في كوة لا تتجاوز ثلاثة أمتار، تشعر وكأنها خرجت عنوة من جدار طويل، تستوقف المارة في حي القيمرية رائحة الفطائر الزكية مهما كانوا مستعجلين. يتوقف أغلبهم لتناول فطيرة كبيرة صُنعت من خبز الصاج، بينما ينبههم “عبد الله” قائلاً “اوعا سخنة، كلها ع مهل كيلا تحرق لسانك”.
بيدين ماهرتين يعجن عبد الله مقادير متساوية من عجينة رقيقة، ثم يقلبها بين راحتي كفيه لتستقر أخيراً في فرن مكور ملتهب، هذا هو العمل اليومي للشاب الثلاثيني الذي لم يقفل أبواب محله منذ 19 عاماً، باستثناء يوم استراحته في يوم الجمعة.
أصر عبد الله أيضاً على الالتزام بعمله حتى عندما كانت تسقط القذائف والصواريخ على الحي الدمشقي، عن هذا يقول لـ”صالون سوريا”:” في عام 2003 افتتحت محلي، أبدأ العمل منذ الساعة السادسة صباحا حتى العاشرة مساءا بالتناوب مع شقيقي، لم انقطع عن العمل ليوم واحد خلال هذه السنوات رغم سقوط القذائف وضجيج الحرب، لدرجة أن قذيفة سقطت على بعد متر واحد من محلي، ومع ذلك لم أتوقف وصممت على الاستمرار في العمل ولم أغلق”.
على خلاف الكثير من أصحاب المحال المجاورة، لم يرث عبدالله صنعته من والده أو جده، بل تعلمها على يد أحد صناع الفطائر الماهرين في الجنوب اللبناني، ليعود إلى دمشق ويبدأ بمشروعه الخاص، ” أحب صنعتي وأتقنها جيداً، أعمل بسرعة كبيرة، فيداي اعتادتا حركة صنع الفطيرة، أصنعها وأنا مغمض العين” يقول عبد الله الذي يحاول مراعاة أحوال الناس و يحرص على عدم رفع أسعاره لتبقى متاحة للجميع. مضيفاً ” كونت سمعتي على مدار سنوات من خلال المحبة والوجه البشوش والمعاملة اللطيفة، بالإضافة إلى أسعاري المنطقية وجودة الفطائر، الجميع هنا يعرفني، كما يقصدني العديد من ساكني الحارات المجاورة لتذوق فطائري”.
معاناة الحصول على أسطوانة الغاز
تترأس أسطوانة الغاز قائمة “المستعصيات”، فالحصول عليها أمر في غاية الصعوبة، وفي حال توفرها فسعرها باهظ الثمن، وعن ذلك، يشرح عبد الله” أدفع ثمن جرة الغاز 125 ألف ليرة سورية حسب السعر الحر، وأنا استهلك أسطوانة واحدة كل يومين، أما المدعوم فيحق لي اقتناء جرة واحدة بالشهر”، ويسترجع عبد ذاكرته قبل اندلاع الحرب بأعوام طويلة، عندما كان سعر الأسطوانة 100 ليرة سورية، كما كانت جودة الغاز المعبأة أفضل، إلى جانب امتلائها بالكامل، بينما الآن تأتي ناقصة قليلا بالرغم من سعرها المرتفع.
كذلك، يواجه عبد الله تحديات إضافية تتمثل بتأمين شراء المواد الغذائية التي يحتاجها في عمله لصنع الفطائر، عدا عن غلاء أسعارها، معترفاً أنه يضطر لاقتناء المواد ذات الجودة المتوسطة ومن الموزع مباشرة، عن هذا يشرح عبد الله:” ارتفعت أسعار اللبنة والجبنة بكافة أنواعها إلى الضعف، وكذلك اللحومات الباردة، في السابق كنت اشتري النقانق المستوردة من لبنان، أما الآن فهذا غير ممكن على الإطلاق، لأنها ستفسد ولن يشتريها أحد، لذلك استبدلها بمحلية الصنع، الأمر كذلك بالنسبة للأجبان، أحرص على شرائها من صاحب المبقرة مباشرة لتخفيف النفقات وليتمكن الزبون من شرائها في آن معا”.
يستذكر عبدالله ضاحكاً لائحة الأسعار منذ أكثر من عشرة أعوام، إذ طرأ تغيير كبير عليها، ففطيرة الزعتر كانت بـ 10ليرات سورية، بينما الآن بـ 1500 ليرة سورية، أما فطيرة الجبنة فكانت بـ 15ليرة، لتصبح اليوم 2500 ليرة، بينما كانت تعد فطيرة الشيش الأغلى ثمنا، فوصل سعرها إلى 25 ليرة آنذاك، بينما اليوم بلغ سعر الأخيرة 5000 آلاف”.
“فطائر دافئة كأيام زمان”
يجسد محل عبد الله الصغير مقولة “الأماكن الدافئة هي الأكثر ازدحاما”، لهذا المكان خصوصية مميزة لدى زبائن حي القيمرية، فبالرغم من مساحته الضيقة التي لا تتسع لموطئ قدم، إلا أنه يستقطب مئات الزبائن في اليوم الواحد، مما لا يتيح لعبد الله خمس دقائق راحة. تشغل فطائره مكانة خاصة في قلب زبائنه، كنهال وهي طالبة جامعية اعتادت تناول فطورها عنده وهي متوجهة إلى جامعتها، تقول نهال:” أكره الاستيقاظ باكرا وإضاعة وقتي لإعداد الفطور، اعتدت على تناول فطيرة الجبن والزعتر عنده منذ 4 سنوات، لدرجة أنه يحضرها قبل موعد مروري بدقائق كي لا أضطر للانتظار”، كذلك الحال بالنسبة لفرح (30 عاما) التي تصف نفسها بـ”الزبونة الدائمة منذ 15 عشر عاما”، تقول فرح لصالون سوريا:” أتناول فطائره منذ أيام الثانوية لغاية اليوم، أذكر أنني كنت في كل صباح وأنا ذاهبة إلى مدرستي اشتري فطيرة جبنة و آكلها في الطريق، وكذلك أفعل الآن خلال توجهي إلى العمل”.بينما أم علي تعتبر فطائر عبد الله منقذها الوحيد والطبق الشهي عند تكاسلها في إعداد طعام الغداء لأسرتها، توضح” ألجأ إلى فطائره اللذيذة عند عدم تحضيري الغداء وأحيانا أخرى عند دعوة صديقاتي لوجبة فطور شهية”، أما محمد (32عاما) فسبب اختياره لفطائر عبدالله كان عاطفيا بامتياز، يعبر قائلا “تعرفت على هذا المحل قبل نشوب الحرب، أرفض تناول الفطائر من أي مكان آخر مهما بلغ مني الجوع، لأنه يذكرني بما كانت عليه سورية قبل الموت والدمار، هو المكان الوحيد الذي يبقى ذاكرتي عن سورية ما قبل 2012 جميلة وزاخرة بالحب”.
ماتفرقه السياسة تجمعه الفطائر
عند سؤالنا عبدالله عما يجعل محله مميزا ويسمح باستمراره رغم عقد كامل من الحرب، أدت إلى قطع أرزاق العديد من أصحاب المحال، فيجيب بدون تفكير وتردد” ، عدم وجود انحيازات طائفية ولا اصطفافات سياسية، فزبائني ينتمون لأطياف متنوعة، جمعتهم مشاعر الخسارة والخوف، والفقد، فالقذائف التي كانت تسقط لم تفرق بين طائفة وأخرى، فما تفرقه السياسة، تجمعه الفطائر التي تصنع بحب”.
لا يمكن القول بأن التسول مهنة جديدة في سوريا، إلا أنها كادت تندثر عشية الحرب، أما اليوم فهي في أوج ازدهارها. على الإشارة المرورية في الشيخ سعد يمكن لحظ المتسولين، على إشارات المزة، وفي دمشق القديمة، وعلى جسر المشاة قرب شارع الثورة، وعشرات الأماكن ، هذا في العاصمة فقط.
“صالون سوريا” تمكن من محاورة إحدى السيدات التي كانت تتسول على أحد جسور المشاة في دمشق واضعةً صغيرها على صدرها، وهي ترضعه وعلى حجرها ولد ثان نائم عمره خمسة أعوام، تقول: “أنا مهجرة، ساعدني الله يوفقك”، وعند سؤالها: “بماذا نساعد بالضبط؟”، تقول: “من مال الله”، بإجابات مقتضبة تشير إلى أن زوجها قضى تحت ركام منزلهم.
حاولنا سؤالها أكثر، أشاحت برأسها وبكت عميقاً، ثم قالت “هذا طفلي من زواجي الثاني، زوجي يجبرني على العمل”. رافضة إضافة أية كلمة أخرى. ينام قربها على بعد أقل من مترين شاب يافع، هو الآخر متسول، ولكنه غافٍ، لا تربطه علاقة بتلك السيدة، بحسب قولها.
النباشون/ات
رحلة واحدة في أحياء جرمانا بريف دمشق تكفي للتعرف على عشرات النباشين والنباشات الذين يتنافسون على مكبات القمامة.
ولمعرفة مدى انتشار هذه المهنة، مثلاً يدخل قرابة 1800 طن نفايات يومياً إلى محطة قمامة باب شرقي، وما أن تكاد تنتهي الشاحنات من إفراغ حمولتها من القمامة حتى ترى أكثر من 40 إلى 50 نباشاً يهرولون نحوها، ليجمعوا ما تيسر لهم من كراتين وحديد وبلاستيك ومواد منظفات وغيرها، وكلمة “نباش” تعني العامل في جمع القمامة كمهنة.
يقول أحمد، 11 عاماً وهو أحد نباشي جرمانا لـ “صالون سوريا“: “والدي علمني هذا العمل منذ أن كنت صغيراً”، لا يعرف أحمد الصغير لماذا لم يدخل المدرسة كأقرانه، ولكنّه يعلم جيداً أنّ عليه إتمام عملّه لئلا يعاقبه والده، لا يقرأ ولا يكتب، لكنّه يعرف أنّهم مهجرون، ولا يدري لما لا تعيش والدته معه ومع والده وإخوته (زينة وهبة ومحمود)، الذين يعملون ذات عمله.
وقبل أن ننهي حديثنا معه يطلب: “لا تقولوا لأبي أني اشتكيت من موضوع المدرسة”.
بيع الأمبيرات
في ظل أزمة الكهرباء في سوريا، وساعات التقنين التي وصلت حدود 20 ساعة يومياً من الانقطاع، لجأ الأهالي في عدة مناطق في سوريا إلى نظام “الأمبيرات” كحل إسعافي وبديل.
والأمبيرات يقصد بها نظام توليد الطاقة الكهربائية عن طريق مولدات تعمل على المحروقات وغالباً المازوت، ويرتفع سعر الأمبير بالتزامن مع أي زيادة لأسعار المشتقات النفطية في سوريا. وعلى الرغم من أنّ الأمبيرات كانت ذات يوم تقع ضمن القدرة المادية للشريحة الأوسع من السوريين في المناطق التي تعمل بها هذه المولدات، إلا أنّها اليوم أصبح للطبقة الغنية فقط.
يقول ميمون وهو اسم مستعار لصاحب مولدة تعمل في حلب، رفض الكشف عن اسمه: “أدرك أن أسعارنا صارت مرتفعة على المواطن العادي، ولكن مادة المازوت قليلة للغاية في السوق، لذا نحصل عليها مكرهين من السوق السوداء بمبالغ مرتفعة، ما يرغمنا مجبرين على رفع أجورها، ورغم ذلك نحن نؤمن الرفاهية للمواطن من جهة وللورشات والعيادات والمخابر وغيرها من جهة أخرى“.
سماسرة جوازات السفر
يحتل جواز سفر سوريا حاليًا المرتبة 111 وفقًا لمؤشر جايد Guide لترتيب جوازات السفر، ويعد جواز سفر سوريا ثالث أدنى مرتبة في العالم، ورغم هذه المرتبة المتدنية للغاية، إلا أن استصدار الجواز صار ضرباً من المستحيل في الكثير من الأحيان.
فقد وصلت المدة المفترضة لانتظار استصدار الجواز أحياناً حتى عام 2025، مما خلق سوقاً سوداء نشط فيه السماسرة القادرين على حجز أدوار سريعة للتقديم على الجواز عبر المنصة الالكترونية التي اطلقتها وزارة الداخلية أواخر العام الفائت.
يمكن القول إنّ عام 2022 الجاري شهد ازدحاماً غير معقول على دور حجز جوازات السفر، ما أحدث ازمة غير مسبوقة يمكن وصفها بالأولى من نوعها في هذا الإطار والتي ما زالت مستمرة.
فالمنصة الالكترونية فتحت باب التواطؤ والفساد عبر تحصيل مبالغ وصلت أحياناً لعدة ملايين من الشخص الراغب بالحصول على جواز سفره بأسرع وقت. التسجيل على المنصة صعب للغاية بسبب الشروط التقنية المعقدة التي تجعل “سيرفر” الخدمة خارج الخدمة غالباً. وطبعاً لا يمكن الحصول على الجواز دون التسجيل على المنصة. ولهذا سرعان ما انتشر سماسرة المنصة في المحافظات السورية، وهؤلاء لهم دور في تقريب حجز موعد استصدار الجواز عبر طرقهم الخاصة ومقابل مبالغ مالية تكون كبيرة غالباً، هذا ما قاله أحمد الذي لجأ لأحد السماسرة لاستصدار جواز سفر سريع قبل أشهر كلفه أكثر من مليونين ليرة.
يقول أحمد لـ “صالون سوريا“: “لم يكن باليد حيلة، كانت الأمور معقدة ومتشابكة ومتداخلة كثيراً، أكثر مما هي عليه الآن حتى، فحذوت حذو غيري ممن لجؤا لهؤلاء السماسرة للحصول على جواز سفر في أقل من شهر بدلاً من انتظار عام أو عامين أو أكثر”.
في شهر آذار الفائت حاولت منى الشيخ جاهدةً الحصول على جواز سفر، عن رحلتها في فرع الهجرة والجوازات في دمشق تروي لـ “صالون سوريا“: “كنت أعلم بضرورة حجز موعد على المنصة، ولم أوفر حينها جهداً للحجز لكن دون نتيجة، لم يقبل الحارس بإدخالي إلى الفرع رغم كل محاولات إقناعي له، كان دوماً يجيب بأن التعليمات لديه صارمة، لذا، عدت أدراجي إلى المنزل ولكن ليس خالية الوفاض، فكنت كنت استحصلت على رقم سمسار يمكنه أن يحجز لي موعداً على المنصة بسرعة نسبية ومقابل بدل مادي بلغ حوالي مليوني ليرة سورية، وكان جوازاً مستعجلاً يستغرق استصداره أقل من شهر”.
وفي تصريح سابق أفاد مدير إدارة الهجرة والجوازات أن العاملين في الهجرة –بعضهم- يتعاملون مع سماسرة، مشيرا إلى تقديم رئيس أحد فروع الهجرة مع عدد من العناصر إلى القضاء من خلال إدارة الأمن الجنائي.
شركات التأمين
لم تكن شركات التأمين بهذا الازدهار قبل الحرب، ولكن شروط الحرب وظروفها أسهمت في تكاثر هذه الشركات وإقبال شرائح واسعة من السوريين عليها.
التأمين الصحي مثلاً صار حاجة ضرورية بعد أن أصبح معظم السوريين عاجزين عن التداوي في المستشفيات الخاصة بعد الارتفاع المهول في أسعارها، فتكلفة عملية القثطرة القلبية في المستشفيات الخاصة تبلغ حوالي 700 ألف ليرة، أما تركيب الشبكة القلبية فيكلف الملايين.
وتسبب الازدياد في الحوادث الأمنية والعسكرية في زيادة أهمية التأمين على السيارة، البيت، الحياة الشخصية والصحية، فالقذائف والاشتباكات جعلت الجميع تحت دائرة الخطر والضرر، وصار التأمين على الحياة والممتلكات ضرورة.
وبلغ عدد شركات التأمين أكثر من 20 شركة خاصة حتى اليوم، يقول ماهر سيفو الموظف في إحدى الشركات لـ “صالون سوريا”: “الإقبال ازداد كثيراً في الحرب، الناس تؤمن على كل ما تملك، وليس فقط ما يتعلق بالحرائق والزلازل، بل بتلك الأمور المتعلقة بالحرب“.
مهن قديمة جديدة
لا شك أن بعض المهن وصلت حافة النهاية بفعل الحرب في سوريا، وبالمقابل ثمة مهن تنتعش، يمكن وصف تلك المهن بالحاجة اليومية للناس كمهن الإكساء والترميم والبناء والحلاقة الرجالية والنسائية والمهن المرتبطة بالسيارات (كهرباء – ميكانيك – بخ) وغيرها من المهن التي يستحيل الاستغناء عنها مهما اشتدت الظروف الاقتصادية على السوريين، ويمكن أن نضيف إليهم بعض الحرف الإنتاجية كالمعادن والخزف والموبيليا والحلويات والخراطة والمشغولات الذهبية والفضية التي لها زبائنها الأوفياء، وكذلك الحرف التراثية التي يمكن تصديرها كالموزاييك والبروكار الذي تشتهر به سوريا والصدف.
مؤيد أحد عمال الترميم الذي قال لـ “صالون سوريا”: “الآن هناك ارتفاع كبير بالطلب على عملنا بحكم أنّ الناس يعودون بكثرة إلى منازلهم بعد انتهاء الحرب ولكن في المقابل هناك مشكلة في تأمين اليد العاملة..”.
أما عن المهن التي باتت على وشك الاندثار فهي مثلاً مهنة دق النحاس وتزيينه، سيما في حلب التي اشتهرت بهذه الصنعة عبر تاريخها.
خمس ساعات من الانقطاع، وساعة ونصف من العمل، هذا حال التيار الكهربائي في مختلف المدن والمناطق السورية. إذ تعدى انقطاع التيار كهربائي في بعض المناطق هذه الساعات المحددة ليصل أحياناً إلى يوم كامل، بحسب جدول وصفات مبررات الأعطال التي تقدمها وزارة الكهرباء لمواطنيها.
والمبررات الاعتيادية هي: خارج الخدمة بسبب الإرهاب سابقاً وقيصر حالياً، وبمزج السببين الحكوميين معاً يخلص المواطن إلى نتيجة مفادها ألّا كهرباء في الأمد المنظور.
“كل شيء مرتبط بالكهرباء، وانقطاعها صار روتين يومي للحياة”، تشرح ريما مسلّم وهي مدرسة الرياضيات مقيمة في دمشق، وتضيف: “يعني فوق الموتة عصة قبر، كل شي مؤجل عمله بالبيت لتجي الكهربا، من الغسيل والكوي للاستحمام والطبخ والدراسة، حتى الأكل بالبراد وخصوصي بالصيف لا يصمد بلا كهربا، وآخر شي بتطالبك الحكومة بدفع فواتير الكهرباء”.
وتشير ريما في حديثها لـ “صالون سوريا” إلى آخر “فنون الحكومة” كما وصفتها، وهي رفع شعار التوجه للطاقات البديلة وتشجيع المواطنين على الاستثمار فيها عن طريق تركيب ألواح الطاقة الشمسية على أسطح المنازل لتوليد الكهرباء وتقول: “فكرة حلوة، لكن تطبيقها في ظل الحرب بسوريا صعب كتير، بدها مصاري كتير، والله أعلم بالحال“.
منفذ جديد للفساد
مؤخرا بدأت الحكومة السورية دعواتها إلى اعتماد الطاقة البديلة كحل لأزمة نقص الكهرباء في البلاد في ظل أزمة المحروقات الخانقة، بدلاً من اعتماد السوريين على البطاريات المستخدمة للإنارة وشحن الإلكترونيات المنزلية، والأمبيرات التي شاع استخدامها.
يبين طريف محمد وهو مهندس في مجال الطاقات المتجددة بأن “الطاقة الشمسية حل سريع ومجدي لتوليد الكهرباء بالنسبة للمنازل أو الورشات والمعامل الصناعية والتجارية، لكن بشرط توفر رأس المال والإرادة الحقيقية للمستثمر باستيراد أفضل أنواع ألواح الطاقة الشمسية” ويشير المهندس طريف لفوائد الاستثمار في هذا المشروع خاصة مع وجود توجه عالمي نحو الطاقات البديلة، لكنه يخشى في نفس الوقت من فاعلية تطبيق هكذا مشاريع في سورية، فالطاقة المتجددة كما يشرح لـ “صالون سوريا” ”تحتاج لميزانيات مالية كبيرة لتغطية حاجة سوريا منها، فضلاً عن ضرورة وجود مساحات شاسعة وتوزيع صحيح لألواح الطاقة“. من جانبه يؤكد فاضل زين الدين، وهو خبير في الاقتصاد، الجدوى الاقتصادية لاستخدام الطاقة الشمسية كطاقة متجددة لتوليد الكهرباء، إضافة لكونها صديقة للبيئة. ومع التوجه الحكومي للاستثمار بالطاقة البديلة، تم إصدار قرار بإحداث صندوق دعم استخدام الطاقات المتجددة، ورفع كفاءة الطاقة لتشجيع المواطنين. لكن يبدي فاضل الكثير من القلق من دخول التجار إلى ميدان فساد جديد من أوسع أبوابه ويقول: “بدأنا نشهد تنافساً فيما بين التجار والقطاع الخاص تحديداً للهيمنة على الأسواق والتي تم إغراقها بألواح الطاقة الشمسية، والسيء في الأمر أن هناك الكثير من الأنواع غير الصالحة للاستخدام مع وجود ماركات مزورة، ومعظم الأنواع مستوردة من الصين، ولكن يتم بيعها للناس بأسعار مرتفعة كنخب أول، وهي في الحقيقة ستوك!”
النور للأغنياء فقط
إعلانات ترويجية ومعارض لشركات متخصصة بالطاقة الشمسية بدأت تغزو الشوارع والأحياء، لتغري ميسوري الحال القلة المتواجدين في سوريا للتحول لهذه التقنية الجديدة للحصول على الكهرباء والإنارة، أما السواد الأعظم من الفقراء فلا حول لهم ولا قوة.
“أنا وزوجي مو قادرين نكفي مصاريف ولادنا، منين بدنا نجيب ملايين للكهرباء، بلاها أحسن” بهذه العبارة تختصر رنا سلوم وضعها، وتعمل رنا هي وزوجها في مؤسسة حكومية ويسكنان مع أولادهم الثلاثة في منزل للإيجار بمنطقة دويلعة بريف دمشق.
ولعدم قدرتها على التفكير بخيار الطاقة الشمسية، عمدت رنا لتركيب ليدات وبطاريات فقط لإنارة منزلها ،أما بالنسبة للطاقة البديلة فذلك ضرب من الخيال لأسرة رنا كما معظم السوريين الفقراء. تقول رنا “لدينا مصاريف كثيرة من آجار البيت إلى مصاريف الأولاد والاحتياجات الأساسية، ولا يتعدى مجموع راتبي وراتب زوجي 200 ألف ليرة، تركيب الطاقة الشمسية ليس لنا، وهذا حلم ورفاهية لا نستطيع تحمل أعبائها المادية، وحتى بعد أن أطلقت الحكومة قروض ميسرة لتركيب طاقة شمسية، من أين لنا أن أسدد القرض الذي يقدر بالملايين؟“.
وحتى من تحمّل هذه الأعباء المادية واستخدم الطاقة البديلة من مدخراته، لم يحظ بما أمل به، كما حصل مع صفوان الحريري، فبعد أقل من شهر على تركيبه منظومة الطاقة الشمسية على سطح منزله الواقع في دوما، يصف صفوان لــ “صالون سوريا” كيف تصاعد الدخان من بعض أجزاء المنظومة وأدى بالتالي إلى إعطابها، وبعد توجهه لمهندس كهربائي لمعرفة السبب، تبين أن العطل بسبب رداءة نوع الألواح التي اشتراها من إحدى الشركات التي ادعت بأنها ”نخب أول وممتاز“، يقول صفوان “الفساد صار بكل شي، ما عدنا نعرف النوعيات الجيدة من السيئة، والكل بده ينهب من جيب المواطن“.
حاول صفوان التواصل مع مندوبي الشركة التي باعته منظومة الطاقة الشمسية، للسؤال عن سبب الدخان والعطل في المنظومة فكان الجواب “نحن غير مسؤولين عن حال المنظومة بعد التركيب”، هكذا فقط وبدون تقديم أية مبررات أخرى تشفي غليل صفوان بعد تعرضه لعملية الاحتيال هذه وسرقة الشركة لملايين الليرات التي كان يدخرها.
الطبيبة راما مرهج، من جهة أخرى، حالفها الحظ بتركيبها لمنظومة طاقة شمسية بنوعية جيدة لتشغيل المعدات الكهربائية في عيادتها. ولتتمكن من ذلك لجأت إلى طلب المساعدة من أخيها الذي يعمل في الإمارات لتحويل مبلغ 16 مليون ليرة لتتمكن من شراء المنظومة وتقول لـ“صالون سوريا“٬ “كان الله في عون اللي ماله حدا، الناس بالبلد مو عايشة، صار المغترب المنقذ المالي للأهل، هادا إن كان وضعه منيح بالغربة”. أما بالنسبة للتراخيص المطلوبة لتركيب الألواح الشمسية، تشيرد. راما إلى أنها قامت بتقديم طلب رسمي لمحافظة دمشق وعليه تمت الموافقة بعد الكشف على البناء وملكيته وأخذ الموافقة من سكان البناء، لكن الشك لازال يراود راما خوفاً من إضافة شروط جديدة لتركيب المنظومة، وإن كانت ستدخل في دوامة المخالفات أم لا، خاصة بعد إعلان الحكومة بأن الترخيص إجراء مؤقت إلى حين الإعلان الرسمي عن الشروط والأسس المتعلقة بآلية تركيب الألواح الشمسية.
التكلفة المالية
ألواح وبطاريات وانفرتر ومنظم شحن، هي الأجزاء الأساسية لجهاز الطاقة الشمسية، ويشرح الخبير بتركيب أجهزة الطاقة الشمسية المولدة للكهرباء بديع علي لـ”صالون سوريا” عملية تركيب الألواح، بأنها تبدأ بحساب الحمل الكهربائي وبناء عليه تقدر الكلفة المالية للشراء ويقول: “مافينا نعطي رقم مالي محدد لأن الحساب مرتبط بسعر الدولار، وسعر الدولار غير مستقر في سوريا، لكن الأسعار تتراوح مابين عدة ملايين لإنارة منزل فقط بدون استخدام الأجهزة الكهربائية، وتصل إلى 40 مليون ليرة للنوعيات الأفضل وبحسب مساحة وكلفة المشروع.”
أما عن كيفية حساب التكلفة المالية فيشرح سامر كبول الذي يعمل كمحاسب مالي لدى إحدى شركات الطاقة لــ”صالون سوريا” بأن الكلفة يتم تحديدها بحسب استطاعة الألواح وعدد الأجهزة التي تشغّلها، وعليه يتم احتساب والألواح والانفرتر والحديد والكابلات والبطارية وقواطع الحماية، ويضيف “تقدر الشركات حالياً حساب سعر الواط الشمسي مابين 30 إلى 35 سنت، ولتشغيل أغلب الأجهزة الكهربائية في المنزل الواحد تحتاج الطاقة إلى 3 آلاف واط شمسي، وسعر اللوح بنوعية جيدة يقدر بمليون ليرة، ويتطلب تركيب 8 ألواح شمسية مع تركيب بطاريتين سعر الواحدة تبلغ مليون ونصف ليرة بالإضافة إلى العناصر الأخرى من قواطع وكابلات وحديد، فبذلك تبلغ الكلفة الإجمالية تقريباً ما بين 8 إلى 20 مليون ليرة سورية للمنزل الواحد.” مع الإشارة إلى أن البطارية تعمل لمدة 5 سنوات فقط والألواح لمدة 20 عام.
المسؤولية الحكومية
“تقع مسؤولية التأكد من جودة الألواح والانفرترات ومنظمات الشحن والبطاريات على عاتق الحكومة وعلى مركز بحوث الطاقة التابع لوزارة الكهرباء وعلى مسؤولية الجمارك ومديريات الاقتصاد التي تمنح إجازات الاستيراد” بحسب كمال وهو اسم مستعار لمسؤول في المركز الوطني لبحوث الطاقة أكد لـ “صالون سوريا”، أما بالنسبة لإجازات الاستيراد فهي مسؤولية مديريات الاقتصاد التي تمنح هذه التراخيص إضافة إلى الجمارك. ويقول كمال “هذه المنظومات الرديئة دخلت إلى سوريا دون معرفة مركز بحوث الطاقة، رغم أن الآلية الحكومية المتفق عليها بالتوجه نحو الطاقات البديلة تشدد على عدم منح أي إجازة استيراد لمنظومات الطاقة الشمسية إلا بعد عرضها على مركز بحوث الطاقة لتحديد المواصفات الفنية المسموح بها“.
ويشير فاضل سمور الأكاديمي الاقتصادي لــ”صالون سوريا“ بأن “الترويج الواسع والتوجه الحكومي للطاقات المتجددة فتح باباً آخر لتجار الأزمات لممارسة الفساد وجني المال من الناس” منوهاً إلى أن الطاقة الشمسية ليست بديلة تماماً بل هي داعمة لمحطات توليد الكهرباء، أما بالنسبة للطاقة الريحية فلا يوجد استثمار حقيقي لها خاصة أن هناك فقط عنفتين ريحيتين في سوريا كلها رغم أن الاعتماد على العنفات الريحية يوفر على الدولة ملايين الدولارات سنوياً، وفق فاضل.
تواجه النساء في شمال غرب سوريا جرائم الابتزاز الالكترونية بمفردهن، وسط غياب القوانين الرادعة وأساليب التوعية، وندرة الوسائل التي يمكن أن تلجأ إليها النساء في مجتمع ذكوري يضع اللوم دائماً على المرأة، ويحملها مسؤولية كل مايحدث لها من جرائم وممارسات وتجاوزات.
لم تتوقع حنان الصطوف (٢٢ عاماً) أن تواجه أختها ريما (١٨ عاماً) تهديد أحدهم بنشر صورها على مواقع التواصل الاجتماعي بالانتحار. قتلت ريما نفسها بتناول حبة غاز” فوستوكسين“ بتاريخ ٢٤ يوليو/تموز ٢٠٢١، ووضعت نهاية لحياتها بعد أن حاصرها هاجس ”الفضيحة والعار“ الذي ممكن أن تجلبه لأهلها إن نفذ الرجل تهديده لها.
” لن يصدقني أحد، رغم أنني لست مذنبة، ولا علم لي كيف وصل ذاك الشخص لصوري الشخصية” كلمات رددتها ريما خفية لأختها حنان قبل أن تقتل نفسها على غفلة من الجميع.
تقول حنان متأثرة بما حدث مع أختها “المجتمع لا يرحم عندما يتعلق الأمر بالنساء، والجانب الذي يروى لصالح الضحية غالباً لا يتم تصديقه“، وعما دفعها للانتحار تشرح بأن أختها كانت خائفة من إمكانية تنفيذ المتحرش لتهديده، وعبثاً كانت تحاول الوصول إلى مساعدة، ورغم أن حنان نصحتها بالهدوء من أجل البحث عن حل ما، غير أنها سارعت بوضع حد لحياتها بهذه الطريقة المأساوية.
قبل ذلك بشهر واحد، أنهى فايز السرحان حياة ابنة عمه تيماء السرحان (٢٢ عاماً) مع والدتها في مخيم إحساس الحدودي في ريف إدلب الشمالي بحجة ”الشرف“، وذلك في تاريخ ١٢ حزيران/يونيو ٢٠٢١ حين أطلق الرصاص عليهما، على خلفية نشر صورة لتيماء من دون حجاب، على مواقع التواصل الاجتماعي قيل إنها “مسروقة”.
ولأن فايز، هو الرجل الأكثر قرباً من العائلة، كان عليه ارتكاب جريمته لـ”غسل عار العائلة والوصم الذي سيرافقهم مدى الحياة”، وفق ما أكدته عمة الضحية سميرة السرحان.
سميرة استنكرت الجريمة وتنفيذها على مرأى من ساكني المخيم، الذين لم يفاجئوا بفعلة المجرم، واعتبروها ردة فعلٍ طبيعية، وأمر “متوقع لفورة دم شاب على عرض ابنة عمه”.
من جهتها صدمت شيماء المحمد (٢٧ عاماً) بطلاق زوجها لها بعد محاولة ابتزازها من قبل أحد الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي إثر رفضها إقامة علاقة عاطفية معه، فما كان منه إلا أن تواصل مع زوجها عبر صفحته الشخصية مهدداً إياه بنشر صور زوجته، وهو ما دفع الزوج لتطليق زوجته, رافضاً تصديق عدم إقامتها لعلاقة جنسية معه.
تقول شيماء وهي من ريف إدلب الجنوبي وأم لطفلين أن قصتها بدأت حين قبلت صداقة أحد الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي والذي راح يستدرجها في الأحاديث العادية، حتى وصل لتفاصيل حياتها وحساب زوجها، ليستخدم كل تلك التفاصيل ضدها حين رفضت الانصياع لتهديداته، عندها خيرها بين الفضيحة وإقامة علاقة حميمية معه.
تقول شيماء ”دفعت ثمن قبولي لصداقة ذاك الشخص بطلاقي وخراب بيتي وحرماني من أطفالي وتشويه سمعتي، فقط لأنني رفضت تهديدات وابتزاز ذاك الشخص الذي تمكن من تخريب حياتي ودمرها“، مضيفة “أياً كان موقف الفتاة سواء مذنبة أو لا، الكل هنا يضع اللوم عليها ويحملها كامل المسؤولية في حال تعرضها لأي تحرش أو مضايقات إلكترونية، بدعوى أنها أقامت علاقات عاطفية مع أشخاص وأرسلت لهم صورها ومعلوماتها الشخصية“.
وتوضح شيماء أن الأمر أبسط مما يتوقعون، ويمكن للكثيرين الوصول إلى تلك المعلومات عبر بروفايل الملف الشخصي أو عبر عمليات القرصنة والاختراق للأجهزة الإلكترونية، أو عبر أحاديث الصداقة العادية كما حدث معها.
خبيرة الأمن الرقمي علا حاج حسن (٣٦ عاماً) قالت إنه آن الأوان لنشر التوعية الرقمية ونشر ثقافة الحفاظ على أمن المعلومات وكيفية التعامل مع الجرائم والابتزاز الالكتروني، وخاصة بعد استفحاله في المنطقة من جهة، وجهل الكثيرات بكيفية التصرف ومواجهة تلك التهديدات من جهة أخرى.
مشيرة إلى أن الخوف من طلب المساعدة من قبل ضحايا الابتزاز الإلكتروني ومحاولاتهن لحل مشكلتهن بأنفسهن عادة ما يزيد الأمر سوءاً، ويعطي المبّتز ”فرصاً أكبر للتمكن من فريسته، وخاصة مع عدم معرفة هؤلاء بآليات الحماية، وخوفهم من ردة فعل المجتمع حولهم مما يفاقم من مستوى تورطهم“ بحسب قولها.
ويعتبر اللجوء للقضاء في مثل تلك الحالات أمر بالغ الصعوبة، وخاصة حين لايمكن الوصول للاسم الحقيقي للمبتز أو عنوانه لاسيما وأن معظم هؤلاء يستخدمون حسابات وأسماء وهمية، كما يكون مكان إقامتهم خارج المنطقة، ولذا يصعب مقاضاة هؤلاء ومحاكمتهم.
المحامي عادل الويس (٤٠ عاماً) يرى أنه على الفتاة سواء أكنت قاصرة أو بالغة، أن تستشير من هو قريب إليها وخاصة أحد والديها حتى يحاولان إيجاد حل للمشكلة قبل أن تتفاقم ويصبح حلها معقّدًا، وعدم التكتم على التهديد وتقديم شكوى وتنظيم الضبط وستعمد الجهات المختصة للتواصل مع الجاني وإيقاعه في كمين.
وينصح الويس بعدم الرضوخ و دفع أي مال للمبتز لأن ذلك لن يجعله يتوقف عن الابتزاز، وأن تحاول الفتاة قدر الإمكان التعرف على أي تفاصيل عن المبتز مثل الهوية، والحساب، الموقع، وأي دليل يدعم جريمة الابتزاز.
مشيراً إلى أنه وفي حال كان الابتزاز الالكتروني نتيجة عملية اختراق، فيتوجب الاستعانة بأحد المختصين لتوثيق عملية الاختراق تلك، لدعم موقف الضحية أمام ذويها ومجتمعها على الأقل.
وينصح الويس باتباع أعلى درجات الوقاية وحماية المعلومات الرقمية والوثائق والصور الشخصية، عبر تتبع دورات وتدريبات الأمن الرقمي سواء كان ذلك عبر دورات فيزيولوجية تقيمها بعض المراكز والمنظمات أو تكون أونلاين غبر شبكة الإنترنت، وبالتالي تجنب الوقوع في شرك عمليات التحرش والابتزاز والجرائم الالكترونية، التي راحت تنتشر بشكل كبير مؤخراً مودية بمستقبل وأحلام الكثيرات.
لعقود خلت، لم تخلو وجبات فطور أهل الجزيرة السورية من القيمر (الگيمر) باللهجة المحلية، كما يعرف أيضاً بـ“الأمير الأبيض“، فهو طبق رئيسي وتقليدي على مائدة الفطور.
والقيمر هو قشدة حليب الثيران الدسمة ويعد وجبة غذائية دسمة ولذيذة، وغالباً ماكان يقدم مع العسل، قبل أن ترتفع أسعاره لينضم إلى قائمة الأطعمة المحرمة على أغلب السوريين، أذ أصبحت هذه الوجبة التقليدية حلمًا لمحبيها، وأصبح بعضهم يأكلها في المناسبات السعيدة فقط.
يقول الحاج عمران وهو أحد باعة القيمر في مدينة “الحسكة” لـ”صالون سوريا“ أنه ورث المهنة عن والده منذ طفولته، وهو لازال يعمل بها لكنه يتخوف من اندثارها ”بسبب ارتفاع أسعارها، إذ وصل ثمن الكيلو الواحد منه إلى الثلاثين ألف ليرة سورية” بحسب قوله.
والقيمر هو طبق ترحيب أهالي الجزيرة السورية بضيوفهم القادمين من المحافظات الأخرى، وبه تتزين مائدة العرسان صباحاً، كما اعتاد الأهالي تقدميه مع بعض الحلويات مثل “الكنافة” و”البقلاوة”.
التكلفة تفوق المكسب
الجدة “أم لؤي” تبلغ من العمر٦٦ عاماً وهي تعمل في صناعة القيمر وبيعه للمحلات في سوق الحسكة منذ سنوات، تشارك الحاج عمران تخوفه من اندثار مهنة الأجداد، بعد رفع مالكي الجواميس أسعار الحليب الذي يصنع منه المادة.
تقول أم لؤي إن العديد من النساء تركن لقمة عيشهن من صناعة وبيع القيمر، لأن التكلفة صارت أكثر من المكسب مضيفةً ”;كل شهر يرفع باعة حليب الجواميس أسعارهم، ونحن الصانعات نضطر لرفع أسعارنا لتجار السوق الذين يشتكون من قلة الطلب، وفوق هذا، يضطر الكثير من أصحاب الجواميس لبيع مواشيهم لعجزهم عن تحمل نفقة تربيتهم بسبب ارتفاع أسعار العلف“.
كانت أم لؤي تحضر للمحلات التي تتعامل معها، أكثر من عشرين كيلو من القيمر يومياً قبل عدّة سنوات، أما الآن فيعتبر بيعها لأربع كيلو من القيمر ”إنجازا عظيماً“ كما تقول. ويبلغ سعر هذه الكمية من القيمر بسعر الجملة خمسة وعشرين ألف ليرة، ” ولو خصمنا ثمن الحليب مع تكلفة الغاز المنزلي، وأجرة المواصلات فإني أكسب من كيلو (القيمر) خمسة آلاف ليرة سورية، أي بمعدل عشرين ألف ليرة وهي لا توفر لي ولأحفادي ثمن كيلو لحمة” تختم أم لؤي.
ومن جانبه يشير لطفي سعيد، وهو تاجر قيمر قديم في سوق الحسكة لـ”صالون سوريا، إلى أنه كان يبيع في اليوم أكثر من 200 كيلو قيمر لمحلات صناعة الحلويات والعائلات، مضيفاً “أحيانا كنا نطلب كميات إضافية لنسد حاجة السوق بسبب زيادة الطلب، لكن الحالة الاقتصادية المزرية وارتفاع سعر صرف العملة الأجنبية أمام الليرة السورية ساهم في خفض الطلب على المادة اليوم“.
ويبلغ سعر كيلو القيمر اليوم حوالي ثلاثين ألف ليرة سورية، وعزا إبراهيم السعدي، وهو تاجر مواد غذائية في السوق الشعبية بمدينة القامشلي، تراجع بيع القيمر وغيابه عن موائد يوم الجمعة والمناسبات السعيدة إلى غلاء أسعاره، معللاً أسباب تراجع المهنة إلى تأثرها بالأزمات الاقتصادية التي تضرب البلاد إلى جانب ارتفاع أسعار الوقود والأعلاف والتسويق، وندرة المياه التي تحتاجها تربية الجواميس بسبب موجات الجفاف وقطع مياه الأنهار من قبل الحكومة التركية.
ذكريات الماضي
تستذكر الجدة عنود طقوس تصنيع القيمر وتجهيزه مع جاراتها في حي الطي بمدينة القامشلي قبل انطلاقهن للسوق وبيعها لتجار المادة.
وتقول الجدة السبعينية أنها كانت تحلب جواميسها قبيل غروب الشمس، لتبدأ بعدها صناعة القمير، وعن طريقة صناعته تشرح ”تغلي الحليب الدسم في أواني كبيرة وعريضة ترفع على نار هادئة، ويحرك بمعلقة خشبية تحريكًا مستمراً، ثم تغطى أواني الحليب المغلية بقطعة قماش نظيفة مخصصة للعملية ، ويغطى جيداً بغطاء سميك ويترك حتى صباح اليوم التالي“.
وتتابع: “بعد رفع الغطاء نجد أن الطبقة الدسمة الدهنية قد ارتفعت على سطح الحليب وتحولت إلى القيمر، فنقطعها بالسكين بخطوط متساوية ونجمعها بانتظام، أما الحليب الذي بقي في أسفل الأواني، فنصنع منه اللبن والجبنة بعد إعادة غليه من جديد”.
بعد الإنتهاء من صناعة القيمر منزليا، اعتادت عنود على الانطلاق مع ساعات الصباح الأولى باتجاه السوق مشياً على الأقدام، مصطحبة كميات كبيرة مما صنعته يديها من ”فطور الملوك“ على حد وصفها.
تعتبر حركة الأسواق دليلًا مهمًا على تعافي الاقتصاد أو تراجعه. وغالبًا ما يتم رصد عمليات التسوق في الأسواق المركزية والأسواق الشعبية المشهورة أو المتخصصة ببيع مواد وسلع محددة، لقراءة حركة السوق الحقيقية واستنتاج القيمة التبادلية النقدية الفعلية، وحركة السلع حسب الطلب عليها وحسب نوعها، وعمليات البيع والشراء بصورة دقيقة وقابلة للتحليل والاستنتاج.
تماهى السوريون والسوريات مع الأسواق حتى باتت جزءًا من ثقافتهم اليومية، فأكسبوها أهمية وجدانية استشرافية وتقييمية خاصة، وأطلقوا عليها صفات بشرية مثل: “السوق ميت، السوق بارد، السوق شاعل نار، السوق مكسور، السوق حلو، السوق مليان حياة، السوق عم يغلي غلي، السوق بيبكي..”
يمتدح غالبية الناس ميزة الرغبة في ارتياد الأسواق وحب التسوق التي تتمتع بها غالبية النساء وخاصة المدينيات. بعض الباعة يكره عملية المفاصلة التي تقوم بها النساء لشراء حاجياتها، وغالبية التجار وخاصة في محال بيع الجملة وفي الأسواق الشعبية المشهورة بدمشق مثل العصرونية وسوق الحميدية وسوق تفضلي يا خانم، يمزجون ما بين الكلام اللطيف لترغيب النساء بالشراء وما بين تقديم النصائح بجدية محترفة تساهم في إقناع النساء بشراء مادة محددة من بائع محدد، وربما يصير عنوان المحل المذكور وجهة شبه دائمة لتلك السيدات.
في سوق العصرونية الدمشقي الشهير والواقع خلف قلعة دمشق مباشرة، ازدحام كبير، شاحنات صغيرة تنقل البضاعة من وإلى السوق والحركة الأبرز هي إفراغها في داخل السوق. تختلط خطوات الزبائن وخاصة من النساء مع إطارات الشاحنات وبأصوات سائقي عربات التحميل اليدوية، ازدحام يبدل الصورة العامة لحركة الأسواق خلال الأعوام الماضية التي اتسمت بإغلاق المحال باكرًا، وضعف حركة المتسوقين والمتسوقات. لقد لجم الخوف وواقع النزاع كل الفعاليات اليومية المعتادة، حتى التسوق تحول لمخاطرة كبيرة ألزمت الناس على التزام بيوتهم، أو الاكتفاء بشراء الضروريات فقط من أقرب منافذ للبيع. عدا عن تأثر بضائع كثيرة بالكساد والتوقف شبه التام عن شرائها مثل مواد البناء وأطقم الزجاج والقماش وخاصة أقمشة الأعراس والمناسبات العائلية والحفلات والاحتفالات بالأعياد وسواها.
لكن رغم الازدحام الظاهر فقد تبدل المشهد جليًا، في عمقه ودوافعه وفي مجرياته اليومية، والأهم أن انخفاض نسبة الأرباح ساهمت بفرض سعر شبه رائج محدد للبضاعة في غالبية المناطق التي كانت تشهد تباينًا كبيرًا في الأسعار.
على اسفلت الرصيف يفرد عدد من الباعة بضاعتهم، تقترب النسوة لتشتري، ثمة نظرية متعددة الأركان تبرز هنا: أولها أن البيع على البسطات يتم بسعر أقل، بذريعة أن البائع لا يدفع إيجارًا أو نفقات لمحله ولا أجور عمال مساعدين؛ وثانيها أن من يفترش الأرض الآن هو تاجر سابق خسر محله أو تجارته واضطر للبيع هنا، وبالتالي فإن الشراء منه قد يكون جبرًا لخواطره المكسورة أو دعمًا له على خساراته المتتالية والمؤلمة؛ وثالثهما أن المفاصلة هنا أسهل وربما أكثر قابلية للنجاح.
اعتاد السوريون والسوريات على شراء أطقم كاملة متسلسلة الحجم حتى للمصافي والأدوات البلاستيكية، لكن كل شيء قد تغير، وخلو البيوت من الأساسيات غير قابل للترميم أو التعويض، حتى البائع يسهل حركة البيع ليكسب أكثر وليضمن بيعه لعدد أكثر من القطع التي يتركز الطلب عليها، حيث يفرد الطقم كاملًا، لكنه يعرض فرصًا لبيعه بالمفرق ولكل قياس سعر. اللافت هنا هو قلة الطلب على الأحجام الكبيرة، تراجع بيعها بشدة والتزم المتسوقون /ات بشراء عدد أقل ومقاسات أصغر حتى من الأطباق وكؤوس الماء والطناجر والمقالي والمماسح وأدوات التنظيف.
ترتبط عملية شراء قطع محدودة وبأحجام صغيرة بقلة السيولة المالية أولاً، وبتفتت العائلات ثانياً، لدرجة غابت تقاليد اجتماع العائلة كاملة حتى على سفرة شهر رمضان بصورة شبه نهائية. تفرقت العائلات، صغرت البيوت وضاقت المساحات القابلة لاحتواء أثاث المطبخ، تعبت الأمهات من الحزن والقهر ومن الأمراض المزمنة ووجع الرحيل وفقدان البيوت والسكن المشترك وبدلات الإيجار المرتفعة. كل شيء بلغ أقصى حدوده من الهشاشة ومن القسوة في نفس الوقت، وعندما تجتمع الهشاشة مع القسوة تغيب غالبية التفاصيل الجامعة والمرضية والمريحة حتى لو كانت دزينة كاملة من الأطباق المقتناة برضا واكتفاء.
ثمة مقولة شبه عامة تقول: أن النساء يذهبن للتسوق ويعدن بخفي حنين، تسوق مغلف بهدف آخر وهو الخروج من المنزل، للترفيه عن الأطفال أو مرافقتهم للسوق وكأنه مشوار، يطول وقته بسبب السير الطويل وأزمة المواصلات، قد يفوز الأطفال بالبوظة أو بسندويشة شاورما أو فلافل أو بطاطا مقلية، لكن الأم تعود راضية رغم تعبها لتقول: “يا حرام الأطفال محبوسين بالبيوت، يرجعوا من السوق على النوم مباشرة لأرتاح من نقهم وطلباتهم غير قابلة للتحقيق.”
عادت النساء إلى الأسواق لكن الأسواق لم ولن تعود! في سوق الصالحية عدد كبير من المحال المغلقة، قرر أصحابها إغلاقها واختزلوا العملية بعبارة: الإغلاق أوفر، يكفي خسارات!
بائع الملابس الداخلية القطنية في شارع الحمراء وهو سوق مشهور، يقول مشبعاً بالغصات: “بالأمس فتحت المحل من التاسعة صباحاً، ولم تأت الرزقة حتى الساعة الثامنة إلا ربعاً، عندما جاءتني سيدة تعيش خارج سورية واشترت كمية من الألبسة الداخلية أمنت لي قوت يومي وطلبات المحل ليوم واحد، اليوم.” تحاول سيدة مفاصلته، يغضب ويقول لها شبه صارخ: “الساعة الثانية بعد الظهر! لم أسترزق بليرة واحدة، وأنت تفاصليني بأسعار ألبسة إن عدت لطلبها وترميم غيابها سأدفع أكثر من نقودك التي ستدفعينها اليوم.”
في حركة الأسواق ملامح غادرة وغير دقيقة، الازدحام لا يعني التسوق ولا البيع، والأيدي الفارغة من الأكياس لا تعبر إلا عن عجز واضح، حتى الأكياس المحمولة والممتلئة بسقط المتاع والاحتياجات اليومية هي مرآة للواقع الحقيقي، لا بد من استبدال ما انتهى عمره وأصبح خارج الخدمة، إنها الضرورة فقط.
يتفق الجيران في ثلاثة مبان متجاورة على التسوق من سوق الهال الواقع في حي الزبلطاني الواقع في قلب مدينة دمشق متوسطاً ساحة باب توما وساحة العباسيين، يتفقون على تسوق يومي ولكن بالجملة ويتبادلون الخضار والمعلبات واللحوم على قلتها والطحينة والأجبان والألبان كل حسب حاجته. الفرق كبير جدًا بين أسعار سوق الهال وبين أسعار المواد ذاتها في الدكاكين القريبة، الحكم على باعة الدكاكين بالطمع والتجبر بات أمرًا غير دقيق أبدًا. يُعاني باعة المفرق من كلفة المواصلات والتخزين وخاصة في البرادات بعد أن باتت الكهرباء بحد ذاتها مجلبًا للخسارات الكبيرة وغير القابلة للتعويض ومن الضرائب المتصاعدة بأشكال متعددة.
في سوق الطبالة، يغير محمود من ترتيب محله، يدير ظهر البراد الكبير إلى واجهة المحل ويعلق عليه لافتة للبيع، يصير المحل ومحتوياته مجرد واجهة ضيقة، فبعد امتناعه عن بيع الأجبان والألبان بسبب تلفها لمرات عديدة، تضاءلت بضاعة المحل، واقتصرت على المواد الجافة، ونظرًا لأنه يسكن بعيدًا عن محله فقد وضع فراش اسفنجي في المنطقة المفرغة منه والتي أصبحت خالية بشكل موجع ومخيب ولا شيء متوفر لملئها، وقال أنه نام هنا لمرتين بسبب انقطاع المواصلات.
تتغير حركة الأسواق في مواسم الأعياد، يتزايد الشراء والبيع، غالبية الأموال هي دعم من الخارج، والخارج هنا العائلة، بعض الأصدقاء والصديقات الراغبين أو القادرين على المساهمة، إضافة إلى بعض “أهل الخير”! وعبارة “أهل الخير” هي عبارة موجعة جداً، أي خير هذا الذي أصبح غير متاح إلا على نفقة الآخر وربما الغريب. تتسع حركة البيع والشراء وحركة ارتياد الأسواق، لكن ثمة إجماع على أن هامش الربح لا يكفي لصمود أحد لا الباعة ولا المشترين، وإن كانت العائلات تصر على شراء سراويل جينز لأنها عملية ويمكن مرافقتها بأية بلوزة أو قميص، لكن تبقى قضية الأحذية هي مفتاح العجز الواضح على تفاقم الحاج وتعقيدات تحديد ملامحها أو إمكانيات النفاذ منها نحو حلول أكثر وفرة وأكثر عدلاً.
نعم باتت الأحذية قضية، ثمة بضائع كبيرة وكثيرة منها، لكنها رديئة بالعموم، والجيد منه سعره غالٍ جداً، بضائع تستوطن بسطات عملاقة تكفي لملء محال بكاملها، لكنها مفروشة على البسطات وعلى العربات، في البرامكة وفي الصالحية وفي باب توما، أينما سرت تصدمك وفرة الكميات من كل شيء، تبدو الأحذية جميلة ومرتبة وتلائم الموضة الدارجة، لكن في الوقت نفسه تتزايد الأقدام الحافية والأقدام التي تخرج أصابعها من مقدمات أحذيتها والكعوب الذائبة وشحاطات البلاستيك.
ما بعد الحروب، تتحول الوفرة في الأسواق بحد ذاتها إلى أداة نزاع، من يستحق ومن هو قادر على الشراء! لكن سؤال الجودة والجدوى مفقودان، لأنه وبكل بساطة لا يمكن تحققيهما في ظل مداخيل كذرات الغبار وفي ظل احتياجات تتضاعف كل يوم.
سؤال الجودة لا يليق بالحرب، ولا بأسواق بالغة الهشاشة وعلى شفا الانهيار، وجيوب عاجزة رغماً عنها وعن أصحابها.
وإن عادت الأسواق فمن يعيد الاكتفاء، وإن عاد المتسوقون والمتسوقات فمن يعيد جدوى البيع والشراء كتفصيل حيوي ومتوازن في تفاصيل الحياة!
من يعيد للسوق حيويته وتفاعله وصفاته الإنسانية التي تربطه بأهله وناسه وصناعه والفاعلين فيه!