بواسطة طارق علي | مايو 28, 2021 | غير مصنف
من صاحب شركة رائدة في صناعة الديكور ومعدات المطابخ إلى عامل في سوق الهال، ومن ثم صاحب بسطة دخان، إلى مستأجر لمحل صغير بعد أن تمكن من جني مبلغ صغير نتيجة تنقله في عدة أعمال، مما مكنّه من جمع المبلغ بالتشارك مع صديق له لافتتاح محل صغير لبيع زينة الهواتف النقالة، هذا ملخص رحلة زين مع الحرب.
الرحلة التي مرت بعشرات المطبات، أولها تدمير شركته في عام 2011 في حي دير بعلبة الحمصي وكذلك منزله، بعيد اندلاع المعارك هناك، ومن ثم ليبدأ رحلة حياته من جديد، الرحلة التي اعتقد أنه انتهى من بناء مقوماتها يوم عاد من الخليج إلى سوريا في عام 2007. لتحول الحرب مستقبله الذي كان ينمو ويزدهر إلى أثر، فقد حطمت الحرب أحلامه وأعادته تحت خط الصفر.
كان الاقتصاد السوري ينمو بوتيرة جيدة نسبياً، مما جعل الاستثمار في المشاريع الصغرى والصغيرة والمتوسطة فعالاً، أما الحديث عن المشاريع الاستثمارية الضخمة، فهذا بحث آخر وهو شائك للغاية، فرجال أعمال ما قبل الحرب كانوا بمعظمهم شركاء بالقوة في أي مشروع جديد في بلدهم، أما بعد الحرب، فلم يختلف الحال كثيراً، فالأثرياء الجدد حلوا محل القدامى، وبات لهم من كل استثمار نصيب.
لا يغْلَبُ الصحفي السوري إذا أراد الحديث عن قصص الناس في الحرب، بل إنّ هناك مقولةً يتداولها الصحفيون بكثرة خلال تحضيرهم لإعداد فكرة ما، مقولةٌ تنص على أنه تحت كل حجر في بلادهم ثمة قصة، وعلى بساطة القول، إلا أنّه يخفي ما يخفي خلفه من قفز فوق حال الوجع الذي صار عنواناً لمشهدية تتكرر في كل مدينة، كل حي، وداخل كل منزل أيضاً، فهل ثمة سوري لم تتغير حياته في سنوات الحرب الطويلة والمريرة؟
أحلام مُدمّرة..
تقول سماح، وهي مهندسة مدنية في دمشق إنها لم تكن تتخيل أن يصل بلدها إلى ما وصل إليه، و تضيف: “كانت أحلامي كبيرة حين تخرجت من الجامعة، وظيفة دولة براتب ممتاز يساوي بضع مئات من الدولار، وبدأت أخطط كيف سأشتري سيارة بالتقسيط، وكذلك منزلاً، وكيف وكيف وكيف، ولكن الحرب عاجلتنا وسرقت طموحنا وآمالنا، اليوم أذهب لعملي وأعود بباصات النقل الداخلي، راتبي ينتهي في أوائل أيام كل شهر، كنت أسعى لأكون علامةً فارقة في مجتمعي، وكنت أنظر للمجد الذي ينتظرني، وكيف أنّ ابنة المزارع الفقير ستتطور حياتها بشكل لافت وسريع، ولكن، الآن، صغرت أحلامي كثيراً، صار حلمي أن أعثر على مقعد في باص النقل الداخلي الذي أستقله إلى مكان عملي”.
حلمت منال ذات العشرين عاماً دائماً أن تكمل تعليمها، ولا زالت تحلم، لولا أنها الآن أم لطفلين، منال التي تربي أطفالها وترفض الاعتراف أنّها صارت أما، إذ تعتبر أنها فجأة وجدت نفسها بين أحضان رجل يكبرها بعشرين عاماً، الفتاة المنحدرة من دوما زوّجها أهلها بالإكراه إبان سيطرة جيش الإسلام على الغوطة الشرقية لقريب والدها، “كنت متفوقةً في دراستي، وكنت الأولى على مدرستي الابتدائية، ولكن مع تقدم الحرب انقطعتُ عن الدراسة مكرهةً، وفجأة وجدت نفسي متزوجة من رجل لا أحبه، أنا أساساً لم أكن أعرف ما هو الحب، كيف لفتاة صغيرة أن تعرف ما هو الحب والزواج والارتباط، أنا الطفلة التي كانت كلما سألتها معلمتها ماذا تريدين أن تصبحي حين تكبرين كنت أقول بكل ثقة طبيبة، طبيبة، حقاً كنت أقول ذلك، أما الآن فكل شيء انتهى”، تقول منال.
المتفوق المتنازل عن حلمه
أما سليمان حامد، مهندس الميكانيك الذي تخرج من جامعته بدرجة امتياز فيقول “كنت أنتظر بفارغ الصبر أن أتخرج من الجامعة وأسافر إلى أوروبا لأعمل هناك، ولكن فجأة وجدت أن طريقي إلى أوروبا سيكون عبر (البلم)، وغالباً سأغرق في طريقي البحري تهريباً إلى اليونان، الآن أنا بأفضل حال، لأنني تصالحت مع فكرة أني صرت لاشيئاً، وأن مستقبلي انتهى، الآن أفكر كل يوم لأي شركة منتجات غذائية سأقدم سيرتي الذاتية الفارغة من الخبرة العملية ليوظفوني بمئة ألف ليرة سورية، في اختصاص غير اختصاصي حكماً، ربما محاسباً، وربما عاملاً، اليأس يفعل أكثر من ذلك”.
شوفينية التفرد بالألم
يبدو الإيجاز أكثر الأمور منطقية في الحديث عما تغير في حياة السوريين خلال الحرب، الأجدى أن نقول: ما الذي لم يتغير؟. الحرب لم تتسبب الخسارات الجسدية وحسب، بل أيضاً خسارة الأمنيات والأحلام والآمال، فقتل الحلم هو ذاك النوع من القتل الذي تصير حياة الأجيال المتواترة بعده أكثر تعقيداً و حدةً، فالدم يجيء بالدم، والكره بالكره، والحزن بالحزن، والفقر بالفقر، كل شيء يجيء بمرادفه، إلا الماضي –وإن كان جميلا- وهذا عينه موضع شك، لكنه على الأقل أفضل من الحاضر، إلا أنّه لن يجيء بالمستقبل المنشود.
الأسى الذي عاشه السوريون في عشرة أعوام، لا يبالغون حين يقولون عنه إنّه ما مر شبيه له في التاريخ الحديث، فالحرب تخلق الشوفينية، وهي شوفينية سلبية بالتأكيد، إنها من النوع الذي يتآمر مع الحاضر على الناس، على قاعدة أنّ ما لم تخربه الحرب ستخربه آثارها النفسية الهائلة في النفوس.
السوري بات سقف طموحه جرة غاز، عشرين ليتراً من البينزين، مئة ليتر من المازوت، ربطة خبز، صاحب بقالية لا ينصب عليه، تأمين قوت عياله، وكذا صارت أحلام الناس في البلاد، حقيقةً هي كوابيس، كوابيس يتمنون أن يصحوا منها ليجدوا أنفسهم في عام 2010.
بواسطة لامار اركندي | مايو 19, 2021 | Culture, غير مصنف
تدور أحداث الفيلم السوري “رضا” وفقاً للمخرج السوري الكردي ياسر حمزة في قرية “سيكركى” في ريف مدينة القامشلي شمال سوريا. يحمل الفيلم اسم بطلته رضا وهي امرأة في الخمسين من العمر لينقل لوحة مأساة تمثل وجهاً من وجوه الحرب السورية وأزمتها.
وفي حديث خاص، يقول المخرج حمزة إن رضا أرملة عاشت بعد وفاة أمها وخالها بمفردها في كوخ طيني متهالك الجدران على أطراف قريتها وحيدة لا تملك أوراقاً ثبوتية في السجلات المدنية للدولة.
خاضت رضا معترك الحياة وكونت عائلتها الخاصة، فكانوا سندها في رحلة الصراع مع الوحدة فصنعت دمية بنفسها أسمتها زوزان وضمت لأسرتها الجديدة كلباً أسمته صورو إضافة إلى قطتها المدللة وملهمة صبرها عزيزة.
ولتأمين لقمة عيشها، يوضح حمزة أن رضا اعتمدت على دجاجاتها وبيع بيضهم لكسب دخل مادي إضافة لتوفير قوت يومي لنفسها ولعائلتها الجديدة.
تكريم عربي
وفي السابع من شهر نيسان (إبريل) الفائت، أعلنت إدارة مهرجان البحرين السينمائي أسماء الفائزين في فئات مسابقتها التي أقيمت بصورة استثنائية راعت الاجراءات الاحترازية وضوابط التباعد الاجتماعي بسبب تفشي فيروس كوفيد19. ومن أصل (450) وافقت إدارة المهرجان على مشاركة (92) فيلماً في الفئات الخمس للمسابقة وهي الأفلام الروائية القصيرة، والوثائقية، وأفلام التحريك، وأفلام المرأة إضافة الى أفلام الطلبة.
ورشح فيلم رضا من بين 20 فيلماً للقائمة القصيرة للجائزة التي شهدت تنافساً قوياً للمستوى العالي للأفلام المشاركة من حيث مضامينها وجودتها التصويرية. وبين ياسر حمزة أنه المخرج السوري الوحيد الذي شارك في قائمة الأفلام الوثائقية التي بلغت 33 فيلماً قدمت من 18 دولة.
وكرم مهرجان البحرين السينمائي في دورته الأولى المخرج السوري الكردي ياسر حمزة بجائزة (دورة فريد رمضان) التقديرية والتي حملت اسم الروائي والسيناريست البحريني الراحل فريد رمضان تكريماً لدوره الرائد في الإنتاج السينمائي، وتقديراً لجهوده في تقديم نصوص الأفلام السينمائية إضافة لدعمه خلال مسيرته الفنية كجزء من دعم الطاقات السينمائية الواعدة في البحرين والعالم العربي.
وحاز فيلم “رضا” على شهادة تقدير من إدارة المهرجان قسم الأفلام الوثائقية تكريماً للمستوى المتقدم لتقنية الصورة وللقفزة التكنولوجية المميزة التي ظهرت على مستوى الصورة والإخراج ونوعية الإنتاج ولقيمة قصة الفيلم الإنسانية.
وضمت لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية للمهرجان: المخرجة الإمارتية “نجوم الغانم”، والناقد السينمائي البحريني “حسن حداد”، والأستاذ في جامعة البحرين “محمد السيد”.
مهرجانات وتقديرات
ونوه المخرج الشاب إلى أن فيلم “رضا” شارك في العديد من المهرجات العربية والدولية ومنها: مهرجان النهج السينمائي بالعراق، حيث رشح للقائمة القصيرة لأفضل فيلم وثائقي، و مهرجان “بي يوند” الدولي للأفلام القصيرة.
إضافة لذلك نال ياسر حمزة شهادة تكريم من مهرجان كركوك بدورته الثانية لعام 2021 تقديراً لمسيرته المهنية الممتدة لأكثر من 25 عاماً.
وعن آخر أعماله تحدث ياسر حمزة لسكاي نيوز عن إنهائه لفيلم تسجيلي بعنوان “أميرة” بالتعاون مع المخرجة رنا شاهين ويعمل حالياً على فيلم تسجيلي آخر بعنوان “لن ترى” مع المخرج أحمد عرفات.
من هو ياسر حمزة
ينحدر المخرج ياسر حمزة 43 عاماً من مدينة القامشلي. وكان قد بدأ مسيرته المهنية في مجال الإعلاموالاخراج كمصمم لوحات إعلانية للمحال التجارية ومصوراً فوتوغرافياً. وبعد إنهاء الخدمة العسكرية انتقل حمزة إلى دمشق وعمل بصفة مونتيراً ومصوراً مع شركة مرح للإنتاج الفني لأربع سنوات، قبل انتقاله بصفة مدير فني ومونتير ومساعد مخرج في شركة شيخاني للإنتاج الفني.
وعمل حمزة أيضاً مع العديد من الأقنية العربية والمخرجين العرب. ومن الأعمال الفنية التي شارك بها: مسلسل رحلة المليون للمخرج الأردني سالم الكردي و لقناة أبو ظبي؛ ومسلسل هوامير الصحراء بجزئية الثاني والثالث لقناة روتانا للمخرج أيمن شيخاني؛ ومسلسل “جاري يا حمودة” مع المخرج وليد العاقل لقناة (MBC). هذا إضافة لمسلسلات عديدة أخرى منها: بيني وبينك (فكاهي)، ومسلسل انباع الوطن (سياسي كوميدي)، ومسلسل الساكنات في قلوبنا (دراما)، وغيرها.
كما أخرج العديد من الكليبات العربية لفنانين من أمثال عامر الغريب، لبنى كمر، حسام طه، وغيرهم.
ويذكر أيضاً أن ياسر حمزة أخرج أفلاماً وثائقية عدة إضافة لفيلم “رضا” وهي “على عتبة الطفولة”، “وعد”، و”زوارق في الظلام”.
بواسطة Noha Alhasan | مايو 17, 2021 | Cost of War, غير مصنف
الفقر وانعدام الأمن والاستقرار هو ما دفع أبو عمر (٤٥عاماً) من معرة النعمان لتزويج ابنته نسرين (١٧عاماً) من أول متقدم لخطبتها، وكان مقاتلاً مهاجراً يعمل ضمن أحد الفصائل العسكرية في المنطقة، لكن هذا الزواج لم يدم طويلاً فقد عادت نسرين إلى بيت أهلها بعد عام من زواجها بصحبة طفلها وذلك بعد أن انتقل زوجها للقتال على إحدى جبهات ريف حلب، ومنذ ذلك الحين انقطعت أخباره بشكل نهائي، وقد تعددت الروايات بين مقتله وعودته إلى بلده.
نسرين واحدة من نساء كثيرات في إدلب وريفها وقعن ضحية الزواج المجهول من مقاتلين مهاجرين وأجانب، حيث بدأت تنتشر ظاهرة زواج النساء السوريات من المقاتلين الأجانب الذين بدأوا بالتوافد إلى سوريا منذ بداية النزاع للمشاركة في القتال، وانضموا إلى الفصائل الإسلامية المسلحة المقاتلة في المنطقة وهؤلاء المقاتلون سرعان مابحثوا عن الزواج بعد شعورهم بأن بقاءهم في سوريا سيستمر لسنوات طويلة، لتقع كثير من النساء ضحايا الظروف الصعبة بعد مقتل الزوج أو اختفائه، ما يؤدي إلى أن تعيش هؤلاء النساء مع الأطفال الناتجين عن هكذا زيجات.
حياة اجتماعية واقتصادية بالغة الصعوبة والتعقيد
أجبرت الظروف الثلاثينية رزان العبد من بلدة بنش على القبول بالزواج من أحد المقاتلين المهاجرين، فقد تقطعت بها السبل بعد وفاة والديها في غارة جوية، وبقيت وحيدة تتنقل بين بيوت إخوتها، وتقول رزان عن تجربتها: “كنت دائما أشعر بأنني عالة على الجميع، وبسبب تقدمي بالسن وافقت على الزواج بمقاتل يعمل ضمن فصيل هيئة تحرير الشام ويكنى بأبي طلحة الليبي وهذا كل ما أعرفه عنه، لأنه كان دائماً يتهرب من أي سؤال يخص تفاصيل حياته، ويغضب إذا سألته عن نسبه واسمه الحقيقي متذرعاً بأسباب أمنية، فكنتُ أخفي انزعاجي كونه كان يعاملني معاملة طيبة، استمر زواجنا قرابة العامين والنصف رزقت خلالها بطفلين.“
تصمت رزان قليلاً ثم تتابع بغصة : “خرج أبي طلحة في إحدى المعارك ليأتيني بعدها خبر وفاته، وجدتُ نفسي وحيدة مع طفلين مجهولي النسب، فبدأت أعمل في الأراضي الزراعية طوال النهار من أجل تأمين قوتي وقوة أطفالي الذين ليس لديهم معيل.”
تبين رزان بأنها دفعت ثمن قبولها بهذا الزواج الذي دمر حياتها، وأكثر ما يؤلمها ويشكل الهاجس الأكبر في حياتها هما طفلاها اللذان سيحرمان من جميع الحقوق المدنية في التعليم والتملك والرعاية الطبية والهوية كونهما دون نسب أو أوراق ثبوتية.
وإذا كانت رزان هي من وافقت على هذا الزواج بمحض إرادتها، فإن معظم حالات الزواج التي جرت في الشمال السوري لم تكن فيها الفتاة صاحبة القرار في اختيار شريك حياتها، حيث يقوم الأهل بتزويج بناتهم حتى دون أخذ رأيهن في كثير من الأحيان وهو ماجرى مع القاصر رولا (١٦عاماً) التي أجبرها والدها على ترك المدرسة بعد نزوحهم من بلدتهم خان السبل وإقامتهم في خيمة قماشية في بلدة كفرلوسين على الحدود السورية التركية. قام والد رولا بتزويجها من أحد أصدقاء أخيها المجاهدين ضمن صفوف جبهة النصرة وهو رجل سعودي ويكبرها بخمسة وعشرين عاماً، وذلك للتخلص من مصروفها والستر عليها في ظل حالة الفوضى والفلتان الأمني الذي يسيطر على المنطقة، ولاعتقاد الوالد أن هذا الزوج سيضمن لابنته حياة مرفهة، خاصةً وأن العريس السعودي رجل غني وراح يغدق عليها وعلى أهلها بالأموال والهدايا. وظن والد رولا أيضاًبأن وجود هذا العريس بقربها وقرب أهلها سيؤمن لهم الحماية والسلطة في مجتمعهم، إلا أن اعتقاداته كلها كانت خاطئة، فبعد الزواج راح الزوج يعامله رولا معاملة قاسية، فكان متشدداً في كل الأمور، وألزمها بوضع النقاب، وحرمها من الخروج من المنزل أو حتى زيارة أهلها، وكان يعنفها باستمرار لصغر سنها وجهلها بمسؤوليات الزوج والبيت، وفوق ذلك كله طلقها بعد أن أنجبت منه طفلة، وعادت إلى خيمة أهلها مكسورة الخاطر مع طفلة مجهولة النسب ومحرومة الحقوق.
حملة “مين زوجك؟”
وردا على انتشار هذه الظاهرة أطلق ناشطون في إدلب حملة “مين زوجك؟” في عام ٢٠١٨ بهدف توعية النساء بمخاطر هذه الزيجات عليهن وعلى أطفالهن، وذلك من خلال فرق عمل موزعة على القرى والبلدات.
وتتنوع الأسباب والدوافع التي تحتم على الأهالي القبول بتزويج بناتهم مثل هذه الزيجات وقد أوجزتها الخبيرة الاجتماعية هدى العوض (٤٧عاماً)من مدينة إدلب بالقول: “أهم تلك الأسباب تكمن في الجهل وقلة الوعي، بالإضافة للفقر المدقع والحالة الاقتصادية السيئة التي تعصف بالأهالي، فضلاً عن عزوف معظم الشباب السوريين عن الزواج لما فيه من تكاليف باهظة في ظل البطالة وصعوبة تأمين فرص العمل ما أجبر معظم الشباب على الهجرة بحثاً عن الأمان والرزق. وهو ما يفسر كثرة هذه الزيجات التي تنتهي بالفشل غالباً أو بالطلاق أو مقتل الزوج أو تركه لعائلته والانتقال إلى أماكن أخرى بحكم تنقل تنظيمه المستمر، أو عودته إلى بلده الأصلي تاركاً خلفه عائلته وأطفاله، لتبدأ بعدها رحلة الضياع.
ويشرح المحامي نضال العمر (٤٠عاماً) من معرة مصرين في حديث خاص الأثر القانوني المترتب على زواج السورية من أجنبي بقوله: “الزواج يجب أن يكون مبنياً على الوضوح ومعظم هذه الزيجات تتم خارج نطاق المحاكم الشرعية، وغالباً دون أن يفصح المهاجر عن اسمه الحقيقي، والاكتفاء بالكنى والألقاب والأسماء المستعارة، وهذا الغموض يعتبر من محرمات الشريعة الإسلامية ومن مفسدات الزواج.”
وأكد العمر بأن المحاكم الشرعية المنتشرة في الشمال السوري لا تعترف بالزواج من أشخاص مجهولي الهوية، ولا تقر بتثبيت نسب الأطفال، الأمر الذي يترتب عليه حرمان هؤلاء الأطفال من أبسط حقوقهم وهي الجنسية والنسب والعائلة، ما ينذر بأنهم سيواجهون حياة صعبة بكل ما تعنيه الكلمة.
ويقترح المحامي كحل لهؤلاء إقرار قانون يسمح للأم السورية بمنح جنسيتها لطفلها وهو ما لم يحصل حتى اللحظة.
ووفقا لإحصائيات حملة “مين زوجك” فقد بلغ عدد النساء المتزوجات من مقاتلين أجانب حتى آذار ٢٠١٨حوالي ١٧٣٥سيدة، ونتجت زيجات ما يقارب ١١٢٤ امرأة من هؤلاء النساء عن أطفال والذين يُقدر عددهم بحوالي ١٨٢٦ طفلاً.
بواسطة Mouaz Laham | مايو 13, 2021 | Cost of War, Culture, غير مصنف
الساعة الثانية ظهراً، الشمس كرة من نحاس أحمر، نسمة خفيفة غربية، والسيارات ليست كثيرة في هذا اليوم على طريق المطار. ذلك ما لاحظه محمد من موقعه في الصف الأخير من المدرج.
على منصة الشرف المسقوفة في الملعب البلدي الصغير في جرمانا، جلس عشرات الأشخاص، رجال نساء وأطفال. لم تكن هناك أية مباراة، والأطفال يقفزون كالكرات فوق العشب الصناعيّ على أرضية الملعب. الكبار كانوا ساهمين يحدقون في الفراغ، ويراقبون المشهد ببياض عيونهم، ويتدربون على الانتظار.
محمد، ممسك جواله القديم بيد، وسيجارة الحمراء الطويلة ترفض أن تنتهي بين أصابع يده الأخرى، وعيناه لم تعد تريا إلا أمواجاً سائلة، وأشياء ضاعت معالمها في النظرة الرطبة.
كانوا من الذين خرجوا من بيوتهم، ونزحوا إلى جرمانا. ظنوا أن القصة مسألة أيام، وأصبح الوقت من المطاط. تم تجميعهم وإيواءهم مؤقتاً، تحت مدرجات منصة الشرف في الملعب، حيث توجد غرف للكوادر الرياضية، وغرف لتبديل ملابس اللاعبين وحمامات مشتركة. الآن، أصبحوا هم الكادر كاملاً، وهم وحدهم اللاعبون الأساسيون. وأصبحت كلمة، مؤقتاً، الكلمة الأثقل وزناً في ضمائرهم المثقلة.
فتح محمد جواله، تأكد من وجود تغطية، وأشعل سيجارة أخرى. رن الهاتف رنة قصيرة، نظر باتجاه أطفاله فوق أرض الملعب. إنها زوجته تذكره بأن لا ينسى جلب حصتهم من الطعام.
الساعة الثالثة بعد الظهر، الشمس غيرت قليلاً من زاويتها، أصبح ظل المنصة أكثر طولاً، إلا أن الأطفال ما زالوا في الشمس. إنها ساعة توزيع الطعام. اجتمع الأطفال والنساء وبعض الرجال، حاملين قدورَهم، وصفائح الماء. كان غداء اليوم مؤلفاً من الأرز، حساء الفاصولياء مع البندورة، وربطة خبز.
أعطى محمد حصتهم من الطعام لزوجته، وعاد إلى المدرجات، يدخن ويتابع عد السيارات المارة على طريق المطار غير البعيد.
نزح محمد وزوجته وأطفاله الثلاثة، من قرية ليست ببعيدة عن جرمانا. وفكر لو أن المدرجات أعلى قليلاً، لاستطاع رؤيتها. غير أن المدرجات كانت أقل ارتفاعاً من مخيلته. كان يمتلك محلاً لتصليح الأدوات الكهربائية والإلكترونية، وعندما خرجوا فجراً من المنزل، بقي رجاء زوجته معلقاً في رأسه إلى الآن:
” عدني بأننا سنعود”
في تلك الليلة، كان صوت تكسير الزجاج في بيته يغطي على صوت الرصاص في الخارج. أخذت زوجته بتكسير كل الأواني الزجاجية، وتقلب كل ما تطاله يداها، كانت تصرخ، تبكي، وتكسر. ومع كل صحن يتفتت، تتفتت هي، إلى ملايين القطع. وعندما رجاها محمد بألا تفعل ذلك، قالت:
“لا علاقة لك، اتركني أفعل ما أشاء”
” لكنكِ سترعبين الأطفال النائمين”
“ألم يرتعبوا إلى الآن؟ وهل ناموا أصلاً؟ لقد قضوا الليل وهم يجفلون من صوت القذائف والرصاص”
” أرجوكِ، توقفي عن التكسير”
” أريد أن أحطم كلّ شيء، هل تسمع؟ كلَّ شيء. أليست صحوني، كؤوسي؟ أليس هذا جهاز عرسي؟ أتذكّر كل قطعة، كيف وفرتُ ثمنها واشتريتها. وكيف لمعتها ووضعتها في الفيترينة. ألا تذكر أنت؟..أنا أتذكر، كل قطعة لي معها قصة: الستائر، الصمديات، الطربيزات، طقم السفرة والكراسي، السجادة وحتى نزّالات الطعام. لي معهنَّ قصة: ثيابي، ثياب أولادي، ثيابك. قصة ماذا؟ قصة حب إذا شئتَ. والآن يريدون منّا أن نخلي البيت، بيتنا، وأن نخرج بثيابنا فقط. أريد أن أكسر كلَّ شيء، اريد أن أمزق حتى الثياب”
” أرجوك، يكفي”، وكان يبكي
“هل تصرخ فيَّ؟”
” أصرخ فيكِ ، فيّ، وفي كل العالم. لا أتذكر!! بلى أتذكر، ماذا تريدين مني أن أفعل؟ أحطم الجدران، أحرق الأبواب والنوافذ. أليسَ هذا بيتنا، بيتي، بيتكِ، بيت أطفالنا. هل أهدمه بيديّ؟”
تضحك زوجته بهستيريا وتقول:
” بيتنا؟ بيتي؟ بيتك؟ بيت الأطفال؟ والآن لم يعد كذلك”
“إنه بيتنا، وسيبقى، وسوف نعود إليه، ليست لنا علاقة بأي أحد، ولم نرتكب أي خطأ، ولن نذهب بعيداً. مسألة أيام فقط، وسيبقى كل شيء على حاله. ألا ترين هذه الشراشف؟ سأغطي بها كل الأثاث، والأجهزة، ولن تتلفها الغبرة. كل شيء سينتظرنا حتى نعود، سيحتفظ برائحتنا فيه، ورائحته فينا”
” نعم سنعود، ولن نجد لا رائحتنا ولا رائحته”
تصمت قليلاً وكأنها تأخذ نفسَاً:
” هل ترى ما هو مرسوم على هذه الصحون؟ “
“روميو وجولييت”
“كانوا عشاقاً؟”
” نعم”. وكان يكاد يلمس هدوءاً في صوتها، فيشرق قليلاً.
” أتذكر من أين جلبتَه؟”
” أذكر، من لبنان”
” إنه جديد وما زال في علبته”. تخرج الطقم كاملاً من العلبة. وتتابع:
” لن يكون هناك أصدقاء في السهرة، ولن نقدم الحلويات في هذه الصحون” . تضربه في الأرض وتتحول الصحون إلى طحين زجاجي.
“أرجوكِ”
” هل ترى هذه النرجيلة؟ طويلة مثل زرافة من كريستال. اشتريتها من الحميدية لكي نضعها على الشرفة وندخن. لا أريد أن أسمع صوت نفسَها في صدر أي أحد. هل تسمع. في صدر أي أحد”
وتنفجر النرجيلة.
” أرجوكِ، يكفي”. قالها بلا صوت.
“لا يكفي، الثياب، ثيابي، ثياب الأطفال، لا أريد أن أراها على أي جسد غير أجسادنا والصور، صورنا على الجدران والرفوف، سأحرق كل شيء..”
” الصور لا. سأخفيها في الحقيبة”
وبعد دقائق من صمت حاد. قالت:
“عدني بأننا سوف نعود”
جاء رنين الهاتف، الآن، برنة طويلة ينقذه من ذكريات تلك الليلة، ومن وعده أيضاً.
كانت الأخبار التي تلقاها جيدة، ولأول مرة، منذ ثلاثة أشهر، يرى بياضاً ضمن كل هذا السواد الذي أحاطهم منذ خروجهم في فجر تلك الليلة. لقد تمت الموافقة على تشغيله في معمل لتجميع الأجهزة الكهربائية براتب جيد.
ألقى نصف السيجارة، وهبط الدرجات قفزاً. على باب غرفة الحارس الأمني لمركز الإيواء، استوقفه المسؤول، أخبره بأنه يتعاطف معه، وأنه يسعى جاهداً لمساعدته في الحصول على الموافقة الأمنية التي تمكنهم من الخروج من المركز واستئجار منزل. لكنه قال بأن الأمر يحتاج إلى مبلغ من المال، ليس له بأية حال فهو يعتبر نفسه كأخ، وإنما لأشخاص مسؤولين عن ذلك ويتعاطفون معه أيضاً، وكل ما كان الدفع بشكل أسرع كان ذلك أفضل له. ومستمداً ثقة إضافية من الخبر الذي تلقاه للتو، ضمن محمد له ذلك، وأخبره بأنه سيدفع له فور استلامه الموافقة، وأن المبلغ جاهز.
“هذا ما كنت أريد سماعه”. قال الحارس.
وضغط على يده بقوة، كشعور متبادل بالتضامن.
كانت غرفتهم هي الأخيرة ضمن صف غرف تبديل الملابس، وكان الممر مملوءاً بحبال غسيل وثياب وشراشف وكأنه سفينة شراعية. وهواء مملوء بالدوار.
في غرفتهم، كان اللون الرمادي هو المسيطر، ككل الغرف. فرشات وبطانيات رصاصية من تلك التي توزعها الأمم المتحدة، بالإضافة إلى بعض الأشياء الضرورية الأخرى التي اشتراها بسعر رخيص من سوق الأشياء المستعملة. من ضمنها تلفزيون سيرونكس ملون 14 بوصة مع جهاز استقبال، كان التلفزيون مخصصاً لمشاهدة برامج الأطفال والأخبار، حيث ضمن له الحارس خط من الصحن اللاقط الخاص بغرفة الحراسة مقابل مبلغ من المال.
كانت زوجته وأولاده يتناولون طعامهم عندما دخل، ولمحت زوجته ظل ابتسامة وتغير في لون وجهه، حدقت فيه مطولاً، لم يستطع أن يصمت أكثر، أخبرها أولاً بخبر تشغيله، نهضت، احتضنته، عندها أخبرها بأمر الموافقة الأمنية. همست له:
” أخرجنا من هنا بأقصى سرعة”
ناولته صحناً أبيض مصنوعاً من الميلامين وملعقة. سكبت له الأرز مع الفاصولياء، وكانوا يتناولون الطعام بصمت. وشعر بمرارة فمه نتيجة التدخين المستمر.
قليلة هي المرات التي خرج فيها من الملعب، كان يشعر، في كل مرة يخرج فيها، أن الشوارع ترفضه، أن الجميع سيعرفون بأنه مهجَّر، بأنه غريب. على دوّار المصارف، القريب من الملعب، جلس على حافة رخامية، كان عدد المارة قليلاً، وخطر قذائف الهاون مازال مستمراً. كان يدخن وينظر إلى الأسفل، وكأنه لا يريد أن يعرفه أحد، أو أن يتعرّف إلى أحد.
رنَّ هاتفه للمرة الثانية اليوم، كانت المكالمة قصيرة، حادة ومؤلمة.
في تلك الليلة، بعد أن تركت زوجته ما لم تقوَ على تكسيره، خرجوا خمستهم فجراً، كأشباح، مشوا مع الناس التي تمشي باتجاه نقطة التجمع، أشباح تشبههم أيضاً، ومع كل خطوة كان البيت يبتعد حتى أصبح شبح بيت. ومع اتساع الضوء، كان المئات من الناس، يحملون حقائبهم، أمتعتهم وأولادهم ويسيرون. سيارات صغيرة وكبيرة، باصات وسيارات شحن، كلها مملوءة بحشد لا يعرف الطريق. كان التكهن سيد الحفلة.
على معبر الخروج انتظروا أربع ساعات حتى فرغ الجنود من تدقيق كل شيء، وكان هناك تعب وجوع وصراخ ونفاد صبر.
على الحاجز الآخر، انتظروا وقتاً أطول، وشوطاً جديداً من التدقيق. في حدود الرابعة عصراً وصلوا إلى مأواهم الأخير في الملعب البلدي الصغير في جرمانا. باقي الناس تقاسمتهم مراكز الإيواء.
أشعل سيجارة جديدة، نظر إلى السماء، كانت صافية ونفس النجوم كان يراها من سطح بيته. شعر بأنه لا بد وأن يبدأ من جديد، وأن يخفي أمر المكالمة عن زوجته خشية أن يفسد عليها فرحها البسيط هذا اليوم. كانت المكالمة قصيرة وحادة:
لقد أصيب بيتهم بصاروخ، وسوّي بالأرض والتهمت النار كل شيء.
بواسطة رنيم غسان خلوف | مايو 11, 2021 | Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “في العقد الجديد، إلى ماذا يشتاق السوريون؟“
“مشتاقة لشارع النهر بدير الزور، لمدرستي، لبيتي، لرفقاتي، مشتاقة لمجتمعي أنا اليوم بلا مجتمع. مناسباتنا صارت مأتم منتذكر فيها إننا بحالة نزوح دائمة، بشتاق لأتسوق من الدير.” هذا حال آلاء ابنة دير الزور التي أجبرتها الحرب على ترك مدينتها والاستقرار بدمشق، دمشق التي كانت تحبها، لكنها لا تعني لها اليوم أكثر من مجتمع أجبرت على الاستقرار به.
“مشتاقة لأيام زمان، مشتاقة ارجع ربة منزل، مشتاقة لأيام زمان.” هذا حال رشا 35( عاماً) والتي تعمل في تنظيف البيوت منذ أن هُجِرت من منزلها المنظم في ريف دمشق، لغرب العاصمة حيث العشوائيات.
تنهدت رشا بنفس خرج من منتصف الصدر، تلته ابتسامة خفيفة مع دمعة سقطت سهواً، لتعقب ماذا ينفع الحنين غير القهر!
منذ أول سنوات الحرب في سوريا، يتردد على لسان أبناء المجتمع كلمة: “اسئالله، اسقالله، رزق الله”، تختلف اللكنة المحكية، لكن المعنى واحد والمضمون رغبة من القلب للعودة إلى ماقبل2011، في هذا التقرير أقدم تقريراً حول بعض مايشتاقه السوريون اليوم.
مصيبة الذاكرة الواعية!
عاشَ السوريون مرحلتين من الحياة في البلاد، وخصوصاً جيل الثمانينات على حد تعبير بعضهم، الجيل الذي ذاق ويلات “أحداث الإخوان المسلمين”، وعندما بدأ الشباب يلوح له بأفق الحياة عاشوا ويلات الحرب الحالية. في لقائي مع عدد من السوريين في دمشق ومدن وأرياف أخرى، اختلفت الإجابات عند سؤالهم إلى ماذا يشتاقون؟ ومن مصباح علاء الدين كلٌ منهم طلب مكنوناته الداخلية، أبو محمد تاجر خضار و فواكه يعيش بمنطقة العشوائيات “المزة 86″، اشتاق لأن يعود كيلو البندورة بـ 5 ليرات سورية، والموز بأغلى أثمانه عام 2010 بـ 250 ليرة سورية. بينما تشتاق مها وهي صحفية من ريف دمشق: “للخير اللي كان بالناس قبل 10 سنين”. ولو خرج لها مصباح علاء الدين يوماً، فستطلب منه أن يزيل العشر سنوات السابقة من حياتها.
بينما تعقب لما صحفية من مدينة طرطوس على حديث مها قائلةً: “بشتاق لـ2010 لوقت كنا نقول فيه أنا الصحفية الفلانية وفوراً يقولوا تفضلوا”! وتتشابه معها في طلبها من المارد السحري.
مع كل سنة تعارك سورية حرباً جديدة اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وتزيد حالة الحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، كمدخل للهرب من الواقع، ذلك تماماً الذي شبهه محمود درويش بأنه استرجاع الفصل الأجمل في الحكاية، تشير الاختصاصية النفسية الدكتورة رندة رزق الله: “أن البشر مسكونون بالماضي، هي حقيقة لا يمكن إنكارها، فالإنسان يتميز عن باقي المخلوقات بالذاكرة الواعية، والذاكرة الانفعالية، أي تلك الذاكرة التي تسترجع الأحداث كصور وإحساس، فكل حدث يعيشه الإنسان يترافق مع حالة انفعالية، ويخزنه في مراكز الذاكرة الواعية، التي تتذكر تسلسل الأحداث والأسماء والأماكن والأشكال. مركز الذاكرة الانفعالية مسؤول عن مشاعر كالفرح والحزن والغضب والقرف وغيرها، لذلك عندما يشعر الناس بالحنين إلى الماضي
أي إلى العواطف والحالة الانفعالية التي رافقت أجزاء من ذلك الماضي كأماكن محددة، وصور، وأشخاص، وروائح وطعام وجلسات معينة، والإحساس بالفرح والراحة والأمان في الماضي. لذلك عند استرجاع الذكريات يشعر الفرد بمزيج من المشاعر بين الحزن لفقدانها والفرح لتذكرها، ووفق بنية الشخص النفسية يتم التفاعل مع هذه الذكريات؛ فالمكتئب يستدعي الذكريات ويحن للماضي حزيناً على فقدانه ومبرراً كآبته الحالية.”
ربما هذا مايبرر سبب شعور الكآبة التي تعيشه أم فادي وهي من ريف حمص، حيث هاجر كل أبنائها إلى أوروبا، وبقيت مع زوجها في منزل فيه 4 غرف. ومع ضحكة مصطنعة تقول إنه لو لديها مصباح علاء الدين فستطلب منه أن يعودَ كل أبنائها وتعود لتطبخ بأكبر طنجرة لديها.
يُردد كثير من الناس في سوريا خلال أحاديثهم اليومية عبارات تحسد من فقد الذاكرة من مثل: “أحسنلوا ماعد تذكر شي،” كمؤشر على رغبة الناس على الهروب من الحاضر.
رزق الله ع العربيات!
“يالطيف وين صرنا”! جملة تسمعها صباحاً أمام طابور للحصول على إحدى الحاجيات الأساسية كالخبز، أو خلال ساعات الانتظار لوسيلة نقل ما، وفي هذا السياق يشتاق فجر ابن مدينة السويداء وخريج الفنون الجميلة، لأن يجلس في “السرفيس بكرامة” كما قبل 2011، ويشتاق لأن يدفع 100 ليرة أجرة التكسي، ويضيف: “رزق الله ع العربيات”. بينما اشتاقت صفاء من الحسكة لطفولتها الهنية يوم كانت أقصى الهموم شراء لعبة أطفال جميلة. أما آية ابنة ريف جبلة فتشتاق لجمعات العائلة والحنان الموجود سابقاً في بيوت الأجداد، وتشتاق لأقرباء شباب توفى الله بعضهم والآخرون هاجروا. هنا لا يمضي يوم على المواطن السوري دون ذكر قبل الحرب، والشوق، الغالبية يشتاق لبيت هجره، وأخٍ فقده، وأصدقاء هاجروا، لحب سببت الحرب بانتهائه بالانفصال عنوةً بسبب تطرف المواقف أو تطرف القدر الذي أفقد أحد الطرفين حياته، وهذا شعور المهندسة هلا (33 عاماً) والتي تشتاق لحبيبها السابق الذي أخذه القدر منها في معارك إدلب، وبالطبع في الضفة الأخرى صبية تستذكر حبيباً كان ضحية ذات الجبهة العسكرية.
ما بشتاق!
يهرب البعض من التفكير بالماضي القريب رغم ندرتهم، تشير فرح (27 عاماً) وهي مدرسة لغة إنجليزية، أن فترة قبل الحرب هي مرحلة زمنية بعيدة جداً، لا تستطيع أن تعود بذاكرتها لها، لأنها ستمر على مرحلة القذائف والمفخخات في العاصمة وغيرها. بينما لا تحن آية (25 عاماً) من مدينة حلب لشيء أبداً قبل الحرب، لذلك تحاول أن تفكر بيومها فقط. وهنا تنوه الاختصاصية النفسية رندة رزق الله أن في الحروب يعيش الإنسان حالة مؤلمة لا يرغب بشيء سوى الخلاص منها، وخصوصاً الشباب والشابات الذي يكون ماضيهم مكوناً من سلسلة أحداث مؤلمة ومخيفة ومقلقة لن يفكروا بالعودة إليها يوماً، وستبقى بقعة سوداء مظلمة يسعون كل باقي حياتهم للتخلص من آثارها. وتنوه رزق الله إلى أن للحرب أيضاً دورها في حالة عدم الشوق الذي يعيشه بعض الناس عبر حالة انفصال عن الماضي وكأنه صدمة متطاولة، غير معروفة النهاية، وهذا تماماً ما كانت تعانيه رشا (40 عاماً) وهي تعمل كربة منزل وتؤكد أنها لا تشتاق لشيء فلم يكن هناك شيء جميل سابقاً ولا اليوم سوى ابنها التي تربيه “كل شبر بندر”.
شبيك لبيك!
في قصة مصباح علاء الدين يصيح المارد من شاشات التلفزيون “شبيك لبيك أنا بين إيديك”، ليأخذ المشاهدين بالخيال لمشهد محبب، لكن جلّ طلبات من التقيناهم لو صادفوا مارد مصباح علاء الدين في حياتهم الواقعية اقتصرت على أمنية الاستقرار الاجتماعي، والعودة لبيت دمرته الحرب، والعودة لزمن فيه قيمة شرائية للخمسين والعشرين ليرة . وفي هذا السياق تُشير الاختصاصية الاجتماعية سمر أيوب أنه في حالات الحرب والفقدان تكون العودة للماضي مريحة للتكيف الاجتماعي بالحاضر، وخصوصاً إن شاهد المرء أو صادف عزيزاً على قلبه، لكن أحياناً تحتاج هذه المرحلة الشوق والحنين للماضي “النستولوجيا” لتدخل الاختصاصي النفسي.
منذ عشر سنوات، كان الحنين في سورية يقتصر على الاشتياق لطبخة تراثية في قرية أو مدينة سورية، نسيتها النساء حديثات العهد بسبب تطور الثقافات واختلاطها. في ذلك الزمن كان حنين العشاق يقتصر على جلسة سمر مع أم كلثوم وحبر رسالة على ورقةٍ بيضاء دون مسنجر وماشابه ذلك من طقوس رومانسية. أما منذ سنة 2011 وحتى الآن فتغير الحنين مع رياح البلاد السياسية وأصبح لأشياء تبدو بعيدة المنال لكنها كانت اعتيادية عقداً مضى من الزمن.
بواسطة Yazan el-Haj | مايو 9, 2021 | Culture, غير مصنف
من بين مئات القصص التي كتبها أنتون تشيخوف طوال قرابة ربع قرن، يختلف القرّاء حيال القصة الأعظم أو حتّى القصة المفضّلة. لا بدّ من قصص عديدة تتنافس، وعلى الأرجح أنّ تلك الخيارات ستتغيّر بتغيُّر الزّمن وبتغيّر خبرة القرّاء وتجاربهم وأعمارهم. قد لا يكترث المهووسون بأعمال تشيخوف – وأنا منهم – بتلك الأفضليّات، إذ أجد المتعة ذاتها حين أعيد قراءة قصص أولى مثل «المقلب» (1882) و«موت موظّف» (1883)، أو قصص أخيرة مثل «الأُسقف» (1902) و«الخطيبة» (1903)، إلا أنّ لي تفضيلاتي بطبيعة الحال. المفضَّلات، بالتّعريف، غير مرتبطة بالأفضليّة، إذ أُدرك أنّ «وحشة» (1886) ليست من أفضل أعماله، غير أنّها تحضر في ذاكرتي دومًا حين يرد اسم تشيخوف. حتّى تولستوي له تفضيلاته التي قد تثير الدّهشة أو العجب؛ كانت «حبّوبة» (1899) قصّته التشيخوفيّة المفضّلة؛ ليس هذا بغريب، إذ تبدو بطلة القصة أولنكا إحدى مخلوقات فردوس تولستوي العجيبة حيث الطِّيبة التي تُقارب السذاجة هي أقصى درجة سموّ يمكن للإنسان أن يبلغها؛ إلا أنّ تفضيلاته المسرحيّة مكمن دهشتنا: لم يكن تولستوي من المتيّمين بمسرح تشيخوف، وعبّر عن رأيه هذا صراحةً لتشيخوف في مناسبات عديدة. كان تشيخوف يأخذ آراء تولستوي المسرحيّة بروح رياضيّة وحسّ فكاهة عالٍ، إذ ما الذي يمكن توقّعه من الشّيخ الذي يمقت مسرحيّات شيكسپير؟ ولكنّ تولستوي كان يحبّ مسرحيّة «الدب» (1888) التي لا يمكن لأحد، حتّى تشيخوف نفسه، أن يضعها ضمن المسرحيّات الأفضل. كانت مسرحيّة هزليّة، بصرف النّظر عن رهافة كاتبها الذي عبّر بسخريته اللاذعة أنّ غجريًا بدبٍّ حقيقيّ سيعجز عن بلوغ النّجاح الماليّ الذي حقّقه دبّ تشيخوف المجازيّ؛ بيد أنّ تولستوي كان يقهقه حين شاهدها. تستحق المسرحيّة التي حظيت بقهقهات تولستوي النّادرة أن نقرأها أكثر وأن نحبّها أكثر، كما هي حال قصّة «حبّوبة» التي حرّضت دموع أعظم الكتّاب الروس.
أما من تناقض بين عدم اكتراثك لأفضليّات القرّاء وبين حرصك على تتبُّع مفضّلات تولستوي كي نضعها محكًّا لإعادة قراءة أعمال تشيخوف وإعادة تقييمها، عزيزي المهووس بأعمال تشيخوف كلّها كما ادّعيت؟ ربّما! غير أنّ هوسًا لا براء منه، مثل هوس المراهقين بنجوم التّمثيل، أو هوس تلاميذ المرحلة الابتدائيّة بمعلّمة الإنگليزيّة (معلّمة العربيّة في حالتي!)، ينتابنا ويحكمنا حين نعرف تفضيلات الكتّاب لأعمال غيرهم من الكتّاب بالرغم من إدراكنا أنّنا لن نفهم أسبابهم بطبيعة الحال. هو الوله ذاته (أو لعلّه وَلهٌ مضاعف) الذي ينتابنا حين نعرف تفضيلات الكتّاب أنفسهم لأعمالهم. صحيحٌ أنّ الكتّاب، في الغالب، أسوأ من يقيِّم أعمالهم الخاصة، إلا أنّ هذه الحقيقة نافلةٌ. لن تتغيّر آراؤنا حيال الأعمال الأعظم: «الملك لير» هي «الملك لير» حتّى لو صدقت الأقوال التي تشير إلى أنّ شيكسپير كان يفضِّل «اغتصاب لوكريس» عليها، غير أنّنا سنقرأ «لوكريس» بأعين جديدة بعد أن نعرف هذه الشّائعة. أما تشيخوف فقد رأى أنّ «الطالب» (1894) ليست قصّته المفضّلة من بين أعماله وحسب، بل تطرَّف في رأيه حين عدَّها أقصى نموذج كمال لأعماله. لا تتجاوز القصّة بضع صفحات بحبكةٍ بسيطة: طالب لاهوت يتجوّل ليلًا في الجمعة العظيمة ويلتجئ من البرد القارس إلى كوخ أرملتين ليتدفأ قليلًا، فيروي لهما قصة الجمعة العظيمة ودموع بطرس بعد أن أنكر يسوع، ثم يتابع طريقه شاقًا الظّلمة بعد أن تلمَّس نور المعرفة حين ربط بين الماضي والحاضر بخيوط لامرئيّة مثَّلتْ صلة وصل مدهشة بين دموع بطرس المريرة ودموع الأرملة الأم، فتغمره بهجةٌ غريبة يغبطها عليه تشيخوف نفسه، ويضعها نموذجًا يتحدّى به النقّاد الذين يتّهمونه بالتّشاؤم.
لا نجد دارسًا أو ناقدًا للأدب الروسيّ يصرّح بأنّ القصة إحدى درر تشيخوف، غير أنّنا نجد نبرةً عقلانيّة ترفع من شأن القصة بدعمٍ من خيوط لامرئيّة أخرى تربط الماضي بالحاضر، حين يتلمّس النقّاد والقرّاء عون تشيخوف فتسمو القصة لأنّها مفضّلة تشيخوف. نجد نبرة موضوعيّة لدى إرنست سمنز، أحد أهم مرجعيّاتنا في الأدب الروسيّ، الذي يشير إلى أنّ تشيخوف «وصل إلى ذرى الكمال في التّناغم المُحكَم بين الشكل والمضمون، وبين النّبرة والجوهر، التّناغم الذي لا بدّ أن تولستوي قد فكَّر فيه حين عدَّ تشيخوف پوشكن الرّوس في النّثر.» علاقتي الشخصيّة بقصة «الطالب» أقلّ موضوعيّة من سمنز، إذ باتت العمل الأوحد الذي يبرق في ذاكرتي بوصفه مرادفًا للجمعة العظيمة وصلب يسوع. أهو سحر تشيخوف أم سحر تلك الخيوط اللامرئيّة التي نتلمّسها حين نقرأ القصة ونعيد قراءتها بالتّوازي مع سرديّة الجمعة العظيمة؟ نجد حضورًا أكبر للقصة لدى القرّاء الغربيّين بطبيعة الحال، إذ لا نجدها في مختارات تشيخوف العربيّة الأشهر التي ترجمها أبو بكر يوسف، مع أنّه يشير إليها في مقدّمة ترجمته بوصفها واحدةً من أهم قصص تشيخوف. لا نعلم ما إذا كان الحذف من يوسف نفسه أم من دار «رادوگا» بسبب النّبرة الدينيّة للقصة التي لم تكن لتتلاءم مع توجّهات الدور السوڤيتيّة. نقصها فادح ضمن أيّة مختارات لتشيخوف، إذ قدَّم فيها جوًا فريدًا لا نجده في أعماله الأخرى: ليست نبرة دينيّة بالمعنى المتعارف عليه بل نبرة روحانيّة تُعيد قراءة قصة الصلب بوصفه لحظةً أدبيّةً فارقة. يسوع هنا رمز فداء بقدر ما هو رمز للحظات الموت التي يكون فيها المحتضر وحيدًا حتّى لو كان ابن الله. جوّ قريب من أفكار تولستوي التي شهدت مدًا وجزرًا متواصلين عند تشيخوف؛ جو قريب من يسوع تولستوي: يسوع عِظة الجبل، يسوع البشريّ لا الإلهيّ، وكذا الأمر بالنّسبة إلى بطرس الذي نجد صورته البشريّة الهشّة لا صورة الحواريّ المعصوم. كان تشيخوف شحيحًا في التّصريح عن أفكاره الدينيّة، ولذا نجد لرسالته إلى أحد الأصدقاء عام 1899 إبّان تدهور صحة تولستوي أهميّة كبرى في قراءة أفكار تشيخوف. أحسَّ تشيخوف آنذاك بوطأة الخواء الذي سيتهدّده لو مات تولستوي، ولذا كشف عن أفكاره الدّفينة: «لستُ مؤمنًا، غير أنّ إيمان تولستوي هو الإيمان الأقرب إليّ والأكثر تناسبًا مع أفكاري من بين جميع الإيمانات.» لا نعرف رأي تولستوي بقصة «الطالب»، إلا أنّنا ندرك مدى تأثّر تشيخوف بيسوع التولستويّ (الذي بات يسوعًا تشيخوفيًا بعد أن أعادت أصابع تشيخوف الذهبيّة تشكيله من جديد) حين نقرأ القصة بتمعّن.
القصة التي تبدو في القراءة الأولى (وتُقدَّم في القراءات النقديّة) ميتا-حكاية، حكايةً داخل حكاية، تعيد صياغة نفسها مع إعادة القراءة، على الأخص حين نقرأ الشّخوص بكونهم عناصر أخرى من عناصر الطّبيعة التي تتجاوز دور الخلفيّة الضيّق الذي يؤطّر القصة لتصبح هي القصة في ذاتها. ليست «الطالب» محض ميتا-حكاية، بل هي أقرب إلى ماتريوشكا تنطلق من الجمعة العظيمة ودلالاتها، لتصل إلى دواخل الشّخوص ببراعةٍ تشيخوفيّة مدهشة تومئ ولا تُصرِّح حتّى حين يبدو تشيخوف شديد الوضوح. يعيد تشيخوف عرض الجمعة العظيمة ضمن سياق الحاضر، حين ينقل أورشليم إلى غابة روسيّة في دراما موجزة ثاقبة. يُمهّد للقصة بتمهيد اعتياديّ: «كان الجوّ لطيفًا وهادئًا بادئ الأمر.» ومن ثمّ تبدأ الدراما مع انقلاب الطّقس إلى رياح وبرد وظلمة وقفر لا يُسمَع فيه إلا عويل الريح وخطوات الفتى الذي يمضي بهدوء إلى النّور. ظلمة تامة ما خلا بصيص نار شاحبة في كوخ الأرملتين. يكتفي تشيخوف بسكتش حياديّ سريع يصف الأرملتين، فندرك لاحقًا أنّهما تعرفان الفتى، إذ يبدو أنّه يمرّ بهما يوميًا في طريق عودته، غير أنّ اليوم يوم مختلف، لا لكونه الجمعة العظيمة، بل لأنّ أوان انقشاع العتمة في عيني الفتى قد آن. يلجأ الفتى المقرور الجائع إلى نيران الأرملتين ويبدأ حكايته. اللافت أنّ الفتى لا يتحدّث عن يسوع، بل عن بطرس، عن دموع بطرس بعد أن أنكر معلّمه. جمعة تشيخوف العظيمة ليست «لجمعة العظيمة»، بل جمعةُ شهود تلك الجمعة العظيمة. يُخطئ الدّارسون حين يشيرون إلى «سذاجة» حكاية الفتى لأنّها تبدو – برأيهم – متخبّطة التفاصيل، فيما هو في واقع الحال ينتقي تفاصيل بعينها من روايات الأناجيل الأربعة ليعيد سرد الحكاية وتأويلها. حكاية الفتى حكاية عتمة، ودموع، وندم، وهجران. تبدو التّفاصيل الإنجيليّة الاعتياديّة باهتةً ونائيةً حين يرويها الفتى بهدوء محايد وهو يتدفّأ، غير أنّ الدموع تُباغته، دموع بطرس ودموع ڤاسيليا الأرملة الأم، فيبدأ إدراكَه الواعي لما رواه لاوعيُه.
حكايته الأولى هي حكاية اللاوعي المكرورة التي تُردَّد في كلّ عِظة في الجمعة العظيمة: «يقول الإنجيل: فخرج بطرس إلى خارجٍ، وبكى بكاءً مرًّا.» غير أنّ الدّموع كانت مفتاح الوعي الذي قلَبَ الحكاية بأسرها: «بوسعي تخيُّله خارجًا هادئًا جدًا، مُعتمًا جدًا، ونشيجٌ مكتومٌ بالكاد يُسمَع.»
ما كان الفتى ليدرك معنى الحكاية حتّى حين كان هو من رواها إلا حين خرج هو أيضًا إلى خارج، حين خلَّفَ الدّموع وراءه وعاد إلى الظّلمة القارسة: «خيَّمت العتمة عليه من جديد، وبدأت كفّاه تتجمّدان. هبَّت ريح قاسية، عاود الطّقس الشتائيّ الحقيقيّ حضوره مرةً أخرى، وما بدا أنّ أحد الفصح سيحلّ بعد غدٍ.» بدا الأمر وكأنّ الزمن الذي يفصل الجمعة العظيمة عن أحد الفصح ليس يومين فقط، بل فصل كامل بين شتاءٍ وربيع، أو ربّما أبدٌ بين ماضٍ ناءٍ وحاضرٍ ينزلق من بين الأصابع. وحينما أدرك الفتى نسبيّة الزمن، بدا الأمر وكأن أحد الفصح قد تمثَّل له وحده من بين جميع الآخرين الذين ما زالوا يتخبّطون في العتمة.
يخطر لنا أن نتساءل: أين يسوع هنا؟ يسوع حاضر منذ بداية الحكاية-داخل-الحكاية إلى نهايتها، وإنْ كان حضورًا شفيفًا غير مباشر. يشير تشيخوف عَرَضًا إلى العمّال الذين عادوا إلى بيوتهم القريبة من كوخ المرأتين؛ أشخاص بعيدون بالرغم من قربهم، كما كان جمهورُ الشُّهود على الصلب غائبين وهم حاضرون. الظَّلمة التي غطَّت الأفق، كما نراها في الرواية الإنجيليّة، هي الظلمة ذاتها التي طوَّقت الجميع في قصة «الطالب»، ظلمة الخواء والقفر والبرد والصمت المتواطئ، فيما كان من صُلب قد صًلب، ومن بكى قد بكى. كان يسوع وحيدًا في آلامه ما خلا حضور المريمات اللواتي يُشار إليهنّ إشارةً عابرةً في الأناجيل. مريمات يسوع هنّ الشُّاهدات الوحيدات الفعليّات في الجمعة العظيمة بآلامهنّ ولوعتهنّ، كما الأرملتان في قصة تشيخوف الشّاهدتان الوحيدتان في الجمعة العظيمة الجديدة التي يعيد الفتى روايتها. أما الباقون فيواصلون حياتهم وكأنّ شيئًا لم يكن. ما كانت دموع بطرس لتُسمَع في وطأة الصمت المًعتم، إلا أنّ دموع ڤاسيليا ولوعة لوكيريا حطّمت صمت العتمة الجديدة، فحرّضت الفتى على نسف العتمة وتلمُّس النّور.
«شرع يغمره شيئًا فشيئًا إحساسُ صبا، وصحّة، وقوّة – كان في الثانية والعشرين فقط – مترافقٌ مع استبشارٍ، يفوق الوصف، بقدوم سعادة، سعادةٍ غريبةٍ غامضة. وبدت الحياة فاتنةً، مدهشةً، متشرّبةُ بمغزًى سامٍ.» تلك هي خاتمة القصة التي يعقّب عليها هارلد بلوم بأنّ تشيخوف أدرك ربّما مضيّ ثلاثة أرباع عمره حين أشار بمرارةٍ إلى عُمر الفتى. كان تشيخوف في الثالثة والثلاثين حين كتب قصة «الطالب» (كان عنوانها الأول شديد الإيحاء: «مساءً»، غير أنّ تشيخوف غيّره لاحقًا)؛ كان بعُمر يسوع، وكانت هذه القصة أولى القصص التي كتبها في يالطا التي كانت المكان الذي أرَّخ سنوات المرض الذي سيفتك بتشيخوف بعد أحد عشر عامًا. أميل شخصيًا إلى أن الأمر أكبر من محض إحساس تشيخوفيّ مرهف بدنوّ الموت. نتذكّر أن يسوع – الذي مات في الثالثة والثلاثين – هو ذاته يسوع النبيّ الوحيد الذي لم يُقدَّر له عيش الحياة. عاش جميع الأنبياء الآخرين حيواتهم طولًا وعرضًا، زواجًا ومالًا ومكانةً وجيوشًا، ما عداه، مع أنّه ابن الله، روح الله، كلمة الله، أو أيًا تكن الصفة التي يفضّل كلّ قارئٍ اختيارها تبعًا لمعتقده. لعلّ قصة الجمعة العظيمة أكبر من محض تذكير بالدموع والصلب والدم واللوعة والفاجعة. ثمّة أمرٌ آخر أصغر ربّما، أو لعلّه أعظم: حين نتذكّر سنّ الثالثة والثلاثين ندرك متأخّرين كم أهدرنا من أعمارنا. ما من شيءٍ يعوّض تلك السّنوات، ولا حتّى دموع بطرس. يصرّ تشيخوف أنّ قصته تنسف التّشاؤم الذي ألصقه النقّاد بأعماله، إلا أنّ نبرة ملانخوليا شفيفة تغمر الخاتمة والقصة بأكملها. ربّما كان تشيخوف قد أدرك دنوّ الموت، ولكنّه – حتمًا – غبط الفتى على ما لم يُتَح لتشيخوف، ولنا، إدراكه باكرًا. كان الفتى في الثانية والعشرين فقط حين تلمَّس النّور. نحن تأخّرنا، إنْ كنّا قد تلمّسناه.
*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.