ بدأت روسيا عمليتها العسكرية المشتركة مع الحكومة السورية في٣٠ سبتمبر/أيلول ٢٠١٥ ضد الفصائل المسلحة المعارضة في غوطة دمشق وإدلب وحماة وسراقب وغيرها. ولم تتوانَ الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة السورية والمدعومة من تركيا في استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين في حيّي (الأشرفية وشيخ مقصود) في مدينة حلب وفي مدينة منبج وريفها.
وتوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقاً مُؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها.
صورة رقم 3: الصاروخ الذي ضرب بيت «فهد الناصر».
كان بيت عائلة «فهد الناصر» من قرية الدندلية في ريف مدينة منبج في مرمى القنابل الحارقة والصواريخ التي أطلقها مقاتلو درع الفرات الفصيل المسلح التابع للمعارضة السورية على قريته قبل حوالي عامين وتعرض طفله مصطفى ذو ثلاث سنوات وزوجة أخيه وأخته لحروق أدّت إلى تشوّهات خُلقية.
يُؤكد الناصر تعرض أخته وزوجة أخيه وطفله إلى حالة غثيان وسُعال شديدتين نتيجة استنشاقهم لغازات ذات روائح كريهة كما قال، إضافة لمواد سائلة انبعثت من الصاروخ الذي قُصف به منزله أدّت إلى احتراق أقدامهم وتشوّه جلدها.
صور رقم 4 و 5: تُظهر الطفل «فهد الناصر» وتشوه قدميه نتيجة المواد سائلة المنبعثة من الصاروخ الذي قُصف به منزله.
وتُوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقا مؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها، وتُشعل الأسلحة أيضاً حرائق يصعب إطفاؤها، وتُدمّر الأحياء المدنية والبنية التحتية.
منظمة هيومن رايتس ووتش سجلت استخدام ٤ أنواع من الأسلحة الحارقة في سوريا منذ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٢، جميعها من نوع “زاب”، وهي قنابل حارقة.
صورة رقم 6: مادة سائلة ناتجة عن الصاروخ الحارق.
السلاح الكيماوي
خلال الحرب السورية وُثّقت عدة حالات تم خلالها استخدام السلاح الكيماوي كان أبرزها الهجوم الكيماوي الذي استهدف منطقة الغوطة (غوطة دمشق) في ٢١ آب ٢٠١٣. فقد اتّهمتْ المعارضة السورية قوات النظام بإلقاء سلاح كيماوي من غاز السّارين على منطقة الغوطة في حادثةٍ أدّت إلى مقتل ما لا يقل عن١٥٠٠ شخص في زملكا وكفربطنا والمعضمية وجوبر وعربين وسقبا وحمورية وحرستا وعين ترما. كان معظم الضحايا من المدنيين بينهم نساء وأطفال وبلغ عدد المصابين أكثر من ٦٠٠٠ حسب إحصاءات المشافي والنقاط الطبية في المنطقة. وكانت بعثة الأمم المتحدة للتحقيق حول استخدام الأسلحة الكميائية في سوريا قد أجرت تحقيقاً في العام ٢٠١٣ لتقصي مزاعم استخدام الأسلحة المحظورة في ٧ من أصل ١٦ حالات: خان العسل، وسراقب، وشيخ مقصود، الغوطة، البحارية، جوبر، وأشرفية صحنايا.
واعترفتْ احدى فصائل “جيش الإسلام” التابعة للمعارضة السورية، في السابع من أبريل/نيسان ٢٠١٦، باستخدامها أسلحة محظورة خلال الإشتباكات مع وحدات حماية الشعب الكردية في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب والتي تسببت بحالات اختناق في صفوف المقاتلين والمدنيين في الحي.
كما اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات النظام السوري باستخدام غاز الأعصاب في ثلاث هجمات على خان شيخون، وتحدثت المنظمة في تقرير نشرته في أيار/ مايو ٢٠١٧ عن “نمط واضح وممنهج” في استخدام الأسلحة الكيماوية قد يصنف في خانة “جرائم ضد الإنسانية”.
ووفقاً لمجلة فورين بوليسي فقد استخدم الجيش الأمريكي الكيماوي رغم تعهده بعدم استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في ساحات المعارك في العراق وسوريا، إلا أنّ عدداً من المسؤولين أكّدوا أنّ الجيش الأمريكي قد أطلق آلاف القنابل التي تحتوي على هذه المادة خلال غارتين على شاحنات النفط في سوريا في مناطق كان يُسيطر عليها تنظيم داعش في أواخر سنة ٢٠١٥. وتُعتبر هذه الهجمات بمثابة أول استخدام مُؤكُد للجيش الأمريكي لليورانيوم منذ غزو العراق سنة ٢٠٠٣، عندما استُخدمت هذه المادة السامة لمرات عديدة، الأمر الذي أثار موجة غضب داخل المجتمعات المحلية التي زعمت أنّ هذه المواد السامة من شأنها أن تتسبب في أمراض سرطانية فضلاً عن جملة من التشوهات الخُلقية.
تُحذّر عبير حصّاف رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية الكردية في القامشلي من النتائج الكارثية على الصحة البشرية والحيوانية والبيئية جرّاء استخدام الأسلحة الكيماوية وتضيف: “استخدام الأسلحة المحظورة دولياً تُشكل تهديداً خطيراً على الأمن الصحي في سورية، نتيجة شيوع الأمراض السرطانية، وازدياد التشوهات الجينية التي تخلقها الأسلحة والمواد الكيميائية، ممّا يؤدي إلى تعقيد الواقع الصحي بارتفاع عدد المرضى وضرورة توفير الرعاية اللازمة لهم.”
صورة رقم 7: «عبير حصّاف» رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية (الكردية) في القامشلي.
ونوّهت حصّاف إلى أضرار استخدامها على الثروة الحيوانية والزراعية، كون الأسلحة الكيميائية تُؤدي إلى تلوث خطير في التربة والنباتات. وقد تتسبب الخضار والمحاصيل الزراعية والفاكهة المصدرة محلياً بين المحافظات والمزروعة في الأماكن التي تعرضت لتلك الأسلحة إلى خطر انتقال أضرارها إلى المدنيين الذين سيتناولون تلك المحاصيل الملوثة ممّا سَيزيد من خطورة الكارثة، وانتقال خطورتها مستقبلاً أيضاً.”
انهيار القطاع الدوائي
تتوزع معامل الأدوية بشكل رئيسي بين ثلاث محافظات هي: حلب فمعاملها تنتج حوالي ٥٥٪ من إنتاج الدواء السوري، ودمشق وريفها ٤٠٪ وحمص ٢٠٪ ، وبحسب تقديرات الصناعات الدوائية، فقد انخفض انتاج الدواء في سوريا إلى ٦٠٪ نتيجة تضرُّر العديد من المعامل.
أرجع الصيدلاني جلال مراد سبب تراجع جودة الدواء المتوافر حالياُ في سوريا إلى انخفاض جودة المواد الأولية المستوردة من الصين والهند وإيران. وأشار إلى أنّ الغياب شبه التام لرقابة المؤسسات المعنية كان سبباً في قيام مُنتجي هذه الأدوية بتخفيض النسبة الدوائية الفعالة فيها. ناهيكَ عن رَواجْ تجارة الأدوية المُهربة والمخدرات والأدوية المُهدئة والتي تحتوي على نسب عالية من المواد المخدرة، وانتشرت بعض الأصناف الدوائية عديمة الفعالية كأدوية الالتهابات وبعض المسكنات.
صورة رقم 8: الصيدلاني «جلال مراد».
وأضاف مراد إنّ انقطاع طرق النقل والمواصلات بين المحافظات تسبب بدوره بصعوبات في نقل وإيصال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى الأسواق. ناهيك عن تعامل المنظمات الصحية العالمية فقط مع السلطات المركزية السورية، وهذا بدوره انعكس سلباً على الواقع الصحي في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري.
استمرار الحرب السورية منذ منتصف آذار ٢٠١١ والتي تسببت بمقتل وإصابة الآلاف وتشريد عشرات الآلاف في مخيمات النزوح واللجوء. فاق واقع الصحة في سورية النتائج الكارثية للحرب التي أنهكت كاهل السوريين منذ قرابة الثماني سنوات. هذا الواقع يُحتم على الجهات المعنية الإسراع في إجراء تقييم شامل للقطاع الصحي والرعاية الصحية في البلاد وتأمين الأدوية للمصابين بالأمراض المزمنة. يجب أن يتم هذا تقييم من خلال دراسات تشمل إلى جانب القطاع الصحي الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم وضع السياسات اللازمة لتحسينها مع استكمال ترميم المشافي والمراكز الطبية المتضررة وتأمين المعدات الطبية اللازمة لعملها، وذلك بالتعاون مع منظمات الصحة العالمية.
بواسطة Rana Haj Ibrahim | فبراير 19, 2018 | News, Reports, غير مصنف
برلين
عندما تتجول في العاصمة الألمانية برلين، وخاصة بمنطقة كأوسلور، قد يصدمك العدد الكبير من الأتراك الذين جاؤوا منذ زمن بعيد إلى ألمانيا، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. لكنك قد تتفاجأ أكثر لدى سماعك حديث الألمان عن مجيء عدد كبير من الأتراك مؤخراً إلى ألمانيا هرباً من تركيا، ومن الإجراءات التي اتخذها الرئيس التركي أردوغان ضد من ساهموا في التخطيط لانقلاب ضده.
وتشير مصادر ألمانية ل”صالون سوريا” إلى أن أعداداً كبيرة من الأتراك جاؤوا إلى المدن الألمانية وخاصة برلين، عن طريق فيزا سياحية لثلاثة أشهر، وعليهم بعد هذه الفترة أن يتقدموا بطلب لجوء، بعد أن تم تسريحهم ومضايقتهم من قبل السلطات التركية. وأضافت المصادر:” أن الكثير ممن جاؤوا مؤخرا هم من الأكاديميين والصحافيين، الذين يمكن أن يجدوا فرصة عمل في ألمانيا بسهولة، في حين أن الجالية التركية السابقة عملت سابقاً في البناء وفي قطاع المطاعم.” وعبرت المصادر عن استيائها مما تفعله السلطات التركية بمواطنيها من جهة، ومن تدخل تركيا بمدينة عفرين السورية.
وأكدت المصادر أن:” منصة (الحقوق والعدالة) التركية التي تأسست عام ٢٠١٦ من قبل مدافعين عن حقوق الإنسان، وثقت إغلاق الحكومة التركية لحوالي ألف منظمة مدنية، وحوالي مائتي وسيلة إعلام، تماشياً مع قانون الطوارئ الذي أعلنته السلطات التركية منذ تموز عام ٢٠١٦ كما أعلنت المنصة أن حوالي ١٥٠ ألف تركي قد سرحوا من عملهم من قبل الحكومة، ومنهم من اعتقل بعد اتهامهم بعلاقتهم مع العسكريين مخططي الانقلاب.”
صحافية من صحيفة “سود دوتشه زيتونغ” الألمانية أوضحت ل”صالون سوريا” أن:” الصحافيين الألمان أصبحوا يخشون زيارة تركيا بعد الاعتقالات التي نفذتها السلطات ضد صحافيين أجانب”، مشيرة إلى أن “تركيا أصبحت تعتبر الآن بلداً خطراً بالنسبة للصحافيين، وبدأ فيه الصدام بين القوميات.” وأضافت أن:” ألمانيا استقبلت الكثير من الأتراك، ولا يمكنها أن تردهم خائبين، خاصة وأن الأتراك على علاقة وثيقة مع الألمان، فهناك تزاوج وعلاقات اجتماعية بين سكان البلدين منذ قديم الزمان.”
وقللت الصحافية من أهمية تزايد أعداد الأتراك الجدد في البلاد، وعدم تأثيره على صعود اليمين المتطرف في ألمانيا، مؤكدة أنه “يختلف عن عدد اللاجئين السوريين واللاجئين الأفغان وغيرهم ممن تسببوا بمشاكل داخل ألمانيا.” ورأت أن، “اليمين المتطرف لن يصل بسهولة إلى السلطة.”
ولم تتردد الحكومة الألمانية بدعم من قدموا مؤخراً إليها من تركيا، حيث بادرت الحكومة الألمانية بتشغيل عدد من الأكاديميين، كما قامت بمنح الصحافي التركي الذي يقيم حالياً في ألمانيا ياوز بيدر جائزة “التميز في الصحافة” الألمانية التي تقدمها “مؤسسة جنوب شرق أوروبا” ومقرها ألمانيا.
ويعتبر بيدر أول صحفي أجنبي يفوز بهذه الجائزة، حيث تسلمها في حفل أقيم في جامعة هومبولت في برلين يوم السبت الفائت. وحضر الحفل العديد من الصحفيين من مؤسسات إعلامية ألمانية، وممثلون من بعض دول البلقان، كما حضر ممثلون عن منظمة “مراسلون بلا حدود”، وأكاديميون أتراك، وممثلون عن وزارة الخارجية الألمانية.
هذا وقد شهدت العلاقات التركية الألمانية تصعيدا مؤخراً، ووصف الرئيس التركي الاتحاد الأوروبي بأنه من بقايا النازية والفاشية، وبأنه يدعم الإرهاب. فيما هددت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال انتخابات منصب المستشارية في أيلول سبتمبر الماضي بعدم انضمام تركيا كعضو بالاتحاد الأوروبي، وقالت ميركل إنه “من الواضح أن تركيا لن تنضم إلى الاتحاد”، مضيفة أنها ستتحدث “إلى قادته الآخرين حول إنهاء عملية انضمام تركيا المتعثرة.”
بواسطة Ghaida Al Oudat | فبراير 19, 2018 | Reports, غير مصنف
لم يكن ليخطر ببالي يوما أن أعيد قراءة قرار مجلس الأمن 1325 الخاص بالمرأة والقرارات اللاحقة به بعين امرأة تحيا في ظل الحرب، ولم أره بعد إعادة قراءته في نهاية ٢٠١١ كما رأيته من قبل. فأن تكون بلدك تحت ظل الحرب، يعني أن تصبح كل اهتماماتك البحثية متعلقة بما يخدم قضية البلد وعما يمكن أن يتم توظيفه والاستفادة منه بما يناسب الوضع الخاص للحرب.
كانت شؤون المرأة كلها تعنيني كامرأة تعيش في دول العالم الثالث حيث توجد أردأ القوانين بحق النساء على مستوى المجتمع الذكوري سلطةً وشعباً، بقوانينه وممارساته وأعرافه وتقاليده. ورغم حساسية تلك القضايا وأهميتها، لكن يبقى العمل عليها ممكناً، والوصول لنتائج متاحاً، ولو كان بطيئاً وبطيئاً جداً. أما تحت ظل الحرب فتتغير الأولويات لتتصدرها شؤون طارئة نتيجة تضاعف سوء وضع النساء في ظل الحرب، والإمعان في تهميشهن، وتعرضهن المضاعف للعنف.
تصبح تساؤلات عديدة هاجساً يومياً، كيف يمكن حمايتهن؟ كيف يمكن توفير احتياجاتهن الخاصة؟ ثم كيف يمكن إشراكهن في عمليات الحفاظ على الأمن وبناء السلام، ومن ثم ضمان تمثيلهن لإسماع صوتهن في عملية تسوية الصراع. كيف يمكن ضمان تواجدهن في جميع مستويات صنع القرار كشريك متساوي لمنع الصراعات وحلها وتحقيق السلام المستدام.
ليس هناك أفضل من القرار 1325 وما لحقه من قرارات للنظر في كل تلك الأولويات والبحث عن مخارج لها، والمطالبة بتطبيقها، وحسب معرفتي الخاصة فقد بدأت المنظمات الدولية والعالمية بإلقاء الضوء على القرار وضرورة إشراك النساء السوريات منذ نهاية عام ٢٠١٢. وتتالت الدعوات لتفعيله والحديث حوله من كل الاتجاهات، وترافقت بمؤتمرات ودورات تدريبية تدعو لضرورة تضمين النساء في العمل السياسي الآني والمستقبلي.
كانت كل تلك الدعوات، الحكومية تارة وغير الحكومية تارة أخرى، تطرح الموضوع وتتناوله بشكل نظري لا تخرج نتائجه عن إطار الورق المكتوب، ولا يتم تفعيل تلك النتائج على أرض الواقع بطريقة منظمة تمكن من الوصول لنتائج حقيقية وليس نظرية. وإن تم القيام بأي مشاريع مبنية عليها فلا يتجاوز تأثيرها العشرات، بتأثير آني سرعان ما يزول دون أن يبني نتائج أو ينجز خطوات باتجاه الهدف المنشود. وفي أحيان كثيرة تكون بعض النساء عاملاً معطلاً، فمنهن من كن يشاركن وهن لا يؤمن بمدى أهمية مشاركة النساء في العمل السياسي ومراكز صنع القرار، ولا في بناء السلام، ولا أهمية أن يكن شريكات متساويات ومتكافئات في جميع المراحل، بل ربما يعتبرن الرجال قوامين على النساء. ومنهن من لم تكن تطرح نسبة مشاركة في مراكز صناعة القرار بأكثر مما وهبت سلطة الديكتاتور لهن (١٢%).
كثيرات قابلتهن لم يكن يعين خطورة الوضع الذي كان يتم أحياناً إلقاء الضوء عليه؛ فيُقللن من حجم أثر الحرب الكبير على النساء والفتيات والأطفال، ويطرحن القضايا وكأن الحرب ستنتهي بين ليلة وضحاها، ويؤكدن أننا لن نحتاج للتفكير في كل القضايا التي طرحتها القرارات المتعلقة بوضع النساء في ظل الحروب بدءاً من القرار 1325 وما لحقه.
في ظل السنوات السبع الماضية، ونتيجة لآثار الحرب الواضحة على النساء السوريات جميعهن، بات من الضروري والمستعجل طرح وضع خطة عمل واضحة لتفعيل القرارات الأممية المتعلقة بالنساء، فلا يمكن الاعتماد على العمل العشوائي والمتناثر وغير المثمر. باتت الحاجة ماسة للعمل المنظم، بعدما تعرّضت النساء السوريات في كامل المجتمع لآثار النزاع بشكل مباشر، إن كان على صعيد كونهن أمهات أو أخوات أو بنات أو زوجات أو حبيبات، أو على صعيد كونهن مواطنات سوريات يحملن قضايا رئيسية يدافعن عنها وأهدافاً مهمة يسعين لها. ودون خطة عمل منظمة لن تتمكن النساء من الوصول لنتائج مرضية، إن كان فيما يخص تحسين وضعهن، أو الوصول لحقوقهن أو في إحلال السلام وحل النزاع .
تتطلب خطة العمل مشاركة كل السوريات بعيداً عن الخلافات السياسية والانتماءات الضيقة، فمن الصعب بل من المستحيل إحلال السلام دون مشاركة حقيقية لكل السوريات على امتداد مناطق سوريا للوصول إلى سلام شامل ومستدام. دونهن جميعاً ستبقى النار تحت الرماد ومن الممكن أن تشتعل من جديد مرة أخرى، إنهن الأقدر على الوصول للأسرة والتأثير في آلية تفكير أفرادها ودفعهم باتجاه العمل الجدي لإحلال الأمن والسلام في كافة المجتمع.
ورغم أن القرار 1325 لم يقدم خدمة مباشرة للسوريات، لا في خدمة النساء والفتيات في أوقات النزاع، ولا في حمايتهن من تبعات النزاع المسلح، لكنه يبقى قراراً مهماً يؤكد على الدور الهام للمرأة في بناء السلام وحفظ وتعزيز السلام والأمن، وعلى ضرورة مشاركة النساء في كل مراحل عملية السلام .
رغم سوء العمل على القرار 1325 في الوضع السوري، حتى من “الأمم المتحدة” التي حولت دور النساء من فاعلات حقيقيات، لمشاركات نخبويات غير فاعلات في شؤون السياسة، كما فشلت في فرض تبني قضايا النساء في الدستور والقانون من قبل كل أطراف النزاع. وفرغت “الأمم المتحدة للمرأة” المبادرات النسوية من مضمونها بالمطالبة بالعدالة والديمقراطية والسلام العادل، وحولت دور السوريات من حاملات قضايا رئيسية وهامة وشاملة، لحمامات سلام ولو كان هذا السلام هشاً وسطحياً ومجرد فقاعة.
عند النظر لشمولية القرار نرى بوضوح قدرته على التغيير وأهميته، وكيف يمكن استثماره لخدمة النساء آنياً ومستقبلياً، وكيف نستطيع عبره تنظيم تحالفات وشبكات نسوية ضاغطة لتنفيذه ولدعم النساء حيثما تواجدن.
كيف ستتمكنّ السوريات من العمل عليه إن لم يوحّدن جهودهن ويحرصن على تنفيذه؟ وكيف سيحملن قضايا النساء إن لم يدركن حقوق الإنسان عامة وحقوقهن خاصة ويؤمن بها؟ والأهم كيف سيتمكن من إحلال سلام عادل وشامل ومستدام إن لم تكن دولتهن دولة ديمقراطية وقانون وعدالة ومواطنة متساوية؟ كل هذا يمكن ان تطرحه خطة العمل وتلم به وتعمل عليه، وبالتالي تستطيع أن تضع خططاً وآليات للتنفيذ، ومن هنا تأتي أهميتها وضرورتها.
حول المرأة السورية والأمن والسلام:
قدمت المرأة السورية ولا تزال الكثير من التضحيات وعانت من الاضطهاد والعنف بمختلف أنواعه وأشكاله من جميع الأطراف، ولا زالت تتعرض للانتهاكات والمخاطر وتعيش تحت هيمنة الفكر الذكوري على المجتمع. وتعتبر النساء هن الضحية الأولى لانتهاكات حقوق الإنسان في الأسرة والمجتمع والدولة وأطراف الصراع المسلحة بمختلف توجهاتها الدينية والسياسية. واليوم يواجهن تحدياً مضافاً لاضطراب وضعهن الأمني والجهل بالزمن اللازم لاستقرار سورية. إنه الخوف فيما إذا استقر الوضع ولم تكن النساء قادرات بعد على الانخراط في العمل على تغيير نظرة المجتمع للنساء، ولم تشاركن على صعيد متساوي ومتكافئ في مراحل التغيير والعبور نحو الاستقرار والحفاظ على بنية المجتمع.
لهذا على السوريات أن يحظين بكل الدعم للعب دور رئيسي ومركزي في العديد من المستويات، وتبني قرار 1325 حد فاصل للوصول الى حقوق النساء وقضايا الأمن والسلام؛ فهو يفتح المجال أمامهن للإدلاء برأيهن والمشاركة بأفكارهن للضغط على صانعي القرار لتغيير سياسات العنف الدموية القائمة والقوانين التمييزية بما يحقق لهن المساواة الحقيقية والمواطنة الكاملة المتساوية. ويطالب القرار 1325 أطراف النزاع باحترام حقوق النساء ودعم مشاركتهن في مفاوضات السلام وفي مرحلة ما بعد النزاع. ويعد وثيقة قانونية بالغة الأهمية تدعو إلى زيادة نسبة تمثيل النساء في كل مستويات صنع القرار لتتمكن من المشاركة الفاعلة في آليات منع الصراعات وإدارتها وحلها.
لكن يُعتبر تطبيق القرار 1325 ودعمه التحدي الأكبر الذي تواجهه النساء السوريات في المرحلة الحالية؛ وذلك لغياب دور النساء في صنع القرار السياسي الوطني، وإقصائهن عن العمل السياسي الحقيقي. رغم أن الواقع يتطلب ضرورة وجود النساء في الساحة السياسية بشدة ليشاركن في صناعة القرار الحالي والمستقبلي، وليتمكن من المشاركة في صناعة مستقبل سوريا بما يخدم المجتمع بشكل عام، وقضاياهن بشكل خاص.
نحن اليوم بأشد الحاجة لتفعيل دور النساء الذي طالما شل حركته عوامل كوضعها في الدين ونظرته لها، وتبني المجتمع لأعراف بالية، وتسلط المجتمع الذكوري، والخوف والضعف الناتج عن عدم وجود مجموعة قوية من النساء قادرة على خلق القرار والبيئة المناسبة لإنهاء حالة التفرد والتسلط وإقصاء النساء في المجتمع.
الفرصة المناسبة مُتاحة للعمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن 1325 ووضع خطة عمل وفقه، والدفع باتجاه تنفيذه، وتضمينه في خطة عمل للمناصرة والدعم والمطالبة بتطبيق بنوده وتنفيذها. للبدء يلزم أولاً تكييف القرار 1325 وتطويعه للخصوصية السورية، فالقرارات الدولية عادةً تواجه بالرفض من قبل التيارات المتشددة والمجتمعات المحلية، وتُتهم بأنها مستوردة، وأنها لا تناسب الطابع الثقافي للمجتمع. وهذا الوضع قد ينتج عن الجهل بالقرار، لهذا تبدأ الخطوة الأولى بحملة توعوية بإنسانية القرار 1325، وتعامله مع النساء كشريكات في صنع السلام والأمن في بلدهن. ثم يتم الانتقال للإجراءات الجذرية والشاملة الممتدة إلى أعماق المجتمع، والتي تستوعب جميع مكوناته. ومن هنا تأتي أهمية دور المنظمات المدنية خاصة النسوية، ودور الأحزاب السياسية، والقيادات المجتمعية، بالقيام بحملات حشد ومناصرة موجهه نحو تبني سياسات عامة وبرامج خاصة لتفعيل القرار، والطلب من السلطة والمعارضة إعطاء دور حقيقي أكبر للنساء في الأوساط السياسية والاجتماعية.
يقع على المجتمع الدولي ضمان مشاركة الأمم المتحدة في البدء بتأسيس خطة عمل وطنية تمهيدية لتفعيل دور النساء والدفع باتجاه تبنيها من جميع الأطراف، تعتني بتأهيل وتمكين السوريات وتزويدهن بمهارات حل النزاع ودمجهن في صنع القرار السياسي لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية.
يتبع هذه الخطوة الأممية، تمكين النساء على امتداد سوريا من وضع خطط عمل وبرامج مشتركة تراعي خصوصية كل منطقة، على أن تحظى الناشطات في هذا الشأن أولاً ببرنامج حماية تتبناه جميع الأطراف وتلتزم بتنفيذه، تحت رعاية أممية متوفرة للدعم والتنفيذ. لا تستطيع خطة العمل تجاهل ضرورة مراعاة رفع الوعي لدى العاملين في المؤسسات العسكرية، ورجال الشرطة، حول العنف القائم ضد النساء وضرورة حمايتهن. ولا يجب أن ننسى أهمية دور السياسات الإعلامية في تكريس مفاهيم المشاركة والمساواة بين المرأة والرجل ورفع سوية ثقافة المجتمع نحو تلك القضايا والعمل على تغيير المفاهيم والأعراف الدارجة.
ومن الأهمية بمكان العناية بتطوير أداء السياسيين وأصحاب صنع القرار حول المساواة بين الجنسين، وضرورة مشاركة المرأة في الحكم على صعيد الأحزاب السياسية، ومجالس الشعب، والوزارات، ومؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدني. وهذا يدفع للنظر لأهمية العناية في خطة العمل برفع وعي السياسيين ورجال القضاء بحقوق المرأة، وتغيير النظرة النمطية لها، وإدماج المرأة والرجل في رسم سياسات واستراتيجيات تضمن تنفيذ خطة العمل، وضمان تعامل النظام القضائي مع قضايا النساء من منظور العدالة والمساواة ما بين الجنسين بما يتناسب مع القرارات الأممية المتعلقة بحقوق النساء. كما على خطة العمل ادراج ضرورة مراجعة المناهج التعليمية لضمان تدريس مفهوم المساواة بين الجنسين وتطبيقه في كافة المؤسسات التعليمية.
لعل هذا مجرد إضاءة على بعض ما يمكن استثماره من القرار 1325 لخدمة السوريات وقضاياهن في ظل الحرب وما بعدها، ربما تدفع الإضاءة سوريات وسوريين لمحاولة فهم أهمية هذا القرار الدولي وضرورة العمل على تنفيذه والمطالبة بتطبيقه، لنتمكن من البدء برسم الطريق نحو سلام عادل في ظل دولة عدالة ومساواة وحقوق إنسان.
نحن وحدنا قد نتمكن بالعمل والمثابرة من وضع خطة عمل للنساء السوريات وفقاً للقرار 1325 وما لحقه من قرارات، ولكننا لن نتمكن من تطبيقها دون حشد دول العالم لنيل دعمها والضغط على الأمم المتحدة للعمل معنا. هذا فيما لو كانت دول العالم والمنظمات الدولية والنسوية يملكون النية لتطبيق ودعم القرار 1325 في الوضع السوري، وإحلال الديمقراطية والسلام في سوريا، وهذا ما أشك به.
بواسطة Paula El Khoury | فبراير 8, 2018 | Reports, غير مصنف
رومان فوا جغرافي خبير بدراسات المياه، أنجز رسالته الجامعية عن “منشأة الأسد” أو مشروع الفرات كما عرف في سوريا، وما رافقه من تشييد لقرى نموذجية، وجر لمياه الفرات لتأمين حاجات السكن والزراعة، وذلك بإدارة مركزية ممسكة بإحكام من قبل نظام البعث في السلطة. امتدت دراسة الجغرافي فوا على مدى سنتين، بين عامي 2008 و 2010. قابلناه في باريس فشرح لنا أهم ما توصل إليه في هذه الدراسة. كما أتاحت لنا المقابلة الإطلالة على الوضع في سوريا عشية بدء الأحداث، من موقع متميز لمراقب خارجي أقام طوال تلك الفترة في شرق البلاد.
بولا الخوري :ما الذي أثار اهتمامك بدراسة مزارع الدولة في سوريا؟
رومان فوا: كنت أعمل على مشاريع المياه في مالي بأفريقيا، فطرح علي المشروع في العام 2007 أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه في الجغرافية البيئية في السوربون بباريس. الاقتراح أتى من باحث سوري في الاقتصاد الزراعي في جامعة حلب سليم بدليسي، وهو حائز على دكتوراه من السوربون أيضاً. وكانت الفكرة تحقيق مشروع بحث مشترك مع جامعة حلب حول إيجابيات وسلبيات منشأة الأسد كنموذج للتنمية في منطقة شبه قاحلة. وإن كانت مساهمتي في المشروع تتعلق بالمرحلة الراهنة أي بعد نهاية تجربة مزارع الدولة، فسرعان ما اكتشفت أنه لفهم هذه المرحلة علي العودة إلى البداية. وهكذا قررت دراسة المزارع منذ نشأتها في الستينات، لا بل عدت مئة عام إلى الوراء، إلى بداية التحديث في سوريا في ظل عبد الحميد الثاني.
أي أنك لم تكن تعرف سوريا يوماً، لم تزرها من قبل؟
لم أكن أعرف سوريا أبداً ولهذا قررت البدء بدراسة اللغة العربية في باريس قبل ذهابي بشهرين، لأنني كنت مقتنعاً أن دراسة أي منطقة بدون معرفة لغتها أمر غير سليم لي وللدراسة وللناس الذين سأدرس تجربتهم. ومع ذلك كان من المتوقع أن يحصل أحد الشبان السوريين على منحة من أجل مساعدتي بالتواصل مع السكان، لكنه لم يحصل عليها، فاضطررت آنذاك للذهاب وحيداً. كان لا بد أن أسرع في تعلمي اللغة خاصة أنني لم أكتسب الكثير منها في فرنسا، فكنت أصرف ساعتين كل يوم قبل النوم في حفظ ٥٠ كلمة على مدى أيام الأسبوع ودون انقطاع، على أن أعيد تردادها في الصباح كاملة. لم أنجح دائماً في حفظها كلها لكن ذلك ساعدني كثيراً خاصة أنني كنت مضطراً لاستخدام العربية مع الذين لا يتقنون غيرها. وفيما ما بعد علمني السكان اللغة وخاصة المحكية.
صحيح لديك لهجة سورية عندما تتكلم بالعربية، هل تتقنها فعلاً؟
حتى أنني أستطيع الآن أن أقرأ وأفهم ما أقرأه وبإمكاني أن أكتب قليلأ. أنا مولود لأب كاثوليكي وأم يهودية عائلتها عربية “سافارديم”. حين التقيت جدتي والدة أمي بعد عودتي من سوريا فوجئت بأنها بعد خمسين عاماً من إقامتها في فرنسا ما زالت تتكلم العربية بطلاقة ورحنا نتكلمها سوية. كنا سعيدين جداً بذلك! وما زلت أتكلم العربية مع سوريين أتوا الى فرنسا بعد الحرب، وأنا أساهم في تسهيل أمورهم هنا، لأسباب لا تتعلق بابحاثي فقط بل من خلال الجمعيات التي تساعد من يأتون من هناك. هؤلاء الناس كانوا مضيافين معي. ومع العلم أنه كان لدي مسكن في جامعة حلب فإنهم رفضوا إلاّ استضافتي في منازلهم.
في دراستك تستشهد بتجارب قديمة في المنطقة وصولاً إلى مصر الفرعونية، هل تعتبر أن نظام البعث انطلق من حاجات ترشيد استثمار المياه وإلى مركزة المشاريع وإمساكها من خلال فهم تلك التجارب القديمة؟
يبرر النظام سلطته بخطاب عقلاني على الدوام، فحتى في مصر الفرعونية في ظل الإدارة المركزية لتوزيع المياه لم يكن الأمر نابعاً من الحاجة لترشيد المياه أو حسن استثمارها وتوزيعها، بل اندرج في سياق تبريرات لتأمين استمرارية السلطة، بحيث يجبر المواطن اقتصادياً وسياسياً على الامتثال لها. ففضلاً عن القمع السياسي يشكل هذا التبرير قاعدة أساسية لأي لسلطة. مع ذلك فإن مشروع مزارع الفرات في شرق سوريا، أي المنطقة الواقعة شرق حلب، يحتمل تبريرات ترشيدية كالتي قدمها النظام آنذاك: فإذا رسمنا خطاً وهمياً من الشام حتى حلب فإن كل ما يقع شرق هذا الخط، وهو يتضمن فيما يتضمن الرقة، دير الزور وتدمر كان نوعاً من المساحات الصحراوية التي لا يقطنها إلا البدو.
إذا كانت هذه المناطق قاحلة، ألم يكن المشروع مشابها لمشروع القذافي التبذيري لري الصحراء إذن؟
أولاً ليست المنطقة صحراوية قاحلة كلياً ، فكما في كل صحراء هناك واحات. مع ذلك هناك شيء مما تقولين. وهذا ما ينطبق على كل مشاريع التحديث في المنطقة. فأي سلطة جديدة تقضي على كل ما تحقق قبلها وتعلن أنها بصدد بناء “الإنسان الجديد” في محيط جديد، لتثبت بأنها أفضل من سابقاتها. وهذا ما عبر عنه خطاب السلطة البعثية آنذاك، تحت شعارات من نوع: “إنسان جديد فوق أرض جديدة” . وهو شبيه بالخطاب التحديثي الغربي بشكل عام. فالمشروع الأمثل للبعثيين في سوريا كما في مصر الناصرية وكذلك في إسرائيل هو تحقيق مزارع بإشراف الدولة، ففي إسرائيل مثلاً تم إنشاء الـ”كيبوتز”. ورغم ادعاء إسرائيل أنها تتميز عن الحكومات القومية العربية، فإن كل هذه التجارب ترتكز على أيديولوجية قومية اشتراكية، تتطور فيما بعد إلى ليبرالية، فتعزز حركة التمدين التي تبعدها عن الأرياف، مما يقضي على مشروعها التحضيري الأصلي ويزعزع سلطتها.
ولماذا كان عليك العودة مئة عام الى الوراء إذن؟
لم تكن هذه أول مرة تحاول فيها السلطة السياسية انجاز مشروع تحضيري في هذه المنطقة في العصر الحديث. ففي بدء حقبة التحديث العثمانية، مع بداية أفول الإمبراطورية وفي ظل حكم عبد الحميد الثاني بدءاً من 1880 كان يجب تحويل السكان من بدو إلى حضر، ولما كانت إحدى الغايات الأساسية لأي سياسة تحديث مركزية هي جبي الضرائب فكان على السلطة أن تحصي السكان وتعين أماكن سكنهم. هذا ما باشره عبد الحميد وكان ذلك بدايات مشاريع التحديث في سوريا، التي توجت في ظل الانتداب الفرنسي بإجراء أول مسح شامل للأراضي.
وهل كان السكان متحمسين منذ البدء لإنشاء هذه المزارع؟
في الغالب يقول الأشخاص الذين قابلتهم “لم يكن لدينا الخيار”. لم يكن ذلك إجبارياً وحسب بل عنيفاً وقد قال لي أحدهم: “كانت هذه الأرض لي وبين ليلة وضحاها اصبحت أرضاً للدولة”. تم إبلاغهم بالإخلاء عبر رسائل ودون أي إمهال أو مجال للاعتراض. ومع ذلك فقد كان موقفهم ملتبساً إذ أنهم يعبرون في الوقت نفسه عن تمتعهم بمنافع التنمية التي حملها المشروع، وقد قال لدي أحدهم: “في السابق كانت كل هذه الأرض عبارة عن صحراء، إنها جنة الآن، جنةّ!”
في أي عام حصل ذلك؟
بدأ ذلك عام 1966، والحقيقة أن بداية التفكير في المشروع تعود إلى عام 1960 في بدايات البعث، من ثم عاد حافظ الأسد وتبناه. المشروع ضخم وهو عبارة عن استصلاح مائي-زراعي لمئات آلاف الهكتارات التي جرى استغلالها من قبل القطاع العام فيما موّل كل ذلك الاتحاد السوفياتي. وقد شكل المشروع واجهة لتفاخر نظام البعث بسياسته التنموية بدءاً من الستينات في القرن الماضي.
إذن كانت أراضي المشروع شاسعة؟
عشرون الف هكتار وذلك فقط في مزرعة الدولة الذي قمت بدراستها. كان هدف المشروع في البدء استثمار 640000 هكتار، لكنه لم يتحقق في النهاية، فمجمل الأراضي التي تم ريّها من نهر الفرات بلغت 200000 الى 300000 هكتار. وهذه مساحات ضخمة. لم تستخدم كل الأراضي في المنطقة ضمن مزارع الدولة، لكن جرى بناء وحدات سكنية مع أراض زراعية على مساحات تتراوح بين 8 و 16 هكتار وزعت كل منها على قاعدة كل وحدة لعائلة واحدة. من ثم في العام 2000 تم نزع التأميم عن هذه المزارع وجرى توزيعها على العائلات الصغرى أو النواتية من خلال وحدات تمتد كل منها على ثلاثة هكتارات.
هل بإمكاننا القول بأنه أحد أهم مشاريع الدولة البعثية آنذاك؟
نظام البعث لدى وصوله إلى السلطة أمم جميع مرافق الاقتصاد، أي أن الإقتصاد كان مداراَ كلياً من قبل الدولة، وكان مشروع الفرات يمثل 20 بالمئة من استثمارات الدولة بين السبعينيات والثمانينيات، أي أنه مشروع ضخم بلا شك. شخصياً أعتبره من أكبر مشاريع الدولة السورية في ذلك الحين، ومن قابلتهم كما أصدقائي السوريين يؤكدون ذلك ويخبرونني أن مشروع الفرات كان مدرجاً في برامج التدريس.
أي أنه كان مشروعاً ذات وظيفة ايديولوجية رئيسية للنظام؟
بالتأكيد، ولأيديولوجية التحديث على وجه الخصوص. وكما ذكرت لك في ما سبق هذا ينطبق على مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية واستراليا وفرنسا، ألخ.. هناك دراسات علمية عن تخضير الصحراء في استراليا، وهناك مشروع في أريزونا، وفي أسبانيا حصل ذلك خلال حقبة فرانكو لكن قبل ذلك أيضاً. ولماذا؟ أعتقد أن فكرة الحداثة مرتبطة بالتقنية، ومن هم أرباب التقنية؟ المهندسون، وعلى ما يعمل المهندسين؟ على الرياضيات. وأفضل مجال لتطوير الرياضيات هو الحسابات المتعلقة بالمياه وهي نوع من الألعاب الفكرية الأكثر إثارة للتسلية لدى خبراء الرياضيات.
إذا نظرنا الى سياسات المياه نفهم الكثير عن سياسات التنمية في هذه الدول. ويقول محمـد فايز الباحث العربي المتخصص بالدراسات المائية في العالم العربي، والذي يعود بدراسته الى مرحلة حمورابي، إنه في الحقبة العباسية كان هناك مهندسون يعملون على شيء من دراسات التمدين ولكن بشكل رئيسي على الدراسات المائية والزراعية. إذن هذا تقليد لدى العرب منذ القدم. أما الصلة ما بين الهندسة والحداثة فهي بنظري أمر لا جدال فيه، فالتكنوقراطية هي أسلوب فرض السلطة السياسية عبر التقنيات.
صحيح فإن الدولة الحديثة تحيط نفسها بمهندسين، وكأنها بذلك توظف “جيوشها الفكرية”. في فرنسا مثلاً يلفت نظري استخدام تعبير المهندسين في جميع قطاعات الدولة المعرفية والعلمية، كالعاملين في المركز الوطني للبحوث العلمية، ما رأيك بذلك ؟
بالتأكيد حتى في الجامعة، فالمعهد الوطني للإدارة يخرج كبار موظفي الدولة، أي الخبراء الذين يهندسون الدولة ومنهم رؤساء الدولة. لكن عالمي الاجتماع العربيين ساري حنفي الذي أجرى دراسة عن المهندسين في سوريا واليزابيت لونغنيس الفرنسية المستعربة يقيمان تمييزاً بين الهندسة في فرنسا ومثيلتها في سوريا أو في ما يسمى ببلدان الجنوب بشكل عام. وتعتبر لونغنيس مثلاً أنه في فرنسا لا تعلو السياسة على التقنية أو التكنولوجيا، من هنا نجد نوعاً من العقلانية لدى السلطة في التعامل مع المعرفة التي ينتجها أرباب التكنولوجيا، مع العلم أن السياسة تخضع في الحالتين لموازين القوى. لكن في بلدان الجنوب سرعان ما يسيطر السياسي على التقني، الذي يصبح مادة لتبرير خطاب الدولة، وتستقيم الدولة كحكم بين مراكز القوى والمصالح المختلفة في الاقتصاد والمجتمع، فتتعطل بذلك عملية إنتاج المعرفة التقنية.
ألم يواجه هذا المشروع التحديثي الذي أحدث انقلاباً كاملاً في بنية المجتمع أي مقاومة من السكان الذين ينتمون إلى علاقات عائلية وقبلية تقليدية مثلاً؟
حظي حزب البعث السوري في بدايته على تأييد واسع من السكان، حتى من فئات الشباب البورجوازية التي وجدت فيه مشروعاً لتغيير المجتمع بناء لعلاقات اجتماعية حديثة، أما البعد الاجتماعي للحزب الذي عمل على توزيع عادل لخيرات البلاد أو نادى بذلك على الأقل فأمن له تأييداً لدى الفئات الشعبية.
من ناحية ثانية إذا نظرنا إلى انتماءات سكان هذه المنطقة فإنهم في غالبيتهم من القبائل أو العشائر، وهكذا حتى لو قيل إن حزب البعث السوري هو حزب طائفي ذو قاعدة علوية فهذا غير صحيح إلّا نسبياً، فهناك شبكة علاقات مبنية على قاعدة طائفية، لكن هذه المنطقة ذات الغالبية السنية كانت منطقة ذات حظوة خاصة لدى السلطة، لأنها اغتنت بفعل استثمارات الفرات الكبرى وباتت تشكل قاعدة زبائنية هامة لها. مثلاً أحد نواب هذه المنطقة، وهو النائب الذي كان صاحب أطول ولاية برلمانية في العالم، دياب الماشي، هو من هذه المنطقة وكان دائم التباهي بتأييده لعائلة الأسد وحافظ الأسد بوجه خاص. كانت هذه القبائل موالية لنظام الأسد بسبب المنافع التي كانت تحصلها وبفعل تنامي العلاقات الزبائنية في الاقتصاد والسياسة.
هل لأن النظام أو حزب البعث كان يمر عبر هذه القبائل لفرض سلطته على السكان وبالتالي كان عليه الحفاظ على سلطتها؟
صحيح. على سبيل المثال، هناك أحد مشايخ القبائل الذي قابلت، كان متزوجاً ومطلقاً ومتعدد الزوجات لخمس عشرة مرة، مما يعبر عن امتلاكه لثروة كبيرة. كان ابنه مهندساً وأحد كوادر مشروع الفرات فضلاً عن كونه نائباً، فيما تمتلك عائلته غالبية المحال التجارية في المدينة، أي كل الصيدليات والمطاعم وأغلب المساكن المعروضة للإيجار.
أميز في دراستي بين ثلاثة مصادر للسلطة حول مشروع الفرات متمايزة ومتراصفة في آن: المصدر القبلي للسلطة من خلال السلالة العائلية، مصدر سلطة الدولة من خلال الموقع الاجتماعي والعلمي، مهندسون وإداريون، والمصدر الأخير هو رأس المال من خلال الملكية، وهذا المصدر تعزز بوجه خاص بعد عام 2000 إثر تصفية مزارع الدولة وتخصيص الأراضي والعديد من النشاطات الاقتصادية. منهم من يمتلك مصدراً واحداً كمحام ومهندس فيما آخر يراكم المصادر الثلاثة للسلطة. أما الأجور فقد لعبت أيضاً دوراً في التمايزات الاجتماعية وفي علاقات البنية الاجتماعية بالسلطة. حددت الأجور حسب التراتبية في إدارة المنشأة ومن الأعلى الى الأسفل: المدير وسبعة أقسام لكل مشروع: قسم الري، قسم الآلات، قسم آلة الضخ، وقسم التخطيط، وغيرها، وتقسيم مناطقي، مدير المزرعة ومسؤولو القطاعات والموظفون والعمال. وبذلك تشبه منشأة الأسد أي مؤسسة رأسمالية حديثة.
هل كان مشروعاً عقلانياً للدولة لاستيعاب اليد العاملة المتعلمة ومكافحة البطالة المحتملة؟
بالتأكيد، وذلك من داخل المنطقة ومن خارجها، فهناك أشخاص أتوا من إدلب وهي منطقة جبلية تنقسم بين أراض قاحلة من جهة ومستنقعات من جهة أخرى وحيث أغلب السكان بلا عمل. في نهاية المشروع وتوقف الدولة عن تمويله، عاد الأشخاص الكبار في السن إلى إدلب، أما أولادهم الذين ولدوا هناك فلم يريدوا مغادرة المزارع، فإدلب لا تعني لهم شيئاً.
جرى جمع السكان من المناطق المجاورة لملء القرى النموذجية بالسكان إذن؟
الكثير ممن تم إسكناهم في المزارع هم أشخاص هامشيون. منهم من أتى من إدلب مثلاً التي كان الخارجون على القانون يلجأون إليها في السابق لوعورتها. ومن هناك أتى الكثيرون للعمل في المشروع وللإقامة فيما بعد. لقد أتى سكان المناطق المجاورة من تلقاء أنفسهم. لكي أن تتخيلي أن هؤلاء الناس الفقراء والعاطلين عن العمل يجري في صبيحة أحد الأيام توزيع مناشير عليهم تدعوهم للمشاركة في مشروع تنموي وإنتاجي في الجوار. ولإعطائك فكرة عن سرعة تطور المشروع وديناميته: كان عدد السكان ستة الآف عام 1970 فبلغ ستين ألفاً عام 2004، ففضلاً عن التكاثر السكاني الطبيعي هناك غالبية سكانية قدمت من الخارج وبينهم عدد من الأكراد أيضاً.
كيف يمكننا النظر في هذه الإشكالية من ناحية التحولات الاجتماعية والجيلية على امتداد المرحلة الطويلة من مشروع الفرات؟
لقد تم الانتقال من مجتمع قبلي قائم على السلالة إلى مجتمع حديث قائم على الموقع الاجتماعي- المهني: المهندس، المدير التقني، العامل المتخصص، العامل غير المتخصص، وهؤلاء الأخيرون كثرت بينهم نسبة النساء. كان هناك تمييز جنسي فعلي حتى أنه لم توجد مهندسات في المشروع. هذا الأمر لا ينطبق على عموم سوريا بل خاص بهذه المنطقة. لكن لا شك أن مزارع الفرات غيًرت المجتمع بشكل جذري أيضاً، فالنساء الآن يعملن كمعلمات ومحاسبات وموظفات دولة، والفتيات يذهبن إلى المدارس وإلى الجامعة في حلب التي تبعد مسافة ثمانين كيلومتراً، وهذا ما يعبّر عن مسار طويل بالتأكيد. وأحد مؤشرات التغيير الهامة هو نسبة محو الأمية في سوريا التي باتت الأعلى بين البلدان العربية على امتداد هذه المرحلة.
ومع ذلك لم تستفد النساء بشكل جذري من هذه التحولات؟
بقي هناك نوع من التقسيم الجنسي للعمل، ومواقع النساء المهنية بقيت بين الأقل أجراً. الرجل يقود آلات الحراثة ويقوم بأعمال النقل والري، أما المرأة فتقوم بالقطاف والتنظيف والتوضيب. أي أن هناك تمييزاً بين العمل وقوفاً أو انحناءً وهذا الأخير أجره أقل، وهذا التمييز ليس من عندي بل يستخدمه الأشخاص الذين قابلتهم. لكن من المهم الإشارة إلى أنه بالرغم من كل من قيل وكتب دولياً بأن هذه المنطقة المحيطة بحلب تؤيد تنظيم الدولة الاسلامية وأنهم اصوليون لأن أكثرية السكان من السنة، فهذا غير صحيح. وشخصياً يحزنني هذا الكلام. في إحدى المرات كنت مع بعض الشبان في ساحة القرية، فمرت سيدة محجبة من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، فوجئوا بها وقالوا هذه السيدة ليست من هنا، وأنا أيضاً فوجئت لأنني لم أر يوماً نساء يرتدين الحجاب الكامل هناك. دخلت بيوتاً فيها نساء وإن كنت أنا محترماً لتقاليدهم، فهم أصلاً لم يحملوا أي أفكار مسبقة عني كرجل غريب وكانوا سعيدين بوجودي.أثناء إقامتي كانت النساء ترتدي الحجاب بحرية واجمالاً للحشمة أو لحاجات العمل، ولدى العائلة التي استضافتني كانت بعض النساء تخلع أحياناً حجابها لكي أخذ لهن صوراً مع العلم أنهن كن يطلبن مني حفظها لديهن، ولم يثر ذلك يوماً حفيظة الرجال.
وهل أنشئت مدارس تعليم تقني وإعداد مهني احترافي لمواكبة حاجات المشروع من اليد العاملة المتخصصة على جميع المستويات؟
أنشئ معهد للزراعة مع برامج دراسية متخصصة، ومع ذلك كان السيرورة تدريجية فأوائل المهندسين قدموا من المناطق الأخرى كالشام وحلب، أي من الفئات الطبقية العليا في المجتمع التي كانت متحمسة للمشروع كما أشرت أعلاه. وقد تحمس هؤلاء جداً لمشروع الفرات وتبنوه على عكس سكان المنطقة الذين رفضوه في البداية لا بل تخوفوا منه، والحال أنه تمت مصادرة أراضيهم وأتى من يقول لهم من الخارج إن نمط حياتكم متخلف ويجب أن تتغيروا على هذه الشاكلة أو تلك، وكان ذلك عنيفاً بالفعل. فالدستور السوري في ظل البعث الموجود في السلطة منذ عام 1963 يقوم على اعتبار البنى القبلية كنوع من الإقطاعية التي يجب استئصالها من أجل ان يسود بين الشعب الشعور بالاتنماء إلى القومية العربية لا غير. لقد لقي هذا الخطاب بالمقابل تأييداً من الشباب البرجوازي المؤيد للحداثة.
لكن حصلت مع ذلك مساومات مع وجهاء القبائل؟
في البداية لم يتم ذلك في مزارع الدولة، لكن شيئاً فشيئاً وبسبب المنطق الجامد لمقاربة المشروع، أي العمل على تطبيق المشروع بحرفية ما خطط له، وبمقاربة عقلانية جامدة يستحيل تطبيقها في الواقع، بدأت المساومات. هذا ما فهمته من بعض الذين قابلتهم، والذين أقروا بأنه تم توظيفهم لأنهم ينتمون لقبيلة أو أخرى.
وماذا عن التحولات الاجتماعية الأخرى التي لاحظتها؟
هناك تحولات ثقافية اجتماعية مهمة، فالسكان ينظرون عموماً إلى حياتهم بأنها أفضل بكثير من السابق، على الأقل بسبب التسهيلات الحياتية اليومية كإقتنائهم للتكنولوجيا المنزلية. لقد أجريت مئة مقابلة مع السكان، بينهم الكبار في السن الذين كانوا بين الخامسة عشرة والعشرين من عمرهم في بداية المشروع، كلهم يتفقون على الترحيب بهذه التحولات. والأصغر سناً قالوا لي: “قبل الري لم يكن هناك شيء هنا، كانت المنطقة عبارة عن صحراء”، حتى أن أحد الشباب قال لي مرة إنه قبل المشروع لم يكن أحد يسكن هنا، وتطلب مني الأمر وقتاً لإقناعه بأنه كان يوجد سكان في هذه المنطقة من قبل، فمزرعة مسكنة التي عملت عليها مثلاً أنشئت على أنقاض قرية. أي أنهم استبطنوا فكرة الحداثة إلى حد الاقتناع بأن كل شيء هناك قام من عدم.
وهل أدى توزيع المساكن على قاعدة لكل عائلة مسكن مستقل إلى تغيرات أجتماعية؛ ربما على تعزيز نمط العائلة النواتية داخل البنية القبلية التي تعتمد العائلة الممتدة؟
في الواقع يتعايش النمطان حتى يومنا هذا، ففي القرى القديمة التي تم إدراجها في المزارع يبقى نمط العائلة الممتدة قائماً أي سكن الأجداد والأبوان والأحفاد في منزل واحد. أما في المساكن المستحدثة أو القرى النموذجية كما جرت تسميتها، فنجد عائلات نواتية صغرى ومختلطة الأصول أي أن العديد منها أتى من قرى مجاورة مختلفة. وهنا تبدو مظاهر التحول الثقافي الذي أتحدث عنه، فأكثر هؤلاء قالوا لي “أفضل العيش هنا وليس في قريتي الأصلية حيث لي أقارب، لأنني حر أو حرة هنا”. فهم ليسوا ملزمين بالواجبات الاجتماعية والزيارات العائلية، كما أن لا أحد يراقب أو ينتقد سلوكهم ونمط حياتهم. إذن هناك رغبة بإقامة مجتمع جديد والانتماء اليه، وهذا أحد الطموحات الأساسية للمشروع التي نجحت جزئياً.
وبرغم ذلك وصل مشروع التحديث البعثي بأكمله الى مأزق، كيف تفسر ذلك؟
في أي مشروع تحديثي يجري استثمار الكثير من الموارد المالية والايدلوجية والطبيعية ضمن سياسة لإضفاء الشرعية على الدولة، وشيئاً فشيئاً تنضب الموارد وتنمو ظواهر الزبائنية، اي أن هناك من يستفيدون من إنجازات المشروع الحداثي على حساب الآخرين ويعتاشون على الموارد المحققة. يضاف إلى ذلك نهاية الاتحاد السوفياتي الذي موّل هذه المشاريع في سوريا. ومن ثم هناك تراجع للزراعة بشكل جذري، وإذ كان الرئيس حافظ الأسد يقوم بكل زيارته الرسمية الخارجية في الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي برفقة وزير الزراعة، فقد توقف عن اصطحابه بعد هذا التاريخ كدليل على هذا التحول. في هذا النمط من الاقتصاد يجري تنظيم القلة لصالح بعض النافذين في السلطة وعبر ذلك ينمو الفساد كالسرطان فيقتل الاقتصاد.
فكان لا بد ان تحدث الانتفاضات في سوريا إذن عام 2011؟
استطيع التحدث فقط عن المنطقة التي أعرفها، ففي حين امتدت حركة احتجاجات واسعة على نطاق واسع من سوريا بدءاً من آذار/ مارس 2011 فإن الاحتجاجات في المناطق الواقعة في نطاق منشأة الأسد كانت قليلة، وربما أمكن تفسير ذلك ولو بصورة جزئية بالسياسات الزراعية خلال الأربعين سنة الماضية. وقد بلغت الاستثمارات أحجاماً خيالية في هذه المنطقة مما جعلها أقل فقراً من المناطق الأخرى وساهم في عدم عدائها الشديد للنظام.
بالاعتماد على مركز الخرائط السوري الذي نشاً أثناء الحرب، الذي يضم إحصائيين واختصاصيين في أنظمة المعلوماتية الجغرافية ويقدم نفسه على أنه مستقل عن أي طرف سياسي، استطعت وضع خرائط للتحركات المناهضة للنظام في السنوات الأولى للانتفاضة السورية بالتقاطع مع الانتماء الجغرافي، وبخاصة في مناطق مزارع الدولة فتبين لي أن سكان هذه المناطق، وهم من الطائفة السنية، كانوا حياديين ما لم يكونوا متعاطفين علناً مع النظام، فضلاً عن شهادات حصلت عليها من سوريين لجأوا إلى فرنسا وأكدوا لي أن هؤلاء السكان كانوا أيضاً شديدي العداء لتنظيم الدولة الاسلامية.
أنا أعتبر أنه إذا لم ينجح طموح التحديث التحريري والعقلاني في ظل البعث بخلق أفراد خاضعين كلياً للدولة، فإنه بالمقابل لم يولّد مواطنين في قطيعة تامة مع النظام على مستوى البلد ككل. لكنني أعتبر أيضاً أنه لو اندلعت التحركات بعد خمس سنوات من تاريخ وقوعها لكان هؤلاء السكان قد شاركوا بها أيضاً، لأن كل المنافع التي حققوها من النظام تكون قد استنفدت آنذاك. وهنا يكمن مأزق هذه السياسات وانسداد أفقها التاريخي.
باريس، كانون الأول/ديسمبر 2017
ملاحظة: أجريت بولا الخوري المقابلة مع الجغرافي فوا بالفرنسية وترجمتها إلى العربية.
للمزيد حول الدراسة والخرائط، بإمكانكم زيارة الموقعين التاليين، بالفرنسية والإنكليزية:
http://bit.ly/2CUeOf6
http://bit.ly/2BooSIG
نشر هذا المقال بنائا على شراكة مع جدلية.
بواسطة Jaber Abu Zeid | فبراير 7, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
يفرض الوجود السوري في السودان الكثير من الأسئلة، ليس أوّلها تاريخ العلاقة بين البلدين وآفاقها أو بتعبير آخر القواسم المشتركة، عندها يقفز الكثير من السياسي ليحتلّ المشهد، أو العناوين والمنشيتات العريضة، في حين يُكشَف عن واقع آخر يقاسيه السوريون في هجرتهم إلى السودان. حيث لا تبقى تلك النظرة المطمئنّة إلى التاريخ والآفاق على حالها على الرغم من كثرة القواسم، بل وزيادتها عن حدّها أحياناً، إذ لابدّ من وضع الهجرة اليوم في سياق مسبباتها الأولى، أي الحرب السورية المستمرّة منذ سبعة أعوام.
تعددت محطات الهجرة السورية، بل والتهجير أيضاً، دولُ الجوار كانت الأقرب لكنها لم تكن الأرحم ولا الأفضل، قضى لاجئون سوريون حاولوا العبور إلى تركيا، واقتحم الجيش اللبناني مخيمات للاجئين سوريين، وتحوّل مخيم الزعتري في الأردن لأكبر كارثة لجوء في المنطقة، في حين أغلقت دول الخليج حدودها ولم تستقبل لاجئاً واحداً، ولم تسقط شرط التأشيرة عن السوريين حتى في هذا الظرف الاستثنائي! عند هذا الشرط الأخير، أي التأشيرة، يبرز السبب البيروقراطي الذي يشرح لماذا توجّه السوريون إلى السودان؟ فهو البلد العربي الوحيد، بالإضافة لعدّة بلدان قليلة غير عربية، لم يشترط على السوريين التأشيرة حتى يدخلوا أراضيه. إذن تضافرت العوامل في الأعوام السابقة، بين الحرب والسياسة من جهة، وبين العبور المحفوف بالموت إلى أوربا وتحوّل المتوسط إلى كابوس ثقيل ينضاف إلى كوابيس الحرب السورية، وبين السفر الآمن إلى بلد آمن (السودان)، وعدم قطع الصلة نهائياً مع إمكانية العودة إلى سوريا. كلّ ما سبق يُساعد في وضع اليد على واقع حال أكثر من مئتي ألف سوري، (في إحصاء تقديري غير رسمي)، موجودين حالياً في السودان.
الأشقياء، الحظّ عدوّنا
محمد، مازن، وعمار، (أسماء مستعارة) ثلاثة طلاب سوريين أنهَوا دراستهم الجامعية في جامعة دمشق، كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية (الهمك) عام 2015، يقول محمد: “الطلاب في دول برا تحتفل بالتخرّج الجامعي ثم تبدأ مباشرة بتأسيس حياتها العملية والأسريّة، أمّا نحن فشوفة عينك، ادخرنا كل ما نملك ودفعناه ثمن تيكت طيارة، وها نحن نحتفل هنا بهذا الطقس اللطيف” في إشارة منه للحرارة الشديدة في مدينة الخرطوم التي تبلغ أكثر من 40 درجة مئوية. المجموعة التي بدأها محمد وصديقاه لم تمرّ عليها سنتان من الزمن حتى توسّعت، فبلغت أكثر من ثلاثين شابّاً تتشارك كلّ مجموعة منهم بيتاً أو شقة، يراوح عدد المجموعة الواحدة بين الستة أو العشرة أشخاص، لكن تبقى مجموعة الواتساب التي أسسها محمد، وأطلق عليها اسم الأشقياء أو (يلي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى) هي الرابط الأساس بينهم، يتقاسمون من خلالها أخبار “الوفود“ حسب تعبير محمد، ويقصد بهم الشباب الجامعيين الذين لفظتهم البلاد بعد أنِ استنفذوا كلّ وسائل التأجيل عن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري.
يحقّ للطلاب الجامعيين في سوريا، التأجيل السنوي عن الخدمة الإلزامية سنتين عن كلّ سنة جامعية، وفي ظلّ واقع الحرب المدمّرة تحوّلت مواسم أو فترات السَّوْق كما يتمّ تسميتها في شُعَب التجنيد إلى أشباح وكوابيس ثقيلة تطارد الفئة الشابّة، التي ما إن تُنهِ الدراسة الجامعية (أي مبررات التأجيل) حتى تبدأ مباشرة بالبحث عن وسيلة للسفر خارج سوريا، ومن هنا لم يكن أثر الحرب بشعاً وتنكيلياً بالمناطق التي قصفتها الطائرات وحرثتها البراميل، أو المناطق التي احتلّتها قوى إسلامية متشددة فقط، فالبلاد كلّ البلاد صارت مرهونة بمظاهر العسكرة التي اجتاحت المجتمع، بالبدلات المموهة وبنادق الكلاشنكوف الملقّمة برصاص غير طائش أبداً، وأخيراً موضوع حديثنا هنا: الشباب المرهون بوقته وجسده لصالح شعبة التجنيد!
في تتبّع سيرة الأشقياء، لا نقف على محمد ومجموعته فقط، فبين صالونات الحلاقة السورية التي باتت تنتشر في أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، وبين مطاعم المأكولات الشامية والحلبية، ستظلّ تجدُ شباباً سوريين تدور على ألسنتهم أحاديث الهمّ الثقيل وأسئلة عن الوقت الذي قضيته هنا؟ ومع من تسكن؟ ومن أين أنت في سوريا؟ (على ما يحمل السؤال الأخير في طيّاته الكثير من ردّات الفعل تبدو أحياناً على الوجوه وأحياناً أخرى على الألسن) الذي يدلّ على أنّ السوريين لم يحملوا أمتعتهم فقط في هجرتهم، بل تعدّوها إلى انتماءاتهم السياسية، ومواقفهم من النظام والمعارضة، والحرب المشتعلة بينهما أيضاً. في حين يبقى المتداول الأكثر شيوعاً على ألسنة هذه الفئة، هو تلك العلامة الكلامية، وكأنها مواساتهم الكبرى التي تقرّب بينهم مهما كان اللقاء قصيراً أو عابراً: “جيش ما؟ أليس كذلك”.
من جهتها تعلن السفارة السورية في الخرطوم، عن مواعيد سنوية معيّنة لما يُعرَف بسندات الإقامة، الأمر الذي يُمكّن جلّ فئة الشباب هذه من استصدار سند إقامة يسمح لهم من خلاله بالعودة إلى سوريا لمدّة ثلاثة أشهر فقط دون أن يتم سوقهم للجيش، (يستنكف بعض الشباب المُعارِض هذه الممارسة، ويعتبرونها رضوخاً لسياسات نظامٍ يعارضونه!) بمعنى آخر سند الإقامة هو تأجيل محدود للمغتربين، لكنّ أهمية السندات الأساسية بالنسبة للحكومة لا تتشكل من كونها فرصة لعودة بعض الشباب إلى سوريا، بل من اعتبارها شرطاً أساسيّاً من أجل دفع البدل النقدي لإسقاط الخدمة الإلزامية عن المغتربين، ومقداره 8 آلاف دولار. هذا الروتين كان يسمُ حياة الشابّ السوري من قبل الحرب، كيف يسافر؟ وإلى أين؟ والمدّة المشروطة التي سيقضيها (أي أربع سنوات) حتى يتمكّن بعدها من دفع البدل، إذ لا يُقبل دفع البدل النقدي من غير قضاء هذه المدّة، ولا مؤشرات على إقرار مشروع البدل الداخلي إلى الآن. هذا الهمّ قديم عند الشباب السوري، لكنّه لم يكن ليظهر إلا بشكل محدود، فلا أحد كان يفكّر مجرّد التفكير بأنه لن يلتحق بجيش بلاده يوماً ما.
من هنا يتّضحُ أنّ أبرز سمة للوجود السوري في الخرطوم، هي غلبة الطابع الشبابي، بل الذكوري، التي تشكّل النسبة الأغلب، ليس همُّ العمل هو ما يجتذبهم، بقدر همّ الحرب والموت هو ما يدفعهم ويلفظهم خارجاً؛ إذ ليست فرص العمل في السودان بالتنوّع أو بالسهولة المتوقّعة، بالعكس تماماً إنّ معدّلات البطالة مرتفعة حتى بين الشباب السوداني أصلاً، وبالتالي فرص العمل محصورة في إطار المهن التي يخلقها السوريون بأنفسهم، والتي تنتمي إلى كل ما هو يدوي أو حرفي كالمطاعم أو الحلاقة أو نجارة الألمنيوم، هذه المهن وإن كان يقوم عليها أربابها، إلا أنّها تستقطب الشباب العاطل عن العمل بالضرورة كونها هي المتاح الوحيد لهم حتى لو كانوا خرّيجي جامعات، من غير أن توفّر لهم مرتّبات قد لا تتعدى شهرياً أكثر من ٨٠ إلى ١٠٠ دولار، ما يجعل حلم البدل النقدي بعيداً وغير مطروح أساساً، وهنا كما يقال يكتفون من الغنيمة بالإياب، فبعد معاينة سوق العمل في السودان على حقيقته وقسوته، يحاول الكثيرون قتل الوقت فقط، أو المسارعة لاستصدار سند الإقامة، (حتى المعارض منهم أحياناً) فإمّا أن يعودوا إلى سوريا ليتخّلفوا هناك عن الخدمة الإلزامية، أي في مناطق لا تسيطر عليها القوات الحكومية تمام السيطرة، ولا تخضع لقرارات شعبة التجنيد، أو يعودوا أدراجهم نحو دول الجوار لبنان بشكلٍ أساسي إن تعذّر دخولهم إلى سوريا، في الحالتين هم أشقياء… وأعداءٌ للحظّ.
لجوء أم مواطنة
لم تتوقّف التسهيلات البيروقراطية والسياسية التي قدّمها السودان للسوريين على إسقاط شرط التأشيرة أوّلاً، بل إنّ عاملاً أبرز بات يجتذب السوريين للقدوم إلى الخرطوم، وهو الحصول على الجنسية السودانية واستصدار جواز سفر سوداني، الأمر الذي عاد ببعض الأريحية ليس فقط على شريحة واسعة من فئة الشباب المذكورة أعلاه، بل تعدّاهم إلى فئة العائلات السورية. هنا يجب أن نحدد طبيعة الوجود السوري من ناحية قانونية، وكيف يمكنُ تعريفها وماذا تبقّى من لجوئهم أو تعريفهم كلاجئين طالما بإمكانهم أن يكونوا مواطنين في هذا البلد الذي “لجأوا” إليه؟ لكن قبل التدقيق في المصطلحات حقوقياً وقانونياً، تساعدنا طريقة وصول السوريين إلى السودان ومقارنتها بوصول آخرين إلى أوربا أو نزوحهم إلى مخيمات اللجوء في الداخل والجوار، تساعدنا في فهم الإطار العام لهذا الوجود، حيث يكفي السوري أن يقطع تذكرة بما يقارب ٢٠٠ دولاراً، حتى يستقلّ طائرة من الخطوط الجوية السورية، تنقلُه من دمشق إلى الخرطوم، أو في حالات أخرى من بيروت إلى الخرطوم، وبالتالي نحن هنا أمام عملية دخول إلى الأراضي السودانية نظامية وقانونية لا يترتّب عليها أي مخالفة، وهي حركة أيسر بما لا يقارن مع تبعات الموت في المتوسط وقطع الحدود بين تركيا والاتحاد الأوربي.
من جهة ثانية فإن الخطاب الرسمي للحكومة السودانيّة يركّز على مقولة ضيوف لا لاجئين، وبغض النظر عن الإشكاليات السياسية والاجتماعية (السودانية ــ السودانية) المترتّبة على هذا المفهوم، لكن علينا أوّلاً ألا نقفز من فوق ظواهر الأشياء، فلا السوريين حُجزت حريّتهم في مخيّمات مُهينة للكرامة الإنسانية، ولا مُنعوا من حقّ العمل أو التعليم، ولا حوصرت حركتهم بمواقيت معينة أو حظر تجوّل، بالرغم من بعض الدعوات السودانية التي تعاني من جهل قانوني مدقع تطالب الحكومة بحجز السوريين في مخيّمات! وهذه دعوة لا تملك أي مسوّغ قانوني لها ولا بأيّ شكل، بالرغم ممّا يعانيه السودان من حروب داخله أو في جواره (كالحرب المشتعلة في دولة جنوب السودان)، ونزوح الكثير إلى الشمال حيث المخيّمات بالفعل. القياس الشكلي هنا بين الوجود السوري والجنوب سوداني يفتقر للكثير من المقوّمات التي تمكننا من اعتباره مقارنة أساساً.
سهيل، مهندس من دمشق وربّ أسرة، عَمل في الإمارات لأكثر من 15 عاماً، عندما عاد إلى سوريا كانت “الأحداث” كما يسميها في بدايتها، “عالخليج ما فينا نرجع حملت حالي أنا وزوجتي والولاد وجينا على السودان، أنا طلّعت جنسية من سنتين وصار فيني أرد أرجع عالخليج، وروح وأجي، والولاد كفوا تعليمهم هون.” استطاع سهيل وهو رجل خمسيني من تأسيس مصدر دخل ثابت له بعد أن ربط بين عمله بالعقارات في الخليج مع عمله بالسودان، توسّعت أشغاله بعد أن أصبح مواطناً سودانياً وصارت حركته أسهل بين أكثر من دولة خليجية، بالرغم من أنّ الجواز السوداني الذي حصّله ليس أفضل حالاً من السوري في حقيقة ترتيبه، لكنّ الحرب السورية وتأثيرها الإقليمي، وخاصّة مع دخول دول خليجية على خط الصراع المسلّح، وقرار الجامعة العربية القديم بخصوص تعليق عضوية سوريا، كان وبالاً على كل السوريين دون استثناء، حيث يحلم الكثير من الشباب السوري في الخرطوم باستصدار جواز سفر سوداني لا لشيء إلا للتوجه فوراً نحو إحدى الدول الخليجية. استقرار سهيل في السودان لأكثر من خمسة أعوام مكّنه بسهولة من استصدار الجنسية، التي يُشترط للحصول عليها إقامة لستة أشهر فقط، ولم تكلّفه “المعاملة” كما يقول أكثر من ٥٠٠ دولار.
على العكس من سهيل، يعيش عبدالله واقعاً مزرياً ومختلفاً، فهو الآخر متزوج وعنده زوجة وأربعة أولاد يعيشون معه في الخرطوم لكنّه صُدم بواقع سوق العمل فيها يقول: “ما قدرت أصمّد أكثر من شهرين بعدين بديت المصايب وصفينا بالشارع كلنا، أنا والمرا والولاد.“ بصعوبة ومن بين المتسولين والمتسوّلات، رضي عبدالله بالحديث عن رحلته التي بدأت مع اجتياح داعش للحجر الأسود، حيث كان يقطن، وتحوّلها لمعقل أساسي للتنظيم الإسلامي المتشدد، نزح بداية إلى إحدى المدارس داخل مدينة دمشق، ثمّ سمع من مُقرّبين عن أنّ السفر إلى السودان غير مكلف وأنّ فرص العمل متوافرة، بيد أنّه لم يعد قادراً على تدبّر أمره عندما اكتشف أنّ أجرة منزل في الخرطوم ليست أقل من ٢٠٠ دولار، في حين أنّ سقف الأجور لعامل مثله لا يتجاوز ١٠٠ دولار، عندها لم يجد بُدّاً من النزول إلى الشارع ليتسوّل هو وجميع أفراد عائلته، في ظلّ غياب كامل لأي منظّمة أممية تُعنى بشؤون السوريين في الخرطوم، وهنا نجد أنفسنا أمام معضلة كبيرة في أنّ عدم تحديد وضع السوريين كلاجئين والاعتماد فقط على الآلية النظامية التي وصلوا بها إلى السودان تعفي الحكومة السودانية من تحمّل مسؤولياتها الحقيقية بالتنسيق مع المنظمات الدولية لوضع حدّ لهذه الظاهرة الخطيرة التي باتت تتوسّع وتنتشر بين هذه الفئة تحديداً، دون أيّ حلول جدّية! بالمقابل تحرص الشريحة العظمى من السوريين في السودان على عدم تصنيفهم كلاجئين من قبل المنظمات الأممية، لأنّ هذا لن ينعكس إيجاباً عليهم على الإطلاق بالعكس سيتم سحب جوازات سفرهم منهم، ويعطون بطاقات لجوء لن يتمكنوا بعدها من العمل أو السفر، وتحدّ من حركتهم، وأقصى ما يمكن أن يتلقوه من مساعدات هي مرتّب ٢٠٠ دولار شهرياً فقط، ويعتبرون أنّ بعض المتسوّلين لا يشكلون ظاهرة ولا فئة إنما مجرّد أشخاص امتهنوا هذه المهنة ولا يرغبون الإقلاع عنها!
لا حلول أهليّة لمشاكل بيروقراطية
يتميّز اللاجئون السوريون في الدول العربية عن نظرائهم الذين وصلوا أوربا بأنهم لا يثيرون شهيّة الاستقصاء الصحفي، ولا أسئلة الاندماج والهويّات، في إعلام يتصدّره خطاب الخصوصية الثقافية ومراكز أبحاث مهووسة بتنميط الناس حسب أديانهم وثقافاتهم، مع ذلك فإنّ المشكلات الاجتماعية أو السلوكية الناجمة أو المترتبة على هذا الشتات قلّما تجد (في الحالتين) من يقرأها إلا ضمن هذا الإطار، أمّا على سويّة شعبية فيتراوح التعاطي بين قيم التغني بالكرم ومحاباة الضيوف من جهة، أو بين العداء والتشكك بهؤلاء الغرباء من جهة أخرى.
تبقى المشكلة الأكبر في هذه الأنماط الإعلامية والنخبوية التي تعزل المهاجرين عن واقعهم، من منطلق (هكذا تتطلّب المهنة)، في حين يغرق السوري ويتخبّط بمشاكل يوميّة قد يكون حلّها يسيراً ولا تُكلّف أكثر من معاملة حكومية، بيد أنّ البيروقراطية التي يخضع لها المهاجرون السوريون، ليست هي بيروقراطية المعاملات الرسمية والروتينية في الدولة، بقدر ما تحمل معها بُعداً سياسياً خطيراً، وهنا تجد أنّ الواقع السوري في السودان هو الأقل معاناة من حيث حرية الحركة وقيود العمل (فرض لبنان نظام الكفالة على دخول السوريين إليه، وهذا أيضاً نشّط الهجرة نحو السودان ولو مؤقّتاً).
بالمقابل صار الوجود السوري أكثر ارتباطاً وتأثُّراً أيضاً بالظرف الاقتصادي المفروض على الدولة ذاتها، أي السودان. فالبلد يعاني حصاراً اقتصادياً وعقوبات منذ قرابة العشرين عاماً، ولو سبرنا آراء السوريين عن رفع العقوبات مؤخراً، فالكل سيبادر بالحديث إيجاباً ويأمل أن رفعها سيحسن من ظروف العمل ويقوّي الاقتصاد؛ فالعقوبات شيء مجحف وسيّئ بالضرورة، لكن بعد أن رُفعت العقوبات شهد الجنيه السوداني انهياراً سريعاً من ١٨ جنيه للدولار الواحد، إلى الثلاثين، وهذا سرعان ما أثّر على أسعار العقارات المستأجرة، والمواد الغذائية، في حين يتمّ النظر إلى السوريين أنّهم أحد عوامل هذا الغلاء دون أن يتأثروا به كونهم يمتلكون سلفاً العملة الصعبة، ويدخلونها إلى البلد، ولا يسكنون إلا الأحياء الراقية في العاصمة!.
أخيراً، وبالرغم من تراكم المشاكل في واقع السوريين الذين فُرضت عليهم الهجرة، والتي تبدو أنها مشاكل مصاغة ضمن بنود قانونية داخل بلدهم أولاً، ثم في البلدان التي هاجروا إليها، فإنّ الحلول بالمقابل تعاني من الارتجال والفرز الذي يُركّز على شرائح منهم، ومشكلات مثيرة إعلامياً كالاندماج في أوروبا وخلافه. وكما تُرك الداخل السوري لحلّ مشكلاته في إطارها الأهلي بعيداً عن القانون وسيادة الدولة يسير الخارج السوري في ذات الطريق، مع غياب المشاريع الجديّة والحلول التي يجب أن تقوم عليها دول ومنظمات أممية، ولو أنّ شيئاً من هذا لا يلوح في الأفق القريب.
بواسطة Ward Maamar | فبراير 5, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
في كل مرة يتم الحديث فيها عن كلفة الحرب في سوريا، تظهر أرقام مخيفة حول حجم خسائر سوريا نتيجة الحرب. لذا فإن الحديث عن تكلفة أي حرب لا يمكن أن يكون مجرد عملية حسابية، إذن ان الحرب لا تقتصر على حساب كلفة دمار البنى التحتية والقطاعات الانتاجية والاقتصادية، إنما تشمل تكاليف الحرب الخسائر البشرية والمجتمعية.
رغم وجود عدد من الاحصاءات والدراسات التي تقدر كلفة الحرب في سوريا، فان إيجاد مؤشر قياسي لتحديد الكلفة بشكل دقيق يكاد يكون شبه مستحيل نتيجة استمرار الحرب والصراع، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على حياة الناس ومعيشتهم. مع ذلك فإن فهم جوهر كلفة أي حرب وحجمها أمر ضروري للغاية لتحديد الاحتياجات الأولوية، ولإعداد خريطة لإعادة الإعمار التي يمكن البدء فيها عند ظهور أول مبادرة للاستقرار والسلام.
قد يكون حساب كلفة الحرب أمر بغاية التعقيد إذا ما اقتصر الأمر على طرح رقم كلي لمجموع أضرار الحرب، لكن يجب أن لا ننسى عند الحديث عن الكلفة بأن تكون النظرة شاملة وعامة تشمل أضرار الممتلكات والقيمة الاقتصادية المفقودة للقتلى أو المعوقين في الحرب، وتكاليف الاضطرابات الاقتصادية في زمن الحرب. وعلى عكس ذلك، فإن التكاليف “السلبية” أي المكاسب الاقتصادية الناجمة عن الحرب – هي عوامل ينبغي أخذها في الاعتبار عند تحديد تكاليف الحرب، ولا نغفل أن جزء من التكاليف سينقل إلى الأجيال المقبلة على شكل رسوم فائدة على ديون الحرب، وعادة ما تستمر هذه الرسوم لفترة طويلة بعد أن تفقد الديون هويتها في مجموع الدين الوطني، في فئة مماثلة هي تكاليف المعاشات التقاعدية والمكافآت للمحاربين القدامى والرعاية الطبية للمتضررين من الحرب.
كما أن فاتورة أي حرب لا تقتصر على تكلفة الدبابات والطائرات وغيرها من الأسلحة المشاركة في الحرب بل يوجد أيضاً تكاليف يصعب تقديرها مثل العلاج الطبي والنفسي لتأهيل الجنود والمدنيين الذين أصيبوا خلال الحرب، إلى جانب الخسائر غير المباشرة الناتجة عن توقف عجلة الصناعة والتجارة والزراعة؛ وضياع سنوات من التعليم وفقدان عدد كبير من القوى العاملة التي كانت تشكل يوماً من الأيام أساساً اقتصادياً هاماً لنمو سوريا، نتيجة وجود نسبة كبيرة من فئة جيل الشباب ضمن الهرم السكاني لسوريا.
استناداُ إلى ما جاء قي في آخر تقرير صادر عن البنك الدولي قدر فيه حجم الخسائر في سورية بنحو 226 مليار دولار أميركي، شملت تلك الخسائر التي ذكرها التقرير إلى حد كبير تفاصيل عدد القتلى وحجم الدمار وتقدير كلفة الأضرار البشرية والمادية ، وما ذكره التقرير من أرقام طالت جميع القطاعات البشرية والاقتصادية يكاد يشكل رقماً مرعباً للأجيال القادمة التي ستتحمل جزء من تسديد فاتورة هذه الحرب.
من جانب آخر، تغفل بعض التقارير والاحصاءات الاقتصادية المتعلقة بحساب كلفة الحرب ، حساب خسائر الرأسمال البشري والمادي الذي تم تهجيره، حيث شهدت سوريا خلال السنوات الأخيرة هجرة كبيرة لرؤوس الأموال البشرية والمادية، على صعيد فئة الشباب خسرت سوريا نسبة كبيرة من القوى العاملة الفتية، منهم من قتل ومنهم من هجر لنجد أن غالبية القطاعات والمؤسسات العاملة تعاني من نقص لليد العاملة وللعقول الشابة. اذ خسر المجتمع والاقتصاد السوري كوادر عديدة، أنفق عليها مبالغ كبيرة لإعدادها وتأهيلها، يضاف إليها خسارة دورها في إعادة الإعمار مستقبلا.
ولأن لكل خسارة أثرها على المجتمع نجد أن الخسائر البشرية ترتب عليها مشكلات اجتماعية، تتعلق بوجود توازن بين عدد الذكور والإناث في المجتمع السوري، ما سيترتب عليه فقدان عدد من الإناث لفرصة الزواج، ما سيساهم بانخفاض عدد الولادات.
من جانب آخر دفع الأطفال ثمنا باهظا لهذا النزاع، حيث قتل مابين ٢٠ ألف طفل، جراء الأسلحة المتفجرة، أما الناجون من الأطفال فقد خسر أكثر من مليوني طفل فرصة التعليم نتيجة عدم ذهابهم إلى المدرسة، إضافة لوجود ٥.٧ مليون طفل بحاجة إلى المساعدة التعليمية. بالطبع لا تقتصر حاجة الأطفال للتعليم فقط بل هم بحاجة إلى رعاية نفسية للتعافي من سنوات إراقة الدماء التى شاهدوها. كما يحتاج الوالدان إلى الدعم المادي والمعنوي أيضا، فعندما يغرق الوالدان أكثر فأكثر في الفقر، تزداد المخاطر بالنسبة للأطفال ويضطرون للعمل ، تباع البنات في الزواج، ويحتاج الأهل إلى الاعتماد على عمل الأطفال، وهذه كارثة مستقبلية بالنسبة للجيل القادم.
في حرب مثل الحرب السورية، لايمكن أن نتجاهل حساب كلفة تحطيم منظومة القيم العامة، التي يتطلب إعادة تكوينها الكثير من الجهد والوقت لاسيما وأن مفرزات الحرب خلقت طبقة من الناس يستسهلون العنف، والسرقة والخطف والغش والقتل. لعل كلفة هذه القيم ستخلق مظاهر مجتمعية غير طبيعية تحمل مورثاتها للاجيال القادمة لتكون بمثابة القنبلة الموقوتة المعدة للانفجار في أي وقت مستقبلاً.
كذلك واجهت سوريا أزمة انعكست على اقتصادها تمثل بهجرة مادية خارج سوريا، فقد تم نقل الكثير من المصانع والرساميل إلى الخارج، وهي بحسب أقل التقديرات لا تقل عن نحو ٥٠ مليار دولار. وهذه الهجرة مازالت تشكل تحدياً للأطراف المتنازعة في كيفية جذبها وإعادتها للداخل السوري بعد انتهاء الحرب، خاصة وأن عدم وجود استقرار واضح في سوريا سيؤخر من عملية إعادة الإعمار مستقبلاُ.
أما بالنسبة الى الأرقام المتعلقة بالخسائر البشرية، فان عدد القتلى من مختلف الأطراف لا يقل عن ٧٠٠ ألف قتيل، عدا عن عدد الجرحى المعاقين نتيجة الصراع لذين لا يقل عددهم عن نحو ١.٢ مليون شخص. هنا لابد أن نحتسب تعويضات شركات التأمين على حالات الوفاة في الحوادث، فقد كانت قيمة تعويض شركات التأمين قبل الأزمة تعادل ٧٥٠ ألف ليرة ماقيمته ١٥ ألف دولار، بينما تبلغ قيمة التعويضات حالياً ١.٢٥ مليون ليرة أي ما يقارب ٢٥٠٠ دولار، إن وجود مثل هذه الفجوة بين قيمة التعويضات سابقا وحالياً سيطرح إشكالية حول القيمة الفعلية التي ستدفعها شركات التأمين للتعويض على حالات الوفاة، والتي يتوجب أن تبقى قيمتها تعادل ١٥ ألف دولار.
من الناحية العسكرية، نجد أن خسائر سوريا كانت فادحة في صفوف الجيش من قتلى ومصابين وجرحى ومفقودين، عدا عن عدد الانشقاقات بصفوف الجيش، وبالتالي فإن كلفة تعويض الجرحى والمصابين من الجيش مكلفة بشكل كبير وطويلة الأمد وهي أضعاف كلفة القتلى، وبالتالي ستجد سوريا صعوبةً في إعادة بناء جيشها مستقبلاً خاصة بعد الاستنزاف الذي تعرض له طوال سنوات الحرب. إلى جانب ذلك نجد أن ما تم بناءه خلال العقود السابقة من معدات عسكرية أسلحة وطائرات ومدرعات قتالية، كانت أسعارها بالسابق غير مكلفة فان الحرب ادت الى خسائر إضافية لا يمكن إنكارها حين إعداد فاتورة الحرب، فقد خسرت سوريا آلاف المدرعات ومئات الطائرات، ان اعادة بناء تلك المعدات مستقبلا سيكون مكلفا خاصة وان الاسعار لم تعد منخفضة.
بالحد الأدنى لو فرضنا أن سوريا بحاجة الى ١٠٠٠ مدرعة ودبابة لإعادة تشكيل ثلاث فرق عسكرية مستقبلا، ووفق الأسعار الحالية نجد أن قيمة المدرعة تعادل ٥ مليون دولار وبحسبة بسيطة نجد أن سوريا بحاجة إلى ١٠٠٠ مدرعة مايعادل قيمتها ٥ مليار دولار. أما سلاح الجو لو فرضنا أن سوريا بحاجة لـ ١٠٠ طائرة حديثة فإن كلفة كل طائرة تعادل مابين ٢٠ إلى ٢٥ مليون دولار كأقل تقدير، وبالتالي فإن كلفة ١٠٠ طائرة تساوي ٢٠٠ مليار دولار، مع العلم أن الطائرات السورية هي من الجيل الثالث، يضاف لذلك ماخسرته سوريا من طيارين تكلفت بتدريبهم.
عطفا على كل ماسبق مهما حاولنا تفصيل كلفة الحرب، لكن لا يمكن أن ننكر حقيقة صعوبة اختصار كلفة النزيف السوري بأرقام خاصة وأنه من المجحف عد وحصر دماء السوريين بمبلغ مادي أو برقم.
حين يخسر السوريون أمنهم ووطنهم، يصبح الحديث عن أي كلفة سواء كانت عسكرية أو اقتصادية لا قيمة لها في حسابات السوريين الذين ضحوا بدمائهم ثمناً لحياة حرة وكريمة.