لا تكمن أهمية الشاعر السوري محمد أحمد عيسى الماغوط -12 كانون الأول 1934- 3 نيسان 2006- ولا يمكن اختزالها فحسب في تأسيسه للقصيدة الحرّة أو عباراته الانفجاريـــّة في شعره ونثره ومسرحه التي صاغتها ظروف التشرّد والحرمان أو مكانتِه في نقلِ “القصيدة العربية في الخمسينات من الذهني والميتافيزيقي والتأمليّ الصرف لليومي”1
بل في البعد الفكريّ والفلسفيّ لأعماله الأدبية أيضاً. وفي الوقت الذي تمَحوَر فيه الوعي العربي حول مقولات ومفاهيم غنائيّة وشعارات خلبيّه شوّشت على هويته التي فتتّتها الواقع، أتى الماغوط ووضع الركام الذي يتشكل منه الإنسان العربي أمام عيني الأخير تحت مجهر الشعر والنثر والمسرح؛ وكان سؤاله مزدوجاً وموجَّهاً للفاعل والمفعول به، للسلطة والشعوب التي لا تتقدم إلا حين تضع ذاتها موضِعَ سؤال.
لذلك كان سهمه مشدوداً في عدة اتجاهات، ضد النخب والسلطة بكافة أشكالها الدينية والثقافية والسياسية المضللة والمراوغة والحداثة الخادعة والإنسان البسيط الذي ينخدع بسهولة جراء توحّشّ الجهل؛ فقد أراد في كتاباته أن يحرك –ومن خلال-الجملة الشعرية المتفجّرة-الغضب كما أراد أن يثير في نثره الأسئلة وفي مسرحه السخرية. ولم ينجُ المثقف العربي وهو رهين المحبسين (السُلطة والملعقة) من المسؤولية؛ فالأخير يحمل شوكته لاقتسام الدجاجة لكن لا يعثر في صحنه سوى على العِظام! يذكرنا محمد الماغوط بالمفكرين الفرنسيين في الخمسينيّات والذين شَّرحوا حاضر فرنسا بحثاً عن مستقبلها.
ومنذ ديوانه حزن في ضوء القمر رفض الشاب القادم من سلمية،-والذي تنقل بين دمشق وبيروت وعمل في الصحافة ليحترف الأدب السياسي الساخر،-أشكال التقدم الخلبيّ الذي يقوم على انتهاك الفطرة النقيّة للحياة الإنسانية، فلا معنى لأي تطوّر لا يستند للوعي والحرية والكرامة؛ ورغم أنّه كان حداثيًّا في اللغة، إلاّ أن روحه البريّة وحياته التي رضَّها الجوع والتشرد لم تمنعا سؤاله عن ماهية الحداثة بكونها جعجعة بلا طحين.
إنّ مكانة الماغوط في المنعطف السوري كمسرحي ألف العديد من المسرحيات الناقدة التي أسهمت بتطوير المسرح السياسي في الوطن العربي وكتابته للرواية وريادته في القصيدة النثرية أسّسوا للقطيعة المعرفيّة عبر النقد الذاتي والأفكار التي تفكك البنية الذهنية للإنسان العربي والمسؤول العربي والتراث العربي، هذه الكتابة المتمردة شكلت نوعاً من الصدمة أو يمكن أن نطلق عليها ما يسميه غاستون باشلار القطيعة الايبستمولوجيّة مع إرث كامل، ، فقد وضع الماغوط في سلة جميع أسباب القهر وسخر منها بكوميديا واقعيّة فكان نثره ومسرحه كاختراق عمودي لزمن أفقي وراكد.
يذكرنا في أصالة تفكيره وواقعيته وخياله المارق بأريستوفان رائد المسرح الإغريقي. وفي مسرحيته “غربة” يسخر من شعر القافية والوزن في واقع بلا قافية ولا وزن فكان مسرحه رصداً للعوائق القائمة في ثلاثية أطرافها كلها مُدانة.
لقد صور بشكل كاريكاتوري المختار والأستاذ العاجز والسلطوي المتحذلق والمتلاعب بالكلمات، ووضع المواطن البسيط في مسرحياته (ضيعة تشرين-غربة-شقائق النعمان-كاسك ياوطن) أمام مرآة، ولعل مسرحية غربة أشدها عمقاً ووضوحاً فكرياً.
إن نقد الذات حاضر في نصوص الماغوط فشخصياته المسطّحة تفتقر لأي بعد مستقبلي أو نمو درامي، قد تتغير أدوار الشخوص بين فصل وآخر كما في مسرحية غربة لكن ثباتها في كينونة لا تتبدل لم يكن حيلة فنيّة فقط بل دلالة على حال الإنسان العربي الذي لا يتغير ولا يسائل نفسه، ولذلك ثمن باهظ سيدفعه مستقبلاً.
لقد أثمر اليأس والخوف في جعلها شخصيات ثابتة في الزمان. فالنماذج التي يختارها في مسرحه والأمكنة مجرد ماكيت مصغّر للوطن العربي والإنسان العربي أراد من خلاله للمتلقي اأن يراقب هويته وتفكّكها.
شكّك بالمثالية دافعًا الكلمة لأقصى حدودها محمومًا بتثوير الوعي ضدّ ذاته عبر قياس المسافة بين الأقوال والأفعال، وكان حداثيًّا ساخراً من الحداثة وشاعراً يائساً من الشعر والشعراء، يهجو اليمين واليسار (ما أذربَ ألسنتنا في إطلاق الشعارات، وما أرشق أيدينا في التصفيق لها، وما أعظم جلَدنا في انتظار ثمارها، ومع ذلك فإن منظر ثائر عربي يتحدث عن آلام شعبه للصحفيين وهو يداعب كلبه الخارج للتو من الحمام، لا يهزّنا).2
ألا يحتاج الإنسان للانقلاب على نفسه حتى يتحرر قبل أن ينقلب على السلطة بكل أشكالها السياسيّة والثقافيّة والدينيّة!
إن التأمل في مسرح الماغوط يثير الأسئلة الفلسفيّة والوجوديّة التي يتجاهلها الإنسان العربي المقهور، يفكك أسباب قهره. فيكتب في قصيدة بدوي يبحث عن بلاد بدوية:
آه كم أتمنى، لو أستيقظ ذات صباح
فأرى المقاهي والمدارس والجامعات
مستنقعات وطحالب ساكنة
خياماً تنبح حولها الكلاب
لأجد المدن والحدائق والبرلمانات
كثباناً رملية
آباراً ينتشل الأعراب ماءهم منها بالدلاء.
كيف أمكن فتننا عبر الكلام فالمصيبة أمامنا ولا نراها!
يدور الفصل الثاني من مسرحية غربة حول عيد الكذب وكأن المواطن العربي حصان رابح في رهان الكذب الذي يشربه علقماً ويحسبه ماء.
أبو ريشة في المسرحية رجل مكلوم يريد الهرب، تنصحه غربة: ولما بتهاجر لبعيد إنسى الكذب. (ياترى هل استطاع-أبو ريشة الحالي الذي هاجر عبر البحر-أن يتخلص من بنية زائفة شكلت وعيه وهل أمكنه أن يراجع قناعاته؟).
إنّ ما يمنح أهمية وقيمة مسرح الماغوط في المنعطف السوري هي قربه من النبض العام للإنسان، وتركيزه على التناقضات التي شكّلت وعيه، وعلى سرياليّة الواقع العربي التي صبغت مسرحه بالفانتازيا السوداء. يقول في حوار معه: (فماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعبر المحيطات، وأنا لا أستطيع أن أعبر زقاقاً موحلاً طوله متران؟).3
وتكمن أهمية تجربته في المنعطف السوري في كشفه الغطاء عن المفارقات الواقعية الهزليّة ووضعها أمام الحس النقدي عبر روح سقراطيّة شكاكة وساخرة.
كان سقراط قد أنزل الفلسفة من التفكير المجرد بالكون والطبيعة نحو الذات الإنسانية ومع الماغوط لم يعد الشعر متعالياً ونخبويـًّا بل تحول إلى فعل يوميّ، في انحيازه لكينونة الإنسان.
في مقطع من قصيدة حريق الكلمات من مجموعة حزن في ضوء القمر يكتب:
سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة
لبنان يحترق
يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء
وأنا أبحث عن فتاة سمينة
أحتك بها في الحافلة
عن رجل عربي الملامح، أصرعه في مكان ما.
بلادي تنهار
ترتجف عارية كأنثى الشبل
وأنا أبحث عن ركن منعزل
وقروية يائسة، أغرر بها.
ياربــّة الشعر
ببلاد خرساء
تأكل وتضاجع من أذنيها
أستطيع أن أضحك حتى يسيل الدم من شفتيَّ
كان الماغوط في شعره ونثره انفجارياً ولا يساوم:
لقد آن الأوان
لتمزيق شيء ما
….
يا أرصفة أوربا الرائعة
أيتها الحجارة الممدّدة منذ آلاف السنين
تحت المعاطف ورؤوس المظلات!؟
أما من وكرٍ صغير
لبدويّ من الشرق
يحمل تاريخه فوق ظهره كالحطّاب
إن تحرير العقل العربي لن يكون إلا بوضع الذات أمام مرآة، والاعتراف بالهزيمة والضعف وكمثقف يعرّي الماغوط حقيقة المثقف ذاته. يكتب في سياف الزهور “: حيث تبين لي أن كل آرائي ومواقفي الحازمة ضد هذا الإغراء أو ذاك، ماهي إلاّ أوهام وترّهات وأن ثقتي بنفسي ليست عمياء وصماء، بقدر ماهي مضحكة وبلهاء”.
إن رثاؤه وألمه هو لحال المواطن العربي صانع التاريخ وما آل إليه: “منذ سبعة آلاف سنة بنيت الأهرامات ونقلت حجارتها على ظهري من أسوان إلى الجيزة، تحت لسع السياط وحريق الهاجرة، والآن أتألم وأشكو ضآلة الأجر وسوء المعاملة”.
لقد وضع تحت عدسة مكبرة وعبر مسرحه الذي هو مسرح أفكار ازدواجيتنا العميقة.
وفي نص بعنوان: حوار بين مسؤول عربي وكاتب نجد أن ممثل اليسار سافر لأداء مناسك الحج وأن حملة القضايا هم أكثر من أساؤوا لها. وحين يُسأل عن مستقبل الشاعر العربي يجيب: (في ملعقته).4
فأمراضنا مستعصية على العلاج والريبة التي تسم علاقتنا ببعض كبشر أولاً وكمثقفين ثانًيا داء عضال: وفي كتابه سأخون وطني وفي نص بعنوان يا شارع الضباب يصف حال المثقف العربي بحيث يخوِّن التقدمي شاعراً آخر ويصفه بالرجعي ثم يأتي آخر ويخوّن الأول باعتباره من جماعة سياسيّة وينظر له كمرتهن ومشبوه، ثم ثالث متطرف يخوِّن الاثنين.
في أحد حواراته يتساءل الماغوط: إذا لم يستطع الكاتب العربي أن يعبر عن رأيه في أدق مرحلة تمرّ بها أمته، فماذا يكتب؟
يجيب: عن وحام الأميرة ديانا.
(ولذلك ما جدوى إصدار كتب جديدة؟
وشق طرق جديدة؟
وركوب سيارات جديدة.
وإجراء انتخابات جديدة
بل ما جدوى أن ننتعل أحذية جديدة
ونرتدي معاطف جديدة
ومايوهات جديدة
والوطن عتيق…. عتيق.5
عاش غريباً وحزنه لم يكن شخصياًّ. إنه حزن على مستقبل وقف العسس في طريقه ومنعوه من المرور، ويبدو أنهم نجحوا لا لأن العيب فيهم بل لأننا كنا شركاء في تدمير هويتنا وركودها لزمن طويل.
كان الماغوط مسرحيًّا وشاعراً برتبة مفكر، وفي كل سطر من شعره ونثره وعبارة في مسرحه سؤال ورجّة ولا يهم أن تأتي الفلسفة عبر المنطق أو اللامنطق بالإقناع أو الفكاهة من نافذة المسرح أو الشعر أو حتى الجنون.
ربما يمكننا إلى جانب التعريفات الكثيرة للفيلسوف أن نضيف أن الفيلسوف هو من لا يعرف أنه فيلسوف، والماغوط مفكر لم تغرِه الألقاب ولم يسعَ لها.
كتب محمود درويش في شهادته عنه” كان، دون أن يقصد، أباً روحيًّا لأكثر من جيل من شعراء قصيدة النثر”6.
ولعلنا نقول إن أبوّة الشعر ليست الوحيدة، لقد استطاع أن يمنح البسطاء مرآة لمشاهدة واقعهم وشاهدوا أنفسهم فوق الخشبة وضحكوا عليها ومنها، لكن لم يرغبوا بتغييرها، تركوا حاضرهم راكداً فنجح العسس في سرقة مستقبلهم.
ثمة حكمة تقول: إذا حدقت في نكتة لوقت طويل سوف تبكي.
لقد تبقت لنا الغصّة، وها هو حزن الماغوط يسافر في البحر، تائـهاً في أزقة أوربا أوهائماً على وجهه في العراء، السوريون الآن أحزان متنقلة ومحمد الماغوط: نائم الآن…. لكن حزُنـــَه حرٌ طليق.
هوامش
1-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق .2006
2-المرجع نفسه
3-المرجع نفسه
4-محمد الماغوط اغتصاب كان وأخواتها، حوارات، تحرير وتقديم خليل صويلح، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمان، الأردن .2021
5-المرجع نفسه.
6-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2006
مناهج التعليم في جامعات سوريا، تسعى إلى استخدام الكتب الإلكترونيّة بدل الورقيّة، وكان هناك مبررات عدّة، مزعومة، أشارت إليها إحدى الصحف الرسميّة بدمشق نقلاً عن مسؤولين في وزارة التعليم العالي، مثلاً “يوجد ما تقارب كلفته الـ 1.2 مليار ليرة سورية؛ مبلغ مجمد لآلاف من الكتب المطبوعة منذ سنوات، لا تلقى أيَّ طلب عليها من الطّلاب”، والكلام السابق منسوب لمدير الكتب والمطبوعات في جامعة دمشق.
وبدل أن تُعالج مشكلة كساد الكُتب، وقلّة خبرة الفريق الإداريّ في تلك المؤسسة، استُخدمت كواحدة من المبررات التي تعتبرها الوزارة المعنيّة؛ معالجة لكارثة يُفترض بها أن تصنف كقضية فساد إذا صحَّ ما قالته “د.مياسة علي ملحم” نائب عميد كلية الهندسة المدنية للشؤون الإدارية والطلابيّة في جامعة دمشق لذات الصحيفة: “لدينا هدر ورق كبير نحتفظ به بالمستودعات بأعداد هائلة ويصبح الكتاب قديماً وتالفاً قبل أن يُستخدم”.
ويشير الموقع الرسميّ لجامعة دمشق أن مديرية المطبعة تقوم “بطباعة كلّ ما تحتاجه جامعة دمشق وكلياتها من مطبوعات وخاصة بعد أن تمّ تحديث وشراء آلات جديدة للمطبعة العام 2007 أصبحت المطبعة تقوم بإنجاز طباعة كتب جامعة دمشق وكتب التعليم المفتوح بشكل كامل ومجلات الجامعة وجرائد الجامعة وأوراق الامتحانات وحاجات الكلّيات بما فيها فروع درعا والسويداء والقنيطرة ومن الجدير بالذكر أن كلّ مطبوعات الكلّيات والمديريات من ورق وكرتون وطباعة، مجانية على حساب جامعة دمشق كون المديرية خدميّة لصالح الجامعة” وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مصير تلك المديرية يبدو مجهولاً في ظلّ ظهور التحوّل إلى “الكتاب الإلكترونيّ” وكذلك مصير تلك الآلات المختصّة بالطباعة بعد توقفها.
الاهتمام بالقشور
تعتبر ريم شعار (طالبة صيدلة في السنة الخامسة) من جامعة تشرين، أنّ هذا القرار يعطي انطباعاً جيداً للوهلة الأولى، وكأنّنا نتطوّر ونتقدم بخطوات حقيقية لتطوير العملية التعليميّة، وتسهيل الأمور على الطلاب للحصول على المعلومات مباشرة دون الاضطرار إلى استخدام المواصلات للذهاب إلى الجامعات أو إلى المكتبات للحصول على المحاضرات بشكلها الورقيّ.
وتضيف ريم في حديثها لموقع صالون سوريا: “لكن بعد التفكير مليّاً والأخذ بعين الاعتبار عدّة أمور، وجدت أنّ تحويل جميع المقرّرات الجامعية لملفاتإلكترونية ليس بهذه البساطة أبداً على الطالب؛ وخاصة في دولة كسوريا عانت ما عانته خلال سنوات طويلة من القلّة وانعدام أدنى مقوّمات الحياة. فمثلاً أول ما يخطر لي ولكلّ طالب سوري هو الكهرباء وتوافرها المعدوم مع الأسف، فكيف لي أن أدرس للامتحان ساعات طويلة ومتواصلة على جهاز إلكترونيّ لا أعلم متى ستفرغ منه الطاقة! ومن الذي له قدرة ماديّة دائمة كي يقضي معظم وقته في المقاهي التي تتوفر الكهرباء فيها، حيث يلجأ إليها العديد من الطلبة الآن؟”.
وتعتقد ريم أن هذا التحوّل يحتاج إلى “بنية تحتيّة من الأجهزة الذكية الخاصّة والتي تدعم العديد من الميزات والتي من الصعب توافرها هنا، عدا عن أسعارها الباهظة في حال توافرت، إضافة إلى العقوبات أو ما يسمى “الجمركة” على إدخالها للبلاد ومشكلة توافر شبكة الانترنت التي ما زلنا حتى الآن نعاني أشد العناء منها”.
وتشير ريم إلى طبيعة الضرر العائد على الصحة من هذه الخطوة، بداية من آلام الظهر والأكتاف بسبب الجلوس الطويل على الأجهزة اللوحية أو الحواسيب ووصولاً إلى التأثير السلبيّ على صحة العيون: “إذا استُخدم الهاتف المحمول لمدة قليلة من الزمن ولاستخدامات عادية حقاً أشعر بانزعاج في عينيّ، فما بالك بدراسة لمدة طويلة!
في النهاية نحن كطلاب نتمنى حقاً أن يتم الاهتمام بالعملية التعليميّة وتطويرها والنظر بصدق ووعي لآلاف المشاكل التي تواجه وتعرقل الطالب السوري والتي لا يلتفت إليها أحد واقعياً وهذا القرار هو وصف لمن ينظر إلى القشور ليلهينا ويترك اللبّ” على حد تعبيرها.
الهاتف بين يدي
تصف ميسون (طالبة في كلية الإعلام) جامعة دمشق، في حديثها لموقع صالون سوريا هذه الخطوة بـأنها “حسنة جدّاً لأنها تسير مواكبةً التطوّر في المجال الرقمي، وهي حقيقة لخطوة جريئة بقدر ما هي مفصلية، لأنّه وبلا شك ستتبعها تطوّرات أخرى في النظم التعليمية وطرق التعليم. وأفضل ما في الدراسة من الكتب الإلكترونية (وفي الواقع هو الأهمّ) أنّها توفّر علينا دفع مبالغ طائلة للحصول على الكتب الورقية، وهذه العملية جيّدة جدّاً ومفيدة في ظلّ تردي الوضع الاقتصادي. كما أنهّا ومن ناحية أخرى توفر الكثير من الوقت والجهد، فبضغطة زر تصبح متاحة على هواتفنا”.
وتستدرك ميسون، من ناحية أخرى، مخاطر هذه الخطوة معتبرة أنها “ليست مجرّدة من السلبيات، فاحتمال حدوث مشاكل صحية (كألم العين، ووجع الرأس.. إلخ..) عند المستخدمين يزيد أضعافاً لأنّ وقتهم يطول أمام شاشاتهم، ناهيك عن ميل أغلب الطلاب نحو الورقيّة منها واعتيادهم عليها، ما يصعّب عليهم التأقلم مع الالكترونيّة” على حد تعبيرها.
وتحبّذ ميسون بشكل شخصيّ الدراسة من الكتب الورقية “لأنها مريحة لعينيّ ونسبة تركيزي فيها تكون أعلى منها في الدراسة من الالكترونيّة، فما دام الهاتف بين يدّي، فإنني لن أقاوم إدماني على مواقع التواصل، وسأدخلها خاضعة” حسب قولها.
وتضيف ميسون: “إنّ الوضع الذي نعيش فيه يفرض عليّ وعلى غيري من عشاق الكتب الورقية استخدام الالكترونيّة، لشحّ الكتب الورقية وصعوبة الحصول على نسخ منها بأسعار تناسب أوضاعنا المادية، وعلى أي حال لن نستغني عنها بالكامل، حتى لو توفرت الورقيّة، فهناك حالات اضطرارية يفضّل أن نقرأ من الهاتف خصوصاً أثناء التنقل في المواصلات، وأنا في بعض الأحيان يحكمني مزاجي، فيروق لي أن أدرس من هاتفي”.
تركيز مفقود
وبعيداً عن أجواء الاحتفال باللحاق بقطار التقنيات الحضاريّة في التعليم، وغض نظرها عن مشكلة جوهرية تشير إلى ثغرات إداريّة، وتبدو خطوة التحول إلى “الكتاب الإلكترونيّ” فرصة للاختباء من إيجاد حلول تناسب أوضاع الطلاب، ووقوفاً عن الجانب الصحيّ لتلك الخطوة، خلصت دراسات منشورة مؤخراً إلى أن استيعاب الطلاب يكون متدنياً أثناء التعلم والقراءة من الوسائل الإلكترونية وأن مستوى الفائدة يكون أقلّ مقارنة مع الوسائل المطبوعة. وبحسب الدراسات فإن الأجهزة اللوحيّة ترهق الأعين عند القراءة وتؤثر على مدى التركيز في المعلومات وتفهمها. إضافة إلى أن عدداً كبيراً من الناس يميلون إلى الاستيعاب أكثر عندما يكون مصدر المعلومة على صفحات حقيقية أكثر من وجودها في نص إلكتروني “ربما لأن تدفق النص يعرقل الانتباه البصري ويفقد القارئ مكان القراءة” حسب ما جاء في إحدى الدراسات عن جدوى التعليم عبر الأجهزة اللوحية.
التجريب بالمواطن
يعتقد الصحفي السوري طارق علي أنه لن يكن هناك إقبال على شراء الكتب الورقية، إذ أن ذلك ليس وليد المرحل الحالية وهو أمر منذ سنوات طويلة فائتة، فالملخصات و”النوتات” هي الطاغية على الكتب الجامعيّة الضخمة، والتي بدورها-أي الملخصات- تحقّق ربحاً لدكتور/ة المادة وللمكتبة التي تطبع، وتريح الطالب من عناء قراءة كتاب تعداد ورقه بالمئات.
ويضيف طارق في حديثه لموقع صالون سوريا: ” هذا حال قديم ولا زال سارياً، وما ازدياد تلك المكتبات في محيط الجامعات إلاّ دليل على نبذ الكتب المطبوعة والاتجاه نحو حلول أكثر راحة للطالب، حتى أن دكتور/ة المادة ت/يلمّح سراً أو صراحةً إلى ضرورة شراء تلك النوتات”.
ويؤكد: يمكن ملاحظة انتشار الملخصات الإلكترونيّة -سلفاً والتي يتبادلها طلبة الجامعات لاسيما في الكليات العلمية، وتلك الملخصات المتداولة تريح الطالب أكثر لتوافره معه في هاتفه -مثلاً- طوال الوقت، وكذلك توفر عليه المال الذي سيدفعه ثمناً للمحاضرات الملخصة-وهي مبالغ كبيرة على الطلبة- لا شك أن الجامعات تخسر حين تطبع كتبا لكلياتها، ومن الجيد نسبيا تحويل التعليم إلى إلكترونيّ، ولكن بالمقابل، ألا يمكن اعتبار الأمر رفاهية مبكرة؟، فليس كلّ طلبة الجامعة يحملون أجهزة حديثة أو لديهم حواسيب محمولة أو حتى كهرباء (…) وبالتالي من الضرورة في مكان تأمين المقومات الأساسية التي تحقق الوفرة والاكتفاء للمواطن (الطالب) ثم البحث في إمكانية تعميم النموذج الإلكترونيّ في بلد كلّ شيء فيه مترابط ولا يمكن فصله عن الآخر.
ويختم طارق كلامه بالتساؤل: “هل هذا التحول سيشوبه نوع من الفساد والسمسرة؟ أم أنه قرار مدروس بشكل كاف وواف في بلد لا تصدر معظم قراراته سوى بهدف التجريب بالمواطن!”.
أخيراً..
أجمع عدد ممن تحدّثنا معهم ولم يوثقوا إجاباتهم أنها خطوة مفيدة فيما بعد، ولكن الآن هناك مشكلة كبيرة وهي توفر الكهرباء من جهة والتأثيرات الصحية من جهة أخرى، وذلك سوف يكون مصدر قلق لهم. في الوقت الذي لم تظهر فيه وزارة التعليم العالي في سوريا في أي تحقيق موثق عن سبب كساد الكتب وهدر المال العام الذي كان يمكن من خلاله تطوير وسائل أكثر تناسباً مع وضع الطلاب اليوم في الجامعات السورية.
روزا ياسين حسن روائية وكاتبة سورية. درست الهندسة المعمارية، وتفرغت للكتابة. ألفت العديد من الروايات وكذلك الكثير من المقالات الثقافية والأدبية في العديد من الدوريات العربية والأجنبية. وهي ناشطة نسوية، وعملت كثيراً على قضايا النساء. أصبحت منذ العام 2015 عضوًا في نادي القلم الدولي PEN وتقيم منذ نهاية عام 2012 فيألمانيا.
عنوان الكتاب: بحثاً عن كرة الصوف – ثلاثة أيام من متاهة المنفى.
الكاتبة: روزا ياسين حسن
الجنس الأدبي: رواية
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر.
سنة النشر: 2022.
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
روزا ياسين حسن (ر.ي. ح): إنها أول رواية لي تدور حول عوالم المنفى. احتجت سنيناً طويلة كي أستطيع الكتابة عن المنفى، كمن علق في مستنقع، لم أستطع استيعاب غرقي القسري فيه، لا استيعاب الصدمة الأولى التي استطالت كثيراً، كما لم أستطيع الخروج منه ولا التنفس فيه! الفكرة معجونة بتجارب شائكة خضتها، كما خاضها آلاف اللاجئين/ اللاجئات في منافيهم اليوم والبارحة وغداً. منبعها الأساسي هو البرزخ الذي نعلق فيه كأرواح معاقبة، التروما العميقة في دواخلنا كلنا، وفي كل شخصية من الشخصيات العديدة المختلفة، وأحياناً المتناقضة، التي تحفل بها الرواية، والتمظهرات المختلفة كذلك للتروما. تطوّر الرواية يتلخّص في صراعنا الشخصي والعام مع تشعبات متاهة المنفى، كمن يبحث عن كرة الصوف/ خلاصه الفردي التي ستخرجه من المتاهة. وكلما مرّ الوقت راحت المصائر المختلفة للشخصيات تتعقّد وتتشعّب وتتفارق.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرواية؟
(ر.ي. ح): عوالم المنفيين/ المنفيات، العوالم الجديدة التي ألفوا أنفسهم فجأة في خضمّها، خيالاتهم، أحلامهم، الشروخ العميقة التي يقعون فيها، مآزق الحياة الجديدة، تحدّيات العيش، والبحث عن الذات في مكان يخلخل الهوية والانتماء الذي حملوه معهم، كمن يبحث عن ذاته وسط أكوام قش متراكمة، وكمن يحاول إعادة تعريف بديهياته، التي كانت حتى لحظة اندلاع المنفى بديهيات. أو كمن يحاول إعادة تعريف ذاته كما تعريف الآخر. هي رواية حافلة بالأسئلة.
(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ر.ي. ح): أنا روائية، والرواية هي العالم السحري الذي بنيته وسكنت فيه من زمان. ولولا ذاك العالم/ التخييل لما أمكنني إكمال العيش في هذا العالم/ الواقع. الرواية هي التاريخ السري الذي يمكننا نحن “المهزومون” كتابته، تاريخنا الحقيقي، فالتاريخ الرسمي لن يكتبه إلا المنتصر/ المستبد. وأعتقد أن الحكاية هي التي تجعل التاريخ الذي نريده موجوداً، تخلقه ببساطة، مما يعني أن الحكاية مع الزمن هي التي ستكوّن التاريخ الذي سيقرأه القادمون فيما بعد إلى هذه الحياة، لذلك فنحن عبر الرواية نشارك في كتابة تاريخنا. والتأثير الذي تتحدّث عنه لن يكون بالتأكيد تأثيراً آنياً مباشراً، وإنما حفر بطيء صعب ولكن عميق في وجدان البشر.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ر.ي. ح): الرواية عالم موازٍ تبنيه وتعيش فيه بلحمك ودمك، لذلك فهو تجربة عيش حقيقية. في هذه الرواية كنت “مريضة” تكتب عن “مرضى”، باختصار. شخصية من شخصيات الرواية عالقة في تلك المتاهة وتكتب عنها. يعني أن أكتب عوالم التروما وصراعات المنفيين مع أنفسهم والحياة الجديدة أمر ليس بالسهل إذا كنت بنفسي واحدة منهم. كضحية تعيد عيش تجربتها وألمها مرة تلو أخرى.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ر.ي.ح): هذه هي روايتي السابعة، أول رواية كانت في العام 2004 “أبنوس”، مروراً بروايتي التوثيقية “نيغاتيف”، ثم “حراس الهواء”، “بروفا”، “الذين مسّهم السحر”، و”بين حبال الماء”، والآن رواية “بحثاً عن كرة الصوف”، بالإضافة إلى أكثر من كتاب مشترك.
(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ر.ي. ح): بالتأكيد. حتى تتمكّن من فهم نفسك وفهم الشخصيات الأخرى من المنفيين/ المنفيات، وتمظهرات التروما المختلفة لدى كل منهم، يجب أن تفهم المعنى العميق للتروما، بالمعنى السيكولوجي والثقافي والاجتماعي، وأين تكمن في دواخلنا وكيف تظهر فجأة مدمّرة كل شيء حولها. تماماً كما يجب عليك أن تطّلع قدر الإمكان على التجارب الإبداعية الأخرى التي كتبها غيرك من المبدعين/ المبدعات حول تجارب المنافي. على كل حال أظن ان الرواية صديق فضّاح، يفضح ثقافة الكاتب/ الكاتبة وعوالمه المعرفية وبنيته الثقافية وقدرته على التحليل والفهم والإحاطة بالحدث، والأهم ديمقراطيته. بمعنى أن “الكتابة الديمقراطية”، إن صحّ التعبير، تمكّن الآراء المختلفة والتفاصيل الشخصية للشخصيات المتباينة من طرح نفسها بدون أحكام قيمة.
(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول إنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟
(ر.ي.ح): لا توجد وصفة سحرية ومنجزة تجعلنا نقول، إذا تمّ تحقيقها، إن هذه الرواية إبداعية. الإبداع مفهوم شائك وخبيث ومخاتل، والرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية تملّصاً من التعريف أو التصنيف. ربما لذلك استطاعت أن تطوّر نفسها على طول الوقت، وتتجاوز أية قوالب جاهزة ومعدّة لها.
بالنسبة لي باختصار، الرواية التي تجعلني، بأية طريقة من الطرق، بعد قراءتها مختلفة عمّا كنت قبلها، سواء بالمعنى الثقافي المعرفي أو الإحساسي أو الجمالي، أو التي تهبني لحظات من المتعة، هي الرواية الإبداعية برأيي.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ر.ي. ح): أفكر بالتأكيد في مشروع جديد، خصوصاً وأن نشر رواية يجعلك تقتنع بأنها لم تعد تنتمي إليك، كأنك غادرت وطنك مجدداً، وأن عليك التفكير في شيء جديد تنتمي إليه. أي أن تبدأ بخلق ذلك العالم الموازي الذي حدّثتك عنه، والذي بدونه لا يمكن إكمال العيش.
مقطع من رواية “بحثاً عن كرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى”
غذّ “سرمد” السير مبتعداً فقد تأخّر عن موعده أكثر من نصف ساعة. سمع حديثاً بالعربية من قبل جماعة من الرجال مرّ بقربهم، لكنه لم يلتفت إليهم، فهو أمر مألوف في هذه البقعة من مدينة هامبورغ التي تمتلئ بالمهاجرين ومنهم الكثير من العرب. ثم أن حديثاً بالعربية لجمع من الرجال يرمقونه بقرف واستهجان يجعل السائل الحامض ذاته ينزل معدته حارقاً ما يمر في طريقه. لم يعد يتخيّل أن يقيم أية علاقة عاطفية مع أي رجل سيخاطبه بالعربية. كلمات الحب الحميمة بالعربية صارت بالنسبة له أقرب إلى شتائم، لا يقولها إلا زبائنه المقرفون ومتحرّشو الطرقات.
بشع كتير أن تتحوّل لغتك الأم إلى لغة تمارس عنفاً معك، تحتقرك وتذلّك!
قال “سرمد” ذات يوم لـ”مصطفى” في إحدى نوبات بكائه القاسية.
لكن الأخير كان قد اشترط سلفاً على “سرمد” أن يأتيه اليوم بملابس عادية، تناسب شاباً طبيعياً في مثل عمره، لا تلك الملابس التي تجعله يبدو أقرب إلى عاهرة غنجة ذاهبة لاصطياد الرجال. ببساطة بنطال جينز وبلوزة عادية مع الجاكيت. دون أي أثر لمساحيق التجميل على وجهه، ولا حتى لبعض الماسكارا السوداء على الرموش والتي تظهر واضحة جلية وصادمة حين تنعكس على زرقة عيون “سرمد”. لم يتعب نفسه ويذكر شيئاً عن كريم الشعر، الذي يضمّخ “سرمد” به شعره كي يصفّفه إلى الخلف ويبقى لمّاعاً حيوياً، فهو متأكد بأن صديقه لن يتحرّك خطوة من دونه.
وهو يغذّ السير، تذكّر “سرمد” لوهلة الكابوس الذي استيقظ عليه اليوم، هجمت عليه المشاهد كوحش جائع! كان في منطقة شبيهة للغاية بهذه المنطقة، وعيون الرجال في الكابوس، الذين كانوا يراقبونه وهو يُغتصب وسط الشارع، شبيهة للغاية بعيون هؤلاء الرجال، محتقرة هازئة ومليئة بالتشفّي. هو يصيح من الألم وهم يقهقهون.
نفض رأسه بقوة كي يطيّر الذكرى، لكن غصّة قلبه لم تغادره، وشعر برغبة عارمة في البكاء. حين سيرى “مصطفى” سيحكي له عن كوابيسه، وسيقول له إنه لم يعد يميّز بين كوابيسه وواقعه، لم يعد يعرف إن كان ما حدث معه الليلة الفائتة مثلاً هي حقيقة أم كابوس! وسيسأله “مصطفى”: ما الذي حدث؟! لكنه لن يخبره بشيء.
في العمل لا يعرف أحد حقيقة “مصطفى” البتة، هم يعرفون فحسب بأنه شاب في الثلاثين من عمره، درس علوم الكيمياء في سوريا، وولد في إحدى ضواحي المدن السورية، تلك البلاد المنكوبة التي كانت تتصّدر نشرات الأخبار الألمانية كمثال عن المدن العريقة الأثرية التي تحطّمها يد الغوغاء. الغوغاء في نشرات الأخبار الألمانية غالباً لا شكل لهم ولا لون، هناك داعش والإسلام المتطرّف على الأرض، وهناك من يضرب من السماء على المدن ولكنه مجهول، لا اسم له في الغالب، إلا حينما يكون الأمر أوضح من أن يتمّ إغفاله، فيخرج اسم النظام السوري أو حليفه الروسي ضعيفاَ حيّياً كمسؤول عن إلقاء البراميل المتفجرة والغارات المتلاحقة على مناطق المتمردين.
Oh Syrien, arme, schade, es ist wirklich eine Katastrophe.
آه سوريا، مساكين، يا للخسارة، إنها حقاُ كارثة!
يتأوّه زميله الألماني في العمل كل صباح ويهزّ برأسه أسياناً، حتى أن “مصطفى” كان يشعر في بعض الأحيان بأن عليه مواساة ذلك الألماني على مصاب سوريا وليس العكس!
لكنه فجأة يقف نافضاً تلك الفكرة اللئيمة الساخرة من رأسه:
هل نكون قد تحوّلنا إلى تماسيح؟! صخور؟! أم أن الكوارث حين تتوالى لا يعود لمساحة التعاطف والحزن مكان، التعاطف حتى مع أنفسنا وأحبابنا! لا يعود هناك وقت لنبكي أو نندب، المكان والوقت كله مسخّر لنبقى على قيد الحياة، لنكمل السير في تفاصيل متشعبة للغاية في هذه الحياة التي ينبغي أن تستمر.
على الرغم من أن “مصطفى” كان ينتظر كل يوم خبراً مشؤوماً، خبراً صاعقاً يتوقّعه، وراحت روحه بكليتها تتقبّل قدومه، حتى أنه من الممكن أن يستمر في حياته هذه لو سمع بأن كامل عائلته رحلت في قصف ما قد يحدث في أية لحظة!
ألهذه الدرجة يمكن أن يعتاد المرء الكوارث والفقدان!
كان على “سرمد” أن يأتي لرؤية “مصطفى” اليوم، فالأخير أخبره قبل عدة أيام بأن صاحب البيت الألماني الذي يسكن فيه وافق أن يؤجّر “سرمد” غرفة في البيت مقابل أجار زهيد، وفي البداية دون أي أجار حتى تتحسّن أوضاعه الاقتصادية المتأزّمة، وذلك دعماً منه للشباب المثلي الشرقي، “ذاك الذي يخوض حرباً حقيقية ضد عاداته وتقاليده ومجتمعاته وذاكرته التي تضطهد المختلف وخصوصاً المثليين”، حسب تعبيره. يقولها هكذا وهو يضمّ قبضته ويدفعها في وجه الفراغ أمامه، كأنه يكيل ضربة قاضية لتلك التقاليد والعادات والمجتمعات والذاكرة! حتى أن “مصطفى” تمنى فعلاً لو أنها تتحوّل إلى كتلة مادية، لكان مزّقها نتفاً بأظافره وأسنانه ويديه ورجليه!
تنحدر أصول صاحب البيت من قرية صغيرة قريبة من العاصمة “برلين”، لكنه يسكن في مدينة “هامبورغ” منذ مدة طويلة، وعلى الرغم من أن “برلين” تعتبر من أكثر المدن الصديقة للمثليين في العالم، إلا أنه اختار كمثليّ مدينة “هامبورغ”، المدينة البحرية المنفتحة، للعيش فيها، مدينة تقبل المختلف وتعتبر نسبة المثليين فيها من أعلى النسب في المدن الألمانية.
صاحب البيت يسكن مع شريكه، الذي يصغره بعشر سنوات، منذ أعوام طويلة. رغم أنهما لم يتزوجا إلا قبل مدة قليلة. وهو حريص أن يظلّ النادي الذي أسسه باسم: نادي قوس قزح Rainbow Club، فاعلاً ونشيطاً ومستقطباً للكثير من الشبان المثليين، خصوصاً الشرقيين منهم. يتفاخر أمام أصدقائه بأن هناك أكثر من سبعين شاباً سورياً من أعضاء النادي، لا يتأخرون عن حضور اجتماعاته وأنشطته وحفلاته، وكذا الخروج في مظاهراته المناهضة للعنصرية والهوموفوبيا. وهو إذا وافق على سكن “سرمد” في البيت فلأنه لا يمكن أن يقبل شخصاً في بيته لا يحترم ويفهم ماذا يعني أن يكون الرجل مثلياً، ويعيش مع زوجه الحبيب.
رغم أن المثليين في بلداننا يا ستيف لا يعيشون في سلام تام داخل مجتمعاتهم الصغيرة، إلا أن القوانين في النهاية تحميهم. أما أنتم فلا قوانين ولا دعم اجتماعي يقف إلى جانبكم.. مساكين. علينا أن نكون سوية فليس لنا إلا دعم بعضنا..
ثم غمز صاحب البيت “ستيف” وقهقه بألم وهو يجهّز سلطة خضراء لطعام العشاء.
“ستيف” هو اسم “مصطفى” الذي يعرفه كل الناس به في وطنه الجديد “ألمانيا”، إلا ابن بلده “سرمد”.
يبدو صاحب البيت الألماني وهو يكلّم “مصطفى” كأنه يهجّي كلماته في درس لغة، فيما يتكلّم مع زوجه بسرعة لا يكاد “مصطفى” يلتقط من حديثهما شيئاً!
“مصطفى” يشعر حقاً بأن هذا وطنه، هذا ما يكرّره دوماً أمام “سرمد”. على الرغم من أنه يعيش شخصيتين متناقضتين تماماً:
في النهار يعمل كأي رجل ملتحٍ و(شديد) في مستودع الأدوية، ولا يمكنه أن يسمح لأي تفصيل صغير يشي بحقيقته أن يظهر أمام زملاء العمل، حتى لو كانت ثياب صديقه الآتي ليزوره في العمل.
أما في الليل فيتحول إلى “ستيف”، يرتدي ثياب النساء وحليهنّ ومكياجهنّ ويذهب للسهرة في بارات المثليين والعابرين الجنسيين. يحرص على اختيار الثياب الأنثوية الملونة المليئة بالدانتيلا والشبك والتزيينات، التي تجعله يبدو بالفعل امرأة بكامل أنوثتها، ولولا تلك اللحية المشذّبة الناعمة لما شكّ أحد بأنه امرأة حقيقية، خصوصاً حين لا يخرج ليلاً إلا بستيانات محشوة بإسفنجات سميكة تظهره بثديين عارمين، تضفيان على مظهره أنوثة إضافية شهيّة.
“الأمر بيشبه وقت كنّا في سوريا قبل الحرب”.
يقول لي “ستيف”، “كان ينبغي أن نكون بشخصيتين: شخصية المواطن البعثي المؤمن بالقائد وحزبه، واللي ما ممكن يعمل أي شيء فيه معارضة، وفي البيت وبين الأوساط المغلقة الموثوقة نشتم الرئيس وحزب البعث والقيادة الحكيمة والقدر الذي جعلنا في مثل هكذا بلد يحكمه مجموعة من الطغاة العرصات.. أرأيت؟! مو بس هيك، بل أكثر من شخصية اجتماعية متناقضة لذات الشخص أيضاً، أمام العائلة شيء، وفي المجتمع المحيط شيء آخر، وفي غرفتك أمام كومبيوترك والتشاتينغ شيء ثالث لا يشبه ما سبق. التناقض، الشخصيات المتناقضة المختبئة فيك، أمر معتاد في مجتمعاتنا. بل تربينا عليها.. صحيح؟! استتروا، داروا، خبّئوا.. وهكذا، أنا معتاد على الأمر، بل أستمتع به! يعني.. أممم.. أقصد أن أكون بشخصيتين متناقضتين أو أكثر، لا يمكن لأحداهما أن تشي بالأخرى أو تؤثر عليها أو تتأثر بها! عالمان متوازيان تماماً!”.
يمدّ “مصطفى” كفيه إلى الأمام بشكل متواز وهو يعيد الفكرة ذاتها مجدداً أمام صاحب البيت وهما يلتهمان عشاءهما.
كانت الأزمة الاقتصادية قد بدأت تدريجياً قبل الحرب السورية بعدة سنوات، ولاحت علامات التذمر على وجوه السوريين ليحل من بعدها وباء الحرب اللعينة وندخل في دوامة الهباء ويقطع الشيطان حبل الود بين السوريين الذين اعتادوا التآخي والمشاركة في هموم الحياة ومسراتها.
أطبقت الحرب على أعناق السوريين ليتخبطوا بين طيات الفقد والنزوح والفقر، كَثر الشحاذون في الشوارع وعند أبواب المحلات وانعدم الأمن والأمان، ما عادت قلوبنا تحتمل ضربات العوز التي لم نذقها يوماً مهما وصلت درجة التفاقم، فكان قدرنا أن نمضي وحدنا.
تصاعد الوضع إلى ما بعد القتل والترهيب والتهجير، فأوجدت الحرب تجار الأزمة الذين صعدوا فوق أكتاف وأجساد أخوتهم، نهض الكثيرون اقتصادياً وذوى كثيرون، وبات لا سبيل حتى للقمة الخبز، يوم بعد يوم غدا الوضع السوري في تردٍّ.
واليوم ربما انتهت الحرب جزئياً ليتنفس معظم السوريين ويسترخوا بعد تشنج ورعب دام سنوات، لكننا وقعنا دون سابق إنذار في “حصار قانون قيصر” حسب ما أخبر بعض من قابلهم موقع صالون سوريا في ريف حماه، حيث أشاروا أنه قانون “فُرض علينا وأدخلنا في دوامة اللاشيء.. فأي صبر نمتلك؟”.
في خضم الحصار كنا كمن يحاول رفع يده من القبر منادياً: “هنا.. أنا السوري.. دعوني أعيش!” فإذا بزلزال شباط 2023 يضرب جدران أرواحنا لينتزع آخر ما علق منها في الحياة.
البطالة المزهِقة
اقتضت الحرب برفع سنوات “الخدمة العسكرية” إلى التسع كما انخفض راتب الموظف السوري إلى عدة دولارات فقط بعد الانخفاض المرعب لقيمة الليرة السورية بسبب الحصار، وبات السوري لا قدرة له على إعالة عائلته، وأعرض الكثير من الشباب عن الزواج وباتوا يتخبطون بين عمل وآخر، كل ذلك أدى إلى بطالة أجهضت إرادتهم وأدخلتهم في دوامة اليأس القاتل.
في إحدى قرى حماه كان لنا وقفة مع شبان يذهب عمرهم سدى كفاحاً وأحلاماً، ومنهم راكان (40 سنة) وهو ابن عائلة فقيرة، فقد والده في حرب الثمانينات، وقال بشيء من المرارة لموقع صالون سوريا: “ما ذنبنا نحن الشعب الصامد الصابر، إننا فقط نريد أن نعيش؟” كان راكان قد غادر سوريا متجهاً إلى لبنان طلباً للعمل كي يبني بيتاً ويتزوج، وهناك اجتهد عدة سنوات لتباغته الأزمة حيث بدأ نزوح السوريين هرباً من الحرب إلى الأقطار المجاورة والتي كان إحداها لبنان مما اضطره للعودة بناء على “مبرر ظالم وهو أن السوري بات مكروهاً؛ السوري الذي فتح قلبه وبيته للجميع في أزماتهم وحروبهم أصبح غير مرغوب به، إضافة إلى انخفاض أسعار العمال السوريين هناك” حسب وصفه.
رجع راكان دون رصيد، إلا من بيت متواضع استطاع بناءه بمساعدة أخيه، ويعيش فيه مع وأمه وعائلة أخيه وعائلته بعد أن مكث لسنوات في خيمة لعدم توفر المال قبلاً. لقد بحث راكان عن عمل دون جدوى ليرسو بعد ذلك في عمل مضنٍ “ضمن كسارات الحجر المنتشرة بكثرة في حماه، هذا العمل المجهد حد التسبب بديسكين في ظهره”.
يقول: “العمل في الكسارة منهك، أعمل يومين فقط في الأسبوع إذ إن العمل قليل بسبب الأزمة الاقتصادية، والدخل لا يكفي لكيلو لحمة ولا حول ولا قوة، ماذا عساي أفعل؟ وماذا أقول لأطفالي عندما يأتي العيد دون أن أستطيع شراء الثياب لهم…؟ أو كيف أعالجهم إن يمرضوا وعلبة الدواء سعرها 25 ألف ليرة سورية؟ الحياة صعبة جداً وما حدا حاسس بحدا”.
راكان يرزح تحت ثقل الديون إضافة لدفعه فوائد هذه الديون, تسنده زوجته سمر التي تتمزق بين ماكينة الخياطة وطفليها ومهامها المنزلية.. سمر المنهَكة حد إيلامنا.
كان العجز يسيطر على أجواء هذا اللقاء مع تلك العائلة، فالأمل لديهم مفقود وعمل الزوج والزوجة لا يكفي، والعائلة تعيش بسبب ظروفها المادية القاسية بعيداً عن أية وسيلة ترفيه حتى على صعيد النت الذي غدا متوفراً في كل بيت سوري.
الشباب السوري الجبار
ويخبرنا مالك (25 سنة) عن مسيرته الصعبة خلال كدحه ضد ظروفه الشاقة. لقد كان مالك طالباً جامعياً في كلية الآداب- قسم اللغة الإنكليزية، ولسوء حظه اقترنت دراسته بسنوات الأزمة. والده المعلم المتقاعد والذي تتكون عائلته من 9 شبان وبنتين استلف قرضاً من البنك من أجل جامعة ابنه لأن راتبه المتواضع لم يكن ليكفي، كان مصروف الجامعة غالياً حوالي 50 ألف ليرة شهرياً بسبب ظروف الحرب، توفي الأب بعد سنتين ومالك في الجامعة مما اضطره لتركها والعمل في سبيل إيفاء القرض، الأمر الذي منعه من إكمال دراسته خاصة بوجود أخت معاقة تحتاج دائماً للعلاج والدواء، فأخوته الباقون جميعهم بعيدون ولا معيل للعائلة سواه، حاول مالك البحث عن عمل ثابت وبدأ بالتنقل “القطاع الخاص امتص دمه- عمِل في منجرة حجر فتدهورت صحته، كان حزيناً فكيف له أن يتأقلم مع وضعه الجديد بعد أن كان طالباً”.
ويؤكد بشيء من السخرية خلال حديثه لموقع صالون سوريا: “لم نكن نمتلك ثمن خبز، وما من رزق لدينا فقط قطعة أرض كانت في حوزتنا باعها أبي من أجل عملية في القلب لأخي الشاب الذي توفي رغم جهودنا”.
مبتسماً يضيف: “منزلنا قديم، هدم الزلزال أحد جدرانه وتكلفة بنائه مليون ونصف، معي نصف المبلغ ولا أعلم كيف أكمله؟”. وحالياً يعمل مالك في مطعم خارج قريته وقد أشار لموقع صالون سوريا “أنه في معظم الأحيان يعود إليها مشياً على الأقدام لعدم توفر ثمن بنزين من أجل دراجته النارية، حتى السجائر بات مصروفها ثقيلاً عليه فبدأ بتخفيفها تدريجياً رغم ولعه بها”. وعندما سألناه إن حاول السفر خارج القطر أجاب: “آمل ولكن من أين لي بالنقود والسفر يكلف آلاف الدولارات؟ لن أيأس من الوضع فأنا من جماعة الاكتفاء الذاتي”.
(تحقيق أجراه الصحفي الأمريكي نيك تيرس لموقع إنترسيبت)
سرق لصوصٌ ما تبلغ قيمته مئات آلاف الدولارات من معدات المدفعية، و“أنظمة أسلحة غير معروفة“، وذخائر خاصة بأسلحة محددة مُرْسلة إلى القوات الأمريكية في سوريا والعراق، بحسب وثائق حصرية حصل عليها موقع إنترسيبت. بقيت عمليات السرقة التي جرتْ في مواقع أمريكية بعيدة في المنطقة، أو أثناء النقل إليها دون حل. وشكّلت دليلاً جديداً على وجود مشكلة ملحة ساعدت قوات الأعداء من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وطالبان في أفغانستان على تسليح أنفسهم وحتى على قتل الأمريكيين وشركائهم الأجانب على حساب دافع الضرائب الأمريكي.
تُلْقي عمليات السرقة الضوء على حروب الظل الأمريكية في المنطقة، حيث قُتل مقاول أمريكي وجُرح ستة أمريكيين آخرون الأسبوع الماضي في هجوم نفذته طائرة مسيّرة انتحارية على قاعدة أمريكية في شمال شرق سوريا. كانت الغارة الجوية التي تمت بطائرة كاميكازي على القاعدة واحدة من ثمانين هجوماً تقريباً استهدفوا القواعد الأمريكية في العراق وسوريا منذ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١ ما دفع الولايات المتحدة إلى اتهام ولوم مجموعات تابعة لإيران وأمر الرئيس بايدن بشن غارات جوية انتقامية رداً على الهجوم الأخير ”كي نحمي جنودنا وندافع عن أمانهم“. إن عمليات السرقة والخسائر التي كشفها موقع إنترسيبت هي فقط أحدث مشاكل المساءلة التي يواجهها الجيش الأمريكي في العراق وسوريا. واكتشف تدقيق أجراه المفتش العام لوزارة الدفاع في ٢٠٢٠ أن قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب- الوحدة الرئيسة التي تعمل مع حلفاء أمريكا السوريين لم تقدم حساباً دقيقاً حول اختفاء ما تبلغ قيمته ٧١٥،٨ مليون دولار من عتاد اشتُري لوكلاء وحلفاء محليين. إن فقدان الأسلحة والذخائر مسألة حساسة في غاية الأهمية، وحاول الجيش جاهداً منع ذلك. وحين سحبت الولايات المتحدة قواتها من موقع قرب كوباني في سوريا في ٢٠١٩ نفذت غارات جوية لتدمير الذخائر التي خلفتها وراءها. ودمر الجيش أيضاً عتاداً وذخيرة أثناء انسحابه العشوائي من أفغانستان في ٢٠٢١. ورغم ذلك، اكتشفت منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيئة أبحاث النزاعات المسلحة، على سبيل المثال، أن قسماً كبيراً من ترسانة تنظيم الدولة الإسلامية يتألف من أسلحة وذخيرة صنعتها أو اشترتها الولايات المتحدة استُولي عليها أو سُرقت أو تم الحصول عليها بطريقة أخرى من الجيش العراقي والمقاتلين السوريين. كشفت ملفات تحقيقات جنائية تم الاطلاع عليها بمقتضى قانون حرية المعلومات عن التوصل إلى أدلة حقيقية حول حدوث أربع عمليات سرقة كبيرة على الأقل وفقدان للعتاد الأمريكي، وبلغت قيمة العتاد المسروق أو المفقود تقريباً مائتي ألف دولار في العراق وسوريا بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٢ بما فيه قنابل يدوية ٤٠ ملم شديدة الانفجار سُرقت من القوات الخاصة الأمريكية. ”هذا صادم ومأساوي“، علقتْ ستيفاني سافيل المدير في مشروع تكاليف الحرب التابع لمؤسسة واطسون للشؤون الدولية والمحلية في جامعة براون. ”إن هذه الأسلحة المسروقة ستنتشر وتزيد من حدة العنف السياسي واللامشروع وتجعله أكثر إهلاكاً، كما رأينا الأمر يحدث في حروب وصراعات أخرى“.
إن قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب – التي تشرف على الحرب الأمريكية في العراق وسوريا لا تعرف حتى حجم المشكلة. لا تمتلك قوة المهام سجلاً حول أية سرقات من القوات الأمريكية، كما قال الناطق باسمها. ”ليس لدينا المعلومات المطلوبة“، قال لموقع إنترسيبت مدير الشؤون العامة النقيب كيفن تي. لفنغستون حين سُئل إن كانت قد سُرقت أية أسلحة وذخائر أو عتاد في السنوات الخمس الماضية. كان الهدف المعلن لنشر القوات الأمريكية في العراق وسوريا إلى جانب قوات أمن عراقية وقوات كردية ووكلاء سوريين إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية، لكن القوات الأمريكية تحارب أيضاً وبصورة متزايدة الميليشيات المدعومة من إيران في حرب جانبية غامضة من الناحية القانونية. ويعمل الأمريكيون في قواعد حيث عدم الكشف عن المعلومات هو في بعض الأحيان العرف ولا يتم الوثوق دوماً بالشركاء المحليين مثل قوات سوريا الديمقراطية. وفي ظل محدودية الإشراف الخارجي أو التغطية الصحفية للعمليات العسكرية الأمريكية تقتصر المعلومات حول هذه النزاعات إلى حد كبير على التصريحات المشكوك فيها للقادة العسكريين الأمريكيين، والبيانات الصحفية العسكرية، والتقارير المعتمدة رسمياً. وتلقي سجلات التحقيقات الجنائية التي حصل عليها موقع إنترسيبت بعض الضوء حول كيفية خوض الحروب الأمريكية في العراق وسوريا في الحقيقة. تذكر هذه الملفات أنه في وقت ما في أواخر ٢٠٢٠ أو بداية ٢٠٢١ سُرقت ”عدة مدفعية ميدان متخصصة وتجهيزات عديدة“، من شاحنة عسكرية وهي تنقلها إلى القاعدة الجوية في أربيل في شمال العراق. وحين وصلت الشاحنة إلى الموقع في كردستان اكتشف الجنود الأمريكيون أنه فُقد عتاد من الشاحنة تقدر قيمته بمبلغ ٨٧،٣٣٥،٣٥ دولار أمريكي. ”لم يتم التوصل إلى أية أدلة“، ولم يتم تحديد أي مشتبه بهم بحسب ملف التحقيق. وفي شباط ٢٠٢١ سرقت ”٤٠٠ طلقة خارقة للدروع و٤٢ قنبلة عيار ٤٢ ملم شديدة الانفجار ومزدوجة الغرض ”قادرة على اختراق ثلاث بوصات من الفولاذ“، بحسب الجيش، من إمدادات ذخائر القوات الخاصة في موقع القرية الخضراء في شمال غرب سوريا. وتوصل تحقيق جنائي إلى أنه تم ”التعامل مع الذخائر بإهمال وثمة غياب للمسؤولية القانونية“، ما سمح ”لأشخاص مجهولين بأن يسرقوا الذخائر“، التي قُدرت قيمتها ب ٣،٦٢٤،٢٤ دولار.
في تموز (يوليو) ٢٠٢١ سُرقت ”خمسة أنظمة أسلحة“ تقدر قيمتها ب ٤٨،١١٥ أثناء نقلها في ”موكب عن طريق البر“ من قاعدة حقل كونيكو للغاز – وهي قاعدة غير بعيدة عن القرية الخضراء – إلى قاعدة في سوريا. سُرقت الأسلحة من حاوية شحن ولم يتم العثور على شهود أو التوصل إلى أية أدلة. وذكرت الوثائق أن اللصوص اقتحموا في كانون الثاني (يناير) الماضي حاوية شحن في طريقها إلى القاعدة الجوية في أربيل في العراق وسرقوا عتاداً عسكرياً ومقتنيات شخصية تقدر قيمتها بأكثر من خمسة وسبعين ألف دولار. وبعد أربعة أشهر تقريباً سُرقت٢،١٠٠ طلقة خارقة للدروع الجسدية وثلاثة صناديق من ”قطع الغيار“ غير المحددة حُمّلت على حوامة بلاك هوك في قاعدة الأسد الجوية في العراق وكانت منطلقة إلى قاعدة أربيل الجوية، حيث كان من المفترض أن تصل لجنود من وحدة تُدعى قوة مهمة الهجوم. زعمت تلك الوحدة أنها لم تتلق الذخيرة أبداً ما أدى إلى الشروع بتحقيق. بعد شهر تقريباً، زعم أفراد هذه الوحدة أنهم استطاعوا تحديد مكان صندوق يحتوي على ١٦٨٠ طلقة من الذخيرة المفقودة، لكن السجلات لا تذكر بقية الطلقات والقطع. ويظن المحققون الجنائيون في الجيش أن هناك سبباً مرجحاً في جميع الحالات، باستثناء الحالة الأخيرة، لاتهام المسؤولين بسرقة ممتلكات حكومية أو أسلحة حكومية إذا تمكنوا فقط من العثور على اللصوص.
(دورية أمريكية راجلة في قرية القحطانية في شمال شرق الحسكة)
وكشف تقرير المفتش العام لوزارة الدفاع في ٢٠٢٠ خللاً في الحسابات المتعلقة بعتاد يبلغ ثمنه أكثر من ٧٠٠ مليون دولار اشتُري لوكلاء أمريكا السوريين وتوصل التقرير إلى أن قوات العمليات الخاصة لم ”تحافظ على قوائم شاملة بالعتاد كله الذي اشتُري وتم استلامه“. هناك وحدة عسكرية أخرى، تدعى قيادة الإمداد والتموين الأولى لمسرح العمليات خزنت بشكل يخلو من الدقة أسلحة كالرشاشات وقاذفات القنابل، بحسب التدقيق. وتركت ”آلاف الأسلحة وقطع العتاد الحساسة معرضة للفقدان أو السرقة“. ونظراً لعدم الدقة في حفظ السجلات والإجراءات الأمنية غير الكافية لم تستطع هذه الوحدة حتى ”أن تحدد إن كانت الأشياء قد ضاعت أو سُرقت“. شكل فقدان الأسلحة والذخائر مشكلة ملحة للبنتاغون. ففي منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين فقدت الولايات المتحدة مئات آلاف البنادق في أفغانستان والعراق بحسب بحث أشرف عليه إيان أوفرتون من منظمة العمل من أجل الصراع المسلح وهي مؤسسة خيرية مقرها لندن. واستولت جماعة طالبان على كميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية حتى قبل الهزيمة الأمريكية في أفغانستان. وحين انسحبت القوات الأمريكية في ٢٠٢١ تركت خلفها ما تبلغ قيمته ٧ بليون دولار من العتاد العسكري. كانت النتائج أحياناً كارثية، فمن أفغانستان إلى العراق كانت هذه الكميات من الأسلحة تُستخدم ضد حلفاء الولايات المتحدة ومن المحتمل ضد القوات الأمريكية. ”إن كل قطعة من هذه الأسلحة التي تُقدم لقواتنا الشريكة تخضع للمسؤلية القانونية وتُصوب إلى تنظيم الدولة الإسلامية“، قال ناطق من قوة المهام المشتركة في تغريدة في ٢٠١٧. لكن يبدو أنه ليس لديه أية معلومات حول السرقات، وغير متأكد من أن الأسلحة والذخائر الأمريكية التي سُرقت بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٢ لن تُستخدم ضد القوات الأمريكية أو وكلائها. للجيش الأمريكي تاريخ طويل من التستر على فقدان الأسلحة. فقد توصل تحقيق قامت به وكالة الأسوشيتد برس في ٢٠٢١ إلى أنه ”فُقدت ١٩٠٠ قطعة سلاح أمريكية على الأقل أو سُرقت في ٢٠١٠ وعاود بعضها الظهور في جرائم عنيفة“، وإلى أن ”الجيش الأمريكي تستّر على اختفاء أسلحته النارية أو قلل من حجمه، ومن أهمية فقدان الأسلحة والسرقات وهذا نموذج من السرية والتكتم يعود إلى عقد تقريباً“. إن افتقار قوة المهام الخاصة المشتركة للسجلات وللشفافية يجعل من المستحيل معرفة كيف فُقدت الأسلحة الأمريكية أو سُرقت في سوريا والعراق، أو إن كانت هذه الأسلحة قد استُخدمت ضد القوات الأمريكية أو حلفائها، لكن سافيل من مشروع تكاليف الحرب تخشى أن يكرر التاريخ نفسه. قالت معلقة على السرقات الموثّقة في سجلات وملفات التحقيقات الجنائية: ”سيُصاب الكثير من الأشخاص أو يُقتلوا جراء ذلك. هذه إحدى العواقب الناجمة عن القيام بعمليات عسكرية أمريكية في كثير من المواقع خارج البلاد“.
*الصورة الأساسية المرافقة للمقال: (جندي أمريكي يحمل قاذفة صاروخ أرض- جو من نوع جافلين أثناء مناورة عسكرية مشتركة في ريف دير الزور في شمال شرق سوريا في السابع من كانون الثاني، ٢٠٢١)
لم يكن يخطر في بال الجموع التي هزَّت البلاد منذ سنوات أصبحت لا تُعَدُّ أنَّ الأشياء كلّها ستحصل على حرّيتها إلاّهم. الحرية تلك الكلمة الأثيرة التي اعتلت الحناجر والمنابر ولافتات الشوارع، تجتاحنا بلا رحمةٍ اليوم… الأشياء تتحرّر تباعاً.. كل صباح أستيقظُ لأترقّب جغرافيا الحرية، الخبز الحُرّ.. السكر الحُرّ.. الرز الحُرّ.. الزيت الحُرّ.. المازوت الحُرّ.. البنزين الحُرّ… والسقوط الحرّ للكرامة الإنسانيّة في هاوية سحيقة من الضلال السياسيّ والتمزّق الطائفيّ والانهيار الاقتصاديّ. نعم لقد أصبحت هذه السلع كلّها حرّة، ونحن نراقبها بصمت، عبيداً، أمام هذه الكثرة الكاثرة من الحريّات السِلعيّة.. ونصلي من أجل أن تخسر السلع حرياتها، وتعود إلى عبوديتها، ولكن السلعة الوحيدة التي لم تصبح حرة حتى الآن هي الإنسان!
الفرح لا فسحة للاكتئاب في ديارنا، الفرح يداهمنا كيفما توجهنا، كأن تستيقظ على صوت شحن بطاريات الطاقة مدركاً أن الكهرباء العزيزة في الدِّيار… ثم تخرج إلى عملك لتستقلّ إحدى وسائل النّقل العام، فتجد مقعداً دون أن تشعر أنك في يوم الحشر، وتدخل إلى إحدى الدوائر الرسمية لتجد موظفاً يقوم بعمله باحترام، وتُنجز معاملة في وقت مثاليٍّ، ثم تعود إلى المنزل لتشعر بمدى عظمتك عند إشعال المدفأة بالمازوت..! هذا الفرح مخاتل شجي، هذا الفرح عصيٌّ على غير السوريين، هذا الفرح خاصٌّ بنا، فوحده من ذاق عرف.. إلا أنه مثل كل غالٍ وثمين كالفينيق والعنقاء والخلّ الوفي. إنّه فرح ذاتي بالوجود ولو للحظة داخل عالم يتجه نحو التلاشي والزوال…إنّه فرح يوهم بالفرار إلى عالم آخر غير هذا العالم التعِس البائس…هذا ما قاله حسّان أستاذ اللغة الفرنسية، معبّراً عن فرحه داخل المأساة الكونية.
السويداء يُقال سويداء القلب : حبّته، عمقه، مهجته والآن هي الهامش: اقتُلِع من السويداء عمقها، رُفِعت اليد عنها، وتُركت تتقاذفها الأهواء في أقاصي الأزمة.. هذا بناء المحافظة اليوم يشهد كيف تقاذفت الأهواءُ النيران، تحوّل هذا البناء في الأيام الفائتة إلى أذن ثالثة التقطت الصوت من عمق السوق، حيث كانت تتحرك مجموعة من الجياع تنادي بحقها من قوت الحياة وتصرخ بالمتجمهرين: من لم يكن جائعاً لا يلحق بنا.. في زاوية أبعد توجد مجموعة أخرى من شبابٍ بلباسٍ مختلف يتأهبون لالتقاط اللحظة وخطف الزَّخم..بدؤوا الاتصالات لدعم حراك الجوع، وإطعامه بألون مختلفة من الإيديولوجيا.. أما حاتم بائع القماش بدأ يهمس لزبائنه بأن هناك رجالاً كانوا قد تضرّروا من قرارات ضريبية، فأرادوا بثَّ الفوضى في بناء المحافظة عسى أن تُحرق الأضابير الضريبية الخاصّة بهم، يجيبه هايل -الشاب الذي ينتظر تأشيرة نجاته بعد تخرجه من الجامعه وفشله في إيجاد عمل أفضل من عمله أجيراً لدى حاتم- بأنَّ في كلامه هذا تقليلاً من شأن ما يحدث (إنه نداء الجوع يا معلم). ولكنَّ حُساماً الخارج من السجن بعفوٍ عام علّق قائلاً: لابد أنها حركة من حركات الدولة لإطباق السيطرة على البلد. يقهقه حاتم قائلاً يبدو أنهم “برعوا في تأديبك”.. في البناء المجاور لمبنى المحافظة كانت همسات البعثيين القدامى تملأ المكان، بعد أن بدأ المحتجون باقتحام المبنى وتكسير أثاثه وإحراق أوراقه. إنهم المندسون أولئك الشباب المُتنفّعون مما يقدمه الخارج، بحجة دعم حراكهم ودفعهم وتوجيههم لفعل الأسوأ. لابد أنهم كذلك..من أين أتت تلك اللافتات المعنونة بالشعارات المبسترة المسيسة بالطريقة الغبية نفسها؟ من أولئك الذين يرتدون الأسود ويصورون الوقائع ويتكلمون على الهواتف الجوالة؟ هل يدرك هؤلاء أنهم ينتهكون رمزاً للوطن. ربيع يهاتف أصدقاءه المحامين ليخبرهم أن اللحظة التي مازلنا نحلم بها من أحد عشر عاماً قد حانت، إنه التغيير يقرع بابنا ولابد لنا من إعادة تنظيم أنفسنا من أجل هذا الحراك. تليق بنا دولة مواطنة، آن الأوان ليحكم الشعب نفسه حقاً.. الدولة كانت تحاول إطفاء النار دون أن تشعل حرائق أكثر. حضرت مجموعة من رجال الأمن لتفريق المحتجين بعد أن اخترق الرصاص القاتل جسد عنصرٍ من عناصر الأمن، وكذلك قُتِلَ شاب قاده القدر إلى المكان.. دون تأكيدٍ لهوية القتلة..
المركز الأول
نسيم معروف حارس مرمى نادي العربي الرياضي في السويداء، من قرية عتيل التي شهدت مؤخراً النزاعات الأهلية بين الفصائل المحلية، بُغية ضبط الأمن المحلي، كتب عن فعالية اجتماعية نجح في إقامتها في بلدته: الأرجنتين كسبت الكأس، ونحن في عتيل ربحنا المركز الأول أيضاً. فقد أطلق أبناء عتيل مبادرة اجتماعية رياضية لشراء بطاقة اشتراك تلفزيونية، واستئجار بعض المعدات، واستخدام الصالة الاجتماعية في البلدة لعرض مباريات مونديال قطر ٢٠٢٢. كما تم تحديد سعرها رمزياً بمبلغ قدْره خمسمئة ليرة سورية للدخول، الأمر الذي استقطب متابعي الرياضة من القرية ومن القرى المجاورة لها. ونشر نسيم معروف على تدوينته بياناً بالمبالغ المحصلة من هذه الفاعلية، والتي بلغت نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية، ليقول إنها ستُجيّر لصالح شراء الأدوية للأمراض المزمنة، وستقدم للمحتاجين. نعم لقد نجح في ظل كلّ هذا الفشل، يبدو أنّ النّجاح ممكن.
الرسالة “أمّةٌ عربيّةٌ واحدة ذاتُ رسالةٍ خالدة”، كانت الرسالة الأولى التي سمعت بها قبل أن أرسل رسالة عشقي الأول لـ”ناي” صديقتي في الصف الخامس، قال وفيق. وتابع: بعد ذلك أصبحتُ مطيّةً في أرض الرسالات..رسالة الدين، رسالة الأخلاق، رسالة الحزب، رسالة التخرج، رسالة الدبلوم لكن لم يخطر في بالي أبداً أن تكون رسالةٌ مثل رسالة تكامل (وهي الرسالة التي تصل للهاتف الجوال مبشرة بقدوم الدعم في ما يخص الغذاء والوقود) هي الرسالة الأثيرة لقلبي..أحس بمعنى كل الرسائل فيها، أتلمس الخلود والعشق والرحمة والأدب والعلم بأوضاع الحال، ينشرح صدري دون صلاة حين تقع في قلبي نغمتها المميزة عن كل نغمات العالمين، أقف ضد نفسي أنا الذي ظننت يوماً أني حرٌ فجوارحي تنتظر تلك الرسالة الخالدة التي تقف بكامل ألقها في وجه الخبز الحر والسكر الحر والرز الحر والغاز … تتحدى كل ماهو حر وهي تحتضن رجائي بدوام الدعم الحكومي. قلبي الصغير لم يعد يحتمل أكثر من تلك الرسالة الشقيّة العصيّة.
الأفق والضوء في آخر الصّورة كقصيدة شعرٍ تخبو لتتحول إلى صورة، كلحظةٍ يُراد بها تجميد المشهد، التقط ملهم الشاعر المسافر إلى دمشق آلة التصوير و رسم.. أسودٌ هو ذاك الجبل الذي يستقبلك حين الدخول إلى أرض البازلت؛ عزيزاً يطل على لؤم ما يحصل. لونٌ ناري يهبط على تلة جبل (قليب) عسى أن تُشعل النار التي كانت تُنذر أن خطراً محيقاً بأهل الجبل في الديار..لونٌ نبيذي شاحب يندلق من اللوحة يعلن انتهاء موسم النبيذ دون صخبٍ، دون سمر. وجوهٌ شاحبة مسمّرةٌ إلى ذاك الضوء في آخر الأفق.. وحين أخبره العسكري على الحاجز أن اسمه مطلوب للاحتياط وعليه النزول رسم قطاراً لا يُرى إلا ضوءه، يدهس الجميع.
الغواية للحياة غواية لا يدركها إلا من يناضل ليعيش، الآن أنا في السويداء؛ سويداء قلبي التي هُمِّشت وهُشِّمت، أتماهى مع بازِلتِها، أتشبث بالعيش كما العشب ينمو بين صخورها، تهدر روحي لترتقي من هاجس البقاء على قيد الحياة لهاجس الحياة، ها أنا أراها، أتلمسها، أطرق على جدار الخزان بكل قوتي، أريد أن أتبع شغفي، أركض خلف غواية الحياة فقد نجحت بالعيش في كلِّ هذا الموات. هذا ما قالته لبنى الفتاة الجميلة الموهوبة بكتابة القصة القصيرة.