“اللامعنى وبطولة اللغة في رواية “اختبار الندم

“اللامعنى وبطولة اللغة في رواية “اختبار الندم

تبدو “اختبار الندم” للروائي السوري خليل صويلح والحائزة على جائزة الشيخ زايد للرواية خرقاً للسرد التقليدي، من خلال ابتداع سرد يقوم على بناء المعنى وتحطيمه في مشهدية تتكئ على مفهوم الصورة عند بودريار فكل صورة تؤسس لأخرى وتنزاح لتترك لها فضاء جديداً.  

وقراءة أعمال صويلح ليست نزهة في غابة السرد، بل تحتاج لمهارة اقتفاء أثر الأسئلة المصاغة بنكهة عدمية “فالشعر هنا يبدو مجرد قناع لجعل العدم يتلألأ.” والثيمة الأساسية التي تتكشف في أعماله من “وراق الحب” و”دع عنك لومي” إلى “زهور وسارة وناريمان” و”جنة البرابرة”، “حتى اختبار الندم” هي تتبع خيط الرغبة وسط ضباب الحرب والانتهاك اليومي، والضياع بين عشوائيات المدن وينطبق على نصوصه ما يسميه بودريار”تآكل المعنى بسبب تخمته.” فبالرغم من أن رواياته لا تتجاوز المئة وخمسين صفحة إلا أنها تحفل بالمعاني لدرجة أن القارئ يصعب عليه الإمساك بالمعنى الحقيقي. فنصوص صويلح متخمة بالمعاني، كالرغبة والحب والجسد والتاريخ والغثيان بالمعنى الوجودي، التي يدمرها الراوي عمداً لخلق غيرها، إضافة للإحالات إلى كتب أدبية ومقاطع شعرية وعناوين أفلام.

وهذا أساس العدمية التي تتسلى “بالتدمير والبناء ثم الهدم” والرابط بينها رائحة الرغبة المراوغة التي تبدو حيلة لجذب القارئ وإيقاعه في عسل النص غير متنبّه للخيبة والكآبة التي تنتظره والتي تشيع فيه، والدافع الوحيد الواضح خلف ضباب الرغبة هو الضجر. فالضجر هو الصمغ الأسود الذي حط على روح الراوي.

لكنّ الهاجس الأساسي منذ “وراق الحب” هو الكشف عن الجسد عبر لغته والجسد يكتشف ذاته عبر أمرين هما “الرغبة و الألم”، وترى ميشيلا مارزانو: “أن الجسد هو قدرنا ليس لأن الكائن البشري ليس حراً في اختيار الحياة التي تناسبه أكثر، وأنه مصمم وراثياً لإنجاز بعض المهام أكثر من غيرها بسبب طبيعته الجسمية، بل لأن الجسم وبمعزل عن كل خيار وكل قرار هو حاضر دائماً، وغير قابل للتجاوز.”     

ويحضر الجسد بكثافة من خلال عملين يبدوان امتداداً لبعضهما: “زهور وسارة وناريمان” 2016، و”اختبار الندم” 2017.

ولعل الرابط بين أعماله بالمجمل هو البحث الذي لا يهدأ عن نجمته؛ ففي “ورّاق الحب” هو كاتب يبحث عن فكرة رواية، وفي “زهور وسارة وناريمان” هو مصور يبحث عن مشروعه، وفي “اختبار الندم” هو مدرب لورشة سيناريو.

في “اختبار الندم” يعمل الراوي على إظهار نضوج شخصيات العمل؛ فزوج زهور العسكري المعطوب الذي كان يفرد خرائطه ويضع خططاً حربية سيعود بهيئة كمال علون في “اختبار الندم” وهو يتأبط  مشروعه الكتابي بل إنه قادم هو الآخر من الثكنة فالأول عسكري قديم والثاني كان يعمل مراسلاً حربياً.

والتحرر الجسدي في زهور وسارة وناريمان والمتمثل بثورة زهور على زوجها المعطوب، بعد أن اكتشفت جنة كانت محرومة منها في أحضان الراوي، يصبح فعل تحرر لغوي في اختبار الندم،  فمدرب ورشة السيناريو قد بلغ حكمة “أن التحرر الجسدي لا معنى له دون تحرر لغوي.” فأسمهان في عزلتها في الجنوب السوري تبدو استمراراً لزهور المنفية مع رجل عنين، زهور تحررت بجسدها لكنها الآن أسمهان وقد أصبحت شاعرة صوفية سوف تطلّق زوجها وتقيم علاقة مع الراوي الذي ينصحها بتحرير اللغة من صمغ العبارات الجاهزة “إثر عودتها إلى قريتها في الجنوب أمطرتني نصوصاً جديدة انتبهت إلى أنها خلعت عباءة الصوفية التي كانت تتدثر بها، في نصوصها القديمة” فنحن نحتاج إلى نفض الغبار عن اللغة”، فهي وهذا ما يصف به الراوي أسمهان مشعل “لم تعد تختبئ خلف مجازات نصوصها،  بل تقف على أرض مكشوفة أولاً.”

أما نارنج التي تبدو وكأنها مهجة الصباح البريئة في رواية “وراق الحب” فقد تحولت من امرأة ساذجة إلى  مهزومة، فقد اغتصبت واعتقلت وهي مصابة في عمق روحها حتى أنها تمارس العادة السرية متخيلة مغتصبها.

ويحافظ الراوي على مسافة الأمان معهن بممارسة أقصى حالات اللامبالاة “الأن باللامبالاة وحدها بنظره تكون حرة” فهو أشبه ببطل كامو في رواية “الغريب” تستوي عنده كل الأمور وثمة مسافة تفصله عمن حوله “أحسست بمسافة تفصلني عن الجميع، بمن فيهم سارة قطان ذاتها، ها أنا أكتشف نمطاً آخر للحياة لا مكان فيه لكآبتي التاريخية.”

في رواية “زهور وسارة ناريمان” ثمة امرأة غائبة هي “امرأة المنام” والتي يبدو حضورها طاغياً… وتمتد مستحوذة على تفكيره ولا يجد بينهن من توازي سطوتها، أما في اختبار الندم فهي تتحول إلى كائن افتراضي تارة وكائن من لحم ودم تارة بإسمين مختلفين أسمهان مشعل “المتشاعرة” كما يطلق عليها الناقد محمد برادة، وآمال ناجي في العالم الافتراضي.

في “زهور وسارة وناريمان” يحركه الأمل بالعثور على امرأة المنام، أما في “اختبار الندم” فيلغلق الكاتب نافذة الضوء حيث تضيق المسافة بين الحلم والواقع بخلق واقع ثالث افتراضي لا محل للأمل فيه… فقط رغبات وشهوات مبتورة…

وفي كلا العملين فإن “بحيرة الجليد” تقف حائلاً بينه وبين نسائه، وهي تتسع  لتمنع المؤلف لا الراوي فقط من سبر الأعماق الداخلية لبطلاته. فجاءت شخصياته تفتقر للعمق في بعض جوانبها. فهو يكتفي بتمرير مسباره الكشفي على وجه شخصياته. وتمنعه بحيرة الجليد أو اللامبالاة من تفهمها مما اضطره للبوح بالنيابة عنها. حتى المونولوج في النص، على ندرته، تفوح منه رائحة المؤلف لا رائحة الشخصية التي تتحدث.

والمرأة هنا هي ليست المشتهاة ولا المعشوقة، إنها  مهزومة بجسد ضائع بين الحرمان والعفة والاغتصاب، أو هي أسيرة ثقافة البورنوغرافيا وهي مشغولة في المقهى أين يمكن لها أن تضع الأقراط المصنوعة من الذهب أو الفضة او النيكل على أنفها أو على المناطق الحساسة؟

وإذا كان بيكيت يتحدث عن الجسد المخفي وباختين عن الجسد المشفر، وهناك الجسد المشرح الذي أعيد تشكيله في (وحش فرانكنشتاين)، والجسد المروض والمطيع عند (فوكو)، الجسد العاري، الجسد المشلول، الجسد المصلوب… فإن الجسد يبدو في أعماله كالسجن أو الأسر وهذا المعنى ملازم للحداثة حيث تنتهي أغلب الشخصيات بالانتحار أو السفر كانتحار الفتاة التي تركها حبيبها، انتحار حارس القباني وفتاة حي الشعلان،  وانتحار فتاة مشروع دمر.

فالجسد هو أرض  الجراح، وهو حمل ثقيل ينبغي التخلص منه وهذا يظهر بوضوح في “اختبار الندم” وإذا كانت الحرية تتجاوز التحرر بمعناه الجسدي واللغوي إلى القدرة على أن يعرف المرء ويختار، فإن الراوي يلغي أي إمكانية لشخصياته أن تفلت من قيد الجسد وقيد الحرب إلا بالهرب أو الموت. واللافت غياب الوجه وتبدو أغلب الوجوه غائبة ماعدا إشارة عابرة لعيني نارنج الشبيهتين “بغابتي نخيل” ماعدا ذلك تبدو الملامح مختفية  بشكل متعمد، جسد زهور دبابة من اللحم، سارة قطان فراشة.

مقابل جسد مشوه ومتعب لناريمان، بخلاف ذلك جسد نارنج غائب ولا نعرف منها سوى أذنها المشوهة، وهذا أمر له دلالة رمزية، وبالنهاية ما الفرد وأين توجد هويته؟ أليس الوجه علامة حريتنا وعما يكشف غيابه؟

والسؤال: من دون السقوط في التعداد الساذج لنماذج الجسد؟ كيف نبني فلسفة للجسد قادرة على إبراز المعنى والقيمة الجسمية؟ وهل بمقدور المرء حقيقة، أن يضع جسده على مسافة منه؟  يبدو أن خليل صويلح رفع الغطاء فقط وترك لأفاعي الخيبة السامة أن تتكفل بلدغ قارئه.

أما الرغبة فهي الكاشف عن محدودية هذا الجسم وعذاباته ولا معنى وجوده والرغبة هي التي تكشف لنا عن أجسادنا، فبحسب مارزانو أن “كل واحد منّا متواطئ مع رغبته وعبر هذه يرد كونه جسماً.”

وهي تبدو في اختبار الندم حالة “كشف ومعرفة “،  أكثرمن كونها رغبة ايروتيكية وبعد أن كانت فعل تحرر في “زهور وسارة وناريمان” أصبحت خاوية ومبتورة وتخضع لجمالية اللامبالاة وهذا ما يشكل عنصر جذب للقارئ؛ فهي  “تلقي بنا خارج ذواتنا” بحسب ميشيلا مازارانوفا.

إنها الرغبة المحررة “التي تعيش حياة بداوة وترحال في ظل الحداثة حسب ويلهم رايش.” وأي علاقة شهوانية هي مجرد طوق نجاة من صمغ الضجر ورتابة الأيام وقسوة الحرب في “زهور وسارة وناريمان” يتساءل: لماذا تبددت سارة قطان هل هي بقايا من نذالة ذكورية؟  وفي اختبار الندم يجيب “فما معنى أن أشتهي جمانة سلوم بوجود أسمهان مشعل التي كنت مغرماً بها منذ ساعة واحدة فقط” وهذه الجملة تبدو كتقرير أو استنكار أكثر منها استفهام فهي ما إن تنبثق حتى تفنى وهذا ما يشيع روح الكآبة في النص فـ”الكآبة هي سمة ملازمة لنمط زوال المعنى” بحسب ميشيلا مارزانو  و “رغبة لا تتأسس على ذاتها ليست رغبة” بل تتأسس على الضجر وحالة الفقد والعدم.

وهي تتخذ معنى الفقد لا الوصول إلى الآخر وتنتهي عند زهور بالانتحاب والبكاء، وعند سارة بالأفول، وعند الروائي هي حنين للأم، فماذا يبرر تعلقه بزهور التي لها مظهر أم؟ وهو يردد في أكثر من موقع مرة مع زهور ومرة مع نارنج أنها نظرت له كأم خسر ابنها موقعه لكنه لم يخسر المعركة ربما هو “شوق للأم في المرأة و الأم هي الجنة المفقودة.

بطولة اللغة… و المكان

الشعرية بحسب فاليري “حيث تكون اللغة في آن واحد الجوهر والوسيلة” واللغة وهي نسق من الرموز تتحول في “اختبار الندم” إلى لغة شعرية وعالية وكثيفة ويتحقق فيها المعنى السابق للشعرية، ولها دور البطولة على حساب الشخصيات، بل يمكن لعبارة أن تترك على حواس القارئ سطوة أكثر من معاناة الشخصيات نفسها بحيث تضيع وحدة وأشواق اسمهان ناجي خلف لغة الراوي، وتبدو عذابات حارس سينما القباني محتجبة خلف اللغة التي تصف هذا العذاب.

وتفقد معاناة نارنج معناها خلف جمل تتسم بإشراق عبارته ونصاعتها، وتبدو اللغة كإطار متسع يظهر ضآلة الشخصيات، وهي تحجب معاناتهم خلف بلاغة متعمدة. وتنتهي فصوله القصيرة كلها بجمل شعرية وسطوة اللغة عنده تفرض نفسها على القارئ، بل يبدو أحياناً أنها تكتفي بذاتها كرمز لمعنى، وفي هذا الاكتفاء يتحقق عدم المعنى، وهكذا تلعب اللغة والصورة والمشهد البطولة  كإطار ضخم لا تستطيع الشخصيات ملأه.

ومن جماليات اللغة  “كنت تشعلين الوقود بعود ثقاب غير مرئيّ، ثم تطفئين النار بعبارة مضادة لا تخص ّ الحطب الذي جمعناه معاً من غابة الغواية المجاورة” أو”نكتب لنحول ثاني أكسيد الكربون إلى أوكسجين والفحم إلى ثمار بريّة بمذاق حرّيف، ولترويض آلام الجسد وخطاياه.”

وبهذا يخلص الكاتب لفكرته الأساسية حول لغة مشتهاة “اللغة المشتهاة أن نحصل على مسك الغزال، لحظة تفجر كيس سرته فوق صخور الجبال العالية.” وهذه هي الرسالة التي يرسلها الروائي إلى نفسه لتعرية روحه فهو مؤمن بأن السرد “هو شرف الكاتب” بحسب زافون لذا تتفوق اللغة على الشخصيات في اختبار الندم.

أما التاريخ فهو حفنة من الأوهام والأكاذيب والقسوة ويقابله لا بالتهكم ولا الهجاء ولا السخرية، بل بالدعابة اللانهائية فبالدعابة وحدها بحسب هيغل “يمكنك أن تراقب تحتك غباوة الناس الأبدية وتسخر منها.”

فكلما كنت تغوص في وحل اللحظة الراهنة، أكثر، عليك أن تشمخ برأسك عالياً، ففي أسوأ الاحتمالات أنت حفيد صلاح الدين وزنوبيا، ويوسف العظمة.”  فالتاريخ وهم، والرغبة هي ليست إلا الشهقة الأخيرة لجثث مبتورة، واللحظة غارقة في لزوجة الضجر اليومي، والحياة أمر عارض، والعرضي يوازي الموت والعدم الذي ينبغي مواجهته بمعول الهدم… لذا ستتبلور فكرة التحطيم في منجزه ضد المكتبة الذي يهدف للهدم بمعناه المجازي والرمزي، ليس بإشعال النار في الكتب بل حتى في الكلمات والحبر الذي كتبت به.

في دمشق يتقبل الناس سقوط قذيفة بنفس الطريقة التي يتقبلون بها زخة مطر، لا بأس أن تطيح بك قذيفة في مدينة المدن وجنة البرابرة، فماذا يعني أن تسقط القذيفة فوق جسد مهشم بالأساس؟

لم تعطه جنة البرابرة سوى هذه الكآبة التاريخية وكأنه يقول مع بودريار الآن حيث صحراء المدن تعادل صحراء الرمال، سألتفت نحو الصحراء لا بل ربما بدت الصحراء بمثابة جنة مفقودة سيستعيدها في الذاكرة.

 أليست الذاكرة هي “المكان الحميم الذي يمكن للذات والماضي أن يصفيا الحساب على أرضه؟” وكأنه يعاتب الماضي قائلاً: أنا الذي مشى فوق الرمال الحارقة بقدمين حافيتين، وأنا من شرب الماء الذي ترى به الجراثيم بالعين المجردة.

الدراما السورية في موتٍ سريري

الدراما السورية في موتٍ سريري

مرةً أخرى تعود الدراما السورية في هذا العام، لتتلقى سهام النقد، من قبل أغلب المهتمين والمتابعين للحدث الدرامي، نقدٌ طال أهم وأفضل الأعمال وحوَّل بعضها إلى مادةٍ للسخرية والتهكم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض البرامج الكوميدية. لذا نجد اليوم عدداً كبيراً من جمهورها قد آثر العودة الى ماضيها الجميل، حين كانت بأوجها وألقها، لمشاهدة أعمالٍ قديمة تحظى بقيمةٍ فنيةٍ جيدة.

دراما خارج سيناريو الواقع

حاولت معظم أعمال الدراما السورية في الآونة الأخيرة التغريد خارج سرب الواقع السوري، لتحاكي ظروفاً وأحداثاً وأمراضاً تعيشها المجتمعات المثالية في أوقات السلم، بينما غفلت عن ملامسة معظم الأمراض والكوارث التي أفرزتها الحرب.

أعمالٌ ترصد حالات البذخ والثراء في المجتمع، تم تصويرها في أماكن فارهة وبيوتٍ واسعةٍ فخمةٍ، في وقتٍ أصبحت فيه معظم عائلات المجتمع السوري تعيش تحت خط الفقر، ويسكن بعضها في بيوتٍ مقفرةٍ ضيّقة، وأحياناً في غرفةٍ واحدة تضم عائلتين وأكثر.

تتحدث معظم الأعمال عن مشاكل الشباب في الحب والزواج وفشل الدراسة، وتغمض أعينها عن معاينة همومهم اليومية التي ولدت في سنوات الحرب، كهموم الهاربين من معارك القتال أو المنخرطين فيها رغماً عنهم، والمتوارين عن الأنظار خوفاً من اعتقالهم أو سوقهم إلى الخدمة العسكرية، والذين تم سحبهم من الحواجز إلى الجبهات وماتوا قبل أن يتعلموا لغة السلاح. قد يقول قائلٌ إن لسلطة الرقابة دوراً في منع الدراما من رصد ما سبق، ولكن أين هي من الواقع الإنساني الحياتي الذي تعيشه أغلب شرائح وأطياف المجتمع ويراه القاصي والداني؟

يمكن القول إن بعض الأعمال حاولت أن تلامس شيئاً من جوانب الواقع (من وجهة نظرها) فتناولت مواضيع عامة كالفقر وأحوال النازحين ميسوري الحال وجزءاً من آلام الناس ومعاناتهم مع بعض مافيات وسلطات الحرب والمتنفذين.

ولكن ذلك التناول كان، برأي البعض، خجولاً وسطحياً وهامشياً، يتجاهل كوارث وأزمات كبيرة وصورته لا تشبه ما نراه في حياتنا اليومية، أما الممثلون فقد كانوا بعيدين عن شخوص الواقع حد التناقض، مشهدٌ يؤكد أن صناع تلك الدراما مغتربين عن الواقع ولم يلامسوا حقيقته ومأساته عن كثب. حتى اليوم لم نجد مسلسلاً رصد معاناة النازحين بشكلٍ متكاملٍ وحقيقي، في مساكنهم البائسة داخل (شقق العظم) ومراكز الإيواء، أو تناوَل موضوع التحرش الذي تعرضت له بعض النساء والأطفال هناك.

أين أعين الدراما من رؤية أطفال الشوارع المشردين والمتسربين من التعليم نحو التسول وسوق العمل المليء بالمستغلين والوحوش؟ ماذا عن العصابات التي تقوم بتشغيل الأطفال بأعمال التسول والسرقة ونقل المواد الممنوعة، لتحوّلهم إلى كتلةٍ من الأمراض وتجعل منهم مشاريع مجرمين؟ ماذا عن النساء اللواتي يفترشن أرصفة دمشق، في مشهدٍ بات مألوفاً، ليبعن على البسطات بضائع بائسة توفر لهن لقمة عيشٍ مريرة؟

دراما تفتقر إلى المهنية ومقومات الفن

بنظرة سريعة على مسلسلات هذا الموسم سيبدو واضحاً حجم تردي المستوى الفني والمهني لمعظم الأعمال، نصاً وأداء وإخراجاً، وهو ما أبعد بعض الأعمال السورية خارج مضمار المنافسة الرمضانية لتحل مكانها أعمال مصرية وخليجية حققت شروطاً فنيةً أفضل ولاقت قبولاً من قبل محطات العرض.

يتحدث المسلسل الكوميدي “الواق واق” (للكاتب ممدوح حمادة والمخرج الليث حجو) عن سبعة عشر رجلاً وامرأة غرقت سفينتهم فاجتمعوا على جزيرةٍ منعزلة محاولين بناء مجتمعٍ مثالي. بالرغم من أن العمل يحظى بمشاهدةٍ كبيرة، لكنه لم ينج في أعين النقاد، كونه لم يأت بفكرةٍ جديدة– الفكرة تم تناولها كوميدياً وتراجيدياً عبر أعمالٍ غربيةٍ وعربيةٍ، منها فيلم” البداية” ومسلسل “في اللا لا لاند”.

أيضاً تنحو بعض شخصيات المسلسل نحو التهريج والسذاجة، وبعضها الآخر يبدو فنتازياً أو قادماً من كوكبٍ آخر، كما أن تكرار معظمها لثيماتٍ تعبيرية إيمائيةٍ وفكاهيةٍ وترديدها لعباراتٍ ومفرداتٍ، تُبرز من خلالها هويتها الكوميدية، قد منحها صفةً وصبغةً نمطيةً، تُذكرنا بمواقف وأداء (كاركترات) شخصيات مسلسلاتٍ أخرى حملت توقيع الكاتب ذاته، وهي سمة باتت مستنسخة في بناء شخصيات ممدوح حمادة.

تمر أحداث العمل بشكلٍ رتيبٍ ورتمٍ بطيء ينقصه التصعيد والتجدد، تُعاد فيه بعض المواقف والحوارات والدعابات بشكلٍ ممجوجٍ وممل يُظهر عجز معظم الحلقات عن خلق تنوعٍ وتميزٍ في محتوى قصصها. من جهةٍ أخرى، يتساءل البعض كيف لهذه الجزيرة المعزولة أن تتوفر فيها كميات كبيرة من الأطعمة المعلبة والأواني المتنوعة والفرش والأغطية وبعض متطلبات العيش الرغيد وأشياء أخرى؟ هل يمكن لهاربٍ من الغرق أن يصطحب معه كل تلك الأشياء؟

يحاول المخرج ايجاد مَخرجٍ درامي، فيرينا أن البحر قذف إلى الشاطئ ببعض صناديق المعلبات، لكن هذا، برأي البعض، لم يكن إقناعاً درامياً كافياً لحضور معظم متطلبات الحياة إلى شاطئ الجزيرة في زمنٍ قصير.

صُنف المسلسل الواقعي “فوضى” (للكاتبين حسن سامي يوسف ونجيب نصير والمخرج سمير حسين)، من ضمن أفضل مسلسلات هذا العام، لكنه رغم ذلك لم يكن عملاً متكاملاً وتلقى بعض الانتقادات، فهو يفتقر إلى التنوع في الحدث والحبكة والصراع، حيث تتشابه معظم خطوطه الدرامية ومسارات شخصياته وصراعاتها، لتبدو قصص ومعالم تلك الشخصيات مطابقة لبعضها البعض في معظم الحلقات.

فمثلاً، يتناول العمل موضوع العلاقات العاطفية عند النساء من خلال أغلب الشخصيات النسائية في العمل، فيُخضعهن بمجملهن لنفس المواقف والظروف، ويظهرهن جميعاً، بما فيهن الفتيات المراهقات، كأنهن يعانين من مشاكل في العلاقات العاطفية والبحث عن الرجل بشتى السبل، لتنحصر جميع أدوارهن وصراعاتهن فقط في إطار العلاقة المعقدة مع الرجال. يتكرر الأمر ذاته في موضوع العلاقة المتأزمة بين الأهل وأبنائهم، إذ يُقحم العمل جميع شخصيات الأبناء في التعبير عن هذا الموضوع، فتحاكي بمجملها واقع الصراعات والخلافات ذاتها التي تقع بين الابن وأمه أو أبيه حول المفاهيم ذاتها كالتربية الصالحة والحياة المثالية وصراعات الأجيال، لتتكرر القصص والمواقف والأحداث بين شخصيات هذا الخط الدرامي، وتبدو وكأنها شخصية واحدة تعيش في بيوتٍ مختلفة.

لا يقتصر موضوع التشابه والنمطية على طبيعة الشخصيات وقصصها، بل يشمل أيضاً لغة وطبيعة الحوار، إذ نجد أن معظم الحوارات تتشابه في مضامينها وفحواها وأحياناً مفرداتها، لتبدو الشخصيات وكأنها تقمصت أحاديث بعضها البعض وتماهت حواراتها فيما بينها، أو تبدو وكأنها تعلمت لغةً مشتركة ونهلت من منبعٍ ثقافيٍ اجتماعيٍ واحد ومدرسة حياةٍ واحدة.

رغم انحدار مستواها الفني في السنوات الماضية عادت دراما البيئة الشامية هذا الموسم بغزارةٍ إلى الشاشات عبر أعمالٍ مترهلةٍ ومتوارثةٍ عن بعضها البعض، لتعيدنا إلى قصص الحارات وصراع العائلات والخلافات النسائية على أمورٍ تافهة، إضافة لبطولات الزعيم والعقيد ورجال الحارة في محاربة الشر لينتصر الخير في النهاية.

ولأن هذه الدراما تحظى بتسويقٍ جيدٍ عبر المحطات اللبنانية والخليجية، واصل صناعها ومنتجوها استنساخ مسلسلاتها كيف ما اتفق وشحنها بأجزاءٍ جديدةٍ، مفضلين المعايير التجارية الربحية على المعايير الفنية والمهنية، على الرغم من إساءة معظم تلك الأعمال للتاريخ السوري وإظهارها للمرأة كجاريةٍ وعبدةٍ لسيدها الرجل، وإظهار الأخير كرجلٍ غوغائي لا يفكر سوى بقيم العرض والشرف، المحصورة عنده بجسد المرأة، ولا يتقن سوى لغة العضلات والخناجر والعنتريات.

“وردة وشامية” عملٌ وحيد حاول الخروج، نسبياً، عن السيناريو المعتاد لأعمال البيئة الشامية، حيث استمد تفرده من كونه مقتبساً عن “ريا وسكينة” الحكاية المصرية المعروفة التي قُدمت سابقاً كمسرحيةٍ ومسلسلٍ، لكن ذلك لم يشفع له ليرقى إلى المستوى الفني المطلوب؛ فهو يفتقر إلى عنصري التشويق والإثارة وتبدو صراعاته وأحداثه متوقعة سلفاً تخلو من عنصر المفاجأة، ليبدو العمل لبعض المشاهدين وكأن “ريا وسكينة” تقتحمان دراما البيئة الشامية.

أما المسلسل التاريخي “هارون الرشيد” العمل الأضخم إنتاجياً، فقد كان حديث النقاد الأول، فهو، بحسب آراء كثيرة، يشوِّه حقيقة تاريخ الخليفة العباسي ويقع في هفواتٍ تاريخيةٍ كبيرة، إذ يتجاهل تناول محطات التطور ومظاهر الحضارة والازدهار التي شهدها عصر الرشيد أو الفتوحات والمعارك التي خاضها الخليفة، لتزدحم الحلقات بقصص النساء والجواري والجلسات الغنائية والمؤامرات المحاكة من أجل النزاع على سلطة الحكم، وذلك على حساب أحداثٍ تاريخيةٍ هامةٍ، ما جعل بعض الساخرين من العمل يمنحونه عنوان “جواري هارون الرشيد.”

يفتقر العمل إلى الغنى والإقناع البصري، حيث تنحصر معظم مشاهده في كوادر داخلية ضمن القصر وأروقته وعبر لقطاتٍ قريبة وهو ما ظهر كضعفٍ إخراجي يتجنب المشاهد الخارجية التي تحتاج إلى جهدٍ فنيٍ تقنيٍ كبير وبراعةٍ في الرؤيا، بالإضافة إلى كوادر بشرية وديكورات ضخمة وإكسسوارات وغيرها. كما يقع العمل بأخطاءٍ مهنيةٍ أخرى منها الأخطاء اللغويةٍ وأخرى تتعلق باختيار ممثلين لا يعبِّرون عن العمر الحقيقي للشخصيات، وليس آخراً الخطأ الذي أثار ضجةً كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، “هارون الرشيد يلقي قصيدةً للشاعر المصري المعاصر هشام الجخ!”    

دراما بعينٍ واحدة  

يرى كثيرٌ من السوريين، جمهوراً ونقاداً ومهتمين، أن الدراما السورية قد فقدت هويتها، وصار بعضها مسيَّسا وتابعاً، فهي ترى بعينٍ واحدة، عين الإعلام السوري الموالي للنظام، وتنطق بلسانه وتبث رسائله السياسية، وتتبنى الحقائق من وجهة نظره. ففي السنوات الماضية أنتجت أعمالاً كثيرة حاولت من خلالها إظهار جميع المعارضين للنظام كإرهابين تكفيرين أو عملاء أو مغرراً بهم، وحمَّلتهم مسؤولية القتل والخراب والدمار الحاصل في البلاد. من هذه الأعمال: مسلسل “تحت سقف الوطن” لنجدت أنزور، “عناية مشددة” لأحمد ابراهيم أحمد، و”شوق” لرشا شربتجي وغيرها.

واليوم تواصل تلك الدراما مهمتها الإيديولوجية لتطل هذا الموسم عبر أعمالٍ تحاكي سابقتها، من بينها عملان لقيا جدلاً وانتقاداً واسعاً من قبل بعض النقاد والمشاهدين، الأول “روزانا” لمخرجه عارف الطويل، والآخر”يوميات المختار” لمخرجه علي شاهين.       

يتحدث “روزانا” عن عائلةٍ حلبيةٍ كانت تملك معملاً صناعياً دمّرته “المجموعات الإرهابية”، التي قصفت المدينة بالقذائف، وخلال نزوح العائلة هرباً من الحرب نحو دمشق، يلاقي كل فردٍ من أفرادها مصيراً مختلفاً، ليتعرض أحدهم للقنص من قبل “إرهابيين”. يرى منتقدو هذا العمل أنه يروج لخطاب الإعلام السوري حول نظرية “المؤامرة والإرهاب” و”الصمود الوطني الأسطوري للشعب في مواجهة الإرهاب”، ويُحمِّل المعارضة مسؤولية ما جرى في حلب من قتل ودمار، بينما يغفل عن تناول موضوع الأبرياء الذين ماتوا جراء قصف الطيران أو الذين قضوا في المعتقلات دون ذنب، كما يتجاهل ذكر البيوت التي دُمِّرت فوق ساكنيها أو التي تم (تعفيشها).   

“يوميات المختار”، عُرِّف عنه بأنه (مسلسل كوميدي)، يطل فيه الفنان زهير رمضان عبر شخصية المختار “عبد السلام بيسه” المقتبسة من مسلسل “ضيعة ضايعة”، ليتحدث عن الوضع السوري من وجهة نظر النظام ومؤيديه.

لاقى العمل نقداً وسخريةً كبيرة من قبل بعض المشاهدين، فهو من حيث القالب لا يمت للدراما بصلة، إنما يشبه برنامجاً تلفزيونياً سياسياً، ويظهر الممثل كمقدم برنامج أكثر من كونه ممثلاً.

أما من حيث المضمون فهو لا يخرج عن كونه تهريجاً خطابياً يُقدم دروساً وطنية تلقينية فجة، تستقي مواضيعها من لغة وإيديولوجية الإعلام السوري وتتشبه بنشرات أخباره وتذكرنا بمادة التربية القومية.

يتحدث العمل عن شكل التعايش بين السوريين قبل “الأزمة” بشكلٍ أقرب إلى من يلقي محاضرةً في الوطنية، ويستغل حجم المناطق المدمَّرة في سوريا ليحاول الرقص على جراح الناس، فيطل “المختار” من وسط الدمار في بعض الحلقات سارداً ما فعله “الإرهابيون التكفيريون” وكيف دمروا الجوامع والكنائس والبيوت.

كما يلقي العمل في معظم حلقاته باللوم على السوريين وتحميلهم مسؤولية الحرب الدائرة في بلادهم ومسؤولية تردي الوضع الاقتصادي وغلاء الأسعار، دون ذكر تجار ومافيات الحروب التي نهبت البلاد طولاً وعرضاً.

ولأن مسلسل “ترجمان الأشواق” قد حاول أن يرى بعينٍ درامية أخرى ويبصر شيئاً من حقيقة الواقع، لم يخرج إلى النور.

فقد أثار العمل جدلاً واسعاً بعد منع عرضه من قبل الرقابة التي وافقت على تصويره في البداية. تلك الرقابة التي قمعت أعين وخيال صناع الدراما لم تتوان حتى عن قمع نفسها.

المنع جاء بناءً على اعتباراتٍ سياسية، لأن العمل حاول التطرق للفساد والأحزاب السياسية وتحدث عن شخصيات بعض المسؤولين، ولم يشفع له وجود ممثلين مؤيدين للنظام كعباس النوري وفايز قزق وغسان مسعود وغيرهم.

الهروب نحو الدراما المشتركة

خلال السنوات الماضية هرب كثيرٌ من صناع ونجوم الدراما السورية من محاكاة الواقع السوري بتوجيه بوصلتهم نحو لبنان، لإنتاج ما يسمى بالدراما المشتركة التي تحظى بالطلب والتسويق، فكان لهذه التوأمة تأثيرها السلبي على الدراما السورية إذ خطفت معظم نجوم الأخيرة عن ساحاتهم الفنية وقزّمتهم وحدت من نجوميتهم لتنهض الدراما اللبنانية بفضل جهودهم وعلى حساب نظيرتها السورية، حتى أصبحت بعض الأعمال (المشتركة) تنسب للدراما اللبنانية، من قبل بعض النقاد والفنانين، لمجرد أنها أُنتجت في لبنان وضمت بعض فنانيه، على الرغم من أن كتابها ومخرجيها وأهم ممثليها سوريون.

أنتجت هذه الشراكة أعمالاً تفتقد إلى هويةٍ واضحةٍ أو بصمةٍ فريدة، فعند مشاهدتها ستبدو للوهلة الأولى وكأنها دراما تركية مدبلجة، كونها وبشكلٍ ببغائي تحاول محاكاة وتقمص الدراما التركية والمكسيكية وغيرهما، من حيث حركات الكاميرا وشكل الإخراج واختيار أماكن التصوير وانتقاء الممثلين، فهي تستدرج المشاهد من خلال الحضور الملفت والإطلالات المثيرة لشخصيات العمل، المبالغ في جمالها وأناقتها المفرطة وكأنها في مهرجانٍ لعرض الأزياء،  وأيضاً من خلال منازلها وسياراتها المترفة بالفخامة والثراء، فلا عجب أن يحظى مسلسل كـ “الهيبة” بتلك المشاهدة لمجرد حضور نجم وسيم كتيم حسن ونجمة مثيرة كنيكول سابا، ومثله مسلسل “طريق” الذي يضم النجمين عابد فهد ونادين نجيم.

تطل هذا الموسم عبر الشاشات أكثر من خمسة أعمالٍ (مشتركة). بنظرةٍ سريعةٍ عليها ستكتشف كم التشابه بينها من حيث مضمون السيناريو وحبكة الحدث والمشهد البصري، لتتداخل أحداثها في رأس المشاهد ولا يكاد يميّز بين عملٍ وآخر، فهي بمعظمها تتحدث عن حالات الخيانة الزوجية وقصص الحب الخيالية، التي تحدث في مجتمع الطبقات المخملية، بالإضافة لبعض القصص البوليسية التي تحمل طابع الآكشن.

مشهدٌ يؤكد مجدداً افتقار أعمال الدراما المشتركة إلى سيناريوهات ناجحة، تحظى بشيءٍ من الحرفية والتشويق، واعتمادها على المشهد البصري وأداء بعض النجوم لملء الفراغ الذي يخلِّفه ضعف السيناريو، ضعفٌ يتجلى بلجوء معظم الأعمال إلى تقمص سيناريوهاتٍ جاهزة والاقتباس من أخرى أو تعريب قصصٍ مسلسلاتٍ وأفلامٍ غربية، أو اللجوء إلى بعض الروايات والقصص وإعدادها درامياً.

وهذا ما شهدناه عبر  فيضٍ من أعمال السنوات الماضية، فمسلسل “تشيلو” اقتبس من الفيلم الأجنبي “عرض غير لائق”، ومسلسل “لو” من فيلم “الخائنة”، بينما اقتُبس مسلسل “نص يوم” من فيلم ” الخطيئة الكبرى”.

يتكرر الأمر في هذا الموسم لنجد أن مسلسل” تانغو” مأخوذ عن المسلسل الأرجنتيني”حب بعد حب”، بينما اقتُبس سيناريو مسلسل “طريق” من روايةٍ لنجيب محفوظ، أما مسلسل “الهيبة” فقد اتهمه بعض النقاد بأن معظم مشاهده مقتبسة من فيلم “العراب”، واتهمه آخرون أنه يحاكي المسلسل الأمريكي “ناركوس” وأن شخصية  “جبل/ تيم حسن”، هي ذاتها شخصية “اسكوبار” بطل مسلسل “ناركوس”.

تم تصوير تلك المسلسلات بمحاذاة مخيمات اللاجئين السوريين، المكتظة بأحداث الدراما الملحمية، وفي حاراتٍ وبناياتٍ يقطنها سوريون مهجرون يعيشون كل يومٍ عشرات القصص الدرامية التراجيدية.

لماذا أشاح صناع الدراما المشتركة بوجوههم عن رصد ظاهرة الوجود السوري في لبنان خلال سنوات الحرب، على الرغم من أن هذه الظاهرة يمكنها إنتاج عشرات السيناريوهات المليئة بالأحداث والصراعات؟

أين هم من أوضاع اللاجئين والعمال والمتسولين في الشوارع ومن ظاهرة استغلال النساء السوريات والاتجار بهن وتشغيلهن في بيوت الدعارة؟

يبدو أن الأمر متعلقٌ بسوق العرض والطلب، فالاعتبارات التسويقية الربحية ورؤية المحطات التلفزيونية هما من يتحكمان بخيال الكاتب وكاميرا المخرج، بعد تخلي الدراما عن مهمتها الإبداعية والفنية وتحولها إلى تجارةٍ تحكمها أسواق المنتجين.

سوريا في أسبوع، ٢٥ حزيران

سوريا في أسبوع، ٢٥ حزيران

إرهاصات معركة الجنوب
١٨-٢٤ حزيران/ يونيو

بعد التعزيزات العسكرية للجيش السوري في الأسابيع الماضية، بدأت عمليات عسكرية على الجبهة الجنوبية خاصة في منطقة اللجاة ثم توسعت لتشمل مدينة درعا.

وكان الرئيس السوري بشارالأسد تعهد باسترداد المناطق الخاضعة للمعارضة في المنطقة الجنوبية. في المقابل، تعهدت فصائل المعارضة السورية بالجنوب بمواجهة أي هجوم للقوات الحكومية وحلفائها.

وترافقت التطورات الجديدة بمشاركة الطيران الروسي في القصف على الجبهة الجنوبية في يوم السبت، بحسب مصادر في المعارضة السورية.

وتكرر هذا السيناريو في حلب والغوطة عندما أحجمت روسيا عن التصريح بمشاركتها المباشرة في العمليات العسكرية ثم قامت بإعلان دعم عمليات الجيش السوري وحلفائه وخاصة من خلال الغارات الجوية.

وحذرت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي من أنها ستتخذ إجراءات “حازمة وملائمة” ردا ًعلى انتهاكات الحكومة لمنطقة “خفض التصعيد” في جنوب غرب سوريا. كما أكد وزير الخارجية الأميركية في لقائه مع وزير الخارجية الروسية على الالتزام الأمريكي باتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غرب سوريا.

لكن تطوراً جديداً في الموقف الأمريكي تمثل في إبلاغ واشنطن فصائل المعارضة السورية بألا تتوقع حصولها على دعم عسكري لمساعدتها في التصدي لهجوم ضخم تشنه القوات الحكومية المدعومة من روسيا لاستعادة مناطق بجنوب سوريا. (رويترز)

ودعا الأمين العام للأمم المتحدة على لسان المتحدث باسمه، الجمعة، إلى وقف فوري للتصعيد العسكري في جنوب غرب سوريا وذلك بعد أن صعدت القوات الحكومية هجومها على مناطق لقوات المعارضة هذا الأسبوع، وأشار المتحدث إلى نزوح آلاف المدنيين نحو الحدود الأردنية، وشدد على أن هذه الهجمات تحمل مخاطر كبيرة على أمن المنطقة. (رويترز)

وعبرت الأمم المتحدة في بيان سابق يوم الخميس عن قلقها العميق على نحو ٧٥٠ ألف نسمة في جنوب غرب سوريا نتيجة تصاعد الأعمال القتالية والتي تسببت في مقتل العشرات ونزوح الآلاف. (رويترز)

وقال مصدر أردني إن قلق بلاده من امتداد العنف إليها يتزايد وإن المملكة، حليفة الولايات المتحدة، تشارك في جهود دبلوماسية متزايدة للحفاظ على منطقة خفض التصعيد بعد أن ساعدت في إبرام الاتفاق الخاص بها.

وفي تطور متصل، قال قائد في التحالف الإقليمي الداعم للأسد إن طائرة بدون طيار استهدفتها إسرائيل بصاروخ كانت تشارك في عمليات ينفذها الجيش السوري في محافظة القنيطرة قرب مرتفعات الجولان المحتلة. قال الجيش الإسرائيلي إنه أطلق صاروخاً مضاداً للطائرات من طراز باتريوت على طائرة بدون طيار قادمة من ناحية سوريا لكنه لم يصبها. يذكر بأن إسرائيل عبرت عن خشيتها من وصول قوات إيرانية أو موالية لها إلى حدودها مع سوريا.

منبج وتثبيت الدور التركي
١٨-٢٤ حزيران/ يونيو

قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الاثنين الماضي إن مقاتلين من فصيل كردي سوري يغادرون منطقة منبج بشمال سوريا (رويترز). وأعلنت القوات المسلحة التركية في وقت سابق أن قوات تركية وأمريكية بدأت دوريات مستقلة في شمال سوريا على امتداد الخط الفاصل بين المناطق التي تسيطر عليها تركيا ومدينة منبج التي تقول أنقرة إن وحدات حماية الشعب الكردية تتمركز بها. وكانت أنقرة وواشنطن أقرتا في وقت سابق الشهر الجاري خارطة طريق لانسحاب مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية السورية من منبج ونشر قوات تركية وأمريكية في المنطقة لتأمينها.

قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو يوم الخميس إن مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية السورية سيبدأون في الانسحاب من منطقة منبج بشمال سوريا اعتبارا من الرابع من يوليو تموز وذلك بعد استعدادات استغرقت شهرا. (رويترز).

ويظهر من التراجع الأمريكي في قضية منبج تثبيتاً للدور التركي في الشمال السوري، مما يعقد من حالة الشمال السوري بين الأتراك والنظام السوري والفصائل الكردية.

وأدانت الحكومة السورية يوم الثلاثاء توغل قوات تركية وأمريكية في محيط مدينة منبج بشمال البلاد وذلك بعد يوم من بدء البلدين دوريات عسكرية في المنطقة، وتعهدت بمواجهة أي تواجد أجنبي على الأراضي السورية. (رويترز)

وقال الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة تلفزيونية يوم الأحد إن الجيش السوري سيستعيد السيطرة على شمال البلاد بالقوة إذا رفض المسلحون هناك الاستسلام. وقال الأسد في المقابلة “اخترنا طريقين: الأول والأهم هو المصالحة والثاني هو مهاجمة الإرهابيين إذا لم يستسلموا ورفضوا السلام.” وأضاف بخصوص شمال سوريا حيث تسيطر جماعات مسلحة مدعومة من تركيا على بعض الأراضي “سنقاتلهم ونستعيد السيطرة بالقوة. هذا بالتأكيد ليس الخيار الأفضل لنا لكنه الطريق الوحيد للسيطرة على البلد.” (رويترز)

ويترافق التوتر في منبج مع توتر أمني في الرقة حيث أعلنت قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من الولايات المتحدة والتي تسيطر على مدينة الرقة، فرض حظر التجول في المدينة لمدة ثلاثة أيام ابتداء من يوم الأحد وأعلنت حالة الطوارئ قائلة إن متشددين من تنظيم الدولة الإسلامية تسللوا إلى المدينة ويخططون لتنفيذ هجمات. وبحسب رويترز فإن قوى الأمن الداخلي التابعة لقوات سوريا الديمقراطية أقامت نقاط تفتيش في أنحاء المدينة. وأعلنت القوات الحظر في وقت متأخر ليل السبت على أن يدخل حيز التنفيذ اعتبارا من فجر الأحد وحتى يوم الثلاثاء في المدينة. (رويترز)

استهداف “الحشد” العراقي
١٩- ٢٢ حزيران/ يونيو

استنكر العراق يوم الثلاثاء الضربات الجوية التي تستهدف القوات التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق أو سوريا وذلك بعدما ذكرت وسائل إعلام سورية رسمية أن طائرات تابعة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قصفت موقعاً للقوات الحكومية السورية قرب الحدود العراقية مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى.

وقالت هيئة الحشد الشعبي العراقية يوم الاثنين إن قصفاً أمريكياً على الحدود العراقية مع سوريا قتل ٢٢ من أعضائها وأصاب ١٢ آخرين بجروح. ونفت الولايات المتحدة ضلوعها في الهجوم. لكن الجيش العراقي ذكر في بيان لاحق أنه لم تتعرض أي من قوات الحشد الشعبي أو غيرها من القوات العراقية المكلفة بتأمين الحدود العراقية السورية لأي ضربة جوية وإن الضربة وقعت داخل الأراضي السورية.

ورغم شن القوات العراقية ضربات جوية على مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية عبر الحدود في سوريا فإن قواتها الأمنية لا تحتفظ بقوات على الأرض لكن عدة فصائل تابعة للحشد الشعبي تدعم القوات الحكومية السورية على الأرض لسنوات. (رويترز)

الغوطة… حرب القرون الوسطى  
٢٠ حزيران/ يونيو

قال محققون تابعون للأمم المتحدة يوم الأربعاء إن قوات الحكومة السورية والقوات الموالية لها ارتكبت جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية أثناء حصارها الطويل للغوطة الشرقية وذلك من خلال القصف المكثف و”التجويع المتعمد” لنحو ٢٦٥ ألف شخص.

وأضاف المحققون أن نحو ٢٠ ألفاً من مقاتلي المعارضة، وبعضهم ينتمي “لجماعات إرهابية”، تحصنوا داخل المنطقة المحاصرة وقصفوا العاصمة دمشق القريبة منهم في هجمات “مما أدى إلى قتل وتشويه المئات من المدنيين السوريين” على نحو يصل إلى حد جرائم الحرب.

ويعتمد أحدث تقرير للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا برئاسة باولو بينيرو على ١٤٠ مقابلة إضافة إلى صور ومقاطع فيديو ولقطات بالأقمار الصناعية وسجلات طبية. وأدان التقرير ما قال إنه أسلوب حرب “من أساليب القرون الوسطى”.

وأضاف التقرير أن الأساليب التي اتبعتها القوات منذ فبراير شباط حتى أبريل نيسان 2018 لاستعادة الجيب كانت “طبيعتها غير قانونية بشكل كبير وتهدف لمعاقبة سكان الغوطة الشرقية وإجبار جميع قاطنيها على الاستسلام أو الجوع.”

وجاء في التقرير أن الطائرات قصفت المستشفيات مما حرم المصابين من الرعاية الطبية، مضيفاً أن “هذا النمط من الهجوم يشير بقوة إلى أن القوات الموالية للحكومة استهدفت المنشآت الطبية بشكل منهجي وارتكبت بشكل متكرر جريمة الحرب المتمثلة في تعمد مهاجمة أعيان محمية والعاملين في المجال الطبي.” واستشهد خبراء الأمم المتحدة بأدلة على استخدام غاز الكلور في الغوطة أربع مرات على الأقل هذا العام، لكنهم قالوا إن تحقيقاتهم مستمرة. (رويترز)

مأساة اللجوء المسيسة  
٢٢ حزيران/ يونيو

قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم الجمعة خلال زيارة إلى لبنان إن الأوضاع في سوريا غير ملائمة بعد لعودة اللاجئين، وهي قضية أثارت خلافاً بين وزير الخارجية اللبناني ووكالة الأمم المتحدة للاجئين. وقالت ميركل في مؤتمر صحفي في بيروت مع رئيس وزراء لبنان المكلف سعد الحريري “نرغب في المساعدة على التوصل لحلول في سوريا تؤدي لإمكانية عودة اللاجئين… نحتاج ظروفاً أكثر أمناً حتى تصبح العودة ممكنة.”

وقال الرئيس اللبناني ميشال عون بعد لقائه ميركل يوم الجمعة إنه طلب من ألمانيا دعم دعوات “عودة النازحين السوريين تدريجياً إلى المناطق الآمنة في سوريا” من لبنان. وكتب على تويتر أنه شدد على “ضرورة الفصل بين هذه العودة والحل السياسي للأزمة السورية.” (رويترز)

وفي الجانب التركي تعهد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومنافسه الرئيسي في انتخابات الرئاسة التي جرت يوم الأحد بإعادة اللاجئين السوريين لبلادهم في استجابة لقلق الناخبين المتزايد إزاء أعداد اللاجئين في تركيا. وقال إردوغان في كلمة بمدينة غازي عنتاب “نسعى بعد الانتخابات مباشرة إلى إحلال الأمن في كل الأراضي السورية بداية من المناطق القريبة من حدودنا ولتسهيل عودة ضيوفنا إلى ديارهم.”

وقال إردوغان إن ٢٠٠ ألف سوري عادوا بالفعل إلى مناطق في شمال سوريا تسيطر عليها تركيا ومقاتلون سوريون متحالفون معها بعد حملات عسكرية لطرد مقاتلين أكراد وتنظيم الدولة الإسلامية منها. (رويترز)

أرضية مشتركة في جنيف
١٩ حزيران/ يونيو

قال مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا ستافان دي ميستورا في بيان إن مسؤولين كباراً من إيران وروسيا وتركيا أجروا محادثات “جوهرية” الثلاثاء بشأن كيفية تشكيل اللجنة الدستورية السورية وعملها وإن من المقرر إجراء المزيد من هذه المحادثات خلال أسابيع.

واجتمع الاثنين ٢٥ حزيران، دي ميستورا مع ممثلي “النواة الصلبة” وتضم أميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن وألمانية.

جاء في البيان بعد المحادثات في جنيف “خلال الاجتماع جرت مناقشات بناءة وجوهرية بشأن قضايا متصلة بتشكيل وعمل لجنة دستورية وبدأت أرضية مشتركة تتشكل.”

الجنوب السوري: تسوية ام تصعيد؟

الجنوب السوري: تسوية ام تصعيد؟

سباق محموم على الجنوب السوري بين التصعيد العسكري من جهة، وترتيبات دولية – إقليمية من جهة ثانية. قوات الحكومة استأنفت قصف ريف درعا بـ«البراميل المتفجرة» ما دفع آلاف المدنيين إلى التوجه إلى الحدود الأردنية، لكن الاتصالات الدبلوماسية لا تزال قائمةً على أمل الوصول إلى ترتيبات بناء على الاتفاق الأميركي – الروسي – الأردني.

اتجاه الاتصالات هو القمة المحتملة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين خلال الجولة المرتقبة لترمب إلى أوروبا. هو سيشارك في قمة «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) في بروكسيل في 10 و11 الشهر المقبل ثم يزور لندن. وهناك طرح عقد القمة في فيينا. ويقوم مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون بزيارة إلى لندن الاثنين قبل التوجه إلى موسكو لاختبار مدى إمكانية عقد قمة ترمب – بوتين.

وسيكون اتفاق «خفض التصعيد» في الجنوب أحد المواضيع المطروحة على الأجندة الأميركية – الروسية خصوصاً أن الرئيسين كانا باركا كل خطوة من الاتفاق العام الماضي. وأمس، وجهت واشنطن رسالة نصية إلى قادة فصائل الجنوب فيها: «نحن في حكومة الولايات المتحدة الأميركية نعمل حالياً للحفاظ على وقف إطلاق النار من خلال القنوات الدبلوماسية، ونبذل جهوداً جبارة في سبيل تحقيق ذلك. نتوجه إليكم الآن لنؤكد على ضرورة عدم الرد على الاستفزازات، لأن القيام بذلك لا يؤدي سوى إلى تسريع السيناريو الأسوأ للجنوب السوري وتقويض جهودنا. فكروا بعائلاتكم وأبناء شعبكم وافعلوا كل ما في وسعكم من أجل حقن الدماء».

وتابعت الرسالة: «النظام من دون أدنى شك، يحاول استفزازكم بالأرتال والتصريحات لإيجاد ذريعة لمهاجمة الجنوب، ولا يمكن أن نعطيه هذا العذر. وفي حين أن فصائل الجنوب تحتفظ بحقها في الدفاع عن النفس، فإننا نشدد على أن عليها أن تحرص بشدة على منع أي هجمات استباقية عبر خط التماس بينما نعمل دبلوماسياً لإيجاد حل للوضع في الجنوب. وختاماً، نقدر عالياً صبركم وصمودكم وتعاونكم في هذا الوقت الصعب».

وعلى عكس التصريحات العلنية من الخارجية الأميركية التي تضمنت تحذير دمشق بـ«رد صارم» على الهجوم الجنوبي، تحض الرسالة العملياتية الآتية من الميدان قادة الفصائل على «ضبط النفس». إذ إن المسؤول السياسي في السفارة الأميركية في عمان، كان بعث في مارس (آذار) الماضي رسالة إلى «جبهة الجنوب»، فيها: «ما يحدث في الغوطة الشرقية مأساة ووصمة عار على مرتكبي هذه الهجومات البشعة كما أنه يثير للقلق الدولي الشديد. وللأسف، فإن النظام السوري وروسيا لا يتعاونان من أجل وقف العنف في الغوطة وتخفيف الألم عن المدنيين بل العكس».

وتابعت: «نتفهم شعوركم بالغضب الشديد لما يحدث، وأنكم تودون تخفيف معاناة أهلكم السوريين في الغوطة، لكن اتفاق الجنوب هو معاهدة شبه ثابتة بفضل تعاونكم وبفضل الإرادة الأميركية في الحفاظ عليها، ولو على منطقة واحدة للمعارضة المعتدلة لتكون ربما في المستقبل الطريق للحل الشامل في سوريا. إن إشعال حرب الآن ضد النظام في الجنوب سيعطي للنظام وروسيا الذريعة المطلوبة لأن يقتل المزيد من المدنيين واحتلال المزيد من الأراضي وكسر الهدنة التي من خلالها نستطيع أن نفاوض الروس من أجل الحل… نحضُّكم على ضبط النفس، والتفكير ملياً في أهلكم من المدنيين، وعدم إعطاء الذرائع للنظام لقصفكم والقضاء على آخر معقل للمعارضة المعتدلة في سوريا».

تفاق ثلاثي

جرى الإعلان عن وقف النار جنوب غربي البلاد في 7 يوليو (تموز) لعام 2017، بواسطة وزير الخارجية الأميركي الأسبق ريكس تيلرسون في أعقاب الاجتماع الذي ضم الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين في قمة العشرين في مدينة هامبورغ. ودخل الاتفاق حيز التنفيذ الفعلي بعد يومين من ذلك الاجتماع.

وجاء إعلان وقف النار بعد أشهر من المفاوضات ين الدبلوماسيين الأميركيين والروس والأردنيين، الذين واصلوا ضبط تفاصيل الاتفاق عبر اجتماعات لاحقة. وفي أغسطس (آب) الماضي، وافقت أميركا وروسيا والأردن على إنشاء مركز عمان للمراقبة بهدف الإشراف المشترك على وقف إطلاق النار في سوريا. وفي 8 نوفمبر (تشرين الثاني) وقعت الأطراف الثلاثة المذكورة على مذكرة مبادئ لإضفاء الطابع الرسمي على شروط الاتفاق المبرم. وتم التصديق على مذكرة المبادئ تلك عبر بيان لاحق صادر عن الرئيسين ترمب وبوتين اللذين اجتمعا على هامش مؤتمر التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي في نوفمبر في فيتنام.

وبحسب تقرير لـ«مجموعة حل الأزمات الدولية» أول من أمس، أسفر خفض التصعيد عن هدوء تام استمراراً للصمت المطبق منذ عام 2015، ذلك عندما أبرم الأردن اتفاقاً مع روسيا في أعقاب التدخل العسكري الروسي في سبتمبر (أيلول). وتخلل هذا الهدوء الجنوبي بعد أعمال العنف خلال الفترة السابقة على خفض التصعيد، إذ اندلع قتال عنيف لمدة شهور في عاصمة محافظة درعا التي تحمل الاسم ذاته قبل أن ينتهي إلى طريق مسدود ثم توقف أعمال العنف مجدداً. وفي تلك الأثناء، كان المعتقد أن هذه النتائج تؤكد على استحالة مواصلة التقدم العسكري لأي من الأطراف المتناحرة، ومن ثم إثبات مبرر آخر قوي لخفض التصعيد المخطط له.

عملياً، أدَّى خفض التصعيد إلى تجميد أعمال العنف على خطوط الجبهة الجنوبية الغربية، ثم إنشاء منطقة عازلة خالية من المقاتلين الأجانب المدعومين من قبل إيران. وعلى طول خط منطقة خفض التصعيد، من المفترض للمنطقة العازلة أن تمتد بطول 5 كيلومترات من خط الاتصال بين القوات الحكومية السورية وقوات المعارضة، وبطول 10 كيلومترات من الحدود الأردنية وحتى خط الهدنة الذي يلامس مرتفعات الجولان المحتلة من قبل إسرائيل. وناقشت الأطراف المعنية خفض التصعيد توسيع منطقة الـ5 كيلومترات إلى 20 كيلومتراً في المرحلة الثانية من المفاوضات، وغير أنها لم تضع اللمسات النهائية بالنسبة لذلك الترتيب، كما أن الأطراف المعنية التزمت أيضاً بالانسحاب النهائي للقوات الأجنبية من تلك المنطقة.

لحظة القرار… وخسائر

بعد سيطرة قوات الحكومة على غوطة دمشق وريف حمص، بقيت ثلاثة جيوب: (شمال شرق) حيث يوجد التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة أميركا، (شمال غرب) حيث تقيم قوات تركية بموجب اتفاق آستانة، (جنوب غرب) حيث ليس هناك وجود عسكري داعم للمعارضة. وبات توقع أن قوات الحكومة ستذهب إلى هذه المنطقة وقال الرئيس بشار الأسد إن دمشق أمامها خياران في التعامل مع الجنوب الغربي من البلاد: «إما المصالحة، أو التحرير بالقوة». وأرسل النظام بالفعل قوات إلى الجبهات الجنوبية، بما في ذلك الوحدات المعاونة. وكانت هذه التعزيزات كافية لدفع وزارة الخارجية الأميركية إلى الإعراب بتاريخ 25 مايو (أيار) عن قلقها من التقارير الواردة بشأن العمليات العسكرية الوشيكة لنظام الأسد في جنوب البلاد.

بحسب تقرير مجموعة «حل الأزمات الدولية»، لا يزال هناك وقت متاح من أجل التوصل إلى حل تفاوضي من شأنه تفادي وقوع هجوم عسكري مدمر ومفعم بالمخاطر الكبيرة. وقد تكون الظروف مواتية في هذه المرحلة: إذ أبدت روسيا حساسية واضحة إزاء المصالح الإسرائيلية والأردنية، كما أعربت عن الرغبة في جذب الولايات المتحدة نحو ترتيب سياسي يصب في صالح الأهداف الروسية في سوريا. إذ هددت إسرائيل بشن الهجمات العسكرية في حالة اقتراب العناصر الموالية لإيران من مرتفعات الجولان المحتلة، وهي الأعمال العسكرية التي قد تسبب تهديداً للنظام الحاكم السوري وتعصف ببعض المكاسب العسكرية المحققة لدى دمشق وموسكو من التدخل العسكري الروسي في سبتمبر العام 2015. كما يبقى احتمال قائم (وإن كان طفيفاً) بشأن التدخل العسكري الأميركي ردّاً على هجمات النظام السوري، استناداً على الأقل إلى بيانات وزارة الخارجية الأميركية في 25 مايو و15 يونيو (حزيران).

وفي غياب الاتفاق سيكون البديل المفتَرَض هو شن هجوم عسكري سوري واسع النطاق مدعوم من روسيا وستكون نتائجه هي الأسوأ بالنسبة لكل الأطراف المعنية بالصراع. وسيكون الهجوم كارثيّاً بالنسبة لسكان جنوب غربي البلاد.

وبصرف النظر عن سكان الجنوب السوري أنفسهم، فإن مؤيدي قوات المعارضة السورية هم الأكثر عرضة للخسارة. وتجازف إسرائيل بإهدار جميع الضمانات الدائمة والمنهجية بشأن الوجود والدور الإيراني الذي كان بوسعها التفاوض عليه مسبقاً، مهما كانت حالة عدم اليقين أو ضعف التأثير الذي تعتبره حيالها، بحسب التقرير. والأردن معرَّض بصور خاصة إلى التدفقات العارمة لجموع اللاجئين التي تسبب زعزعة استقرار البلاد والناجمة عن الهجوم العسكري السوري الوشيك في جنوب البلاد.

وعلاوة على ما تقدَّم، وبالنظر لما وراء خفض التصعيد المؤقت، يحتاج الاقتصاد الأردني إلى عقد الروابط السياسية والتجارية القوية والمنتظمة مع سوريا. ومن شأن المصالح الأردنية والإسرائيلية – وبالتالي مصالح الولايات المتحدة – أن تلقى أفضل استفادة ممكنة عبر الانتقال السلمي ومنظم للسلطة في جنوب غربي سوريا، وليس عن طريق المواجهات العسكرية المريعة التي قد تتيح للمتطرفين الفرصة بالعودة إلى واجهة الأحداث، وتشجيع النظام السوري الحاكم على الاعتماد على الميليشيات ذات الصلة بإيران، وجلب إسرائيل إلى آتون الصراع ناهيكم عن الولايات المتحدة كذلك.

وقال التقرير: «لدى النظام السوري وحلفاؤه ما يخسرونه أيضاً من الأعمال العسكرية في جنوب البلاد. سيتحقق النصر العسكري وفق تكاليف باهظة من الناحية المادية والبشرية وتدمير المزيد من البنية التحتية في البلاد، وإنهاك الآلة العسكرية والمدنية في الوقت الذي تحاول فيه سوريا إعادة البناء».

في المقابل، إن من شأن الاتفاق المسبق على نزع «عسكرة استيلاء النظام السوري على جنوب غربي البلاد أن يقلل، ولكن ليس بالكامل، من احتمال شعور إسرائيل بالقلق حيال ما تتصور أنه الدور الإيراني الذي يدفعها إلى التدخل ضد النظام السوري وحلفائه، الأمر الذي قد يشعل صراعاً إقليمياً موسَّعاً في المنطقة. للحرب المفتوحة ديناميتها غير الخاضعة للتحكم والسيطرة، لا سيما على طول خط الهدنة شديد الحساسية سياسيا في مرتفعات الجولان»، بحسب التقرير.

وفي الأثناء ذاتها، يُعتَبَر الأردن شريكاً سياسياً واقتصادياً ضرورياً بالنسبة إلى سوريا، وإن أسفرت أعمال العنف عن موجات جديدة من اللاجئين السوريين الذين يعملون على زعزعة استقرار الأردن، أو يثيرون القلاقل والاضطرابات في مدن وقرى شمال الأردن ذات الصلة بالروابط العائلية مع جنوب غربي سوريا. وأفاد التقرير: «وإن لم تحصل إسرائيل على ضمانات كافية قبل التفاوض من روسيا بشأن الدور الإيراني في إطار الدولة السورية المستعادة، فإن ذلك الأمر يثير مخاطر قيام إسرائيل بالأعمال العسكرية المدمرة في وقت لاحق. الأمر الذي يعني الجنوب الغربي السوري الأقل استقرار، وبالتالي سوريا الأقل استقراراً كذلك».

استقرار مؤقت

في ظلِّ الاتفاق المتفاوض عليه بشأن الجنوب الغربي السوري، يمكن لجميع الأطراف الوفاء بالحد الأدنى الممكن من احتياجاتها، أو على أدنى تقدير تفادي سيناريوهات أسوأ الحالات المعنية بكل منها. وفي هذا السياق، ينبغي على رعاة خفض التصعيد في الجنوب السوري إعادة المفاوضات الثلاثية إلى مرحلة ما وراء إطار عمل مركز عمان للمراقبة المشار إليه، ذلك باستخدام اتفاق خفض التصعيد القائم والعمليات ذات الصلة به باعتبارها وسيلة الوصول إلى اتفاق أكثر تطوراً واستدامة. وتبدو الخطوط العريضة للاتفاق واضحة بصورة نسبية، حتى وإن كانت التفاصيل، بما في ذلك التوقيت وآليات التنفيذ، لا تزال قيد التفاوض حتى الآن. أولاً، ورغم كل شيء، تحتاج كل الأطراف إلى إسناد مبدأ خفض التصعيد والمحافظة على وقف إطلاق النار.

يُمكن للحل المؤقت بشأن المحافظة على خفض التصعيد أن يكون بمثابة اقتراح من جانب الأردن: الانتقال لما بعد وقف إطلاق النار المبدئي بهدف التركيز على «الاستقرار». ويستلزم النموذج الأردني للاستقرار، والمعرف على نطاق واسع، وجود برمجة برعاية دولية تعيد الخدمات العامة والأداء الاقتصادي الاعتيادي في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وتسهيل التجارة عبر خطوط التماس، وكذلك التجارة عبر الحدود مع الأردن، والارتباط التدريجي بين مؤسسات الخدمات المحلية وأجهزة الدولة السورية. ومن شأن ذلك أن يشمل أيضاً مجموعة موسعة من أصحاب المصالح الدوليين، بما في ذلك دور أكبر لروسيا، إن كان يهدف فقط إلى طمأنة موسكو بشأن منطقة الاستقرار، وأنه لا يُقصد من ورائها أن تكون مقدمة لترتيبات إقليمية أكثر ديمومة تماثل التقسيم.

وتكون النتيجة هي التكامل الإداري والاقتصادي التدريجي في هذه المناطق ضمن المناطق الأوسع التي يسيطر عليها النظام السوري. وقال التقرير: «ينبغي على الأطراف الثلاثة التفاوض بشأن شروط إعادة فتح معبر نصيب وتأمين الطريق الممتد لمسافة 18 كيلومتراً من المعبر الحدودي وحتى مدينة درعا تحت إشراف ورعاية النظام السوري. ومن شأن إعادة فتح نصيب أن يكون أوضح الأدلة على الالتزام المتجدد من جميع الأطراف بشأن خفض التصعيد الثلاثي».

أما بالنسبة إلى دمشق، فإن «الاستقرار» على المدى القريب قد يكون بطيئاً وأقل إرضاء من الزحف العسكري المنتصر عبر مناطق الجنوب الغربي. ومع استمرار المفاوضات، رغم كل شيء، فإن أفضل الخيارات المتاحة بالنسبة لدمشق هو التحلي بالصبر والسماح للأردن بصياغة المنهج الأفضل دراسة والأوعى إدارة، بحسب «الأزمات الدولية».

ماذا عن الحل؟

أفاد تقرير «الأزمات الدولية» بأن الخطوط العريضة للاتفاق «واضحة بصورة نسبية: عودة الدولة السورية إلى كامل مناطق الجنوب الغربي، وعودة الجيش السوري إلى الحدود السورية، وإقامة منطقة عازلة موازية لخط الهدنة في الجولان وتكون منطقة خالية من القوات الموالية لإيران، وإعادة العمل باتفاقية الفصل بين القوات الإسرائيلية السورية لعام 1974، بما في ذلك إعادة نشر قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك. ومن حيث التفاصيل، فهناك مساحة جيدة للتفاوض. وتشتمل المفاوضات على توقيت وآليات الاتفاق، ولكن هناك أيضاً تساؤلات مثل: ما الذي تعنيه عبارة: عودة الدولة السورية؟».

كان الحد الأدنى لشروط دمشق بشأن «المصالحات» السابقة هي: عودة رموز الدولة السورية، عودة الشرطة المدنية السورية، التي يحتمل أن تضم مواطنين محليين، خروج المتطرفين وغيرهم ممن يرفضون الاتفاق، أو ممن تعترض دمشق على وجودهم، دمج قوات المعارضة المحلية في الوحدات العسكرية النظامية السورية، كمجموعات كاملة في بعض الأحيان، تسوية الأوضاع القانونية للسكان المحليين، بما في ذلك تسجيل التجنيد بفترة سماح قابلة للتفاوض، وعودة الحكم المحلي والإدارة البلدية، مع موظفين من الموالين للنظام، وفي بعض الحالات مع الأعضاء السابقين في المجلس المحلي المعارض، الذين يخدمون تحت إمرة حاكم المحافظة.

كانت هذه هي الشروط المستخدمة سابقاً في الجيوب المحاصرة في الداخل السوري، من دون وجود راعٍ حقيقي معاكس للتفاوض في مواجهة دمشق وحلفائها. وبالنظر إلى الالتزام المتواصل من قبل الرعاة الثلاثة لخفض التصعيد حيال الاتفاق والأهمية الاستراتيجية التي يمثلها الجنوب الغربي السوري لكل من الأردن وإسرائيل، فإن مساحة التفاوض بشأن الشروط في الجنوب الغربي قد تكون أرحب.

من شأن الاتفاق المتفاوض عليه أن يكون مرضياً إلى حده الأدنى بالنسبة لدمشق وحلفائها إذا ما أراد النظام السوري الامتناع عن شنِّ الهجوم العسكري على جنوب غربي البلاد. ولكن ينبغي للاتفاق أن يكون مناسباً إلى أقصى درجة بالنسبة إلى قوات المعارضة وغيرهم من السكان في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وفي حدود ما هو معقول ومقبول. وقال: «من المتوقَّع ألا يرحب كثير من المواطنين السوريين داخل جنوب غربي البلاد، الخاضع لسيطرة المعارضة، بعودة الدولة السورية التي يقودها النظام الحاكم، تحت أي شروط كانت. ومع ذلك، فإن الاتفاق الذي لا يفي بتطلعاتهم ولكن يمكنه، إلى أقصى درجة ممكن، استيعاب وتهدئة مخاوفهم، من شأنه الحد من المقاومة المسلحة وإراقة المزيد من الدماء بلا طائل».

عودة رقيقة

وتحدث التقرير عن نماذج عدة لـ«عودة الدولة» خلال السنوات السبع الماضية بين «الدولة الرقيقة» أو «العميقة». إذ هناك بعض السوابق لـ«المصالحات» التي تنصُّ على انتشار الشرطة العسكرية الروسية، واستبعاد أجهزة النظام الحاكم الأمنية، لفترة مؤقتة على الأقل. وضمن ترتيبات «الدولة الرقيقة»، فإن الفصائل المحلية المسلحة، والشرطة المدنية السورية، وفرقة من الشرطة العسكرية الروسية، يمكنها المشاركة في المحافظة على الأمن والنظام. والوجود الروسي مهم نسبيّاً من أجل تسهيل عودة أجهزة الدولة السورية، وردع محاولات الاعتداء والانتقام، وطمأنة كل من السكان المحليين والبلدان المجاورة. وسوف تكون النتيجة شكلاً من أشكال الإدارة الذاتية تحت السيطرة الرسمية للدولة السورية، والبناء نحو مزيد من اندماج وتكامل الجنوب في ظل الدولة.

وعلى الاتفاق أن يشمل فرض الحد الأدنى من القيود على الحركة المدنية والوصول التجاري إلى هذه المناطق، الأمر الذي من شأنه تنشيط الاقتصاد المحلي ويُسهِم في التعافي الاقتصادي الوطني السوري وإعادة بناء البلاد. وينبغي إتاحة الخيار أمام المعارضة والرجال في سن الخدمة العسكرية لتلبية متطلبات الخدمة الإلزامية في مناطقهم، سواء في الجيش الوطني السوري، أو القوات المعاونة، أو الشرطة المدنية المحلية، أو الأدوار الاقتصادية المدنية الحيوية في الزراعة أو التعمير، وليس في الوحدات العسكرية المنتشرة في ميادين بعيدة لقتال قوات المعارضة الأخرى.

وقال التقرير: «في سيناريو المصالحة، سوف تستفيد المصالح الأردنية وكثيراً في حالة دمج الشركاء السابقين إداريّاً ضمن الدولة والوحدات المسلحة المحلية الخاضعة لسيطرة الحكومة في دمشق، بدلاً من مواجهة القوة العسكرية الغاشمة، أو (الإخلاء) القسري الذي يدمر التركيبة السكانية والنسيج الاجتماعي في هذه المناطق. وسوف يستفيد الأمن الأردني من الجنوب الذي يعيش سكانه ضمن عائلاتهم وعشائرهم في مجتمع جنوبي سلمي وصحي نسبيّاً، وبالتالي يكونون أقل عرضة للاستمالة من قبل المجرمين، والمتطرفين، أو الجماعات الموالية لإيران. وبالنسبة إلى المعارضة والمدنيين المعارضين أيضا، من المهم ألا يتم اقتلاعهم من منازلهم ومجتمعاتهم للعثور على مأوى في إحدى المناطق السورية الأخرى الفقيرة والنائية والخاضعة لسيطرة المعارضة».

لكن التحدي هو «مدى رغبة روسيا والقيادة السورية، أو مقدرتهما، على إبعاد العناصر الموالية لإيران من الجنوب الغربي للبلاد المتاخم لخط الهدنة في مرتفعات الجولان تحت أي ترتيب يمكن التوصل إليه. من شأن التهديد بشن الهجمات الإسرائيلية الجديدة أن يُثني إيران وحلفاءها المحليين عن دخول مناطق الجنوب الغربي السوري، لا سيما في الوقت الذي تتعرض فيه إيران للضغوط السياسية والاقتصادية الجديدة والمكثفة على الصعيد الإقليمي».

وخلص التقرير إلى أن «الصراع منخفض الكثافة بين إسرائيل وإيران سيستمر لبعض الوقت، في سوريا وعلى صعيد المنطقة بأسرها، لكن القتال لأجل الجنوب الغربي السوري يجب ألا يكون الشرارة التي تشعل أتون الصراع والحرب المفتوحة. هناك أساس واضح لاتخاذ القرار بشأن الحل التفاوضي غير العنيف في الجنوب السوري. ولكن مثل هذه التسوية تتطلب دفعة دبلوماسية قوية من جميع الأطراف. بدلاً من السماح للوضع بالانحراف عن مساره، ينبغي عليهم استغلال الفرصة السانحة واستخدام الوقت المتبقي في الوصول إلى اتفاق مشترك».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

رواية بيت حُدُد بين عالم الثورة وعالم السلطة

رواية بيت حُدُد بين عالم الثورة وعالم السلطة

يثير اسم الرواية التباساً أوّليّاً، فهل الرواية تتحدث عن إلهٍ أسطوري، أم عن دمشق وسورية، وما يعتمل بها بدءاً من ثورة 2011؟ الرواية تريد قراءة السنوات السبع الأخيرة، فلماذا الإله حدُدُ؟ أزمنة الرواية ليست خطية وتبدأ بالتاريخ السابق الذكر وتتصاعد، بل هي تتعدد بتعدد شخصياتها، وبتعدد الأماكن وبالاستطرادات الكثيرة، والتي لا يجد المرء سبباً مقنعاً لوجودها في حبكة العمل الروائي، كالإسهاب عن حياة فيديل في بريطانيا وزواجه المتعدد، أو في دبي كفصل الشم أو الحلاج مثلاً.

فضاء رواية بيت حدد متغيرٌ بتغير الشخصيات فهو تارة لندن، وتارة دمشق، وتارة دبي، وهكذا. بل يتغير مع تغير الحوار وفصول الرواية. المكان هذا، تنقلنا فيه الرواية بين الماضي والحاضر، فحين يعود الدكتور أنيس من لندن لبيع بيت خاله، باعتباره الوريث الوحيد، ويتعرف على أهمية البيت من خلال المحامية سامية والشاعر “الفاشل” والسياسي المعتقل عيسى، والباحثين الذي جلبتهم سامية لتقييم منزل خاله من الناحية التاريخية والمالية؛ حينها يعود بنا الروائي إلى أزمنة وأمكنة قديمة، ويستعرض ذلك بإسهاب كبير، وبحديثٍ طويل عن بيت حدد وسيف الإله حدد، والذي لا يُقهر أبداً من يحمله، ويفترض بالرواية هنا أنها تسرد أصل الإله “الماضي” ليكون عوناً للثورة السورية “في الحاضر”، ولكن ذلك لا يحصل؟

نجد الإله حدُدُ ثانية في الجامع الأموي، حينما تذهب إليه الدكتورة ليل، المخذولة من زوجها وأسرتها، حيث تتعرض لمحنة كبيرة، بسبب دعوة عشاء ومشاعر عاطفية مفاجئة وقبلة وحيدة على جبل قاسيون. مشكلتها تبدأ مع مراقبة الأمن لها من قبل عناصر الطبيب سابقاً وضابط الأمن لاحقاً عباس جوهر، ومن ثم تسريب المعلومة لكل من الدكتور سعد الدين وزوجها عادل، وهنا تصبح ليل مخذولة من الجميع، وعليها أن تدفع ثمن ذلك لزوجها وترضي شهوات الدكتور سعد الدين، والذي يَعدُ زوجها بشراكةٍ في مشفى جديد، وسيعود عليه بأموالٍ طائلة. الإله حدد أيضاً يوجد له مقام في الجامع الأموي، والذي تخرج منه مظاهرة للإطاحة بالنظام. لندقق هنا: فبيت خاله يصبح مكاناً لخلية من الشباب الثائر، ومن الجامع تخرج مظاهرة كذلك، وبالتالي ربما أراد الكاتب هنا إيجاد رابط بين المكانين، والقول إن الإله حدد يثور مجدّداً، ولا بد أن ينتصر. طبعاً نهاية الرواية تعاكس تماماً أهمية الإله حدد؛ فالمنزل يباع من قبل الدكتور أنيس لرجلٍ إيراني “كراماني” وكأنّ الكاتب يريد القول لقد فشل الإله حدد حامي دمشق، واستولى الإيرانيون على البلد؛ هنا يبدو في الأمر تناقض، فكيف يفشل الإله حدد في الوقوف مع أهل دمشق وينصرهم؟

تسير الرواية بعدّة خطوط سردية، وتتحكم بها شخصيات أساسية وهي الدكتور أنيس من ناحية، والمخرج الإعلاني فيديل/فضل من ناحية أخرى. تعيش الشخصيتان خارج سورية وتعودان لأسبابٍ مختلفة. أنيس لبيع منزل خاله، وهنا يتعرف على التاريخ والثورة، وواقع البلاد الغارقة بالفساد والطائفية والهيمنة الإيرانية، وتنشأ علاقة حب مع المحامية سامية تبقيه في البلاد، ويعايش سنوات الثورة، وتحولها إلى مسلحة، ولاحقاً إلى مناطق محكومة من أصوليين متطرفين وجهاديين أكثر تطرفاً. فيديل المتخم بالملذات في دبي، له حكاية أخرى وتتطوّر علاقته بليل لتكون عشقه الحقيقي وكذلك تبادله ليل ذلك في دبي وتعود لاحقاً إلى سورية لتنقذه من داعش، ولكنه الأخير يقتله بينما يتم تهريب ليل، وتكون قد حملت في أحشائها ابنا لها وتنجبه في لندن وتسميه فيديل. قد يستغرب القارئ كثرة السرد الخاص به؛ فمنذ لحظة ولادته لأبٍ شيوعي وأم تقليدية عائلتها متدينة، الأب ذاك يتعرض للاعتقال، ويخرج لاحقاً مهيض الجناح، وينتحر أخيراً. فيديل يسميه والده على اسم فيديل كاسترو، ولكن والدته وأخواله يسمونه فضل، لأنه وُلد سليماَ ولم يمت أو يكون بمرض كأخوته. استطرد الكاتب هنا، فهو يلاحق فضل منذ ولادته، وكيف تتصارع الشخصية الدينية والعلمانية داخله. لا أعرف لماذا هذا الاستطراد بشخصية فيديل، رغم أنه لا ينتمي إلى الثورة، بل وحتى حينما عاد في المرة الثانية ليخرج عنها فلماً ويكفر فيه عن مجيئه الأول لسورية من أجل تغطية إطلاق مشفى لكبار رجالات السلطة! وحتى في زيارته الثانية هذه، يقبل عرضاً من تنظيم داعش ليخرج له أفلامه وإعلاناته؛ أي أن فيديل يمثل ذاته ولا يمثل نموذجاً للمجتمع أو للثورة، ولكن دون شك شخصيته وفقاً للرواية محبوكة بشكل متميز، وخطها الدرامي ليس متضارباً.

الدكتور أنيس بدوره ليس له دور فاعل في الثورة، وكل ما عاناه بسبب علاقته بالمحامية سامية. يتم اعتقال أنيس في المرة الثانية بسبب زيارته إلى سامية في الغوطة بعد أن اضطرت للهرب خوفاً من الاعتقال. سامية محامية علوية، وباكتشاف أن علاقة الدكتور والمحامية ليست شرعية أي زواج، يتم تهديدها وكذلك وبوقتٍ أخر، تهّدد لأنّها علمانية وعلوية؛ يعود أنيس لدمشق فيُقبض عليه، وهنا لا يخرج أبداً من الاعتقال إلا بصفقة تبادلٍ، وذلك بعد أن يمضي أوراق بيع بيت حدد للإيراني السيد كراماني. طبعاً أنيس يتعرض لتعذيب وحشي، ثم يُجبر على العمل مع شخص اسمه الشيف، والذي سيُقتل لاحقاً كما يرد في آخر الرواية، وتُلصق به تهمة “إرهابي يمارس تجارة الأعضاء البشرية”، وذلك لأنه يجرد السجناء من أعضائهم الداخلية، ولصالح مافيات في السلطة؛ فيتدبر الشيف له صفقة يبيع بموجبها المنزل، ويبادله بسامية التي أصبحت معتقلة لدى جماعة متطرفة ربما النصرة، فيسلم أنيس لداعش ويُطلق سراح سامية.

الحقيقة أن الرواية لا تقارب الواقع قبل الثورة إلّا من زاوية السياسة، ولهذا توثق للمظاهرات الأولى ولمن قام بها، وكيف بدأت الثورة في الداخل والصفحة التي حاولت إدارتها من الخارج؛ ولكن تلك القضايا لا يتم التطرق إليها إلا بشكل عرضي وهامشي، وعبر جمل محدودة في بعض فصول الرواية؛ كالكلام عن الجفاف ووجود ثلاثة ملايين سوري مفقر في الرقة وكذلك عن بيع العقارات في درعا، وكذلك مجموعة الشباب في بيت حدد وهم يناقشون أوضاع الثورة وتغطيتها، ولاحقاً من خلال المجموعة الثورية التي تذهب إليها سامية، ولاحقاً تذهب ليال إلى مجموعة أخرى لتصل إلى فيديل عند داعش.

تكاد لا تظهر أسباب ما قبل الثورة وفعاليات الثورة في الرواية. فلنلاحظ مثلاً المجموعة التي تستقبلها ليال في منزلها؛ فهناك عباس الطبيب وقد أصبح ضابط أمن، وعادل زوجة ليال ولا علاقة له بالثورة بشكل مطلق، وكذلك عيسى وسامية وزوجة عباس؛ المجموعة هذه تفرقها انتماءاتها للثورة أو السلطة. ورغم محاولة رسم شخصيات روائية أساسية كسامية وعيسى مثلاً، وشخصيات سلطوية كسعد وعباس، فإن الرواية لا تقنعنا بأنها تقدم أسباباً للثورة؛ لا نتكلم هنا عن الواقع الحقيقي بل عن الواقع الخيالي الذي يصنعه الروائي.

صحيح أن الدكتور سعد الدين فاسد، وطائفي، وعباس ضابط أمن ومنحاز للسلطة، والاثنان يعملان مع الإيرانيين كما أوضحت الرواية، لكن الرواية لا تقدم أسباباً كافية لانطلاقة الثورة وتطوراتها؛ وهنا تفشل خيوط الرواية في تقديم أفكار وتصورات مقنعة للثورة ولتطوراتها. ولنلاحظ مثلاً الخطأ الذي يقع به الكاتب، فيقول إن كل ضابط في الأجهزة الأمنية ليتم ترفيعه من عقيد لرتبة عميد يجب أن يخضع لدورة دينية ويجب أن يكون علوياً، فبينما لا شيء من هذا الأمر صحيح بالواقع؛ فهناك احتكار لقيادات الأجهزة الأمنية لأفراد محددين من الطائفة العلوية، ولكن ذلك لا يتم بعد دورة دينية.

تتضمن الرواية كلاماً على لسان شخصياتها وتتناول قضايا كثيرة تخص الثورة وتطوراتها، وكثير منها مكتوب بشكل تقريري، وحينما يسرد الروائي قصصاً تخيلية تظل بعيدة عن إقناعنا كأسبابٍ لاندلاعها، كما الحال حين يسرد واقعة كتابة الأطفال على الجدران في درعا، والحريق الذي يشتعل بسبب ماس كهربائي، ثم يتطور الأمر نحو اعتقالات الأطفال، ويليه سرد كيفية بدء الثورة في درعا. كان بإمكان الرواية أن توثق أو تقدم الأمور بشكلٍ تقريري وبشكل أدق، ولكن هذا أمر صعب على من لم يعايش الثورة في سورية. إن المراوحة بين التقريري والتخييلي لا يُقدم لنا أية أفكار جديدة أو حبكة قصصية أو إثارة للقارئ تدهشه أو تفرض عليه متابعتها بشكلٍ حثيث. ربما كان الكاتب يريد عرض الواقع، ولكن ذلك ظل هامشياً لأن الكاتب لم يتطرق لأسباب الثورة كما ذكرت، والواقع الذي كان يعيشه الناس، ولم يظهر ذلك على لسان الشخصيات بكل الأحوال؛ بل لا نجد شخصية واحدة تمثل مدينة درعا مثلاً.

يهرب الروائي عبر تقطيع عمله إلى فصول، وربما هذا أمر أكثر عملية كي لا يكون نصاً متصلاً، ويقوم بدلاً من ذلك بكتابة روايته على شكل مشاهد سينمائية. وهو ما يُسهل له القطع والوصل والانتقال عبر الأزمنة والأمكنة والشخصيات بسهولة بالغة. أقصد هنا أن الرواية تتطلب التفصيل بينما السينما تكتفي بالتكثيف، فهي قائمة بذاتها، بينما النص السينمائي ليس كذلك.

يخطئ الروائي بتسمية روايته ببيت حدد لما عرضناه أعلاه، وليس من شخصيات تمثل الثورة إلا نادراً وتحديداً سامية وعيسى. ولكن الرواية ربما تقدم لنا نصاً يوضح بعض ممارسات السلطة، وما فعلته. ربما يمكننا القول إن الرواية تمثل عالم السلطة أكثر مما تمثل عالم الثورة، وذلك من خلال السرد الطويل عن المحامي وعباس وسعد والشيف وعمران وحتى فيديل.

الرواية صادرة عام 2017، وعن دار الآداب اللبنانية، ورُشحت لجائزة بوكر عن القائمة الطويلة للروايات،. كاتبها الشاعر والروائي والإعلامي السوري فادي عزام.

محاولات لتعميم الإسلام المعتدل في سوريا

محاولات لتعميم الإسلام المعتدل في سوريا

في دروس اللغة العربية البسيطة، للمبتدئين في اللغة، وفي السياسة عندما تصبح عمليات سرية وألعاباً خفية، ما يسمّى بالضمير المستتر، وهو فاعل رأى أنّ من الأسلم لمراميه التلطي خلف مقتطفات اللغة، فيفعل من خلف الستار ما لا يرغب بإظهاره للعلن. على سبيل المثال، بالقول أنّ “الحكومة ضيّعت البلاد” أو “إنّ الاتفاقيات تجري من تحت أنوفنا”، يقضي الفاعل المستتر هنا على البقية الباقية من الأنفاس في هواء البلاد لخدمة أهداف لا نرغب بمعرفتها أصلاً. ومن هذا أيضاً ما تناولته وسائل الإعلام مؤخراً عن عقد اتفاقية بين مديرية الأوقاف وجامعة البعث في حمص، وتهدف الاتفاقية كما جاء حرفياً على الموقع الرسمي لجامعة البعث “إلى تبادل الخبرات والمعلومات في جميع المجالات المشتركة وذلك انطلاقاً من المبادئ والقيم الإنسانية السامية من أجل النهوض بالمستوى الفكري للفرد خاصةً والمجتمع عامةً نحو الأفضل في ظل الظروف الراهنة التي تتعرض لها سورية.”

وأكد الدكتور بسام إبراهيم رئيس جامعة البعث على أهمية هذه الاتفاقية المشتركة والتي سيكون لها دور مهم في عملية بناء الإنسان من خلال تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية الصحيحة ودعوتهم إلى المحبة والتآخي والتسامح. ورغم أن لا شيء واضح في مندرجات الاتفاق، من يقف خلفه؟ وهل هو توجه عام أم تصرف فردي مثلا؟ لكن معرفتنا بطرق صنع القرار في وزاراتنا تجعلنا متيقنين أن الهدف المعلن هو نفسه الهدف المستتر، أي تخفيف حدة الخطاب الديني المتطرف وامتصاص الفكر الجهادي عبر تطويع الخطاب المعتدل وتمكينه لكن هذا الهدف وإن برئت مراميه لا يتم تحقيقه عبر دعاة / موظفين خارجين أصلاً من رحم نص مقدس لا يجوز المساس به.

نضيف إلى هذا أن الجامعات أصلاً ليست المكان المناسب لمكافحة التطرف إذ إنها ليست البيئة الحاضنة له إذا توفرت بيئة حاضنة، إنما معاهد تحفيظ القرآن والمعاهد الشرعية والجوامع وحلقات الدراسات القرآنية هي الأولى بذلك، أي من المفترض أن تتقدم الجامعة بهذا المشروع لتضع هذه المعاهد والمدارس الدعوية تحت سيطرتها لا العكس، ونستطيع التساؤل أيضا بكثير من حسن النية عن المشاريع المشتركة التي تجمع مديرية تعنى بالشؤون الدينية والدعاة والوعّاظ مع جامعة يجب أن يكون هدفها الوحيد القريب والبعيد هو البحث العلمي، إلا إذا كان الهدف هو تطويع الدراسات جميعها لصالح دراسة أثر الخالق في الاقتصاد والميكانيك والكهرباء!

لكن ما هي الخبرات والمعلومات التي تتمتع بها مديرية أوقاف في بلدٍ يتهاوى، أو في بلد يتعافى من هاوية حرب أهلية شكّل الخطاب الديني المتطرف جزءاً لا يستهان به من أسلحة خوضها، هل سيوزعون صكوك غفران جديدة؟ أم سيدرسون تأثير اللحى في الوقاية من سرطان الجلد؟

وهذا الاتفاق بحد ذاته لا يشكل فرقاً جوهرياً في الحقيقة إذ طالما تشابهت المؤسسات التعليمية في سوريا من حيث آلية التعليم أو قل التلقين فيها مع المعاهد الدينية، لكنه يبقى مؤشراً يدعو للقلق طالماً يتزامن مع انتصارٍ حقيقي أو شبه حقيقي للقوى الوطنية كما تصنّف هذه القوى نفسها في حرب وجود ضد الفكر الإقصائي؟ سبق هذا الاتفاق بلاغاً آخر  مثيرٌ للجدل وسبق تعميمه على المدينة الجامعية في جامعة حلب حذّر فيه أحد المسؤولين الطلابَ من مغبة الإجهار بالإفطار في رمضان ووجوب الالتزام باللباس المحتشم ومنع الخلوات غير الشرعية، وكأن الوزارات بأكملها أنجزت المهام الموكلة لها بحفظ أمن المواطن وضمان معيشته ولم يتبق إلا الأخلاق الحميدة لتوزعها عليه في أكياس صغيرة لتنقذه من العطب اليومي، أو كأنّ الحكومة رأت أن الفساد الأخلاقي والجهر بالإفطار في رمضان هو سبب الدماء الجارية في الشوارع فرأت أن تقضي على المشكلة من جذرها بالقضاء على الأخوة الطلاب.

لكن هناك خطباً ما ألا وهو أنّ هذا الاتفاق الغريب يأتي بعد أقل من سنة من إغلاق المدارس الدعوية التي تتبع مجمّع الرسول الأعظم (ثلاث مدارس) والذي كان يتلقى تمويله من هيئات دينية إيرانية، إضافة لهدوء غير مفهوم على الجبهات التي تشكل القوات التركية جزءاً منها، الأمر الذي يقود إلى التفكير بالهدف الآخر غير المعلن.

المستتر

ربّت أغلب الحكومات، ديمقراطية أم ديكتاتورية، متطرفين في الباحة الخلفية ليتم استخدامهم في مهمات مريبة لا تسمح لها ديمقراطيتها المعلنة أو خطابها العام إعلان مسؤوليتها عنها، وأحياناً قامت بهذا حكومات بوليسية الهوى لوضع المقارنة موضع الالتباس عند من يرغب بصنع تغيير ما، عبر المفاضلة بين السيئ والأسوأ، وهذا ما شهدناه بأم العين وأخت البصيرة في بلدان الشرق المسكينة. ذلك أن الدول أيضا اكتشفت التكلفة الكبيرة لاستيراد متطرفين عقائديين تواجه بهم متطرفين عقائديين آخرين، فآثرت والحال كذلك استيلادهم محلياً بتكلفة صنع أرخص، فعل ذلك الجميع بطرق متعددة، عبر اصطناع مشاكل كبيرة لا حل لها إلا باستقدام الوكيل الخاص بنا، حتى استقرّت المناقصة الكبرى على الإسلامي المتطرّف الذي يرغب بتدمير العالم بأكمله وعلى الحكم الوطني الذي لن يسمح له بفعل ذلك ولو كانت التكلفة تدمير الوطن على رؤوس سكّانه، فلماذا نشذّ نحن عن قواعد أرست مراسيها دول كبرى وحكومات برلمانية الواجهة وتعاطت بها بنفس الطريقة؟

لماذا نكون أكثر عدالة أو نصرة للحق الإنساني طالما أن سبل السياسة انحفرت بهذا المعول وعلى هدي هذه المطارق، والتغيرات الجديدة في الصفقات الكبرى تحفر مجاريها أيضاً، على فيضٍ من اتفاقياتٍ سريةٍ تجري جري السلاحف في الأكمات، اتفاقيات يُمنح بموجبها تيار الإسلاميين “المعتدلين” حصّة ما في أجهزة الحكم المدنية مقابل تخفيض لهجته الجهادية وتنزيل الأزمة إلى مستوى السيطرة العامة على دوائر صغيرة في الحكومة، الأمر الذي قد لمحنا براعمه في تمكين هذا التيار الموصوف بالمعتدل من وسائل إعلام جديدة وتجمعات شبابية دينية، على نية أن تأخذ الحكومات هذا المد إلى أمكنة يُعتقد أنها تحت السيطرة وهذا ما لن يحصل.