بواسطة Salon Syria Team | أبريل 5, 2021 | Roundtables, غير مصنف
انقلبت حياة أغلب السوريين على اختلاف توجهاتهم وطبقاتهم، في العقد الماضي، وتخللها العديد من المآسي كالقتل، والتهجير والنزوح والهجرة والخسارات التي لم تترك جانباً في حياتهم إلا وأصابته.
يكتب المهاجرون قصائد نوستالجيا عن الوطن، ويرد عليهم من بقوا فيه بأن ما يشتاقون إليه لم يعد موجوداً، فالقهر احتل الشوارع بدل طاولات المقاهي الصغيرة، وافترشت عائلات نازحة حدائق العشاق، وعبق الموت غطى على رائحة الياسمين وأزهار الليمون.
ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا توجد عائلة سورية واحدة بقيت حياتها كما كانت قبل عشر سنوات، سواء كانت تعيش تحت سيطرة الحكومة أو الإدارة الذاتية أو المعارضة المسلحة.
فبحسب برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة فإن ١٢.٤ مليون سوري وسورية يكافحون للحصول على وجبة رئيسية، أي ما يقارب ٦٠٪ من السكان.
وعدا عن الاحتياجات الرئيسية، هل يوجد أية عائلة لم تعاني من الوحدة والغربة وهي تحضر عزاء أحبتها أو أفراحهم خلف الشاشات الباردة؟ هل تستطيع أية عائلة أن تجتمع كاملة في الأعياد على مائدة كبيرة، دون تخطيط استراتيجي يتضمن آلاف الدولارات وتأشيرات دخول وبطاقات طيران وإذن سفر وإقامات وعشرات المعاملات الورقية؟
لتسليط الضوء على ما يشتاق له السوريون بعد عشرة أعوام قلبت بلدهم رأساً على عقب، يعد “صالون سوريا” طاولة مستديرة لمناقشة ذلك، ويدعو الكتاب والخبراء، إلى مناقشة المواضيع والقضايا التالية:
١- كيف ينظر السوريون في الداخل والخارج لحياتهم قبل عشر سنوات؟ وكيف تغيرت هذه النظرة بعد ما مروا به؟
٢- ما هي التغيرات التي لم يتوقع السوريون حدوثها على الإطلاق قبل عشر سنوات واضطروا لعيشها؟
٣- هل كان للسوريين هوية جامعة قبل عشر سنوات؟ ما الذي كان يجمعهم؟ وماذا حصل لهذه السرديات الجامعة الآن؟
٤- هل يمكن أن يتعايش السوريون في المستقبل؟
٥- ما أكثر ما يشتاق إليه السوريون في حياتهم السابقة؟
٦- ”كنا عايشين“ عبارة خلافية بين أطراف النزاع السوري، فبينما يؤمن بها البعض، يراها آخرون مهادنة للندم على طلب الحقوق والانتفاضة، فهل ”كنا عايشين“ حقاً؟
٧- هل كان النسيج الاجتماعي متماسكاً فعلاً قبل عشر سنوات أم مجرد مظاهر سطحية للعيش المشترك؟
يتطلع فريق ”صالون سوريا“ لاستقبال المواد لمناقشة هذه الأسئلة.
ستنشر المواد الواردة تباعاً وتفعل روابطها:
الفقد: كلمة لن نجدَ غيرَها
لشو بتشتاق “رزق الله عسنة الـ٢٠١٠”
كيف سيتعايش السوريون: هوية جامعة أم هويات متعددة؟
الجيل الجديد في سوريا ومفهوم الانتماء إلى الوطن
بواسطة Hasana Saqbani | أبريل 4, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
تُشكل الحوالات المالية مصدراً أساسياً للدخل الشهري لكثير من الأسر السورية التي تعتمد عليها لتأمين احتياجاتها المعيشية في ظل انخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، إلا أن المعاناة تلاحق المواطن السوري حتى في استلام الحوالة المساندة التي يتلقاها من أقربائه في الخارج اذا أراد استلامها من خلال شركات الصرافة والتحويل المرخصة رسمياً أو حسب سعر الصرف الرسمي في ظل الإجراءات المتخذة لتقيد التحويل.
تُعد الحوالة المورد المادي الوحيد التي يحمي صاحبه من العوز بالنسبة لأشخاص كُثر داخل سوريا، كحال ماريا (41 عاماً) التي تسكن هي وشقيقتها في منزل مستأجر، وتشكل الحوالة المالية التي تتلقاها من أخيها المتواجد في ألمانيا السند الحقيقي في الفترة الراهنة حسب تعبيرها. تتحدث ماريا عن وضعها: “أعتمد بشكل كلي في تغطية نفقاتي على المبلغ الذي أتلقاه في بداية كل شهر من أخي الذي هاجر بسبب ظروف الحرب لأن المورد أصبح شبه معدوم، ليس لدي أي نوع من المدخول و لو أن الحوالة غير موجودة لا أعرف ماذا كنا سنفعل، أحاول الاقتصاد قدر الإمكان في النفقات وتدبير الأمور بحكمة لكي يكفي المبلغ لنهاية الشهر”.
وتوضح ماريا طريقة حصولها على الحوالة: “نتعامل مع أشخاص حيث يتم تحويل المبلغ بصورة غير رسمية وإرساله باليورو واستلامه بالليرة السورية، ويُحتسب المبلغ حسب سعر السوق السوداء مع أجور تحويل بين 3-5 في مائة، وهذه هي الطريقة الأنسب حتى لا أخسر جزءاً كبيراً من المبلغ بسبب القرارات العبثية التي يضعها أصحاب القرار لسلب مساعدات الناس من أقاربهم”.
من جانبها دانيا (26 عاماً) وهي خريجة كلية الحقوق تقول: “مجال دراستي يتطلب إذا دخلت المحاماة التدريب لمدة سنتين بشكل غير مأجور لذلك ليس هناك وارد مادي بشكل نهائي، أحصل على حوالة شهرية 400 ألف ليرة أحاول من خلالها تغطية المصاريف الشخصية، في الفترة الراهنة من له شخص خارج سوريا قادر على دعمه مادياً هو الشخص الذي يستطيع الشراء وتحريك السوق.”
وأضافت دانيا: “وضع الحوالات حساس في الفترة الراهنة فإما ارسال الحوالة بالطرق الرسمية وهذا يعني خسارة نصفها، فاستلام الحوالة يكون إما في الشركات الخاصة التي تسلم المبلغ على سعر 2200 ليرة سورية للدولار الواحد في حين السعر الحقيقي يصل لحد 4400 ليرة سورية بمعزل عن أجور التحويل التي تقارب 10 بالمائة من المبلغ الإجمالي، أو الاعتماد على أشخاص تعمل في هذا المجال وأجدها خطيرة لأني لا أعرفهم بصورة شخصية، لذلك نعتمد على استلام الحوالة المالية عن طريق الأقارب لاعتبارهم أضمن، فترسل كأمانة مع شخص يكون في زيارة إلى دمشق”.
السعر الرسمي يبدد موارد مهمة للعملة الأجنبية
المسؤولية تقع على عاتق المصرف المركزي لإيجاد آلية يوحد من خلالها السعر مع السوق السوداء لتعود الثقة ويتم التحويل بالطرق الرسمية حسب ما أوضحت الدكتورة منال شياح وهي دكتورة في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق وأضافت: “لاشك أن الحوالات المالية تشكل دعامة وإفادة للبلد ولكن ما يحدث على أرض الواقع أنه عندما يتم التحويل المالي إلى سوريا يتم التحويل بالسعر الرسمي ويصل إلى الناس بصورة أقل بكثير من السوق السوداء، لذلك معظم الحوالات لا تدخل بصورة رسمية وإنما بالطرق غير المباشرة أو التهريب، لذا يجب إيجاد آلية لرفع سعر الصرف الرسمي أو إحداث مقاربة في سعر الصرف بالنسبة للحوالة، لكي لا تهرب الناس من التحويل الرسمي، وبالتالي يبدد موارد هامة من العملة الأجنبية”.
تشير الشياح إلى الفوارق الكبيرة في أسعار الصرف: “سعر المصرف المركزي لدولار الواحد 1250 ليرة، السعر الذي يصل للمواطن عن طريق شركات الحوالات الخاصة 2200 ليرة سورية، والسعر في السوق السوداء ما بين 4400 و 3700 ليرة للدولار الواحد مما يجعل الفوارق كبيرة جداً، لذلك يعتمد المواطن على طرق مختلفة مثل التحويل عن طريق المبادلة بين الأقارب في خارج وداخل سوريا، أو عن طريق أشخاص تمتهن تحويل الأموال بين البلدان حيث يتم دفع المبلغ بالعملة الأجنبية في الخارج ويصل بالليرة السورية حسب سعر الصرف في السوق السوداء، وفي كلتا الطريقتين القطع الأجنبي لا يدخل سوريا ولا يستفيد منه البلد بصورة نهائية، ويتم اللجوء لها لتفادي السعر الرسمي القليل والخسارة الناتجة عنها.”
قرارات المصرف المركزي غير صائبة
وعند الاستفسار عن أسباب عدم اتخاذ أي إجراء برفع سعر الصرف المركزي لتتمكن الناس من الإرسال عبر الشركات الرسمية، أشارت الدكتورة الشياح إلى أن: “ارتفاع سعر المصرف المركزي إقرار بانهيار الليرة السورية، وفي الحقيقة الانهيار الاقتصادي حاصل ولكن الكثير من المسؤولين وأصحاب القرار ليس لهم مصلحة برفع سعر الصرف لأنهم مستفيدون بشكل كبير. حالة الشلل الاقتصادية مرتبطة بالفساد المنتشر، سنبقى نعاني إلى أن نتخلص من الفساد، كل يوم نسمع بقضية فساد بمليارات، عندما نتخلص من الفساد ستكون القرارات الصادرة عن البنك المركزي صائبة وفي مصلحة البلاد”.
كما تشير الشياح إلى ضرورة رفع إجازات الاستيراد لـ 2500 ليرة وتوضح: “بين سعر المركزي وسعر السوق يوجد فرق 3500 ليرة فهؤلاء الأشخاص مستفيدون كثيراً لذلك يتم وضع عراقيل لكي لا تذهب الأرباح الطائلة التي يحصلون عليها. الفساد والاحتكار هما المعياران للحصول على إجازات الاستيراد لسلع أو مواد معينة في سوريا، فالاستيراد يكون على سعر الصرف 1250 ليرة والبيع على سعر 4500 ل.س وبالتالي تحقيق أرباح هائلة ليس من مصلحة المستفيدين من رفع سعر المصرف المركزي، فجميعهم أصحاب سلطة وبمكان صنع قرار.”
تجاوزت نسبة الفقر في سوريا 90 في المائة وحالة الشلل في الأسواق كبيرة، فالدعم عن طريق الحوالات يشكل طوق النجاة لكثر، نسبة الأشخاص التي تعتمد على الحوالات في نفقاتها تُقدر بحوالي 30 في المائة من السكان. يجب اتخاذ قرار برفع سعر التحويل في مجال الحوالات، وخاصة أنها مصدر موثوق بالنسبة للمواطن تفادياً لحالات النصب التي تحدث وللاستفادة منها في اقتصاد البلاد، وكذلك تعديل تسعيرة إجازات الاستيراد وخاصة أن الاستيراد للتجار يتم بسعر المركزي ويحصل عليه المواطن بسعر السوق السوداء، على عكس الحوالات التي ترسل له بالعملة الأجنبية ويستلمها على سعر الرسمي و يبقى المواطن الفقير هو الخاسر دائماً.
بواسطة الحسناء عدرا | أبريل 2, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
يتصدر الحصول على ربطة خبز بشق الأنفس عبر البطاقة “الغبية” وفق ما يسميها السوريون، طليعة أزماتهم اليومية وأشدها إيلاماً. حالة ازدحام خانقة تشهدها الأفران حتى ساعات الليل المتأخرة. نادراً ما تقع عيناك على وجه يرتدي كمامة أو أن ترى أحداً يتبع أدنى الإجراءات الوقائية من فيروس “كورونا” في نسخته الجديدة انطلاقاً من مبدأ المساومة بين الموت جوعاً أو بالفيروس، لتمتد ساعات الانتظار إلى أكثر من أربع ساعات متواصلة، إلا أنه في حالات استثنائية وعند ووجود “واسطة جوا الفرن” يمكن للمرء تجاوز الأدوار والمرور متخطياً العناقيد البشرية الملتحمة فوق بعضها، فهنا لكل شيء ثمن، لكن هناك من يعجز عن رشوة الانتظار، تراه يضبط جهازه الخليوي عند الساعة الرابعة فجراً لينهض منذ ساعات الشقاء الأولى لحجز مكان له في طابور الخبز الذي لا ينتهي، كي يفوز ببضعة أرغفة ساخنة تسد بطون أطفاله الخاوية بعد انتظار ذليل، لأنه لا يملك ترفي الاختيار والتململ. يقول أحدهم: “ببساطة، إذا ما نطرت، بناموا ولادي جوعانين وبيبكوا من الجوع “.
تقف أم عمر إلى جانب محل بزورية بانتظار خروج ابنتها ظافرة بزجاجة عرق سوس تحضيراً لقدوم شهر رمضان الذي يبدو أنه سيكون غير كريم هذا العام على خلاف السنوات الماضية. تستقبلها بشهقة طويلة لدى سماعها سعر العبوة الذي تضاعف ثلاث مرات، فيما لائحة الاحتياجات الأساسية تطول وتتمدد، تقول السيدة الخمسينية بحسرة: “أنفقت اليوم مبلغ ستين ألف ليرة على حاجيات صغيرة، منها ليتر زيت نباتي بـ 7 آلاف ليرة، بت أقنن استعماله وأستخدمه عند الضرورة القصوى، قلصت وجبات المقالي، لأستبدلها بالمشوي، كما اشتريت كيلو تفاح وآخر برتقال، بعد أن ألح أحفادي على شرائه بعد طول اشتهاء، ابني أيضاً لديه امتحانات ويجب أن يتناول بعض الفواكه”.
قاطعت السيدة مجبرة صنف البيض منذ أكثر من 15 يوماً لارتفاع سعره، ليوبخها الطبيب على فعلتها المشينة بحق صحتها، وتعقب: “أعاني من مرض هشاشة العظام، قاطعت الحليب والبيض، وبخني الطبيب على ذلك، لا أستطيع شرائهما، فسعر صحن البيض يصل إلى 6500 ليرة”. تختصر حديثها بالقول: “صرتي تخافي تطلعي برا البيت من كتر الغلا، كل يوم سعر جديد”.
أسعار اللحومات والخضار تحلق عاليا ًعلى إيقاع “الدولار” الذي يعتبر التعامل معه في العلن تهمة تقودك إلى السجن، بينما راتب الموظف الهزيل مازال على الليرة السورية،
فسعر كيلو لحم الغنم يصل إلى 28 ألف ليرة، وكيلو الدجاج 6 آلاف ليرة. هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار دفع العديد من الأسر السورية إلى إتباع سياسة التقتير وإزاحة الكماليات لصالح الضروريات القصوى، كحال أحلام التي اعتمدت على المأكولات الغنية بالخضار والإكثار منها في برنامج أسرتها الغذائي اليومي وتوضح: “لم أعد أذكر آخر مرة دخلت اللحمة منزلنا، أما الدجاج فمرة بالأسبوع، احتفظ بفروج في الثلاجة منذ 20 يوماً تحسباً لأي دعوة غداء مفاجأة”.
غير أن هذا الغلاء الفاحش لا يمكن أن تجد له أثراً على شاشات الإعلام المحلي، بل يختفي ويتلاشى تماماً عبر حركة خُلبية بـ”الكاميرا السحرية” التي تتجول في صالات البيع المباشر بحثاً عن لائحة أسعار غير منطقية لتبدلها بأخرى منطقية يتقبلها عقل وجيب المواطن، وما إن ترحل “الكاميرا السحرية” يُعاد تعليق لائحة الأسعار الحقيقة.
تتلقف سمر خبر ارتفاع سعر ليتر الزيت النباتي الذي وصل إلى 8 آلاف ليرة بالسخرية والتهكم قائلة: “أفكر جدياً بتعبئة الزيت في عبوة الكحول ورش الطعام بقطرات معدودة، الغلاء لا يصدقه عقل”.
أخذت التوابل والبهارات والمكسرات حصة الأسد من موجة الغلاء، إذ تفوق الصنوبرعلى الذهب، فوصل سعر الكيلو الواحد إلى 240 ألف ليرة، أي ما يقارب غرام وربع من الذهب. أصيبت أم عبدو بالدهشة لدى سماعها بسعر الوقية الذي وصل إلى 80 ألف، تقول والذهول يغزو معالم وجهها: “حتماَ، سيكون الدخل الشهري للشخص الذي سيشتري الصنوبر بالملايين، بالنسبة لي نسيته منذ دهر، واستبدلته بحبات فستق العبيد”.
أُلحقت أزمة الوقود بأخواتها، إذ أصدرت اللجنة المتخصصة بالمحروقات منذ عدة أيام قراراً بتخفيض حجم الكمية من المواد البترولية بالنسبة للسيارات بمعدل ما يقارب 50% في العاصمة دمشق، حيث خصصت للسيارات الخاصة والسياحية 20 لتر بنزين كل 7 أيام، أما بالنسبة للسيارات العمومية (تاكسي) فقد تم تخفيض الكمية إلى 20 لتراً وتعبئتها كل 4 أيام.
فيما شمل القرار السرافيس العاملة على الخطوط داخل العاصمة وإيقاف إمدادها بمادة المازوت أيام الجمعة. ويقول إبراهيم الذي يعمل سائق سيارة أجرة ظهراً وموظفاً صباحاً: “رفعوا سعر البنزين وماعادت توفي معنا، العالم ماعم تركب تكاسي، عدا عن نوعية البنزين السيئة، مخلوطة مع زيت وكلها شوائب”.
يعزو المحلل الاقتصادي شادي أحمد سبب تردي الأوضاع الاقتصادية في سوريا إلى “اختلال قوى الإنتاج نتيجة الحرب أولاً، والعقوبات الاقتصادية ثانياً، وخروج معظم الإمدادات كالقطن والنفط من سيطرة الحكومة السورية ثالثاً، الأمر الذي حول الاقتصاد السوري من اقتصاد يستورد كل شيء بعد أن كان يصدر معظم ما ينتج”. يوضح المحلل “أن الأسرة السورية وفق سلم النفقات باتت تحتاج إلى 3 منتجين لتتمكن من العيش، أي تشكل حوالي 80% من الدخل ينفق على الطعام والشراب وبعض الدواء بسبب غلاء الأسعار، بمعنى آخر لا تستطيع العيش بدخل واحد”.
وكانت صحيفة الوطن المحلية نشرت تقريراً صادراً عن “نقابات العمال” في بداية العام يوضح ارتفاع تكاليف المعيشة في سوريا بشكل غير مسبوق، حيث ذكر التقرير أن الأسرة المكونة من 5 أشخاص أصبحت تحتاج إلى 600 ألف ليرة سورية لسد نفقات المعيشة في الشهر، ليشير التقرير إلى تراجع القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود بنسبة 90% نتيجة الارتفاعات الكبيرة في أسعار المواد الأساسية التي وصلت إلى مستويات تجاوزت 1000%. في الوقت الذي أصبح هناك فجوة كبيرة بين الأسر السورية فهناك عائلات لا يتجاوز متوسط دخلها الشهري حاجز50 ألف ليرة سورية.
بواسطة Mason Al-Shaheen | أبريل 1, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
“كعادتي كل صباح أشرب القهوة أمام نافذة غرفتي المطلة على الشارع الرئيسي في المدينة، أراقب الغيوم الرمادية في السماء فأتوقع طقساً ماطراً؛ ثم أسأل نفسي ماذا عن طقس الشارع اليوم؟ أطالع وجوه المارة بحثاً عن إجابة فيتوقف نظري بالتحديد عند الصيدلية المقابلة لمنزلي، لا يكاد يخرج أحدهم منها حتى يدخل الآخر، حركةٌ من النشاط اللافت لا تشبه حالة الركود التي تعيشها البلد أو المحلات المجاورة لها والفارغة إلا من أصحابها، أستذكرُ اعتياد عائلتي منذ الطفولة على تقديم مساعدة مادية لصيدلية القرية في كل موسم أو مناسبة. أعود لأسأل نفسي ماذا عن صيدلية المدينة هل يمكنني فعل شيء؟ وقبل أن أنهي القهوة غادرت المنزل قاصدةً تلك الصيدلية وسمعت الإجابة التي أريد: “نعم بالتأكيد.”بهذه العبارات تحدثت راما (اسم مستعار) والتي تبلغ من العمر 26 ربيعاً وتقطن في مدينة جرمانا في ريف دمشق الجنوبي.
تعمل راما في مجال التدريب الشبابي وتكمل دراستها العليا في جامعة دمشق. تفكر راما في مدى الحاجة إلى الدواء، في حرب تدخل عامها العاشر، وتواصل إطلاق رصاصها على حياة السوريين بدءاً من انهيار الليرة السورية وما يرافقه من جنون في الأسعار، وصولاً إلى طوابير انتظار الخبز وليس انتهاءً بالوقود والدواء. هذا كله ووباء كورونا في أرض الديار والذي فاقم أزمة الأدوية من ناحية فقدانها أو ارتفاع تكلفتها، فبحسب مديرة الشؤون الدوائية في وزارة الصحة د. رزان سلوطة في تصريحات سابقة لها لوسائل إعلام محلية منذ مدة تقول: “هناك شح في بعض المواد الأولية التي نستوردها نتيجة أزمة كورونا وكثير من الدول أحجمت عن تصدير المواد الأولية لديها.” كما وتتحدث عن جاهزية المعامل التي تعمل بكامل طاقاتها لتأمين كافة أنواع الأدوية خاصة أدوية الضغط والسكري والقلب، ولكن ما أن ينتهي الحديث عن تغيب أو توافر بعض أصناف الدواء ليبدأ حول الارتفاع الكبير في أسعاره وتغيير التسعير من وقت لآخر ومن يوم لآخر إن صح القول.
خبايا الصيدلية
“الخير لو قليل بس موجود والدنيا ما بتخلا” هكذا بدأ السيد (منير) حديثه والذي فضّل عدم ذكر اسمه الحقيقي لأنه بحسب قوله “عمل الخير لا يحتاج أسماء.” ومنير صاحب واحدة من أقدم الصيدليات في جرمانا -هي ذاتها التي قصدتها راما- وعند سؤاله عن المساعدات المالية تحدث عن تردد ثلاثة أشخاص بشكل مستمر على صيدليته منذ ما يقارب ثلاث سنوات، يضعون لديه مبلغاً من المال كي يتم تقديم الدواء مجاناً للمرضى الذين لا يملكون ثمنه، وعند سؤاله عن المعايير التي على أساسها يقدم الدواء مجاناً يقول: “لا شروط ولا معايير هذا يعود للتقدير الشخصي للحالات” ويتابع حديثه؛ عند دخول سيدة كبيرة تسأل في البدء عن تكلفة وصفة الدواء الذي طلبه الطبيب فعندما يرى ارتسام علامات التردد والارتباك على ملامحها يدرك حينها ضرورة تقديم الدواء دون أخذ حقه ويقول للسيدة: “هذا الدواء من فاعل خير”.
ويذكر السيد منير أنه في بعض الحالات تأتي إحداهن وتسأله عن سعر الدواء وبعد معرفتها تخبره أنها ربما تعود ثانيةً فيحدثها عن ضرورة أخذ الدواء ويقدمه دون مقابل وإذا ما رفضت يقول لها: “الدوا ضروري لحالتك خديه وروحي يا حجة”، ذلك أنه حتى عند صرف كامل المبلغ الموجود في الصيدلية من قبل فاعلي الخير، تقديم الدواء مجاناً لبعض الحالات لا يتوقف عند صاحب الصيدلية الذي يقول عن إعطاء دواء لمريض دون مقابل “المريض بشوفها كبيرة كتير”.
كما يذكر أنه عند تقديم الدواء مجاناً لأحد أبناء المنطقة والذين يعرفهم بحكم عمر الصيدلية البالغ نحو 40 عاماً، قد يرفض أحدهم في البداية وذلك بسبب الحرج الاجتماعي لكنه يردد على مسامعهم أن ذلك من فاعل خير كي يخفف من وطأة الموقف عليهم.
بضع حبات تكفي
لا يقتصر الأمر على تقديم المال فقط فهناك العديد من العائلات التي تذهب إلى الصيدلية وفي جعبتها الكثير من علب الدواء المتنوعة التي تنقصها بضع حبات فقط وضمن مدة الصلاحية ليتم تجميعها في صندوق مخصص يتم تقديمه إلى جمعيات خيرية أو مؤسسات أو نشطاء الخدمة الاجتماعية في بعض الكنائس، إذ تملك هذه الجمعيات طبيباً مختصاً قادراً على فرز وتصنيف ووصف الدواء للأفراد الذين يرتادون هذه الجمعيات، كما يمكن تقديمه لبعض المرضى أيضاً وهذا موجود في أغلب صيدليات المنطقة بحسب السيد منير.
تناقضات صارخة
حيث يد الغلاء تضرب وتجرح في كل مكان تأتي يد الخير لتداوي أيضاً في كل مكان، هذا ما يؤكده حديث راما: “صديقتي في القرية التي أنتمي إليها في ريف السويداء الجنوبي افتتحت صيدلية جديدة وباتت تعرف العائلات والنساء الأرامل وأضع لديها مبلغاً من المال بالقدر الذي أستطيع”، وتابعت: “لست وحدي من يفعل ذلك، صديقتي الثانية في القرية محامية تعمل كل فترة على القيام بمبادرات شخصية كجمع مبالغ مالية منها ومن عائلتها وأصدقائها المسافرين في الخارج ووضعه في صيدلية القرية الأساسية خاصة وأنّ صاحبها يعرف كل أهل القرية وعلى دراية بالعائلات والأشخاص الذين لا يمكنهم دفع ثمن الدواء وتحديداً أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة كالضغط والسكري والقلب وبحاجة مستمرة إلى الأدوية، حيث يوجد في الصيدلية أيضاً صندوق مخصص للمساعدات المالية يتم دعمه بشكل كبير من قبل المغتربين.” كما تطرقت إلى عدم اقتصار المبادرات على الدواء، ففي شهر أيلول ومع اقتراب المدارس تم إطلاق مبادرات اجتماعية لدعم التعليم، وكمثال عن ذلك تقول المحامية ميرفت: “قمنا وأصدقائي المقيمين في الخارج بإنشاء مبادرة اجتماعية هدفها جمع التبرعات من أجل تجهيز كافة الطلاب في القرية، ولكافة المراحل التعليمية بالدفاتر والأقلام والكتب نظراً لغلاء القرطاسية ومستلزمات المدارس وكي لا يكون هناك فوارق طبقية بين الطلاب، وتشمل المبادرة تأمين متطلبات الفصل الأول والثاني”، علماً أن هذه المبادرة ليست الأولى فمع بداية الحجر الذي فُرض على البلاد في الشتاء الماضي قامت ميرفت وأصدقائها بتأمين سلال غذائية للعائلات المحتاجة في القرية حسب ما روت.
إننا محكومون بالدواء
من الجدير ذكره أن المبادرات التي تقوم بها الجمعيات والمنظمات وخاصة المبادرات الفردية والشبابية ازدادت في الفترة الأخيرة في سوريا خاصة في ظل الظروف التي فرضها كورونا والحاجة إلى الأدوية بمختلف أصنافها، إذ يبدو الاستئذان من المسرحي السوري سعدالله ونوس صاحب مقولة “إننا محكومون بالأمل” وارد جداً الآن، فبعد مضي نحو 24 عاماً على مقولته تلك وفي عصر الوباء بات القول اليوم “إننا محكومون بالدواء”، لا سيما في بلد يشهد حالة من الانهيار الاقتصادي وانخفاض مقومات الحياة وارتفاع الأسعار الجنوني ما قد يعني إصابة أفراده بضغط الغلاء لا الدم فقط، وفرط الجوع لا السكري فقط، لكن كما هو الحال في علاج كورونا حيث لا قدرة إلا على معالجة الأعراض لا الأسباب، هكذا تأتي مبادرات السوريين على الصعيد الشخصي والاجتماعي لتكون مسكّناً يساعد في الصبر على آلام المعيشة وتضييق الخناق.
بواسطة Yazan el-Haj | أبريل 1, 2021 | Culture, غير مصنف
«أتجنّبُ جلسات تحضير الأرواح، لأنّها تُقلِقني، وأفضِّل أن يتحدّث الموتى إليّ عبر صفحات مطبوعة». كذا كان رأي هارلد بلوم عام 2002، إلا أنّه لم يُبدِ القلق ذاته حين اقترب موعد رحيله عام 2019. لا أظنُّ أنّه بات أقلّ تشكُّكًا، بقدر ما بات أكثر غرقًا في الحنين، في الذكريات، في ترقُّب لحظة الموت، في محاولة تجربة اللقاء قبل اللقاء، في مسامرة الموتى قبل أن نصبح نحن موتى كيلا نتعثّر في ارتباكنا حين نلقاهم. يلفتني الآن أنّ أكثر ما يؤلمني عند قراءة بلوم تناولُه للموت، أكان تجربةً شخصيّة أم تجربة قراءة. وكأنّنا سنخفّف وقع الموت حين نشرِّحه، سنفهمه أكثر حين نناقشه. أعترف أنّي أخفق دومًا في فهم هذا الدرس الأخير. أنا تلميذ ميؤوس منه في كلّ ما يتعلّق بالموت وبالفجائع. أتلقّى الفاجعة كلَّ مرة كما لو كنتُ لن أتلقّى غيرها، وأُجفِل من تلقّي نبأ الموت كما لو كان ذلك الميت الذي عرفتُه آخرَ سكّان الأرض. لستُ من البكّائين عمومًا، وإنْ كنتُ أتمنّى لو كنتُ منهم. أو ربّما كنتُ أتحايل على البكاء في محاولات عبثيّة لقراءة الفاجعة بعينٍ هادئةٍ ترى الموت دائرةً لانهائيّة، هاويةً لا قرار لها، دوّامةً تمزج ضحاياها بحيث تصبح الفجائع الإغريقيّة سومريّةً، والسوريّة مصريّةً أو صينيّة. أقرأ الموت لأنّي لا أتقن شيئًا آخر غير القراءة. أتماهى في دور التّلميذ أمام أساتذة كثيرين لم يعرفني أحدهم يومًا، مع أنّهم أفضل أساتذتي لأنّهم صنعوا ذاكرتي. ولعلّي أتلقّى الفاجعة كما لو كانت فاجعة شخصيّة، لأنّها شخصيّة حقًا: أتفجّع على ما فقدتُ من ذاكرتي. هذا هو الأمر ببساطة. ببساطة؟ نعم، ببساطة، كما هي بساطة إدراك أنّ الفواجع عَوْدٌ أبديٌّ لا سبيل إلى الفرار منه. ولكنّنا ننسى، فنُفجَع من جديد.
حين قرأتُ عبارة بلوم، ابتسمتُ لأنّي أنا أيضًا أفضِّل ترك مسافة بيني وبين الموتى، بل حتّى بيني وبين الأحياء. ابتسمتُ لأنّ عزلتي كانت مُؤثَّثةً بالذاكرة، ذاكرة أساتذة أحياء كثيرين وموتى أقل. ابتسمتُ لأنّ بلوم كان في الثانية والسبعين حين نطقها، إذ من «الطبيعيّ» أن تقتصر المسامرات على الصفحات المطبوعة، من «الطبيعيّ» أن تكون الذاكرة ذاكرة موتى فقط. غير أنّ تلك العبارة باتت تطعنني أكثر فأكثر حين بتُّ أدرك أنّ ذاكرتي أنا أيضًا أوشكت على أن تستحيل ذاكرة موتى. فرغت جعبة ذاكرة المراهقة والصبا تقريبًا، مع أنّ المُفترَض (مُفترَض؟) أن توشك على النّفاد بعد عقدين مثلًا على الأقل. لم أدرك إلا متأخّرًا أنّ الفواجع باتت أكثر من معدّلها المُفترَض (المُفترَض مرة أخرى!) الذي يُتيح للبشر التقاط أنفاسهم ولملمة ذاكرتهم قبل الفاجعة اللاحقة، فاستعدتُ العبارة ليصبح بلوم مرةً أخرى دليلي إلى قراءة فواجعي اللاحقة. كان هارلد بلوم صوتًا وبات صدى، كان نبيل فاروق آخر مرساة تربطني بمراهقتي وبات زعيقَ صافرة الباخرة التي مضت، كان حاتم علي حارس ذاكرة صباي، فأمسى هو أيضًا ذاكرةً بلا حارس. لم أكن محتاجًا إلى العبارات الصادحة التي كانت تشدِّد على أنّ حاتم رحل باكرًا كي أدرك أنّه قد رحل باكرًا حقًا. أدركَتْها ذاكرتي مباشرةً، لأنّها انكشفت أمام الصقيع. لم يكن حاتم علي أستاذًا من أساتذتي بقدر ما كان آخر أسوار الحياة التي كنتُ فيها، وباتت الآن حُطامًا كحطام البلاد التي كنّا نظنّ بسذاجة مؤلمة أنّها لنا، فأيقظنا رحيل حاتم على الحقيقة. لم يعد لدينا حتّى أطلال نبكي عليها، ولذا ربّما كانت الناس تبكي حاتم علي الذي كان آخر أطلال البلاد التي كانت. أحسد (وأحقد على) من تناول موته بحياديّة، بل وتذكَّرَ وجوب الموضوعيّة فأشهرَ مشرط النّقد ليُشرِّح أعماله، غير مدرك أنّه كان يُشرِّح جراحنا وذاكرتنا وبلادنا وأحلامنا. لم ينتظر «نقّاد الغفلة» أن يجفّ ترابه، أو أن يلامس جسده التراب حتّى، بل سارعوا إلى تنبيه غفلتنا المُخجِلة بأنّ تلك الجراح لم تكن مضبوطةً بدقّة، بأنّ همس ذاكرتنا لم يكن مدوزنًا، بأنّ صراخ لوعة الفقد لم يكن متقنًا، ولا بدّ من إعادة إخراج المشهد الذي كان ينزف ألمًا على مخرجه. فلنقرأ معنى تلك الجراح أولًا، ولنتأمّل سبب تحوّل فاجعة عموميّة إلى فاجعة شخصيّة، ولكنْ إنْ كان لا بدّ من القراءة الموضوعيّة، فلنحاول!
بحرٌ من السَّواد لا ألوان فيه إلا أزرق الكمامات. كمامات تكبح الموت، أو هذا ما يُفترَض بها أن تفعل. أزرق يكسر ظلمة الموت، أو هذا ما يُفترَض به أن يفعل. نعشٌ يرقص على الأكفّ. لا يرقص النّعش في الجنازات السوريّة إلا إذا كان الميت عريسًا أو يوشك على الزّفاف، أو شهيدًا قضى في معركة من المعارك. لم تعد هذه البلاد بلاد أعراس، إلا أنّها باتت مُتخَمةً بالشّهداء وبالمعارك. لم يكن الميت عريسًا أو شهيدًا، إنْ التزمنا بصرامة التّعريفات. لمَ جنازة الزّفاف هذه إذن؟ لا ينقصها إلا نثر حبّات الأرزّ، ولكنّه الآن شحيحٌ في بلاد البطاقة الذكيّة لذا استُبدِل بالدّموع. زغاريد كما في جنازة أيّ عريس أو شهيد، ولكنْ لا رصاص أيضًا مع أنّه أكثر سلعة متوافرة في بلاد الموت. شُيِّع حاتم علي في نعشٍ لا يحمل إلا آيات منقوشة. لا رايات تخنقه، ولا بزّات عسكر وأشباه عسكر يحصون الأنفاس. مات، كما عاش، خفيًا، حاضرًا، بسيطًا، مُركَّبًا، يشبه الجميع، ولا يشبهه أحد. ثمّة صرخة تنادي: «يكتّر خيرك يا حاتم!» ما الخير الذي فعله هذا الرجل كي ينال جنازة أنبياء في زمن لا أنبياء فيه؟ لا تفسير ربّما إلا بأنّه يشبه صورة عتيقةً منسيّةً لهذه البلاد، وكان موتُه الكفَّ التي نفضتْ الغبار عنها. كان حاتم علي مولعًا بمزج الحقيقة والخيال، بمزج المُتخيَّل بالوثائقيّ. أشهر مثالين هما مشهدا التّهجير في «التّغريبة الفلسطينيّة»، ومشهد المظاهرة في «العرّاب»، حين مزج زمنين، وصوتين، وعالمين. غير أنّه ما عاد بحاجة إلى ذلك الدمج والمزج في مشهده الأخير حين انتفضَ المُتخيَّلُ ونسفَ الواقعيّ تمامًا. ما كان لأحدٍ أن يحلم بجنازةٍ كهذه بعد سنوات الصمت. جنازة تشبه المظاهرة في كل شيء ما عدا كونها مظاهرة. لا نجد شريطًا كاملًا للجنازة، بل مقاطع متفرّقة صوَّرَتْها كاميرات متفاوتة الجودة، معظمها مهتزّ ككاميرا مسلسل «أحلام كبيرة» التي كانت تبدو مثل فردٍ آخر من أفراد العائلة يوثّق تفاصيلها اليوميّة الصغيرة. مقاطع متفرّقة شبه مسرَّبة في ظل غياب الإعلام وانحيازاته. وكان كلُّ ما علينا إعادةُ لصق تلك المشاهد كي نحاول – عبثًا – تأمُّل الجنازة وملاحقتها بأكملها. ندرك لاحقًا أنّ الأمر مستحيل، فالمونتاج غائب هنا لأنّ هذه الجنازة محكومة بالنّقصان، أو لعلّها محكومة بالحلم، حلم أن يكملها كلُّ مَنْ حضرها ومن لم يحضرها على هواه. كان المشهدُ الختاميّ في «أحلام كبيرة» مُفجِعًا إذ أكَّدَ لنا ما لم نكن نجرؤ على تأكيده: دم الإخوة قد يصبح ماءً، أو ما هو أسوأ؛ إلا أنّ جنازة مخرج ذلك المشهد أعادت المصطلحات التي كنّا نظنّها قد انقرضت في عشر السّنوات السوريّة العجاف. بات الجميع (حسنًا، معظمهم) إخوة وهو يشيّعون حلمهم الذي اختُطِفَ بغتةً. لا نعرف أهل الميت لأنّ الجميع كانوا أهله. كان كلُّ مَنْ في الجنازة، ومَنْ راقبها من الأرصفة، ومَنْ شاهدها مُقطَّعةً، أخًا أو ابنًا أو صديقًا أو تلميذًا لهذا الراحل الذي لا يعرف معظمنا. وكانت كلُّ امرأةٍ أمًا أو أختًا لهذه الشّريد الذي مات وحيدًا في محطّة ترانزيت بين منفى البلاد وبلاد المنفى.
ما الذي فعله هذا الرجل بنا؟ لكلٍّ منّا إجاباته وذكرياته، ولكنْ أظنّ أنّ إجابتي: التقط لنا هذا الرجل صورةً قبل الانهيار، وثَّق أحلامنا قبل الحريق، خلق لنا ذاكرةً موازيةً قبل زعيق الحرب والموت. أميل شخصيًا إلى مسلسلاته الاجتماعيّة المعاصرة أكثر من مسلسلاته التاريخيّة، غير أنّي انتبهتُ بعد موته إلى أنّه كان يلتقط دومًا مشهدًا أوحد أيًا يكن زمنه، وإنْ بقيتُ ميّالًا إلى مسلسلاته المعاصرة، وإلى «أحلام كبيرة» تحديدًا. كان حاتم علي يعدّ نفسه محظوظًا لأنّه تعاوَنَ مع كتّاب سيناريو جيّدين، وكنتُ أتساءل دومًا عن سرّ رفضه كتابة سيناريو يخصّه بدلًا من الاعتماد على الآخرين. لم يكن غريبًا عن مشهد الكتابة، إذ تذكّرْتُه قبل فترة حين كتبتُ عن كتّاب القصة القصيرة السوريّين، وقد كان يُبشِّر أن يكون من أهمّهم إلا أنّه هَجَر القصة إلى التلفزيون. أدركتُ لاحقًا أنّه كان يدوِّن أفكاره داخل سيناريوهات الآخرين حين يضبط الكاميرا على الالتقاطة التي يظنُّ (أو ربّما ما أظنّه أنا) محور العمل كلّه. لا أعني الإشارة إلى ضعف، أو إلى تفاوت، أو إلى هنات إخراجيّة، بل أعني التآمر مع كاميرته كي تُدوِّن ما لم يُدوِّنه بنفسه، ومخاتلة الكاتب من دون نسف أفكاره. في مسلسل «الفصول الأربعة» كان السيناريو مقسومًا بالتّساوي تقريبًا بين العائلات الخمس، إلا أنّ الكاميرا كانت أحنَّ حين تنتقل إلى بيت الأب/الجد كريم وإلى بين الصّهر نجيب. ليس لي أن أُنكر أنّ سِحر كلٍّ من خالد تاجا وبسّام كوسا يسرق محور أيّ مشهد يكونان فيه، إلا أنّ الأمر أكبر من براعة ممثّل. ثمّة كاميرا تحنُّ إلى مَنْ يشبهها أكثر. لسنا مثل مالك بك الجوربار، ولن نصبح يومًا أثرياء مثله ربّما، ولسنا (أو ربّما لم نكن) مثل برهوم البائس حياةً وشِعرًا. كنّا مثل نجيب، أو لعلّ الأدقّ أنّه كان مثلنا في حربه اليوميّة للبقاء في برزخ الطبقة الوسطى التي لن تتقن الصعود إلى طبقات أعلى، ولكنّها تحاول في الوقت ذاته تحاشي الانزلاق إلى جحيم الطبقات الأفقر. ترك حاتم علي لغيره من المخرجين تصوير العشوائيّات التي ستلتهم المدينة، واكتفى بالإيماء إليها، وواصلَ بذكاء توثيق هموم الطبقة الوسطى وأحلامها قبل الانهيار الكبير. كان يسعى، أو ربّما يتوق لو تحوَّل نجيب إلى كريم بعد عقدين مثلًا، إلا أنّه أدركَ أنّ هذا الزمن سيرحل برحيل أبنائه ليبدأ زمنٌ آخر أقسى سيدمّر آخر صور العائلة في «أحلام كبيرة»، الذي عُرِضَ بعد عدة سنوات، وكان البطلُ – للمفارقة – بسّام كوسا نفسه، غير أنّ الشّروخ التي كانت كاميرا «الفصول الأربعة» قد استشعرتْ ظهورَها قبل انفجارها باتت الآن واضحة تمام الوضوح، حيث تفكَّكَتْ العائلة تمامًا بالرغم من وجود الصّخرتين الدائمتين: الأب والأم، حيث يبرع حاتم علي في تصوير علاقتهما المُركَّبة دومًا، أكان هذا في «الفصول الأربعة» أم «أحلام كبيرة» أم «التغريبة الفلسطينيّة».
لعلّ قائلًا يقول إنّ هذه رؤية مشتركة بين الكاتب والمخرج، أو ربّما لم يكن المخرج إلا مُنفِّذًا ببّغائيًا لسيناريو جاهز. طيب، ماذا عن «صلاح الدين» أو «الزير سالم»؟ ترك حاتم علي لوليد سيف حريّةً شبه مطلقة في تصوير صلاح الدين كما يشاء، ولكنّه واصلَ لعبته الأثيرة في تهريب لقطاته. لستُ أوَّلَ من يشير إلى جمال المشاهد التي تجمع الخليفة العاضد (تيم حسن) وصلاح الدين (جمال سليمان) التي كانت مناقضةً، أو متباينةً على الأقل، مع صورة صلاح الدين السائدة في المسلسل وفي التاريخ على السواء. كان وليد سيف يسعى إلى تبيان صورة البطل الذي سيحقّق أحلام الأمّة في تحرير بيت المقدس: البطل العصاميّ الذي يشبُّ ليحطّم جميع الحواجز التي تفصل بينه وبين حلمه، بيد أنّ كاميرا المخرج كانت تلتقط الصورة الخفيّة للبطل، الصورة الأخرى التي يتخلّى فيها البطل عن ثياب الراهب والجنديّ والقائد ليصبح سميرًا ذكيًا للخليفة الداهية الذي ضاعفتْ براعة تيم حسن من دهائه ونظرات عينيه الثاقبة. كانت جلسات الحوار ولعب الشطرنج أجمل مشاهد المسلسل، ولم يُخفِ حاتم علي ولعه بالمواقف الفاصلة التي تكشف الشّروخ، فوضع بطليه أمام امتحان مؤلم: الصداقة أم المصلحة العامة؟ هل أتخلّى عن الصديق أم عن أحلام الأمة؟ ما الذي سيؤثّر على الأمة لو تأخَّر الفتح المُنتَظر عدة أيام أو أسابيع قبل أن يموت الخليفة المريض. لم تكتفِ الكاميرا بتوثيق ما يحدث أمامها بل سعى حاتم علي بذكائه اللمّاح إلى تصوير بواطن البطلين. ليس الاختيار بين الصديق وبين الأمة المحور الوحيد لهذا الامتحان القاسي، بل ثمّة صراع داخليّ أقسى التقطته الكاميرا في الأعين: ثمّة صديق يترقَّب، بل يتعجَّل، موت صديقه كي يتحرّر من عبء التخلّي ومن عبء الضّغوط التي يُمطره بها القادة المحاربون الذين لا يكترثون لهذه السّفاسف الصغيرة. البلاد أهمّ من العلاقات الصغيرة النّافلة، ولكنّ الأعين لها حساباتها المُفجِعة. عاودَ حاتم علي تركيزه الشّغوف بمصائر العائلة، وإنْ كانت مقتصرةً هنا على صديقين. على أنّه كان قد قدَّمها بوضوح أشدّ في «الزير سالم»، حين بدا المسلسل مسلسلين. سيناريو ممدوح عدوان منشغلٌ بمسألة السُّلطة والمعارضة والطغيان والثأر، فيما كاميرا حاتم علي مشغولة بتوثيق الشّروخ التي ستحطّم بيت همّام بن مرّة الذي كان الساحة الفعليّة لحرب البسوس. العائلة مرةً أخرى، الأعين مرةً أخرى: عينا ضباع (نجاح العبد الله) المشظّاة بين رثاء الأخ الذي قُتِل وبين رثاء الأخ الذي يبتغي الثأر وبين رثاء الزوج الذي لا بدّ أن يكون في الطرف الآخر؛ وعينا همّام المنقسم بين العائلة وبين الصديق. ألمحَ عدوان بسرعة إلى جلسات السَّمر بين مهلهل وهمّام التي كانت تؤرّخ لآخر لحظات الصداقة التي ستتفتّت مع شروق الشّمس، إلا أنّ الكاميرا لاحقتْ تلك الشّروخ إلى نهاياتها. كان مشهد مقتل كليب قاسيًا، ومشهد تفجُّع الحارث بن عباد الذي أُرغِم على الدخول في حربٍ ينفر منها مؤلمًا، إلا أنّ الفاجعة الفعليّة كانت في عيني ضباع في جميع المشاهد التي تبعت حادثة القتل الأولى. كان الشَّرخُ الذي أبعد الأخت عن أخاها والصديق عن صديقه بدايةَ الفاجعة التي ستُفتِّت العائلة كليًا حين ينحاز كلُّ ابنٍ من ابنَيْ ضباع وهمّام إلى الجيش الذي يراه الأحقَّ بالنُّصرة. كان انقسام ذلك البيت التاريخيّ البعيد، وتقاتل الأخوين، إلماحًا أول للانقسام الذي سيمزّق عائلة أخرى بعد قرون، عائلة الأب والعمّ في «أحلام كبيرة»، ويواصل تمزيقه لعائلة الجيل الثاني من الإخوة الأعداء.
يرى كثيرون أنّ حاتم علي أفضل مخرج سوريّ على الإطلاق، ولكنّي أظنّ أنّه حُكمٌ لم يكن حاتم نفسه سيقبل به، وكان سيشير إلى هيثم حقّي، بالرغم من أنّ حقّي اعتزل الإخراج تقريبًا بعد هجرته. كان حاتم أذكى تلاميذ هيثم حقّي، ولم يُخفِ تأثّره به. جميع السّمات التي تُميِّز حاتم علي ورثها عن المعلّم الكبير: ذكاء الكاميرا، المغامرة في منح وجوه جديدة أدوارًا مهمّة، والعمل بدأب على مشروع واضح يكون بصمةً للمخرج أيًا يكن كاتب السيناريو. لا يتّسع المجال إلى مقارنةٍ تفصيليّة بينهما، ولكنْ لعلّ بوسعنا القول إنّ حاتم علي أكملَ مشروع هيثم حقّي، محافظًا على بصمةٍ خاصة به. لم يكن حقّي منبع التأثير الوحيد في مسيرة حاتم علي، إذ سبقه الراحل علاء الدين كوكش الذي رحل عن دنيانا قبل فترة وجيزة، من دون أن ننتبه إلى أنّ الموت بدأ يختطف حرّاس ذاكرتنا تباعًا. رحل كوكش وحيدًا في مأوى للعجزة، ورحل حاتم علي وحيدًا في غرفة فندق بعد أن كان قد قرَّر الهجرة إلى بلاد تحترم حقوق مواطنيها وتمنح حياةً مريحةً في الشيخوخة. هرب كوكش من الدنيا وأمضى سنوات في عزلة شيخوخته، فيما كان علي يمنّي النّفس بشيخوخة رغيدة بعد عقدين أو ثلاثة، غير أنّ الأقدار لها حساباتها المُفجِعة. ربّما كان العقدان اللذان بخلت بهما الأيام على حاتم علي سيشهدان ولادة عملٍ يُصوِّر التغريبة السوريّة التي كان علي يرى محقًا أنّ الوقت ما يزال مبكّرًا على تنفيذها. قد ينفّذها مخرج آخر، وقد تبقى أسيرة الأحلام الكبيرة التي باتت الجعبة الوحيدة لناس هذه البلاد الذين تلاشت حياتهم وذكرياتهم ولم يبق لهم إلا الأحلام. على الأرجح أنّ مشهد جنازة علي سيكون أحد مشاهد تلك التّغريبة؛ رحيل مُدوِّن الأحلام، وحارس الذاكرة، ومُوثِّق الشّروخ التي قصمت ظهر هذه البلاد التي تلفظ أبناءها تباعًا.
مشهد أخير (1)
في أحد مشاهد مسلسل «ذكريات الزمن القادم»، نرى خالدة (ضحى الدبس) وهي تركض في شوارع الشام المزدحمة بحثًا عن أمّها المصابة بالزهايمر. كانت الأم (ثناء دبسي) قد خرجت من البيت بحثًا عن أطياف الماضي التي لم تكن تتعامل معها كأطياف بل بوصفها واقعًا، فيما كانت الابنة تُمشِّط الشوارع بلهفة وجنون بحثًا عن الأم التي كانت حارسة الحاضر والمستقبل، بينما الكاميرا ترصد صرخات خالدة الملتاعة من أعلى كعين إله محايد، وتُورِّط الناس في الشوارع، على غفلة منهم، في البحث عن أطياف الماضي والحاضر والمستقبل. المسلسل من إخراج هيثم حقّي.
مشهد أخير (2)
في إحدى صور جنازة حاتم علي، نرى منى واصف مذهولةً متفجّعةً، مثل أمٍّ أضاعت أطياف الماضي والحاضر والمستقبل، وهرعت إلى شوارع المدينة بحثًا عنها. الكاميرا تواجه العينين اللتين تبدوان مرآةً مُفجِعةً لخواء المدينة التي تبدَّدت جميع أطيافها، بينما منى واصف مثل هيكابي التي فقدت زوجها وأبناءها وبناتها وأحفادها في حرب طروادة، وثمّة دخان لامرئيّ يومئ إلى الحرائق التي نهشت البلاد. هذا المشهد بلا مُخرِج.
المشهد الأول مرآة معاكسة للمشهد الثاني، وكلاهما يخلوان من حضور حاتم علي. حاتم علي الغائب الأكبر في جنازته. هو يبتسم الآن. لعلّه هو الوحيد الذي يعرف مكان تلك الأطياف، ويزجي وقته في مسامرتهم بعد أن نجح في تصوير مشهده الأخير.
بواسطة طارق علي | مارس 30, 2021 | Roundtables, غير مصنف
لم ينعم الصومال بالاستقرار منذ فترة طويلة، فهذا البلد يخرج من حرب ليدخل أخرى، واعتباراً من نهاية الحرب العالمية الثانية دخل الصومال نفقاً سياسياً وعسكرياً مظلماً، بدأ مع الوصاية البريطانية ومن ثم الوصاية الايطالية، واعتباراً من عام 1960 وهي سنة الاستقلال دخلت البلاد فوراً في صراع عشائري-مناطقي بين قبائل محلية، وصولاً إلى الحرب الأهلية في الثمانينات وصدور القوانين الجديدة التي تمنع التجمع لأكثر من أربعة أفراد وإلا اعتبر التجمع حدثاً تخريبياً يستدعي التدخل. وزاد الأمور سوءاً التدهور البيئي ومعاناة البلد من عامي جفاف أديا لتدهور المعيشة مطلع العقد الفائت. وبعيد المجاعة الأخيرة حدثت موجات هجرة جماعية من ساكني الصومال إلى خارجها. في ظل كل هذه المعطيات قد يبدو أنّ عاقلاً لن يفكر في الهجرة إلى بلد أهله يهجرونه، إلا أنّ الحاجة أثبتت أن البحث النظري في الأمر يصطدم بالعائق العملي الذي يجعل من البلد الفقير موضع اهتمام للشريحة الطبية في سوريا.
تحتاج مرحلة ما بعد الحرب المباشرة في سوريا إعادة النظر في مستقبل البلاد، سيما ما يتعلق بافتقادها لخبرات وكوادر يعول عليها في المرحلة الراهنة، تحديداً الهجرة الطبية نحو الصومال، والبحث عن الدوافع رغم أنّها تبدو جلية، إلّا أن الهدف من النظر هو إيجاد الحلول، فالسوري وصل مرحلةً بات معها يفضل العمل في الصومال على البقاء والعمل في سوريا.
تنامت ظاهرة هجرة الأطباء إلى الصومال في السنوات الماضية، الهجرة التي يبحث الطبيب معها عن دخل أفضل، فبين بلدي الحرب، يبقى الفاصل في القرار هو الأجر العالي.
يقول الخبير في علم الاجتماع حمود العبدالله أنّ هذه الهجرات متوقعة نظراً للظروف الاقتصادية القاسية التي ألمت بواقع الحياة موضحاً أن “السوري شهد أقسى وأشرس الحروب على مستوى الدول في سوريا، لذا، لا يأخذ بعين الاعتبار مخاطر الإقدام على تجربة مشابهة، هو يبحث عن دخلٍ يؤمن له الحياة التي يريدها، ومما لا شك فيه أن الصومال ستكون محض محطة لجني الأموال، ولن تكون بلداً للاستقرار النهائي”.
طريق الهجرة
يقول الطبيب المخبري أحمد. د الذي هاجر إلى الصومال أنّ طريق سفره لم يكن صعباً على الإطلاق: “توجهت إلى بيروت، ومن هناك لم يكن يوجد رحلة مباشرة إلى مقديشو، فحجزت (ترانزيت) بيروت – دبي – مقديشو، الناس لديها فكرة سيئة ومبالغ فيها عن الوضع في الصومال، حقيقة الوضع لا بأس به وهو مقبول أمنياً إلى حد ما”.
يعتقد أحمد بحسب مشاهداته أن الواقع ليس بالمخيف والسيء إلى الدرجة التي تتناولها وسائل الإعلام في تصدير مشهد مليء بالدماء من البلد الإفريقي، وبالمقارنة بين البلدين يرى أحمد وجود فروق هائلة على مستوى البنى التحتية والخدمات وأسس الرعاية الصحية من كوادر ومنشآت لصالح سوريا: “لا مجال للمقارنة بين البلدين في هذا الإطار، ولكن فرصة العمل هنا لا تفوت، فأنا هنا يمكنني أن أجني ما يفوق عشرة وربما عشرين ضعفاً مما كنت سأجنيه في سوريا”.
ماجد. م طبيب جراح آخر صار في الصومال، يقول في حديثه معنا أنّ الرواتب بين البلدين لا تقارن، فرواتب الصومال للقطاع الطبي تبدأ بحدود ألفي دولار شهرياً وصعوداً، وهو ما يكاد يكون جنيه في سوريا مستحيلاً في ظل الظروف القائمة، ويضيف: “بدأت العمل بمرتب ألفين ومئة دولار شهرياً وهو رقم بالتأكيد قابل للزيادة مع الوقت، المعيشة هنا رخيصة للغاية وهذا ما لعب دوراً أساسياً في اختياري العمل في الصومال”.
الصومال لا تطلب شهادات خبرة وسنين طويلة من ممارسة العمل، وفي ظل الإغلاق العالمي المتعلق بشروط كورونا، وصعوبة الحصول على فيز إلى أوروبا، كلها أسباب دفعت الأطباء للهجرة إلى الصومال واختيارها للعمل الطبي والكسب المادي.
وصول الطبيب السوري إلى الصومال يكون مقترناً باتفاقه بشكل مسبق على عقد طبي عن طريق كفيله في البلد هناك، إذ يوقع عقداً مع المستشفى او المركز الطبي، وتكون هذه العقود بصيغتها القانونية محمية من قبل الوزارة المعنية ويكفلها القانون بصورة شرعية، وهو ما لعب دوراً كبيراً في تشجيع الأطباء على الهجرة في ظل الظروف المتعلقة بشرعية الإقامة والعمل بعيداً عن المطبات السياسية والاقتصادية.
تسهيلات واعترافات
صدرت مجموعة قرارات مؤخراً تهدف بصورة غير مباشرة للحد من هجرة الأطباء وخسارة سوريا لكوادرها، وذلك عبر السماح للأطباء بفتح عيادات أثناء تأديتهم خدمة العلم بعد انتهاء دوامهم الإداري، وكذلك سمحت القرارات للأطباء باختيار مكان خدمتهم العسكرية في المنطقة المقيمين بها أو أقرب نقطة إليها.
إضافة إلى تصريحات نقابة الأطباء حول تقديم كل التحسينات والتسهيلات لعودة الأطباء الذين هاجروا والحفـاظ على الذين يتواجدون داخل البلاد.
وكان نقيب الأطباء السوري “كمال عامر” قد قال مؤخراً: “إن الحصار والعقوبات أثرا على الوضع الاقتصادي والصحي في البلد، كذلك على الواقع المادي للأطباء”، متحدثاً عن سفر كثير من الأطباء السوريين إلى الصومال “بسبب ارتفاع الرواتب هناك”.