حيتان في كأس ماء: ممدوح عدوان والحياة

حيتان في كأس ماء: ممدوح عدوان والحياة

كان يعشق الحياة. عبارةٌ غريبة ضمن سياق الثقافة العربيّة، عبارة عجائبيّة ضمن سياق الثقافة السوريّة على الأخص. لا مكان لعشق الحياة حين تكون مفردة «الموت» المفردة الأكثر تكرارًا على نحوٍ واعٍ ولاواعٍ في الأعمال الإبداعيّة السوريّة ولدى مبدعيها على السّواء. كان يقهقه في بلاد الابتسامات الشّحيحة، وكأنّه يرسم بحياته مقياس ڤلاديمر نابوكوف لتصنيف النّاس: كان نابوكوف يقسم النّاس إلى أولئك الذين يضحكون وأولئك الذين يبتسمون، وقد كان من أنصار الضاحكين؛ وكان ممدوح عدوان يقسم النّاس إلى أولئك الذين يضحكون وأولئك الذين لا يضحكون ولا يفهمون النّكتة، وقد كان من أنصار الضاحكين طبعًا. كان نابوكوف مولعًا بجمع الفراشات؛ رفاهية لا تُتاح لسوريٍّ مثل عدوان، فاكتفى بلملمة الدّقائق كي يعيش الحياة إلى أقصاها، ويعشق الحياة إلى أقصاها. لم يكن ساذجًا كي يُخدَع بقشور «التّفاؤل الثوريّ» الذي اجتاح الستينيّات والسبعينيّات، فحتّى هذا التفاؤل يفترض أّنّ الحياة ليست مكانًا للعشق بل للنّضال كي تحظى الأجيال اللاحقة (أيًا تكن تلك الأجيال المجهولة الغامضة) بحياة تستحق العيش. هذا ما يفترضه الأمر نظريًا على الأقل. لم تكن أعماله ذات تفاؤل ثوريّ، ولم تكن تفاؤليّة عمومًا، إنْ صحَّ تصنيف الأعمال وفقًا لمقدار تفاؤلها أو تشاؤمها. كانت أعماله ذات نبرة حزينة، مثل باقي الأعمال السوريّة العظيمة. الأمل طيف آخر قد يتبدّى وقد لا يتبدّى. ما ميَّزَ أعمالَه حقًا خيطٌ شفيفٌ لعشق الحياة. حتّى ضمن قنطار الكآبة والحزن والأقدار المقبضة، نجد أنّ شخوصه، بعضها على الأقل، تحتفي بالحياة عبر عيشها. يعشقون ويُعشَقون، يتخاصمون ويتصادقون، يأكلون ويشربون ويضاجعون بنهم أحيانًا. كانوا يعشقون الحياة على اختلاف أفكارهم وأخلاقهم وعوالمهم، كانوا يعشقون الحياة مثل مُبدِعهم. ما الذي رآه هذا الرجل كي يعشق حياةً محكومةً بالموت؟ ما كان عقدُ الستينيّات الذي أبصرَ أولى نتاجاته الإبداعيّة عقدًا مغريًا بالعيش، دع عنك عشق العيش. وما كان ساذجًا ليُصدِّق أنّ صحوة حياة السبعينيّات أكثر من محض نسمةٍ ستُبدّدها البزّات العسكريّة عقدًا إثر آخر. الثمانينيّات؟ جحيم لَفَحَ الجميع. التّسعينيّات؟ كان الشّاب قد بات كهلًا يدرك أنّ الأمل ليس إلا سرابًا إلهيًا أو شِعريًا. الألفينات؟ لم يشهد إلا أربع سنوات منقوصة منها، وقد كانت سنواتِ المرض الذي لن يُمهله طويلًا. ولكنّ الرجل بقي عاشقًا للحياة؛ يعشق الحياة حتّى بعد أن مات؛ بل إنّ عشقه لتلك الحياة المتملّصة من بين الأصابع تعزَّز أكثر بعدما مات. إثر رحيله عام 2004، دارت أغلب المراثي حول أشيائه التي كانت تُمثِّل جوهر عيشه: سيّارته الڤولكس ڤاگن الخنفساء، شَعره المُصفَّف بعناية، قهقهاته، سيگارته، كأسه، سنوات عُمره التي اقتطعها الموت بغتةً بالرّغم من عامٍ ونصف العام من الاستعداد للحظة الموت: استعداده هو واستعداد الآخرين. كانت مراثٍ ملموسةً عن أشياء ملموسة: ما اختطفه الموت فعلًا كان اختطافًا للسيّارة التي راكمتْ غبار وقوفها حتّى كاد يُمحى سواد بقع الخنفساء الحمراء اللامعة، اختطافًا لخصلات الشَّعر الجميلة التي تساقطتْ شيئًا فشيئًا كأوراق شجرة فاكهة، اختطافًا للقهقهات الصادحة في زمن اعتقال البسمة والضحكة، اختطافًا للتّبغ وللكحول اللذين واصلَ عدوان غبَّهُما كَمَنْ يُجرِّبهما للمرة الأولى، بشغف العاشق، عاشق الحياة، عاشق العيش. تخطر لي الآن بعض ردوده الساخرة الثّاقبة في حوار أُجري قُبيل رحيله ونُشر في جريدة «تشرين» بُعيد رحيله بأيّام. ما عدت أذكر ما إذا كان هذا الحوار حواره الأخير، وما عدتُ أذكر ما إذا كان الحوار ضمن الجريدة نفسها أم ضمن ملحق أدبيّ. كان الحوار يشغل وسط الجريدة تمامًا بحيث يمكن الاحتفاظ به منفردًا، كما فعلتُ إلى أن ضاع الحوار مع ما ضاع من مكتبتي القديمة. لن أدخل الآن في شجن ما كان وضاع، ورثاء المكتبة القديمة والبيت القديم، لأنّ ممدوح عدوان لا يحبّ هذا الجوّ الكئيب، ولعلّه سيشير إلى رأسه بأصابعه التي لا تفارق السيگارة ويقول: المهم الذاكرة، اكتب ما تتذكّره قبل أن تُبتلى بزهايمر. المشكلة أنّي ما عدتُ أتذكّر تفاصيل كثيرة من الحوار باستثناء أنّ الأسئلة كانت نمطيّة مكرورة ترفع الضّغط، غير أنّنا نقرأ الحوارات عمومًا، والحوارات العربيّة خصوصًا، للاستمتاع بالإجابات لا بالأسئلة. أتذكّر إجابتين بدقّة: أولاهما إجابة على سؤال تناولَ «أزمة الشِّعر»، إلا أنّ عدوان قلب السؤال رأسًا على عقب ليُذكّرنا بأنّ الشِّعر في أزمة دومًا، أو بالأحرى بأنّ الشِّعر لصيقٌ بالأزمة، يولد منها، بمعنى أنّ الشِّعر (الشِّعر الحقيقيّ لا النَّظْم) بضاعةٌ نادرةٌ على الدّوام، من أوّل أيّام الشِّعر إلى نهاية أيّام الدُّنيا. ولذا لا معنى للحديث عن «أزمة»، بل عن شعراء. فالقبائل كانت تحتفي عند بروز شاعر لها مع أنّ العرب كلّهم يقرضون الشِّعر تقريبًا؛ والمتنبّي، مثلًا، ليس شاعرًا فردًا ضمن صحراء تخلو من الأبيات والقصائد، بل كان واحدًا من بين عشرات أو مئات الشُّعراء، غير أنّه برز عنهم بعبقريّته وجموحه وتفرّده، وطالما أنّنا لا نتحدّث عن أزمة شعر أيام المتنبّي، ليس لنا أن نتحدّث عن أزمة اليوم، أو أزمة تخصّ الشِّعر العربيّ أو أيّ شِعر في هذا العالم. صحيحٌ أنّ نسبة الشِّعر الحقيقيّ قد تضاءلت إلا أنّ هذه طبيعة تقلُّب الأزمنة. ما الذي لم يتضاءل اليوم ضمن مجال الكتابة؟ وحين أنهى المُحاور أسئلته «العميقة»، قرَّر لسببٍ مجهول طرح سؤال عابر (أو لعلّ هذا ما ظنّه المُحاور) على عدوان الذي كان يصارع السرطان في أيامه الأخيرة يتمحور حول «سرّ» مواصلته التّدخين والشّرب بالرّغم من إصابته بالسّرطان. أجاب عدوان بهدوء عابث قلبَ فيه السؤال كعادته من «بالرغم من» إلى «لأنّ»، فأشار إلى أنّه بقي يدخّن ويشرب لعقودٍ وهو مطمئنّ، لمّ ينبغي عليه التخلّي عنهما الآن حين اقتربت ساعة الموت؟ تتلاقى الإجابتان في معنى واحد: ما جدوى الحياة إنْ كنّا سنفكِّر في الموت وننشغل به، وما جدوى الحياة إنْ كنّا سنواصل عيشنا ونحن محض نسخة متطابقة من الآخرين؟ حياتنا، وإنجازاتنا في هذه الحياة، وسيلتُنا الوحيدة لقهر الموت، لا بمعنى الانتصار عليه، بل بمعنى مخاتلته. وقد كان ممدوح عدوان أحد أجمل مَنْ خاتلوا الموت، وواجهوه ندًا لندّ.

كان سيفرح حتمًا حيال هذه الاحتفاءات لأنّها احتفاءات بالحياة (حتّى لو كانت حياةً ماضية) أكثر من كونها حديثًا عن الموت (حتّى وإنْ كان حقيقةً حاضرة). يدرك عدوان أنّ الحياة، لا الموت، هي ما يستحق الكتابة. فالموت ليس إلا تذكيرًا بالحياة، بما كان وما لم يكن، بما صار وما لم يصر. تضاعفَ جمال الاحتفاءات/المراثي حين تركَّزت لاحقًا على تنوُّع نتاجه المدهش. فهذا التنوُّع – في ذاته – برهانٌ آخر على عشق عدوان للحياة، لحياةٍ أخرى، حياة الكتابة حيث خلق حياة موازية. لم يترك عدوان جانبًا من جوانب هذه الحياة الموازية إلا وجرَّب فيه، لعب فيه، عبث فيه، أعاد تشكيله. لعب بالشِّعر وفيه، وفي الترجمة، وفي المسرح، وفي الرواية، وفي الصحافة، وفي السيناريو التلفزيونيّ، وفي المقالات الثقافيّة. ولكنّ المراثي تلاشت وبهتت مع مرور الأيام إلا حين يتذكّر أحدهم ذكرى ولادته أو رحيله، وتضاعفت وطأة التّلاشي حين ترافقت مع تلاشي أعماله التي لم تحظ معظمها بإعادة طباعة. نجتْ بعض التّرجمات، وبعض كتب المقالات، ورواية «أعدائي»، وبعض ذكريات السيناريوهات. نجت لا لأنّها أفضل نتاجاته كما غربلها الزّمن بالضّرورة، بل لأنّها أكثرها رواجًا. يُشار إلى طبعة للأعمال المسرحيّة الكاملة صدرت عام 2006، إلا أنّي لم أصادفها، وباتت قراءاتي معتمدة على ما قُرصِن من المسرحيّات القديمة، وما تسلَّل إلى المكتبات من نُسخ مستعملة. ولم يبق من الشِّعر إلا مجموعته الأخيرة «قفزة في الهواء» التي صدرت في ذكرى رحيله العاشرة عام 2014، ومختارات صدرت عام 2017، وربّما نفد هذان الكتابان أيضًا. طبعة «دار المدى» لأعماله الشعريّة الكاملة اختفت منذ سنوات. كانت طبعةً جميلة ضمن سلسلة أعمال شعريّة كاملة لعدد من الشّعراء: نزيه أبو عفش، محمد الماغوط، سنيّة صالح، أدونيس، سعدي يوسف، نفدت هي الأخرى، لولا تدارك أدونيس وسعدي يوسف أمرهما حين أعادا طباعة أعمالهما طبعة جديدة قبل بضع سنوات. حين أتذكّر أيّة قصيدة من قصائد هؤلاء الشّعراء أو أعيد قراءتها، أستعيد تلك الطبعة ذاتها. قرأتُ قصائد عدوان عام 2005 أو 2006. كانت تجربة لن تتكرّر. قرأتُ القصائد بتتابع جنونيّ وكأنّما الدّنيا ستنتهي خلال أيام. ما زلتُ أظنّ أنّ المقالات وبعض المسرحيّات، لا القصائد، أعظم ما كتب عدوان. لعلّ رأيي سيتغيّر لو أُتيحت لي فرصة إعادة قراءة القصائد كاملةً اليوم. ولكنّ هذا كلّه ليس مهمًا الآن. المهمّ هي حياة عدوان، وعشقه لتلك الحياة، وبراعة تبيان عشقه لها حين كتب عنها في كتابته عن أصدقائه الراحلين. تُقرأ مراثي عدوان، التي نشر بعضها في كتاب «جنون آخر»، بوصفها سيرةً ذاتيّةً مبعثرة كتب فيها عدوان نفسَه وحياتَه بقدر ما كتب الآخرين. هنا، فقط، يُزاح عشق الحياة قليلًا، أو ربّما يتخفّى قليلًا، ليواجه عدوان الموت بالكتابة، بالحياة، تحديدًا حين كتب عن سعد الله ونّوس الذي اختطفه الموت قبله بسبع سنوات. ليست مقالته القصيرة أعظم ما كُتب عن ونّوس بطبيعة الحال، إلا أنّ فيها التقاطات بارعة لم أجدها عند غيره. كتب عدوان عن ونّوس، وعن نفسه، وعن سوريا، وعن الثقافة، وعن معنى أن تكون كبيرًا بين الكبار، وكبيرًا بين الصغار.

يكتب عدوان عن رحيل ونّوس بوصفه نقطةً فاصلة في تاريخ ثقافة، نقطة تُميِّز المياه الشاسعة  حيث تتنافس الحيتان فَتَهِبُ المياهَ من عنفوانها؛ وتُميِّز المياه الضحلة، كأس الماء الصغيرة الشّحيحة، حيث لا مكان للحيتان، بل لأسماك صغيرة تافهة لا تدرك ضيق عالمها فتظنّ تلك الضّحالة هي الكون بأسره. حيتان في كأس ماء، هذا ما كان عدوان يرى نفسه وأمثاله النّادرين ممّن صمدوا في زمن الضّيق. أدرك عدوان احتماليّة تضاؤل أحجام هؤلاء النّادرين بعد رحيل ونّوس، فالحوت «يحتاج إلى مناخ وبيئة من الحيتان. ولكي تكون كاتبًا كبيرًا يجب أن يكون حولك شعب يستوعب كاتبًا كبيرًا، وكتّابٌ كبار يساعدونك على فرض قيمتك من خلال سعيهم لفرض قيمتهم هم.» لا حيتان في كأس ماء، ولا غابات في صحراء. لن تكون للشاعر قيمة حين تتمحور الأسئلة عن «أزمة الشِّعر»، ولن تكون له قيمة لدى قرّاء يقرؤون القصائد بمسطرة الاقتباسات. كان عدوان يرثي نفسه حين رثا ونّوس، كما نرثي أنفسنا مع كلّ راحل من الراحلين الذين يختطفون ذكرياتنا/ذكرياتهم معهم فنتضاءل حتّى لو لم نكن كتّابًا، كبارًا أو صغارًا. لا حاجة لأن تكون قريبًا من المبدع كي ترثيه. أتذكّر هنا تعليقًا ساخرًا لصحفيّ تحوَّل روائيًا ثمّ قرَّر استنساخ ألبرتو مانگيل، أو صورته الظاهريّة بطبيعة الحال، انتقدني حين كتبتُ قبل سنوات عن عدوان. كان يفترض عدم أهليّتي للكتابة عن عدوان لأنّي لم أكن أحد ندماء سهراته. نكتة دفعت جميع ندمائي في سهرتي السابقة للقهقهة بمن فيهم إنكيدو الذي لا يقهقه إلا نادرًا. ولكنّها كأس الماء الضحلة مرةً أخرى. إنْ كان عدوان أدرك انمساخ البحر الشّاسع إلى كأس ماء بعد رحيل ونّوس، فأيّ ماء بقي لنا الآن بعد أن رحل عدوان والماغوط وسنيّة صالح وهاني الراهب، إنْ اكتفينا بالسوريّين؟ لعلّ السّرطان الذي نهش جسد ونّوس أطلق بذوره في جسد عدوان، غير أنّ عدوان لا يكترث للرثاء في ذاته، بل يذكّر نفسه ويذكّرنا بوجوب عشق الحياة حتّى لو كانت طيف حياة في بلاد الضيق. ما دفعه لعشق الحياة أكثر، ولعشق ونّوس أكثر، هو أنّ ونّوس حوَّل سنوات الموت إلى حياة جديدة بالمطلق. كان نتاجه في سنواته الأخيرة أعظم ما كتب على الإطلاق، ولذا مضى إلى الموت بثقةِ المحارب الذي نفض غبار آخر انتصاراته. يذكّرنا عدوان أنّ الموت أضعف من أن نشغل أنفسنا به؛ الحياة أقوى وأجمل وأشدّ إغواء، ولذا لا بدّ من اعتصار دواخلنا قبل أن يعتصرنا الموت. لا بدّ من أن نواجه الموت بكبرياء «لأنّنا لم نترك وراءنا ما لم نعشه، وما لم ننجزه، وما لم نستمتع به. ثمّ نتقدّم لمواجهة الموت مُتخَمين بالحياة». ماذا بشأن ما لم ننجز، ما حلمنا بإنجازه؟ ينفض عدوان السؤال كما ينفض دخان سيگارته التي لم تنطفئ، ليذكّرنا أنّ ما بقي ليس لنا، بل لمن بقي وراءنا كي يبنوا عليه (وهذا نادر)، أو يدمّروه ليشيّدوا ما هو أفضل (وهذا أندر)، أو يهدموه لمجرّد الهدم كما فعلت أجيال متلاحقة طوال عقود وهي تسبح في مستنقعات الضّحالة (وهذا ما يحدث في الغالب).

ما الذي رآه هذا الرجل كي يعشق حياةً محكومةً بالموت؟ رأى الحياة، وتجاهلَ الموت، ببساطة.

*تنشر بالتعاون مع جدلية.

أغنّي العشب: فيروز جوزف حرب

أغنّي العشب: فيروز جوزف حرب

نقرأ في «سِفر التّكوين» أنّ الله أنهى في اليومين الأوَّلين من عُمر الكون خَلْقَ معظم ما يرتبط بالسّماء والفضاء: النُّور والنّهار والليل، ثمّ فصلَ المياه الدُّنيا عن المياه العليا. وفي اليوم الثّالث أخرجَ الأرض. لم يخلقها كما السَّماء، بل أخرجها من بين المياه، ليبدأ فيها سلسلة الخلق الدُّنيويّة. أوَّل ما أنبتته الأرض كان العُشب. العشب أوَّل ما ظهر في الدّنيا، أوّل ما يمكن أن يمثّل من حيث الجوهر ما ليس سماويًا أو إلهيًا. ليس هذا فقط؛ بل إنّه متمايز عن كلُّ ما نبتَ معه من بقل ونبات وشجر لأنّه – على عكسها – بلا بذر؛ بسيط، لا يرتبط بكلّ ما سواه إلا بالأرض؛ يتوالد من ذاته وفي ذاته. هذا العشب، أو أحد تجسُّداته، هو ما يمثّل فيروز جوزف حرب: قصائد/أغانٍ دنيويّة تولد في الحاضر وتنتهي فيه. ليست بسموّ قصائد سعيد عقل، ببساطة لأنّ عالم جوزف حرب لا يشبه عالم سعيد عقل. عالم عقل، كما أشرتُ في مقالة سابقة، أكبر من الأرض ومن الزّمن، أو في واقع الحال منفصل عن الأرض وعن الزّمن. لا زمن فيه لأنّه يبتلع الأزمنة ويُعيد تكوينها في عالمٍ حُلُميّ لا يشبهنا، ولن نشبهه، وإنْ كنّا نتوق إلى عيشه. هذا التّوق هو ما يجعلنا بشرًا: تمنّي ما ليس مثلنا، عيش الـ «يا ريت» التي تُكثّف عالم جوزف حرب. المقارنة بين هذين العالمين ليست مجحفة بقدر ما هي عبثيّة. عالمان مختلفان بالمطلق، لا يربط بينهما شيء حتّى فيروز التي تبرع، كما لا تبرع مطربةٌ أخرى، في التّماهي الكليّ مع عالم القصائد التي تغنّيها. فيروز سعيد عقل تغنّي السّامي، المطلق، اللامتناهي؛ فيروز جوزف حرب تغنّي الدنيويّ، الأرضيّ، العُشب. فيروز سعيد عقل ليست فيروز جوزف حرب، وليست فيروز زياد الرّحباني بالرّغم من تقارُب عالمَيْ جوزف وزياد.

يتماهى سعيد عقل مع المطلق، مع الإلهيّ. قد يبدو التّوصيف عجيبًا حين نتذكّر دنيا عقل خارج القصائد، إذ نعجز عن الحديث عن عقل بلا تحفّظات أو استطرادات تفسيريّة، وتبريريّة ربّما. ولكنّ التّوصيف صحيح بالرّغم من دنياه الشخصيّة النّابذة. التّوصيف صحيحٌ لأنّ دنياه نابذة، إقصائيّة، نخبويّة، مرعبة من فرط الكبرياء. سعيد عقل يشبه إلهًا توراتيًا لا يعرف إلا الغضب وإقصاء ما لا يشبهه؛ ولا أحد يشبه ذلك الإله وتجسّداته النّادرة في واقع الحال. عالمه الشِّعريّ لامتناهٍ، وعالمه الدنيويّ يسعى لأن يكون، أو يبدو على الأقل، لا متناهيًا. السّعي عبثيّ. ولأنّه عبثيّ، بات عقل محكومًا على الدّوام بهذا التّناقض المُفجع. جوزف حرب، بالمقابل، يشبهنا بفضائلنا وخطايانا. هو ابن الحاضر، ابن اللوعة والضحكة، والحِداد والبهجة، والنّقاء والعَفَن. ولأنّه ابنٌ متجذّر في الحاضر لا بدّ من أن يسعى إلى الانزلاق في فخ التّناقضات. يدرك البشريّ أنّه ليس إلهًا، وليس ملاكًا مُكرَّمًا في السّماء أو ملعونًا في الأرض، غير أنّه يدرك – في الوقت ذاته – أنّه وُجِد على صورة قوةٍ فوق-بشريّة، قوّة لادنيويّة، لا ترضى ولا تَقْنَع، بل تسعى (تتوق؟) دومًا إلى الكمال كخالقها، لترى – مثل خالقها – أنّ ما تفعله حسنٌ كلّما أبدعت أمرًا جديدًا. جوزف حرب ابن الـ «يا ريت» التي تُلخّص تراجيديا أن تكون مسجونًا في زمنٍ أوحد خانق، لا فرار منه إلا بالتمنّي، إلا بالخيال، إلا باستعادةٍ عبثيّة لزمنٍ مضى كي يكون الزّمنُ القادم أجمل. الماضي في دنيا جوزف حرب، وفي دنيانا، مرتبطٌ بالمستقبل لا بالحاضر. الحاضر زمن التمنّي والتحسُّر والتفجُّع فقط؛ تمنّي تكرار الماضي في مستقبل أجمل لأنّنا – بالتّحديد – نودُّ لو يشبه الماضي، لو يكون على صورته، بالرغم من إدراكنا الواعي أنّه لا يكون، ولن يكون.

 أوَّل ما يصادفنا حين نستعرض قصائد جوزف حرب الفيروزيّة الصّدمةُ التي ستصحّح فكرتنا المغلوطة السّائدة. يُشار غالبًا إلى أنّ فيلمون وهبي كان الملحّن شبه الحصريّ لقصائد جوزف حرب، ربّما بسبب انتشارها الهائل، وبسبب البصمة الفيلمونيّة الفريدة التي نلتقطها بسهولة من بين جميع ملحّني فيروز. الواقع مُغاير بعض الشيء. لحَّن فيلمون أغلب قصائد حرب حقًا، إلا أنّها أغلبيّة طفيفة. من بين أربع عشرة قصيدة (هي ما تمكَّنْتُ من إيجاده، ولعلّ العدد أكبر)، لحَّنَ فيلمون ثماني قصائد، ولحَّن زياد خمس قصائد؛ أما قصيدة «لبيروت» الشّهيرة فهي موسيقا خواكين رودريغو. تقسيم القصائد تبعًا للملحّن ليس تقسيمًا صارمًا تمامًا، وكذا الحال بالنّسبة إلى تقسيمها تبعًا لثيماتها، لذا سيكون تحليل القصائد مزيجًا من هذين التّقسيمين.

تنقسم القصائد ثيماتيًا إلى قسمين: القصائد «الوطنيّة» والقصائد الغنائيّة «العاطفيّة». القصائد «الوطنيّة» أربع هي (حسب الترتيب الهجائيّ): إسوارة العروس، رح نبقى سوا، فيكن تنسوا، لبيروت. أولاها من ألحان فيلمون، والأخيرة من موسيقا رودريغو، والثانية والثالثة من ألحان زياد. وضعتُ صفة «الوطنيّة» بين مزدوجين لأنّ القصائد لا تندرج بدقّة تحت هذا التّصنيف: ليست أغانٍ حماسيّة، بطوليّة، زاعقة، مع استثناء طفيف للأغنيتين الثانية والثالثة إذ تبدوان ناشزتين عن القصيدتين الأخريين، حيث نجد فيروز في عباءة الواعظ والمحرّض لتؤكّد لنا في إحداها: «جاي النصر وجاية الحريّة» وتحرّضنا في الأخرى: «لا تنسوا وطنكن». اللافت أنّ زياد هو مَنْ لحّن هاتين الأغنيتين اللتين تبدوان أقرب إلى عالم الأخوين رحباني. يغرينا وجود اسم زياد إلى الشكّ بأنّ الأغنيتين پاروديا، إذ تبدوان متسلّلتين من مسرحيّة «شي فاشل»، حيث الوطن الذي كان الرحبانيّان يغنّيانه قد اندثر ومُسخَ إلى موضوعٍ ليس جديرًا إلا بالسخرية اللاذعة. إلا أنّ الواقع صادم حقًا، فالأغنية فيروزيّة، ولم نسمع فيروز يومًا في پاروديا لصورتها الرحبانيّة القديمة بصرف النّظر عن مدى تغيُّر هذا الوطن الذي غنّت وتغنّي له. القصيدتان الباقيتان أجمل وأعمق بما لا يُقاس. لا مباشرة ولا تحريض حتّى حين يُذكّر «الوطن»، أكان تجريدًا عموميًا للبنان كلّه، أو تخصيصًا للجنوب، أو لبيروت، لأنّ الأماكن، ولبنان عمومًا، ليست الوطن نفسه الذي تُدبَّج له القصائد الحماسيّة. الجنوب وبيروت ولبنان، عند جوزف حرب، أماكن خريف، بِقاع رثاء، لا تختلف جوهريًا عن عالم الـ «يا ريت» الذي يُعرِّف عالم حرب. الشِّعر هنا شجيٌّ صافٍ كما لو كان قصيدة حبّ؛ مرثاة حبّ مضى وبقيت ذاكرته الموجعة. لا فارق إنْ كانت القصيدة محكيّة أم فصيحة لأنّ المجاز هو المجاز، والشِّعر هو الشِّعر: «لما بغنّي اسمك بشوف صوتي غلي/ إيدي صارت غيمة وجبيني عِلي» لا تختلف جمالًا ولوعةً وألمًا عن «أطفأت مدينتي قنديلها/ أغلقتْ بابَها/ أصبحتْ في السّماء وحدها». وطنٌ واحدٌ هو ما يغري جوزف حرب بالاستطراد والسموّ الشعريّ: وطن الخيبة، وطن الحرائق، وطن الحاضر الكالح، وطن الرّماد الذي سيُصبح مجدًا سرمديًا لبيروت قبل أن تنقله لمدننا كلّها. «مجدٌ من رماد» لها ولنا ولكلِّ من سيحاول يومًا التغنّي بالوطن، التغنّي بهذه الأرض الجاحدة التي تُرغمنا على هجرها، كي نقيس المسافات بلوعة الشِّعر.

وطن جوزف حرب يشبه وطن ميخائيل ليرمنتف حيث روسيا تلك التي لا فارق إنْ كانت قيصريّة أم لا، كما لا فارق إنْ كانت بيروت هي بيروت قبل الحرب أم أثناءها أم بعدها، إنْ كان ثمّة بعد لجحيم الحرب. يغنّي ليرمنتف، في قصيدته «أرضي»، الوطنَ من دون أن ينزلق إلى فخّ التّمجيد الأجوف: «ومع هذا فأنا أحبك – لا أكاد أعرف لمَ»؛ يغنّي الوطن من دون أن يغنّي «الوطن»، إذ يُفرِّق هذان المزدوجان بين عالمين متمايزين متباينين، بل متناقضين: عالم وطن الأمجاد، وعالم وطن التّفاصيل التي نحبُّها فنحبّ الأرض التي تضمُّها. يستطرد ليرمنتف في «تبريره» لحبّ الوطن (فهذا الحبّ بحاجة إلى تبرير حتمًا) حين يسرد تلك التّفاصيل التي تجعل الأرض وطنًا جديرًا بالحبّ وبالعيش: أرض الطبيعة، لا أرض البشر والحجر؛ أرض الأنهار والصخور والوديان والأشجار والأزهار والعشب. وكذا هي أرض جوزف حرب، وطن جوزف حرب؛ بيروت ليست أرض المقاومة أو الانعزاليّة أو الفينيقيّة أو العروبة أو اليسار أو اليمين، بل هي البحر والبيوت والصخرة التي كأنّها وجه بحّار قديم، والموج والغيم. الفارق بين ليرمنتف وحرب أن حرب لم يعبّر صراحةً عن حبّه للوطن (لحسن الحظ!)، أو عن تبريرات ذلك الحب غير المباشر؛ وأنّ ليرمنتف ابن الرومانتيكيّة وابن الطبيعة أكثر من حرب الذي لا نجده شاعر طبيعة صرفًا (في قصائده الفيروزيّة على الأقل)، إذ هو ليس ميشيل طراد أو طلال حيدر، بل هو أقرب إلى صلة وصل بين الطّبيعة التي غمرت فيروز من الخمسينيّات إلى السبعينيّات وبين المدينة التي بدأت تتسلّل شيئًا فشيئًا إلى أغانيها لتبلغ ذروتها في تعاونها مع زياد. كان جوزف الحرب الباب الذي عبرت منه فيروز إلى عالم المدينة، وإلى هموم الحب وتفاصيله بين حبيبين مدينيّين في الغالب. ليس مصادفةً ولعُ حرب الذي يقارب الهوس بالأبواب التي تشكّل مفتاحًا شديد الأهميّة في فهم قصائده، لا في الأغنية التي كُرِّست للأبواب كاملةً («البواب») وحسب. كانت تلك القصيدة بعبارتها الصارخة: «آه يا باب الـ محفور عمري فيك/ رح انطر وسمّيك باب العذاب» صدًى غير مباشر للوعةٍ أقدم هي لوعة إنكيدو الذي رأى باب انتصاراته الحربيّة القديمة بابًا لهزائمه القادمة ولاندثاره الموجع: «لو كنتُ، يا باب، أعرف أنّك تُضمر لي مثل هذا/ لو كنتُ أعرف، يا باب، أنّك ستكافئني هكذا/ لكنتُ حملتُ فأسًا وقطعتك». الباب لدى إنكيدو ولدى حرب سجلُّ ذاكرة، ذاكرة دنيويّة، دنيا الخيبات والهزائم، هزائم الغرباء العالقين بين عالمين. جوزف حرب، أيضًا، عالقٌ بين عالمين، كما هو عالق بين زمنين، لا سبيل إلى التّوفيق بينهما. نلمحُ توتّرًا في بعض القصائد لا يمكن فهمه إلا بكونه محاولةً عبثيّةً لإدخال ماضي الطبيعة في حاضر المدينة الحجريّ البارد، ولا سبيل إلى ربط هذين المتناقضين إلا عبر الباب الذي يُفتَح فيبدأ الحب ويُغلَق فيبدأ الحنين، يُفتَح فيتسلّل الماضي ويُغلَق فيهجم الحاضر. حالة تذبذب دائمة كانت الألحان أكبر تجسُّدٍ لها.

ألحان فيلمون وهبي طاغية تحاول التهام الكلمات والصوت لأنّها إيقاعات أزمنة متتالية طاغية هي الأخرى. يمكن أن نفهم كلاسيكيّة ألحان فيلمون بمعنييها الحرفيّ والمجازيّ: كلاسيكيّة من حيث التزامها الصّارم بالمقامات الموسيقيّة الراسخة، وكلاسيكيّة بمعنى التّقليديّة التي تشبه زمن الماضي وتُعرِّفه؛ الزمن الذي كان هادئًا لأنّه – ببساطة – يخلو من التمرّدات. العُرف سيّد الموقف دومًا حتّى في الحالات الحبّ التي تفترض وجود شراكة بين اثنين. المرأة أضعف في قصائد حرب الفيلمونيّة. امرأة الحسرة، امرأة ردود الأفعال التي تنتظر المبادرة من الحبيب حتّى في غيابه، ويكاد وجودها كلّها أن يُعرَّف بكونها مرتبطةً بذلك الحبيب. ضمير المثنّى الذي يسود قصائد حرب الفيلمونيّة ضميرُ مفردٍ في واقع الحال، ضمير ذلك الحبيب الذي يمسك خيوط العلاقة حتّى في غيابه. لا يحدث النّسيان إلا بمبادرة من ذلك الغائب، ولا يُعاوِد الحبّ تفجّره إلا بمبادرةٍ ممّن هَجَر: «اعطيني اهرب منك ساعدني إنساك/ اتركني شوف الإشيا وما تذكّرني فيك» أو «إذا رجعت بجنّ وإن تركتك بشقى/ لا قدرانة فلّ ولا قدرانة إبقى». امرأة حاضر تحاول استعادة ماضي ذلك الغائب الطاغية كي تخلق مستقبلًا يشبه ذلك الماضي في طغيانه، لتعود الأمور إلى «طبيعتها» حين تستمدّ المرأة وجودها من غيرها، ولا تكتمل إلا بالنّقصان.

حين بدأ زياد مشواره الفيروزيّ الحقيقيّ كان فيلمون وهبي قد رحل، إلا أنّ زياد بقي على إخلاصه الفيلمونيّ لا في الألحان فقط، بل أيضًا في ثيمات قصائد حرب القديمة. لن نجد فوارق لحنيّة كبيرة بين «حبّيتك ت نسيت النّوم» أو «زعلي طوّل» الزياديَّتَيْن وبين «لمّا ع الباب» أو «بليل وشتي» الفيلمونيَّتَيْن. وكذا لن نجد فوارق في صورة الحبيبة التي بقيت على حالها بالرّغم من شخصيّة زياد المتمرّدة التي لم تكن قد وضعت بصمتها المتفرّدة بعد. كانت أبواب جوزف حرب تُفتَح ببطء أمام عبقريّة زياد لأنّ حرب أطال وداعه لعبقريّة فيلمون. لن نجد غرابةً حين نصادف عبارةً مثل: «حبسي إنت إنت حبسي وحرّيتي إنت» أو «بتشوفن ما مرقوا إلا إيديك على هالبيت» لأنّها رواسب فيلمونيّة كانت تنتظر إغلاق باب حرب إغلاقًا تامًا كي تنتهي لحنًا وكلمة. أو لعلّه تردُّد زياد أمام سطوة ماضي فيروز الذي لم يكن ليتغيّر بأغنية أو اثنتين. أو لعلّه تحفُّظ فيروز التي لم تكن قد نفضت عنها الصورة الأيقونيّة التي تعهَّدها الرّحبانيّان وفيلمون. أو لعلّه بطء جوزف حرب نفسه حين لم يتحرّر من ذاته القديمة، وواصل النَّهل من منابعه المعتادة بالرّغم من الألق الجديد الخفيّ الذي شرع يظهر في القصائد الجديدة من ناحية نبذ الماضي وصور الطّبيعة، وتلمُّس تفاصيل محسوسة تنأى عن التّجريد القديم الذي كان يسم عالم فيروز عمومًا. لعلّها هذه الأسباب كلّها مجتمعةً، ولعلّه سبب آخر لا سبيل إلى معرفته. كان علينا انتظار العام 1987 كي تحدث المعجزة.

كانت المعجزةُ صدورَ ألبوم «معرفتي فيك» الذي شكَّل أولى الخطوات الزياديّة الواثقة في قلب عالم فيروز رأسًا على عقب، وفيه قصيدة/أغنية «خلّيك بالبيت» لجوزف حرب. كان الألبوم «فضيحةً» بالنّسبة إلى شريحةً كبيرة من جمهور فيروز التي هجرتْ أيقونتها وباتت امرأة دنيويّة سيّدة نفسها. كان رفض الجمهور لهذه «الهرطقة» الفيروزيّة/الزياديّة رفضًا صارخًا. صحيح أنّ هذا الرفض خفتت آثاره بالتّدريج إلى أن طوَّع زياد آذان وآفاق جمهور فيروز، إلا أنّ لحظة صدور الألبوم ما تزال أحد التّواريخ الأساسيّة في مسيرة فيروز وزياد، وفي مسيرة جوزف حرب أيضًا.

تلاشت فيروز الرحبانيّة، وفيروز الفيلمونيّة، وظهرت فيروز جديدة تماهت مع ابنة المدينة، ابنة الجاز، ابنة علاقات الحب التي يحكمها السّجال الندّيّ لا الرّضوخ أو الرجاء. ستبلغ فيروز هذه ذروة تمرّدها بعد ألبومات عديدة إلا أنّ للحظة البداية إغواؤها الرائع. صارت فيروز جوزف حرب – للمرة الأولى – صاحبة المبادرة في علاقة الحب التي تومئ القصيدة إلى أنّها علاقة مساكنة لا زواج، علاقة عشق مدينيّ لا تقاليد قديمة. امرأة تسكن بيتًا بمفردها خارج سلطة العائلة، امرأة هي صاحبة المبادرة في ضبط إيقاع العلاقة، امرأة لا تُصرِّح بالحبّ وحسب بل بحبّ الحب: «هلق حبّيت» للمرة الأولى في بادرة غريبة عن عالم جوزف حرب. لا «يا ريت» هنا بالرغم من الرجاءات الظاهريّة التي لا تعدو كونها غنجًا لا تبعيّة، لن نجد عبارة مثل: «يا ريتك مش رايح، يا ريت بتبقى ع طول». حبيبان أمام البيت بعد انتهاء الوصال، كما كان العاشقان في «لمّا ع الباب»، إلا أنّ المرأة في «خلّيك بالبيت» لا تحبّذ الوداع ولا ترتضيه خيارًا. خلّيك بالبيت لا عند الباب. انتهت مرحلة الباب الفاصل بين عالمين، وصرنا في مرحلة البيت: بيت الحب المتكافئ، بيت العلاقة الندّيّة، لا محض لقاءات ليليّة مختلسة يليها تفجُّع؛ بيت زياد الرحباني في واقع الحال، غير أنّ هذا العالم لم يكن لينطلق انطلاقته الواثقة في ألبومات متلاحقة لولا «خلّيك بالبيت». ليس زياد وحده، أو فيروز وحدها، مَنْ هرطق ونسف صورة الماضي الأيقونيّة. جوزف حرب، أيضًا، هرطقَ، وإنْ لم يكرّر المحاولة أبدًا، إذ اكتفى بمحاولته الوحيدة وارتضى ولعه الأثير بالأبواب، بالتردّد، بالحافّة، لا بالبيوت التي استعادت هدوءً جديدًا لا يشبه هدوء الماضي الرّاضخ.

بقي جوزف حرب في ذاكرة كثيرين مرتبطًا بتلك الـ «يا ريت» القديمة، وغفلوا عن «خلّيك بالبيت»، ربّما بسبب وقوعهم في وهم أنّها لزياد لا لجوزف، إذ هي زياديّة حقًا. ترك جوزف حرب نفسه عند الباب وشرّعه أمام آخرين، وواصلَ إدمانه على هشاشة العشب الدنيويّ.

حين أرسل الله طوفانه، في «سِفر التّكوين»، محا جميع الكائنات عن الأرض، غير أنّنا لا نجد إشارة صريحةً حيال مصير العشب. لعلّه نجا من الطوفان خلسةً كما ينجو دومًا من العواصف التي تمحو كلّ شيء، بشرًا وشجرًا وحجرًا، ويبقى العشب بهشاشته سجلًا وذاكرةً على أبواب العالم الجديد بعد النّجاة. لعلّنا ننجو بهشاشتنا في نهاية المطاف. ربّما.

*تنشر بالتعاون مع جدلية.

من الأمة إلى الطائفة: سوريا في حكم البعث والعسكر: قراءة في آخر مؤلّفات الراحل ميشيل كيلو

من الأمة إلى الطائفة: سوريا في حكم البعث والعسكر: قراءة في آخر مؤلّفات الراحل ميشيل كيلو

برحيل ميشيل كيلو (مواليد 1940)، الكاتب والمترجم والمثقف والسياسي والمعارض البارز للنظام السوري منذ خمسة عقود، يوم الإثنين (19 من الشهر الحالي) في العاصمة الفرنسية باريس، إثر تدهور حالته الصحية بعد إصابته بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، عن عمر ناهز 81 عاماً، خسرت سورية قيمة فكرية كبيرة وقامة وطنية عظيمة.

كتاب «من الأمة إلى الطائفة.. سوريا في حكم البعث والعسكر»، الصادر مؤخراً عن دار “موزاييك للدراسات والنشر” السورية في مدينة إسطنبول، هو آخر ما صدر للراحل من كتب، والذي سنستعرضه في هذه المقالة، للوقوف على دراسته النقدية لحكم حزب البعث والعسكر في سوريا؛ والذي قسمه على ثلاث مراحل، امتدت أولاها من عام تأسيس حزب البعث عام 1947 إلى عام 1966. والثانية من انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966 إلى 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ وهو عام انفراد الفريق حافظ الأسد (1930-2000) بالسلطة وكان حينها وزيرًا للدفاع. والمرحلة الثالثة من عام 1970 إلى قيام الثورة السورية في 15 آذار (مارس) 2011. مفصلاً آليات السلطة البعثية، وكيف استطاعت إحكام السيطرة على كافة مؤسسات الدولة السورية السياسية والعسكرية طيلة العقود الخمسة الماضية، ساعياً إلى توضيح صورة انقسام سوريا بعد الحكم الأسدي من خلال تطييف السلطة والمجتمع، ليقتصر عمل هذه السلطة (الأسدية) على بُعدها الطائفي.

جاء الكتاب في (386 صفحة من القطع الكبير)، ويقع في ثلاثة أجزاء: الأول عن الحزب، الذي تأسّس رسمياً عام ١٩٤٧، وما مرّ به من تحوّلات وتعرجات، نقلت مواقفه من النقيض إلى النقيض، فيما يتصل بأكثر قضاياه أهمية ومركزية كقضية الوحدة العربية، ناهيك عن الحرية والاشتراكية، وفهمه لهما. وينتهي هذا الجزء في العام ١٩٦٦، بالقضاء على بعث كلٍ من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وتأسيس بعث مختلف على يد ضباط (اللجنة العسكرية) العائدين من مصر، بعداء شديد للوحدة معها ولشخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والرافضين لقيادة عفلق (المتهم بخيانة الحزب)، لأنه وافق على حلّه من أجل الوحدة مع مصر الناصرية.

يذكر المؤلّف في المدخل التمهيدي لهذا الجزء (الأول) الموسوم بـ «من تأسيس بعث عفلق إلى القضاء عليه أو من ١٩٤٧ إلى ١٩٦٦»، أنه “إذا كان هناك في تاريخ سورية الحديث تشكيل سياسي ناقض مساره الواقعي ما ألزم نفسه به من وعود ورفعه من شعارات، قبيل وعند وبعد إعلان ولادته يوم السابع من نيسان (أبريل) عام ١٩٤٧، ثم قبل وبعد مشاركته في الانقلاب على السلطة عام ١٩٦٣، والانفراد بها بين هذا العام وعام ١٩٦٥، فهو التشكيل الذي أسسه الراحلان ميشيل عفلق (١٩١٠ – ١٩٨٩) وصلاح الدين البيطار (١٩١٢ – ١٩٨٠)، وحمل اسم “حزب البعث العربي”، ثم ما لبث أن تغيّر إلى “حزب البعث العربي الاشتراكي”، بعد اتحاده عام ١٩٥٢مع “الحزب العربي الاشتراكي”، الذي كان قد أسّسه الراحل أكرم الحوراني (١٩١٢ – ١٩٩٦) في حماه وريفها عام ١٩٥٠. مبرزاً ما دار من صراعات وانقلابات في سورية قبل وبعد منتصف ستينات القرن الماضي، حيث “بدأت مرحلة صراعات أشد ضراوةً وعنفًا، استمرت حتى عام ١٩٧٠، ودارت داخل (اللجنة العسكرية) وبين أجنحتها، ومرت بانقلابين عسكريين كبيرين: وقع أولهما يوم الثالث والعشرين من شباط (فبراير) عام ١٩٦٦ ضد الفريق أمين الحافظ (١٩٢١ – ٢٠٠٩)، رئيس الجمهورية المقرب من ميشيل عفلق، تخللته معركة استمرت ساعات عديدة في حي أبي رمانة، أرقى أحياء دمشق، أرسل بعد حسمها إلى سجن المزّة. ووقع ثانيهما يوم السادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام ١٩٧٠، عندما أطاح وزير الدفاع الفريق حافظ الاسد بالأمين القطري المساعد لحزب البعث اللواء صلاح جديد في انقلاب سلمي لم ترق فيه دماء، وأُرسل غريمه إلى سجن المزّة العسكري بصحبة العدد الأكبر من رفاقه في قيادة الحزب، حيث بقي إلى أن توفاه الله بمرض مفاجئ يوم ١٩ آب (أغسطس) عام ١٩٩٥، بعد خمسة وعشرين عاماً من احتجازه دون محاكمة أو تهمة”.

وبعد استقراء نقدي للفترة ما بين 23 شباط (فبراير) 1966 و16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ عام انفراد الفريق حافظ الأسد بالسلطة. يحلّل صاحب «دير الجسور»، أبعاد الصراع بين تياري حافظ الأسد وصلاح جديد، وكيف قاد حافظ الأسد انقلابه العسكري في 16/11/ 1970، والذي أطاح فيه بصلاح جديد، ورفاقه في الحزب واللجنة العسكرية، وقبض عليهم ورماهم في سجن المزّة، إلى أن ماتوا فيه أو خرجوا منه إلى القبر،

مستعرضًا في السياق، الطريقة التي تم بها نصب فخ لمصر وعبد الناصر من خلال اللجنة العسكرية، التي أفادت من موقف عفلق، الذي انتقل من رؤية الحزب بدلالة الوحدة إلى رؤية الوحدة بدلالة الحزب، وصراع عبد الناصر على زعامة العالم العربي باسم الوحدة، وتولت الإعداد للحرب التي أطاحت به، وانتهت بالتخلّص من نظامه، وبصعود نظام حافظ الأسد إلى موقع قيادي في العالم العربي، خلال الحقبة التالية، وفق علاقات قوى جديدة مع إسرائيل.

الجزء الثالث، والذي يقع في قرابة مائتين وخمسين صفحة، وهو الأهم والأطول في الكتاب، يحلّل فيه صاحب «قصص واقعية من عالم الأشباح.. ذكريات من سجون الأسد»، باستفاضة ظاهرة الأسدية تحليلًا بنيوياً شاملاً، شارحاً فيه كل ما يتّصل بتاريخ الأسد الأب وخياراته وآليات اشتغاله والنتائج البعيدة المدى التي ترتبت عليه. مقدمًا من خلاله قراءة مغايرة لكل ما كتب سابقًا في هذا الصدد، في محاولة تكون الأقرب إلى كشف واقعه.

يؤكّد كيلو في كتابه، أنّ علاقات حافظ الأسد الأب مع إسرائيل كانت السبب الرئيس لتسليمه السلطة عام ١٩٧٠، بعد ثلاثة أعوام على تسليمه الجولان لها. وأنه عمل (أي الأسد الأب) على إرساء علاقته مع الإسرائيليين على ركيزتين هما: انصرافه، من جهة، عن اعتبار وجودها غير شرعي ويستدعي التحضير لمعركة معها، تتجاوز سورية إلى فلسطين وأمن وسلامة العالم العربي، الذي كان جليًا على الدوام أنها جهة مكلفة بضبطه، ومصمّمة عليه. ونقل سورية، بالمقابل، من طرف معركته الإستراتيجية معها إلى جهة معركتها مع العالم العربي، بذريعة محاربة عملائها، الذين كان يكفي أن يكونوا مختلفين معه أو مناوئين ومعارضين لنهجه حتى يعاديهم كعملاء للصهيونية، التي جلست مسترخية في الجولان، دون أن يسمح النظام الأسدي بإزعاجها.

يلفت كيلو في سياق تحليله، إلى أنّ حافظ الأسد عمل تحت مظلة إسرائيل، ولم ينفذ غير المهام التي وافقت عليها، كما فعل عندما غزا لبنان، بذريعة حمايته أرضاً وشعباً، وخاض حرباً منظّمة ضد منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، وضد قوى الحركة الوطنية اللبنانية بحجة المحافظة عليها، بينما احتلت إسرائيل ١٢٪ من إجمالي مساحة لبنان وأقامت منطقة عازلة في جنوبه، دون أن يفعل جيش النظام السوري شيئاً، والسبب هو تفاهم على إدخاله إلى لبنان مقابل تقاسم وظيفي له، وحق إسرائيل في الإشراف على دوره فيه، ورسم خطوط حمراء لا يتخطاها في جنوب الليطاني ومنطقة كفريا في جبل لبنان، مقابل المنطقة المسيحية، وإطلاق يده في خصومها (الفلسطينيون واللبنانيون).

ويرى المؤلّف، أنّ التزام بشار الأسد بهذين المحددين، بالإضافة إلى إبقاء المجتمع السوري خارج الشأن العام، وانفراد الأجهزة الأسدية بإدارة الدولة والمجتمع، انطلاقاً من أسس طائفية بنتها السلطة كي تُبقي المجتمع مقسماً وموزعاً على جهات متناحرة، ليست إسرائيل بين همومها، ضمن الأسد الابن بعد الثورة كرسيه، مقابل تدمير دولة ومجتمع سورية كهدف رئيس جدًا من أهداف تل أبيب، ما كانت لتتمكّن من إنجازه دون خسائر فادحة تلحق بها، وقاها الأسد منها.

  • كيف جعل الأسد من طائفته جزءًا من أدوات قمعه..

تميّزت قراءة المؤلّف لظاهرة الأسدية في الجزء الثالث من الكتاب، ببناء نظام تديره أجهزة معظمها سري وقمعي، نافية للمجتمع، تنتمي إلى مجتمع سلطوي راكب على سوريين مشتتين ومقموعين ودون حقوق من أي نوع كان، وقادر على انتزاع كل ما هو بحاجة إليه من موارد لإعادة إنتاج نفسه في إطار يعمق ويعزز حضوره في الشأن العام، وتفوقه على عدوه الداخلي كما يتمثّل في المجتمع الخاضع.

وفي تلخيصه لماهيّة بنية السلطة الحزبية والأمنية والعسكرية الأساسية التي أرساها حافظ الأسد لضمان بقاء نظامه بعد الاستيلاء على السلطة رسمياً بانقلابه العسكري. رأى كيلو أنها بنية إجرامية مكرسة لاحتكار الحقل السياسي واحتلال المجال العام، ومنع الشعب السوري من امتلاك حقوقه أو المطالبة بها، وهو ما تأكّد بعد الثورة، حين انقض بجيشه، الذي سلم الجولان عام ١٩٦٧ دون قتال لإسرائيل، وفرّ في حرب ٧٣، واندحر خلال أربع وعشرين ساعة، اخترق الجيش الإسرائيلي بعدها القطاع الشمالي من الجبهة، بعد أن احتوى هجوم آلاف الدبابات الأسدية، الذي اعترف حافظ الأسد في حديث له مع الصحافي الأميركي أرنو دو بوشجريف بتدمير ١١١٢ واحدة منها خلال أربع وعشرين ساعة، واِدّعى أنّ جيشه خاض أكبر معركة دبابات في التاريخ، والحقيقة أنّ معظم الدبابات لم يدمّر، بل تُركَ في أرض المعركة لأنّ أوامر “القيادة” إلى ضباطها كانت تلزمهم بعدم التضحية بحياتهم كي لا ينهار النظام. هذا الجيش الذي يتعايش مع احتلال الجولان منذ أربعة وخمسين عاماً، لم يتعايش يوماً واحداً مع مطالبة السوريين بالحرية، التي وعدهم حزب البعث بها منذ نيف وسبعين عاماً، وتشدق الأسد الأب بوعدها في جميع خطبه، بل انقض عليهم كما لم ينقض جيش استعماري على شعب مستعمر، وقتل وجرح وشوه وعذب الملايين منهم!

يذهب كيلو عميقًا في تشريح علاقة النظام بطائفته التي جعل منها جزءاً من أدوات قمعه،

شارحًا بنية هذا النظام بتركيزه على الأسدية بوصفها قائمةً على طائفية عميقة اتّخذت من الطائفة العلوية محورها الأساس وركيزة لها لحكمها الطائفي، وكيف عمل الأسد الأب على عزل الطائفة التي ينتمي إليها عن باقي مكوّنات الشعب السوري، وتحويلها إلى أقليةٍ معاديةٍ له، عامداً إلى بقاء دائرته الطائفية مغلقةً على ذاتها.

يقول كيلو: “في حين يجب أن تبقى دائرته الطائفية مغلقة على ذاتها، لتبقى شيفرتها ولغة تداولها وشبكات تواصلها ومسارات عملها وخططها خارج متناول من لا ينتمون إليها، أو لمن هم خارجها من أعضاء الهيئة الاجتماعية العامة، لا بد أن يبقى المجتمع مكشوفاً وممنوعاً من التكور على ذاته، وأن يبقى بالتالي منقسماً إلى جماعات وجَمعات متفاوتة الحجم والأهمية والدور، والأهم من هذا وذاك متناحرة ومكشوفة في الوقت نفسه أمام تدخل الأجهزة، ومفتقرة إلى لغة تخاطب وأقنية تواصل وشبكات تفاعل خاصة بها، كي لا تبني بمعونتها عالمًا خاصًا بها، تواجه به السلطة”.
جدير بالذكر أنّ للراحل ميشيل كيلو قرابة أربعين كتاباً مترجماً في الفكر السياسي والفلسفة والاقتصاد والتاريخ، نذكر منها: «من هيجل إلى نيتشه – التفجر الثوري في فكر القرن التاسع عشر: ماركس وكيركجارد»؛ «برلين-كابول موسكو (أوسكار ريتر فون نيدرماير وجغرافية ألمانيا السياسية)»؛ «نظرية الدولة» لنيكوس بولانتزاس؛ «السياسة في الحرب العالمية الثانية» لماكس فيبر؛ «الديمقراطية الاشتراكية» لارتور روز نبرج؛ وكتاب أ. ك. أوليدوف «الوعي الاجتماعي»؛ و«الإمبريالية وإعادة الإنتاج» و«لغة السياسة» لجورج كلاوس. إضافة إلى قصة طويلة بعنوان «دير الجسور» (2019)؛ و«قصص واقعية من عالم الأشباح.. ذكريات من سجون الأسد» (2012)، والتي كشف فيها تفاصيل حياة أليمة عاش السوريون فظاعاتها طيلة عقود خمسة في مملكة الصمت الأسدية.

ومن المؤلّفات المشتركة التي ساهم فيها كتاب «الجولان السوري المنسي وموقعه في سورية المستقبل»، الذي أصدره مركز حرمون، في عام 2017، بمناسبة ذكرى هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ومرور نصف قرن على احتلال الجولان.

رئاسة “سلسة” واحدة… وانقلابات كثيرة

رئاسة “سلسة” واحدة… وانقلابات كثيرة

أحد ممثلي «معارضة الداخل» محمود مرعي تقدم إلى جانب 12 شخصاً آخرين أحدهم الرئيس بشار الأسد، بطلب الترشح إلى انتخابات الرئاسة السورية، ليكون العدد غير مسبوق منذ أول اقتراع قبل حوالي تسعة عقود.

وينتهي الترشح في 28 الشهر الجاري، على أن تجرى الانتخابات في 26 الشهر المقبل، بموجب دستور العام 2012، الذي ينص على وجوب أن يحصل المرشح على 35 صوتا من أعضاء مجلس الشعب ذي الـ250 مقعداً. وفي انتخاباته العام الماضي، حصلت «الجبهة الوطنية التقدمية» التي تضم تحالف أحزاب مرخصة بقيادة «البعث» على 183 مقعداً (بينهم 166 بعثياً)، ما يعني أن قرار الترشح الرئاسي بأيدي الحزب الحاكم وائتلاف الأحزاب المرخصة. وأعلنت دول غربية بينها أميركا أن الانتخابات «لن تكون حرة ونزيهة وذات مصداقية.

وحسب قرار مجلس الأمن 2254، تتطلب الانتخابات ذات المصداقية في سوريا إشراف الأمم المتحدة وبيئة آمنة تضمن حماية جميع السوريين، بمن في ذلك اللاجئون والنازحون داخلياً، لممارسة حقهم في التصويت». ولن يكون معظم اللاجئين في الخارج (عدا في لبنان)، قادرين على المشاركة بسبب وجود شرط «الخروج الشرعي» من البلاد لتملك الحق بالتصويت، كما أن معظم الدول الغربية أغلقت البعثات الدبلوماسية السورية. في المقابل، اعتبرت روسيا وإيران هذه الانتخابات «استحقاقا دستورياً»، حيث يتوقع أن يفوز الرئيس بشار الأسد بها بولاية رابعة مدتها سبع سنوات.

لكن كيف وصل رؤساء سوريا للحكم؟

تحمل الانتخابات المقبلة الرقم 18 منذ عام 1932 التي جرت تحت الانتداب الفرنسي الذي تسلم البلاد في 1920. تنافس ستة مرشحين، ما كان يمثل أكبر عدد من المتنافسين في انتخابات رئاسية في تاريخ البلاد قبل ارتفاع العدد في الانتخابات الحالية إلى 13 مرشحاً.

قبل تسعة عقود، كان اثنان من المتنافسين حاكمين سابقين للبلاد، هما حقي العظم رئيس «دولة دمشق» ورئيس الدولة السابق صبحي بركات، واثنان أحدهما رئيس الوزراء الحالي والسابق وقتذاك، تاج الدين الحسني ورضا الركابي. أما المرشحان المتبقيان فأصبحا في وقت لاحق أول وثاني رئيس لسوريا: محمد علي العابد وهاشم الأتاسي. الأول، كان سفير السلطنة العثمانية في واشنطن ووزير المال في «الاتحاد السوري الفيدرالي» والثاني، ممثل «الكتلة الوطنية».

في 1936، ترشح الأتاسي وفاز بالتزكية لغياب المنافسين، فيما عين قائد «قوات فرنسا الحرة» شارل ديغول تاج الدين الأتاسي في 1941. وأصبح أحد أركان «الكتلة الوطنية» شكري القوتلي رئيساً بعد فوزه دون منافس في 1943 و1947. وفي 1949، قام حسني الزعيم بأول انقلاب في تاريخ سوريا وأجرى استفتاء ليكون الأول في عهد البلاد. هنا اللافت، أن ممثل «حزب الله» السوري بشير كمال، الذي نشط في حلب بشكل سلمي تحت تأثير أفكار غاندي، رشح نفسه، لكنه «نصح بالانسحاب من السباق» وسرت إشاعة منظمة بأنه «مجنون».

بعد فترة وجيزة، قام سامي الحناوي بانقلاب ضد حسني الزعيم وأصبح رئيسا لأركان الجيش، وطلب من «القائد التاريخي» هاشم الأتاسي «الإشراف على انتخابات مؤتمر تأسيسي». أصبح رئيسا للحكومة وبعد المؤتمر التأسيسي، انتخب الأتاسي رئيساً. وعندما نفذ أديب الشيشكلي انقلابه عين فورا، وزير الدفاع فوزي السلو في الرئاسة. وفي 1953، جرت في «برلمان مصغر» انتخابات الشيشكلي.

بعد خروج الشيشكلي «كي لا تراق دماء» في 1954، عاد هاشم الأتاسي لإكمال ولايته. بعد سنة، جرت أشهر انتخابات في التاريخ المعاصر لسوريا، إذ ترشح خالد العظم، وهو «رئيس دولة» سابق في 1941 خلال الحرب العالمية الثانية ورئيس حكومة في 1948، ضد شكري القوتلي الذي فاز بالقصر.

تخلى القوتلي عن الرئاسة للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي فاز باستفتاء بعد الوحدة السورية – المصرية في 1958. وفي «عهد الانفصال»، فاز ناظم القدسي ضد سعيد الغزي في تصويت تحت قبة البرلمان في 1961 خلفاً لعبد الناصر.

وبعد تسلم حزب «البعث» الحكم في 1963، عين مجلس قيادة الثورة الضابط لؤي الأتاسي رئيس «مجلس قيادة الثورة». وبعد «حركة» يوليو (تموز) أصبح أمين الحافظ «رئيس مجلس الرئاسة» إلى حين قيام صلاح جديد بـ«حركة» فبراير (شباط) في 1966، وتسلم نور الدين الأتاسي منصب «رئيس الدولة». بعد قيام وزير الدفاع حافظ الأسد بـ«الحركة التصحيحية» في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، عين أحمد الخطيب «رئيس دولة» إلى مارس (آذار) 1971، حيث أصبح رئيسا للبرلمان، وفاز الأسد بالرئاسة عبر استفتاء، الأمر الذي تكرر إلى حين رحيله في 2000. وإثر تعديل الدستور، فاز بشار الأسد بالرئاسة في استفتاء. وفي 2012، تمت صياغة دستور جديد بالتحول من «الاستفتاء» إلى «الانتخابات».

وفي 2014، ترشح الأسد واثنان آخران، هما وزير التنمية الإدارية في حسان النوري والنائب ماهر الحجار.

وما هو مصير الرؤساء السابقين ومرشحي الرئاسة؟

في 1936 أجبر محمد علي العابد على الاستقالة كما هو الحال مع هاشم الأتاسي في 1939. الأول توفي في منفاه في مدينة نيس الفرنسية في 1939، وتوفي الثاني لكبر سنه في حمص في 1960.

وكان تاج الدين الحسني الذي عينه الفرنسيون في 1941، الرئيس الوحيد الذي يموت في «فراش القصر» في 17 يناير (كانون الثاني) 1943. وأخرج شكري القوتلي من القصر بانقلاب عسكري في مارس (آذار) 1949 قاده حسني الزعيم الذي خرج أيضاً بانقلاب آخر في أغسطس (آب) قاده سامي الحناوي.

الزعيم قتل بـ176 رصاصة في جسده في انقلاب الحناوي الذي سجن ثم قتله حرشو البرازي في بيروت في 1950. كان أديب الشيشكلي نفذ في ديسمبر (كانون الأول) 1949، انقلابه ووضع الحناوي بالسجن لمدة قبل أن يطلقه تلبية لضغوطات وطلبات. أما الشيشكلي الذي ترك البلاد بعد الحكم، فاغتيل في البرازيل في 1964 بسبب «ممارساته ضد الدروز» جنوب سوريا.

غادر هاشم الأتاسي مقعد الرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1951، بعدما تسلمه مؤقتا في ديسمبر (كانون الأول) 1949. أمام فوزي السلو، فإنه غادر «طوعا» لصالح أديب الشيشكلي في 1953.

في سبتمبر (ايلول) 1955، جرت مراسم التسليم والتسلم الشهيرة بين هاشم الأتاسي وشكري القوتلي، ليكون «الانتقال السلس» الوحيد في تاريخ البلاد، حيث عاد القوتلي واستقال لصالح جمال عبد الناصر في 1958، على عكس لؤي الأتاسي «الذي نصحه العسكر بالاستقالة» بعد أحداث يوليو (تموز) 1963، ثم توفي في حمص في 2003.

أما القوتلي، فإنه توفي في منفاه في بيروت بجلطة في «نكسة» يونيو (حزيران) 1967. أمين الحافظ، الذي «خلعه» صلاح جديد في 1966، سجن. غادر إلى المنفى ثم عاد وتوفي في حلب في 2009.

نور الدين الأتاسي وضع مع صلاح جديد في السجن من الأسد لدى تسلمه الحكم في 1970. توفي الثاني في المعتقل، فيما توفي الأول بمجرد خروجه منه. أما أحمد الخطيب «رئيس الدولة» في أول سنة من حكم الأسد، فأصبح رئيسا للبرلمان لسنة ثم تنحى من العمل السياسي، كما هو الحال مع مرشحي العام 2014، الذي صار أحدهما وزير تنمية، ثم «اعتزل السياسة».

هجرة الموسيقيين السوريين  ٢ من ٢

هجرة الموسيقيين السوريين ٢ من ٢

*تم نشر الجزء الأول من هذه المقالة تحت عنوان “هجرة الموسيقيين السوريين ١ من ٢ موسيقيون هاجروا وفرق اختفت وأصوات لجأت إلى الصمت

 مبدعون في بلاد الاغتراب

الموسيقيون السوريون الذين  أبعدتهم الحرب عن البلاد، والذين ما زالت المسارح السورية تنزف غيابهم وترزح تحت وطأة الفراغ الذين خلفوه، نقلوا خبراتهم الفنية وموسيقاهم إلى بلدان إقامتهم الجديدة، شكلوا فرقاً موسيقية عديدة، متنوعة الأنماط والألوان والخبرات، وصدحت حناجرهم وآلاتهم في المسارح العالمية، فعرّفوا العالم بثقافة سورية الموسيقية وإرثها الفني، وأبرزوا وجهها الحضاري الناصع والمشرق، في وقتٍ كان العالم لا يرى فيها سوى صور الموت والدمار.

فرق موسيقية أوركسترالية

كثيرة هي الفرق الموسيقية السورية الأكاديمية التي ولدت في أوروبا وضمَّت خيرة العازفين المحترفين، من بينها الفرقتين الأضخم: أوركسترا المغتربين السوريين وأوركسترا أورنينا.

أوركسترا المغتربين السوريين“، تأسست في ألمانيا على يد الموسيقي رائد جذبة في عام 2015، وقدمت أولى حفلاتها في العام ذاته. تضم الأوركسترا 60 عازفاً سورياً ، يقيمون في مختلف دول أوروبا، معظمهم ممن غادروا سورية خلال الحرب، من بينهم: جهاد جذبة وهيفرون ميرخان (كمان)، ثائر عيد ورامي الفيصل (فيولا)، صلاح نامق (تشيلو)، رائد جذبة (كونترباص)، ماهر محمود (عود)، لوبانة القنطار (غناء سوبرانو)، بسمة جبر (غناء آلتو) وغيرهم. وتعنى الأوركسترا التي يقودها المايسترو غسان العبود بتقديم الموسيقى السيمفونية والكلاسيكية، كما تمزج بين الأعمال الشرقية والغربية، وتُقدم الموسيقى العربية بقالب أوركسترالي، وقد قدمت العديد من الحفلات في مسارح دول أوربية مختلفة كألمانيا، بلجيكا، السويد، سويسرا، اليونان، فرنسا وغيرها.

وفي مدينة لوكسمبورغ الألمانية تشكلت “أوركسترا أورنينا السورية“، بقيادة المايسترو شفيع بدر الدين، وهو عازف عود ومؤلف موسيقي له عدة مؤلفات موسيقية من بينها “كونشيرتو الناي“. تضم أورنينا عدداً من المغنيين والعازفين السوريين المقيمين في ألمانيا وأمريكا وبعض دول أوروبا، من بينهم: لبانا القنطار، رشا رزق، شادي علي، علي أسعد وأبو غابي (غناء)، وليد خطبا (كمان)، كفاح بدر الدين (تشيلو)، توفيق ميرخان (قانون)، محمد فتيان (ناي)، شام سلوم (عود)، سلمان مبارك (كونترباص) فراس حسن وأمجد سكر (إيقاع) وغيرهم، هذا بالإضافة لمجموعةٍ من مغنيي  الكورال، وعددٍ من الموسيقيين الأوروبيين، كعازفة الكلارينيت سوزان كريتون.

 قدمت الأوركسترا العديد من الأعمال الموسيقية الغنائية والآلية، السورية والعربية، إلى جانب الموشحات والقدود والأعمال التراثية، وذلك عبر كثيرٍ من الحفلات التي أقيمت على مسارح مختلفة، كمسرح برلين  ولوكسمبورغ، والتي حققت حضوراً جماهيرياً مميزاً ولاقت نجاحاً لافتاً، بالإضافة لحجم الانتشار الكبير الذي حققته على مواقع التواصل الاجتماعي.

فرق موسيقية متنوعة

وفي أوروبا أيضاً تشكلت فرقة “مَدّ” السورية، وتتألف من العازفين: فراس شهرستان (قانون) محمد فتيان (ناي)، هشام حمرا (عود)، فراس حسن (إيقاع) ، عبد الهادي ديب (غناء) ، يوناتان سيل (كونترباص). قدمت الفرقة الكثير من الأعمال الموسيقية العربية والسورية، خاصة أغاني التراث والموشحات والقوالب الموسيقية التقليدية كالسماعيات واللونغيات، وقد عرفت العالم بالتراث الموسيقي السوري من خلال الحفلات التي أقامتها في مسارح أوروبية مختلفة.

فرقة “وجد” وتضم مجموعة من الموسيقيين السوريين المقيمين في أوروبا وهم : خالد الحافظ (غناء وإيقاع)، طارق السيد يحيى (عود)، يوسف ناصيف (قانون)، تمام رمضان (ناي)، فواز باقر (كونترباص). تهتم الفرقة بتقديم القطع الموسيقية الآلية الكلاسيكية، إلى جانب فن الموشحات والأعمال السورية التراثية والصوفية، والقدود بشكلها الغزلي والصوفي وغيرها. قدمت الفرقة كثير من الحفلات في مسارح أوروبية مختلفة كفرنسا وبلجيكا.

كما تشكلت أيضاً فرقة “مقام” التي تعنى بتقديم الموسيقى الشرقية والعربية بأسلوب أكاديمي ومعاصر، إلى جانب تقديم القطع التراثية المعاد توزيعها بشكل يُظهر مهارات العازفين، هذا بالإضافة للأعمال الموسيقية الأصيلة التي كُتبت خصيصاً للفرقة.

قدمت الفرقة حفلاتها على كثير من المسارح العالمية من بينها: مسرح البرلمان النمساوي، قاعة موزيك هاوس، ومبنى الأمم المتحدة. وتتألف من العازفين: مياس اليماني، إسلام نور (كمان)، حسن معتز(تشيلو)، حسام حجاج (كونترباص)، جورج أورو (إيقاع).

وفي بريطانيا تشكلت فرقة “London Syrian Ensemble” من قبل مجموعة من الموسيقيين السوريين المقيمين هناك، ومن بينهم، لؤي الحناوي (ناي)، سناء وهبة (قانون)، رحاب عازر (عود)، جمال السقا (إيقاع)، أسامة كيوان وخلود محافظ (غناء)، وغيرهم. وقد قدمت الفرقة نحو عشرين حفلة في أماكن مختلفة في بريطانيا، نقلت من خلالها صوت الموسيقى والأغاني السورية التراثية إلى الجمهور الأوروبي.

ويشكل كل من رحاب عازر وجمال السقا وفجر العبدالله فرقة “تريو زمان ” التي قدمت عدداً من الأعمال الموسيقية الآلية ، العربية والشرقية، في مسارح بريطانية مختلفة.

المغنية السورية همسة منيف أحيت بدورها عدداً من الحفلات في مدينة لندن، حيث تقيم، برفقة عازفين سوريين في أماكن متفرقة، من بينها متحف فيكتوريا وآلبرت، كما شاركت في مهرجان الأمل في مدينة تيمبرج ويلز البريطانية وفي أنشطة وفعاليات موسيقية أخرى.

وفي برلين شكل عازف العود السوري وسيم مقداد ، برفقة ثلاثة عازفين ألمان (كمان، كونترباص، إيقاع)  فرقة Berlin Oriental Quartet” التي مزجت ما بين الموسيقى الشرقية والغربية، كما شارك كعازف مع فرقة   “Berlin Oriental Group” التي تضم عازفين من جنسيات مختلفة وتدمج بين الأنماط والثقافات الموسيقية المختلفة، هذا إلى جانب مشاركته مع الكثير من العازفين الأوروبيين في فعاليات ومهرجانات مختلفة. وخلال إقامته في تركيا عزف وسيم مقداد مع فرقتي “خيال باند” و”صبا بردى” للـموسيقى السورية التركية  قبل انتقاله إلى ألمانيا عام 2016. وقد ضمت الفرقتان عدداً من العازفين السوريين والأتراك، الذين مزجوا بين موسيقى البلدين بطرق توزيع جديدة.

كما تأسست في تركيا مؤسسة “نَفَس للثقافة والفنون”، وتعنى بتقديم الموسيقى السورية والعربية والشرقية إلى جانب تدريسها، وتضم المؤسسة عدداً من الموسيقيين السوريين من بينهم عازف الإيقاع إبراهيم مسلماني، عازف القانون يامن جذبة، وعازف العود عبدالله الأفندي، وغيرهم. ويشكل موسيقيو “نفَس”، إلى جانب كونهم مدرسين، فرقة موسيقية، بقيادة إبراهيم مسلماني، وقد أحيت العديد من الحفلات في مدن تركية مختلفة، قَدمت  من خلالها الكثير من الأعمال التراثية والموشحات والقدود والأعمال الموسيقية الآلية كالسماعيات واللونغيات وغيرها.

كما شكل إبراهيم مسلماني وعازف العود السوري أيمن الجسري -الذي يعمل مدرساً في المعهد العالي للموسيقى في غازي عنتاب – ” ثنائي وجد“، فقدما الكثير من الحفلات في مدن تركيا مختلفة.

وفي لبنان تشكلت فرقة “الصعاليك” على يد مجموعة من الموسيقيين السوريين وهم: منى المرستاني (غناء)، نذير سلامة (غيتار)، سام عبدالله (عود)، عبدالله جطل ومحمد خياطة (إيقاع)، بالإضافة لعازفة الكمان النرويجية إنغر هانيسدال. قدمت الفرقة، بطريقة جديدة، عدداً من الأغاني التراثية القديمة من مختلف الجغرافيا السورية، إلى جانب تقديم بعض الأغاني التي أنتجتها الفرقة، والتي تتحدث عن ظروف الحرب وتحاكي الواقع السوري بطريقة كوميدية ساخرة. وقد أحيت الفرقة عدداً من الحفلات في لبنان، ونشرت معظم أعمالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فحققت مشاهدات كبيرة، ونالت شهرة واسعة.

موسيقيون سوريون عالميون  

برز صوت كثير من الموسيقيين السوريين المحترفين والمتميزين في بلدان الاغتراب فحققوا شهرة عالمية واسعة، وصُنف بعضهم كفنانين عالميين، من بينهم كنان العظمة، عصام رافع، ديمة أورشو، مسلم رحال، فراس شهرستان، خالد الجرماني وغيرهم.

المؤلف وعازف الكلارينيت الشهير كنان العظمة: يقيم في نيويورك، عزف مع أهم الفرق العالمية كأوركسترا نيويورك وأوركسترا سياتل السيمفونية، وأوركسترا الديوان الشرقي الغربي، وغيرها من الفرق. وهو مؤسس وعازف في كثير من الفرق، من بينها، “فرقة كنان العظمة”، “سيتي باند” في نيورك، “نيو ليكيسيا”، وفرقة “طريق الحرير” التي تضم عشرين عازفاً من دول عديدة ذات ثقافات مختلفة. كما عزف مع أهم الموسيقيين العالميين كعازف التشيلو الشهير yoyo ma ، وقدم أعماله في أهم المسارح العالمية من بينها: أوبرا باستيل في باريس، مكتبة الكونغرس في واشنطن، قاعة ألبيرت الملكية في لندن، تشايكوفسكي غراند هول في موسكو. ألَّف العظمة الكثير من الأعمال لآلة الكلارينيت المنفردة، وأعمال للأوركسترا وموسيقى الحجرة، وموسيقى بعض الأفلام السينمائية، وقد حصل على جائزة ” opus ” الكلاسيكية الألمانية لعام 2019 عن ألبومه “uneven sky”.

المؤلفة ومغنية الأوبرا ديما أورشو: شاركت مع أهم الفرق العالمية كفرقة “طريق الحرير” و “Orchestre Royal de Chambre de Wallonie” وفرقة “آلتا ريبا للموسيقى القديمة”. كما شاركت في تسجيل الكثير من الأعمال الموسيقية العالمية كألبوم “Awakening Beyond”، مع خمسة مغنيات عالميات من بينهم مغنية البوب الشهيرة الأمريكية تينا تيرنر، وألبوم  Sing Me Home”” مع فرقة طريق الحرير، والذي حصل على جائزة ” غرامي” كأفضل ألبوم موسيقى من العالم لعام 2017. كما أصدرت قبل نحو عامين ألبوم “هدوة: تهويدات لأحلك الأوقات” هذا إلى جانب تأليفها للكثير من الأعمال الموسيقية الآلية والغنائية.

المؤلف وعازف العود الشهير عصام رافع: أحيا الكثير من الحفلات في أمريكا حيث يقيم، كما شارك مع عازفين مميزين كعازفة الـpipa العالمية  Gao Honq وعازف البيانو العالمي Steven Hobert. كما شكل مع المغنية ديما أورشو وعازف الإيقاع عمر المصفي، المقيمان في أمريكا،  فرقة “ديو تريو” التي تعنى  بتقديم موسيقى الارتجال وقوالب الموسيقى الشرقية والعربية بالإضافة للمؤلفات الخاصة بالفرقة.

المؤلف وعازف العود خالد الجرماني: حقق شهرة واسعة في أوروبا وكرمه راديو فرنسا. عزف مع موسيقيين أوروبيين عالميين كعازف الكلارينيت كلود ميرنيه  وعازف الغيتار سيرج تيسوغي الذي شكل معه ثنائي حمل اسم “مساحة تقاطع”، وسجل معه أربعة ألبومات موسيقية، من بينها ألبوم “كان يا ما كان” . تعتمد معظم أعماله على فكرة الحوار واللقاء مع موسيقيين من جنسيات مختلفة من خلال فن التأليف والارتجال. أصدر مؤخراً ألبوم “منفى” برفقة أخيه عازف الإيقاع مهند الجرماني، وعازف الكونترباص أوليفييه موريه، وقد أنتج له معهد العالم العربي في باريس معظم ألبوماته.

عازف الناي مسلم رحال: يقيم في برشلونا، وهو موسيقي شهير أضاف الكثير لآلة الناي وابتكر أساليب وطرق جديدة في العزف. شارك مع فرق عالمية هامة كـأوركسترا ميتروبولو أمستردام، أوركسترا الفلهارموني في هامبورغ ، morgenland Chamber Orchestra وOrquesta Ciudad de Almeria، كما شارك في كثير من المهرجانات كمهرجان الموسيقى الروحية في فرنسا، وأحيا عدة حفلات مع أهم الفنانين كعازف الكمان العالمي والمايسترو جوردي سافال، والفنان العربي مارسيل خليفة، بالإضافة لمشاركته مع عددٍ من الفنانين السوريين كالفنان كنان العظمة.

عازف القانون فراس شهرستان: وهو موسيقي أظهر مهارات احترافية كبيرة وأبرز قدرات جديدة للآلة. شارك مع كثير من الفرق العالمية كأوركسترا Gulbenkian البرتغالية، وقدم عروضاً للعزف المنفرد بمصاحبة فرق عديدة، كما شارك موسيقاه مع الكثير من العازفين العالميين كعازف الإيقاع الشهير Andrea Piccioni  وعازفة الـ pipa المميزة Wa man، بالإضافة لعازف الإيقاع مارتن هيلبوم، هذا إلى جانب مشاركته مع كثير من الفرق السورية والعربية في أوروبا.

بالرغم من حجم النجاح العالمي والتمييز الكبير اللذين حققهما الموسيقيون السوريون في بلدان الاغتراب، إلا أن ذلك كله جاء على حساب ما خسرته سورية، التي تحتاج اليوم لوجودهم  لكي تتعافى وتستعيد ثراءها وألقها. فهل سيعودون إليها يوماً ما ؟ أم ستبقى عودتهم مجرد حلمٍ تحلمه  المسارح السورية التي طال اشتياقها لصوت موسيقاهم؟

قومي يا مريم لرباب هلال: قصصنا القصيرة عن الحرب الطويلة

قومي يا مريم لرباب هلال: قصصنا القصيرة عن الحرب الطويلة

ما إن تبدأ بالجمل الأولى من الكتاب حتى تكتشف أنك تورطت بنص لن يكون بمقدورك الإفلات منه ومن سطوته بسهولة، حيث تمسكنا رباب هلال من خلال نصها بخيط حريري خفي نشعر به يلتف حولنا كلما قرأنا قصة في مجموعتها الجديدة “قومي يا مريم” (الصادرة عن دار التكوين سنة ٢٠٢١)، وكأنها بفعلتها هذه لا توحد نصها المنسوج بإتقان وحسب، بل تجبرنا على الإحساس أننا شركاؤها في كل انفعالاتها وأوجاعها، وبأننا نصنع معها استرجاعاً لذاكرة طويلة هي ذاكرتنا نحن أبناء هذا المكان الملعون بالحرب والغصات.

مجموعة القصص القصيرة تلك لم تكن قصيرة في الواقع، فصفحات الكتاب التي تزيد قليلا عن المئة ما هي إلا زمن يمتد من أول حنجرة صرخت بهتاف الحرية قبل عشر سنوات إلى أن يصل لمساحات الوجع المفتوح والذي لم ينته بعد، وما زال حتى اللحظة جاثماً كجبل من جليد فوق صدورنا، هو زمن الحرب الطويل، والذي لا تريدنا رباب أن نعتاد وجوده ونتأقلم معه كأمر واقع لا مفر منه. ورغم ذلك فمعظم قصص المجموعة ليست حكراً على زمن الحرب فقط، ولا على مكان محدد تصوره لنا الكاتبة، فأحداث القصص كانت موجودة قبل الحرب كجزء من يوميات العشوائيات التي تحيط بدمشق، لكن الحرب جعلت من تلك القصص أكثر فجاجة وقبحاً، وعرتها أمام الجميع لتتحول مع مرور الوقت وتصبح إحدى تفاصيل الحرب الكثيرة، من هنا جاء إصرار الكاتبة على تصوير المشاهد بهذه الواقعية المباشرة، وترك أغلب النهايات في القصص مفتوحة على الأسئلة التي علقت في أذهاننا وجعلتنا نشرد في قوة المشهد، فلا زلت أشهق كلما تذكرت مشهد الطفل سعد وهو يسقط من شرفة بيته، دون أن تخبرنا رباب ماذا حل به وبجدته لاحقاً، وكذلك الأمر عندما تهاوى السلم الخشبي لحظة وصول بطلة القصة وأخيها إلى بيتهم المهدم في حرستا، وغيرها الكثير من المشاهد التي أسرتنا لدرجة شعرت وكأنني أشارك أبطال القصص تلك اللحظات دون أن أفكر ماذا يمكن أن يفعلوا بعدها، لقد فاجأتنا رباب وأدهشتنا تماماً كما فعلت الحرب، وتركتنا مشدوهين أمام الأسئلة العالقة.

يوميات الحرب يعرفها الجميع حق المعرفة، وخصوصاً أنها لا تزال حاضرة حتى اللحظة، وإن بدا النص قد أفاض في سرد تفاصيل ويوميات الحرب، إلا أنها ليست حشواً زائداً لا فائدة منه، بل هو إسهاب في توثيق اللحظة الراهنة لمستقبل قد تضيع منه التفاصيل والحكايات، فكتابة القصة القصيرة ليست بالأمر السهل خصوصاً إذا أخذت على عاتقها توثيق هذا الكم الهائل من الألم، لكن رباب هلال تجيد صنعتها حقاً، فكتبت نصوصها بمشرط جراح وبحرفية عالية وبتقنية جميلة. وإن كانت الجمل الطويلة والسرد المباشر وتصاعد الأحداث التدريجي في القصص يضفي طابعاً كلاسيكياً على النص، إلا أننا أمام حكايات متقنة وممتعة تشبه حكايات الجدات في الليالي الطويلة، فرباب تهدهدنا على وقع سردها السلس وتكتب ذاكرة مكان وأشخاص بتفاصيل دقيقة وكأنها عدسة كاميرا حقاً، مع فارق صغير فحكاياتها لا تنتهي سعيدة كحكايات الجدات ولا تقدم لنا أجوبة ننتظرها، كل ما تفعله أنها تفتح أبواب الأسئلة على مصراعيها علها تجد جواباً ما يرضيها ويرضينا، هي تعرف كيف تبكينا بحرقة في نص جميل وكيف تمسح دموعنا كجدة حنون.

كثيراً ما نقع في فخ مطالبة القصة القصيرة بما لا تستطيع أن تحمله، فنطالبها بسرد يشبه الرواية، وبتكثيف وترميز يشبه الشعر، وبحدود واضحة لبدايات ونهايات محددة كأنها مقالة. إلا أننا نتمنى أن يقترب أي نص أدبي أكثر ما يمكن من السينما، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن قصص رباب كانت قريبة جداً من مشاهد السينما، فلقد تسلل البرد إلى أطرافنا مع وفا، وصرخنا “يلعن” بأعلى صوتنا مع الآنسة نجاة، وامتلأ صدرنا بالضيق كلما تذكرنا الفجر وأصابع ندى، وشممنا رائحة الأمكنة تماماً كأننا داخلها، تلصصنا مع فضول أم فارس وهي تراقب الحارة من شرفتها، حتى أني لم أعد أستطيع أن أرى فرن الغاز في مطبخ بيتي دون أن أتذكر قصة الضيوف.

ما يميز رباب في قصصها أنها لم تترك شيئا للصدفة أبداً، فحتى أدق التفاصيل الصغيرة في حكاياتها كانت منسوجة بإتقان واضح وبهدف صريح، فبالرغم من أن قصص مجموعتها تتمتع باستقلالية كاملة، تمكّن القارئ من أن يختار القصة التي يريد بشكل عشوائي، إلا أنها رُبطت معاً في سابقة جديدة تُحسب لها في القصة القصيرة، وهذا ما بدا واضحاً جداً من استخدام أبطال القصص في أكثر من مكان وأكثر من حدث، كما أن محاور العمل ككل يجمعها حيز مكاني واحد هو الحارة، أو الحي الشعبي ضمن مدينة تعيش تائهة وسط الحرب والخراب، ولعل هذه التقنية بالتحديد ما أعطى المجموعة ميزة متفردة وأضفى عليها ألقاً جديداً.

أجمل وأهم ما يميز قصص رباب أنها ابتعدت عن تقديم الأمثولات الجاهزة والأحكام المطلقة، وما يعلق بالذاكرة متحدياً الزمن وطريقة السرد هي يومياتنا المكتوبة بطريقة مختلفة، ففي الحرب تتبلد حواسنا لكي نستطيع التحمل والبقاء، ونعتاد شيئاً فشيئاً الواقع المؤقت ليتحول إلى دائم، وما كان حدثاً طارئاً في الأمس يتحول مع مرور زمن الحرب إلى تفصيل في يوم عادي. ما فعلته رباب هلال بنا أنها أعادت صقل حواسنا من جديد، ونبشت قيح جراحنا، لكي لا ننسى بأن الحرب مرت من هنا، ولكي لا نعتاد المؤقت والمشوه ونتحول إلى مسوخ بلا إحساس، هي دعوة للعودة إلى إنسانيتنا الضائعة بعد هذه الحرب الملعونة.