فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود، ليزيد من قهر وعذاب الناس، المحرومين من أبسط مقومات الحياة، وليُقلق راحتهم ويؤرِّق نومهم ويحول حياتهم إلى ما يشبه الجحيم، في ظل عجزهم عن توفير أبسط ما يحتاجه الإنسان العادي لمقاومة ظروف الحر الشديد.  

في وقتٍ بات فيه تشغيل المكيفات خلال الصيف أمراً طبيعياً وضرورياً يُحرم معظم الناس في سوريا من تشغيل أية وسيلة تبريدٍ، بما فيها مراوح الهواء، في ظل انقطاع الكهرباء التي لا تأتي غالباً سوى أربع ساعاتٍ على مدار اليوم.  ومن أراد أن يحصل على نعمة التكييف، وهو أمر بات حكراً على الأثرياء، فسيحتاج إلى مولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي تحتاج إلى تكاليف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعارها وصعوبة توفير الوقود، أو سيلجأ إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية التي تُكلف عشرات ملايين الليرات.  

ولكي يجلبوا بعض البرودة إلى بيوتهم التي تحولت إلى مخزنٍ للحر، لم يبق أمام معظم الناس سوى الاستعانة بالمراوح التي تعمل بواسطة البطاريات، وهو ما حملهم أعباء مادية تفوق طاقاتهم، إذ وصل سعر المروحة العمودية، المزودة بقاعدة متحركة والتي تعمل بواسطة الكهرباء أو البطارية، إلى نحو مليون ونصف  المليون ليرة، فيما تخطى سعر المروحة، التي تعمل بواسطة بطارية خارجية، حاجز المليون ليرة، هذا عدا عن سعر البطارية التي ستحتاجها. ورغم أن تلك المراوح قد أصبحت خياراً وحيداً بالنسبة لمعظم الناس، إلا أنها لا تستطيع العمل لوقت طويل، إذ لا تكفي ساعة كهرباء لشحن بطاريتها التي تعمل في أحسن الأحوال لمدة أربع ساعات.

وفي ظل عجز كثير من الفقراء والمُعدمين عن شراء تلك المراوح لجأ الكثير منهم لشراء المراوح المُصنعة بطرقٍ بدائية. وتتكون المروحة من فَراش بلاستيكي بأربع أو خمس شفرات، موصول إلى محرك صغير يعمل بسرعة واحدة، مُثبَّت على زاوية معدنية صغيرة يمكن تعليقها على الجدار. وقد انتشرت  تلك المراوح في الأسواق بشكل كبير،  ويبلغ متوسط سعرها نحو 70 ألف ليرة، ويمكن تشغيلها بواسطة بطاريات الإنارة البديلة، لكنها، ورغم حجم الإقبال الكبير على شرائها، تفتقد لأبسط شروط الأمان، إذ يمكن أن تتسبب بأذى جسدي إذا تم لمس فَراشها غير المجهز بأي شبك حماية، كما يمكن للفَراش أن يخرج من مكانه خلال دورانه، ويمكن للمحرك أن ينفصل عن القاعدة، نتيجة عدم القدرة على التحكم في سرعة دورانه.

 بسطات وعربات لبيع الثلج  

في ظل أزمة الكهرباء وشلل عمل البرادات في معظم البيوت بات توفير مياه الشرب الباردة أمراً صعباً بالنسبة لمعظم الناس، وهو ما اضطرهم لشراء الثلج بشكل يومي، ليتحملوا أعباء مادية أثقلت كاهلهم، هذا إلى جانب صعوبة توفير الثلج في كثير من الأحيان، نتيجة عجز كثير من البقاليات والمحلات التجارية عن تأمين التبريد اللازم لحفظه. وفي ظل هذا الواقع انتشرت منذ بداية فصل الصيف، في الشوارع وعلى الأرصفة، بسطات وعربات لبيع قوالب الثلج الكبيرة، حيث يقوم الباعة بتقسيم القالب، الذي يباع كاملاً بأكثر من 25 ألف ليرة، إلى نحو ستة قطع، تباع القطعة، التي تزن نحو كيلو ونصف كيلو غرام، بسعر يتراوح بين خمسة وستة آلاف ليرة. وإذا ما أرادت العائلة أن تستعين بالثلج لتبريد الماء  فستحتاج بالحد الأدنى لقطعتين أو لثلاثة أكياس من مكعبات الثلج، هذا في حال تم وضعه في حافظة للبرودة، وهو ما سيكلفها نحو عشرة آلاف ليرة يومياً، أي 300 ألف ليرة شهرياً، ما يعادل راتب موظف حكومي تقريباً.

ورغم أن قوالب الثلج المباعة على العربات والبسطات قد أوجدت حلاً لمشكلة توفر الثلج، إلا أنها قد تكون عرضة للتلوث وغياب الشروط الصحية، فهي غالباً تُلفّ بمواد غير صحية كالخيش والبطانيات، وتتعرض لأوساخ وغبار الشوارع، هذا بالإضافة لعدم معرفة مصادر معظمها، فقد تكون مُصنعة من مياه ملوثة وغير صالحة للشرب، وفي معامل غير مرخصة ولا تخضع لشروط التعقيم والرقابة الصحية، لذا قد تؤثر سلباً على صحة الناس وتكون سبباً لبعض الأمراض، كونها غير صالحة للاستهلاك البشري، إذ كان استخدامها ينحصر سابقاً في تثليج الأسماك وبعض أنواع اللحوم. 

برادات عاطلة عن العمل

اعتاد معظم الناس فيما مضى على تخزين وتفريز الأطعمة والمؤونة في ثلاجات بيوتهم، لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الإقتصادية، وتتيح لهم إمكانية تحضير العديد من أصناف الطعام  في وقت قصير. ولكن نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وغياب الكهرباء تحولت معظم البرادات في بيوتهم إلى “نملية”، ليحرموا من أبسط عاداتهم اليومية التي كانت تغني مطابخهم، ويتخلوا عن عادات المؤونة وتخزين الطعام، فباتوا يطهون كميات قليلة منه خوفاً من تعرضه للتلف، ويكتفون بشراء كميات محدودة من المواد الغذائية كالألبان ومشتقاتها والخضار والفاكهة واللحوم، فيما لجأ البعض لوضع عبوات المياه في برادات الجيران، الذين تتوفر لديهم المولدات الكهربائية أو أنظمة الطاقة الشمسية، واضطر البعض الآخر للعودة إلى الطرق البدائية في تبريد الماء، كوضعه في أباريق الفخار، ولفِّ عبوات المياه بأكياس الخيش والأقمشة الصوفية لتحافظ على برودتها.

 وفي محاولة بائسة لبعث الحياة في براداتهم التي أصبحت شبه خاوية، لجأ بعض الناس للاستعانة بقوالب الثلج وعلب المياه المجمَّدة ليضعونها في الثلاجة بجوار الأطعمة والمؤونة، ليحافظوا على صلاحيتها لأطول فترة ممكنة، حالهم كحال الكثير من محلات بيع اللحوم التي باتت تغطي بضاعتها بقطع الثلج الكبيرة، لتحافظ عليها من التلف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وتكتفي بعرض كميات قليلة منها، نتيحة عجزها عن تشغيل مولدات الكهرباء التي ستُحمِّلها أعباء مادية كبيرة، تجعل عملها غير مجدٍ، وتضطرها لرفع أسعار بضاعتها التي تراجع حجم الإقبال عليها بشكلٍ كبير.

أزمة المياه تفاقم مرارة الصيف

في وقتٍ يحتاج فيه الناس للاستحمام لأكثر من مرة يومياً لمقاومة حر الصيف والتعرق الشديد، ساهم الانقطاع الطويل للكهرباء في خلق أزمة مياه في عددٍ من أحياء العاصمة ومحيطها وبعض المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية، وذلك نتيجة شلل عمل المضخات المركزية، التي تضخ المياه من الآبار والخزانات الرئيسة إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات، لتحرم كثيراً من البيوت من وصول المياه إلى خزاناتها، وخاصة في ظل شلل عمل المضخات المنزلية. كما شهدت بعض المناطق عمليات تقنين في المياه، التي يتم وصلها ليومٍ واحد مقابل يوم أو يومين قطع، فيما اقتصرت مدة توريدها إلى مناطق أخرى على أربع ساعات على مدار اليوم وأحياناً ساعتين فقط. وقد أجبر ذلك الواقع الكثير من الناس على نقل المياه إلى بيوتهم بواسطة  الغالونات، التي يملؤونها من البقاليات وبيوت بعض الجيران، أو على تعبئة خزانات بيوتهم من سيارات الباعة الجوالين، التي نشطت في الآونة الأخيرة بشكل كبير في عدد من المناطق كمدينة جرمانا، وقد وصل سعر برميل الماء لأكثر من خمسة عشر ألف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس العاجزين حتى عن توفير لقمة عيشهم.

معاناة أخرى

ساهمت ظروف النزوح، خلال سنوات الحرب، في ازدياد حجم الكثافة السكانية بشكل كبير في دمشق ومحيطها وأريافها، وخاصة في المدن الكبيرة كجرمانا وصحنايا، وهو ما فاقم حالة الاختناق والاكتظاظ والازدحام البشري، وأدى لتزايد أعداد السيارات الخاصة والآليات ووسائط النقل والتكاسي، لتساهم  بدورها بمزيدٍ من الاختناق وتلوث الهوء وازدحام الشوارع، وبالتالي في رفع معدلات درجات الحرارة، لتفاقم حجم المعاناة مع فصل الصيف.

وفي السنوات الماضية ازدادت نسبة البناء العشوائي في محيط دمشق وأريافها بشكل كبير، لتستوعب أعداد السكان القادمين من المحافظات الأخرى، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات، وقد ساهم شكل الأبنية العشوائية وغير المنظمة وتقاربها بل والتصاقها ببعضها في قتل مساحات التنفس وانعدام فرص التهوية أمام السكان، لتُطبق الخناق عليهم وتزيد من حرارة المكان.  

ونتيجة تزايد الازدحام السكاني وانقطاع الكهرباء اكتظت معظم الشوارع والأرصفة وبعض شرفات البيوت بمولدات الكهرباء، التي يُشغلها السكان وأصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ليساهم دخانها الكثيف في تلوث الهواء ورفع حرارة المكان وخلق  شعورٍ من الاختناق لدى العابرين في الشوارع، هذا عدا عن ضجيج أصواتها التي تجعجع  طوال الوقت لتصدِّع رؤوسهم وتطغى على أحاديثهم.

وفي ظل صعوبة التأقلم مع الحر الشديد داخل منازلهم، لم يبق خيار أمام كثير من الناس سوى الهروب منها  إلى الحدائق العامة، المزدحمة بهم ليل نهار، ليفترشوا الأرض تحت ظلال الأشجار، حاملين معهم أطعمة ومشروبات تكفيهم لقضاء أطول وقت ممكن، فيما لجأ البعض إلى دخول المساجد، لقضاء بعض الوقت فيها، وخاصة خلال فترة الظهيرة، لينعموا بالقليل من هواء التكييف وبشرب الماء البارد.

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع أنصار العالم الافتراضي نقل إلا جزء يسير من الكتب المطبوعة ورقيا أو الصحف،  للأسف حتى المكتبات الضخمة  غير قادرة على جمع وعرض كل ما طبع.

من هنا كانت الأرصفة في دمشق المكمل الحقيقي لهذا العنصر المعرفي، ولا يمكن تجاهلها في أي مكان من العالم. فمن ناحية هناك تنوع كبير في ما تعرضه من كتب التي تشمل كافة ميادين الثقافة والعلوم والفنون، والأهم من ذلك هي أن بسطات الأرصفة هي المالك الوحيد للطبعات النافدة من السوق والإصدارات القديمة من دون أن تفعل ما تفعله بعض المكتبات إذ لا يوجد اصطفاف سياسي ولا قطيعة مع أي مؤلف، كما أنك تجد على الأرصفة كتباً خاصة بالجامعات وكتب الأطفال واليافعين وقصصهم التي قرأتها الأجيال السابقة من سوبرمان إلى تان تان، المواد التي لا تمكن مشاهدتها في المكتبات الأنيقة، لكنك تضطر لجمع أجزاء الكتب والمجلات من أكثر من مكان كما يحدث حين تريد اقتناء كتاب العقد الفريد. 

قرار محافظة دمشق الأخير (يوم الأربعاء 16 تشرين الأول 2024) والقاضي بإزالة بسطات الكتب المتواجدة منذ سنوات تحت جسر الرئيس، المنطقة الأشهر لبيع الكتب، بذريعة تجميل المكان أثار حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين والعاملين في هذا المجال حتى أن البعض وجه عبر منصة فيس بوك دعوة للتوقيع بالاسم والصفة لتوجيه رسالة مفتوحة إلى السيدة وزيرة الثقافة السورية ومحافظ دمشق فحواها “أنه بهذا القرار سِدت آخر رئة لتنفس هواء المعرفة، الهواء الذي يميز كل عواصم العالم من باريس الى القاهرة وبغداد وبيروت، وكأن مثل هذا القرار الجائر قدر دمشق كي تحتضر أكثر فأكثر”. وأشاروا إلى بسطات الرصيف المشهورة في تلك العواصم ومن أبرز الأسماء التي وقعت على هذه الرسالة المخرج السينمائي محمد ملص، والروائي خليل صويلح، والكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل والشاعر أوس أسعد وآخرون كثيرون.

 أبو طلال، المحارب القديم المتقاعد، الذي بحث عن عمل يحقق له دخلاً مادياً وسعادة لا يرى أن المقاطعة الثقافية التي صنعتها الحرب وغياب الإصدارات الجديدة مشكلة فمن وجهة نظره هناك الكثير من الكتب المهمة والقيّمة التي تستحق القراءة، والتي لم نطلع عليها بعد. وهناك كتب قيّمة، لا يمكن أن تجدها في أهم وأشهر المكتبات السورية، لكنها متوفرة في بسطته بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي صدرت خلال السنوات الماضية. أضاف بنبرة جازمة: “لا تمكن المقارنة بين أمهات الكتب وكتب التنفيعة التي تصدرها الجهات الرسمية أو بعض دور النشر الخاصة”، وهناك الكثير من الكتب التي يرفض شراءها، أو وضعها ضمن المجموعة التي يقتنيها، لكنه يعتب على بعض الأشخاص الذين ينظرون إلى مكتبة الرصيف بتعال خاصة من أطلق عليهم اسم (البروليتاريا الجديدة)، كما انتقد الحكومة التي رفضت ترخيص أكشاك خاصة لبيع الكتب مثلما فعلت مع أكشاك بائعي التبغ ومشروبات الطاقة. واعتبر قرار إزالة البسطات جائرا بحق باعة الكتب والمواطن غير القادر على اقتناء نسخة جديدة بسبب ارتفاع سعرها بينما بقيت بسطات حمالات الصدر الصينية والثياب المستعملة وورق اليانصيب التي لم يطالها قرار تجميل المكان.

عماد، بائع الكتب الرصيفية، يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والصحف والمجلات لكن الحرب السورية دمرت بيته الذي كان مخزنا لما يزيد عن خمسة آلاف عنوان في منطقة دوما وهو اليوم يضع كمية محدودة من الكتب والمجلات القديمة ونادرا ما يجد طالبا لها. يقول: “المجلات القديمة أهم من المجلات المطبوعة حديثا، بالنسبة لي لا يمكن أن أقارن مجلة شعر أو الآداب  مع ما يأتينا اليوم. إن القيمة الثقافية مختلفة ومضمون النص أهم”. أما عن قلة الكتب لديه فقال: “كان عملنا خلال الحرب أشبه بعمل أي محل مجوهرات، يعرض علينا أن نشتري مجموعات من الكتب وموسوعات أكثر مما يطلب منا كتاب، مجموعات فاخرة، تجليد فني، وأسعار زهيدة، لكن لا أحد يسأل عنها (الجمل بليرة وما في ليرة). المهتمون بالقراءة والمثقفون مفلسون”. وفيما يخص القرار الأخير أعلن أن مورده المادي توقف بشكل كامل.

تحت جسر فكتوريا يفاجئك أبو مهيار (محمود بوكس) كما يسميه أصحاب البسطات المجاورة له فهو ليس مجرد بائع كتب مستعملة بل يمكن أن تطلق عليه اسم (غوغل) فما أن تسأله عن كتاب حتى يعطيك شرحا وافيا عن محتواه وعن مؤلفه ولمحة عن الكتب التي صدرت بخصوص هذا الموضوع، ويرشدك ماذا يجب أن تقرأ ولماذا،  لتكتشف بعدها أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. وما يميزه عن أقرانه هو أن لديه خدمة التوصيل، واللافت أنه يتسوق كتبه من البسطات كأي مقتن للأشياء القيمة، ويواظب على حضور معارض الكتاب في سورية ولبنان. الأرشيف الذي يمتلكه يضم مجلات كروز اليوسف، والآداب، ومجلة شعر ومجلات أخرى مختصة في المسرح والسينما والصحف التي تعود لعام  ١٩٢٠. أما ثروته الحقيقية (مكتبة المنزل) التي كانت تحتوي على خمسة عشرة ألف كتاب فقد التهمتها الحرب مع ابنه ومنزله بالكامل. أبو مهيار متمسك بمهنته ويرفض الهجرة خارج البلاد. يضحك قائلاً: “صار بيع الكتب مثل الدعارة، أو بيع الدخان المهرب. يجب أن تتواصل مع القارئ على الهاتف وتعطيه موعد بالخفاء وتنتبه من أن يراك أحد فيصادرون الكتب”.

أكثر ما يثير شجونك عناوين الكتب التي لن تراها بعد اليوم فقرار الإزالة بدأ ومن لم يجمع كتبه ويرحل تقوم الجرافة بتجريفها كأية أنقاض أو قمامة. ولم يعد بإمكاننا لوم أبي حيان التوحيدي على حرقه لكتبه، ولا لوم الداراني الذي ألقى بمؤلفاته في التنور.

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته “المسرح الجوال” عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين العناصر المسرحية من أهداف هذا النوع الجديد. وجاءت طريقة العرض والاتصال بالجمهور في موقع عمله وحياته اليومية كتلبية لنداء المسرح الجماهيري الفقير الذي حرص على التواصل مع الناس وطرح مشاكلهم، وما لبث أن تحول إلى مسرح آخر يعرض على الخشبة مسرحيات عالمية وعربية ثم يجول على مسارح المدن ذات الشروط الفنية المكتملة، إلى أن بدأ نشاطه ينحسر ويتحدد في المناطق القريبة من دمشق العاصمة، وفي النهاية اقتصر على عرض واحد كانت طبيعته مختلفة عن المسرح الجوال وخالفته من حيث البنية وشرط المكان أو الاقتراب من الواقع الراهن.

كان المسرح الجوال عبارة عن عروض مسرحية مكتوبة بلغة بسيطة وأسلوب فني سهل هدفه مخاطبة الجمهور ببساطة وعمق، أما مهمته الأساسية فتكمن في تطوير الحياة وتغييرها بيد أبنائها وأن يزيد من رقعة جمهوره بشكل مستمر، أما الشكل المسرحي فهو أقرب إلى حلم الشاعر السريالي”أنطونين أرتو” بإزالة جمود العلاقة بين المتفرج والعرض وتغيير العلاقة بين العرض والصالة. ولقد عمل كل من غروتوفسكي ومنوشكين ضمن حلم أرتو فأدخلوا المتفرج في سياق العرض بتحريضه على المشاركة واللاحيادية، فقام غروتوفسكي في مسرح المختبر بالتخلي عن المعماريات والأدوات المسرحية التقليدية، كما تخلى عن تقسيم الفضاء بحدود القاعة والخشبة. وقام لوكا رانكوني الكاتب والمخرج الإيطالي بتحويل سيرك برلين إلى مسرح واسع بلا ستائر ووحّد الحلبة والقاعة التي اتسعت حينها لحوالي ثلاثة آلاف متفرج.

بناء على هذا لا يمكن أن نطلق على المسرح الجوال لقباً جديداً بما أنه جامع للتجارب الذي سبقته وطور على أساسها بما يخدم هدفه. وكان يبدأ عروضه في المناطق السورية التي يذهب إليها بكلمة مدير المسرح ويليها العرض، وفي نهايته يفتح المدير حواراً مع الجمهور حول المشاكل التي شاهدها، وكانت المواضيع متنوعة لكنها تتعلق بحياة الفلاح بشكل رئيسي مثل الهجرة من القرية إلى المدينة، والثقافة الفلاحية، والخوف من السلطة، والمهور والزواج وغيرها.

أعطى المسرح الجوال صورة واضحة عن وضع الحركة المسرحية في سورية، إذ كان ينتقل بالعروض الجديدة من مدينة إلى مدينة ومن ساحة قرية إلى باحة مدرسة أو بهو صالة. لم يكن المكان شرطاً في حد ذاته، فالمهم كان الاتساع وإمكانية الاندماج مع الجمهور ومشاركته في العرض بشكل أو بآخر. وكان العاملون في المسرح الجوال يعدونه من التجارب المثيرة والمهمة، سواء للجمهور أو للمشاركين فيه، فهو يلاقي جمهوره دون أية إضافات أو تزويق يجتلب إيهام المسرح، فهو عبارة عن مسرح مكشوف من دون خشبة أو ستارة أو ديكور أو ملابس أو ماكياج، والشرط الرئيس، بعد ابتعاده عن الديكور والسينوغرافيا والصنعة المسرحية، أنه هو من يذهب إلى الناس والتجمعات بأنواعها الفلاحية والعمالية والطلابية، حتى اكتسبت هذه التجربة ملامحها من المشكلات التي تطرحها بلغة الجمهور نفسه، فكان  يتحول أحياناً للتوعية والإرشاد.

غير أن أهمية المسرح الجوال جاءت من تنقله بين القرى التي لم تعرف المسرح إلا عن طريق الفنون الشعبية التي لازمتها كالأعراس والمآتم، وذلك من دون أن تدرك تلك الجموع أن ما تقوم به هو أحد أشكال المسرح والفرجة.

 قبل أن يحضر المسرح الجوال كان الريف السوري عموماً محروماً من فن المسرح لعدم وجود الصالات أو الفِرق، سواء المحترفة منها والهاوية، إضافة لغياب الإمكانيات الفنية بشكل كامل. في الوقت ذاته وصل المسرح إلى نصف سكان سورية، وأطلق حواراً بين الفلاحين أنفسهم وبين الفلاحين والمسرح، فاعتبره الفلاح في مرحلة ما وجهاً من أوجه السلطة. وكان يترك الجمهور يواجه نفسه بالبحث عن حلول تناسب قضاياه دون الاتكال على الآخر، لأن المشاكل تختلف بين قرية وقرية، بحسب قربها أو بعدها عن المدينة، وتضاريسها ومناخها، فضلاً عن الالتحام الذي كان يحصل بين المشاهد والممثل من خلال طريقة العرض.

كان القائمون على هذا النوع من المسرح يكيفون عروضهم مع متطلبات البيئة وواقع الحال في الريف السوري وبيئاته الشعبية، فكان الكاتب يختار المشاكل اليومية والراهنة في بعض الأحيان، وعروضاً كوميدية وترفيهية أو اجتماعية أو سياسية أحيانا أُخرى. الفكرة الأساسية تعنى بالإرشاد القومي، ثم يسردها في حوار يتناسب مع لغة المتلقي من حيث قاموس المفردات وأسلوب الطرح وطرق المناقشة، وفي بعض العروض كان الجمهور شريكاً حقيقياً يشارك الممثلين في حواراتهم، فيتحول العرض إلى ما يشبه الندوة الفكرية، حتى بات للمسرح الجوال خصوصيته المكانية والزمنية والتقنية، فتحرر من شرط الصالة والوقت والقراءة الواحدة للعرض.

قدّم المسرح الجوال قرابة ألف عرض مسرحي في سبعمائة قرية سورية، حتى أنه في عام 1976 حطَّ رحاله في دمشق وقدم عرضاً باسم “الدنيا أخد وعطا” من تأليف  أحمد قبلاوي وإخراج حسين إدلبي. أما السبب الرئيس لتقديم عروضه في العاصمة فقد كان لفت الأنظار إليه. وكان العرض الأول للمسرح الجوال بمثابة عرض تجريبي. كما قدّم عرضاً في قرية “بدا” محافظة دمشق، وكانت التجربة ناجحة، وتلقاها الفلاحون بشغف، فاندمجوا مع العرض، وتدخلوا في مجرى الأحداث، وبدأت مناقشة بعد العرض بشكل تلقائي، فطالبوا بأن تتكرر زيارات المسرح الجوال لقريتهم، علماً أن العرض لم يتجاوز الثلاثين دقيقة. وخلال شهر واحد قدّم أربعة وستين عرضاً في أربع وستين قرية.

كان من أهم عوامل نجاح المسرح الجوال ذهابه إلى الناس والفلاحين والبسطاء  الذين لم يفكروا يوماً في السفر إلى المدينة لحضور عرض مسرحي، فلا التوقيت مناسب للذهاب والعودة، ولا أحد يعلمهم بتاريخ وتوقيت العروض المسرحية في المدن، ناهيك عن العبء المادي. وكان الاندماج الحاصل بين الممثلين والجمهور من حيث مكان الجلوس أحد عوامل النجاح، فكان الممثل بعد أن يؤدي دوره يعود للجلوس ببساطة وسط الجمهور، سواء في مضافة أو مرج أو ساحة، فلا يختفي الممثل في هذا النوع من الفرجة خلف الكواليس. وكان الجمهور يشارك أيضاً في الحوار الذي يلي العرض، وتتفاعل فيه الآراء المتناقضة، إذ كان يتيح العرض الجوال لكل فرد إبداء رأيه، إضافة لبساطة الإخراج ومحلية النص والمضمون على مستوى اللغة أو الموضوع.

كان أبرز من عمل في المسرح الجوال ممدوح عدوان ومحمد الماغوط وعبد اللطيف فتحي وأيمن زيدان، وهذا الأخير أخرج للمسرح الجوال نص “رحلة حنظله” المستند إلى نص لسعد الله ونوس. كما قدم سهيل شلهوب عرض “المهرج ” للراحل محمد الماغوط  ثماني وعشرين مرة، وقدم المخرج يوسف حرب “حكايات للريف”-وهو نص لأسعد فضة إحدى وثلاثين مرة. وكانت بعض النصوص تنتمي للأدب العالمي مثل “المجنون” للروائي والمسرحي ميخائيل بولغاكوف، و”المنافقون” للكاتب المسرحي الإنكليزي بن جونسون، و”المحقق” للكاتب الروائي والمذيع جون بي بريستلي. وقدم المخرج صلاح الهادي بدوره نصاً بعنوان “مأساة مضحكة” كان قد اقتبسه عن نص مسرحي بعنوان “الكوميديا السوداء” للكاتب البريطاني بيتر شافر. ومن النصوص العربية قدم عرض “المهزلة الأرضية” للقاص يوسف إدريس.

لم يعلن توقف المسرح الجوال، واستمر الاسم من غير مضمون، وأخذ الاسم على عاتقه تقديم الأعمال الكوميدية كونها تجذب جمهوراً أوسع. والجدير بالذكر أن الفنان أيمن زيدان كانت له تجربة جيدة فيما قدمه لكنها لم تستمر طويلاً.

 تعثر المسرح الجوال منذ انطلاقته في السبعينات، ربما لأن القائمين عليه لم يدركوا طبيعته ما جعلهم يبتعدون عن أهدافه. وبدأ عدد العروض ينخفض ففي عام ١٩٨١ كان ضمن برنامجه عرض وحيد فقط هو “مهاجر بريسبان” تأليف جورج شحادة وإخراج طلال الحجلي، لكن مكان العرض لم يكن في الأرياف والساحات، بل على خشبة مسرح القباني في العاصمة دمشق. وبدأ اختيار عروض لا تتناسب طبيعتها وطبيعة المسرح الجوال، لا من حيث خصوصية العرض المسرحي ولا مخاطبة الجمهور فالعرض المذكور لجورج شحادة كان عبارة عن مسرحية شعرية تنتمي إلى تقاليد المسرح في الغرب، ولا بد من توافر عدة شروط أولها الخشبة وجانب الإيهام في التلقي واللغة المسرحية، وكل الشروط كانت تخالف الطريقة التي انتهجها المسرح الجوال.

بتوقف النواة المسرحية الأولى انعدمت الحركة المسرحية والفنية في القرى والمدن التي ليس فيها مسارح أو صالات عرض سينمائية. ولم يعد متاحاً أمام الموهوبين الفرصة الأولى لتلمس طريقهم، الأمر الذي أثّر على رفد الحركة المسرحية بعناصر جديدة. وبدلاً من أن يبقى على وضعه الأول أو تتم زيادة كوادره غاب المسرح الجوال بشكل كامل، وذلك بعد أن بات له جمهور ينتظر عروضه من مختلف الأعمار واستطاع أن يتجاوز عدة إشكاليات أهمها العلاقة بين المسرح ووسائل التواصل، وبعد أن كان دوره هامشياً بالنسبة للجمهور صار محورياً، وبدلاً من أن يكون الجمهور متلقياً تحول إلى مشارك، وهو نوع من التكافؤ الإبداعي، فلا النص ولا صناع العرض مارسوا الدور القمعي المتسلط ولا الجمهور مارس هذا الدور، لأن الاتصال المباشر جرد الطرفين من سلطتهما القمعية.

في النهاية إن توقف هذا الشكل المسرحي الحي صادر إمكانية تغيير الواقع الحياتي والمسرحي، أو احتمال حدوث فعل تغييري في الجمهور، وعادت الجماهير السورية لتكريس الموروث وحراسة المقدس والقفز نحو الاستهلاكي من وسائل الفرجة.

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث “وفا تيليكوم” المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود.

من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل الشركة ووزارة الاتصالات والهيئة الناظمة للاتصالات، فقد علمنا اقتراب الأمر بصيغته النهائية التنفيذية، والذي سيتيح لأول مرة خدمة 5G في سوريا. ويأتي ذلك التأخير بعد سنين من وعود إطلاقه، على أن تنطلق الخدمة في دمشق أولاً بشكل تجريبي.

الحلم في مواجهة الواقع

إلا أنّ ذلك الوعد القطعي قد يصطدم بجملة عوامل قسرية أبرزها تدهور البنى التحتية وأزمة موارد الطاقة وغياب الكتلة البشرية المؤهلة للعمل كخبرة في التشغيل والصيانة، خصوصاً مع نية الشركة الجديدة الاستناد على موارد ودعائم الشركتين الوحيدتين المتدهورتين في سوريا أساساً (سيرياتيل وام تي ان) من أبراج ومحولات وبطاريات وأطقم تنفيذية لديها خبرة لوجستية في المرحلة الأولى.

تجدر الإشارة  إلى أن المصادر الرسمية السورية تتحدث اليوم عن خطة تحول رقمي مدروسة على كافة الأصعدة وتشمل البلاد بأكملها، وهي ببطاقة ذكية تمكنت من إحداث فجوة خيالية بين الفكرة والتنفيذ ورمت البلاد وساكنيها في متاهة فرضيات لا حصر لها. فمثلاً هناك مشهد الجموع تفتح حسابات بنكية لتتلقى فرق قيمة الخبز المدعوم دون أن تدري تلك الشريحة ماذا يحصل حولها بالضبط ولا من أي باب ستخرج من متاهتها منتصرةً على التجارب الحكومية التي انقضى عهد وزرائها بدخول حكومتهم حقبة تصريف الأعمال وعلى جدولها لا زالت مئات الملفات العالقة.

الجشع القادم

ينتظر السوريون بفارغ الصبر المشغل الثالث لا لأنّهم تخلصوا من همومهم وصاروا يبحثون عن لون جديد لشرائح هواتفهم الخلوية، بل لينقضي عهد شركتين “ذبحتا” الناس بالأسعار والجودة في تنافسية حثيثة عالية خلاصتها أي شركة منهما ستتمكن من سحب راتب الموظف أسرع من الأخرى لقاء ثمن باقة انترنت صارت خيالية للناس، وتلك الباقة بطبيعة الحال تسرق الشركة أكثر من نصفها، وأحياناً كلّها حتى دون أن يستخدمها المشترك.

في رحلة الانتظار تلك يغفل السوريون\ات أنّ قطاع الاتصالات هو “بترول” البلاد بعدما فقدت سوريا مواردها النفطية المادية الحقيقية، وبأنّ تلك الشركة ليست المنقذ والبطل الخيّر في الرواية الذي سينقذهم من تغوّل الشركتين إياهما، وهي بالنهاية ليست إلّا شركة إيرانية بغطاء سوري، وهذا صار معروفاً ويمكن شرحه. الموضوع أن لإيران ديوناً مليارية على سوريا، ديوناً فاقت الـ 50 مليار دولار، وستحصلها باللين أو القوة، بالهدوء أو الضغط، كذلك يقول صقور السياسة الإيرانية ومعهم يقول شارع بلادهم، وقد تم تسريب جزء من تلك الديون والاستراتيجية الإيرانية تجاه سوريا عبر ما سربته مجلة “المجلة” السعودية استناداً لما اسمته مجموعة “قراصنة” معارضين، لتتولى المجلة ترجمة الوثائق ونشرها كاملة على عدّة أجزاء.

سوريّةٌ خالصة

تقول الشركة معرفةً عن نفسها في موقعها الالكتروني الذي أبصر النور قبل عامين: “في وفا استلهمنا اسمنا من التزامنا العميق وولاءنا ومحبتنا لبلدنا وشعبنا وقيادتنا. إن هذا الوفاء هو الذي يشكل أساس رؤيتنا، ومهمتنا، ورحلتنا نحو سورية المزدهرة، فكان التأسيس في عام 2022 وحصولنا على الترخيص الحصري لتقديم تقنية الجيل الخامس في سورية.”

ويبدو التعريف الذي تقدّمه الشركة عن نفسها منطقياً كشركة “سوريّة” خالصة، وخاصةً أنّ مصادر خاصة أفادت أنّ واجهتها التنفيذية هي من الموظفين السوريين وعلى رأسهم محمد أسدي رئيس مجلس الإدارة، ونائبته كارولين زلقط، وغسان سابا مديراً للمدراء التنفيذيين. المصادر ذاتها أوضحت تفاصيل عن تاريخ تأسيس الشركة ليتبين أنّها حصلت على موافقتها الأولية في عام 2020 من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ضمن القرار /2590/ كشركة مساهمة مغفلة، وفي العام التالي عادت ذات الوزارة لتعادل على نظامها الداخلي بموجب القرار /4751/، ذلك بالتزامن مع التراخيص اللازمة من الهيئة الناظمة للاتصالات، وهو ما يوضح تأخراً ظلّ طوال تلك السنين غير مفهوم لشركة قدمت أوراقها واستكملتها وجرى اعتمادها بل وأجرت مقابلات كثيرة في سياق التوظيف.

الكذبة التي لم تكتمل

رغم أنّ حكومة دمشق روّجت ولا زالت تروّج أنّ المشروع وطني بالكامل وبأيدٍ سوريّة إلا أنّ الأمر قد تم فضحه عبر تحقيق أعدّه مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، وخلص التحقيق إلى أنّ ملكية المشغل الثالث تعود بقسم كبير منها لشركة ماليزية مملوكة لإيراني بالشراكة مع الحرس الثوري الإيراني في محاولة مبكّرة للتهرب من العقوبات.

وما زاد الطين بلّة وأحرج نظام دمشق هو تصريح وزير الطرق والتنمية العمرانية الإيراني -رئيس اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي الإيراني – السوري “مهرداد بازار باش” عبر وكالة “إسنا” الإيرانية، إذ قال نصّاً خلال اجتماع مع المدراء في اللجنة ذاتها: “إن مشغل الهاتف المحمول الذي أطلقه الجانب الإيراني سينشط قريباً في سوريا، وسيمكن السياح والحجاج الإيرانيين من الاستفادة من هذه الخدمات.”

وأكمل: “أحد مستويات التعاون هو إنشاء مشغل للهاتف المحمول، والذي تم إنجازه بالتعاون الجيد بين وزارة الاتصالات الإيرانية ووزارة الاتصالات السورية، ويتم تنفيذ هذا المشروع. وفي هذا الصدد، سيتم قريباً إطلاق بطاقات SIM للمشغل الثالث من قبل الجانب الإيراني في سوريا، ويمكن للسياح والزوار الاستفادة منها”.

الإمبراطور الكسيح

رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد،  وجد التاج فجأة منزوعاً عن رأسه دون سابق إنذار،  وصودرت أملاكه ووضع تحت الإقامة الجبرية، وتحول من إمبراطور يؤثر في اقتصاد دول ناميةٍ حليفة إلى رجل لا أحد يعرف إن كانت الدولة سمحت له باستبقاء حارسٍ شخصي له أم لا.

قابل مخلوف الانقلاب عليه بشنّ حربٍ واسعةٍ لا يراعي فيها أبناء عمومة ولا خؤولة، وبدأ ينشر فيديوهات متواترة على صفحته الخاصة في موقع فيس بوك ويشرح فيها بقدر ما يستطيع من صراحة وإيلام واقع ما حصل، ومن جملة ما رواه في فيديو بثّه بتاريخ 30 يونيو/ حزيران 2021 كان حول قضية استبعاده ومحاصرة سيرياتيل لصالح المشغل الثالث الذي قال علانيةً إنّه إيراني.

آنذاك كان الشارع المؤيد يترنح في موقفه بين التعاطف معه والوقوف ضده امتثالاً لأوامر السلطات فلم يحصل ذاك الفيديو على كثير من الاهتمام، خاصةً أنّ ما يعرف بـ “الذباب الالكتروني” ميّع مضمونه وتفهه إلى أبعد الحدود، وقد يكون إفشاء ذاك السر في ذاك الوقت واحداً من أسباب تأخر وضع المشغل في الخدمة، إلى أن جاءت الضربة الإيرانية الفجّة عبر التصريح المباشر، علماً أنّ مخلوف ذكر أنّ إيران تريد استرداد ديونها مستفيدةً من هذا المشغل كذراع في الجباية.

هل تصبح سوريا محافظة؟

قد تبدو تفاصيل الشركة الجديدة في سوريا وتأخيراتها ملفاً تقنياً بحتاً، ولكن بالتأكيد فإنّ الأمر أبعد بكثير من أن يكون تقنياً ليتخطاه نحو عوالم السياسة المظلمة والمحكومة بالحوكمة الاقتصادية لبلد يدير بلداً ممسكاً إياه من ذراعه التي تؤلمه مستحوذاً على أهم ما فيه وهو قطاع الاتصالات.

ومن يملك الاتصالات يملك الأرض، والفضاء، والتنصت والجاسوسية وقاعدة الأرقام والتعداد، ومن بين كل ذلك تبرز الأرقام كمسألة إحصائية خطيرة تندرج ضمن إطار الأمن القومي الذي لا يجب أن يطلع عليه أقرب الحلفاء العسكريين والسياسيين، بل هم تحديداً من يجب إبعادهم عنه لئلا تتوسع دائرة نفوذهم وتهيمن من ثم تطغى؛ فبالتأكيد “الشقيق” الإيراني لا ينام جائعاً لأجل ملياراته تلك، ولكنّه يريد عوضاً عنها بلداً بحاله، أو ما بقي منه على الأقل. والأمر بسيط هنا إذ يكفي الاطلاع على محضر توقيع اتفاقيات رئيسي والأسد ببنودها الـ 16، وكيف بعد ذلك تسللت إيران من شقوق أبواب المدن إلى شركات القطاع العام وصارت شريكاً، وستظلّ تشارك إلى أن يسأم طرفٌ ويقول: كفى.

وتلك الـ “كفى” بعيدةٌ للغاية في ظلّ تراكبية المشهد السوري وتعقيده واستحالة وضع جدول زمني يحمل حلاً من الداخل السوري، ليبقى المصير مرتبطاً بالخارج، وقد يكون ذلك المصير فكّ ارتباط وتغيّر تموضعٍ وقبول واقع إقليمي جديد بداعمين جدد وقرارات أممية جديدة.

جدَليّات أساليب وجود العولمة (ثقافيّاً وحضاريّاً) بينَ أنساق المُطابَقات وأنساق الاختلافات في قصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا” للقاصّ السُّوريّ (مصطفى تاج الدّين الموسى)   

جدَليّات أساليب وجود العولمة (ثقافيّاً وحضاريّاً) بينَ أنساق المُطابَقات وأنساق الاختلافات في قصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا” للقاصّ السُّوريّ (مصطفى تاج الدّين الموسى)   

يُشكِّلُ هذا البَحث الفصلَ الثَّالثَ من كتابي[1] المَوسوم بـِ “انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها”، والذي فازَ مَخطوطُهُ بـِ (جائزة الطَّيِّب صالح العالميّة للإبداع الكتابيّ)، مَجال الدِّراسات النَّقديّة (المركز الثَّاني)، دورة 2018/ 2019.

وقد نُشِرَ هذا الكتاب في طبعتِهِ الأُولَى في العام 2019 بالعُنوان نفسِهِ، وذلكَ من قبَل هيئة الجائزة (الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار/ زين _ الخرطوم/ السُّودان _ 2019). 

وهذهِ الدِّراسةُ (غير المنشورة إلكترونيَّاً من قبل) هيَ مُحاوَلةٌ تطبيقيَّةٌ لمَنهج التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح (المَنهج الأُنطُو/ ثقافيّ)، الذي اقترحتُ أُسُسَهُ النَّظَريَّةَ وآليَّاتِهِ الإجرائيَّةَ (المبدئيَّة) في الفصل الأوَّل من هذا الكتاب، واختبرتُهُ تطبيقيَّاً بدراسةِ هذهِ القصَّة في الفصل الثَّالث، وبدراسةِ روايةِ “حارس الفيسبوك” للرِّوائي المصري (شريف صالح) في الفصل الثَّاني، وقصيدةِ “اللَّيلُ الذي يعقبُ نهايةَ الدِّيكتاتور” للشَّاعر المغربيّ (محمَّد بنميلود) في الفصل الرَّابع.  

مدخل تعريفيّ بقصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا”

تُمثِّلُ هذه القصّة القصيرة القصّة العاشِرة في مجموعة القاصّ “مصطفى تاج الدّين الموسى“: “آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة“، الصّادِرة عن دار فضاءات للنَّشر والتَّوزيع في عمّان (الأردن)، وذلكَ في طبعتِها الأُولى في العام (2017). 

تبدأ القصّة بسرد الرّاوي لبعض التَّفاصيل عن حياتِهِ في دمشق، حيثُ يعيشُ في ظروف أُسَريّة اجتماعيّة واقتصاديّة صعبة، فلا يجد عمَلاً، على الرّغم من أنَّهُ خرّيج (كلِّيّة الآداب/ قسم اللُّغة الانكليزيّة).

تتسلَّل إلى ذهنه فكرة كتابة رواية، ونشرِها باسم “عيسى زكريّا” بوصفِهِ مُترجماً عربيّاً ترجَمَها من الأدب الانكليزيّ لروائيّ مُتخيَّل اسمُهُ “باتريك جيمبسون”، وسبب ذلكَ أنَّ الوسط الثَّقافيّ والإعلاميّ والقرّاء السوريّين والعرب لن يهتمّوا بها إذا نشرَها باسمِهِ، في حين أنَّها ستلقى رواجاً كبيراً إذا كانت رواية مُترجَمة من الأدب الغربيّ، وسيحلّ ذلكَ مشكلاتِهِ المالية والحياتيّة.

وبالفعل، يُقدِّم الرِّواية (المُترجَمة) إلى دار نشر بعد موعد عمَل مع مدير تلكَ الدّار، وتوافق لجنة القراءة على نشرِها بعد ذلكَ، ليوقِّع العقد، ويقبض مبلغاً جيِّداً، ويتَّفق على نسبة الأرباح.

وبعدَ طباعتِها ونشرِها، تُحقِّق الرِّواية شُهرة كبيرة، ونسبة مبيعات عالية، وتحظى باهتمام نقديّ وإعلاميّ هائل، وتُطبَع طبعة ثانية!

وفي الوقت الذي يُفكِّر فيه الرّاوي بترجمة رواية ثانية لِـ “باتريك جيمبسون”؛ أي بكتابة رواية جديدة، والادّعاء ثانيةً أنَّها مُترجَمة عن الأدب الانكليزيّ، يتَّصل به شخص مجهول يدَّعي أنَّهُ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية “باتريك جيمبسون”، ويطالب الكاتب/ الرّاوي “المُترجم عيسى زكريّا” بحصَّتِهِ من الأرباح.

يفقد الرّاوي أعصابه، ويهرب خائفاً من البيت إلى منزل صديقه أدهم، ثُمَّ يتَّصل هاتفيّاً بوالدتِهِ التي تُخبرُهُ أنَّ صديقَهُ “باتريك جيمبسون” ينتظرُهُ في البيت، وهو شخص لطيف، وقد أعطتْهُ غرفتَهُ لينزل فيها.

يزدادُ اضطراب الرّاوي، ولا سيما حينما يبدأ باتريك بمُلاحقتِهِ في أحياء دمشق وشوارعها، إلى أنْ تخطر ببالِهِ فكرة “عبقريّة”، مفادُها أنْ يسجن باتريك في دمشق (أي أن يمنعَهُ من مُغادرتِها)، وذلكَ بتزوير جواز سفر عن طريق عصابات دوليّة، وبمُساعدة خال صديقِهِ أدهم، باسم “باتريك جيمبسون”، ثُمَّ السَّفر بواسطتِهِ إلى لندن.

وفعلاً، يُسافر “عيسى زكريّا” باسم “باتريك جيمبسون” إلى لندن، ويبدأ حياتَهُ هُناك في العمَل في مطعم، مُستفيداً من كونِهِ يُتقن اللُّغة الانكليزيّة (فهو خرّيج قسم الأدب الانكليزيّ كما ذكرْتُ)، إلى أنْ يقع في حُبّ فتاة إنكليزية اسمها “مارغريت”، لكنَّ والدَها “اللّورد تشارلز” يرفض علاقتَهُما بدعوى أنَّهُ لا يقبل أنْ يكون شريك ابنتِهِ من مُستوىً اجتماعيّ أقلّ (فهو غاسِل صحون في مطعم).

تدفَعُ هذه الصَّدمة الرّاوي للبَحث عن طريقة يُثبتُ فيها ذاتَهُ، وأنّهُ شخص مُهمّ، فيفكِّر بنشر روايتِهِ التي نشرَها في دمشق، لا بوصفِهِ مُؤلِّفاً لها، لكن بوصفِهِ مُترجِماً لها عن اللُّغة العربيّة إلى اللُّغة الانكليزيّة، وذلكَ بالادّعاء أنَّها رواية تعود لكاتب شاب مات مُنتحِراً منذ زمن في دمشق، واسمه “عيسى زكريّا”.

وكما فعَلَ في دمشق، طلَبَ موعداً مع أحد أصحاب دور النَّشر في لندن، وعرَضَ عليه الرِّواية، التي أثارَت إعجابه، فقرَّر نشرَها، لتُحقِّقَ من جديد أرباحاً خياليّة وشهرة واسِعة، ولتتصدَّرَ قائِمة الرِّوايات الأكثَر مبيعاً في إنكلترا وعدد من الدُّول النّاطقة بالإنكليزيّة، ولتطبَعَ طبعتين ثانية وثالثة، وليعرُض مُخرِج مهمّ من ويلز على “باتريك” أنْ يُحوِّلْها إلى فلم سينمائيّ.

تدفَعُ الحياة الجديدة والشُّهرة، والغنى المادّيّ، باتريك، للتَّفكير بترجمة رواية ثانية لِـ “عيسى زكريّا”، لكنَّ جرس الهاتف يرنّ فجأة، ليقول لهُ المُتحدِّث المجهول إنَّهُ مُؤلِّف الرِّواية الحقيقيّ “عيسى زكريّا”، وإنَّهُ يُريد حصَّتَهُ من الأرباح.

تتكرَّرُ حالة الهلَع والذّعر والهروب عند الرّاوي، ويُلاحقُهُ “عيسى زكريّا” في شوارع لندن، ويدخل باتريك في حالة من الكوابيس والإدمان على الخمر، غيرَ أنَّهُ يتشجَّع على لقاء عيسى، وحسم القضيّة معه، وذلكَ عندما يتَّصل به هاتفيّاً للمرّة الثّانية، فيتفقان على موعد ومكان للقاء تحت جسر لندن.

حينَ يصل الرّاوي إلى مكان الموعد وسط ضباب شديد، يفاجأ بشبحين بجانب ضفّة النَّهر، فينحني ويختبئ بينَ الشُّجيرات، ليشهَقَ بعدَ ذلكَ شهقةً عظيمة ويُذهَل عندما يعرف أنَّ هذيْن الشخصيْن هُما: “عيسى زكريّا” و”باتريك جيمبسون”!!

يبدأ “عيسى” و”باتريك” في الشِّجار العنيف، ويتبادَلان اللَّكمات القويّة، والرَّكلات القاسية، ويعجز الرّاوي عن فكِّ الاشتباك بينهُما، فتسيل الدِّماء منهُما، ويتدحرجان إلى ضفّة النَّهر، وتزداد وحشيّة صراعهما، فيجرُّهُما الماء بهدوء إلى منتصف النَّهر، وعندما يجدان نفسيهما مُهدَّديْن بالغرق، ينسيان الصِّراع، ويصرُخان طلباً للمُساعدة من دون جدوى، حيث يبتلعهُما النَّهر، ويغرقان في قاعه.

يشعر الرّاوي بعد موت “عيسى” و”باتريك” بأنَّه روح تائهة بلا بشريٍّ يستر وحشتَها، روحٌ تتجوَّلُ في فضاء كونيّ من الصَّمت والسُّكون، ولم يبقَ منها سوى (رواية) لها كاتبان ومُترجمان في بلديْن مُختلفيْن!!.

أوَّلاً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ منظومة القيَم، وسُلطة السُّوق وثقافة التَّسليع والاستهلاك

تُشكِّلُ الآنيّة الحاضِرة والانفعال اللَّحظيّ افتتاحيّة تأسيسيّة للقصّة، فالراوي الذي يُفترَضُ أنْ يكونَ مُعزَّزاً مُكرَّماً في بلدِهِ، يعيشُ فاقة وفقراً وعجزاً عن الكينونة الأصيلة، حيثُ يبحثُ يائساً عن فرصة عمَل، وهو الخرّيج الجامعيُّ المُثقَّف والمُسلَّح بالمعرفة والثَّقافة.

ولعلَّ دلالات هذِهِ الحالة، لا تُتعِبُ المُتلقِّي أو القارئ المُتمعِّن كثيراً، لإحالة مرجعيّة المُستوى الوقائعيّ في بُعدِهِ الثَّقافيّ هُنا، إلى صراع منظومة القيَم مع سُلطة السّوق، وهو الأمر الذي يدفَعُ الباحث لتقليب المُستوى التَّاويليّ، ثُمَّ التَّساؤل: ما مدى حُضور انزياح أساليب الوجود الثَّقافيّة/ الحضاريّة بوصفِها مُطابَقات عولَميّة في هذا الواقع الذي يعيشُهُ الراوي، وهيَ المسألة التي ستنجلي بتفصيل ووضوح في التحليلات الآتية:

1_ “مرّتْ سنتان، في الصباح أتجوّل _ مستعيناً بدراجتي الهوائية _ في المدينة بين الشركات والمؤسسات والمدارس الخاصّة بحثاً عن فرصة عمل، ولو كـ مستخدم، لا مشكلة.. وفي المساءات أتسلّى بقراءة الروايات”[2].

2_ “تخرجتُ منذ سنتين من كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزيّة، ولم أعثر حتى الآن على فرصة عمل، لولا الراتب التقاعدي للمرحوم أبي لكنّا _ أنا وأمي _ قد متنا جوعاً في بيتنا الكئيب هذا”[3].

3_ “أخجل دائماً من أمي، لو أنّني أستطيع مساعدتها في تحسين أوضاع بيتنا وحياتنا قليلاً، علّها تفرح وترتاح هذه العجوز”[4].

تُسيطر أزمة البَحث عن فرصة عمَل على الراوي، الذي يقبل حتّى بالعمَل كمُستخدم، وهذِهِ أوَّل إشارة رمزيّة لافتة إلى خلخلة منظومة القيَم بتأثير منظومة السّوق، فضلاً عن إشارة ثانية تتعلَّقُ بتنقُّل الراوي على درّاجتِهِ الهوائيّة لا بوصف ذلكَ فعلَ رفاهيّة؛ إنَّما بوصفِ الدرّاجة وسيلة بدائيّة في مُعظَم دول العالَم الفقيرة للتَّنقُّل المجّانيّ، لتنزاح فكرة الرّفاهيّة عبرَ الإشارة الثّالثة والحاسِمة هُنا، والمُتعلِّقة بتسلية الراوي مساءً بقراءة الروايات، ففعل التَّسلية يُشير إلى انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) من المُمارَسة الجادّة والأصيلة للثَّقافة إلى مُطابَقة ثقافة التَّسليع والاستهلاك العولميّ حتّى للمُنتَج الثَّقافيّ الذي يُفترَضُ أنْ يعكسَ مُستويات البنية الحضاريّة للمُجتمَع.

وفضلاً عمّا سبَق، يُحيلُنا المقبوس السّابق إلى تساؤل عميق عن دور الدَّولة الوطنيّة في تأمين فرص العمَل ومُحارَبة البطالة ووضع الرَّجُل المُناسِب في المكان المُناسب، وإلى أيِّ حدٍّ قد انزاحَتْ سُلطتُها وقوَّتُها أمام طُغيان سُلطة السّوق العولميّة؟

في ضوء ما يحيط بالراوي من ضائقة مادّيّة تفرض عليه الاغتراب عن ذاتِهِ الثَّقافيّة، تخطر في باله الفكرة الآتية: “تذكرت.. لماذا لا أكتب رواية؟ ثمّة فكرة جميلة تجول في عقلي منذ زمن وأعتقد أنها قد نضجتْ، أشعر بأنها سوف تكون رواية مميزة، خصوصاً أنّه لا يوجد فيها ماء، ولنفترض أنها قد تكون عادية، على الأقل أثناء كتابتها أحمي روحي من هذا التشرد في مساءات الملل والحساء الفقير.

لم أتريث حتى لدقيقة، التقطتُ قلمي وبدأتُ بالكتابة على دفترٍ متواضعٍ.. كنتُ متحمساً للغاية، حتى أنا شخصياً استغربتُ جداً من هذا الحماس الذي لا أعرف من أين جاءني”[5].

من الواضح أنَّ قرار الراوي كتابة رواية لم يأت رمزيّاً ودلاليّاً ليُشير إلى فعل (ثقافيّ/ حضاريّ) ضمن مشروع مَعرفيّ أصيل؛ إنَّما كانَ هذا القرار ردّة فعل لا تخلو من جانبٍ عبثيٍّ على واقعِهِ المَعيشيّ: “بعد ثلاثة أشهرٍ ونصف أنهيتُ كتابتها، كل يوم وبعد قيلولة الظهر مستعيناً بفناجين القهوة والسجائر أبدأ بالكتابة حتى ساعةٍ متأخرة من الليل، بينما أمي طوال هذه الأسابيع كانت تراقبني عن كثب بخوف، استمتعتُ كثيراً بكتابتها.. متعة حقيقية، تمنيتُ لو أنها لم تنتهِ معي، رسم كلماتها على الأوراق منحني سعادة لا توصف.

في المساء الذي أنهيتُ فيه كتابتها لم أصدق بدايةً، أَيعقل أنّ فاشلاً مثلي كتب رواية!.. يا إلهي. سرعان ما طار عقلي من الفرح، قفزتُ إلى منتصف غرفتي وبدأتُ أغني وأرقص وأصفق بفرح مثل مجنون مخمور، صحيح أنّني فشلتُ في العثور على عمل لكنني كتبت رواية، يبدو أنّني منذورٌ فقط للأشياء العظيمة”[6].

نعم، كتب الراوي روايتَهُ بوصفِها ردّة فعل كما يكشف قوله هو نفسه: “صحيح أنّني فشلتُ في العثور على عمل لكنني كتبت رواية“، وكتابةُ هذِهِ الرواية ليسَتْ إلّا تعبيراً عن أزمة وجوديّة حادّة يعيشُها الرّاوي تظهَر من حيث المبدأ في المُستوى المادّيّ الاقتصاديّ لحياتِهِ، فهو شخص مُحاصَر بالغربة، والغربة قد تكونُ “غربة عن المكان بالسفر، أو النَّفي، أو الهجرة، لكنَّها قد تكون أيضاً غربة في المكان”[7].

وهكذا، ينتقل الراوي بعدَ كتابة روايته إلى مرحلة التَّفكير في نشرها، وهُنا الطّامّة الكُبرى ذات الدَّلالات العميقة، فها هو ذا يقول: “أنا أعرف جيداً كتّابَ هذه البلاد التعيسة ونقّادها وصحفييها، لن يكون لديهم أيُّ وقتٍ للاهتمام بروايةٍ لشابٍ مغمور مهما كانتْ مهمة، كل اهتمامهم ينصبّ على الكاتبات والشاعرات الناشئات، وكلّما قَصُرَتْ تنّورة إحداهنّ ازدادَ في الجرائد والمجلات عددُ الدراسات النقديّة التي تتناول أهمية إبداعاتها”[8].

بعدَ أنْ أظهَرَتْ أزمة البَحث عن فرصة عمَل، وحالة الفقر والبطالة تهافت منظومة القيَم على نحْوٍ يُرجَّح التحاق الراوي بانزياح أساليب الوجود لصالح مُطابَقات العولمة، كما هو الحال في الدول الضَّعيفة أمام قوّة سُلطة السّوق، يأتي المقبوس السّابق ليكشُفَ اختلالاً آخَر في منظومة القيَم المحلِّيّة على المُستوى الثَّقافيّ المُنتِج لفعاليّات الحضارة، فالوسط الثَّقافيّ، وعلاقاتِهِ المأفونة، وشروط النَّشر والتَّرويج، تعكسُ انزياحات كبيرة في أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة)، وهذِهِ الانزياحات بقدر ما تخضع للمُستوى الوقائعيّ المحلِّيّ، لا تنفصل بحالٍ من الأحوال عن مُطابَقات العولمة وثقافة التَّسليع والاستهلاك الرَّخيص ثقافيّاً، وغياب الخُصوصيّة الإبداعيّة أمام النَّفعيّة الشَّخصيّة، وترقيم البشر وأعمالهِم بوجهٍ عام، والمُثقَّفين ونتاجاتهِم بوجهٍ خاص، وهذا الأمر يتَّضح بجلاء في تسلُّل الفكرة الآتية إلى الراوي: “تنهدتُ وهذا الحزن في صدري يشتهي سيارة فأشعلتُ واحدة، عندئذٍ خطرتْ في بالي فكرة جميلة يمكن أن تنقذ روايتي من الموت.. أتذكر أنّني قد قرأتُ منذ سنوات في قصة قصيرة من الأدب العالمي عن مبدع يكتب روايات لكن لا أحد يكترث بها، وبجنونٍ غريب بدأ بطباعة رواياته تحت اسم أجنبي على أنها من الأدب الأجنبي لتلقى رواجاً غير طبيعي”[9].

تُظهِر هذِهِ الفكرة أنَّ تهافت منظومة القيَم ثقافيّاً وحضاريّاً أمام سطوة التَّسليع والتَّرويج ليست خاصِّيّة محلِّة فقط في عصر العولمة، وهذا الأمر يتَّضِح في الشّاهدين الآتيين اللَّذين يُصف أوَّلُهُما موعد (المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف للرواية عن الأدب الإنكليزيّ) مع صاحب دار نشر في دمشق، ويصف ثانيهُما اتّصال صاحب دار النَّشر في لندن بهذا (المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف للرواية عن الأدب العربي):

1_ “قلت لـ باسم علاء وأنا أجلس بنزق لأشعل سيجارة، ابتلعتُ ضحكاتي بعد دخولي وأنا أصافح عدة رجال حول مكتب السيد علاء، يبدو أنّهم اللجنة الاستشارية للدار.. كلهم يشبهون الفقمات، إلا واحداً.. يشبه بطريقاً.

شربتُ القهوة وأنا أضع ساقاً على أخرى، ثمَّ وقعنا العقد لأقبض فوراً مبلغاً جيداً واتفقنا على نسبة الأرباح.

خلال أسبوعين كانت الرواية قد طبعتْ ووزعتْ على كل المكتبات، مع بعض الإعلانات عنها في المجلات والجرائد”[10].

2_ “اتّصل بي اللورد جيمس على هاتف المكتب في المطعم:

_ عزيزي باتريك.. الرواية رائعة جداً، قد أذهلتني فعلاً.. رواية عظيمة لا يمكن أنْ تبدعها سوى روحٍ شابة تنوي الانتحار بعيداً عن هذا العالم.. هل من الممكن أنْ تأتي الآن إلى مكتبي حتى نوقع العقد؟..

_ أعتذر صديقي.. الآن لا أستطيع، لديّ بعض الأطباق ويجب أنْ.. عفواً لديّ بعض المواعيد، نلتقي صباح الغد”[11].

هيَ إذن آليّات سوق مُتحكِّمة بدور النَّشر، ولها حساباتُها النَّفعيّة أكثر من أنْ تكون حسابات إنتاج إبداع ثقافيّ له أفق حضاريّ، فصاحب دار النَّشر في دمشق، ولجنة القراءة عنده، تبنّوا نشر الرواية لأنَّها (مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ لكاتب يُدعى باتريك جيمبسون)، وهذا ما يضمن رواجَها واستهلاكها مثل أي سلعة في عصر العولمة.

كما أنَّ صاحب دار النَّشر في لندن تبنّى نشرَها لأنَّ انتماءها إلى الأدب العربيّ سيُثير فضول القارئ الإنكليزيّ، وستنتشر بالتَّأكيد مثل أيّة سلعة تُستهلَك بسُرعة مادامَت الرواية (مُترجَمة عن الأدب العربيّ لكاتب يُدعى عيسى زكريّا).

في دمشق، حققت الرواية نجاحاً مُنقطع النَّظير، وفي لندن حدَثَ الأمر نفسه، وفي الحالتين يبدو واضحاً هذا الانزياح الهائل في منظومة القيَم الثَّقافيّة المُنتِجة للحضارة، ومُطابقتِها لتمركُزات حُضور العولمة عبرَ سُلطة السّوق وثقافة التَّسليع والاستهلاك، وهذا واضح تماماً في المقبوسين الآتيين:

1_ “مبيعاتها خلال شهرين جعلتنا نشهق مندهشين، كانت أعلى مما خمنّا، وثمّة العديد من المقالات والدراسات كتبتْ عنها ونشرتْ في عدة مجلات وجرائد.

بعد أشهرٍ قليلة طبعتِ الرواية للمرة الثانية مع عقدٍ جديد ينص على أرباح أعلى، وأول كلّ أسبوع كان السيد باسم علاء يرسل لي المال مع سائقه الخاص”[12].

2_ “بعد أنْ وقَّعنا العقد بأسبوع صدرتْ الرواية ووزعتْ على كل المكتبات في المدن الإنكليزيّة، الأرباح كانت خياليّة والرواية حققتْ نسبة مبيعات عالية، لتتصدر قائمة الروايات الأكثر مبيعاً ضمن قوائم خاصة بالفن الروائي، سرعان ما صدرتْ طبعة ثانية وثالثة لها خلال أشهر قليلة وصارتْ توزع أيضاً في البلدان الناطقة بالإنكليزيّة.

أحد المخرجين السينمائيين المهمين من ويلز، اتّصل بي وحدثني حول رغبته لتحويل هذه الرواية إلى فيلمٍ سينمائي عالمي”[13].

إنَّ التَّشابُه المعكوس بين (مُؤلِّف ينشر رواية في دمشق، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ)، و(مُؤلِّف ينشر رواية في لندن، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب العربيّ)، هو تشابه إلى حدّ التَّطابُق، فحتّى دوافع كتابة الرواية، أو بالأحرى ترجمتِها إلى اللُّغة الإنكليزيّة في لندن لا تختلف كثيراً عن دوافع كتابتِها في دمشق، ففي الحالتين لم يأتِ قرار الراوي بكتابة رواية رمزيّاً ودلاليّاً ليُشير إلى فعل (ثقافيّ/ حضاريّ) ضمن مشروع مَعرفيّ أصيل؛ إنَّما كانَ هذا القرار ردّة فعل على المُستوى المعيشيّ في دمشق، وعلى المُستوى المعيشيّ/ الطَّبقيّ في لندن كما يُظهِر المقبوسان الآتيان:

1_ “الصيف الماضي عشتُ قصة حبٍ ملتهبة، كانت مرهقة جداً لسريري مع الحلوة مارغريت، لكن والدها اللورد تشارلز رفض فكرة الخطوبة بيننا، لأنّني _ بحسب مزاجه الغريب _ لستُ مثلهم من السلالات النبيلة، وملامحي تدل على أنّني من أصولٍ إيرلنديّة، ولا أجيد شيئاً في هذه الحياة سوى غسل الأطباق. قال بغضبٍ لابنته:

_ عزيزتي مارغريت.. أنتِ لست طبقاً..

يا إلهي كم كان كلامه هذا مهيناً لذاتي عندما وصلِني، هذا الكلام المؤلم جعلني سجين غرفتي لأيامٍ عديدة أفكر بأرقٍ كيف أثبت للورد تشارلز أنّني لست قليلاً كما يظن”[14].

2_ “عندئذٍ خطرتْ في بالي فكرة رائعة جعلتْ كل خلايا جسدي تقشعر، قلتُ في سري:

_ لماذا لا أطبع هنَا في لندن تلك الروايَة الجميلة، التي كتبتها عندما كنت عيسى في دمشق؟..

فكرتُ طوال الليل، ثمَّ قررتُ فجراً.. سوف أعيد كتابة روايتي تلك لكن هذه المرّة باللغة الإنكليزيّة، وبما أنّ النقاد هنَا أذكياء جداً لن أكتب عن غلافها أنها من تأليفي أنا باتريك جيمبسون، فيحاولون اكتشاف ثمَّ يعرفون أنّني لست إنكليزيّ الأصل، فأجلب بهذا لنفسي المتاعب.. سأدعي أنّني مترجمتها، وأنّ هذه الرواية لروائي شاب مات منتحراً منذ زمن في دمشق واسمه عيسى زكريا”[15].

في الحالتين نحنُ أمام عناصر دراميّة تنتمي إلى منظومة قيَم لا تخلو من الاستهتار المُخيف، فضلاً عن جانب خطير من العبثيّة.

وفي الحيِّزين الزَّمكانيين (الشرق _ الغرب) تضيع الثَّقافة، ويخفت الحُلم الحضاريّ البنّاء، وتتحوَّل (المُثاقفة) إلى سلعة، وتنزاح أساليب الوجود لتكشف عن نسَق ظاهريّ يُطابِق سُلطة السّوق وتقنيّات الاستهلاك ونفعيّة العمَل الإبداعيّ السَّطحيّة، وهذِهِ النَّفعيّة ليسَتْ مرفوضة على نحْوٍ إطلاقيّ؛ لكنَّ إشكاليتَها تكمُن في غياب الأصالة والمشروع الثَّقافيّ المُنبثق عن همّ حقيقيّ ينتمي إلى حُلْم تخليق الحضارة.

ثانياً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ التَّماسُك المَعرفيّ، وسُيولة انتقال المَعلومات

لعلَّ أحد أهمّ المُستويات التي يبسطُها عالَم هذِهِ القصّة في ميدان الاهتمام الخاصّ بها، هو التَّهافت المَعرفيّ في العلاقات بين الشُّعوب، ولا سيما بين (الشّرق والغرب).

وتستمدُّ هذِهِ الإشكاليّة خطورتَها عبرَ مراحل النُّمو الدّراميّ في القصّة من استقالة من ينبغي أنْ يتصدّوا لدور النُّخب من واجباتِهِم الثَّقافيّة والحضاريّة في عصر العولمة.

في دمشق، وفي لندن، تضيع مَعالِم الأصالة المَعرفيّة، وتحضر سُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة على نحْوٍ مُريع، وتتعرّى الأمِّيّة الثَّقافيّة أمام سُلطة السّوق ومنظومة التَّسليع والاستهلاك والرّبح السَّريع، وتتحوَّل المَعرفة ورموزها وتاريخ البشر إلى شظايا أو شذرات تفتقد للتماسُك المَعرفيّ.

هذا ما حصَلَ في جلسة (المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف) في دار النشر في دمشق، وهذا ما تكرَّرَ في جلستِهِ في دار النشر في لندن:

1_ “في ظهر اليوم التالي ارتديتُ ثيابي وتأبّطتُ ظرفاً كبيراً أصفر اللون فيه مخطوط الرواية، ثمَّ ركبتُ دراجتي الهوائيّة لأقودها عبر الشوارع إلى دار النشر. أخبرتُ السكرتيرة أنّني المترجم عيسى زكريا، وذكرتها بموعدي مع الأستاذ باسم علاء، الناقد المعروف وصاحب هذه الدار.

عندما دخلتُ مكتبه كدتُ أنفجر ضاحكاً، بدا لي من خلف مكتبه أشبه بالفقمة، ابتلعتُ ضحكتي ثمَّ جلستُ أمامه لأحدثه عن هذه الرواية التي ترجمتها بأمانة عن الأدب الإنكليزي.

سألني عن اسم كاتبها فأجبته: (باتريك جيمبسون)، مطَّ شفته السفلى وهو يمسح كفه على صلعته ثمَّ قال مستغرباً:

_ لم يسبق لي أنْ سمعتُ باسم هذا الروائي!!..

ومثلما خطّطتُ سابقاً، شرحتُ له بثقة المثقفين:

_ هذا روائي عاش في إنكلترا أواسط القرن الثامن عشر.. لكن أصوله تعود لـ إيرلندا الشماليّة.. وهو من أنصار الجيش الجمهوري الإيرلندي، لهذا.. هناك لأسباب قوميّة ودينيّة و….

_ هل الجيش الجمهوري الإيرلندي موجود منذ القرن الثامن عشر؟!..

سألني متعجّباً، فأردفتُ له:

_ موجود منذ القرن الرابع عشر.. وآنذاك كانت هناك مراسلاتٌ مشهورة بينه وبين جماعة (إخوان الصفا) في منطقتنا، وهذه المراسلات محفوظة كمخطوطٍ أثري حتى الآن كوثيقة تاريخيّة مهمة في مكتبة الكونغرس بواشنطن تحت اسم (مراسلات إخوان الصفا)..”[16].

2_ “انتهيتُ من كتابتها، جمعتُ أوراقها بسعادةٍ أخذتْ روحي لأعلى سماء، ثمَّ ذهبتُ إلى دارٍ مشهورة بطباعة الكتب الأدبيّة في وسط لندن، رحّب بي اللورد جيمس صاحب الدار في مكتبه، جلستُ أمامه وأنا أناوله الأوراق.. شرحتُ له:

ـ لقد ترجمتُ هذه الرواية وهي لروائيّ دمشقيّ، انتحر شاباً في القرن الثامن عشر و…

ـ هل كان العرب يعرفون فن الرواية في القرن الثامن عشر؟؟!!..

قاطعني اللورد جيمس مندهشاً فأردفتُ له:

ـ نعم سيدي.. هنالك بعض التجارب المهمّة، لكنّها أهملتْ لأسباب دينية وسياسية تخصّ الشرق وطبيعة عقله ومزاجه..”[17].

إنَّ أسّ الكارثة ليسَ فقط في الأمِّيّة الثَّقافيّة، لكن أيضاً _ وبشكل أخطر _ في غياب المشروع (الثَّقافيّ/ الحضاريّ)، ولا سيما في علاقة (الشرق والغرب) في عصر العولمة، وفي الفراغ الرّاهن الذي يغزو أساليب الوجود الثَّقافيّة ويُزيحُها نحْوَ مُطابَقات العولمة المُحتفية بسيولة انتقال المَعلومات واستهلاكِها على حساب التَّماسُك المَعرفيّ، وهي المسألة التي تُمثِّلُ خطراً كبيراً في اتّساع الهُوّة بين الشرق والغرب، فعلى العكس ممّا تنطوي عليه أنساق العولمة الظّاهِرة، نحنُ بحاجة اليوم إلى كُتّاب عرب يُمارِسون الاستغراب بشيء من التَّوازن المَعرفيّ الخلّاق، مثلما نحنُ بحاجة إلى كُتّاب غربيّين يستأنفون الاستشراق بشيء من الإنصاف والوعي الجديد، حيثُ يُشكِّل الاستغراب في الثَّقافة العربيّة المُصطلح والمفهوم المُقابِل للاستشراق، ومن أهمّ دلالاتِهِ أنَّهُ يشير إلى “حقل لتشكُّل الصُّور أو التَّمثُّلات حول الغرب بوصفِهِ آخَراً للثَّقافة العربيّة الإسلاميّة (ولثقافات أخرى كثيرة بالطَّبع)”[18].

لكنْ، وكما يبدو أنَّ سُلطة العولمة أقوى وأسرع من القدرة إلى الآن على استعادة إنتاج المَعرفة الأصيلة، فسيولة انتقال المعلومات بوصفِها نمَطاً ترويجيّاً استهلاكيّاً تُسيطر على إنتاج الإبداع الثَّقافيّ، وعلى مُعظَم مُؤسَّساتِهِ التي يُفترَض أنْ تُؤسِّس لفعل حضاريّ مُتجذِّر في العالَم، وهذا الأمر ينطوي عليه الشاهدان الآتيان:

1_ “في اليوم السابع رنَّ جرس الهاتف، إنّه باسم علاء.. قال لي بحرارة على السماعة:

_ مساء الخير أستاذ عيسى.. لجنة الدار وافقتْ على طباعة الرواية التي ترجمتها، الأساتذة وصفوها بأنّها من أجمل الروايات في الأدب الغربي.. إذا سمحت تفضّل الآن إلى مكتبي لنوقع العقد و..”[19].

2_ ” _ عزيزي باتريك.. الرواية رائعة جداً، قد أذهلتني فعلاً.. رواية عظيمة لا يمكن أنْ تبدعها سوى روحٍ شابة تنوي الانتحار بعيداً عن هذا العالم.. هل من الممكن أنْ تأتي الآن إلى مكتبي حتى نوقع العقد؟..”[20]

ولا تقف القضيّة عند حدود الكيفيّات المُتهافِتة لإنتاج المَعرفة؛ إنَّما تصل إلى طرق تلقِّي الإبداع الثَّقافيّ، حيثُ تسود ببساطة ثقافة الاستهلاك السَّريع والتَّسلية المُضادّة للجِدّة، فها هو ذا الكاتب (يتسلّى) بقراءة الروايات في لندن كما كان يفعل في دمشق: “وهكذا.. لسنتين هادئتين وأنا أغسل الأطباق في هذا المطعم الصغير، ومساءً أتسلى على سريري في غرفةٍ صغيرة فوق المطعم بقراءة الروايات الإنكليزيّة بلغتها الأم”[21].

وهكذا، يبدو أنَّ انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) نحْوَ سُيولة انتقال المَعلومات واستهلاكِها السَّريع بوصفِها أنساقاً ظاهريّة مُطابِقة للعولمة، قد فتَّتَ التَّماسُك المَعرفيّ على مُستوى العالَم إلى حدّ بعيد، فلُغة الأرقام والتَّسليع أقوى ممّا نتخيَّل، لكنَّ هذا لا ينفي وجود أساليب مُقاوَمة ليسَتْ بسيطة، غيرَ أنَّ انفتاح العالَم (العولميّ) في ميادين الاتّصالات والمَعلومات المُتشظِّية والتّائِهة والطّائشة _ إذا صحَّ التَّعبير _، يعضدُهُ أيضاً انفتاح قد يكون في كثير من الحالات غير شرعيّ، ولا سيما بما يتعلَّق بسهولة انتقال الأفراد على نحْوْ (رقميّ) يُحيلُ ذواتَهُم إلى هياكل شبحيّة أقرب إلى الوهم من الحقيقة، وينبسطُ فعلُ تنقُّلُهُم البيولوجيّ في أنحاء العالَم على نحْوٍ موازٍ لسيولة انتقال المَعلومات، ولا سيما عبرَ طرقٍ لا تخلو من ألاعيب العصابات العولميّة الدَّوليّة والعابرة للقارّات، والتي تمتلكُ قدرات فائقة على التَّزوير، وتسهيل انتحال الشَّخصيّات أحياناً، كما حدَثَ مع (المُؤلِّف/ الراوي) في هذِهِ القصّة، حينما أرادَ الخلاص من مُلاحَقةٍ مُرهِقة من قبَل (شخص/ شبح) يدَّعي في قلب دمشق أنَّهُ المُؤلِّف الإنكليزيّ الحقيقيّ للرواية (أي باتريك جيمبسون)، فلجأ إلى عمليّة التَّزوير الدّولية الآتية: “ذات ليلة وبعد تفكيرٍ طويلٍ ومتعب ابتسمتُ بخبث، وأخيراً عثرتُ على طريقة تخلّصني من باتريك نهائياً، همستُ في سري: (سوف أسجن باتريك في هذه البلاد إلى الأبد). ليلتها شربتُ نبيذاً للمرة الأولى بعد هروبي من بيتي، وأنا أتنفس الصعداء.

استطعتُ بمساعدة خال أدهم المقيم في أوربا الشرقيّة أنْ أحصل على جواز سفر مزور بإتقان، خال أدهم على تواصل مع هذه العصابات الدوليّة.. كلفني هذا الجواز مالاً كثيراً، جواز سفر غربي على صفحته الأولى صورتي الجميلة بابتسامتي الساحرة، لكنّه لم يكن باسمي.. كنتُ قد طلبتُ سابقاً أن يكون باسم باتريك جيمبسون، فكرة جهنميّة.. لم أشرح شيئاً لـ أدهم، كنت طوال السهرة أتأمل الجواز وأضحك بجنون.. لقد هزمته.

حجزتُ ليلتها في طائرةٍ ذاهبة إلى لندن، صباحاً ذهبتُ إلى المطار..”[22].

ثالثاً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ الهُوِيّة المحلِّيّة، والهُوِيّة العولَميّة

لعلَّ قصديّة اتّجاه المُتلقِّي إلى عالَم هذِهِ القصّة كما ينفتِح أمامَهُ، تقودُ إلى تلمُّس بنية فنيّة تقنيّة مُتراكِبة بالتَّوازي والتَّقابُل في آنٍ معاً، فعلى الرّغم من أنَّ سرد الراوي هو سرد خطِّيّ زمانيّ مُتَّصل، لكنَّ بنية الحبكة تتكوَّنُ من مُستويين زمكانيين لأحداث مُتناظِرة تقومُ على تكرار التَّشابُه الذي يشي (أي هذا التَّشابُه المُتكرِّر بينَ الأحداث الدِّمشقيّة وسيرة الراوي/ المُؤلِّف فيها، والأحداث اللّندنيّة وسيرة الراوي/ المُؤلِّف فيها) بغياب الخُصوصيّة الهُوِيّاتيّة الذّاتيّة والجمعيّة في عصر العولمة، ولا سيما في الإطار (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) كما سأشرح في الفقرات الآتية.

لا تبدو حالة الراوي في بداية القصّة ذات سمات محلِّيّة خالِصة، وإنْ كانَ ذلكَ حاضِراً كمرجعيّة مكانيّة، فحالة الارتياب والعشوائيّة واللّامُبالاة والاختناق، تعكس سوداويّة ناهِضة على شُعور عارم بالفراغ الهُوِيّاتيّ للذّات من حيث المبدأ لخرّيج جامعيّ يُعاني من الفاقة، وهو المُتعلِّم الذي يحظى بمُستوىً غير قليل من الثَّقافة، وهذا الأمر يدفعُني إلى نفي الخُصوصيّة الهُوِيّاتيّة في الشّاهدين الآتيين، وإحالة حالة الضَّياع والفراغ إلى نمَط اكتئابيّ عولميّ يُهشِّم الذّات الفرديّة والجمعيّة؛ أي نستطيع أنْ نجد حالات مُشابِهة لهُ في أي مكان في العالَم، ولا سيما بالنَّظَر إلى الجانب المحلِّيّ الاقتصاديّ الذي يُمكن أنْ نشاهد ما يُطابقه _ وليسَ فقط ما يُشابهُهُ _ في أيّ بقعة من كوكب الأرض المُعولَم: 

1_ “لثلاث أو أربع سجائر تقريباً وأنا أرمق ببلاهة وصمت من بين الدخان المتصاعد _ مرتاباً _ ثيابي المعلقة بشكلٍ عشوائي هناك، على المشجب جانب باب غرفتي، لا أتذكر أنّني قد علقتها ظهراً بهذا الشكل المرتب! أظنّ أنّ أحدهم يعبث بثيابي المعلقة، أتكون أمي؟!.. يجوز. زفرتُ بلا مبالاة ثمَّ سمعتها تناديني من المطبخ لأشاركها طعام العشاء، يئستْ معدتي من الحساء الفقير لأمي كل مساء، شكرتها على دعوتها الكريمة بصوتٍ عال”[23].

2_ “نهضتُ عن سريري لأمشي بملل حتى الكرسي، ثمَّ جلستُ خلف طاولتي التي تتناثر فوقها روايات كثيرة، دخنتُ سيجارة أخرى.. حتى هذه السجائر فقدتْ طعمها، هذا الملل يفتك بروحي منذ أشهر، أكاد أختنق.. يبدو أنّ روحي هي الوجبة المفضلة لدى كل الملل في هذا الكون”[24].

إنَّ الراوي منذ بداية القصّة يبحث عن تحقيق هُوِيَّتِهِ الذّاتيّة، ويحلم بمُعانقة كينونتِهِ الرَّحبة، فإذا كانت الفلسفة الوجوديّة على نحْوٍ عام ترى أنَّ الوجود يسبق الماهيّة، فإنَّ مفاهيم الأنطولوجيا ترى تحديداً أنَّ جوهر الاختلاف بينَ علم الوجود والميتافيزيقا التَّقليديّة يكمُنُ في الانتقال من فهم الوجود العام (بِوصفِهِ موضوع الميتافيزيقا السّابق على الوجود الفرديّ المُشخَّص[25]؛ أي بِما هُوَ ماهيّة تسبقُ الوجودَ الفرديَّ المُشخَّص) إلى فهم الوجود العام (بِوصفِهِ ماهيّة لِلإنسان كامِنة في وجوده ذاته)[26]؛ أي إنها تتعيَّن تبعاً لأساليب وجود الإنسان البصَريّة في العالَم؛ ذلك لأنَّه “ليستْ له ماهيّة مُحدَّدة ثابتة مُعطاة له مُقدَّماً”[27]، فهو لا يوجد وجوداً فعلياً بما هو كائن بِحُكم ماهيَّته المُسبَّقة، إنّما يُحقِّقُها بِوصفِها إمكانيّات وُجوده الفعليّ، أو احتمالات وجوده المُتعيِّنة في كيفيّة ما[28]. ومن هنا  ليسَ الوجود عند هيدجر علّة خارج الموجود، إنَّما هو مبدأ مُستقّر في أعماقه[29]، يتكوَّن تبعاً لتلكَ الأساليب البصَريّة (أي كيفيات الوجود المرئية) المُتخارِجة التي يبسطُها في العالَم.

ويبدو أنَّ الفخّ الوجوديّ الذي وقَعَ فيه (الراوي/ المُؤلِّف) يكمنُ في اعتقادِهِ واهِماً أنَّهُ قد حقَّقَ كينونتَهُ الأصيلة عبر كتابة روايتِهِ، ذلكَ أنَّ أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) التي التحَقَ بها فيما بعد عبرَ مُطابَقاتِها لأنساق الهُوِيّة العولميّة التي أزاحتْها إلى أنماط من الاستهلاك والنَّفعيّة والاستسهال ورقميّة المَعلومات، قد مزَّقت هذِهِ الهُوِيّة الذّاتيّة، وبعثرَتْ وجودَها، وأفقدَتْها الماهيّة الأصيلة، بدءاً من مرجعيتِها المحلِّيّة، وصولاً إلى مرجعيتِها العولميّة، حيث سقط المُؤلِّف بعد ذلكَ في ماهيّة زائفة يُمهِّدُ لمَلامحها الشّاهد الآتي الذي يبسط أساليب الوجود بينَ دلالات وَهْم النَّجاح المحلِّيّ بتأليف الرواية، وشعائر الاحتفال المُنطوي على دلالات أوَّليّة لما هو قادم من انزياح نحْو أساليب وجود العولمة، وهيَ الرَّمزيّة التي ينطوي عليها (النَّخب) الزّائف بوصفِهِ شراباً ساخناً من نباتات مُنوَّعة تستخدمها الأم لعلاج أمراض الشَّيخوخة، والتَّظاهُر عبرَ رفع هذا النَّخب احتفالاً كأنَّهُ خمر (نبيذ فرنسيّ رُبَّما)، لينتهي الاحتفال بعودة المُؤلِّف إلى غرفتِهِ وهو يضع يدَهُ على بطنِهِ في مشهدٍ لا يخلو من رمزيّة الألم الآتي قريباً: “هذه مناسبة تاريخيّة ويجب أنْ نحتفل بها، أين أنتِ يا أمي؟.. ابنك الوحيد كتب رواية، يجب أن تزغردي عالياً.. أسرعتُ إليها في المطبخ، كانت واقفة أمام الغاز تقوم بطهي هذا الحساء البائس، التقطتُ يدها ورحتُ أراقصها وكأننا عاشقان في فيلمٍ فرنسي كلاسيكي، أخذتُ عن الطاولة كأساً ساخنةً لشرابٍ غريب تعده أمي لنفسها من نباتات منوعة يفيدها بتحمل آلام أمراض شيخوختها، رفعته إلى الأعلى وأنا أصرخ أمامها: (نخبكِ يا أمي.. نخب الروايات الجميلة) وأخذتُ رشفةً منه، يا إلهي كم هو مرٌّ طعمه، لوحتُ بكفي مودعاً أمي وأنا أضع يديّ على بطني ورجعتُ إلى غرفتي”[30].

يبدأ توتُّر الأثر القصِّيّ ودلالاتِهِ الرَّمزيّة في الانفتاح أمام القارئ منذُ اللَّحظة التي يتَّصِلُ فيها (المُؤلِّف الوهميّ: باتريك جيمبسون) بالمؤلِّف الحقيقيّ في دمشق، ويتكرَّر الحدَث معكوساً حينما يتَّصِلُ (المُؤلِّف الوهميّ: عيسى زكريّا) بالمُؤلِّف الحقيقيّ في لندن، ومُطالَبة كُلّ منهُما بحصَّتِهِما من الأرباح:

1_ “ذات مساءٍ ارتديتُ «بيجامتي» الفخمة الجديدة ثمَّ جلستُ إلى الأريكة أمام التلفاز لأتسلّى بتناول المكسّرات وشرب العصير وتدخين الغليون بمتعة، هذه المكسرات لذيذة جداً.

ثمّة نشوة روحية داهمتْ كياني وأنا أمضغها، عندئذٍ قررت:

_ يجب أن أترجم رواية ثانية لـ باتريك جيمبسون..

فجأةً رنَّ جرس الهاتف، وضعتُ السماعة بلا مبالاة على أذني، خاطبني صوتٌ غامض:

_ ألو.. هل أستطيع التحدّث مع عيسى..

هذه أوّل مرّة منذ أنْ طُبعتِ الرواية يخاطبني شخصٌ غريب بـ عيسى دون أستاذ قبلها!..

_ الأستاذ عيسى معك.. لكنّني أعتذر عن أيّ لقاءٍ صحفي أو إذاعي أو تلفزيوني و..

_ من الضروري أن نقابل بعضنا عزيزي عيسى..

هذه الثقة المزعجة في صوته طردتْ عن لساني نكهة المكسرات، قلتُ له بصوتٍ جاف:

_ ولماذا تريد أنْ تقابلني؟..

_ أنا.. أنا باتريك جيمبسون، مؤلّف الرواية التي ترجمتها.. وأريد الآن حصتي من الأرباح..

شهقتُ غير مصدقٍ هذه الكلمات التي ثقبتْ أذني، لأركل عن غير قصد الطاولة، صرختُ به:

_ أنت كاذب.. أنت غير حقيقي، أنا اخترعتك، إنها روايتي يا وغد..

_ أنا قادمٌ إليك أيُّها الحقير.. إن كنت رجلاً انتظرني، أريد حصتي من الأرباح غصباً عنك.. أنت مجرّد مترجم..”[31].

2_ “رشفتُ من النبيذ مع نفسٍ عميقٍ من هذا السيجار، همستُ بزهوٍ لنفسي منتشياً وأنا أغوص في هذه الأريكة:

_ يجب أنْ أترجم رواية ثانيَة لـ عيسى زكريا..

رنّ جرس الهاتف، اللعنة على الصحفيين المشاغبين.. أنا الآن بحالة نشوة روحيّة يا أغبياء، أخذتُ السماعة إلى أذني:

_ مرحبا.. هل الأخ باتريك موجود..

_ نعم.. باتريك معك..

_ كيفك أبا البواتريك.. أنا عيسى زكريا مؤلّف الرواية التي ترجمتها، أريد حصتي من الأرباح حالاً، وأيضاً أمي تسلم عليك يا أحلى أزعر..

قفزتُ بخوف هزّ كل كياتي عن الأريكة، لتسقط زجاجة النبيذ والكأس والسيجار على الأرض.

_ لا يوجد أحد اسمه عيسى زكريا.. إنّه كذبة من أكاذيبي أيُّها المحتال..

_ أنت الكاذب.. انتظرني، أنا قادمٌ إليك يا (باتريكو) الحقير..

وأقفل الخط، خوفٌ عظيمٌ صرخ عالياً داخل قلبي: عيسى قادم”[32].

يفتَحُ هذان الشّاهدان أكثر من مُستوىً للتَّحليل، وبادئ ذي بدء، يبدو جليّاً مدى انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) لصالح أنساق مُطابَقات العولمة وتمركُزاتِها الظّاهِرة، حيث الحُضور الطّاغي لاختراق الهُوِيّات المحلِّيّة سواء أكان ذلكَ على المُستوى المَعنويّ بادّعاء مُؤلِّفيْن وهميين أحدُهُما غربيّ، والآخَر شرقيّ بحقِّهِما في حقوق الملكيّة للرواية، أم في سُهولة انتقال كُلّ منهُما: الأوَّل إلى دمشق، والثّاني إلى لندن، وهذا الانتقال والاختراق السَّهل من دون رقيب أو ضابط (نسبيّاً) هو من السِّمات الواضحة لعصر العولمة، فضلاً عن الدّافِع (المادّيّ) الأوَّليّ لظُهور هاتين الشَّخصيتين بوصفِهِ نسَقاً عولميّاً حاضِراً.

أدّى الاتّصالان الهاتفيان لهاتين الشَّخصيتين الوهميتين بـِ (الراوي/ المُؤلِّف) إلى دخولِهِ في حالة هلع ورعب وهروب مُستمر بدأ في دمشق، وتكرَّر في لندن، ولا سيما في ظلّ مُلاحقة المُؤلِّفين الوهميين له في أحياء المدينتين وشوارعهِما:

1_ “وأغلق الخط، كلّ جسدي كان يرتجف، اللعنة على هذا المساء، أَيعقل أن يكون هذا الـ باتريك حقيقياً؟!.. مستحيل، إنّه كذبة.. ثمّة شيطانٌ صرخ داخل رأسي: (إنّه قادمٌ إليكَ مع كلّ الجيش الجمهوري الإيرلندي)، انتبهتُ للزجاج المكسور على الأرض للصحن والكأس والغليون، خيّل لي أنَّ حياتي هي التي سقطتْ عن الطاولة لتتحطم فوق البلاط، نويتُ أن أشعل سيجارةً على نية الهدوء، لكن سيجارتي وقلبي سقطا معاً مني عندما بدأتْ خبطاتٌ لئيمة تنهمر على باب بيتنا، مع صراخٍ حاد.

أسرعتُ إلى النافذة لأختلس النظر منها إلى الزقاق فلمحته بصعوبة في عتمة الليل يركل الباب بعنف ويزعق:

_ اخرج أيُّها الغبي.. أين أنت يا محتال؟.. أعطني حصتي من الأرباح، أنا صاحب هذه الرواية وأنت مجرّد مترجم..

ثمّة أضواءٌ بدأتْ تُنار من داخل عدة نوافذ في الزقاق، هنالك فضيحة كبيرة تقترب وهي تنوي أن تفترس بيتنا الشاحب أمام كلِّ بيوت زقاقنا، صعدتُ إلى السطح وأنا أتعثر برجلي، قفزتُ عبر أسطح بيوت الجيران حتى زقاقٍ بعيد، لأركض فيه مبتعداً عن الحارة وعن هذا الكابوس، من حسن حظّي أنّ أمي في زيارة لبيت خالتي.

التجأتُ إلى بيت صديقي أدهم، قال لي مستغرباً بعد أن فتح بابه:

_ أهمُّ مترجم في البلد يزور أصدقاءه ليلاً وهو حافٍ!.. غريب..”[33].

2_ “أخبرتُها أنّني سأسافر لأسابيع قليلة، ووعدتها أن أرسل لها كل شهر ما تحتاجه من أموال، ثمَّ أغلقتُ الهاتف قبل أن تناقشني بأيّ شيء.

لم أخرج من بيت أدهم خلال هذه الأسابيع إلا بضع مرّات، خلالها أرهق روحي باتريك بمطاردته لي من شارعٍ إلى آخر من زقاقٍ إلى ثانٍ في دمشق، يا إلهي، من أين طلع لي هذا الكائن، صار كشبحٍ بين الشوارع يُعِدُّ لي الكمائن ويلاحقني.. هذا الشبح حوَّلَ حياتي لكابوسٍ لا يحتمل”[34][35].

3_ “ارتديتُ ثيابي على عجل وخرجتُ دون ربطة عنق وأَنا أتعثر برجليّ لأركب سيارتي.

في مرآتها الأماميّة العلويّة لمحتُ شاباً قادماً من بعيد على دراجة هوائيّة، وثمّة عصا غليظة يلوح بها مهدداً بصراخٍ عالٍ نصفه شتائم لا ثياب فيها، وقبل أنْ يصل إلى سيارتي شغلتها وهربتُ مبتعداً عنْه.

مضتْ ليالٍ موحشة وأنا أعيش هارباً متنقلاً بين فنادق لندن، وكلّ غرفة أحجزها بمجرد أنْ أدخلها يأتيني اتصال من عيسى فيه ألف شتيمة بذيئة وتهديد بالقتل، وكيفما قدتُ سيارتي يطلع لي من شارعٍ فرعي على دراجته التافهة وهو يلوح لي بعصاه.. ليالٍ كلها كوابيس، بلا نومٍ أقود سيارتي ويقودنِي الخوف.. كوابيس مرعبة فيها ألف عيسى وعيسى يهوون على رأسي بعصيّهم الغليظة، لأنزف أنهاراً من الخوف.

في هذه الليالي التعيسة كبرتُ ألف عام، كنت أموتُ ببطءٍ.. ما عادتْ روحي قادرة على تحمل هذه الكوابيس التي تكفي كلّ البشر من دمشق حتى لندن.

يا إلهي ساعدني.. أتوسل لك أنقذني من هذه الورطة الفظيعة التي تورطتُ بها، أنا ابنك البار باتريك الوفي، لأجل كلّ غيومك وسمائك ارحمني من هذا العذاب، وخلصني من هذه الفضيحة السوداء التي تهمّ بافتراسي”[36].

إنَّ منأحد أهمّ دوافِع الخوف التي تحكَّمَت بـِ (الراوي/ المُؤلِّف) لحظة ظُهور هاتين الشَّخصيتين الوهميتين في دمشق، ثُمَّ في لندن، هو: (الغرابة)، فَـ “الغرابة إحساس حياتي، وإحساس جمالي أيضاً، خبرة حياتيّة وخبرة إستطيقيّة، تتعلَّق بالانفعال المُترتِّب على وجود شيء غريب، مُخيف أيضاً غير مألوف، وقد تثير الرّعدة والرُّعب، ويُمكن أن يوجد (أي هذا الانفعال النّاجم عن الغرابة) في الأدب، وفي الفن، وفي غيرهما أيضاً”[37].

وهكذا، يُوظِّفُ (القاصّ) الغرابة هُنا بوصفِها تقنيّة قصِّيّة، تؤسِّسُ العناصر الدِّراميّة على (وَحدة الأثر)، وتُمهِّدُ لدلالات (لحظة التَّنوير)، فالتَّأويل (الأنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح هُنا _ بوصفِهِ مَنهج دراسة وتحليل _ يلتقِطُ (شيءَ النَّصّ غير المحدود)، أو ما يُدعَى (الزِّيادة في الوجود)، على نحْوٍ عميق انطلاقاً من بُؤرة (الخوف/ الغرابة)، ذلكَ أنَّ ميدان الاهتمام في عالَم هذِهِ القصّة يكشف بعد ظُهور شخصيتَي المُؤلِّفيْن الوهميين مدى التّيه والضَّياع الذي سقط فيه (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية: المُترجِم المُزيَّف)، حيثُ خسِرَ هُوِيَّتَهُ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) مرتين بوصفِها هُوِيّة محلِّيّة (مرَّةً في دمشق، ومرَّةً في لندن)، لصالح هُويّة عولميّة احتفَتْ بِـ (المُؤلِّفين الوهميين اللَّذين نسَبَ إليهِما المُؤلِّف طوعاً في الأساس حقوق الملكيّة التَّأليفيّة)، لتنكشِفَ حقيقة ما يُسمَّى بِـ (الإنسان الكونيّ) في عصر العولمة، وليتعرّى هذا الإنسان من هُوِيّاتِهِ المحلِّيّة ثقافيّاً وحضاريّاً، لصالح انزياح أساليب وجودِهِ نحْوَ نسَق ظاهريّ تمركُزيّ يُطابِق الهُوِيّة العولميّة المُحتفية بسُلطة السّوق وآليّات التَّسليع والاستهلاك الرَّقميّ والنَّفعيّ الطّارد للفعل الثَّقافيّ المُؤسِّس للحضارة من جانبٍ أوَّل، والمُحاصِر للإنسان بوجهٍ عام، وللمُثقَّف بوجهٍ خاصّ من جانبٍ ثانٍ.

لعلَّ من أبرز ما تكشفُ عنه (غرابة) ظُهور (المؤلِّفين المُزيفين)، ومُلاحقتِهِما للراوي/ المُؤلِّف (المُترجِم المُزيَّف من جهتِهِ أيضاً)، مدى وَهْم ادّعاء العولمة أنَّها تُقدِّم للبشريّة هُوِيّة تعدُّديّة.

نعم، لقد تطابَقت الهُويَّتان في هذِهِ القصّة لصالِح هُوِيّة العولمة التي ابتلعتهُما، فافتقَدَتالذّات (الثَّقافيّة) خُصوصيتِها، ليسَ بفقدانِها فقط نسبة الرواية إليها؛ إنَّما أيضاً بفقدانِها نسبِها الهُوِيّاتيّ الإنسانيّ الأصيل والفاعل حضاريّاً، فطريقة تعامُل الأوساط الثَّقافيّة ومُؤسَّساتِها مع الثَّقافة تكاد تكون مُتطابِقة في كُلّ مكان (مع الاحتفاظ بنسبيّة موضوعيّة لا تخفى علينا)، وطريقة انتشار المُنتَج الثَّقافيّ وتلقِّيه كأنَّهُ سلعة للاستهلاك السَّريع تكاد تكون مُتطابِقة في جميع أنحاء العالم، وسُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة، وتفتُّت بنى المَعرفة الرّصينة والمُتماسِكة تتطابَقُ أيضاً على نحْوٍ واسِع في عصر العولمة، فضلاً عن أنَّ انتهاك سُلطات الدُّول المحلِّيّة وهُوِيّاتِها قد بات أمراً شائِعاً إلى حدّ ما أمام تغوُّل سُلطة العولمة وهُوِيَّتِها، وإلا كيفَ نفسِّر أنْ يهرُبَ كاتبٌ ما كالمسعور في (بلدَيْه اللذين ينتمي إليهِما) بفعل تهديد شخص وهميّ غريب ومُنتمٍ إلى بلد بعيد، ولذلكَ قالَ عيسى زكريا لباتريك جيمبسون “لا يوجد لديك شخصيّة ثالثة لتهرب إليها..”، فأساليب وجود العولمة قد ابتلعت التَّعدُّديّة ابتلاعاً غير مَسبوق، على عكس ما تدَّعي شعاراتُها البرّاقة وسياسات الهُوِيّة المُتَّبعة فيها، وذلكَ لصالح تثبيت سُلطة السّوق وديناميات ثقافة التَّسليع والتَّرويج والاستهلاك.

 لكنَّ هذا النَّسَق التَّمركُزيّ الظّاهِر تطابُقيّاً في الشّاهِد الآتي (الذي اقتطعْتُ منه العبارة السّابقة) يُمهِّد إلى حدّ بعيد للبَحث التَّأويليّ (جدَليّاً) عن دلالات تلكَ (الشَّخصيّة الثّالثة المفقودة)، ورمزيتِها، بوصفِ هذِهِ الرَّمزيّة قد تكون مدخلاً مهمّأً لتحليل أساليب وجود النَّسَق المُضمَر (الاختلافيّ) الذي سأشرَحُ مَعالِمَهُ في المحور الآتي، بعد أنْ نتمعَّن في مَعاني المَقبوس الأخير هُنا، وبعدَ أنْ نطيل التَّأمُّلَ قليلاً في الأسباب التي تدفَعُ (الراوي/ المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف) للقاء (المُؤلِّف المُزيَّف): “هذه الليلة شربتُ كثيراً بينما تعاسة مؤلمة تشربني وكأنّني نبيذها المفضل، كنت مخموراً للغاية عندما همس لي النادل بأن شخصاً اسمه عيسى زكريا يريدني على الهاتف لأمرٍ ضروري. لم أهرب هذه المرّة شيءٌ ما داخلي استسلم نهائياً.

ساعدني النادل اللطيف لأصل إلى سماعة الهاتف وأنا أترنح، لو أنّني ظللْت أغسل الأطباق. قال لي عيسى بثقة عبر سماعة الهاتف:

_ لا يوجد لديك شخصيّة ثالثة لتهرب إليها.. لا مفر أمامك يا باتريك، أنصحك أنْ تقابلني لنتفاوض ونحصل معاً على تسويَةٍ عادلة.. ما رأيكَ؟..

تعبي وتعاستي وحزني قالوا له معاً بصوت واحد:

_ موافق.. أين ومتى تريدنا أنْ نلتقي يا عيسى؟..

_ بعد ثلاث ساعات.. عند منتصف الليل، تحت جسر لندن.. لا تجلب سلاحاً.. حتى ولو جلبت مسدساً عصاي ستقتلك..

وقهقه بوحشية”[38].

رابعاً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ الحُرِّيّة (يوتوبيا الرَّفض)، والعُبوديّة (سُلطة القهر الاستلابيّ والقَبول الاختياريّ)

منذ بداية القصّة يظهر واضحاً مدى خضوع الراوي/ المُؤلِّف لسلطة القهر الاستلابيّ العولميّة، ومدى عبوديتِهِ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) الاختياريّة لمنظومة قيَم السّوق والتَّسليع والاستهلاك، وبغضّ النَّظَر عن إيجاد مُسوِّغات معيشيّة لهذا الأمر، غيرَ أنَّهُ ثيمة جلية في كيفيات انزياح أساليب وجود (المُؤلِّف) الذي يرمز لنُخبة ثقافيّة فقدَتْ حُرِّيَّتَها، وأصالة دورها في عصر العولمة.

لنقف عند الشّاهدين الآتيين بتمعُّن، ونتأمَّل هذا الطُّغيان لسطوة المال والمظاهر المادِّيّة والتي يبدو أنَّ بعضها قد انتقلَ في هذِهِ الحقبة العولميّة من خانة (الكماليّات)، إلى خانة (الأساسيّات):

1_ “هذا المال الوفير جعلني سعيداً للغاية، اشتريتُ لأمي كلّ ما تحتاجه وكل ما حلمتْ به، واشتريتُ لنفسي ثياباً جديدةً وأحذيةً وقبعاتٍ وغليوناً وزينةً حلوةً لدراجتي الهوائيّة، وصوراً جميلة لعارضات أزياء ونجمات هوليود ثمَّ علقتها على جدران غرفتي”[39].

2_ “تركتُ العمل في المطعم لأسكن في شقة جميلة استأجرتها في ضاحية فخمة من الضواحي الراقيَة شمال لندن.. شرفتها تطلُ على ضبابٍ ساحر، الضباب روحي التي أعشقها، ثمَّ اشتريتُ سيارةً حديثة، كنتُ أتمنى لو أنّ لديّ مدير أعمال ليرد هو على اتصال مارغريت، اضطررت لأنْ أرد أَنا على مكالمتها.. طلبتْ منّي بإلحاح أنْ نرجع لبعضنا، أكيد أنَّ أخبار الشهرة لحبيبها السابق قد وصلتها، اعتذرتُ منها ورفضتُ حتى طلبها أنْ أزورها، وقبل أن أنهي المكالمة وعدتها أنّني سأزورها مستقبلاً لأعزيها بموت والدها اللورد تشارلز كما أتمنى له”[40].

لنتذكَّر أنَّ عقدتَي (الدَّرّاجة والسَّيّارة)، قد بدأتا مع الراوي/ المُؤلِّف منذ وجوده في دمشق، وحُضور كُلّ منهُما لهُ اختلافُهُ شكلاً، ووظيفتُهُ الرَّمزيّة التَّطابُقيّة مضموناً، كما سأوضِح في السُّطور الآتية: ” _ أعتذر على التأخر.. ظللتُ طويلاً حتى عثرثُ على مكان أضع فيه سيارتي، أفٍ من الشوارع الضيقة لسوق هذه المدينة”[41].

إذا كانت الدَّرّاجة _ كما ذكرْتُ من قبل _ تُشير إلى نمط عمَليّ لا ينتمي إلى الرّفاهيّة في دمشق، فقد تحوَّلت عبر مُلاحقة (المُؤلِّف المُزيَّف: عيسى زكريّا) في لندن إلى كابوس يكشف هلع الراوي/ المُؤلِّف من العودة إلى ما قبل مكاسبِهِ الدِّمشقيّة واللَّندنيّة، وهذا جانب من الوقوع تحت سطوة سُلطة القهر الاستلابيّ على حساب كينونة الحرِّيّة والماهيّة الأصيلة للإنسان، ولذلكَ تُطابِق رمزيّة السَّيّارة في لندن رمزيّة الدَّرّاجة؛ أي تُمثِّل الوجه الثّاني لعملة القهر الستلابيّ والقَبول الاختياريّ بالعبوديّة العولميّة للمُؤلِّف الذي كانَ من المُفترَض أنْ يحملَ قيَماً ثقافيّة وحضاريّة مُغايِرة، ضمن مشروع ثقافيّ جادّ.

لكنَّ، تحوُّلاً مهمّاً حدَثَ في علاقة الراوي/ المُؤلِّف مع (الدَّرّاجة والسَّيّارة) عندما قرَّر الذّهاب لمُقابلة عيسى زكريّا تحت جسر لندن، فتخلّى عن الوسيلتين، لصالح المضيّ إلى هُناك مشياً على قدميه: “النادل اللطيف ذاته ساعدني لأصل إلى غرفتي في الطابق الثاني، كان يتأمل ملامح وجهي، لم يقلْ شيئاً، كان في عينيه رثاءٌ صامت لروحي.

شعرتُ وكأنّه يودعني، كلّ الأشياء كانت تدور في رأسي كعواصف عاتية، وروحي تتأرجح كبندول ساعةٍ قديمة بين آلامٍ رهيبة.

رميتُ بجسدي على السرير، لم أعرف المدة التي نمتها.. شعوري بالزمن تلاشى كلياً. لم يكن نوماً كاملاً، كنت أغرق خلاله في جحيمٍ من العذابات، ثمّة مخالبُ لكائن غريب افترستْ فجأةً روحي.

استيقظتُ فاختفتْ في اللحظة ذاتها كلُّ آلامي، تأملتُ الغرفة حولي.. إنّها صامتة جداً، حتى أثاثها بات بغير ألوان. ثمّة سكونٌ رهيب يلف المكان.

انتبهتُ لعقارب الساعة، إنّها تشير لمنتصف الليل، تذكرتُ الموعد.. خرجتُ مسرعاً وعندما أعطيتُ مفتاح غرفتي لموظف الاستقبال لم ينتبه لي، يبدو أنّه مخمور.

حاولتُ أن أقود سيارتي، ثمّة عطلٌ غريب أصابها.. هي الأخرى أظن أنّها مخمورة، لوّحتُ بساعدي لسائقي سيارات الأجرة، ولا واحد منهم توقف.. أكيد أنّهم جميعاً مخمورون، بدا لي الكون منتصف هذه الليلة كلّه مخموراً.

لا حلَّ أمامي سوى أنْ أمشي حتى جسر لندن، رغم ازدحام الشوارع بالناس والسيارات لكنّني لم أكن أسمع أيّ شيء. مشيتُ بهدوء.. بلا خوفٍ، دون سيارة، أو حتى دراجة هوائيّة”[42].

هل هُناك دلالة ما قادمة في حبكة القصّة؟ هل اقتربت (ذروة التَّنوير)، وبدأت الألغاز تتفكَّك؟

وبمعنىً أكثر مُباشَرةً: هل يرتبط زوال (خوف) الراوي/ المُؤلِّف بزوال وجود (الدَّرّاجة والسَّيّارة) في آنٍ معاً؟ ولماذا؟

يصل الراوي (مُؤلِّف الرواية الحقيقيّ، والمُترجم المُزيَّف) إلى المكان المُتَّفق عليه، فما الذي يراه: “وصلتُ الجسر متأخراً عن موعدنا بنصف ساعة، نزلتُ أسفله بهدوئي الذي استغربته كثيراً.

تحت الجسر ورغم الضباب لمحتُ عن كثب شبحين بجانب ضفة النهر، انحنيتُ لأختبئ بين الشجيرات وأنا أراقبهما وأقترب منهما خلسة، وكان كلّ شيء هنا أيضاً بالأبيض والأسود فقط.

شهقتُ شهقة عظيمة، أمامي كان عيسى وباتريك واقفين وجهاً لوجه.

لم أصدق في الثانيَة الأولى، أمعنتُ نظري فيهما.. إنهما بكل ملامحي عيسى وباتريك، أَنا أعرفهما جيداً.. أكثر من أيّ كائنٍ آخر، لطالما تأملتهما في المرايا الدمشقيّة واللندنيّة.

يا إلهي كم يشبهان بعضهما، يصعب للوهلَة الأولى التمييز بينهما”[43].

ما من شكّ أنَّها (لحظة التَّنوير الكُبرى) في القصّة، وما من شكّ أنَّ حجم المُفاجأة الغرائبيّة أكبَر من التَّصوُّر أو التَّوقُّع، حيثُ تتأسَّسُ (الغرابةُ) هُنا بوصفِها إحساساً بالمُخيف تبعاً لاتّجاه يُعرَفُ بِـ: “غرابة غير المألوف: كما في حالات التَّحوُّل والازدواج والمسخ والنَّسخ (وكما في تحوُّل إنسان إلى حشرة في قصة كافكا”[44].

أبدأ بتحليلُ (ذروة التَّنوير الغرائبيّة) انطلاقاً من القول إنَّ (الراوي/ مُؤلِّف الرّواية) قد تخلّى عن هُوِيَّتِهِ الأصليّة مرَّةً في دمشق، ومرَّةً في لندن، فخسِرَ دورَهُ (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) التَّنويريّ بخسارتِهِ لذاتِهِ أمام انزياح أساليب الوجود لصالح أنساق المُطابَقات التَّمركزيّة على تقنيّات العولمة، وسلطة القهر الاستلابيّ التي تُمارِسُها تلكَ الأنساق، وتُخضِع لها الذّات الفرديّة والجمعيّة طوعاً في حالات، وقسراً في حالات أُخرى.

والآن، بلا درّاجة، ولا سيّارة، وفي مُناخٍ ضبابيٍّ، وتحت سطوة اللَّونين الحدِّيين: (الأبيض والأسود)، لم يعُد هُناك إمكانيّة للهروب من مُواجَهة الدَّلالات الجمّة والفجّة في المَرايا الدِّمشقيّة واللّندنيّة التي تشظَّت بلا رحمة، بما يُشبه (لحظة التَّعرُّف) في لُغة المسرح، فذاتُ الراوي/ الكاتب: (المُترجم المُزيَّف) تتمزَّقُ وتنشطرُ، لينبثقَ عنها شبحان كُنّا نظنُّ أنَّهُما وهميان، لكنْ يبدو أنَّ حقيقة وجودِهِما أكثر رسوخاً من حقيقة وجود الراوي/ المُؤلِّف نفسه!!

نعم، سقطَتْ ورقة التّوت التي كانت تسترُ عورة العولمة، وبدا (الشرق والغرب) وجهان لعملة واحدة يتنقَّل بينهُما اللَّونان الأسود والأبيض في حركيّةٍ تلغي تعدُّديّة الهُوِيّة: “يا إلهي كم يشبهان بعضهما، يصعب للوهلَة الأولى التمييز بينهما”، وهذا الأمرُ يُحيل العلاقة القديمة بينهُما _ في عصر العولمة _ إلى مرجعيّاتِها التَّناحُريّة ذات التّاريخ الطَّويل، والذّاكرة البائسة.

بظهور المُؤلِّفين المُزيَّفين (عيسى زكريّا وباتريك جيمبسون)، يسقطُ وهْم المُثاقفة، ويتبدَّدُ شعار (حوار الحضارات)، ويطفو المَسكوت عنه في ظلّ سُلطة القهر الاستلابيّ، وهو: حُلْمُ الحُرِّيّة ويوتوبيا الرَّفض، ليكونَ صراعُ (عيسى وباتريك) هو صراع (الشرق والغرب) المُستمرّ حتّى في ظلّ العولمة: “فجأةً علا صوتهما وأطرافهما تتشنج وثمّة غضب مكبوت يستبيح ملامحهما، على حين غرة بدآ بتوجيه اللكمات القويّة والركلات القاسيَة لبعضهما، كطفلين بتربيَةٍ سيئة انخرطا في مشاجرةٍ رهيبة لا لغة فيها سوى لغة الشتائم، بعد دقائق قليلة كانت ملامح وجهيهما قد ضاعتْ تحت دماءٍ غزيرة.

في زحمة صراعهما الوحشي والدامي صرخ عيسى:

_ هذه الرواية لي.. أنا من أبدعها، أنت مجرد مترجم أيُّها الحقير..

رماه باتريك أرضاً وهو يبصق عليه، ثمَّ ردَّ بغضبٍ:

_ إنّها روايتي.. واحدٌ حقيرٌ مثلك هو المترجم أيُّها الوغد..

كان باتريك أقوى قليلاً من عيسى، انتبهتُ لهذا.. لكن عيسى أيضاً لم يكن قليلاً.. يا إلهي.. سيقتلان بعضهما، يجب أنْ أساعدهما وأنْهي هذه المشاجرة الداميَة، حاولتُ لكنّني فشلتُ وكأنّني تمثال.

سقطا فوق بعضهما ليتدحرجا مع دمائهما جانب ضفة النهر، ازداد صراعهما وحشيةً.. لم ينتبها لي أبداً وأنا أراقبهما عن قرب بحياديّة وببلاهة”[45].

تظهَر الغرابة في أقصى حُدودِها بمُحاوَلة (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ: المُترجم المُزيَّف) أنْ يفكَّ اشتباكهُما، لكنَّهُ يُخفق، وهذا أمر طبيعيّ، لأنَّهُ يُمثِّلُ منذ زمنٍ طويل الهُوِيّة الوهميّة التّائِهة، وهُما يُمثِّلان بالفعل حقيقة سُلطة أساليب وجود العولمة المُتجذِّرة في ماضٍ تاريخيّ مُستمرّ ومديد ومرير عبرَ علاقة الشَّرق والغرب.

إنَّ الراوي/ المُؤلِّف هو النَّموذج (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) المُستبعَد والمُستعبَد والمُهمَّش.

إنَّهُ المُثقَّف الذي فقد ذاتَهُ وكينونتَهُ وماهيتَهُ الحُرَّة (ومشروعَهُ الثَّقافيّ والحضاريّ الأصيل) أمام سُلطة القهر الاستلابيّ للعولمة، وكيفيّات الصِّراع (الدَّمويّ في حالات كثيرة) المُنطوية عليها.

في حين أنَّ (المُؤلِّفين الوهميين) هُما المُستوى الوقائعيّ الحقيقيّ لانزياح أساليب الوجود في عصر العولمة، بوصفِها مُطابَقات تمركُزيّة ذات حُضور طاغٍ لسُلطة السّوق والاستهلاك السَّريع وسُيولة انتقال المَعلومات، وكُلّ التِّقنيّات التي استمرَّت وفيَّةً لتاريخ طويل من تفتيت العلاقة (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) بينَ الشَّرق والغرب، وهذا الأمر ينبسط في الشّاهِد السّابق بوضوح، عندما يخرج الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ من دائرة الصِّراع على ملكيّة الرواية، بينما يكونُ محور الصِّراع بين (عيسى وباتريك) هو حول هذِهِ الملكيّة.

لكنْ في الوقت نفسِهِ، تبدو مسألة عزل الراوي/ المُؤلِّف نفسهِ عن الصِّراع، ومحاوَلتِهِ أنْ يفكَّ الاشتباك الدَّمويّ بين المُتصارعين، كأنَّها تنطوي نوعاً ما على ثغرة تأويليّة في هذا المشهد، ورُبَّما تقود رويداً رويداً إلى قصديّة قراءة تقلِّب جدَليّات الأنساق لتفحُّص مدى وجود نسَقٍ مُضمَرٍ (اختلافيّاً) منذ لحظة التَّنوير التي انفتَحتْ في عالَم هذِهِ القصّة.

لقد كانَ الرّاوي/ المُؤلِّف يُظهِرُ كرهَهُ للماء في مَواضِع كثيرة من القصّة، ويبدو أنَّهُ قد حان الموعد لتأويل تلكَ الكراهيّة، وكشف كنهها هُنا.

لنقرأ بتمعُّن الشَّواهد الآتية:

1_ “أيضاً لم ينتبها للماء وهو يجرهما بهدوءٍ حتى منتصف النهر، وكأنهما قاربان اصطدما ببعضهما بسبب الضباب.

ركضتُ بلهفة إلى الضفة وأنَا أصرخ بهما، حاولتُ أنْ أخلصهما من بعضهما وأنهي صراعهما القاسي، لكنني للأسف لا أجيد السباحة.. أخاف من الماء، لديّ عقد نفسيّة قديمة منه عمرها قرون، كلُّ الأشياء في هذا الكون تحبّني وأحبّها إلا الماء.. أنا والماء لا نحبّ بعضنا”[46].

2_ “أخجل دائماً من أمي، لو أنّني أستطيع مساعدتها في تحسين أوضاع بيتنا وحياتنا قليلاً، علّها تفرح وترتاح هذه العجوز، وتنسى لأسبوعٍ واحدٍ أن تجرّني من أذني إلى الحمام.. كم أكره الماء، لماذا؟.. لا أعرف، أكرهه فقط”[47].

3_ “تذكرت.. لماذا لا أكتب رواية؟ ثمّة فكرة جميلة تجول في عقلي منذ زمن وأعتقد أنها قد نضجتْ، أشعر بأنها سوف تكون رواية مميزة، خصوصاً أنّه لا يوجد فيها ماء”[48].

من المُفترَض أنْ تكون رمزيّة (الماء) في الحالة الإنسانيّة الحضاريّة تنطوي على عوامل الخصب والإحياء والبناء الخلّاق، فهوَ مصدر الحياة دائِماً، لكنَّهُ انزاح في هذِهِ القصّة ليُطابِق عبرَ النَّسَق الظّاهِر سُلطة القهر الاستلابيّ للعولمة، فبدا عامل جفافٍ ثقافيّ، وهدم حضاريّ، فبدلاً من أن يغسل ويُنظِّفَ العالم في عصر العولمة، تحوَّلَ إلى الحيِّز الزَّمكانيّ الذي يحتضِن قذارة صراع (الشَّرق والغرب)، ويكشفُ مدى خذلان شعارات العولمة للبشر بتمركُزها على أوهام المُثاقفة وحوار الحضارات وغير ذلكَ من المقولات البرّاقة التي تفتقد لمضمون وقائعيّ جادّ، ويبدو أنَّ خروج الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية من لُعبة الصِّراع، ومُحاولتِهِ المُخفقة في إنقاذ الطرفين المُتصارعيْن، تستحضِرُ فيما تستحضِرُ، الدَّلالة الإيجابيّة أوَّلاً للماء، وتستدعي (جدَليّاً) النَّسَقَ المُضمَر والغائبَ بما هو (نسَقُ الاختلاف الثَّقافيّ الحضاريّ)، ونسَقُ احتفاء عالَم القصة في ميادين اهتمامِها بشيء النَّصّ غير المحدود، والذي يرمز إلى مُقاوَمة المُستوى الوقائعيّ الاستعباديّ للعولمة عبرَ يوتوبيا الرَّفض وحُلْم الحُرِّيّة.

وتأسيساً على هذِهِ الرُّؤية، يستمرّ مشهد الغرق في النَّهر ببثّ الرَّمزيّة الجدَليّة للنَّسَق المُضمَر، فالمُتصارعيْن المُزيَّفيْن بما يُشيران إليه من استمرار صراع الشَّرق والغرب في عصر العولمة، لم ينسيا صراعهُما الدّامي إلّا عندما انتبها أنَّهُما يغرقان معاً في منتصف النَّهر، فهل نصحو ونحتفي بأنساق التَّعدُّديّة والحُرِّيّة والاختلاف الوجوديّ قبلَ أنْ نغرق كُلَّنا ونموت معاً؟ ليس بوصفِنا شرقاً وغرباً؛ إنَّما بوصفنا بشراً نعيشُ في عصر العولمة على كوكبٍ جامحٍ مجنونٍ فقدَ بوصلتَهُ (الثَّقافيّة والحضاريّة) إلى حدٍّ بعيد:

1_ “عندما انتبها إلى أنهما صارا في منتصف النهر نسيا صراعهما الدامي، وصارا يخبطان الماء ويصرخان كطفلين تائهين.

ماء النهر غسل دماءهما عن وجهيهما، وبدأ يبتلعهما كوحشٍ جائعٍ غير مكترثٍ لصراخهما.. جدتي قالتْ لي ذات حكاية: (ليس للأنهار لغة.. إنّها لا تجيد اللغات التي اخترعها البشر)، تذكرتُ حكاية جدتي لكن لم أتذكر أين حكتها لي.. في دمشق أمْ في لندن؟”[49].

2_ “تمنيتُ بحسرة أنْ أنقذهما، على الأقل أنْ أنقذ أحدهما.. للأسف أنا لا أجيد السباحة في الماء، يبدو أنّني منذ منتصف هذه الليلة لن أجيد أيّ شيء سوى المراقبة.

بكيتُ بمرارة وأنا أسقط لأجثو جانب الضفة كراهبٍ هزمه الإيمان بالآخرين، كان صراعهما مع الماء فظيعاً.. وكأن صراعهما مع الماء، هو صراع كل الكون مع هذا النهر خلال الضباب.

هذا النهر سرعان ما هزمهما.

لوحتُ لهما بين دمعتين متوحشتين وأنا أستسلم بهدوءٍ لمشيئة موتهما:

ـ وداعاً عيسى.. وداعاً باتريك.. كنتُ سعيداً يوم ارتديتكَ أنتَ، وكنتُ سعيداً أيضاً يوم ارتديتكَ أنتَ أيضاً..

ودعتهما وهما يختفيان تحت الماء، ودعتُ خلال غرقهما كلّ شيءٍ فيّ، كانت هذه أوّل مرّة أبكي فيها وأيضاً المرّة الأخيرة، غرقا معاً لتستقر جثتاهما بعد أنْ تشابكتْ أطرافهما في عناق حزين حتى قاع نهر لندن، معدةُ النهر متخمة الآن بجثتين أنيقتين”[50].

وهكذا، مات (المُؤلفان المُزيَّفان)، ليحملا رمزيّاً دلالة (البقاء على قيْد الحياة الوقائعيّة) التي تبسط صراع الحضارات وتهافت الثَّقافة في عصر العولمة، في حين استمرَّ (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ) حيّاً، ليحملَ رمزيّاً دلالة (الموت الوقائعيّ): “ومرَّ عليَّ زمن طويل لم يكن لديّ خلاله أيّ وسيلة لقياسه، وأنا أتجول في فضاءٍ كوني من الصمت والسكون، كروح تائهة بلا بشريٍّ يستر وحشتها، روحٌ لا مرئية تعبر المدن الأوربيّة مع نسائم الهواء دونما.

أحياناً كنت أشتم عيسى، وأحياناً أخرى كنت أشتم باتريك، وأتسلّى بكآبةٍ دائمة أثناء لا زمني هذا، في محطات القطارات ومكاتب الشركات، في المقاهي والحانات والمطاعم، في المدارس والبيوت.. أتسلى بلا مبالاةٍ بأنْ أقترب من المشاجب وأتأمل _ بالأبيض والأسود فقط _ ما قد علّق البشر عليها من ثيابهم، لألهو وأنا أعبثُ بها متحسراً، خلال ضياعي اللانهائي هذا.. متحاشياً كأي لا شيء، الاقتراب من الماء”[51].

ها هو ذا (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقي للرواية) يحيا كارهاً كعادتِهِ لِـ (الماء: النَّظافة _ الخصب _ الإحياء _ المشروع الثَّقافيّ الحضاريّ)، لأنَّهُ يُذكِّرُهُ بهُوِيَّتِهِ الفرديّة والجمعيّة المُستلَبة، وها هو ذا تائهٌ كروح لا مرئيّة في أوربا (كما تُشير عتبة عنوان القصّة)، تلفُّهُ الكآبة والغربة والاغتراب، ولا ينتهي ضياعُهُ المُنبسِط بينَ الأبيض والأسود (لوني الصِّراع الحدِّيّ والكراهيّة المُستمرّة بين الشَّرق والغرب، وفي عُموم أنحاء الأرض)، مُنغمِساً في التَّسلية واللَّهو والعبَث واللّاشيء، ليرمُزَ ذلكَ إلى ذروة الجدَل بينَ نسَقَي مُطابَقات العولَمة واختلافاتِها، حيثُ ما من خروج قريب للبشريّة من نفقِها المُظلِم هذا، ولكنْ في الوقت نفسِهِ، ما من استسلامٍ نهائيٍّ حاسِم ما دامَ النَّسَق المُضمَر لن يكُفَّ عن استدعاء أساليب الوجود الغائِبة والمُغايِرة والاختلافيّة بوصفِها أساليب انفتاح عالَم الحُرِّيّة الأصيلة المأمول: “لم يتبقَّ شيءٌ منّي، سوى دراجة هوائيّة في دمشق، وسيارة حديثة في لندن.. ليحطَّ عليهما منذ الليلة الغبار العابر للقارات، وأيضاً.. رواية لها كاتبان ومترجمان في بلدين مختلفين”[52].

نتائج البَحث

1_ كشفَتْ قصّة “حكاية الرّوح التّائِهة في أوربّا” تهافت منظومة القيَم في الأوساط الثَّقافيّة، وعلاقاتِها المأفونة، وشروط النَّشر والتَّرويج، وعكست الحبكة انزياحات كبيرة في أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) لصالِح مُطابَقات العولمة وثقافة التَّسليع والاستهلاك الرَّخيص ثقافيّاً، وغياب الخُصوصيّة الإبداعيّة أمام النَّفعيّة الشَّخصيّة، وترقيم البشر وأعمالهِم بوجهٍ عام، والمُثقَّفين ونتاجاتهِم بوجهٍ خاص، ذلكَ أنَّ آليّات السّوق مُتحكِّمة بدور النَّشر، ولها حساباتُها النَّفعيّة أكثر من أنْ تكون لها حسابات إنتاج إبداع ثقافيّ له أفق حضاريّ، فصاحب دار النَّشر في دمشق، ولجنة القراءة عنده، تبنّوا نشر الرواية لأنَّها (مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ لكاتب يُدعى باتريك جيمبسون)، وهذا ما يضمن رواجَها واستهلاكها مثل أي سلعة في عصر العولمة. كما أنَّ صاحب دار النَّشر في لندن تبنّى نشرَها لأنَّ انتماءها إلى الأدب العربيّ سيُثير فضول القارئ الإنكليزيّ، وستنتشر بالتَّأكيد مثل أيّة سلعة تُستهلَك بسُرعة مادامَت الرواية (مُترجَمة عن الأدب العربيّ لكاتب يُدعى عيسى زكريّا).

2_ إنَّ التَّشابُه المعكوس بينَ (مُؤلِّف ينشر رواية في دمشق، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ)، و(مُؤلِّف ينشر رواية في لندن، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب العربيّ)، هو تشابه إلى حدّ التَّطابُق، فحتّى دوافع كتابة الرواية، أو بالأحرى ترجمتِها إلى اللُّغة الإنكليزيّة في لندن لا تختلف كثيراً عن دوافع كتابتِها في دمشق، ففي الحالتين لم يأتِ قرار الراوي بكتابة رواية رمزيّاً ودلاليّاً ليُشير إلى فعل (ثقافيّ/ حضاريّ) ضمن مشروع مَعرفيّ أصيل؛ إنَّما كانَ هذا القرار ردّة فعل على المُستوى المعيشيّ في دمشق، وعلى المُستوى المعيشيّ/ الطَّبقيّ في لندن، وفي الحالتين نحنُ أمام عناصر دراميّة تنتمي إلى منظومة قيَم لا تخلو من الاستهتار المُخيف، فضلاً عن جانب خطير من العبثيّة، إلى جانب ضياع الفعل الثَّقافيّ الرّصين _نسبيّاً طبعاً _ في الحيِّزين الزَّمكانيين (الشرق _ الغرب)، حيثُ يخفتُ الحُلم الحضاريّ البنّاء، وتتحوَّل (المُثاقفة) إلى سلعة، وتنزاح أساليب الوجود لتكشف عن نسَق ظاهريّ يُطابِق سُلطة السّوق وتقنيّات الاستهلاك ونفعيّة العمَل الإبداعيّ السَّطحيّة، وهذِهِ النَّفعيّة ليسَتْ مرفوضة على نحْوٍ إطلاقيّ؛ لكنَّ إشكاليتَها تكمُن في غياب الأصالة والمشروع الثَّقافيّ المُنبثق عن همّ حقيقيّ ينتمي إلى حُلْم تخليق الحضارة.

3_ لعلَّ أحد أهمّ المُستويات التي يبسطُها عالَم هذِهِ القصّة في ميدان الاهتمام الخاصّ بها، هو التَّهافت المَعرفيّ في العلاقات بين الشُّعوب، ولا سيما بين (الشّرق والغرب)، وتستمدُّ هذِهِ الإشكاليّة خُطورتَها عبرَ مراحل النُّمو الدّراميّ في القصّة من استقالة مَنْ ينبغي أنْ يتصدّوا لدور النُّخب من واجباتِهِم الثَّقافيّة والحضاريّة في عصر العولمة. ففي دمشق، وفي لندن، تضيع مَعالِم الأصالة المَعرفيّة، وتحضر سُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة على نحْوٍ مُريع، وتتعرّى الأمِّيّة الثَّقافيّة أمام سُلطة السّوق ومنظومة التَّسليع والاستهلاك والرّبح السَّريع، وتتحوَّل المَعرفة ورموزها وتاريخ البشر إلى شظايا أو شذرات تفتقد للتماسُك المَعرفيّ. ويبدو جليّاً أنَّ أسّ الكارثة ليسَ فقط في هذِهِ الأمِّيّة الثَّقافيّة، لكن أيضاً _ وبشكل أخطر _ في غياب المشروع (الثَّقافيّ/ الحضاريّ)، ولا سيما في علاقة (الشرق والغرب) في عصر العولمة، وفي الفراغ الرّاهن الذي يغزو أساليب الوجود الثَّقافيّة ويُزيحُها نحْوَ مُطابَقات العولمة المُحتفية بسيولة انتقال المَعلومات واستهلاكِها على حساب التَّماسُك المَعرفيّ، موهيَ المَسألة التي تُشكِّلُ خطراً كبيراً يُعزِّزُ اتّساع الهُوّة بين الشرق والغرب،  لكنْ، وكما يبدو فإنَّ سُلطة العولمة ما زالتْ أقوى وأسرع من القدرة إلى الآن على استعادة إنتاج المَعرفة الأصيلة، التي يُفترَض أنْ تُؤسِّس لفعل حضاريّ مُتجذِّر في العالَم.

4_ إنَّ الفخّ الوجوديّ الذي وقَعَ فيه (الراوي/ المُؤلِّف) في القصّة يكمنُ في اعتقادِهِ واهِماً أنَّهُ قد حقَّقَ كينونتَهُ الأصيلة عبر كتابة روايتِهِ، ذلكَ أنَّ أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) التي التحَقَ بها فيما بعد عبرَ مُطابَقاتِها لأنساق الهُوِيّة العولميّة التي أزاحتْها إلى أنماط من الاستهلاك والنَّفعيّة والاستسهال ورقميّة المَعلومات، قد مزَّقت هذِهِ الهُوِيّة الذّاتيّة، وبعثرَتْ وجودَها، وأفقدَتْها الماهيّة الأصيلة، بدءاً من مرجعيتِها المحلِّيّة، وصولاً إلى مرجعيتِها العولميّة، حيث سقط المُؤلِّف بعد ذلكَ في ماهيّة زائفة. ويبدو جليّاً مدى انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) لصالح أنساق مُطابَقات العولمة وتمركُزاتِها الظّاهِرة، حيثُ الحُضور الطّاغي لاختراق الهُوِيّات المحلِّيّة سواء أكان ذلكَ على المُستوى المَعنويّ بادّعاء مُؤلِّفيْن وهمييْن أحدُهُما غربيّ، والآخَر شرقيّ بحقِّهِما في حقوق الملكيّة للرواية، أم في سُهولة انتقال كُلّ منهُما: الأوَّل إلى دمشق، والثّاني إلى لندن، وهذا الانتقال والاختراق السَّهل من دون رقيب أو ضابط (نسبيّاً) هو من السِّمات الواضحة لعصر العولمة، فضلاً عن الدّافِع (المادّيّ) الأوَّليّ لظُهور هاتين الشَّخصيتين بوصفِهِ نسَقاً عولميّاً حاضِراً.

5_ كشَفَ ظُهور شخصيتَي المُؤلِّفيْن الوهمييْن مدى التّيه والضَّياع الذي سقط فيه (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية: المُترجِم المُزيَّفحيثُ خسِرَ هُوِيَّتَهُ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) مرتين بوصفِها هُوِيّة محلِّيّة (مرَّةً في دمشق، ومرَّةً في لندنلصالح هُويّة عولميّة احتفَتْ بِـ (المُؤلِّفين الوهميين اللَّذين نسَبَ إليهِما المُؤلِّف طوعاً في الأساس حقوق الملكيّة التَّأليفيّةلتنكشِفَ حقيقة ما يُسمَّى بِـ (الإنسان الكونيّ) في عصر العولمة، وليتعرّى هذا الإنسان من هُوِيّاتِهِ المحلِّيّة (ثقافيّاً وحضاريّاً لصالح انزياح أساليب وجودِهِ نحْوَ نسَق ظاهريّ تمركُزيّ يُطابِق الهُوِيّة العولميّة المُحتفية بسُلطة السّوق وآليّات التَّسليع والاستهلاك الرَّقميّ والنَّفعيّ الطّارد للفعل الثَّقافيّ المُؤسِّس للحضارة من جانبٍ أوَّل، والمُحاصِر للإنسان بوجهٍ عام، وللمُثقَّف بوجهٍ خاصّ من جانبٍ ثانٍ.

6_ لقد تطابَقت الهُويَّتان (الشَّرق والغرب) في هذِهِ القصّة لصالِح هُوِيّة العولمة التي ابتلعتهُما، فافتقَدَت الذّاتلثَّقافيّة) خُصوصيتِها، ليسَ بفقدانِها فقط نسبة الرواية إليها؛ إنَّما أيضاً بفقدانِها نسبِها الهُوِيّاتيّ الإنسانيّ الأصيل والفاعل حضاريّاً، فطريقة تعامُل الأوساط الثَّقافيّة ومُؤسَّساتِها مع الثَّقافة تكاد تكون مُتطابِقة في كُلّ مكان (مع الاحتفاظ بنسبيّة موضوعيّة لا تخفى علينا)، وطريقة انتشار المُنتَج الثَّقافيّ وتلقِّيه كأنَّهُ سلعة للاستهلاك السَّريع تكاد تكون مُتطابِقة في جميع أنحاء العالم، وسُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة، وتفتُّت بنى المَعرفة الرّصينة والمُتماسِكة تتطابَقُ أيضاً على نحْوٍ واسِع في عصر العولمة، فضلاً عن أنَّ انتهاك سُلطات الدُّول المحلِّيّة وهُوِيّاتِها قد بات أمراً شائِعاً إلى حدّ ما أمام تغوُّل سُلطة العولمة وهُوِيَّتِها، وإلا كيفَ نفسِّر أنْ يهرُبَ كاتبٌ ما كالمسعور في (بلدَيْه اللذين ينتمي إليهِما) بفعل تهديد شخص وهميّ غريب ومُنتمٍ إلى بلد بعيد، فأساليب وجود العولمة قد ابتلعت التَّعدُّديّة ابتلاعاً غير مسبوق، على عكس ما تدَّعي شعاراتُها البرّاقة وسياسات الهُوِيّة المُتَّبعة فيها، وذلكَ لصالح تثبيت سُلطة السّوق وديناميات ثقافة التَّسليع والتَّرويج والاستهلاك.

7_ منذ بداية القصّة يظهر واضحاً مدى خضوع (الراوي/ المُؤلِّف) لسلطة القهر الاستلابيّ العولميّة، ومدى عبوديتِهِ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) الاختياريّة لمنظومة قيَم السّوق والتَّسليع والاستهلاك، وبغضّ النَّظَر عن إيجاد مُسوِّغات معيشيّة لهذا الأمر، غيرَ أنَّهُ ثيمة جليّة في كيفيّات انزياح أساليب وجود (المُؤلِّف) الذي يرمز لنُخبة ثقافيّة فقدَتْ حُرِّيَّتَها، وأصالة دورها في عصر العولمة، وبظهور المُؤلِّفين المُزيَّفين (عيسى زكريّا وباتريك جيمبسون)، يسقطُ وهْم المُثاقفة، ويتبدَّدُ شعار (حوار الحضارات)، ويطفو المَسكوت عنه في ظلّ سُلطة القهر الاستلابيّ، وهو: حُلْمُ الحُرِّيّة ويوتوبيا الرَّفض، ليكونَ صراعُ (عيسى وباتريك) هو صراع (الشرق والغرب) المُستمرّ منذُ القديم، وحتّى هذا العصر العولميّ.

8_ مثَّلَ (الراوي/ المُؤلِّف) في القصّة النَّموذج (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) المُستبعَد والمُستعبَد والمُهمَّش، فهو المُثقَّف الذي فقد ذاتَهُ وكينونتَهُ وماهيتَهُ الحُرَّة (ومشروعَهُ الثَّقافيّ والحضاريّ الأصيل) أمام سُلطة القهر الاستلابيّ للعولمة، وكيفيّات الصِّراع لدَّمويّ في حالات كثيرة) المُنطوية عليها، في حين أنَّ (المُؤلِّفين الوهميين) هُما المُستوى الوقائعيّ الحقيقيّ لانزياح أساليب الوجود في عصر العولمة، بوصفِها مُطابَقات تمركُزيّة ذات حُضور طاغٍ لسُلطة السّوق والاستهلاك السَّريع وسُيولة انتقال المَعلومات، وكُلّ التِّقنيّات التي استمرَّت وفيَّةً لتاريخ طويل من تفتيت العلاقة (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) بينَ الشَّرق والغرب.

9_ كانَ خروج (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية) من لُعبة الصِّراع بعد ظُهور (المُؤلِّفين الوهميينومُحاولتِهِ المُخفقة في إنقاذ الطرفيْن المُتصارعيْن اللَّذين كانا في طريقِهِما إلى الغرق، تستدعي (جدَليّاً) النَّسَقَ المُضمَر والغائبَ بما هو (نسَقُ الاختلاف الثَّقافيّ الحضاريّ)، ونسَقُ احتفاء عالَم القصة في ميادين اهتمامِها بشيء النَّصّ غير المحدود، والذي يرمز إلى مُقاوَمة المُستوى الوقائعيّ الاستعباديّ للعولمة عبرَ يوتوبيا الرَّفض وحُلْم الحُرِّيّة، وهذا الأمر انطوى عليه مشهد الغرق في النَّهر الذي استمرَّ ببثّ الرَّمزيّة الجدَليّة للنَّسَق المُضمَر، ذلكَ أنَّ المُتصارعيْن المُزيَّفيْن بما يُشيران إليه من استمرار صراع الشَّرق والغرب في عصر العولمة، لم ينسيا صراعهُما الدّامي إلّا عندما انتبها أنَّهُما يغرقان معاً في منتصف النَّهر، فهل نصحو ونحتفي بأنساق التَّعدُّديّة والحُرِّيّة والاختلاف الوجوديّ قبلَ أنْ نغرق كُلَّنا ونموت معاً؟ ليس بوصفِنا شرقاً وغرباً؛ إنَّما بوصفنا بشراً نعيشُ في عصر العولمة على كوكبٍ جامحٍ مجنونٍ فقدَ بوصلتَهُ الثَّقافيّة والحضاريّة إلى حدٍّ بعيد.

10_ وهكذا، مات (المُؤلفان المُزيَّفانليحملا رمزيّاً دلالة (البقاء على قيْد الحياة الوقائعيّة) التي تطوي صراع الحضارات وتهافت الثَّقافة في عصر العولمة، في حين استمرَّ (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ) حيّاً، ليحملَ رمزيّاً دلالة (الموت الوقائعيّ)، فها هو ذا يحيا كارهاً كعادتِهِ لِـ (الماء: النَّظافة _ الخصب _ الإحياء _ المشروع الثَّقافيّ الحضاريّ)، لأنَّهُ يُذكِّرُهُ بهُوِيَّتِهِ الفرديّة والجمعيّة المُستلَبة، وها هو ذا تائهٌ كروح لا مرئيّة في أوربا (كما تُشير عتبة عنوان القصّة)، تلفُّهُ الكآبة والغربة والاغتراب، ولا ينتهي ضياعُهُ المُنبسِط بينَ الأبيض والأسود (لوني الصِّراع الحدِّيّ والكراهيّة المُستمرّة بين الشَّرق والغرب، وفي عُموم أنحاء الأرض)، مُنغمِساً في التَّسلية واللَّهو والعبَث، ليرمُزَ ذلكَ إلى ذروة الجدَل بينَ نسَقَي مُطابَقات العولَمة واختلافاتِها، حيثُ ما من خروج قريب للبشريّة من نفقِها المُظلِم هذا، ولكنْ في الوقت نفسِهِ، ما من استسلامٍ نهائيٍّ حاسِم ما دامَ النَّسَق المُضمَر لن يكُفَّ عن استدعاء أساليب الوجود الغائِبة والمُغايِرة والاختلافيّة بوصفِها أساليب انفتاح عالَم الحُرِّيّة الأصيلة المأمول.


[1] شاعر وناقد وأكاديميّ سوريّ، لهُ مُؤلَّفات وكتابات شِعريَّة ونقديَّة وفكريَّة.

[2] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة (عمّان _ الأردن: دار فضاءات للنَّشر والتَّوزيع، ط1، 2017) 60. 

[3] المصدر السّابق، 59.

[4] المصدر السّابق، 60.

[5] المصدر السّابق، 60.

[6] المصدر السّابق، 60 _ 61.

[7] شاكر عبد الحميد: الغرابة _ المفهوم وتجلِّياته في الأدب (الكويت: سلسلة عالَم المعرفة، 384، صفر 1433هـ _ يناير 2012م) 26.

[8] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 62.

[9] المصدر السّابق، 62.

[10] المصدر السّابق، 66.

[11] المصدر السّابق، 75.

[12] المصدر السّابق، 66.

[13] المصدر السّابق، 76.

[14] المصدر السّابق، 73.

[15] المصدر السّابق، 73.

[16] المصدر السّابق، 63 _ 64.

[17] المصدر السّابق، 74.

[18] ميجان الرّويلي وسعد البازعي: دليل النّاقد الأدبيّ _ إضاءة لأكثر من سبعين تيَّاراً ومُصطلَحاً نقديَّاً مُعاصِراً (الدار البيضاء _ المغرب، بيروت – لبنان: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط3، 2002) 38.

[19] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 65.

[20] المصدر السّابق، 75.

[21] المصدر السّابق، 72.

[22] المصدر السّابق، 70 _ 71.

[23] المصدر السّابق، 59.

[24] المصدر السّابق، 59.

[25]يُنظَر: محمّد ثابت الفندي: مع الفيلسوف (بيروت _ لبنان: دار النَّهضة العربيّة للطِّباعة والنَّشر _ سلسلة مُؤلَّفات محمَّد ثابت الفندي بإشراف ماهر عبد القادر محمَّد علي، ط ]د.ت[) 217 .

 [26]يُنظَر: جون ماكوري: الوجوديّة ، ترجمة: إمام عبد الفتَّاح إمام، مُراجعة: فؤاد زكريَّا (الكويت: سلسلة عالَم المعرفة، ذو الحجَّة/ مُحرَّم، 1402 هـ _ أكتوبر/ تشرين الأوَّل، 1982م) 100.

[27] المرجع السّابق، 100.

[28] يُنظَر: مارتن هايدجر: هايدجر: الكينونة والزَّمن، ترجمة: جورج كتّورة، مراجعة: جورج زيناتي (مجلّة العرب والفكر العالميّ: بيروت – لبنان، ع4، خريف 1988) 73. ويُنظَر: عادل ضاهر: الشّعر والوجود _ دراسة فلسفيَّة في شعر أدونيس (دمشق _ سوريّة: دار المدى للثَّقافة والنَّشر، ط1، 2000) 169.

[29] يُنظَر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة (بيروت _ لبنان: المُؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر، ط1، 1984)، ج2، 600. ويُنظَر: إبراهيم أحمد: إشكاليّة الوجود والتّقنية عند مارتن هايدجر (الجزائر العاصمة _ الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت _ لبنان: الدار العربيَّة للعلوم ناشرون، ط1، 1427 هـ _ 2006 م) 70-71.

[30] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 61.

[31] المصدر السّابق، 67 _ 68.

[32] المصدر السّابق، 77 _ 78.

[33] المصدر السّابق، 68 _ 69.

[34] المصدر السّابق، 70.

[35] المقصود في هذا المقبوس أنَّ (الراوي/ المُؤلِّف) قد أخبَرَ والدتَهُ في دمشق أنَّهُ سيُسافر، وسيُرسل لها كُلّ شهر ما تحتاجُهُ من أموال.

[36] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 78 _ 79.

[37] شاكر عبد الحميد: الغرابة _ المفهوم وتجلِّياته في الأدب، 46.

[38] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 80 _ 81.

[39] المصدر السّابق، 66 _ 67.

[40] المصدر السّابق، 76 _ 77.

[41] المصدر السّابق، 66.

[42] المصدر السّابق، 81 _ 82.

[43] المصدر السّابق، 82.

[44] شاكر عبد الحميد: الغرابة _ المفهوم وتجلِّياته في الأدب، 52.

[45] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 83.

[46] المصدر السّابق، 83 _ 84.

[47] المصدر السّابق، 60.

[48] المصدر السّابق، 60.

[49] المصدر السّابق، 84.

[50] المصدر السّابق، 85.

[51] المصدر السّابق، 86.

[52] المصدر السّابق، 85.

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

للعمل الحرفي في سوريا – سيما العاصمة دمشق – مكانة خاصة وتاريخ قديم يذهب بنا عميقاً في ردهات الزمن، حِرف أصبحت مع الوقت وجهاً من وجوهِ دمشق، وسوراً من أسوارها، وعطراً لاذعاً تفوحُ مقتنياته من زوايا بيوتها الدافئة كما تفوح روائحُ التوابل من أسواق ساروجة ومدحت باشا، شأن هذه المهن اليدوية الحميمة، شأن الهوية والانتماء.

وأبعد من ذلك تكنّت أنسابُ أصحاب هذه المهن بأنسابها، فلاصقت أسماءهم وأسماءَ أحفادهم من بعدهم، فعُرفوا بها كما عرفت بهم، كالنجار، والعطّار، والصوّاف، والخيّاط.

لكنّ حرفاً أخرى سوريّة انتشرت على نطاقٍ واسعٍ سيما في الخمسينات من القرن العشرين؛ لتلبية متطلباتِ ذلك العصرومتطلبات مجايليه كصناعة القناديل الصغيرة والتي عُرفت حتى يومنا هذا باسم “قناديل الكاز”، إضافةً لمهنِ تلميعِ النحاس والمقتنيات المعدنية بعد أن ينالها الصدأ وحِرف أخرى كثيرة كاشتغالِ السلال والصدور القش المعدة للطعام.

كل ذلكَ كانَ آنفًا كما أسلفنا، ملبياً في عصرٍ ما، متطلبات جيلٍ بأكمله. لكن، من كان يظن أن تُبعثْ هذه الحِرف من موتها إلى حياتنا الصاخبة اليوم. نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين.. قرن التكنولوجيا الرقمية، الإنترنت والذكاء الاصطناعي وتقنيات الهولوغرام!

هذا السؤال المؤلم والملح في آن، وضعنا أمام احتمالاته الكثيرة، في بلد أطفأت فيه الحرب كل مقدراته وحرمت شعبها أقل مقومات الحياة، أبسطها الكهرباء والماء. وكأن السوريين اليوم خارج تصنيف الكوكب وحضارته الضوئية! وكأن السوريين – عن غير قصدٍ – يعودونَ إلى الخلف كي يلبوا أقل احتياجاتهم بأرخص التكاليف لتصبح المقتنيات -التي كنا نزين بها مكتباتنا وبيوتنا ونفخر بها كتراثٍ يشير إلى سوريتنا – أدوات لا غنى عنها نستخدمها – تماماً – كما استخدمها أجدادنا منذ زمنٍ ظنناهُ لن يعود.

إثرَ زيارتي الأخيرة لسوق المناخلية في دمشق القديمة، تفاجأت بكثرة الورش التي تعمل في هذه المهن التراثية في ظل ضائقة اقتصادية ومعيشية يرزح تحتها السوريون بكافة مكوناتهم منذ أكثر من عقد من الزمن.

ورشٌ عدة تقوم بترميم عظام حرفٍ قد طواها الموتُ والنسيان، كالاشتغال بصناعة قناديل الكاز – آنفة الذكر – كبديل للكهرباء و”ببور الكاز كبديل للغاز؛ وجميع السوريين يعرفون جيدًا كيف كانت جداتهم تستخدم ببور الكاز هذا من أجل إشعال نارٍ خفيفة لغسيل الملابس الصغيرة أو طهي وجبة متواضعة في أيامٍ قد خلت.

ومن المهن التي بعثت بعد موتها أيضًا، تلميع الصحون والطناجر والأباريق وأدوات المطبخ، وكل ما لا يخطر في بال مواطن يعيش في هذا الكوكب وفي هذا الكون!

كان جواب – صاحب ورشة صناعة بوابير الكاز “أبو لمى” ثابتًا وصريحًا عندما سألته عن أسباب عودة هذه المهن إلى حياتنا السورية؟: “عم نلبي حاجات الناس”، وكان يقصد حاجتها للغاز الطبيعي الذي أصبح توفره في البيوت من النادر حدوثه.

وأضاف أبو لمى: منذ أربع سنوات عدت للعمل في هذه الورشة التي ورثتها عن أبي وجدي.. بعد ما يشبه بالمطالبة الشعبية لإيجاد بديل عن الغاز، فعدنا بهم مئة عام إلى الوراء “بين ما الله يفرجها” قال ذلك ساخرًا وهو يعلم تمامًا أنه ليس هو من عاد بالسوريين مئة عام إلى الوراء!!

بينما حدثني أبو عمر “المبيّض” والذي يعيد للأباريق والطناجر والأدوات المعدنية شيئًا من فاعليتها بعد تلميعها: “لم يعد بمقدور المواطن السوري شراء الجديد من هذه الأشياء.. فلجأ إلى إعادة ترميم القديم منها لستر ماء وجهه” مشيراً إلى الحبل الذي علق عليه الدلاء والأباريق: “إن ثمن قطعة واحدة جديدة مما ترى سيكلف الموظف السوري نصف راتبه”.

أما عن الرجل السبعيني الملقب “بأبي ياسين” وعمله في بيع قناديل الكاز فضحك من سؤالي عن السبب وأجاب كسابقيْه ساخراً “ليش عندكن عم تجي الكهربا” وبعد أخذٍ ورد أوصلني إلى نتيجةٍ مفادها: حتى بطاريات الشحن الخاصة “بالليدات” أصبح سعرها يفوق خيال ذوي الدخل المحدود.. فإن حالفهم الحظ وحصلوا عليها سيعاندهم الحظ ذاته لأن دقائق الكهرباء التي تمن علينا الحكومة بها، لن تكفي لشحن تلك البطاريات.

ثم اكتفى بالقول: “نحن نكتفي بهامش ربح بسيط.. ونقوم بتيسير أمور الناس .. وهنا تكمن المصلحة المشتركة بيننا وبين الزبون.. لقد اكتفينا بهامش الربح كما جعلونا نكتفي بأن نكون على هامش الحياة”. وعندما سألته عن العبوات الزرقاء المنضدة على الطاولة، أجاب: “هذا كحول يضعه الزبون في القنديل عوضاً عن الكاز.. فالكاز أيضاً مفقود فاستعضنا عنه بكحول رخيص غير مخصص للاستخدامات الشخصية”.

هكذا عادت المهن “الشعبية” إلى التكاثر بعد أن وجد السوري نفسه هو الوحيد الذي يقل مُغيّباً مرةً ومفقوداً أو مشرداً لا مكان يؤويه بعد أن نالت الحرب حتى الأمتار الأخيرة التي كان يجب أن يدفن بها.

أجل هو الأمر كما قال أبو ياسين، مصلحة متبادلة بين الصانع والزبون، إلا أنها – وعلى خلاف كل المصالح – مصلحة حميمة ونبيلة كتلك التي تنشأ بين الجار وجاره والأخ وأخيه إذا ما تمادت الأيام في الخذلان، كي يدرؤوا ما يمكن من مشاهد العوز التي تملأ الأحياء والأرصفة والبيوت، العوز الذي لن تبذل أي جهد لتلمسه بعينيك في كل وجهٍ من أجسادنا المستباحة.

لكن الخطير في الأمر أنه حتى هذه البدائل ثمة من لا تسمح له الظروف المعيشية بشرائها، والأخطر من ذلك كله أن نعتاد تلك البدائل.. عوضاً عن المطالبة بأبسط حقوقنا بعيشٍ كريم.. في بلد لو قُدرَ لثرواته أن توزع بشكلٍ عادل.. لما بقي فقيرٌ على الأرض السورية.

أما الآن فأتابع رحلتي (إلى الوراء) الوراء الذي أرادوه لنا عندما خرجنا مطالبين بحقوقنا السياسية والاجتماعية فجاء الرد بأن صرنا نطالب بحقنا في الحياة.